فلا مُزنَةٌ ودَقَتْ وَدقَها ... ولا أرضْ أبقَل إيقَالَها
وقول الأعشى:
أرَى رَجُلاُ منهم أسيفًا كأنَّما ... يَضُمُّ إلى كَشحَيهِ كَفًَّا مُخَضبا
فأما وجه جمعه الأرآد والإياة موحدة، فأنه حملها على المعنى في قوله) كلما أستل (فكأنه عنى سلات كثيرة، فكل سلة راد للشمس، وفي البيت نظر آخر: وهو أن الرئد الترب، وإنما يقال فلانة أي هي في سنها، ولا فائدة في كون ضوء السيف رئدا للشمس في السن، بل الفائدة في أن يكون ضوءه مثل ضوئها، والقول في ذلك عندي أنه أقام الرئد مقام النظير والشبيه اتساعا في الكلام.
مَثَّلُوهُ في جَفنِهِ خَشيَةَ الفَقدِ فَفي مِثل أُثِرِهِ أغمادُهْ قال أبو العلاء: المعنى أنه أراد أن أصحاب هذا السيف كانوا معجبين به، يؤثرون أن لا يغيب عنهم في حال، فمثلوه في غمده من الفضة، بشبه أثره، ليكونوا وهو مغمد كأنهم ينظرون إليه وهو مسلول، لأنهم يختارون أن لا يغيب عنهم، ولا يمتنع أن يكونوا صاغوا له غمدا من الفضة، والسيف يوصف بالبياض والفضة بيضاء فكأنه مغمد في فرنده.
وقال ابن فورجة: هذا البيت يحتاج إلى إشباع في التفسير. وقد قال أبو الفتح ابن جني: أن جفن هذا السيف كان مغشى بفضة منسوجة عليه، فكأنهم بنقاء الفضة التي على جفنه صونا له من الفقد لئلا يأكل جفنه. هذا كلامه. وفيه زلل في مواضع سابينها فأحد ما زال فيه قوله حكوه بنقاء الفضة التي على جفنه، مع قوله كان مغشى بفضة منسوجة، فأن كان المعنى ما حكاه فكان يجب أن يغشى بفضة مطروقة مصفاة ليكون نقاؤها مثل نقائه، وهيئتها كهيئة، فأما المنسوجة فلا نقاء لها، وقد زعم أنها كانت منسوجة، فقد نقض آخر كلامه أوله، والآخر قوله صونا له من الفقد فقد ظن أبو الفتح أنه يعني لو لم يغش بالفضة لفقد، وليت شعري كيف يفقد هذا السيف من بين السيوف وكلها غير مغشاة بفضة فما تفقد! والآخر قوله لئلا يأكل جفنه وقد علم أن السيف قد يأكل جفنه ولا يفقد، والذي عنى أبو الطيب غير ما حكى وإنما شبه أثره بنسج الفضة على جفنه، فهو إذا كان من الفرند المسمى المزرد أشبه شيء بنسج حتى أن في السيوف المجلوبة من بعض بلاد الترك سيوفا حدودها فولاذ ومتونها حديد من المذيل، وهو المسمى بالفارسية) الترماهن (يهز أحدها ثم يعطف طرفه فيلتقي مع قائمه للينه ثم يخلى فيعود إلى استوائه، وعلى متونها كأحسن ما يكون من النسج، فيزعمون أنها تتخذ من حديد يمطل الفضة، فإذا صار في دقة الوتر نسج منه على هيئة التكة، فإذا فرغ من نسجه نفخ عليه، حتى إذا صار نارا طرق فأنحلت تلك القوى وتلازمت فإذا برد كشف عنه بالمداوس، وألبس حدا من) الشابرقان (الجيد، فلا ترى فرندا أحسن من فرندها، وهي تقد الفارس، وتهتك الدرع بلينها ومضائها، فأدعى أبو الطيب، لحذقه بصنعة الشعر، أن ما نسج على جفنه من الفضة تصوير لما على متنه من الفرند، فعل به ذلك إرادة أن لا تفقده العين بكونه في غمده، بل تكون كأنها ناظرة إليه، ولم يرد بقوله) خشية الفقد (خشية ضياعه وذهابه، بل أراد أنه لحسنه لا يشتهي مالكه أن يفقده منظره بإغماده.
وَتَقَلَّدْتُ شامَةً في نَدَاهُ ... جِلدُها مُنفِساتُهُ وَعَتَادُهْ
قال أبو العلاء: لما كانت الشامة تكون في الجلد، استعاره أبو الطيب في هذا البيت، فجعل السيف شامة في يدي الممدوح، والجلد الذي هي فيه المنفسات والعتاد وهي قليلة فيه لأن الشامة إنما تشغل ما قل من جلد الإنسان.
فَرَّسَتنا سَوَابِقٌ كُنَّ فِيهِ ... فارَقَتْ لِبدَهُ وفيها طِرادُهْ
قال أبو العلاء: الهاء في) فيه (راجعة على الندى، وقوله) فرستنا (أي جعلتنا حاذقين بالفروسية، لأن كل من ركب الفرس سمي فارسا، إلا أنه وأن ركب جائزا ألا يكون صاحب فروسة على ظهور الخيل، والهاء في) لبده (راجعة إلى الممدوح، واللبد هاهنا واحد في معنى الجمع، والهاء في) طراده (يرجع إلى الممدوح أيضا، أي أنه فارس على الخيل، فهذه السوابق قد فارقت ركابه إلا أنها متعودة ما عدوها من الطراد، فنحن نجده فيها إذا أردناه.
وَرَجَتْ رَاحَةً بنا لا نَرَاها ... وَبِلادٌ تَسِيرُ فِيها بِلادُهْ
1 / 34