64

وكما لا يختلج في صدرك أن البصل لم لم يكن زعفرانا، والقيصوم ضيمرانا، والكلب أسدا والوهم عقلا؛ فيجب أن لن ينقدح في بالك أن الباقل لماذا لم يكن سحبانا، والفقير سلطانا، والشقي سعيدا، والجاهل الشرير عالما خيرا؟ إذ لو كان كذلك، لاضطر السلطان إلى صنعة الكنس، والحكيم المتأله الى مباشرة الرجس، فما بقي التناسل على تقدير التماثل، وبطل النظام، ووقع الهرج والمرج، فلم يكن ذلك عدلا بل كان ظلما وجورا.

ثم إن الدني لا يتألم من دناءته، والخسيس لا يتضرر من خسته، والجاهل جهلا بسيطا لا يتعذب بجهله، والعامي الأعمى البصيرة لا يشقى بعماه الأصلي، لكون كل منهم لم يغير ما هو عليه ليتألم بفقد كماله، ويتعذب بضد حاله، بل كل أحد يعشق ذاته ويحب نفسه، وإن كان خسيسا دنيا.

وفي المثل السائر: غثك خير من سمين غيرك. فمن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده، فإنما ظلم نفسه بظلمة جوهره وسوء استعداده، وكان أهلا للشقاوة، ينادي على لسان الحال، مهلا فيداك أوكتا وفوك نفخ، وإنما قصر استعداده وأظلم جوهره لعدم إمكان كونه أحسن مما وجد. كما لا يمكن أن يحصل من أعمى القلب البصيرة، وأن يلد القرد إنسانا في أحسن صورة وأكمل سيرة:

ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

[هود:118- 119].

وبالجملة، تفاوت الخلق في الكمال والنقص، والسعادة والشقاوة، إما بأمور ذاتية جوهرية، وإما بأمور عارضة كسبية بواسطة الأعمال والأفعال. فالاختلاف بحسب الأمور الذاتية بمحض العناية الإلهية المقتضية لحسن الترتيب وفضيلة النظام، وليس منشأ للإشكال أصلا كما علمت.

وإما بحسب العوارض اللاحقة، فهي من اللوازم والتوابع الحاصلة بمصادمات الأسباب، وكل آفة وشر يلحق الشيء بسبب أمر خارج إتفاقي، فليس مما يدوم عليه، بل يزول بزوال سببه، وسيعود الشيء الى ما كان عليه أولا من طبيعته الأصلية، والأسباب الإتفاقية غير دائمة ولا أكثرية الوجود. اللهم إلا أن تنقلب طبيعة الشيء الى طبيعة أخرى، فتكون هذه الثانية طبيعة أصلية، والكلام فيها عائد من أن ما يكون عارضا غريبا لها يزول عنها بسرعة، فعلم من هذا ان أكثر أحوال الشيء الخير والسلامة، وأن الآفة والشر من النوادر الاتفاقية.

وأما حديث الانتقام الإلهي بالغضب والعقوبات الدائمة للكفار، فسيأتي الكلام فيه في تحقيق قوله تعالى: { غير المغضوب عليهم }. ولنرجع إلى ما كنا بصدده إنشاء الله.

مشاهدة إشراقية

اعلم أن الصراط الذي إذا سلكت عليه، وثبت الله عليك أقدامك، حتى أوصلك إلى الجنة، صورة الهدى الذي أنشأته لنفسك في الدار الدنيا، بما هداك الله من الأعمال القلبية والبدنية، فهو في هذه الدار لا تشاهد له صورة حسية، وأما في القيامة، وعلى منظر أصحاب البصيرة الغالب عليهم شهود النشأة الآخرة، فقد مد لك جسرا محسوسا على متن جهنم، أوله في الموقف وآخره على باب الجنة، كل من يشاهده يعرف أنه صنعتك وبناؤك، ويعلم أنه قد كان في الدنيا جسرا ممدودا على متن جهنمك من نار طبيعتك التي فيها ظل حقيقتك.

अज्ञात पृष्ठ