قال الشيخ ﵀: هذا يحتمل وجهين أحدهما: أن يعني بالعنس الناقة الصلبة المسنة، ويكون محمولا على المبالغة، كما أنك إذا وصفت شاعرا قلت: داره شعر وفرسه قريض ونحو ذلك، والآخر: أن يريد بالعنس القصيدة وهذا أحسن.
وقال ابن فورجة: يحتمل هذا البيت من المعاني وجوها كثيرة، كلها جيد فأجودها وهو الذي أتى به ابن جني: إنما كنت أحييها بمدحكم وأحدوها به فأصون بذلك لحمها ودمها، هذا لفظه، ومعنى ثان: وهو أنه يعني نعله وأنه لا قوة له ولا مال ولا وسيلة إلا الشعر، ويكون كقوله:
لا ناقَتِي تَقَبلُ الرَّديفَ وَلا ... بالسَّوطِ يَومَ الرّهانِ أُجهدُها
وهو يريد نعلها. ومعنى ثالث: وهو أن يعني ناقة لم يبق لها من هزالها دم ولا لحم وإنما بقي لها الشعر فقط، يريد أن جميع ما تحمله هو الشعر، حتى أن لحمها ودمها أيضا شعر، ومعنى رابع: وهو أجودها كلها، وهو أن يعني أنها كأنها شعر تجسم ناقة، فكلها شعر، ولو قدر لقال: لحمها ودمها وعصبها وعظمها وما أشبه ذلك. ولا يريد أن ثم هزالا ولا جهدا بل يريد به غلبة الشعر على راكبها، ويكون كقوله في هذه القصيدة بعينها:
هُمُ النَّاسُ إلاَّ أنَّهمْ مِنْ مكارِمٍ ... يُغَنّي بِهِمْ ويَحدو بِهِمْ سَفرُ
ومن التي أولها: أُطاعِنُ خَيلًا مِن فَوارِسِها الدَّهرُ
وَتَركُكَ في الدُّنيا دَوِيًَا كَأنَّما ... تَدَاوَل سَمعَ المَردِ أنمُلُهُ العَشرُ
قال أبو العلاء: هذا المعنى مبني على أن الإنسان إذا جعل إصبعيه في أذنيه سمع دويا، وهو الذي جاء في الحديث المرفوع وذلك قوله:) من يشأ أن يسمع خرير الكوثر فليجعل إصبعيه في أذنيه (، وتداول بالرفع على حذف التاء في قولك تتداول، والمحذوف عند سيبويه التاء الثانية، لأن الأولى علامة المضارعة فلا يحسن حذفها. وقال غيره المحذوف التاء الأولى، وقال بعض الكوفيين: يجوز أن تكون المحذوفة الأولى والآخرة، وقد ذكروا أن التاء تحذف مع الياء وروي أن بعض القراء قرأ) كأنها كوكبُ دُريُّ توقد من شجرة (أي تتوقد، وهذا مستنكر، وقد رووا بيت أبي خراش الهذلي:
وكادَ أخو الوجعاء لولا خُويلدُ ... يفَزَعُني بسيفهِ غير قاصِدِ
أي يتفرعني، ولو روي تداول بفتح اللام على أنه ماش، لكان ذلك حسنًا.
إذا الفَضْلُ لم يَرْفَعْكَ عن شُكْرِ نَاقِصٍ ... على هَيبةٍ فالفَضْلُ فِيمَنْ لَهُ الشُّكْرُ
قال ابن جني: إذا اضطرتك الحال وشدة الزمان إلى شكر أصاغر الناس على ما يبلغ به إلى إمكان الفرصة فالفضل فيك. ولك لا للممدوح المشكور.
وقال الشيخ: هذا البيت كأنه خطاب لغير الشاعر، وقد يجوز أن يعني به نفسه، لأن هذه صفة حاله. يقول إذا كان الإنسان فاضلًا ولم يرفعه فضله عن أن يشكر أخا النقص على هبته فالفضل هو للمشكور وقد ذهب فضل الفاضل.
وَخَرْقٍ مَكانُ العِيسِ مِنْه مَكانُنا ... مِنَ العيسِ فيهَ واسِطُ الكُورِ والظَّهرُ
قال الشيخ: الخرق الأرض الواسعة، قبل لها ذلك لأن الريح يتخرق فيها، ولأنها تتخرق إلى أرض غيرها، وقوله) مكان العيس منه مكاننا (أي للعيس في وسطه ونحن في أوساط العيس، ثم فسر مكانه ومكان أصحابه بقوله واسط الكور والظهر، والكور الرحل بأداته وهو هاهنا شائع في الجنس وكذلك الظهر لأنه لو لم يكن كذلك لكان القائل كالذي زعم وأصحابه على واسط كور واحد مطية واحدة.
وقال ابن فورجة: قال ابن جني: معنى البيت أن الإبل كأنها واقفة في هذا الخرق ليست تذهب ولا تجيء وذلك لسعته فكأنها ليست تبرح منه كما قال الآخر: يُمسِي به القَوْمُ بحيث أصبحوا أي فكما نحن في ظهور هذه الإبل لا نبرح منها في واسط أكوارها فكذلك هي، كأن لها من ظهر الخرق كورًا وظهرًا، فقد أقامت به لا تبرحه ألا تراه يقول:
يَخِدْنَ بنا في جَوْزِهِ وكأنَّنا ... عَلى كُرَةٍ أو أرْضُهُ مَعَنا سَفْرُ
وأخذ هذا المعنى السري الكندي فقال:
وخَرْقٍ طالَ فيه السَّيرُ حتى ... حَسِبْناهُ يسيرُ مع الرّكابِ
1 / 39