لا تحزن إن الله معنا
[التوبة:40]. على قول كليمه:
إن معي ربي سيهدين
[الشعراء:62].
وبالجملة، أشرف منازل السالكين مقام الفقر ومنزل العبودية. والسبب العقلي فيه: ان جميع الموجودات قابلة للرحمة الإلهية، والكمال الوجودي بحسب فطرتها الإمكانية، وإنما المانع منها عن قبول الفيض الأتم والجود الأشمل، هو تقيده بقيد خاص وتصوره بصورة وجودية مخصوصة تضاد قيدا آخر وصورة وجودية أخرى، فبقدر تخلصه عن قيده الجزئي، وانخلاعه عن صورته المخصوصة، يستحق لكمال أتم وأعم، وصورة جودية اشمل وأكمل، فإذا تجرد عن كل ما سوى الله، وغاب عن كل اسم ورسم وحلية وصفة وحول وقوة، كان الله له بدلا عن جميع ذلك، فصار الحق حوله وقوته وسمعه وبصره ويده ورجله وجميع قواه وجوارحه - كما ورد في الحديث القدسي - من غير تغير وتكثر في ذاته وصفاته تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ولهذا أمثلة كثيرة:
منها: أن الهيولى الأولى للاجسام، لما كانت في ذاتها عارية عن كل صورة حسية وصفة جسمانية، قبلتها كلها، بخلاف المواد الثانوية لها، فإنها من حيث استعدادها الخاص لا تقبل إلا صورة واحدة، فكذلك النفس الإنسانية التي هي هيولى العقليات، من شأنها أن تقبل سائر الصور العقلية والكمالات الملكوتية والأخلاق الحسنة كلها، إلا ان تقيدها ببعض الصفات، واحتجابها بحجب بعض الملكات يمنعها عن الاتصال بما فوقها.
ومنها: أن العناصر إذا امتزجت وتفاعلت وانفعل كل منها عن صاحبه، انكسرت كيفياتها، وكادت تخلع عنها صورها المتضادة الجزئية، فعند انكسارها وشدة افتقارها إلى ما يحفظها عن الفساد، فاض عليها المبدأ الجواد بصورة كمالية جامعة لكمالات تلك الصور المتعددة بوحدتها الجمعية، وقس عليها حال النفوس المتعددة عند اجتماعها في بيوت العبادة ومجالس العلم والذكر، وتركها شواغلها الدنيوية، كيف تفاض عليها بركة الهيئة الجمعية، وتنكشف عليها صورة المسالة العلمية التي هي أشرف من تلك الشواغل.
ومنها: أن الجسم الملون الكثيف، إذا زال بالتصقيل لون سطحه وضوؤه، قبل بعد ذلك لون كل ما يقابله وضوءه وما ذلك إلا لأن الجسم الصقيل لا لون له ولا ضوء له بالفعل، مع أنه من شأنه أن يكون ذا لون وضوء لكونه كثيفا.
ومنها: أن الجسم المشف من شأنه قبول الألوان كلها، وإذا اتصف بلون خاص يمتنع عليه قبول غيره، يماثله أو يضاده، وأما أن الملون بغير السواد، يقبل لون السواد، فلأن غير السواد من الألوان بالقياس إلى السواد كاللالون بالقياس إلى اللون، وها هنا موضع تأمل.
अज्ञात पृष्ठ