وأما المنجبون نحوه بالاستغناء والاستغراق التام الذي لا يحوم حله شائبة من الكثرة أصلا، فهم في مقعد صدق عن مليك مقتدر، حال كونهم { يبتغون } ويطلبون هؤلاء الزوار التحقق بهذه المرتبة العلية، والمنزلة السنية { فضلا من ربهم } بلا وسائق الأعمال والنسك، ووسائق المأمورات والمنهيات { و } يطلبون أيضا من فضل الله { رضوانا } رضا من جانب الحق، وتحسينا من قبله فيما يأتونه من الشعائر المكتوبة في الحي الحقيقي؛ إذ لا وثوق للعبد سوى الرضا منك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
{ وإذا حللتم } قوى حيوانيتكم عن عقال التكاليف المفروضة في الحج بخروج أيامها وأوقاتها مع متمماتها { فاصطادوا } أي: أبيحوا على أنفسكم اصطياد ما أحل الله لكم من صيد البر والبحر { و } بعدما علمتم فوائد الحج، وعرفتم عرفانه ومناسكه { لا يجرمنكم شنآن قوم } أي: لا يوقعنم في الجريمة العظيمة بغض قوم إياكم، وخوفكم منهم إلى { أن صدوكم } وصرفوكم { عن } التوجه نحو { المسجد الحرام } الذي حرمت عنده سجود السوى والأغيار مطلقا.
فعليكم أيها القاصدون زيارة الكعبة المعظمة، والقبلة المكرمة التي هي بيت الوحدة { أن تعتدوا } وتتمنوا، وتعتادوا على المقاتلة، والمقاتلة مع الكفار إنما يغني عن الزيارة من القوى الشهوية والغضبية، والمستلذات الخالية الواهية { وتعاونوا } استنصورا { على } جنود { البر } المورث للرجاء، وحسن الظن بربكم { و } على جنود { التقوى } المشعر للخوف من قهر الله وغضبه { ولا تعاونوا على الإثم } الخصلة الذميمة عقلا وشرعا { والعدوان } أي: التجاوز عن الحدود الشرعية - العياذ بالله - { واتقوا الله } أن تجترئوا عليه بنقض عهوده ، ومجاوزة حدوده { إن الله } القادر على كل ما يريد { شديد العقاب } [المائدة: 2] أليم العذاب لمن ظلم نفسه بالإثم والعدوان.
[5.3]
ثم لما كان الأصل في الأشياء الحل والإباحة، والحرمة إنما عرضت من الشرع، بين سبحانه أولا حكم المحللات مطلقا وما يتفرع عليها، ثم عين المحرمات التي استثناها بقوله { إلا ما يتلى } [المائدة: 1، الحج: 30] فقال { حرمت عليكم } في دينكم { الميتة } المائت حتف أنفه بلا موجب لإزالة الحياة { والدم } المسفوح، السائل التزكية أو بغيرها { ولحم الخنزير } النجس، الظاهر خباثته عقلا وشرعا.
{ و } من جملة المحرمات { مآ أهل } صوت ذبحه { لغير } اسم { الله به } من أسماء الأصنام { و } كذا { المنخنقة } المزيلة حياتها بالخنق بلا تذكية، كما يفعل المشركون { و } كذا { الموقوذة المضروبة بالخضب الأحجار إلى أن تذهب منها الروح { والمتردية } التي سقطت من علو، أو في بئر فزالت حياتها { والنطيحة } أيضا، وهي التي نطحها الحيوان الآخر فماتت { و } كذا حرمت عليكم { مآ أكل السبع } منه فزال حياته { إلا ما ذكيتم } قطعتم حلقومه مهللين حين أحسستم الرمق منه، فإنه يحل لكم.
{ و } كذا حرمت عليكم { ما ذبح على النصب } أي: الأصنام الموضوعة حول البيت، كانوا يعظمونها، ويتقربون إليها بالذبائح والقرابين { و } من جملة المحرمات { أن تستقسموا بالأزلام } أي: الأقداح، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، وعلى الثالث: غفل، فإن خرج الأمر مضو عليه، وإن خرج النهي انصرفوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا.
ومعنى الاستقسام بها: الاستخبار، والاستفسار عن القسمة الغيبية التي استأثر الله بها، ولم يطلع أحدا عليها، وأمثال هذا ما هي إلا كهانة وكفر، صدرت عن أولي الأحلام السخيفة، الخبيثة، الناشئة من عدم الرضا بقضاء الله { ذلكم } أي: استقسامكم واستخباركم من أزلامكم { فسق } خروج عما عليه الأمر والشروع وديدنة الجاهلية فعليكم أن تجتنبوا عن أمثالها، خصوصا { اليوم يئس } وقنط بالمرة { الذين كفروا } عن انصرافكم { من دينكم فلا تخشوهم } على غلبتهم بترك رسومهم وعاداتهم المستقبحة.
{ واخشون } عن بشطي وانتقامي بترك ما أمرتب لكم، ونهيت عنه في جميع أحوالكم وأزمانكم، سيما { اليوم } الذي هذا قد { أكملت لكم دينكم } بأن ينصركم ويغلبكم على مخالفيكم مطلقا، ويظهر دينكم على الأديان كلها { وأتممت عليكم نعمتي } ظاهرا وباطنا بالاستيلاء، والغلبة على الأعداء، وقمع الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة بالكلية { و } من إتمام نعمتي عليكم أني { رضيت } اخترت وانتخبت { لكم الإسلم } الإطاعة والانقياد { دينا } ديدنه ومذهبا؛ إذ لا دين عند الله إلا الإسلام.
وبعد كما دينكم وإتمام النعم عليكم، وتحليل ما أحل، وتحريم ما حرم { فمن اضطر } منكم { في مخمصة } مجاعة مفرطة، ملجئة إلى تناول الجيف والمحرمات حال كونكم { غير متجانف } مائل { لإثم } ومعصية، رخص التناول منها مقدار سد جوعه { فإن الله } المصلح لأحوالكم { غفور } مما صدر عنكم حين اضطراركم ومخمصتكم { رحيم } [المائدة: 3] لا يخواذكم عليه بعدما رخص لكم.
अज्ञात पृष्ठ