78

فمنها الإدراك والحركة، فمن نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر الى ترتيب حكمته في خلق الحواس الخمس التي هى آلة للادراك.

فأولها حاسة اللمس، التي تعم الحيوانات، لكونها واقعة في عالم الأضداد، فيقع بها الاحتراز عن الحر الشديد والبرد الشديد مثلا، وخصوصا في الأكل، وهذه لا تكفي لاقتصار إدراكها على القريب، ولا تقدر بها على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك. فافتقرت الى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق الله فيك حس الشم، إلا انك تدرك به الرائحة ولا تدري انها جاءت من أي ناحية، فتحتاج الى أن تطوف كثيرا من الجوانب، فخلق لك البصر لتدرك ما بعد عنك وجهته معا فتقصده، ولا تدرك به ما وراء الجدران والحجب، فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدار عند جريان الحركات، ولأنك لا تدرك بالبصر إلا موجودا حاضرا وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف وأصوات، فأنعم الله عليك بهذه الحاسة، وميزك بفهم الكلام عن سائر الحيوانات.

وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق لتدرك أن غذاءك موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك، ثم هذه كلها لا تكفيك لو لم يخلق في مقدم دماغك حس آخر يجتمع عنده مدركات هذه الخمس، فتحتاج الى هذا الحس، وإلى الحافظة لتحفظ عندك صورة ما ادخرته من الغذاء الى وقت الحاجة، وإلى مدرك للمعاني المتعلقة بأفراد نوعك وجنسك التي تحتاج الى صداقتها ودفع عداوتها في تحصيل الغذاء الذي يحصل لك بالصناعة لا بالطبيعة، وإلى حافظ لها، وإلى متصرف فيها وفي الصور المخزونة بالتفصيل والتركيب والاستحضار، وهذه كلها تشاركك فيها الحيوانات.

فلو لم يكن لك إلا هي لكنت ناقصا لعدم ادراكك عواقب الأمور، فميزك الله وأكرمك بصفة أخرى هي أشرف من الكل وهو العقل، فتدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها الجلية والخفية بحسب الحال والمآل جميعا.

وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وإصلاحها، وذلك أخس فوائد العقل، وأقل الحكمة في انشائه، بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله، ومعرفة أفعاله، ومعرفة الحكمة في عالمه.

وعند ذلك تنقلب فوائد الحواس في حقك إلى ما ينفعك في طلب الخير الأقصى، فتكون الحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكلين بنواحي المملكة لاقتناص الأخبار المختلفة من الأقطار، وتسليمها إلى الحس المشترك القاعد في سرير مقدم الدماغ، كصاحب القصص والكتب للملك، فيأخذها وهي مختومة إذ ليس له إلا اخذها وحفظها، وأما حقائق ما فيها فلا، ولكن الملك يسلم إليه هذه الإنهاءآت مختومة فيفتحها ويطلع منها على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام، وبحسب ما يلوح له يحرك الجنود.

فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات، ولا يمكن استيفاؤها وما يتوقف عليها من الأسباب، فإن الحواس الظاهرة بعض المدارك، والبصر واحد من جملتها، والعين آلة واحدة لها، وقد ركبت على عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية، وبعض تلك الأغشية كأنها نسج العنكبوت، وبعضها كالمشيمة، وبعض تلك الرطوبات كبياض البيض، وبعضها كأنه الجمد، ولكل منها صفة وصورة وهيئة وشكل وتدوير، ولكل منها أمساح وأجزاء وقوى وكيفيات، لكل منها أحكام من الصحة والمرض والسلامة والآفة لا يعلمها إلا الله.

ولو اختلت طبقة واحدة بل شيء من أسبابها، لاختل البصر وعجز عنه الأطباء والكحالون.

وقد صنفت في تشريح العين مجلدات كثيرة، مع ان حجمها لا يزيد على جوزة صغيرة، وأعجب من هذا دخول الأفلاك وطبقاتها وما تحويه من جملة العناصر في هذه الجوزة الصغيرة، من غير أن يتضايق ولا يتصاغر ذلك الكبير ويتعاظم هذا الصغير، وقس بما ذكر حاسة السمع وسائر الحواس الظاهرة، ولا نسبة لها في الصنع والحكمة إلى الحواس الباطنة، كما لا نسبة للباطنة إلى العقل الذي هو وراء كلها.

فهذه نعم الله في أسباب الإدراك، فقس عليها حال نعم الله في خلق أسباب التحريك الذي هو قرين الإدراك في كل نفس، كما قال تعالى:

अज्ञात पृष्ठ