قال الشيخ ﵀: بعض الناس يذهب إلى أنه أراد محل غاش من الغش وتلك ضرورة قبيحة، والمعنى غير مفتقر إلى ذلك، وإنما هو فاعل من غشي يغشى وهو مؤد معنى الغش، لأنه يغشى القلب، وكثيرًا ما يقولون على قلبه غشاوة وفي الكتاب العزيز) والليل إذا يغشى (وكل شيء إذا حل في موضع فقد غشيه من الناس وغيرهم.
وقال ابن فورجة: هذا البيت فضح الصاحب ﵀ نفسه به في رسالته التي ذم فيها أبا الطيب يقول فيها: ومن مجازاته التي خلقها خلقًا متفاوتًا تخفيفه الغاش وهذا ما لا أعلم سامعًا باسم الأدب يسوغه أو يفسح فيه ويجوزه وذلك قوله) كأنك ناظر.. البيت (فإن جاز أن يقال:) عباس بن عبد المطلب وشماخ بن ضرار (فلا تشدد الباء ولا الميمعلى أن الذي أورده أشفع من هذا الذي مثلناه به، إذ كان لفظ فاعل بني على لفظ فعل مشدد. هذا كلامه. وإذا لم تفهم الكلام اعترض عليه بما يفضح، وكأنه تصور أن يريد غاشًا من الغش ولم يرد أبو الطبيب شيئًا من ذلك، وإنما أراد محل من يغشاك من صنوف الناس يقال: غشيته أغشاه إذا قصدته من قوله: غشيتُ دِيَارَ الحيَّ بالبَكَرَاتِ قال الله تعالى:) ومن فوقهم غواش (. وقال ذو الرمة:
وذي شُعَبٍ شَتَى كِسْوتُ فُروجَه ... لغَاشيةٍ يَومًا مقطَّعةً حُمْرا
ومنه كنى عن الجماع بالغشيان. قال الله تعالى) فلما تغشاها حملت حملًا خفيفًا (ولو أراد الغش لما أتى بالمحل إلاّ أن ذا الغش يعرف غشه فقط وهذا كقوله:
وَيَمْتَحِنُ النَّاسَ الأميرُ برأيِهِ ... وَيُغْضِي على عِلْمٍ بكُلِّ مُمَخْزِقِ
أتَى خَبَرُ الأمِيرِ فَقِيلَ كُرُّوا ... فَقُلْتُ نَعَمْ وَلَوْ لَحِقُوا بِشَاشِ
قال ابن فورجة: روى أبو الفتح ابن جنى) كروا (بفتح الكاف وفسره فقال كان أبو العشائر استطرد للخيل بين أيديها، ثم خبره أنه كر عليهم راجعا أي فلو لحق راجعًا أي فلو لحق بشاش لوثقت بعودته هذا تفسير يتبع الرواية ولم يرو غير أبي الفتح) كروا (بفتح الكاف. ووقع إليّ نسخ غير واحدة شاميات كلها) كروا (وليس التفسير إلاَّ ما أقول ولا الرواية إلاّ بالضم، يقول أتى خبر الأمير بظفره بالعدو لنا: معشر المستميحين واللائذين به كروا، فقلت نعم ولو كان بشاش، الدليل على ذلك قوله فيما يليه.
وأُسْرِجَتِ الكُمَيْتُ فَناقَلَتْ بِي ... عَلى إعْقاقِها وعلى غِشاشِي
والإعقاق مصدر أعقت الأنثى فهي عقوق، إذا عظم بطنها لقرب النتاج والغشاش العجلة، يقال: سرت بها على عجلة مع كونها معقًا، فهذا دليل على أن الغرض ما ذكرنا. وأيضًا قوله فيما بعد:
إذا ذُكِرتْ مَوَاقِفُه لحافِ ... وَشِيكَ فما يُنَكَسُ لانْتِقاشِ
أي بعجلة سروره بها عجلته إلى زيارته عن إخراج الشوك من رجله، ومما يفسد ما ذكره أن قوله) فقيل كروا (يكون ضميره لأصحاب الممدوح) ولحقوا (ضميره لأصحاب العدو فكيف يفرق السامع بين ضميرين. وهل يرضى أبو الطيب لشعره بهذا المجاز من كون ضميرين في بيت واحد مختلفين ولفظهما متفق.
حرف الضاد
فَعَلَتْ بنا فِعْلَ السَّماءِ بأرْضِهِ ... خَلِعُ الأمِير وَحَقَّهُ ولم نَقْضِهِ
قال الشيخ أبو العلاء ﵀: ذكر السماء في هذا الموضع وقد جاء تذكيرها في القرآن في قوله) السماء منفطر به (، وحكي عن الخليل أن المعنى ذات انفطار، والغرض أن الاسم إذا تؤول فيه مثل هذا التأويل وهو لمؤنث حذفت منه الهاء، كما قالوا حائض وطامث أي ذات حيض وذات طمث، والسماء إذا أريد بها التي يتردد ذكرها في القرآن فالغالب عليها التأنيث، وإذا ذكرت جاز أن يذهب بها مذهب السقف وأن يجعل جمع سماوة وأن تذكر لأن تأنيثها غير حقيقي، وإذا أريد بالسماء المطر فهو مذكر، ويجوز أن يكون أبو الطيب إلى هذا الوجه ذهب) وحقه (يجوز فيه النصب فالنصب على إضمار فعل كأنه ولم نقض حقه أو نحو ذلك. ثم جاء الفعل الثاني مفسرًا للأول المضمر، والرفع على أن يكون حقه مبتدأ والواو عاطفة جملة على جملة. وأول الجملة فعل وأول الثانية اسم ويجوز أن يكون الشاعر لم يرد عطف جملة على جملة، وإنما أخبر أن الممدوح فعل جميلًا) وحقه لم نقضه (أي نحن مقصرون فيما يجب له كما تقول جاءني فلان يطلب دينه ودراهمه لم أعدها ومن التي أولها:
1 / 46