وبعدما جرى من أنواع التوبيخ ما جرى سكتوا حائرين، خائبين منكوسين { و } حينئذ { وقع القول } المعهود منا، وتحقق الوعد، وحل العذاب الموعود { عليهم بما ظلموا } أي: بسبب ظلمهم السابق { فهم } حينئذ { لا ينطقون } [النمل: 85] ولا يعتذرون، ولا يتضرعون، يكبهم على النار منكوسين؛ بحيث لا يسع لهم التنطق والتضرع أصلا.
{ ألم يروا } ولم ينظروا أولئك الحمقى بنظر العبرة إلى مصنوعاتنا المتبدلة المتغيرة بقدرتنا واختيارنا؛ ليتحقق عندهم أمر الساعة، ولم يبادروا إلى إنكارها؛ حتى لا يلحقهم ما لحقهم { أنا } من كمال قدرتنا، ووفور حولنا وقوتنا كيف { جعلنا الليل } مظلما { ليسكنوا فيه } بلا دغدغة منهم إلى الحركة والاشتغال { و } كيف جعلنا { النهار مبصرا } مضيئا تتحركون وتترددون فيه يشغل معاشكم { إن في ذلك } الإظلام والإضاءة على التعاقب والتوالي { لآيات } دلائل قاطعات، وشواهد ساطعات على قدرة القديم القادر المقتدر على أمثال هذه المقدورات المتقنة، والمصنوعات المحكمة الصادرة عن محض الحكمة { لقوم يؤمنون } [النمل: 86] ويذعنون بوحدة ذات الله وكمال أوصافه وأسمائه.
[27.87-90]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل تنبيها على التائهين في بيداء الغفلة: { يوم ينفخ في الصور } وهو البوق؛ لحشر الأموات من أجداثهم { ففزع } وارتعد من هول تلك الصدى { من في السموت } من سكانها { ومن في الأرض إلا من شآء الله } تمكنه وقرار قلبه مطمئن بلا قلق واضطراب، وهم الأولياء المتمكنون في مقر الفناء في الله، المتحققون بمقام البقاء ببقائه، الواصلون إلى شرف لقائه بلا تلوين، منسلخين عن جلباب ناسوتهم رأسا، وصاروا إلى حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{ و } بعدما أفاقوا من دهشتهم وهيبتهم العارضة إياهم من هول ما سمعوا { كل } ممن يتأتى منهم الإتيان { أتوه } على كلتا القراءتين فعلا أو اسم فاعل؛ أي: حضروا عنده وحاضروه { داخرين } [النمل: 87] صارغرين ذليلين، منتظرين إلى ما جرى عليهم من حكم الله، يساقون إلى النار بمقتضى عدله؟ أم إلى الجنة بمقتضى فضله وإحسانه؟.
{ وترى } أيها الرائي يومئذ { الجبال } الراسيات التي { تحسبها } وتظنها { جامدة } ثابتة مستقرة في مكانها بلا حركة وذهاب { وهي } في نفسها { تمر } أي: تتحرك وتذهب { مر السحاب } أي: كمروره وسرعة سيره؟ إذ الأشياء العظيمة التي لا يحيط الأبصار بجميع جوانبها قلما يحس بحركتها وإن أسرع فيها، بل يظن أنها ثابتة في مقره، وهكذا حال الجبال وجميع الأظلال والأطلال قبل قيام الساعة لو تفطنت بمرورها أيها الفطن اللبيب، وجدتها في كل آن على التقضي والانصرام؛ إذ الأعراض لا قيام ولا قرار، بل كل يوم وآن في شأن، و
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن: 26-27].
ومرور الجبال على هذا المنوال { صنع الله } أي: من صنع الله { الذي أتقن } وأحكم { كل شيء } إتقانا بديعا، ودبره تدبيرا أنيقا عجيبا، وأودع فيه من الحكم والمصالح ما لم يطلع عليها أحد من عباده؛ إذ لا يسع لهم الإطلاع على أفعاله سبحانه، بل { إنه } بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته { خبير بما تفعلون } [النمل: 88] أي: بجميع أفعالهم وأحوالهم، وأقوالهم الظاهر والباطنة، يجازيهم عليها على مقتضى خبرته، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
لذلك { من جآء } من المكلفين في دار الابتلاء { بالحسنة } أي: الخصلة الواحدة المقبولة عند الله وعند الناس { فله } في دار الجزاء { خير منها } إذ يعطى له بدله سبع مائة من الحسنة، وقد أبدل الخسيس بالشريف، سيما بأضعافه والفاني بالباقي { وهم } أيضا مع وجود هذه المثوبات { من فزع } هائل مهول للناس { يومئذ } أي: يوم ينفخ في الصور { آمنون } [النمل: 89] مطمئنون متمكنون، ولا يضطربون من هولها ولا يفزعون.
अज्ञात पृष्ठ