وفي هذا ترغيب للخلق في تحصيل الفضل في درجات الآخرة؛ فإنهم إنما يتهالكون في الدنيا على أن يفضل بعضهم بعضًا في شيء منها، وهي الدار الفانية. فلم لا يتسابقون فيما ينالون به الفضل في الدار الباقية؟! مع أن من عمل لنيل الفضل في الآخرة- وما عملها إلاّ الخير والمعروف- حاز الفضل والسعادة فيهما على أفضل وجه، وأكمل حال.
فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أصول الهداية في ثمان عشرة آية
من قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ [الإسراء: ٢٢]، إلى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ٣٩].
تمهيد:
قد أوتي رسول الله ﵌ جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصارًا؛ فالآية من كتاب الله، والأثر من حديث رسول الله، تجد فيه من أصول الهداية، ودقيق العلم، ولطيف الاشارة في لفظ بيِّن وكلام بيِّن- ما فيه الكفاية وفوق الكفاية لمن أوتي العلم ومُنح التوفيق.
فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها.
وهي- فوق بلاغتها التي عرف العرب إعجازها بسليقتهم وأدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم- قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا، أو بأي لغة نطقوا، بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفِطَر وتسلمها العقول.
وإنك لست واجدًا مثلها في مقدارها وأضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدى وبيان.
وهذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور المتقدم في قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ ووقوعها بلصق قوله تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾. إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور، المستفاد من هذه الآيات.
1 / 61