وحين رأى يوسف اتفاقهن واجتماعهن على منكر، ناجى ربه من شرهن وتعوذ نحوه من فتنتهن حيث: { قال رب } يا من رباني بأنواع اللطف و الكرم والعصمة والعفاف { السجن } الذي أوعدتني به هذه المرأة { أحب إلي } وآثر عندي { مما يدعونني إليه } هؤلاء البغيات { وإلا تصرف } أي: وإن لم تصرف بفضلك وعصمتك { عني كيدهن } ولم تحفظني من مكرهن، بإلقاء البرهان الفعلي والكشفي في سري { أصب } أي: أمل وأتحنن نحوهن على مقتضى الوقى البهيمية { إليهن وأكن } حينئذ { من الجاهلين } [يوسف: 33] المتابعين لشيطان الشهوة، الخارجين عن مقتضى العقل المفاض من المبدأ الفياض.
وبعدما أخلص في مناجاته وأبر في رجوعه وعرض حاجاته { فاستجاب له ربه } ما ناجاه { فصرف عنه كيدهن } وحفظ عن مكرهن { إنه } بذاته وأوصافه وأسمائه { هو السميع } لمناجاة عباده { العليم } [يوسف: 34] بحاجاتهم منها.
{ ثم بدا } أي: ظهر ولاح { لهم } للعزيز وأصحابه { من بعد ما رأوا الآيات } أي: بعد رؤيتهم علامات الصدق وأمارات العصمة والعفاف، سيما شهادة الطف الذي شهد بطهارته وصدقه، مع أنه لم يعهد من أمثال هذا، فتشاوروا في أمره وتأملوا في شأنه، فاستقر رأيهم { ليسجننه حتى حين } [يوسف: 35] لئلا يلحق العار عليهم ولا ينتشر بين الأنام صدقه وعصمته وقبح صنيعها وفاحشة فعلها، بل يحسبون أنه مجرم وراعيل متهمة؛ لذلك حملوا الجرم عليه، ورموه افتراء، فأدخلوه السجن انتقاما وجزاء؟
{ ودخل معه } أي: يوسف { السجن } في تلك المدة { فتيان } من أعوان الملك شرابيه وخباره بتهمة اتهما بها، فلما رأيا منه الرشد والنجابة وصفاء الصورة والمعنى { قال أحدهمآ } وهو الشرابي مستعيرا عنه حاكيا عما مضى " { إني أراني } في المنام { أعصر } ماء العنب ليصير { خمرا وقال الآخر } وهو الخباز: { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا } على طبق { تأكل } وتنهش { الطير منه نبئنا بتأويله } أي: أخبرنا بما يؤول إليه ويعبر به رؤيانا { إنا نراك } في بادئ الرأي { من المحسنين } [يوسف: 36] المصلحين لمفاسد الأنام وتحمل ما يشكل عليهم، ومن جملتها تعبير الرؤيا.
ثم لما تفرس منهم الإخلاص وحسن الظن بالنسبة إليه، بادر قبل الاشتغال بالتعبير إلى تمهيد مقدمة دالة على التوحيد والإيمان والمعرفة والإيقان، منبهة على استقلال الحق الحقيق بالحقية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وجميع آثاره الحادثة في الكائنات والفاسدات، حيث { قال } أولا { لا يأتيكما } في المستقبل { طعام ترزقانه } لسد الجوعة وتقويم المزاج { إلا نبأتكما } وأخبرتكما { بتأويله } وتبيين ماهيته وكيفية تأثيره وتوليده من الأخلاط وتقويته للمزاج { قبل أن يأتيكما } بمدة { ذلكما } أي: تعبير رؤياكما وتأويل طعامكما { مما علمني ربي } أي: من جملة الأمور التي علمني ربي من لدنه بأن أطلعني على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات، والازدواجات الواقعة بين أجراء العالم وجزئياتها على التفصيل المشروح، المثبت في الأعيان الثابتة وعالم الأسماء والصفات المنبسطة على ظواهر الأكوان { إني } بعدما انكشفت الغطاء عن بصري وارتفع الحجب عن بصيرتي { تركت } بتوفيق الله وإلهامه { ملة قوم } ذوي حجب { لا يؤمنون بالله } وتوحيده واستقلاله في الوجود { و } مع ذلك { هم بالآخرة } أي: في النشأة المعدة لجزاء ما جرى عليهم في هذه النشأة { هم كافرون } [يوسف: 37] منكرون.
[12.38-41]
{ واتبعت } في سلوكي طريق التوحيد { ملة آبآئي } وأجدادي { إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ } أي: ما صح وجاز لنا معاشر الأنبياء { أن نشرك بالله } المتوحد بذاته وأوصافه وأسمائه، المستقل في وجوده وحقيته { من شيء } لا وجود له أصلا سوى العكسية والظلية { ذلك } الشهود والانكشاف { من فضل الله علينا وعلى الناس } الذين أرسلنا إليهم وبعثنا بينهم { ولكن أكثر الناس } الناسين حقوقهم نعم الله { لا يشكرون } [يوسف: 38] نعمة الإرسال وبعثة الرسل، ولا يواظبون على أداء شكرها.
ثم لما مهد يوسف لصاحبه طريق التوحيد ونبه عليهما السلوك عليه، أشار إلى دعوتهما إليه على سبيل التدريج كما هو دأب الأنبياء، فقال مناديا لهما ليقبلا على بول قوله: { يصاحبي السجن } الساكنين فيه، المصاحبين معي { ءأرباب متفرقون } متكثرون في العدد متماثلون في عدم القدرة والاختيار { خير } عندكم وأحق لعبادتكم وانقيادكم { أم الله الواحد } المتوحد في ذاته، المستقل في ألوهيته وربوبيته، المستغني في ذاته عن المظاهر مطلقا { القهار } [يوسف: 39] الغالب على جميع السوى والأغيار.
وأعلما أيها الأخوان { ما تعبدون } أنتما ومن على دينكما في مصر من عبدة الآلهة الباطلة { من دونه } أي: من دون الله الواحد الأحد الصمد، الذي لا شريك له في الوجود أصلا { إلا أسمآء } مطلقة على الأظلال معدومة، وعكوسا موهومة { سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } من تلقاء نفوسكم آلهة ومعبودات، مع أنه { مآ أنزل الله } المنزل للكتب والمرسل للرسل { بها من سلطان } أي: بشأن آلهتكم من حجة وبرهان عقلي ونقلي تى تكون تمسكا لكم في اتخاذكم هؤلاء التماثيل آلهة مستحقة للعبادة والإطاعة { إن الحكم } أي: ما الحكم المطلق والاستحقاق التام للإطاعة والانقياد وعبادة العباد { إلا لله } المتردي برداء العظمة والكبرياء، المتفرد باجللال والبقاء، المتوحد في البسطة والاستيلاء؛ إذ هو المستحق بالعبادة، المستقبل بالربوبية؛ لأنه في ذاته هو ولا شيء ساه، ولا إله إلا هو مع { أمر } فيما أنزل من الكتب على أنبيائه ورسله { ألا تعبدوا } ولا ترجعوا أيها الأظلال الهالكة والعكوس الباطلة { إلا إياه } إذ به وبامتداد أظلال أوصافه وأسمائه ظهرت أشباحكم، ولاحت تماثيلكم وأرواحكم، فلا رجوع لكم إلا { ذلك } أي: طريق التوحيد، هو { الدين القيم } أي: الأقوم والأعدل، الذي لا عوج فيه أصلا { ولكن أكثر الناس } لكثافة حجتهم وغلظ غيظتهم وأغشيتهم { لا يعلمون } [يوسف: 40] ولا يفهمون سر سريان الوحدة في الكثرة، فحجبوا بالمظاهر المتكثرة عن الوحدة الظاهرة فانصرفوا عن طريق الحق إلى الباطل
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
अज्ञात पृष्ठ