تفسير الشعراوي

الشعراوي d. 1418 AH
45

تفسير الشعراوي

تفسير الشعراوي

शैलियों

[السجدة: 17]. فإذا كانت النفس لا تعلم، فلا توجد ألفاظ تعبر عما يوجد في الجنة، والمثل متى شاع استعماله بين الناس سمي مثلا.. فأنت إذا رأيت شخصا مغترا بقوته، وتريد أن تفهمه أنك أقوى منه تقول له: " إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا " ، ولا توجد ريح ولا إعصار فيما يحدث بينكما، وإنما المراد المعنى دون التقيد بمدلول الألفاظ. فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عما في داخل قلوب المنافقين، من اضطراب وذبذبة وتردد في استقبال منهج الله، وفي الوقت نفسه ما يجري في القلوب غيب عنا، وأراد الله أن يقرب هذا المعنى إلينا.. فقال: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } [البقرة: 17].. أي حاول أن يوقد نارا، والذي يحاول أن يوقد نارا.. لابد أن له هدفا، والهدف قد يكون الدفء وقد يكون الطهي.. وقد يكون الضوء وقد يكون غير ذلك.. المهم أن يكون هناك هدف لإيقاد النار.. يقول الحق سبحانه وتعالى: { فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } [البقرة: 17].. ذلك أنهم في الحيرة التي تملأ قلوبهم.

. كانوا قد سمعوا من اليهود أن زمن نبي جديد قد: أتى، فقرروا أن يؤمنوا به، ولكن إيمانهم لم يكن عن رغبة في الإيمان، ولكنه كان عن محاولة للحصول على أمان دنيوي.. لأن اليهود كانوا يتوعدونهم ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم به قتل عاد وإرم.. فأراد هؤلاء المنافقون أن يتقوا هذا القتل الذي يتوعدهم به اليهود، فتصوروا أنهم إذا أعلنوا أنهم آمنوا بهذا النبي نفاقا أن يحصلوا على الأمن. إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة.. إنهم أوقدوا هذه النار.. لتعطيهم نورا يريهم طريق الإيمان.. وعندما جاء هذا النور بدلا من أن يأخذوا نور الإيمان انصرفوا عنه، وعندما حدث ذلك ذهب الله بنورهم.. فلم يبق في قلوبهم شيء من نور الإيمان.. فهم الذين طلبوا نور الإيمان أولا.. فلما استجاب الله لهم انصرفوا عنه.. فكأن الفساد في ذاتهم.. وكأنهم هم الذين بدأوا بالفساد، وساعة فعلوا ذلك ذهب الله بنور الإيمان من قلوبهم. ونلاحظ هنا دقة التعبير القرآني في قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم } [البقرة: 17] ولم يقل ذهب الله بضوئهم مع أنهم أوقدوا النار ليحصلوا على الضوء.. ما هو الفرق بين الضوء والنور؟.. إذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى:

هو الذي جعل الشمس ضيآء والقمر نورا..

[يونس: 5]. نجد أن الضوء أقوى من النور، والضوء لا يأتي إلا من إشعاع ذاتي.. فالشمس ذاتية الإضاءة.. ولكن القمر يستقبل الضوء ويعكس النور، وقبل أن تشرق الشمس تجد في الكون نورا، ولكن الضوء يأتي بعد شروق الشمس.. فلو أن الحق تبارك وتعالى قال: ذهب الله بضوئهم.. لكان المعنى أنه سبحانه ذهب بما يعكس النور، ولكنه أبقى لهم النور، ولكن قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم.. } [البقرة: 17].. معناها أنه لم يبق لهم ضوءا ولا نورا.. فكأن قلوبهم يملؤها الظلام، ولذلك قال الله بعدها { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } [البقرة: 17].. لنعلم أنه لا يوجد في قلوبهم أي نور ولا ضوء إيماني.. كل هذا حدث بظلمهم هم وانصرافهم عن نور الله. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى.. لم يقل وتركهم في ظلام، بل قال: { في ظلمات.. } [البقرة: 17].. أي أنها ظلمات متراكمة.. ظلمات مركبة لا يستطيعون الخروج منها أبدا. من أين جاءت هذه الظلمات؟.. جاءت لأنهم طلبوا الدنيا ولم يطلبوا الآخرة، وعندما جاءهم نور الإيمان انصرفوا عنه فصرف الله قلوبهم. مثلا إذا أخذنا قصة زعيم المنافقين " عبد الله بن أبي " نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة وأهلها يستعدون لتتويج " عبد الله بن أبي " ملكا عليها، وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف الناس عن " عبد الله بن أبي " إلى استقبال الرسول عليه الصلاة والسلام.

. فوصول الرسول عليه الصلاة والسلام ضيع على عبد الله بن أبي الملك، ولقد كان من الممكن أن يؤمن، وأن يلتمس النور من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولو آمن حينئذ ربما أعطي في الآخرة ملكا دائما.. يفوق الملك الذي كان سيحصل عليه في الدنيا، ولكن لأن في قلبه الدنيا وليس الدين، ولأنه يريد رفعة في الدنيا، ولا يريد جنة في الآخرة، فقد ملأ الحقد قلبه فكان ظلمة، وملأ الحسد قلبه فكان ظلمة.. وملأت الحسرة قلبه فكانت ظلمة.. وملأت الكراهية والبغضاء قلبه فكانت ظلمة.. إذن هي ظلمات متعددة. وهكذا في قلب كل منافق ظلمات متعددة.. ظلمة الحقد على المؤمنين وظلمة الكراهية لهم، وظلمة تمني هزيمة الإيمان، وظلمة تمني أن يصيبهم سوء وشر، وظلمة التمزق والألم من الجهد الذي يبذله للتظاهر بالإيمان وفي قلوبهم الكفر.. كل هذه ظلمات، ولكن لا تحاول أن تأخذها بمقاييس عقلك، والمفروض أن المثل هنا لتقريب المعنى.. لأنك إذا قرأت قول الحق سبحانه وتعالى:

وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا

[الإسراء: 45]. كيف يكون الحجاب مستورا؟.. مع أن الحجاب هو الساتر الذي يستر شيئا عن شيء.. ولكن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم.. أنه برغم أن الحجاب يستر شيئا عن شيء، فإن الحجاب نفسه مستور لا نراه، وبعض العلماء يقولون: إن مستورا اسم مفعول، وهو في معنى اسم الفاعل ساتر.. نقول: لا.. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا

[مريم: 61]. مأتيا اسم مفعول واسم الفاعل " آت " ، ويقول البعض: وضع اسم المفعول مكان اسم الفاعل.. نقول إنك لم تفهم.. هل وعد الله يلح في طلب العبد.. أم أن العبد يلح في طلبه بعمله فكأنه ذاهب إليه.. والموعود هو المستفيد وليس الوعد.. إذن من دقة القرآن الكريم.. أنه يريد أن ينبهنا إلى أن الموعود هو الذي يسعى للقاء الوعد، وليس الوعد هو الذي يطلب لقاء الموعود فيستخدم اسم الفاعل. فحين يقول الحق سبحانه وتعالى: { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } [البقرة: 17].. نفى النور عنهم، والنور لا علاقة له بالسمع ولا بالشم ولا باللمس، ولكنه قانون البصر. وانظر إلى دقة التعبير القرآني.. إذا امتنع النور امتنع البصر.. أي: أن العين لا تبصر بذاتها، ولكنها تبصر بانعكاس النور على الأشياء ثم انعكاسه على العين.. واقرأ قوله تعالى:

وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونآ آية الليل وجعلنآ آية النهار مبصرة..

अज्ञात पृष्ठ