[الروم:32]. وهكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن، وتفاوت مراتبهم في بطونه وظهوره، ولبابه وقشوره، لأن كلام الله لمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف والتفاوت في مذاهب الخلق واعتقاداتهم لله بين مجسم ومنزه ومتفلسف ومعطل ومشرك وموحد، فكذا وقع الاختلاف والتفاوت بينهم في الفهوم، فهذا مما دل على كمال القرآن، لأنه بحر عميق غرق في تياره الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون، سواء وقع الوقف على الله أم لا، إذ الراسخون إذا علموا تأويله لم يعلموا إلا بالله، ولم يحيطوا به علما إلا بعد فناء ذواتهم عن ذواتهم، واندكاك جبل هوياتهم، ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء.
والغرض من هذا الكلام أن علم القرآن مختلف. والأذواق فيه متفاوتة حسب اختلاف أهل الاسلام في المذاهب والأديان، وكل حزب بما لديهم فرحون، إلا ان سائر المشتغلين به منهم في واد وأهل القرآن - وهم أهل الله وحزبه - في واد لأنهم من أهل القول والعبارة، وهؤلاء من أهل الكشف والاشارة، ومن أراد أن يتقحم لجة هذا البحر العميق، ويخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، كان يجب عليه أولا أن يطلع على سائر التفاسير، ويتفحص عن عقيدة كل فرقة من الفرق الإثنتين والسبعين. ويستكشف أسرار مذاهب كل طائفة من طوائف المسلمين، ليميز بين محق ومبطل، ومتدين ومبتدع، ويكون كما حكى الشيخ أبو حامد عن نفسه: لا يغادر باطنيا إلا ويريد أن يطلع على بطانته، ولا ظاهريا الا ويقصد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فيلسوفا إلا ويتحرى الوقوف على كنه فلسفته ولا متكلما إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا ويحرص على العثور على سر صفوته، ولا زنديقا أو معطلا إلا ويتجسس للتنبه لأسباب جرأته في زندقته أو تعطيله، وكان لم يزل التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبه وديدنه وغريزيا له، فطرة من الله في جبلته لا باختياره وحيلته، حتى انحلت عن قلبه رابطة التقليد، وانكسرت عليه سفينة العقائد الموروثة على قرب الصبى من الآباء والأساتيذ. إذ قد رأى صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم على الإسلام، كما دل عليه الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "
فإذا بلغ إلى هذا المقام من التحير والانضجار والانكسار، والتهبت نار نفسه الكامنة فيه لغاية الاضطرار، واشتعل كبريت قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص والاحتقار، وكان زيت نور الايمان في قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فوقع عليه نور الأنوار، وانكشف له سر من عالم الأسرار، رأى بذلك النور الجلى أصل كل نظر دقيق، وشاهد بذلك السر الخفي غاية كل شك وتحقيق، ونهاية كل مبحث عميق، وبه يحصل له الاقتدار على معرفة أسرار القرآن العظيم واستيضاح لطائف كتاب الله العليم، ومعجزة رسوله الكريم عليه وآله الصلاة والتسليم.
فعند ذلك يخوض فيه ويغوص في بحار معانيه، ويستخرج دررا ويواقيت ينعكس لمعانها على أعين الناظرين في سواحله، وأسماع الواقفين على حواليه، وما ينكشف منها للآدميين فهو قدر يسير بالاضافة إلى ما لم ينكشف، لأنه مما استأثره الله بعلمه، فربما تجد أيها الناظر بعين المروة والاشفاق من هذا الجنس في هذه الأوراق إن كنت من أهله، وإلا فغض بصرك عن ملاحظة أسرار معرفة الله، ولا تنظر إليها ولا تنسرح في ميدان معرفة معاني الوحي والقرآن، واشتغل بأشعار شعراء العرب وغرائب النحو وعلوم الأدب والفروع، ونوادر الطلاق والعتاق، وحيل المجادلة في البحث والمراوغة في الكلام، وسائر الحكايات والمواعظ التي فيها مصيدة العوام، ومجلبة الجاه والحطام، والغلبة في الخصام، فذلك أليق بك، فإن قيمتك على مقدار همتك، وقصدك على سمت رتبتك، ولا ينفعكم نصحي ان اردت ان انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم.
فصل
[الاسم]
إسم الإسم موضوع في اللغة للفظ دال على معنى مستقل، لأنه مشتق من السمة وهي العلامة، فكأنه كان منقولا لغويا نقل من مطلق العلامة للشيء إلى علامة خاصة، وهو اللفظ الدال عليه بالاستقلال، ولما كان نظر العرفاء إلى أصل كل شيء وملاك أمره من غير احتجابهم بالخصوصيات ومواد الأوضاع، كان الاسم عندهم أعم وأشمل من أن يكون لفظا مسموعا، أو صورة معلومة، أو عينا موجودا.
ويشبه أن يكون عرفهم يطابق عرف القرآن والحديث، فإن الاسم في قوله تعالى:
سبح اسم ربك الأعلى
अज्ञात पृष्ठ