Tafsir Al-Haddad Mistakenly Printed as Al-Tafsir Al-Kabir by Al-Tabarani
تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني
अन्वेषक
هشام بن عبد الكريم البدراني الموصلي
प्रकाशक
دار الكتاب الثقافي الأردن
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
٢٠٠٨ م
प्रकाशक स्थान
إربد
शैलियों
[هذا المقال مضاف لهذه النسخة الإلكترونية وليس في المطبوع]
الاسم الصحيح لتفسير الطبراني .. وتعيين مؤلفه
(نايف بن سعيد بن جمعان الزهراني)
(مجلة بصائر - الرياض - العدد الثاني - رجب ١٤٣٠)
يُشَكِّكُ كثيرٌ من المحققين والمختصين بالدراسات القرآنية في صحة نسبة التفسير المطبوع باسم (التفسير الكبير) إلى لإمام الطبراني المحدث (ت ٣٦٠ هـ) (^١)، ويذهبُ أكثرهم إلى عدم صحة نسبته إليه (^٢)، ثم اجتهدوا في تحديد مؤلفه في ضوء إشارات من نصوص هذا التفسير وتراجم بعض المفسرين، فمنهم من ينسبه للفقيه عبد الصمد بن محمود الغزنوي الحنفي (ت ٧٢٣ هـ) (^٣)؛ صاحب (تفسير الفقهاء وتكذيب السفهاء)، ومنهم من ينسبه لأحد الأحناف المتأخرين بلا تحديد (^٤)، وكلاهما حاول واجتهد؛ فأصابا في عدم صحة نسبته إلى الإمام الطبراني، وابتعد عن الإصابة من نسبه للغزنوي، وقارب من نسبه لأحد متأخري الأحناف ولم يُحدِّد.
والصواب الذي نحمد الله على التوفيق إليه هو أن التفسير المطبوع منسوبًا إلى الإمام الطبراني ليس إلا نسخة من نسخ تفسير أبي بكر الحدَّاد اليمني الحنفي المتوفى سنة (٨٠٠ هـ)، والموسوم بـ: (كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل) (^٥)، وهو ما سأبينه بإذن الله في هذه المقالة.
فبينما كنت أراجع تفسير آياتٍ من سورة النور في عددٍ من التفاسير؛ كان آخرها تفسير الحداد، تذكرت تفسير الطبراني وقد كان يُزّهِّدُني فيه قناعتي بعدم صحة نسبته إليه، فرأيتُ أن أراجعه لعلي أظفر منه بمفيد، ففوجئتُ بنص الكلام الذي قرأته قبلُ في تفسير الحداد، ونسيت بحثي الأول، وصرت أقارن بين أول كلمة في كلا التفسيرين، ثم مقاطع منه، ثم سور مختلفة منه، ثم طالعت نسخ المخطوط التي اعتمدها كلا المُحَقِّقَين فرأيتُ ما يأتي:
اعتمد الدكتور محمد إبراهيم يحيى في تحقيقه لتفسير الحدَّاد على ثلاث نسخٍ خَطيَّة؛ الثالثة منها نسخة مكتبة ستراسبورغ الوطنية الجامعية في فرنسا برقم (٤١٧٤)، وفيها هوامش جانبية تدلُّ على قراءة ومقابلة، وفُرِغَ من نسخها سنة (٩٦٤ هـ) (^٦).
وهي النسخة الوحيدة التي اعتمدها هشام البدراني في تحقيقه لتفسير الطبراني، ولم يجد غيرها، واعتمد في نسبتها للإمام الطبراني على ما كتبه الناسخ في رأس الصفحة الأولى منه: (هذا كتاب تفسير فريد دهره وحكيم عصره شيخ الإسلام الهمام الشيخ الطبراني الكبير عن تفسير القرآن العظيم) (^٧).
ولا يخفى على محقق أن نشر الكتاب عن نسخة وحيدة فيه ما فيه من مزلّة القدم، ومظنة الخطأ (^٨)، وخطأُ الناسخِ في نسبة هذا المخطوط جَرَّ معه المحققَ باستعجاله، ولست الآن في مقام تعداد ما أخطأ فيه المحقق، وإنما أود الإشارة إلى أن الخلل حين يقع في منهجية التحقيق العلمي فإنه يورث جملةً من المجازفات والتناقضات في إخراج تراثنا العلمي، كما يشغل الساحة العلمية زمنًا بما لا حاجة إليه من القراءة والرد والتعقيب، والتي تأخذ بحظِّها من أوقات المشاريع العلمية الجادَّة، ومن جهد المتخصصين والمحققين.
ولستُ أُبَرِّئُ أحدًا من المُحَقِّقَين من ذلك الخلل:
- فأمَّا محقق تفسير الحدّاد فلم يستوفِ قراءة هذه النسخة الثالثة من المخطوط قراءةً نقديَّة؛ يدفع بها ما قد يؤثر في النسبة، كما لم يستوفِ وصف المخطوط وصفًا صحيحًا؛ فقد أغفل ما كتبه الناسخُ في أوَّل المخطوط وفي مواضع كثيرة منه؛ حين نسب هذا التفسير للطبراني، ولم يُشِر المحقق إلى ذلك بأي إشارة، وهذا وإن كان لا ضرورة له -ربما في اجتهاد المحقق- مع توافر نسخٍ أخرى تقطع بنسبة هذا التفسير للحدَّاد، إلا أنه من أدب التحقيق وهدي المحققين، ولو لم يكن فيه إلا ردّ غائلة من يأخذه على عِلاَّته ويشغل الناس به = لكفى به فضلًا وأهمية.
ومن مظاهر النقص في منهج التحقيق هنا أن المحقق وقد أفرد مجلدًا يقع في (٥٠٠ صفحة) وجعله مقدمةً ودراسةً للتفسير ومؤلفه = لم يذكر شيئًا عن مخطوطات الكتاب، وإنما أخبر بقصة وقوفه عليه ورجوعه إلى بعض فهارس الكتب والمخطوطات لإثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ثم في مقدمة الجزء الأول من التفسير ذكر باختصار هذه المخطوطات مع صورٍ قليلة منها، وقد اجتنب في تصوير النسخة الثالثة ما يشير إلى اسم الطبراني الذي كتبه الناسخ في مواضع عديدة منه. كما خلا هذا العمل من المقارنة بين النسخ الثلاث، وهي مرحلة لازمة من مراحل التحقيق، وأولى منها وألزم أن يحدِّد أيَّ نسخة منها هي المعتمدة في العمل، والمقدمة في الإثبات، وهذا ممَّا أغفله المحقق أيضًا فظهر أثره في مواضع لم تخلُ من سقط وتصحيف (^٩)، ولا أدري ماذا بقي للمحقق ليعمله بعد ذلك؟! فإن أعظم جهد المحقق إنما يصرف في ذلك، وهذا هو معنى اسم "التحقيق".
- وأمَّا محقق تفسير الطبراني فقد ظهر من استعجاله في نسبة هذا المخطوط إلى الطبراني دون تثبتٍ كافٍ، ومن عدم احتفاله بكثير من الإيرادات التي أوردها جملةٌ من الفضلاء على هذه النسبة، ومن التمَحُّل في الإثبات بما لا دليل فيه، ومن القطع في مقام الاحتمال، ومن المغالطة في الرد = ما جعل عمله هذا مثالًا لعدم التوفيق، ولتحقيقٍ يحتاجُ إلى تحقيق.
وفي سقوط هذا العمل من أصله ما يغني عن تعداد المآخذ المنهجية عليه مع كثرتها وظهورها، إلا أن ما لا ينبغي إغفاله من ذلك أمرين:
أولهما: الغفلة الظاهرة عن اعتبار منهج العلم والتأليف في زمن الطبراني، وكذا الغفلة عن منهج الطبراني نفسه في تآليفه، فواقع هذا التفسير لغةً وأسلوبًا لا يمكن انطباقه على ذلك الزمن، وعلى تآليف الطبراني المحدِّث على الخصوص. واعتبار زمن التأليف وثقافة المؤلف ومنهج الكتابة في زمنه من الشروط الواجب اعتبارها في التحقيق.
ثانيهما: تجاهل النقول الوافرة عمَّن عاشوا بعد زمن الطبراني بسنين وبعضهم بقرون؛ ففيه النقل عن أبي الطيب سهل بن محمد العجلي الحنفي (ت ٤٠٤ هـ)، والإمام الثعلبي المفسِّر (ت ٤٢٧ هـ)، واللغويّ أبي منصور الثعالبي (ت ٤٣٠ هـ)، والفقيه الحنفي عبدالصمد الغزنوي (ت ٧٢٣ هـ)، وحين حاول المحقق إصلاح ذلك أتى بشرٍّ ممَّا ترك، فجعل من مات بعد الطبراني بخمسين أو سبعين سنة معاصرًا له، وجعل من ذُكِرَ بعد ذلك - كالغزنوي - ممَّا أقحمه الناسخُ في النص، فحذفه من النص، وأشار في الحاشية إلى أنه من تَصَرُّف الناسخ؛ لأنه ليس من أسلوب المصنف، وقد بلغ ما حذفه في إحدى المواضع عشرة أسطر (^١٠)، وفي موضع آخر حذفه منه فأفسد المعنى، ولم يُشر إلى ما فعل (^١١)، واعجب لهذا الصنيع! إذ كيف يأتمنُ المحققُ الناسخَ على اسم المخطوط وهو أجل خطرًا، وأعظم أثرًا، ولا شيءَ يعضده، ثم لا يأتمنه على النص، ويتهمه بالزيادة فيه بلا دليل؛ إلا أن النص المذكور لا يوافق ما بنى عليه المحقق عمله، فلابد من التصرف فيه ولو بتحميله للناسخ.
إن كُلَّ كلمة في النص المخطوط أمانةٌ بيد المحقق، والمحقق الأمين لا يجرؤ على تضييعها، وإن الرغبة المُلِحَّة في إخراج تراث أئِمَّتنا الجليل، لا تكفي دافعًا ولا شافعًا في الإعراض عن أصول التحقيق وآدابه المعتبره، ومن عانى التحقيق وخبره يعتصره الأسى ممَّا يرى من تتابع من ليس من أهله عليه، وجرأتهم على اقتحامه، وكم لهم في شكوى هذا الصنف من آهات مسطورة (^١٢).
على أن ذلك لا يثني الجادين في فن التحقيق وأهل التخصص من أن يؤدوا حقَّ العلم عليهم، ويظهروا ما خفي من آثار أسلافهم، ويبذلوا في ذلك غاية جَهدهم، مُتحَلِّين بأصول هذا الفن وآدابه، فهناك يُحمَد كل جُهد، ويُثمِر كل أَثَر، ويُعذَر من لم يوَفَّق.
وممَّا ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن الاستعجال في اعتماد كتب مشكوكٍ في نسبتها لمشاريع علمية بحثية استعجال في غير مَحَلِّه، والذَّمُّ اللاحق بمن استعجل في إخراج الكتاب بلا تحقيق أصيل؛ يلحق أيضًا من يبني عمله على هذا الأصل الذاهب، ولست أعني كتاباتٍ عن منهج الطبراني في تفسيره ونحو ذلك؛ فهذا ممَّا لا يفكر فيه من له أدنى اطلاع على هذا التفسير، وإنما أعني عددًا من المحاولات البحثية التي قامت على الكتاب باعتباره تفسيرًا لعبد الصمد الغزنوي الحنفي، وهذا وإن كانت الشبهة فيه أقوى من غيره، إلا أنه دون التثَبُّت الواجب الذي لا يرضى الباحث الجادّ بأقل منه، ولا ينبغي أن تُشغَلَ المؤسساتُ العلميةُ بما دونه.
وفي ختام هذا البيان الموجز أجد من اللازم التذكير بعظم أمانة تحمل العلم ونشره، وأن ذلك من الدين الذي لا يرضى فيه المسلم بما دون الكمال؛ خاصَّة ما كان ذا علاقة بأعظم وأجلِّ كتاب؛ القرآن الكريم، فكيف إذا كان تفسيرًا له، فهو أولى بالإجلال والتأني وطلب الكمال من كلِّ وجه، والله الموفق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه:
نايف بن سعيد بن جمعان الزهراني
مرحلة العالمية العالية
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
أستاذ الدراسات القرآنية المشارك في جامعة الباحة
_________
(^١) طبع في ستة مجلدات بتحقيق هشام بن عبد الكريم البدراني، عام ١٤٢٩ هـ، عن دار الكتاب الثقافي، الأردن.
(^٢) تُنظَر مجموعة مباحثات حول هذا الكتاب في موقع (ملتقى أهل التفسير) على شبكة المعلومات العالمية الانترنت.
(^٣) وهو ما ذهب إليه الأستاذ إبراهيم باجس عبد الكريم في بحث له بعنوان: (تفسير الطبراني أم تفسير الغزنوي؟)، ضمن مجلة المخطوطات والنوادر، في المجلد الثاني من العدد الأول، بتاريخ المحرم-جمادى الآخرة عام ١٤١٨.
(^٤) وهو رأي الأستاذ الدكتور المحقق بشار عواد معروف، ضمن مقالة له نشرتها جريدة الدستور الأردنية في عددها رقم ١٤٧٢٨، بتاريخ الاثنين ٢٢ جمادى الاولى ١٤٣٠.
(^٥) طبع في سبعة مجلدات، والثامن دراسة مفردة عن التفسير، بتحقيق محمد إبراهيم يحيى، عن دار المدار الإسلامي سنة ١٤٢٤ هـ، وأصله رسالة دكتوراه تقدم بها المحقق إلى كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة ١٤١١ هـ.
(^٦) ينظر: تفسير الحدّاد ١/ ٦ - ٧.
(^٧) ينظر: التفسير الكبير، للطبراني ١/ ٧٩ - ٨٠، وأضيف هنا أن الناسخ في جميع مواضع تسميته للكتاب كان يكتب: للشيخ الإمام (الطبراني الكبير)، وليس هذا الوصف بمعروف في ترجمة الطبراني المحدث، وما كان ينبغي إغفاله خاصة في مقام الشك.
(^٨) ينظر: في اللغة والأدب .. دراسات وبحوث، للعلامة المحقق محمود الطناحي ٢/ ٧٩٧.
(^٩) ينظر السقط في أثر ابن عباس في أول تفسير ألم من سورة آل عمران ٢/ ٦، وكذا تصحيف (ابن حيَّان) إلى (ابن حِبَّان -بالموحدة التحتانية-) عند آية (٢٠٩) من سورة يوسف ١/ ٣٠٢.
(^١٠) تفسير الطبراني ٢/ ٣٤٦، وقارن بتفسير الحداد ٢/ ٣٧١.
(^١١) المرجع السابق ٣/ ٤٧١، وقارن بتفسير الحداد ٤/ ١٢.
(^١٢) ينظر: في اللغة والأدب .. دراسات وبحوث، لمحمود الطناحي ١/ ٢٩٥، ومقالات العلامة المحقق السيّد أحمد صقر (ص:٣٩٣).
[هذا المقال مضاف لهذه النسخة الإلكترونية وليس في المطبوع]
1 / 3
بسم الله الرّحمن الرّحيم
استهلال
إن الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.
وبعد: فإنه لا يخفى أنّ علم التفسير من أجلّ العلوم وأسمى المعارف، فهو أحد العلوم الشرعيّة الثلاثة التي أوجبها الشارع الحكيم على جماعة المسلمين، وجعل تعلّمها من فروض الكفاية، والسّعي لها من السّنن المندوبات حين تتوفر الأهلية في الجماعة.
ولقد قطعت الأمة الإسلامية شوطا بعيدا في إنجاز هذه المهمّات على مدار الأزمان وتغيّر الأحوال، فوجد من العلماء الأجلاّء من قام بهذه المهمّة على امتداد العقود من القرون الماضية، في مجال الحديث والفقه والتفسير، فأدى المهمة، ونفع الأمة بمعالجة مختلف الأحوال والمشكلات. ومنهم إمامنا الطبرانيّ الكبير في مجال الحديث والتفسير.
وإذ نقدم هذا التحقيق للتفسير الكبير للإمام الطبرانيّ (تفسير القرآن العظيم) فإننا نقدم مثالا لجهد عالم في حقبة من تاريخ الأمة؛ لينتفع من علمه، ويفاد من ممارسته، وتنضج الخبرة في جيلنا وتزداد الهمّة من تلك الخبرة والعزيمة. فلكلّ زمان رجال يتواصلون مع من سبقهم؛ لينضجوا خبراتهم إلى من يلحق بهم.
نسأل الله ﷿ أن ينفع بجهد عالمنا الكبير الإمام الطبرانيّ ﵀، وأن ينفع بما قدّمناه في التحقيق والتدقيق والتعليق، وما حاولناه بالضّبط والتنسيق؛ لإخراج هذا الكتاب على أتمّ وجه وأبهى صورة.
1 / 5
فقمنا بكتابة مقدّمة له (مقدّمة في علم التّفسير) أعددناها من قراءاتنا؛ وجمعناها من جهود علمائنا، ونسّقناها بالصّورة التي ستقرؤها أيها الفاضل طالب العلم العامل به إن شاء الله.
ثم أتبعنا ذلك بتحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلّفه، ومن ثمّ ترجمة موجزة للمصنف ﵀. ثم أعقبنا ذلك بإيجاز منهج عملنا في التحقيق. ثم كتبنا ترجمة للمحقّق، ونسأل الله ﷿ الإنصاف لأهل العلم وطلبته. فما كان فيه من إصابة فهو من الله، وما كان فيه من قصور أو تقصير، فذاك من نفسي، ونسألك أخي المسلم الدعاء.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
العبد الفقير إلى ربّه الغنيّ به:
هشام بن عبد الكريم بن صالح البدرانيّ الحسينيّ الموصليّ
/١ محرم ١٤٢٧/ من الهجرة
/٣١ كانون الثاني ٢٠٠٦/ ميلادية
1 / 6
مقدّمة
في
علم أصول التّفسير
إعداد المحقّق
هشام البدرانيّ الموصليّ
1 / 7
مقدّمة في علم أصول التّفسير
مفهوم القرآن الكريم:
القرآن في الأصل مصدر قرأ؛ يقرأ؛ وقرآنا؛ وقرأ: جمع، وقراءة: ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في التّرتيل؛ وليس يقال ذلك لكلّ جمع، فلا يقال قرأت القوم إذا جمعتهم، ولقد خصّ القرآن بالكتاب المنزّل على سيّدنا محمّد ﷺ فصار كالعلم بالنسبة له. قال ابن عباس ﵄: إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.
والقرآن الكريم: هو الكتاب المنزّل على سيّدنا محمّد النبيّ الرّسول ﷺ وحيا من الله ﷿، بلسان عربيّ مبين، والّذي نقله إلينا بين دفّتي المصحف خلف عن سلف عدول ثقات يمنع جمعهم وكثرتهم وحالهم تواطأهم على كذب أو اختلاف، فقد نقل نقلا متواترا بالتلاوة والكتابة، بالشّفاه والأقلام، محفوظا بالسّطور والصّدور، بالسّماع والرّسم المخطوط الموقوف؛ فأخذته الآذان سماعا ورواية، وتلقّته الأذهان وعيا وحفظا ونطقت به الألسن تلاوة وإسماعا.
نزل القرآن على النبيّ محمّد ﷺ مفرّقا في مدة ثلاث وعشرين سنة. وكان نزوله على أنحاء شتّى، تارة بتتابع، وتارة بتراخي. وإنما نزل منجّما ولم ينزل دفعة واحدة لحكمة ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾ (^١) أي كذلك انزل مفرّقا لنقوّي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه. وقال تعالى ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا﴾ (^٢) أي قرآنا جعلنا نزوله مفرّقا منجّما على مكث، أي على مهل
_________
(^١) الفرقان ٣٢/.
(^٢) الإسراء ١٠٦/.
1 / 9
وتؤدّة وتثبّت، نزلناه تنزيلا حسب الحوادث. فمن أجل تثبيت فؤاد الرسول، ومن أجل قراءته على الناس على مكث وتؤدّة، ومن أجل أن ينزل حسب الحوادث وجوابات السائلين نزل منجّما مفرّقا في ثلاث وعشرين سنة.
وكان القرآن ينزل على رسول الله ﷺ فيأمر بحفظه في الصّدور، وكتابته في الرّقاع، من جلد أو ورق أو كاغد، وفي الأكتاف والعسب واللّخاف، أي على العظم العريض وعسب النّخل والحجارة الرقيقة، عن زيد بن ثابت ﵁؛ لمّا أمّره أبو بكر الصديق ﵁ في جمع المصحف، قال زيد بن ثابت ﵁: فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال (^١).
وكان إذا نزلت الآيات أمر بوضعها موضعها من السّورة فيقول ألحقوا هذه الآية في سورة كذا بعد آية كذا، فيضعونها موضعها من السورة. قال ابن حجر العسقلاني: وأوضح من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وصححه الحاكم وغيره حديث ابن عباس عن عثمان ﵃ جميعا قال: كان النبي ﷺ ينزل عليه الآيات فيقول: [ضعوها في السّورة الّتي يذكر فيها كذا] (^٢) وهكذا حتى نزل القرآن كله والتحق الرسول ﷺ بالرفيق الأعلى بعد أن كمل نزول القرآن. ولذلك كان ترتيب آيات كلّ سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيفا من النبيّ ﷺ عن جبريل ﵇ عن الله تعالى فهو ترتيب توقيفي من الله تعالى.
وعلى ذلك وكما قرأ بين يدي رسول الله ﷺ نقلته الأمة ولا خلاف في ذلك مطلقا. وهذا الترتيب للآيات في سورها على الشكل الذي نراه الآن، هو نفسه الذي أمر به رسول الله ﷺ، وهو نفسه الذي كان مكتوبا بالرّقاع والأكتاف والعسب واللّخاف ومحفوظا في الصّدور. وعليه فإن ترتيب الآيات في سورها قطعيّ أنه توقيفي عن رسول الله ﷺ، عن جبريل ﵇، عن الله سبحانه تعالى.
_________
(^١) رواه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل القرآن: باب جمع القرآن: الحديث (٤٩٨٦) وكتاب التفسير: باب لقد جاءكم رسول: الحديث (٤٦٧٩).والترمذي في الجامع الصحيح: أبواب تفسير القرآن: الحديث (٣١٠٣).والامام أحمد في المسند: ج ١ ص ١٠ وج ٥ ص ١٨٨.
(^٢) فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج ٩ ص ١٠:شرح الحديث (٤٩٨٣).
1 / 10
وأما ترتيب السّور بالنسبة لبعضها فإنه كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد جاء من حديث ابن عبّاس قالوا [قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرّحمن الرّحيم ووضعتموها في السّبع الطّوال؟ فقال عثمان ﵁ كان رسول الله ﷺ كثيرا ما تنزل عليه السّورة ذات العدد، فإذا نزل عليه شيء -يعني منها-دعا بعض من كان يكتب فيقول [ضعوا هؤلاء الآيات في السّورة الّتي يذكر فيها كذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن وكانت قصّتها شبيهة بها فظننت أنّها منها. فقبض رسول الله ﷺ ولم يبيّن لنا أنّها منها] (^١).وعن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال [كان النّبيّ ﷺ لا يعرف فصل السّورة حتّى ينزل عليه بسم الله الرّحمن الرّحيم] (^٢) وعن ابن عباس قال: [كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السّورة حتّى تنزل بسم الله الرّحمن الرّحيم، فإذا نزلت بسم الله الرّحمن الرّحيم، علموا أنّ السّورة قد انقضت] (^٣).
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج ١ ص ٥٧ و٦٩؛ عن يزيد الفارسي عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ... الحديث. وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب من جهر بها: الحديث (٧٨٦).والترمذي في الجامع الصحيح: كتاب تفسير القرآن: باب ومن سورة التوبة: الحديث (٣٠٨٦)؛وقال: هذا حديث حسن صحيح؛ لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس؛ ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث، ويقال هو يزيد بن هرمز؛ ويزيد الرّقاشي هو يزيد بن أبان الرّقاشيّ ولم يدرك ابن عباس، وإنما روى عن أنس بن مالك، وكلاهما من أهل البصرة، ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرّقاشيّ. انتهى. والنسائي في السنن الكبرى: كتاب فضائل القرآن: باب [السورة التي يذكر فيها كذا وكذا]:الحديث (١/ ٨٠٠٧).والحاكم في المستدرك على الصحيحين: كتاب التفسير: ج ٢ ص ٢٢١ وتفسير سورة التوبة: ج ٢ ص ٣٣٠؛وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه؛ وعقب الذهبي وقال: إنه صحيح. وابن حبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: كتاب الوحي: باب ذكر ما كان يأمر النبي ﷺ بكتبة القرآن: الحديث (٤٣):ج ١ ص ١٢٥.
(^٢) رواه أبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب من جهر بها: الحديث (٧٨٨).والطبراني في المعجم الكبير: الحديث (١٢٥٤٤ و١٢٥٤٥ و١٢٥٤٦) بألفاظ؛ قال: [ما كان رسول الله ﷺ يعرف خاتمة السّورة حتّى تنزل عليه بسم الله الرّحمن الرّحيم].وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج ٢ ص ١٠٩ وج ٦ ص ٣١٠؛قال الهيثمي: رواه البزار بإسناد رجال أحدهما رجال الصحيح.
(^٣) ينظر: المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج ١ ص ٢٣٢،وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
1 / 11
(فهذا يدلّ على أن ترتيب الآيات في كلّ سورة كان توقيفيا. ولمّا لم يفصح النبيّ ﷺ بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه ﵁. ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود) (^١)،وروى أن الصحابة كانوا يحتفظون بمصاحف على ترتيب في السور مختلف مع عدم الاختلاف في ترتيب الآيات، فمصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني من حيث ترتيب السور، وكان أوّله الفاتحة ثم البقرة، ثم النساء ثم آل عمران، بعكس العثماني فترتيبه الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم النساء. ولم يكن أيّ منهما على ترتيب النّزول. ويقال إنّ مصحف عليّ كان على ترتيب النّزول أوله (اقرأ) ثم (المدثر) ثم (ن والقلم) ثم (المزمل) ثم (تبت) ثم (التكوير) ثم (سبح،) وهكذا إلى آخر المكّي ثم المدنيّ.
وهذا كله يدلّ على أن ترتيب السّور بالنسبة لبعضها كان باجتهاد من الصحابة (^٢).ولذلك كان ترتيب السّور في القراءة ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التعليم، بدليل أنّ النبي ﷺ قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران، عن صلة بن زفر عن حذيفة ﵁ قال: صلّيت مع النّبيّ ﷺ ذات ليلة، فافتتح البقرة؛ فقلت يركع عند المائة، ثمّ مضى؛ فقلت: يصلّي بها في ركعة؛ فمضى. فقلت: يركع بها؛ ثمّ افتتح النّساء، فقرأ ثمّ افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ، ثمّ ركع فجعل يقول: [سبحان ربي العظيم] فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثمّ قال:
_________
(^١) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج ٩ ص ٥١؛شرح الحديث (٤٩٩٤) من كتاب فضائل القرآن، وفيه: (قال: ولا يؤخذ بها).
(^٢) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج ٩ ص ٥٠.قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن: ج ٢ ص ٢٦٢:وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة من أحسن الترتيب؛ وهو ترتيب المصحف العثماني، وإن كان مصحف عبد الله بن مسعود قدّمت فيه سورة النساء على آل عمران؛ وترتيب بعضها بعد بعض ليس هو أمرا أوجبه الله، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم؛ ولهذا كان لكل مصحف ترتيب، ولكن ترتيب المصحف العثماني أكمل.
1 / 12
[سمع الله لمن حمده].ثمّ قام طويلا قريبا ممّا ركع، ثمّ سجد؛ فقال: [سبحان ربي الأعلى] فكان سجوده قريبا من قيامه (^١).
وأما ما ورد من النهي عن قراءة القرآن منكوسا فإن المراد قراءة الآيات في السورة الواحدة منكوسة لا قراءة السّور منكوسة. قال موفق الدين بن قدامة: وقد روي عن ابن مسعود أنه سئل عمّن يقرأ القرآن منكوسا قال: ذلك منكوس القلب. وفسّره أبو عبيدة: بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها أخرى هي قبلها في النّظم (^٢).وقال النوويّ في شرح الحديث السابق لحذيفة ﵁ من صحيح مسلم: قال أبو بكر الباقلاني ...:ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير صلاة، قال: وقد أباحه بعضهم وتأوّل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها (^٣).
ومتأوّل قول السلف على ما يبدو هو ابن بطّال، قال ابن حجر: قال ابن بطال:
لا نعلم أحدا قال بوجوب ترتيب السّور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز يقرأ الكهف قبل البقرة والحجّ قبل الكهف مثلا، وأما ما جاء عن السّلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسا، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها وتذليلا للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه (^٤).
وهذا الرأي نقله ابن كثير في فضائل القرآن: بتصرّف؛ قال أي ابن بطّال: وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنّهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا، وقالا: إنما
_________
(^١) رواه مسلم في الصحيح: كتاب صلاة المسافرين: باب استحباب تطويل القراءة: الحديث (٧٧٢/ ٢٠٣).
(^٢) ينظر: المغني: مسألة: قال: ثم يقرأ في سورة في ابتدائها بسم الله الرحمن الرحيم: الفصل الأخير منها: ج ١ ص ٥٣٧.
(^٣) المنهاج: شرح صحيح مسلم بن الحجاج: ج ٥ - ٦ ص ٣٠٨.
(^٤) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج ٩ ص ٤٨.
1 / 13
ذلك منكوس القلب؛ فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة فيبتدئ بآخرها إلى أولها، فإن ذلك حرام محظور (^١).
وقد كان جبريل يقرأ جميع ما نزل من القرآن على الرسول ﷺ مرّة في كلّ سنة.
وفي السّنة التي توفّي فيها رسول الله ﷺ قرأ جبريل القرآن كله على الرسول مرّتين.
عن عائشة ﵂ عن فاطمة ﵍ [أسرّ إليّ النّبيّ ﷺ أنّ جبريل يعارضني بالقرآن كلّ سنة وأنّه عارضني العام مرّتين ولا أراه حضر إلاّ أجلي] (^٢) وعن أبي هريرة قال: [كان يعرض على النّبيّ ﷺ القرآن كلّ عام مرّة فعرض عليه مرّتين في العام الّذي قبض] (^٣).
فعرض جبريل القرآن على الرسول ﷺ كلّ عام مرّة معناه عرض ترتيب آياته بالنسبة لبعضها، وترتيب آياته في سورها، لأن عرض الكتاب معناه عرض جمله وكلماته وترتيبه، وعرضه مرّتين في العام الذي توفّي فيه الرسول ﷺ، معناه كذلك عرض ترتيب آياته بالنسبة لبعضها. وترتيب آياته في سورها ويمكن أن يفهم كذلك من الحديث عرض ترتيب سوره بالنسبة لبعضها.
_________
(^١) فضائل القرآن: ص /٤٢ دار الأندلس/الطبعة الرابعة.
(^٢) عن أم المؤمنين عائشة ﵂، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشي النبيّ ﷺ، فقال النبي ﷺ: [مرحبا يا ابنتي] ثم أجلسها عن يمينه ثمّ أسرّ إليها حديثا، فبكت! فقلت لها: لم تبكين؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت اليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عمّا قال. فقالت: [ما كنت لأفشي سرّ رسول الله ﷺ]،حتّى قبض النبيّ ﷺ، فسألتها. فقالت: [أسرّ إليّ أنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرّة، وإنّه عارضني العام مرّتين، ولا أراه إلاّ حضر أجلي، وإنّك أوّل أهل بيتي لحاقا بي] فبكيت. فقال: [أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة! أو نساء المؤمنين!] فضحكت لذلك. رواه البخاري في الصحيح: كتاب المناقب: الحديث (٣٦٢٣ و٣٦٢٤).وفي الحديث (٦٢٨٥ و٦٢٨٦) فيه تفصيل.
(^٣) عن أبي حصين عن ذكوان عن أبي هريرة قال: كان يعرض على النّبيّ ﷺ القرآن كلّ عام مرّة، فعرض عليه مرّتين في العام الّذي قبض فيه، وكان يعتكف في كلّ عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الّذي قبض فيه. رواه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل القرآن: باب كان جبريل يعرض القرآن: الحديث (٤٩٩٨).
1 / 14
إلا أنه وردت أحاديث صحيحة أخرى صريحة في ترتيب الآيات، فإنّها تنصّ على ترتيب الآيات بالنسبة لبعضها وترتيب الآيات في سورها [ضعوا هذه الآيات في سورة كذا بعد آية كذا] [وضعوا هؤلاء الآيات في السّور الّتي ذكر فيها كذا].
وكانت السورة تختم ويبدأ بسورة غيرها بتوقيف من الله بواسطة جبريل. عن ابن عبّاس قال: [كان النّبيّ ﷺ لا يعلم ختم السّورة حتّى ينزل بسم الله الرّحمن الرّحيم] وفي رواية [فإذا أنزلت بسم الله الرّحمن الرّحيم علموا أنّ السّورة قد انقضت].
فهذا كله يدلّ قطعا على أنّ ترتيب الآيات في سورها وشكل السّور بعدد آياتها ووضعها، كل ذلك توقيفي من الله تعالى. وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيّها ﷺ وثبت ذلك تواترا.
أما ترتيب السّور بالنسبة لبعضها فإنه وإن كان يمكن أن يفهم من أحاديث عرض القرآن، ولكن يمكن أن يفهم غيره من حديث آخر. عن عائشة أمّ المؤمنين ﵂ إذ جاءها عراقيّ فقال: أيّ الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرّك؟ قال: يا أمّ المؤمنين أريني مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلّي أؤلّف القرآن عليه، فإنّه يقرأ غير مؤلّف.
قالت: وما يضرّك أيّه قرأت قبل، إنّما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنّة والنّار حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزّنا أبدا، لقد نزل بمكّة على محمّد ﷺ وإنّي لجارية العب ﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ﴾ (^١).وما نزلت سورة البقرة والنّساء إلاّ وأنا عنده. قال فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السّور] (^٢).
_________
(^١) القمر ٤٦/.
(^٢) رواه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل القرآن: باب تأليف القرآن: الحديث (٤٩٩٣).
1 / 15
فهذا الحديث يدل على أن القرآن لم يكن مجموعا فإذا أضيف إلى ذلك اختلاف ترتيب مصاحف الصحابة، دلّ على أن ترتيب السّور بالنسبة لبعضها كان باتفاق من الصحابة.
جمع القرآن:
لقد ثبت بالدليل اليقينيّ الجازم أن النبيّ ﷺ حين التحق بالرفيق الأعلى كان القرآن كله مكتوبا في الرّقاع والأكتاف والعسب واللّخاف، وكان كله محفوظا في صدور الصحابة رضوان الله عليهم. فقد كانت تنزل الآية أو الآيات فيأمر حالا بكتابتها بين يديه، وكان لا يمنع المسلمين من كتابة القرآن غير ما كان يمليه على كتّاب الوحي.
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله ﷺ قال: [لا تكتبوا عنّي، من كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار] (^١).
وكان ما يكتبه كتّاب الوحي مجموعا في صحف قال تعالى: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ (^٢) أي يقرأ قراطيس مطهّرة من الباطل فيها مكتوبات مستقيمة قاطعة بالحقّ والعدل، وقال الله تعالى: ﴿كَلاّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ﴾ (^٣) أي إنّ هذه التذكرة مثبتة في صحف مكرّمة عند الله مرفوعة المقدار منزّهة عن أيدي الشياطين، قد كتبت بأيدي كتبة أتقياء.
_________
(^١) رواه مسلم في الصحيح: كتاب الزهد: باب التثبت في الحديث وحكم كتاب العلم: الحديث (٣٠٠٤/ ٧٢).والإمام أحمد في المسند: ج ٣ ص ٥٦ وبلفظ [سوى القرآن]:ج ٣ ص ٢١ و٣٩.والدارمي في السنن: باب من لم ير كتابة الحديث من المقدمة: الحديث (٤٥٠) بلفظ [إلاّ القرآن].
(^٢) البيّنة ٢/.
(^٣) عبس ١١/-١٥.
1 / 16
وقد ترك ﷺ جميع ما بين دفّتي المصحف مكتوبا قد كتب بين يديه، عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشدّاد بن معقل على ابن عبّاس ﵄ فقال له شدّاد بن معقل: أترك النبيّ ﷺ من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفّتين.
قال: ودخلت على محمّد بن الحنفية فسألناه فقال: [ما ترك إلاّ ما بين الدفّتين] (^١) فالإجماع منعقد على أن جميع آيات القرآن في سورها قد كتبت بين يدي الرسول ﷺ حين كان ينزل بها الوحي مباشرة، وأنّها كتبت في صحف. وتوفّي الرسول الأعظم وهو قرير العين على القرآن معجزته الكبرى التي قامت حجّة على العرب وعلى العالم. ولم يكن يخشى على آيات القرآن الضياع لأن الله حفظ القرآن بنصّ صريح ﴿إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (^٢) ولأنه كان قد ثبّت هذه الآيات كتابة بين يديه وحفظا في صدور الصحابة وأذن للمسلمين أن يكتبوا القرآن.
ولذلك لم يشعر الصحابة بعد وفاة الرسول أنّهم في حاجة لجمع القرآن في كتاب واحد أو في حاجة إلى كتابته، حتى كثر القتل في الحفّاظ في حروب الرّدّة، فخشي عمر من ذلك على ضياع بعض الصّحف وموت القرّاء، فتضيع بعض الآيات، ففكّر في جمع الصّحف المكتوبة، وعرض الفكرة على أبي بكر وحصل جمع القرآن.
عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت ﵁ قال: [أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطّاب عنده. قال أبو بكر ﵁ إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنّك رجل شاب عاقل لا نتّهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبّع القرآن
_________
(^١) رواه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل القرآن: باب من قال: لم يترك النبي إلا ما بين الدفتين: الحديث (٥٠١٩).والإمام أحمد في المسند: ج ١ ص ٢٢٠ بلفظ: [إلاّ ما بين هذين اللّوحين] وإسناده صحيح.
(^٢) الحجر ٩/.
1 / 17
فاجمعه. فو الله لو كانوا كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال أبو بكر: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ﵄. فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرّجال حتّى وجدت آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ولم أجدها مع أحد غيره. ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ﴾ حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله ثمّ عند عمر حياته ثمّ عند حفصة بنت عمر ﵄] (^١).
ولم يكن جمع زيد للقرآن كتابة له من الحفّاظ، وإنما كان جمعه له جمعا لما كتب بين يدي رسول الله ﷺ، وكان لا يضع صحيفة مع صحيفة أخرى ليجمعها إلا بعد أن يشهد لهذه الصحيفة التي تعرض عليه شاهدان يشهدان أن هذه الصحيفة كتبت بين يدي رسول الله ﷺ.
وكان فوق ذلك لا يأخذ الصحيفة إلاّ إذا توفّر فيها أمران:
أحدهما: أن توجد مكتوبة مع أحد من الصحابة.
والثّاني: أن تكون محفوظة من قبل أحد الصحابة، فإذا طابق المكتوب والمحفوظ للصحيفة التي يراد جمعها أخذها وإلاّ فلا. ولذلك توقّف عن أخذ آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة عند أبي خزيمة فأخذها؛ لأن شهادة ابن خزيمة بشهادة رجلين، مع أن زيدا كان يستحضرها هو ومن ذكر معه.
_________
(^١) رواه البخاري في الصحيح: كتاب تفسير القرآن: سورة (٩) التوبة: باب لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ: الحديث (٤٦٧٩).وكتاب فضائل القرآن: باب جمع القرآن: الحديث (٤٩٨٦). وباب كان النبي ﷺ: الحديث (٤٩٨٩) وكتاب الأحكام: باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا: الحديث (٧١٩١).والترمذي في الجامع: كتاب تفسير القرآن: باب تفسير سورة التوبة: الحديث (٣١٠٢).والنسائي في السنن الكبرى: كتاب التفسير: الحديث (٧٩٩٥) والإمام أحمد في المسند: ج ١ ص ١٠.
1 / 18
روي من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قام عمر فقال: من كان تلقّى من رسول الله ﷺ شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصّحف والألواح والعسب، قال: وكان لا يقبل من أحد شيئا حتّى يشهد شاهدان (^١).
قال ابن حجر: (هذا يدل على أن زيدا كان لا يكتفي بمجرّد وجدانه مكتوبا حتى يشهد من تلقّاه سماعا مع كون زيد كان يحفظه وكان يفعل ذلك مبالغة بالاحتياط) (^٢).
فالجمع لم يكن إلاّ جمع الصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله ﷺ في كتاب واحد بين دفّتين، فقد كان القرآن مكتوبا في الصّحف، لكن كانت مفرّقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد. وعلى ذلك لم يكن أمر أبي بكر في جمع القرآن أمرا بكتابته في مصحف واحد بل أمرا بجمع الصّحف التي كتبت بين يدي الرسول ﷺ مع بعضها في مكان واحد والتأكّد من أنّها هي بذاتها بتأييدها بشهادة شاهدين على أنّها كتبت بين يدي رسول الله ﷺ وأن تكون مكتوبة مع الصحابة ومحفوظة من قبلهم. وظلّت هذه الصّحف محفوظة عند أبي بكر حياته، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر أمّ المؤمنين حسب وصيّة عمر.
ومن هذا يتبين أن جمع أبي بكر للقرآن إنما كان جمعا للصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله ﷺ وليس جمعا للقرآن وإنّ الحفظ إنّما كان لهذه الصّحف أي للرّقاع التي كتبت بين يدي رسول الله ﷺ وليس حفظا للقرآن. ولم يكن جمع الرّقاع والمحافظة عليها إلاّ من قبيل الاحتياط والمبالغة في تحرّي الحفظ لعين ما نقل عن رسول الله ﷺ.
أما القرآن نفسه فإنه كان محفوظا في صدور الصحابة ومجموعا في حفظهم، والاعتماد في الحفظ كان على جمهرتهم لأن الذين كانوا يحفظونه كليّا وجزئيا كثيرون.
هذا بالنسبة لجمع أبي بكر، أما بالنسبة لجمع عثمان فإنه في السّنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان، أي في سنة خمس وعشرين للهجرة قدم حذيفة ابن اليمان
_________
(^١) أخرجه ابن أبي داود السجستاني في كتاب المصاحف: ص ١٧.
(^٢) قاله ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج ٩ ص ١٧.
1 / 19
على عثمان في المدينة وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيّة وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في قراءة القرآن.
فإنه رأى أهل الشام يقرءون بقراءة أبيّ بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، ورأى أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفّر بعضهم بعضا. وأن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة، قرأ هذا:
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ،﴾ وقرأ هذا: وأتمّوا الحجّ والعمرة للبيت فغضب حذيفة واحمرّت عيناه، وروي عن حذيفة قال: يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لآمرنّه أن يجعلها قراءة واحدة، فركب إلى عثمان (^١).
وقد حدّث ابن شهاب أن أنس بن مالك حدّثه [أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشّام في فتح ارمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنّصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصّحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردّها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزّبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيّين الثلاثة:
إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء ما من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق] (^٢) وقد كان عدد النّسخ التي نسخت سبع نسخ، فقد
_________
(^١) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف: اتفاق الناس مع عثمان على جمع المصاحف: ص ١٨ ونقله ابن حجر العسقلاني في الفتح عن ابن أبي داود من كتاب (المصاحف).ينظر: فتح الباري: ج ٩ ص ٢١ - /٢٢ الطبعة الأولى لدار الكتب العلمية.
(^٢) أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل القرآن: باب جمع القرآن: الحديث (٤٩٨٧) والسنن الكبرى للنسائي: كتاب فضائل القرآن: الحديث (٧٩٨٨).
1 / 20
كتبت سبعة مصاحف إلى مكّة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحد.
قال ابن حجر: (واختلفوا في عدّة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق؛ فالمشهور أنّها خمسة؛ وأخرج ابن أبي داود في (كتاب المصاحف) من طريق حمزة الزيات قال: أرسل عثمان أربعة مصاحف وبعث منها إلى الكوفة بمصحف فوقع عند رجل من مراد، فبقي حتى كتبت مصحفي عليه.
قال ابن أبي داود: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: كتبت سبعة مصاحف إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا. وأخرج بإسناد صحيح إلى إبراهيم النخعي قال: قال لي رجل من أهل الشام مصحفنا ومصحف أهل البصرة اضبط من مصحف أهل الكوفة؛ قلت: لم؟ قال:
لأنّ عثمان بعث إلى الكوفة لما بلغه من اختلافهم بمصحف قبل أن يعرض، وبقي مصحفنا ومصحف أهل البصرة حتى عرض) (^١).
وفي فضائل القرآن لابن كثير القرشي الدمشقي: قال: (وأما المصاحف العثمانية الأئمة، فأشهرها اليوم الذي بجامع دمشق عند الرّكن، شرقي المقصورة بذكر الله، ولقد كان قديما بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة، ولقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخطّ حسن مبين قوي بحبر محكم، في رقّ أظنه من جلود الإبل، والله أعلم؛ زاده الله تشريفا وتعظيما وتكريما) (^٢).
وعلى هذا لم يكن عمل عثمان جمعا للقرآن وإنما هو نسخ ونقل لعين ما نقل عن رسول الله ﷺ كما هو. فإنه لم يصنع شيئا سوى نسخ سبع نسخ عن النسخة المحفوظة عند حفصة أمّ المؤمنين، وجمع الناس على هذا الخطّ وحده ومنع أيّ خط أو إملاء غيرها. واستقرّ الأمر على هذه النسخة خطا وإملاء، وهي عين الخط والإملاء الذي كتبت به الصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله ﷺ حين نزل الوحي بها،
_________
(^١) فتح الباري: ج ٩ ص ٢٤.
(^٢) ينظر منه ص /٢٦ طبعة دار الأندلس/الطبعة الرابعة.
1 / 21
وهي عينها النسخة التي كان جمعها أبو بكر. ثم أخذ المسلمون ينسخون عن هذه النّسخ ليس غير، ولم يبق إلاّ مصحف عثمان برسمه. ولمّا وجدت المطابع صار يطبع المصحف عن هذه النسخة بنفس الخطّ والإملاء.
والفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه وإن كان مكتوبا في صحف ولكنه لم يكن مجموعا في موضع واحد ككتاب واحد، فجمعه في صحائف. وجمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرأه بلغاتهم على اتّساع اللّغات فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر فنسخ تلك الصّحف في مصحف واحد.
فالمصحف الذي بين أيدينا هو عينه الذي نزل على رسول الله ﷺ وهو عينه الذي كان مكتوبا في الصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله ﷺ، وهو عينه الذي جمعه أبو بكر حين جمع الصّحف في مكان واحد، وهو عينه الذي نسخ عنه عثمان النّسخ السبعة وأمر أن يحرق ما عداها، وهو عينه القرآن الكريم في ترتيب آياته بالنسبة لبعضها وترتيبها في سورها وفي رسمه وإملائه. وأما النسخة التي أملاها رسول الله ﷺ عن الوحي وجمعت صحفها وجرى النسخ عنها، فإنّها ظلّت محفوظة عند حفصة أمّ المؤمنين إلى أن كان مروان واليا على المدينة فمزّقها، إذ لم يعد لها لزوم على حدّ تقديره بعد أن انتشرت نسخ المصاحف في كلّ مكان. عن ابن شهاب قال:
أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال: [كان مروان يرسل إلى حفصة-يعني حين كان أمير المدينة من جهة معاوية-يسألها الصّحف الّتي كتب منها القرآن فتأبى أن تعطيه، قال سالم فلمّا توفيّت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلنّ إليه تلك الصّحف فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر فأمر بها مروان فشقّقت، وقال: إنّما فعلت هذا لأنّي خشيت إن طال بالنّاس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصّحف مرتاب] (^١).
_________
(^١) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف: ص ٣٢. ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج ٩ ص ٢٤:شرح الحديثين (٤٩٨٧ و٤٩٨٨) وقد سبق ابن كثير في فضائل القرآن ص ٢٤ فقال: رواه أبو بكر بن أبي داود-أي في كتاب المصاحف-وقال: (إسناده صحيح).
1 / 22
رسم المصحف:
ورسم المصحف توقيفيّ لا تجوز مخالفته. والدليل على ذلك أن النبيّ ﷺ كان له كتّاب يكتبون الوحي. وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرّسم وأقرّهم الرسول على كتابتهم.
وأول من كتب الوحي للرسول ﷺ بمكة من قريش هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتدّ ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح؛ وممن كتب له في الجملة الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الرّبيع الأسدي، ومعيقيب بن أبي فاطمة وعبد الله بن الأرقم الأزهري وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن رواحة. وكان ألزم الصحابة لكتابة الوحي زيد بن ثابت الأنصاري، وقبله أبي بن كعب وهو أول من كتب لرسول الله ﷺ الوحي بالمدينة، ولكن زيد لكثرة تعاطيه الكتابة أطلق عليه (الكاتب) بلام العهد؛ ولكنه ربما غاب فكتب غيره. وكان لكتّاب الوحي منزلة وشرف، لهذا أراد أبو سفيان أن ينال من هذا الشرف لابنه معاوية، فطلب من الرسول سيدنا محمّد ﷺ أن يجعل ابنه معاوية كاتبا للوحي وكان رسول الله ﷺ لا يردّ من طلب حاجة منه؛ فأجابه. حتى كان للنبيّ ﷺ كتّاب متخصّصون، ومنقطعون للكتابة له، بلغوا أكثر من أربعين كاتبا (^١).
ومضى عهده ﷺ والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل، مع أن الصحابة قد كتبوا القرآن، ولم يرو عن أحد أنه خالف هذه الكتبة، إلى أن جاء عثمان في خلافته فاستنسخ الصحف المحفوظة عند حفصة أمّ المؤمنين في مصاحف على تلك الكتبة، وأمر أن يحرق ما عداها من المصاحف.
وأيضا فإنما ورد في رسم القرآن من رسم غير رسم الكتابة العربية التي لغيره والعدول عن تلك الكتبة لا تظهر فيها أيّة علّة لهذا العدول سوى أن كتابتها توقيفية وليست اصطلاحا. ولذلك لا يقال لماذا كتبت كلمة [الربا] في القرآن بالواو والألف [الربوا] ولم تكتب بالياء أو الألف. ولا يقال ما هو سبب زيادة الألف في [مائة]
_________
(^١) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج ٩ ص ٢٧:شرح الحديث (٤٩٩١).
1 / 23
دون [فئة] وزيادة الياء في [بأييديكم] و[بأييكم] وزيادة الألف في [سعوا] بالحجّ ونقصانها من [سعو] بسبإ، وزيادتها في [عتوا] حيث كان ونقصانها من [عتو] في الفرقان وزيادتها في [أمنوا] وإسقاطها من [باءو] [جاءوا] [فاءو] بالبقرة، وزيادتها في [يعفوا الذي] ونقصانها من [يعفو عنهم] في النساء. ولا يقال كذلك ما هو وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض. كحذف الألف من [قرءنا] بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع. وإثبات الألف بعد واو [سماوات] في فصّلت وحذفها من غيرها. وإثبات الألف في الميعاد مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال. وإثبات الألف في [سراجا] حيثما وقع وحذفها من موضع الفرقان. فهذا الاختلاف في كتابة الكلمة الواحدة بين سورة وسورة من حيث الرسم مع عدم اختلاف المعنى واللفظ دليل على أنه فعل مردّه إلى السّماع لا إلى الاجتهاد والفهم، وكلّ ما كان مرده إلى السّماع فهو توقيفيّ.
وأيضا فإنه قد نقل الاختلاف في ترتيب السّور ولكنه لم ينقل خلاف في رسم المصحف على هذه الكتبة التي كتبت بين يدي الرسول، كما لم ينقل خلاف في ترتيب الآيات، مما يدلّ على أن الرسم توقيفيّ. فإقرار الرسول على هذه الكتبة، وإجماع الصحابة عليها، وواقع الاختلاف في رسم الكلمة الواحدة بين سورة وسورة مع اتحاد اللفظ والمعنى، كلّ ذلك دليل واضح على أن هذا الرسم الذي عليه المصحف هو رسم توقيفي يجب أن يلتزم وحده، ويحرم أن يكتب المصحف على رسم غير هذا الرسم، فلا يجوز العدول عنه مطلقا.
ولا يقال إن الرسول كان أمّيا فلا يعتبر تقريره لها، فإنّ له كتّابا يعرفون الخطوط فكانوا يصفونها له، وذهب بعضهم إلى أنه كان يعرف أشكال الحروف كما ورد في بعض الأحاديث. وفي هذا القول نظر، بل هو غير مستساغ.
على أن كتابة كتّابه للكتب التي كان يرسلها للملوك والرؤساء كانت على رسم الكتابة العاديّة، وعلى غير الرسم الذي كانوا يكتبون به الصّحف التي يكتبون فيها القرآن حين نزوله، مع أنّ المملي واحد والكتّاب هم هم. على أن التزام الرسم العثماني للقرآن، إنما هو خاصّ بكتابة المصحف كله، أما كتابة القرآن استشهادا، أو
1 / 24