والسر في الجميع، ان موجودات هذا العالم كلها، لنقصانها في درجة الموجودية، ونزولها في أقصى مرتبة النزول والخسة تصحبها أعدام وقوى وانفعالات من جهة المادة الجسمية، فمبادي أفاعليها لا تنفك عن انفعالات، وليس هنا فاعل غير منفعل، ولا مؤثر غير متأثر، ولا معط غير آخذ، ولا راحم غير مرحوم، وهذا انما هو بحسب الاتفاق، لا أن هذه الأفاعيل داخلة في مفهوماتها تلك الانفعالات.
فقول أهل الحجاب وأصحاب الارتياب: كل كاتب متحرك الأصابع، وكل فلك متحرك، ليس عند أهل المشاهدة صحيحا، بل كلية هذه القضايا عندهم ممنوعة بل ممتنعة، إذ مفهوم الكاتب هو المصور للمعاني والمنقش للحقائق، وليست حركة الأصابع داخلة في مفهومه، ولا من شرطه تحريك الأنامل، فرب كاتب عندهم كالكرام الكاتبين لم تتحرك أصابعه عند الكتابة، بل ثم كاتب لم تتغير ذاته ولا صفاته ولا كتابته وفعله، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة، تعالى ذاته وصفاته وقضاؤه عن التبديل والتحويل، كما قال:
فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا
[فاطر:43]. وكذا في الوجود أفلاك نورية عقلية يعرفها أهل الله، غير متحركة ولا ذات وضع هي السموات العلى، وكذا في الوجود أرض بيضاء نيرة ليست كهذه الأرض. كدرة ثقيلة يابسة ذات لون غبراء يعرفها الربانيون من الحكماء، كما ورد في الحديث: إن لله أرضا بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما، هي مثل أيام الدنيا ثلاثون مرة، مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض، ولا يعلمون أن الله خلق آدم وإبليس.
وإليه الإشارة بقوله تعالى
يوم تبدل الأرض غير الأرض
[إبراهيم:48] فكذلك حكم الراحم حيث تصحبه ها هنا رقة القلب لخصوصية المادة، لا لضرورة المعنى الموضوع له، ألا ترى أن أفاعيل الإنسان - سيما النفسانية - صادرة من النفس، وإطلاق الأسماء المشتقة منها عليها على سبيل الحقيقة دون المجاز؟ فإذا نسبت الرحمة إلى النفس وحكم عليها بأنها راحمة، لم يكن عند أهل اللغة مجازا، مع أنها جوهر غير جسماني، فاستقم في هذا المقام، فإنه من مزال الأقدام، وكن متثبتا على صراط التحصيل، غير منحرف إلى جانبي التشبيه والتعطيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
مكاشفة
اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وماهية، فوجود الغضب ايضا من رحمة الله على عين الغضب، فعلى هذا سبقت رحمته غضبه، لأن الوجود عين الرحمة الشاملة للجميع، كما قال سبحانه:
ورحمتي وسعت كل شيء
अज्ञात पृष्ठ