مهما اجتهد الولد في الإحسان إلى أبويه فإنه لا يجازي سابق إحسانهما بأن يتوجه (١) بسؤال الرحمة لهما من الله تعالى، وهي النعمة الشاملة لخير الدنيا والآخرة إظهارًا لشدة رحمته لهما، ورغبة في وصول الخير العظيم من المولى الكريم إليهما، واعترافًا بعجزه عن مجازاتهما.
يدعو لهما هكذا في حياتهما، وبعد مماتهما.
أما في حياتهما فيدعو لهما بالرحمة سواء كانا مسلمين أم كافرين، ورحمة الكافرين بهدايتهما إلى الإسلام. وأما بعد الموت فلا يسأل الرحمة لهما إلاّ إذا ماتا مسلمين؟ لقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: ١١٣].
والكاف في قوله تعالى: ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ للتعليل أي رب ارحمهما لتربيتهما لي، وجزاء على إحسانهما إلي في حالة الصغر: حالة الضعف والافتقار. وفي هذا اعتراف بالجميل، وإعلان لسابق إحسانهما العظيم، وتوسل إلى الله تعالى في قبول دعائه لهما بما قدما من عمل؛ لأنه وعد أنه يجزي العاملين، وقد كانت تربيتهما لولدهما من أجل مظاهر الرحمة. وهو قد أخبر تعالى على لسان رسوله: «أنه يرحم الراحمن» (٢) ولا أرحم- بعده تعالى- من الوالدين.
خاتمة:
من بر الوالدين:
١ - أن نتحفظ من كل ما يجلب لهما سوءًا من غيرنا، فإن فاعل السبب فاعل للمسبب، ومن هذا أن لا نسب الناس حتى لا يسبوا والدينا، لأنا إذا سببنا الناس فسبوهما كنا قد سببناهما، وسبهما من أكبر الكبائر: ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو ﵁، قال: قال رسول الله ﵌: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه! قيل يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمها» (٣).
٢ - ومن برهما حفظهما بعد موتهما بالدعاء والاستغفار، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما وصلة رحمهما، فقد روى ابن ماجه وأبو داوود وابن حبان في صحيحه، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي البدري ﵁، قال:
_________
(١) تقدير الكلام: فيجب عليه أن يتوجه؛ أو: فعليه أن يتوجه.
(٢) روى أحمد في المسند (١/ ٤،٥) من حديث طويل عن أبي بكر الصديق ﵁، وفيه: «يقول الله ﷿: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئًا».
(٣) أخرجه مسلم في الإيمان (حديث ١٤٥) والترمذي في البر باب ٤. وأحمد في المسند (٢/ ١٦٤، ١٩٥، ٢١٤، ٢١٦).
1 / 71