464

ثم أشار سبحانه إلى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم عما عيره الجهلة المستهزئون معه بقولهم:

مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...

[الفرقان: 7] { ومآ أرسلنا قبلك } رسولا { من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام } كما تأكل أنت وسائر الناس { ويمشون في الأسواق } لحوائجهم كما تشمي أنت وغيرك.

وامتياز الرسل والأنبياء من العوام إنما يكون بأمور معنوية لا اطلاع لأحد عليها سوى من اختارهم للرسالة والنبوة، وهم في ظوهر أحوالهم مشتركون مع نبي نوعهم بل أسوأ حالا منهم في ظواهرهم؛ لعدم التفاتهم إلى زخرفة الدنيا العائقة عن اللذة الأخروية، ولهذا ما من نبي ولا رسول إلا وقد عيرهم العوام بالفقر والفاقة إلا نادرا منهم.

{ و } بالجملة: من سنتنا أنا { جعلنا بعضكم } أيها الناس { لبعض فتنة } أي: بسبب ابتلائه ومحنة واختبار، من ذلك ابتلاء الفقراء بتشنيع الأغنياء، وتعيير النبيين والمرسلين باستهزاء المنكرين المستكبرين، والمرضى بالأصحاء، وذي العاهة بالسالم إلى غير ذلك، وإنما جعلناكم كذلك؛ لنختبر وتعلموا { أتصبرون } أيها المصابون بما أصابكم من البلاء فتفوزون بجزيل العطاء وجميل اللقاء أم لا؟ { و } الحال أنه قد { كان ربك } يا أكمل الرسل في سابق قضائه وحضرة علمه { بصيرا } [الفرقان: 20] لصبر من صبر، وشكر من شكر من أولي العزائم الصحيحة، ولمن لم يصبر ولم يشكر من ذوي الأحلام السخيفة والاختبار، إنما هو لإظهار الحجة الغالبة البالغة؛ إذ الإنسان مجبول على الجدال والكفران.

[25.21-26]

{ و } من جملة جدالهم وعنادهم: { قال } الكافرون الجاحدون { الذين لا يرجون لقآءنا } أي: لا يؤملون لقيانا، ولا يخافون منا لإنكارهم بنا وبوعدنا يوم الجزاء: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا مؤيدا من عند الله { لولا } أي: هلا { أنزل علينا الملائكة } المصدقون لرسالته؛ ليخبرونا بصدقه في دعواه { أو } هلا { نرى ربنا } الذي يدعونا إليه معاينة، فيخبرنا ربنا بصدق رسوله حتى نصدقه بلا تردد، وقال سبحانه في ردهم مقسما على سبيل التعجب والاستغراب: والله { لقد استكبروا في أنفسهم } أولئك المسرفون المفرطون بقولهم هذا مكابرة؛ حيث طلبوا من الله ما لا يسع لخلص عباده من ذوي النفوس القدسية { وعتوا } بإخطار هذه المطلب العظيم في خواطرهم، وإن صدر عنهم هذا تهكما واستهزاء { عتوا كبيرا } [الفرقان: 21] فاستحقوا بذلك أكبر ال عذاب وأصعب النكال والوبال.

اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يرون الملائكة } أي: ملائكة العذاب مع أنه { لا بشرى } ولا بشارة لهم برؤيتهم { يومئذ للمجرمين } بل إنما يجيئون إليهم؛ ليجروهم إلى جهنم صاغرين مهانين { و } بعدمنا يرونهم صائلين عليهم صولة الأسود { يقولون } متحسرين خاسرين قولا يقول به العرب عند هجوم البلاء ونزول العناء واليأس التام من الظفر بالمطلوب، وهو قولهم: هذا { حجرا محجورا } [الفرقان: 22] وهو كنى عن قولهم: حرمنا عن التبشير بالجنة حرمانا مؤبدا، أو صرنا مسجونين في النار سجنا مخلدا.

ثم قال سبحانه: { و } بعدما حرمنا الجنة عليهم، وجعلنا مصيرهم النار { قدمنآ } وعمدنا { إلى ما عملوا من عمل } إلى أصلح أعمالهم وأحسنها التي أتوا في النشأة الأولى؛ كقرى الضيف وصلة الرحم وإعانة الملهوف وإغاثة المظلوم وغير ذلك من حسنات أعمالهم { فجعلناه هبآء منثورا } [الفرقان: 23] أي: صيرناه كالغبار المنثور بالرياح لا ترتب القبول والجزاء والثواب عليه؛ لفقدهم شرط القبول والإثابة وقت صدورها عنهم، وهو الإيمان والتوحيد، والتصديق بالرسل والكتب، والعمل بمقتضى الوحي، وهم كفار مكذبون مستكبرون، لذلك لم يقبل منهم أعمالهم.

وأما { أصحاب الجنة } المتصفون بالإيمان والتوحيد، وتصديق الكتب والرسل، الممتثلون بالأوامر والنواهي على مقتضى ما بلغهم الرسل وبين له فهم { يومئذ خير مستقرا } أي: من جهة مكان يستقرون عليه، ويتوطنون فيه { وأحسن مقيلا } [الفرقان: 24] يستريحون، ويستروحون فيه مع الحور والغلمان.

अज्ञात पृष्ठ