ثم فصل سبحانه حكمه بقوله: { فأما الذين كفروا } ستروا سبيل الحق الظاهر عن مشكاة النبوة والرسالة؛ عنادا واستكبارا، وكذبوا الأنبياء، وأنكروا ما جاءوا من الأحكام والمواعظ والحكم والعبر وأصروا عليها { فأعذبهم عذابا شديدا } أطردهم وأبعدهم { في الدنيا } بالمذلة والصغار والإجلاء وضرب الجزية { و } في { الآخرة } بجهنم البعد والخذلان، وسعير الطرج والحرمان { وما لهم } بعد ظهور الدين الناسخ للأديان المارضية { من ناصرين } [آل عمران: 56] من الأنبياء الذين يدعون الإيمان بهم، ويدعونهم بدينهم وكتابهم، ينصرونهم وينقذونهم من عذاب الله؛ لتركهم العمل بالناسخ.
{ وأما الذين آمنوا } بالدين الناسخ والكتاب الناسخ، واتبعوا النبي الذي جاء به من عند ربه { وعملوا الصالحات } المأمورة فيه؛ انقيادا وامتنانا { فيوفيهم } أي: في النشأة الأخرى { أجورهم } أي: يوفي عليهم أجور أعمالهم بأضعاف ما عملوا؛ تفضلا عليهم بمحبة الله إياهم بسبب امتثال أوامره وإطاعة رسله { والله } الهادي للعباد { لا يحب الظالمين } [آل عمران: 57] الخارجين عن حدوده المنزلة على رسله، المكاشفين تحقيق توحيده، وما يحصل لهم الظلم والخروج إلا بمتابعة عقولهم السخيفة بظلام الموهم المفضل عن الطريق المستبين.
{ ذلك } المذكور من نبأ عيسى عليه السلام وغيره الذي { نتلوه عليك } يا أكمل الرسل مع كونك خالي الذهن عنه ولم تتعلم من معلم بشري، والحال أنك أمي، إنما هي { من الآيات } المنزلة عليك من عندنا الدالة على نبوتك ورسالتك { و } من { الذكر الحكيم } [آل عمران: 58] الكلام المجيد المحكم المشتمل على الحكم المتقنة والأحكام المبرمة الصادرة عن محض الحكمة، لا يأتيه الباطل ولا يقربه النسخ والتبديل.
[3.59-63]
ثم قال سبحانه: { إن مثل عيسى } أي: شأنه وقصته الغريبة الخارقة للعادة، وهي وجوده بلا أب { عند الله كمثل } كشأن { ءادم } في إبداعه سبحانه وإيجاده، بل قصة آدم أغرب من قصته؛ إذ لا أب له ولا أم بل { خلقه } قده وصوره سبحانه { من تراب } جماد { ثم قال له كن } بشرا حيا { فيكون } [آل عمران: 59] بالفور حيوانا ذا حس وحركة إرادية وإدراك وفهم.
هذا الكتاب المتلو عليك يا أكمل الرسل هو { الحق } المطابق للواقع، النازل إليك؛ لتأييدك ونصرك في دعواك الرسالة { من ربك فلا تكن } في حقيته { من الممترين } [آل عمران: 60] الشاكين بمقتضى عقولهم السخيفة.
{ فمن حآجك } جادلك وخاصمك { فيه } أي: في أمر عيسى وشأنه من النصارى { من بعد ما جآءك من العلم } المستنبط من الكتاب المنزل من عندنا، المبين لشأنه وإيجاده بلا أب { فقل } لهم حين خاصموك { تعالوا } هلموا أيها المجادلون المدعون ابنية عيسى لله، المفرطون في أمره { ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم } ونجتمع بعد ذلك في مجمع عظيم { ثم نبتهل } أي: نتباهل بأن يتضرع ويدعو كل منا ومنكم إلى الله { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } [آل عمران: 61] حتى يظهر الصادق من الكاذب، ويتميز الحق عن الباطل.
" روي أنهم لما دعو إلى المباهلة، قالوا: حتى ننظر ونتأهل، فلما خلوا مع ذي رأيهم قالوا: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: والله، لقد عرفتم أنه هو النبي الموعود في كتابكم، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، والله، ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا، فإن أبيتم إلا إلف دينكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلى خلفها وهو يقول: " إذا أنا دعوت فأمنوا " ، فقال أسقفهم: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزسل جبلا من مكانه لازاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، فأذعنوا للرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلوا الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد، فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو باهلوا لمسخوا قردة وخنازير، ولا ضطرم عليم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران، وأهله حتى الطير على الشجر ".
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { إن هذا } المذكور من نبأ عيسى ومرميم عليهما السلام { لهو القصص الحق } المطابق للواقع { و } لا تكفروا بابنية عيسى لله وزوجية مريم، ولا تقولوا بالتثليث والأقانيم؛ إذ { ما من إله } معبود بالحق في الوجود { إلا الله } الواحد الأحد الصمد الذي
अज्ञात पृष्ठ