وكنتم أموتا فأحيكم..
[البقرة: 28] كأن الحياة تحتاج إلى إمداد من الخالق للمخلوق حتى يمكن أن تستمر، فلابد لكي تستمر الحياة أن يستمر الإمداد بالنعم، ولكن النعم تظل طوال فترة الحياة، وعند الموت تنتهي علاقة الإنسان بنعم الدنيا، ولذلك لابد أن يتنبه الإنسان إلى أن الأشياء مسخرة له في الدنيا لتخدمه. وأن هذا التسخير ليس بقدرات أحد، ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى. والإنسان لا يدري كيف تم الخلق، ولا ما هي مراحله إلا أن يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها. فهو جل جلاله يقول:
مآ أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا
[الكهف: 51]. وما داموا لم يشهدوا خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، فلا بد أن نأخذ ذلك عن الله ما ينبئنا به الله عن خلق السماوات والأرض وعن خلقنا هو الحقيقة، وما يأتينا عن غير الله سبحانه وتعالى فهو ضلال وزيف، ونحن الآن نجد بحوثا كثيرة عن كيفية السماوات والأرض وخلق الإنسان، وكلها لن تصل إلى حقيقة، بل ستظل نظريات بلا دليل. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى:
وما كنت متخذ المضلين عضدا
[الكهف: 51]. أي: أن هناك من سيأتي ويضل، ويقول: هكذا تم خلق السماوات والأرض، وهكذا خلق الإنسان، هؤلاء المضلون الذين جاءوا بأشياء هي من علم الله وحده، جاءوا تثبيتا لمنهج الإيمان، فلو لم يأت هؤلاء المضلون، ولو لم يقولوا: خلقت الأرض بطريقة كذا ، والسماء بطريقة كذا، لقلنا: إن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز أن هناك من سيأتي ويضل في خلق الكون وخلق الإنسان، ولكن كونهم أتوا فهذا دليل على صدق القرآن الذي أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا بقرون. والاستفادة من الشيء لا تقتضي معرفة أسراره.. فنحن مثلا نستخدم الكهرباء مع أننا لا نعرف ما هي؟ وكذلك نعيش على الأرض ونستفيد بكل ظواهرها وكل ما سخره الله لنا. وعدم علمنا بسر الخلق والإيجاد لا يحرمنا هذه الفائدة، فهو علم لا ينفع وجهل لا يضر. والكون مسخر لخدمة الإنسان، والتسخير معناه التذليل، ولا تتمرد ظواهر الكون على الإنسان. وإذا كانت هناك ظواهر في الكون تتمرد بقدر الله، مثل الفيضانات والبراكين والكوارث الطبيعية، نقول: إن ذلك يحدث ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن كل ما في الكون لا يخدمنا بذاتنا، ولا بسيطرتنا عليه، وإنما يخدمنا بأمر الله له، وإلا لو كانت المخلوقات تخدمك بذاتك.
فاقدر عليها حينما تتمرد على خدمتك، فكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله، حتى الأسباب والمسببات خاضعة أيضا لطلاقة القدرة الإلهية، فالأسباب والمسببات في الكون لا تخرج عن إرادة الله. لذلك إذا تمرد الماء بالطوفان، وتمردت الرياح بالعاصفة، وتمردت الأرض بالزلازل والبراكين. فما ذلك إلا ليعرف الإنسان أنه ليس بقدرته أن يسيطر على الكون الذي يعيش فيه. واقرأ قوله سبحانه وتعالى:
أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون
[يس: 71-72]. والإنسان عاجز عن أن يخضع حيوانا إلا بتذليل الله له، ومن العجيب أنك ترى الحيوانات تدرك ما لا يدركه الإنسان في الكون، فهي تحس بالزلزال قبل أن يقع، وتخرج من مكان الزلزال هاربة. بينما الإنسان لا يستطيع بعقله أن يفهم ما سيحدث. والحق سبحانه وتعالى في قوله: { خلق لكم ما في الأرض جميعا.. } [البقرة: 29]. يستوعب كل أجناس الأرض، ولذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يوجد شيئا إلا من موجود. أي أن الإنسان لم يستحدث شيئا في الكون، فأنت إذا أخذت حبة القمح، من أين جئنا بها؟ من محصول العام الماضي، ومحصول العالم الماضي من أين جاء؟ من محصول العام الذي قبله. وهكذا يظل تسلسل الأشياء حتى تصل إلى حبة القمح الأولى. من أين جاءت؟ جاءت بالخلق المباشر من الله. وكذلك كل ثمار الأرض إذا أعدتها للثمرة الأولى فهي بالخلق المباشر من الله سبحانه وتعالى، فإذا حاولت أن تصل إلى أصل وجود الإنسان، ستجد بالمنطق والعقل.. أن بداية الخلق هي من ذكر وأنثى، خلقا بالخلق المباشر من الله، لأنك أنت من أبيك، وأبوك من جدك، وجدك من أبيه، وهكذا تمضي حتى تصل إلى خلق الإنسان الأول. فنجد أنه لا بد أن يكون خلقا مباشرا من الله سبحانه وتعالى، وما ينطبق على الإنسان ينطبق على الحيوان وعلى النبات وعلى الجماد، فكل شيء إذا رددته لأصله تجد أنه لابد أن يبدأ بخلق مباشر من الله سبحانه وتعالى. بعض الناس يتساءل عن الرقي والحضارة وهذه الاختراعات الجديدة. أليس للإنسان فيها خلق؟.. نقول فيها خلق من موجود. والله سبحانه وتعالى كشف من علمه للبشر ما يستطيعون باستخدام المواد التي خلقها الله في الأرض أن يرتقوا ويصنعوا أشياء جديدة. ولكننا لم نجد ولم نسمع عن إنسان خلق مادة من عدم. الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل ما في هذا الكون من عدم. ثم بعد ذلك تكاثرت المخلوقات بقوانين سخرها الله سبحانه وتعالى لها.
ولكن كل هذا التطور راجع إلى أن الله خلق المخلوقات وأعطاها خاصية التناسل والتزاوج لتستمر الحياة جيلا بعد جيل، وكل خلق الله الذي تراه في الكون الآن قد وضع الله سبحانه وتعالى فيه من قوانين الأسباب ما يعطيه استمرارية الحياة من جيل إلى جيل حتى ينتهي الكون. فإذا قال لك إنسان: أنا أزرع بذكائي وعلمي. فقل له: أنت تأتي بالبذرة التي خلقها الله، وتضعها في الأرض المخلوقة لله، وينزل الله سبحانه وتعالى الماء عليها من السماء، وتنبت بقدرة الله الذي وضع فيها غذاءها وطريقة إنباتها. إذن: فكل ما يحدث أنك تحرث الأرض، وترمي البذرة. يقول الحق سبحانه وتعالى:
अज्ञात पृष्ठ