269

تفسير الشعراوي

تفسير الشعراوي

शैलियों

{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله } [البقرة: 197]. وما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهي عنها، فإذا كان الإنسان لا يرفث في الحج فمطلوب منه أن يعف في كلامه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علاقته بامرأته الحلال له، فيمتنع عنها ما دام محرما ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من بر وخير. وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس، هذا هو المقصود بقوله: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }. وكلمة من في قوله " من خير " للابتداء، كأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيرا وهو سبحانه يرى أقل شيء من الخير ولذلك قال: { يعلمه الله } [البقرة: 197]. فكأنه خير لا يراه أحد فالخير الظاهر يراه كل الناس والتعبير { يعلمه الله } [البقرة: 197] أي الخير مهما صغر، ومهما قل فإن الله يعلمه، وكثير من الخيرات تكون هواجس بالنية، ويجازي الله على الخير بالجزاء الذي يناسبه. وقول الحق: { وتزودوا } [البقرة: 197] والزاد: هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره، وكان هذا أمرا مألوفا عند العرب قديما لأن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام. وكل هذه الظروف تغيرت الآن، وكذلك تغيرت عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك. كانت الناس قديما تذهب إلى الحج ومعها أكفانها، ومعها ملح طعامها، ومعها الخيط والإبرة، فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي الناس، وأصبح الناس يذهبون الآن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة، وأصبحت لا تجد غرابة في أن فلانا جاء من الحج ومعه كذا وكذا. كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه أخبر قديما يوم كان الوادي غير ذي زرع فقال:

يجبى إليه ثمرات كل شيء..

[القصص: 57]. وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله: { يجبى } ومعناها يؤخذ بالقوة وليس باختيار من يذهب به، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها، وهو رزق من عند الله، وليس من يد الناس. وهذا تصديق لقوله تعالى:

وارزقهم من الثمرات..

[إبراهيم: 37]. وقوله الحق: { وتزودوا } [البقرة: 197] مأخوذة - كما عرفنا - من الزيادة، والزاد هو طعام المسافر، ومن يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته، ويأخذه حتى يكفيه مئونة السؤال أو الاستشراف إلى السؤال لأن الحج ذلة عبودية، وذلة العبودية يريدها الله له وحده. فمن لا يكون عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر، ويطلب منه أن يعطيه طعاما، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد، ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفي نفسه، وتظل ذلته سليمة لربه، فلا يسأل غير ربه، ولا يستشرف للسؤال من الخلق، ومن يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئا من ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه المرحلة لله وهو يوجهها للناس، والله يريدها له خالصة.

وإن لم يعط الناس السائل والمستشرف للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته، وتتحول رحلته من قصد البر إلى الشر. وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون: " نحن متوكلون، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا؟ ". ثم تضطرهم الظروف لأن يسرقوا، وهذا سبب وجود النهب والسرقة في الحج. إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن ينهب ويسرق ليسد حاجته. ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال: { وتزودوا فإن } [البقرة: 197] إنه أمر من الله بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها الإنسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه، ويقول سبحانه: { فإن خير الزاد التقوى } [البقرة: 197] ونعرف أن الزاد هو ما تقي به نفسك من الجوع والعطش، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية، فما بالك بالحياة الأبدية التي لا فناء فيها، ألا تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية. إذن فقوله : { فإن خير الزاد التقوى } [البقرة: 197] يشمل زاد الدنيا والآخرة، والله سبحانه وتعالى يذكرنا بالأمور المحسة وينقلنا منها إلى الأمور المعنوية، ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية. ولذلك نلاحظ في قوله سبحانه وتعالى:

يابني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم..

[الأعراف: 26]. هذا أمر حسي. ويفيدنا ويزيدنا سبحانه " ريشا " إنه - سبحانه - لا يواري السوءة فقط، وإنما زاد الأمر إلى الكماليات التي يتزين بها، وهذه الكماليات هي الريش، أي ما يتزين به الإنسان، ثم قال الحق:

ولباس التقوى ذلك خير..

[الأعراف: 26]. أي أنعمت عليكم باللباس والريش، ولكن هناك ما هو خير منهما وهو " لباس التقوى ". فإن كنت تعتقد في اللباس الحسي أنه ستر عورتك ووقاك حرا وبردا وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر حسي، ولكن الأمر الأفضل وهو لباس التقوى، لماذا؟ لأن مفضوح الآخرة شر من مفضوح الدنيا. إذن فقوله: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولي الألباب } [البقرة: 197]. يعني أن الحق يريد منك أن تتزود للرحلة زادا يمنعك عن السؤال والاستشراف أو النهب أو الغصب، واحذر أن يدخل فيه شيء مما حرم الله، ولكن تزودك في دائرة: { واتقون يأولي الألباب } [البقرة: 197] أي يا أصحاب العقول، ولا ينبه الله الناس إلى ما فيهم من عقل إلا وهو يريد منهم أن يحكموا عقولهم في القضية، لأنه جل شأنه يريد منك أن تحكم عقلك، فإن حكمت عقلك في القضية فسيكون حكم العقل في صف أمر الله.

अज्ञात पृष्ठ