رد الله عليهم وكذبهم بقوله: { كل الطعام } الذي به يقتات الإنسان ويتغذى { كان حلا } حلالا { لبني إسرائيل } إذ الأصل في الأشياء الحل ما لم يرد الشرع بتحريمه { إلا ما حرم إسرائيل } وهو يعقوب عليه السلام { على نفسه } على سبيل النذر بلا ورود الوحي؛ إذ كان له عرق النسا، فنذر إن شفي لم يأكل ما هو أحب الطعام عنده واللذة، وهو لين الإبل ولحمه فشفي، ولم يأكل بعده منها ذلك { من قبل أن تنزل التوراة } ثم لما ظهر أنواع الخبائث والقبائح من اليهود، وحرم الله عليهم في التوراة طيبات أحلت لهم قبلها بسبب خباثتهم وكثافتهم، فإن أنكروا عليها وقالوا: لسنا أول ما حرم عليه هذه الآشياء المحرمة فيها، بل حرم لمن قبلنا ونحن نقتدي بهم { قل } لهم إلزاما: { فأتوا بالتوراة فاتلوها } على رءوس الأشهاد { إن كنتم صادقين } [آل عمران: 93] في دعواكم، وإلا فقد افتريتم على كتاب الله ما ليس فيه.
{ فمن افترى على الله الكذب من بعد } ظهور { ذلك } الديليل والبرهان { فأولئك } المفترون المنهمكون في العتو والعناد { هم الظالمون } [آل عمران: 94] الخارجون عن مسالك التوحيد، المتمردون عن ربقة الإيمان.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إمحاضا للنصح: { صدق الله } المطلع لجميع ما كان ويكون ألا حرمة لهذا الأشياء في دين إبراهيم عليه السلام، بل أول من حرم عليهم أنتم أيها اليهود؛ وإن أردتم استحلالها { فاتبعوا ملة إبراهيم } التي هي الإسلام المنزل على خير الأنام؛ لأنه كان { حنيفا } طاهرا عن الخبائث والرذائل المؤدية إلى تحريم الطيبات؛ إذ هو على صراط التوحيد وجادة الاعتدال، بعيد عن طرفي الإفراط والتفريط المؤديان إلى الشرك { وما كان من المشركين } [آل عمران: 95] أصلا لصفاء فطرته ونجابة طينته.
[3.96-99]
ثم لما كان إبراهيم - صلوات الرحمن عليه - مستقيما على صراط التوحيد، مستويا عليه ما وضع سبحانه أول معبد للموحدين إلا لأجله كما قال: { إن أول بيت وضع للناس } ليعبدوا فيه الله ويتوجهوا إلى جنابه { للذي ببكة } للبيت الذي بمكة قبل وضع المسجد الحرام، قبل وضع البيت المقدس بأربعين سنة، والحال أنه وضع { مباركا } كثير الخير والنفع لساكنيه وطائفيه، يرشدهم إلى الإيما بالله وملائكته وكتبه ورسله { وهدى للعالمين } [آل عمران: 96] يوصلهم إلى التوحيد الذاتي لو كوشفوا بسرائر وضعه وتشريعه إذ: { فيه ءايت } دلائل وشواهد { بينت } واضحات دالة على توحيد الذات منها: { مقام إبرهيم } وهو مقام الرضا والتسليم { ومن دخله } ضيفا مسلما مفوضا { كان آمنا } عن وسوسة الأنانية ودغدغة الغيرية، متصفا بصفة الخلة { ولله } أي: للوصول إلى توحيده وللتحقق بمقام عبوديته وإحسانه ويجب { على الناس حج البيت } الممثل عن قلب الخليل اللائق لخلعة الخلة { من استطاع } منكم أيها الحيارى في صحارى الإمكان { إليه سبيلا } ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من رشدا { ومن كفر } ولم يحج إنكارا وعنادا { فإن الله } المستغني في ذاته عن جميع مظاهره ومصنوعاته { غني عن العلمين } [آل عمران: 97] لم يبال بهم وبعابدتهم، وإنما أظهرهم وأوجب عليهم العبادة والرجوع إلى جنابه والتوجه نحو بابه؛ ليتحققوا في مرتبة العبودية، ويتقرروا فيها حتى يستحقوا الخلافة والنيابة المتفرعة على سر الظهور والإظهار.
{ قل } يا أكمل الرسل لمن أنكر شعائر الإسلام { يأهل الكتاب } المدعين للإيمان بوحدانية الله { لم تكفرون بآيات الله } الدالة على توحيده المنزلة على نبيه الذي جاء من عنده بالتوحيد الذاتي ليكون مرسلا إلى كافة البرايا رحمة للعالمينن؟ { و } لا تخافون من غضب الله وسخطه، إذ { الله شهيد } مطلع حاضر { على ما تعملون } [آل عمران: 98] من الإنكار والاستكبار والتحريف والاستسرار.
{ قل يأهل الكتاب } المدعين الاتباع بالكتب والرسل المنزلة من عند الله { لم تصدون } تصرفون وتحرفون { عن سبيل الله } الذي هو دين الإسلام وهو الصراط المستقيم إلى صفاء الوحدة { من آمن } انقاد وتدين به { تبغونها عوجا } حال كونكم طالبين أن توقعوا فيه عوجا وانحناء وضعفا حتى يضعف اعتقاد المسلمين، ويتزلزون آراؤهم في أمور دينهم كما في زماننا هذا { و } الحال أنكم { أنتم شهدآء } مطلعون عن مطالعة كتبكم المنزلة من عند الله على ظهور دين الإسلام وارتفاع قدره وقدر من أوتي به ومع ذلك حرفتم الكتب وأنكرتم له عنادا واستكبارا { و } لا تغفلوا عن غضب الله وانتقامه؛ إذ { ما الله } العالم بالسرائر والخفيات { بغافل عما تعملون } [آل عمران: 99] من التلبيس والعناد والتحريف والتغيير.
[3.100-103]
ثم لما وبخ سبحانه الكافرين القاصدين إضلال المؤمنين بما وبخ وبالغ توبيخهم بما بالغ، أراد أن يحذر المؤمنين عن مخالطتهم وموافاتهم، فناداهم؛ لأنه دخل في قبول النصح فقال: { يأيها الذين آمنوا } وفقوا على تشريف الإيمان، مقتضى إيمانكم الاجتناب عن مخالطة الكفار ومؤاخاتهم وادعاء المحبة والمودة معهم؛ لأنكم { إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } طائعين قاصدين إطاعتهم وانقيادهم { يردوكم } البتة { بعد إيمانكم } وتوحيدكم { كافرين } [آل عمران: 100] مشركين ما أنتم عليه في جاهليتكم.
" نزلت في فرقة من الأوس والخزرج كانوا يجتمعون ويتحدثون ويتناشدون، فمر على اجتماعهم شاس بن قيس اليهودي، فغاظه مؤاخاتهم ومخالطتهم، فأمر بشاب من اليهود أن يجلس إليهم، ويذكرهم يوم بعاث، وينشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ففعل، فتنازع القوم وتفاخروا إلى تغاضبوا وتخاصموا ، وصاحوا: السلاح! واجتمع من الجانبين خلق عظيم.
अज्ञात पृष्ठ