وَكَذا الكريمُ إذا أقامَ بِبَلدَةٍ ... سالَ النُّضارُ بها وَقامَ الماءُ
قال ابن جني: معنى البيت أن الكريم إذا أقام ببلدة، أعطى المال وفرقه في وجوه الكرم، فكأنه ماء سائل، وقام الماء أي جمد، لما رأى من كرمه وسخائه فوقف متحيرًا، فلم يسل. ويشهد لصحة هذا التفسير قوله بعده:
جَمَدَ القِطارُ ولو رَأتْهُ كما رأى ... بُهِتَتْ فلمْ تَتَبَجَّسِ الأنواءُ
يقول: جمد القطار لما رآه، تحيرًا من كرمه، فلولا أن الأنواء رأته كما رآه القطار لبهتت فلم تتبجس بالماء، استعظامًا لما يأتيه. وهذا تفسير للذي قبله. قال الشيخ أبو العلاء أحمد ﵀: الصواب أن تكون الأنواء مرفوعة برأته، لأنه أولى الأفعال بها، إذ كانت الرؤية هي التي يؤديها إلى البهت، فكأنه قال: لو رأته الأنواء، بهتت فلم تتبجس.
وقال ابن فورجة: أراد بالكريم الممدوح نفسه، لا كل كريم، إذ كان شارعًا في ذكره، وهذا كما قال الشاعر: أبى القَلْبُ إلاَّ أُمَّ عمروٍ وذكرَها وكقول نُصيب: وقُلْ إن تَمِلّينا فما مَلَّكِ القَلْبُ
مَن يَهْتَدي في الْفِعْلِ ما لا يهتدي ... في القَوْلِ حتّى يَفْعَلَ الشُّعَراءُ
قال الشيخ: فعل الشعراء: هو قوله يهتدي. والمعنى أن هذا الممدوح يهتدي في الفعل ما لا يهتدي إليه الشعراء، وهم موصوفون بالفطنة، وادعاء الأشياء المتعذرة، فهذا الممدوح يفعل الأشياء التي لا تهتدي الشعراء إليها حتى يفعلها فتعرفها حينئذ.
مَنْ يَظْلِمُ اللُّؤِماءَ في تَكْليفهم ... أنْ يُصْبِحوا وَهُمْ لَهُ أكْفاءُ
قال ابن جني: يقول تكليفه اللؤماء أن يصبحوا مثله في الكرام، ظلم لهم منه، لأنهم لا يقدرون على ذلك.
وقال أبو العلاء: " مَنْ " في البيت استفهام، والمراد أن أحدًا من الناس لا يظلم اللؤماء، بأن يكلفهم أن يفعلوا كفعل هذا الممدوح، كما يقال للشيء إذا بَعُد: من يقدر على هذا؟ أي: لا يقدر عليه أحد.
اِحْمِدْ عُفاتَكَ لا فُجِعْتَ بِفَقْدِهِمْ ... فَلَتركُ ما لم يأخُذوا إعْطاءُ
قال ابن جني: يقول: " لا فجعت بفقدهم " حشو في غاية الملاحة والظرف، وهو يحتمل أمرين، أقربهما إلى ظاهر البيت، إنه دعا بأن لا يعدم القصاد والطلاب، إذ كانوا لا يقصدون إلا ذا مال وثروة.
لا تكْثُرُ الأمواتُ كثرة قِلَّةٍ ... إلا إذا شَقِيَتْ بِكَ الأحياءُ
قال ابن جني: إنما تكثر الأموات إذا قل الأحياء، وكثرتهم كأنها في الحقيقة قلة، وقوله شقيت بك أي: شقيت بفقدك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وإنما تشقى به الأحياء، لمفارقته إياهم وقال الشيخ: معناه أن الأموات، إذا حارب هذا الممدوح أعداءه، كثروا لأنه يقتلهم، وكثرة هذه الأموات مؤدية إلى القلة، لأنها فناء.
وقال ابن فورجة: قوله: كثرة قلة، لأن الأموات تدفن أو تبلى، فتذروها الرياح، أو تأكلها الوحوش والطير، فهي تقل وإن كثرت، وكأن هذا البيت ينظر به إلى قول القائل:
لِكُلِّ أُناسٍ مَقْبَرٌ بِفَنائِهِمْ ... فَهُمْ يَنْقُصونَ وَالْقُبورُ تَزيدُ
وهذه الطريقة سلك أيضًا بقوله:
متى ما ازْدَدْتُ مِنْ بَعْدِ التَّناهي ... فَقَدْ وَقَعَ انْتِقاصي في ازدِيادي
جعل زيادته بعد تناهيه نقصانًا زائدًا، كما جعل في هذا البيت، كثرة الأموات قلة. وقوله: " شقيت بك الأحياء " ليس يريد به الشقاء بعينه، وإنما هو من قولهم: شقيت بفلان، إذا كان يبغضك، كقول الطرماح.
وَنِّي شَقِيٌّ باللئامِ ولن ترى ... شَقِيًَّا بِهِمْ إلا كريمَ الشَّمائِلِ
أي: اللئام يبغضونني، ولا ترى أحدًا يبغضونه إلا كريمًا. وقال أبو الطيب:
لولا ظِباءُ عَديٍّ لما شَقِيتُ بِهِمْ ... ولاَ بِرَبْرَبِهِمْ لولا جآذِرُهُ
يريد: لولا ظباء عدي، لما أغضبتني عدي، ولا أضمرت لي الأحقاد، والمعنى أنك إذا كرهت حياة قوم وأبغضتهم، قتلتهم فكثرت بهم الأموات، كثرة تؤدي إلى قلة.
1 / 5