ثم لما اختبر سبحانه خلة خليله بأنواع البلاء أظهر خلته له بأنواع العطاء حيث { قال } سبحانه: { إني } من غاية محبتي وخلتي معك أيها الخليل الجليل { جاعلك للناس } الناسين التوحه والرجوع إلي { إماما } مقتدى لهم، هدايا يهديهم إلى طريق التوحيد، لما رأى إبراهيم عليه السلام انبساط ربه معه وإفضاله عليه وإظهاره الخلة له { قال }: { و } اجعل يا ربي { من ذريتي } أيضا أئتمة إلى يوم القيامة { قال } سبحانه تلطفا له وامتنانا عليه: ومن ذريتك أيضا الصالحين منهم لا الفاسقين؛ إذ { لا ينال عهدي } الذي هو نيابتي وخلافتي { الظالمين } [البقرة: 124] المتجاوزين عن حدودي وعهودي.
{ و } بعدما جعلناه إماما هدايا إلى طريق الحق هيأنا له طريق الاهتداء { إذ جعلنا البيت } أي: الكعبة المعدة للتوجه إلينا بترك المألوفات وقطع التعلقات من الأهل والمال والوطن، والاجتناب عن التصرفات المانعة عن التوجه الحقيقي من الرفت والفسوق والجدال والقتل، وغير ذلك من الأمور المتعلقة للحياة المستعارة { مثابة } موضع ثواب { للناس } ليتقربوا إلينا ويتوجهوا نحونا { وأمنا } من جميع المخافات الدينية إذا كانت الزيارة على نية الإخلاص { و } بعدما جعلنا البيت مثابة للناس قلنا للزائرين لها والطائفين حولها: { اتخذوا } أيها الزوار { من مقام } خليلنا { إبراهيم مصلى } موضع ميل وتوجه؛ اقتداء له صلوات الرحمن عليه { و } بعدما أمرنا الزوار بما أمرنا { عهدنآ } وصينا { إلى } خليلنا { إبراهيم و } ذبيحنا { إسماعيل } ابنه { أن طهرا } بالمظاهرة { بيتي } المعدة للطهارة الحقيقة عن جميع الشواغل { للطائفين } الذين قصدوا الميل إلى جنابنا ببذل المهج { والعاكفين } القائمين المقيمن ببابنا رجاء أن ينكشف لهم أسرار التكاليف التي كلفوا بها { والركع السجود } [البقرة: 125] أي: الراكعين الساجدين في فنائنا تذللا وانكسارا حتى يتحققوا بمقام العبودية.
[2.126-129]
{ و } بعد { إذ } أمرنا وابنه بطهارة البيت وامتثالا بالمأمور { قال إبراهيم } منيبا إلينا، داعيا راجيا في دعائه النفع العام: { رب اجعل } بيتك { هذا بلدا آمنا } ذا أمن للمتوجهين إليها والعاكفين ببابها عن العلائق المانعة عن التوحه المعنوي { و } بعدما توجهوا نحوه { ارزق أهله من الثمرات } المترتبة على سرائر تعيينه وتخصيصه، ووجوب طوافه على المستطيعين المنهمكين في الشواغل المانعة عن التوجه إلى الكعبة الحقيقية الممثلة عنها هذا البلد.
ولما دعا إبراهيم بهذا الدعاء المجمل المطلق لهم، فصله سبحانه إجابة دعائه بقوله: { من آمن منهم } من المتوجهين الزائرين { بالله } الواحد الأحد تعبدا وانقيادا { واليوم الآخر } المحقق الوقوع إذعانا وتصديقا، فلهم ما دعوت لهم من أنواع الإفضال والإنعام؛ جزاء لهم وإجابة لدعائك ثم { قال } سبحانه: { ومن كفر } منهم وجحد بعدما وضح لهم الطريق { فأمتعه } متاعا { قليلا } من مفاخرة الأقران والاستكبار على الإخوان وتفرج البلدان { ثم أضطره } بعد جحوده وإنكاره { إلى عذاب النار } بل أشد منها، وهو حرمانه عن الفوائد المرتبة على الطواف والزيادة المنبئة عن الوصول إلى مرتبة العبودية والمخلصة، عن جهنم الإمكان الذي هو مصير أهل الكفر والطغيان { وبئس المصير } [البقرة: 126] مصيرهم الذي لا ينجو منه أحد من أهله، عصمنا الله منه بمنه وجوده.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { إذ يرفع } يحمل جدك { إبرهيم } الاواه المنيب { القواعد } أي: التكاليف الشاقة الناشئة { من } إنشاء { البيت } المعد للاهتداء إلى كعبة الوصول من التجريد عن لوازم الحياة ومقتضيات الأوصاف المترتبة عليها، وترك المألوفات وقطع التعلقات العائقة عن الموت الإداري الموصل إلى مقر الوحدة المغنية للكثرة الموهمة، المستتبعة للبعد والفراق عن فضاء التوحيد { و } أبوك أيضا { إسمعيل } الراضي بقضاء الله، المرضي بما جرى عليه من البلاء، واذكر أيضا دعاءهما بعدما احتملا المشاق والمتاعب بقولهما: { ربنا } يا من ربانا بأنواع المنح التي ليست في وسعنا وقدرتنا { تقبل منآ } ما أقدرنا عليه { إنك أنت } القادر لما جئتنا به { السميع } لمناجاتنا قبل إلقائنا { العليم } [البقرة: 127] لحاجاتنا وإخلاصنا في نياتنا.
{ ربنا واجعلنا } بفضلك { مسلمين لك } مستسلمين مفوضين جميع أمورنا إليك، مخلصين فيه ربنا { و } اجعل أيضا { من ذريتنآ } المنتسبين إلينا { أمة مسلمة } مسلمة { لك } مطيعة لأمرك { وأرنا } اكشف لنا ولهم { مناسكنا } سرائر مناسكنا التي نعملها على مقتضى أمرك وتكليفك { و } إن أخطأنا فيما أمرتنا { تب علينآ } عماجرى علينا من لوازم بشريتنا { إنك أنت التواب } للعباد العاصين الخاطئين { الرحيم } [البقرة: 128] بقبول توبتهم، وإن نقضوها مرارا.
ثم لما كان الغالب عليهما توحيد الصفات والأفعال، دعوا ربهما متضرعين أن يبعث من ذريتهما من يغلب عليه توحيد الذات فقالا: { ربنا وابعث فيهم } أي: في الأمة المسلمة { رسولا منهم } هدايا إلى توحيد الذات { يتلوا عليهم } أولا { آيتك } الدالة على ذلك ظاهرا { و } ثانيا: { يعلمهم } يفهمهم { الكتب } المبين سرائر الآيات { و } ثالثا: بكشف ويوضح لهم { الحكمة } التي هي سلوك طريق التوحيد الذاتي { و } ورابعا: { يزكيهم } أي: يطهرهم عن رؤية الغير في الوجود مطلقا { إنك أنت العزيز } الغالب القاهر للأغيار { الحكيم } [البقرة: 129] في إيجادها وإظهارها على وفق مشيئتك وإرادتك.
[2.130-133]
{ و } بعدما جعلنا الخليل إماما مقتدى للأنام، هاديا لهم إلى دار السلام { من يرغب عن ملة إبراهيم } أي: من يعرض عن ملته الحنيفية، الطاهرة عن الميل إلى الآراء والآثام، البيضاء المنورة لقلوب أهل التفويض والإسلام، المبينة على محض الوحي والإلهام { إلا من سفه نفسه } أي: لا يعرض عن ملته الغراء إلا من ترك نفسه في ظلمة الإمكان من غير رجوع إلى الفضاء الوجوب، ليتبع الطريق الموصل إليه { و } الله { لقد اصطفيناه } واجتبيناه من بين الأنام { في الدنيا } للرسالة والنبوة لإرشاد العباد إلى طريق التوحيد { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [البقرة: 130] للتحقق والوصول، لا لطريق الاتحاد والحلول بل لطريق التوحيد الذاتي.
अज्ञात पृष्ठ