[1 - سورة الفاتحة]
[1.1-7]
{ بسم الله } المعبر بها عن الذات الأحدية، باعتبار تنزيلها عن تلك المرتبة؛ إذ لا يمكن التعبير عنها باعتبار تلك المرتبة أصلا، وباعتبار شمولها وإحاطتها جميع الأسماء والصفات الإلهية المستندة إليها المظاهر كلها المعبر عنها عند أرباب المكاشفة بالأعيان الثابتة، وفي لسان الشرع باللوح المحفوظ والكتاب المبين { الرحمن } المعبر بها عن الذات الأحدية باعتبار تجلياتها على صفحات الأكوان وتطوراتها في ملابس الوجودب والإمكان، وتنزيلها عن المرتبة الأحدية إلى مراتب العددية، وتعيناتها بالتشخيصات العلمية والعينية وانصباغها بالصبغ الكيانية { الرحيم } [الفاتحة: 1] المعبر بها عن الذات الأحدية باعتبار توحيدها بعد تكثيرها، وجمعها بعد تفريقها، وطيها بعد نشرها، ورفعها بعد خفضها، وتجريدها بعد تقييدها.
{ الحمد } والثناء الشامل لجميع المحامد والأثنية الصادرة عن ألسنة ذرائر الكائنات المتوجهة نحو مبدعها طوعا، المعترفة بشكر منعمها حالا ومقالا، أزلا وأبدا، ثابتة مختصة { لله } أي: للذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات المظهرة المريبة للعوالم، وما فيها بأسرها لكونه { رب العالمين } [الفاتحة: 2] ولولا تربيته إياها وإمداده لها طرفة لفني العالم دفعة.
{ الرحمن } المبدئ المبدع لها في النشأة الأولى بامتداد ظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا على مرآة العدم المنعكسة منها العالم كله وجزءه، شهادته وغيبه، أولاه وأخراه وأجزاءه بلا تفاوت { الرحيم } [الفاتحة: 3] المعيد للكل في النشأة الأخرى بطي سماه الأسماء وأرض الطبيعة السفلى إلى ما منه الابتداء وإليه الانتهاء لكونه:
{ ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4] والجزاء المسمى في الشرع بيوم القيامة، والطامة الكبرى المندكة فيها الأرض والسماء المطويات فيها سجلات الأولى والأخرى في الأرض؛ إذ فيها ارتجت الآراء والأفكار وارتفعت الحجب والأستار، واضمحلت أعيان السوى والأغيار، ولم يبق إلا الله الواحد القهار، ثم لما تحقق العبد في هذا المقام، ووصل إلى هذا المرام، وفوض الأمور كلها إلى الملك العلام القدوس السلام حق له أن يلازم ربه ويخاطب معه بلا ستر ولا حجاب، تتميما لمرتبة العبودية إلى أن يرتفع كاف الخطاب عن البين، وينكشف الغين عن العين، وعند ذلك قال لسان مقالة مطابقا بلسان حاله:
{ إياك } لا إلى غيرك؛ إذ لا غير في الوجود معك { نعبد } نتوجه ونسلك على وجه التذلل والخضوع؛ إذ لا معبود لنا سواك ولا مقصد إلا إياك { وإياك نستعين } [الفاتحة: 5] أي ما نطلب الإعانة والإقدار على العبادة لك إلا منك؛ إذ لا مرجع لنا غيرك.
{ اهدنا } بلطفك { الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6] الذي يوصلنا إلى ذروة توحيدك.
{ صراط الذين أنعمت عليهم } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا { غير المغضوب عليهم } من المرتدين الشاكين، المنصرفين بمتابعة العقل المشوب بالوهم عن الطريق المستبين.
{ ولا الضآلين } [الفاتحة: 7] بتغريرات الدنيا وتسويلات الشياطين عن منهج الحق ومحجة اليقين.
آمين: إجابة منك يا أرحم الراحمين.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات - يسر الله أمرك - أن تتأمل في الأبجر السبعة المشتمل بهذا السبع المثاني في القرآن العظيم، المتفرعة على الصفات السبع الذاتية الإلهية، الموافقة للسماوات السبع والكواكب السبعة الكونية، وتدبر فيها حق التدبر، وتتصف بما رمز فيها تتخلص من الأودية السبعة الجهنمية، المانعة من الوصول إلى جنة الذات المستهلكة عندها جميع الإضافات والكثرات ولا يتيسر لك هذا التأمل والتدبر إلا بعد تصفية ظاهرك بالشرائع النبوية والنواميس المصطفوية المستنبطة من الكلم القرآنية، وباطنك بعزائمه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم المقتبسة من حكمها المودعة فيها، فيكن القرآن الجامع له خلق النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، المورث له من ربه المستخلف له.
فالقرآن خلق الله المنزل على نبيه، من تخلق به فاز بما فاز، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" تخلقوا بأخلاق الله "
وهي التي ذكرت في القرآن، والفاتحة منتخبة من جميع القرآن على أبلغ وجه وأوضح بيان، من تأمل فيها نال ما نال من جميع القرآن، لذلك فرض قراءتها عند الميل والتوجه إلى الذات الأحدية المعبر عنه بلسان الشرع، بالصلاة التي هي معراج أهل الاتجاه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الصلاة معراج المؤمن "
، وقال أيضا:
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
فعليك أيها المصلي المتوجه إلى الكعبة الحقيقة والقبلة الأصلية أن تواظب على الصلوات المفروضة المقربة إليها، وتلازم الحكم والأسرار المودعة في تشريعها ، بحيث إذا أردت الميل إلى جنابه والتوجه نحو بابه لا بد لك أولا من التوضؤ والتطهر عن الخبائث الظاهر والباطنة كلها، والتخلي عن اللذات والشهوات برمتها إلى حيث تيسر لك التحريمة بلا وسوسة شياطين الأهواء المظلة.
فإذا قلت مكبرا محرما على نفسك جميع حظوظك من دنياك: الله أكبر، لا بد لك أن تلاحظ معناه بأنه: الذات الأعظم الأكبر في ذاته لا بالنسبة إلى الغير؛ إذ لا غير، وافعل هذا للصفة لا للتفضيل وتجعلها نصيب عينيك وعين مطلبك ومقصدك.
وإذا قلت قلت متيمنا متبركا: بسم الله، انبعثت رغبتك إليه ومحبتك له.
وإذا قلت: الرحمن، استنشقته من النفس الرحماني ما يعينك على الترقي نحو جنابه.
وإذا قلت: الرحيم، استروحت بنفحات لطفه ونسمات رحمته، وجئت بمقام الاستئناس معه سبحانه بتعديد نعمه على نفسك.
وإذا قلت شاكرا لنعمه: الحمد لله، توسلت بشكر نعمه إليه.
وإذا قلت: رب العالمين، تحققت بإحاطته وشموله وتربيته على جميع الأكوان.
وإذا: قلت الرحمن، رجوت من سعة رحمته وعموم إشفاقه ومرحمته.
وإذا قلت: الرحيم: نجوت من العذاب الأليم الذي هو الالتفات إلى غير الحق، ووصلت إليه بعدما فصلت عنه بل اتصلت.
وإذا قلت: مالك يوم الدين، قطعت سلسلة الأسباب مطلقا، وتحققت بمقام الكشف الشهود وحين ظهر لك ما ظهر، فلك أن تقول في تلك المقام والحالة بلسان الجمع: إياك نعبد، بك مخاطبين لك وإياك نستعين بإعانتك مستعينين منك.
وإذا قلت: اهدنا الصراط المستقيم، تحققت بمقام العبودية.
وإذا قلت: صراط الذين أنعمت عليهم، تحققت بمقام الجمع.
وإذا قلت: غير المغضوب عليهم، استوحشت من سطوة سلطنة صفاته الجلالية.
وإذا قلت: ولا الضالين، خفت من الرجوع بعد الوصول.
وإذا قلت: آمين، أمنت من الشيطان الرجيم.
فلك أن تصلي على الوجه الذي تلي، حتى تكون لك صلاتك معراجا إلى ذروة الذات الأحدية ومرقاة إلى السماء السرمدية، ومفتاحا للخزائن الأزلية الأبدية، وذلك لا يتيسر إلا بعد الموت الإرادي من مقتضيات الأوصاف البشرية، والتخلق بالأخلاق المرضية والخصال السنية، ولا يحصل لك هذا الميل إلا بعد العزلة والفرار عن الناس المنهمكين في الغفلة، والانقطاع عنهم وعن وسوستهم وعاداتهم المرة، وإلا فالطبيعة سارقة والأمراض سارية والنفوس آمرة بالهوى، مائلة عن المولى، عصمنا الله من شرورها وخلصنا من غرورها بمنه وجوده.
[2 - سورة البقرة]
[2.1-5]
{ الم } [البقرة: 1] أيها الإنسان الكامل، اللائق لخلافتنا، الملازم لاستشكاف أسرار ربوبيتنا كيفية بركات هويتنا الذاتية السارية على صفائح المكونات، المنتزعة عنها والمأخوذة منها.
{ ذلك الكتاب } الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المتعبد درجة كماله عن إفهام الجامع مراتب الأسماء والصفات في عالم الغيب والشهادة، المنزل على مرتبتك يا أكمل الرسل، الجامعة لجميع مراتب الكائنات من الأزل إلى الأبد بحيث لا يشذ عنها مرتبة أصلا { لا ريب فيه } بأنه منزل من عندنا لفظا ومعنى:
أما لفظا: فلعجز جماهير البلغاء ومشاهير الفصحاء عن معارضة أقصر آية منه مع وفور دواعيهم.
وأما معنى: فلا شتماله على جميع أحواله الحقائق العينية والأسرار الغيبية مما كان وسيكون في النشأتين، ولا يتيسر الاطلاع عليها والإتيان بها على هذا النمط البديع إلا لمن هو علام الغيوب.
وإنما أنزلناه إليك أيها اللائق لأمر الرسالة والنيابة، لتهتدي به أنت إلى بحر الحقيقة، وتهدي به أيضا من تبعك من التائهين في بيداء الضلالة؛ إذ فيه { هدى } عظيم { للمتقين } [البقرة: 2] الذين يحفظون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة من الطهارة الحقيقية والوصول إلى المرتبة الإصلية.
و { الذين يؤمنون } يوقنون ويذعنون بأسراره ومعارفه { بالغيب } أي: غيب الهوية الذي هو ينبوع بحر الحقيقة وإليه منتهى الكلم، وبعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامه نحوه، ويهدون إليه بسببه { ويقيمون } يديمون { الصلوة } الميل بجميع الأعضاء والجوارح على وجه الخضوع والتذلل إلى جنابه؛ إذ هو المقصد للكل إجمالا وتفصيلا، ولكل عضو وجارحة تذلل خاص وله طريق مخصوص يناسبه، يرشدك إلى تفاصيل الطرق، فعله صلى الله عليه وسلم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين - رضوان الله عليهم أجمعين - ولما تنبهوا له به بمتابعته ومالوا نحو جنابه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل إلى ما سواه من المزخرفات الفانية لذلك { ومما رزقناهم } سقنا إليهم ليكون بقيا لحياتهم ومقوما لمزاجهم { ينفقون } [البقرة: 3] في سبيلنا طلبا لمرضاتنا وهربا عما يشغلهم عنا، فكيف إنفاق الفواضل؟.
{ والذين يؤمنون } ينقادون ويمتثلون { بمآ أنزل إليك } من الكتاب الجامع أسرار جميع ما أنزل من الكتاب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ، ومن السنن ومن الأخلاق الملهمة إليك { و } مع ذلك صريحا يعتقدون { مآ أنزل من قبلك } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين مع الإيمان بجميع الكتب المنزلة، وإن كان كل كتاب متضمنا للإيمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصود الأصلي من جميعها { وبالآخرة هم يوقنون } [البقرة: 4] أفردها بالذكر؛ اهتماما بشأنها لكثرة المرتابين فيها.
{ أولئك } أي: جزاء أولئك المؤمنون المتعقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل، والمؤمنون المذعنون بالنشأة الآخرة بل خاصة أنهم { على هدى } عظيم { من ربهم } الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم إلى أن يبلغوا إلى هذه المرتبة التي هي الاهتداء إلى جانب قدسه { و } مع ذلك الجزاء العظيم والنفع الجسيم { وأولئك } السعداء { هم المفلحون } [البقرة: 5] الفائزون، الناجون عن مضائق الإمكان الواصلون إلى فضاء الوجوب، رزقنا الله الوصول إليه.
[2.6-10]
ثم قال سبحانه جريا، بل على مقتضى سنته من تعقيب الوعد بالوعيد: { إن الذين كفروا } ستروا الحق وأعرضوا عنه، وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا واستكبارا، لا ينفعهم إنذارك وعدمه بل { سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] بك وبكتابك؛ لأنهم هم.
{ ختم الله } المحيط بذواتهم وأوصافهم وأفعالهم { على قلوبهم } لئلا يكونوا من أرباب المكاشفات { وعلى سمعهم } لئلا يكونوا من أصحاب المجاهدة { وعلى أبصرهم } لئلا يكونوا من أرباب المشاهدة { غشاوة } ستر عظيم لا يمكنك رفعه بل { ولهم عذاب عظيم } [البقرة: 7] هو عذاب الطرد والبعد؛ إذ لا عذاب أعظم منه، أولئك الأشقياء البعداء عن ساحة الحضور، هم الضالون في تيه الحرمان، الباقون في عظلمة الإمكان، أعاذنا الله من ذلك.
{ ومن الناس } الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوا في الفطرة الأصلية { من يقول } قولا لا يوافق اعتقادهم، وهو أنهم يقولون تلبيسا ونفاقا: { آمنا } أذعنا { بالله } أي : الذي أنزل علينا الكتاب وإنك الرسول { و } وأيقنا { باليوم الآخر } الموعود بجزاء الأعمال { و } الحال أنهم { ما هم بمؤمنين } [البقرة: 8] موقنين بهما في بواطنهم، بل غرضهم من هذا التلبيس في زعمهم الفاسد أنهم:
{ يخادعون الله } المحيط بجميع أحوالهم مخادعتهم مع آحاد الناس، تعالى عن ذلك { و } يخادعون الموحدين { الذين آمنوا } بإحاطة الله بتوفيقه وإلهامه؛ حفظا لدمائهم وأموالهم منهم { و } هم { ما يخدعون } بهذا الخداع { إلا أنفسهم } لأن الله ومن هو في حمايته أجل من أن ينخدع منهم، فهم بهذا الخداع ما يخدعون إلا أنفسهم { وما يشعرون } [البقرة: 9] بخداعهم؛ لأن:
{ في قلوبهم مرض } غطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف إلا بكتاب الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما لم يؤمنوا به ولم يلتفتوا إليه بل كذبوا رسوله المنزل عليهم { فزادهم الله مرضا } إحكاما لختمه وتأكيدا لحكمه { ولهم } في يوم الجزاء { عذاب } هو إبعادهم وطردهم عن ساحة عز الحضور { أليم } مؤلم بسبب تقريب المؤمنين إلى دار السرور جزاء { بما كانوا يكذبون } [البقرة: 10] ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم خداعا.
[2.11-16]
{ و } مع ظهور حالهم وخداعهم عند الله وعند المؤمنين { إذا قيل لهم } إمحاضا للنصح: { لا تفسدوا في الأرض } بتكذيب كتاب الله ورسوله المنزل عليه حتى لا يخرجوا من مرتبة الخلافة؛ لأن خلافة البشر إنما هي بالتوحيد وإسقاط الإضافات، والتوحيد إنما يحصل بالله وبكتابه ورسوله { قالوا } في الجواب على سبيل الحصر: { إنما نحن مصلحون } [البقرة: 11] لا نتجاوز من الصلاح أصلا تتميما لخداعهم الفاسد، وترويجا له على المؤمنين وتلبيسا.
{ ألا } أيها المؤمنون الموقنون بكتاب الله المصدقون لرسوله { إنهم هم المفسدون } المقصرون على الفساد، لا يرجى صلاحهم أصلا؛ لكونهم مجبولين على الفساد { ولكن لا يشعرون } [البقرة: 12] بمشاعرهم لغشاوة قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.
{ و } إذا لطف معهم ونصح كما هو دأب الأنبياء والمرسلين و { إذا قيل لهم آمنوا } بالله وبكتابه ورسوله { كمآ آمن الناس } الذين نسوا مزخرفات آبائهم بالإيمان بالله وبكتابه ورسوله، وفازوا في الدارين فوزا عظيما بسبب الإيمان { قالوا } في الجواب توبيخا وتقريعا: { أنؤمن } بهذا الرجل الحقير الساقط، وبهذه الأساطير الكاذبة ونترك دين آبائنا { كمآ آمن السفهآء } التاركون دين آبائهم لغرور هذا المدعي المفتري؟ { ألا } أيها المبعوث لإهداء المضلين المجبولين على الهداية في أصل فطرتهم { إنهم هم السفهآء } المجبولون على الغوية في بدء الفطرة لا يمكنك هدايتهم أصلا؛ لعدم قابليتهم واستعدادهم للإيمان { و } إن ظنوا في زعمهم من العقلاء { لكن لا يعلمون } [البقرة: 13] أصلا لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم، فيسلب قابليتهم للإيمان.
{ و } علامة نفاق هؤلاء المضلين وخداعهم أنهم { إذا لقوا الذين آمنوا } بالله وكتابه ورسوله { قالوا } على طريق الإخبار عن الأمور المحققة تروجيا وتغريرا على المؤمنين { آمنا } بالجملة الفعلية الماضية بلا مبالغة وتأكيد لحكمهم سفاهة المؤمنين، بأن السفيه يقبل الأخبار بلا تأكيد؛ لعدم تفطنه على إنكار المتكلم، فنزلوهم - وإن كان من حقهم الإنكار حقيقة - منزلة خالي الذهن؛ لسفاهتهم { وإذا خلوا } نفوا خالين { إلى شياطينهم } أي: مع أصحابهم المستمرين على الكفر، الظاهرين بالمخالفة بلا خداع ولا نفاق كالشيطان المصر على الضلال المستمر على الإضلال { قالوا } على طريق المبالغة والتأكيد قلعا لما اعتقدوا من ظاهر حالهم ومقالهم وموافقتهم مع المؤمنين سرا وجهرا، وتحقيقا لمؤاخذتهم معهم { إنا } وإن كنا في الظاهر مداهنين معهم لمصلحة دنيوية، متفقون { معكم } لفائدة دينية، أتوا بالجملة الاسمية المصدرة بأن؛ تحقيقا واهتماما، وقولنا: آمنا، استهزاء منا إياهم لا تصديق لمدعاهم، وبالجملة ما نحن مؤمنون بمجرد هذا القول بل { إنما نحن مستهزءون } [البقرة: 14] مستخفون تجهيلا وتسفيها واعتذارا على مجرد القول الكاذب الغير المطابق للاعتقاد والواقع. وهم في غاية انهماكهم في الغي والضلال، وهم مقرون جازمون بأنهم يستهزئون، بل هم في الحقيقة مستهزئون إذ: { الله } المحيط بجميع مخايلهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة { يستهزئ بهم } في كل لحظة وطرفة آنا فآنا { و } لم يشعرهم باستهزائه بل { يمدهم } يمهلهم ويسوفهم { في طغيانهم } المتجاوز عن الحد في الضلالة بتلبيس الأمر على الله وعلى المؤمنين { يعمهون } [البقرة: 15] يترددون إقداما وإحجاما.
{ أولئك } البعداء عن طريق الهداية هم { الذين اشتروا } استبدلوا واختاروا { الضللة } المعززة في نفوسهم بتقليد آبائهم { بالهدى } المتفرعة على الإيمان بالله وبرسوله { فما ربحت } بهذا الاستبدال والاختيار { تجارتهم } أي: ما يتجرون به { وما كانوا مهتدين } [البقرة: 16] رابحين بسبب الاستبدال، وخاسرين ضالين به. أو يقال: فما يتم الربح { تجارتهم } اتجارهم { وما كانوا مهتدين } بسبب هذا الاتجار.
[2.17-19]
بل { مثلهم } أي: شأنهم وحالهم بهذا الاستبدال، والاختيار في يوم الجزاء { كمثل } كحال الشخص { الذي } طلب شيئا في الظلمة وترقبه، ولم يهتد إليه و { استوقد نارا } ليستضيء بها، وفاز بمبتغاه { فلمآ } استوقده { أضآءت } النار { ما حوله } أي: حول المستوقد، وترقب وجدان مطلوبه { ذهب } ضوؤها، وسكن لهبها فضل عن مطلوبه، وخسر خسرانا عظيما، كما ذهب { الله بنورهم } أطفأ الله نيران المنافقين وسرجهم التي هي كفرهم ونفاقهم على زعمهم، وأفسد إظاءتهم في يوم الجزاء حين ترقبهم بوجدان مطالبهم ولم يهتدوا بها، بل عذبهم الله بسببها { وتركهم } لأجلها { في ظلمت } ظلمة الضلالة المتقررة الراسخة في نفوسهم بتقليد آبائهم، المنتجة للكفر والنفاق، وظلمة فقدان المطلوب المترتب عليها في زعهمم مع ترقبهم، والظلمة العارضة لهم بعد استضاءتهم، وبسبب هذه الظلمات { لا يبصرون } [البقرة: 17] ولا يرجى نجاتهم عن عذاب الله بل يبقون فيه أبدا وهم:
{ صم } لعدم إصغائهم لقول الحق عن ألسنة الرسل صلوات الله عليهم { بكم } لعدم قولهم بالإيمان المقارن بالتصديق { عمي } لعدم التفاتهم إلى الدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة، وبالجملة: { فهم } في هذه الحالة { لا يرجعون } [البقرة: 18] ولا يطمعون الرجوع إلى الهداية لتذكيرهم الإفراط والتفريط الذي صدر عنهم في النشأة الأولى المستتبع لهذا العذاب.
{ أو } مثلهم في هذا الاستبدال والاتجار { كصيب } نازل { من السمآء فيه ظلمت } متوالية متتالية، بعضها فوق بعض شدة وضعفا بحسب تخلخل السحب وتكاثفها { ورعد وبرق } بسبب الأدخنة والأبخرة المحتسبة فيه، متى أبصرها الناس وسمعوا أصوات بروقه ورعوده { يجعلون أصبعهم } أنامل أصابعهم { في آذانهم } خوفا { من الصوعق } النازلة منها، المهلكة غالبا لمن أصيب بها، وإنما يفعلون ذلك { حذر الموت } أي: حذر أن يموتوا في إصابتها؛ يعني: إنهم لما شبهوا في نفوسهم دين الإسلام بالصيب المذكور في ظهوره من غير ترقب، واشتمال في زعمهم على ظلمات التكاليف المتفاوتة المتنوعة، ورعود الوعيدات الهائلة وبروق الأحكام الخاطفة، وجب عليهم الاحتراز عن غوائله فمالوا عنه وأعرضوا، وجعلوا أصابع عقولهم في آذان قبولهم؛ خوفا من الصواعق النازلة المصفية المفنية ذواتهم في ذات الله حذر الموت الإداري، وهم بسبب هذا الميل والإعراض يعتقدون أنهم خلصوا عن الفناء في ذاته { و } لم يعلموا أنهم مستهلكون فيها إذ { الله } المتجلي في ذاته لذاته { محيط بالكفرين } [البقرة: 19] الساترين بذواتهم في زعمهم الفاسد ذات الله، غافلين عن تجلياته، وكيف يغفلون عنها؟.
[2.20-22]
{ يكاد البرق } أي: برق التجلي اللطفي { يخطف } يعمي { أبصرهم } التي يرون بها أنفسهم ذوات موجودات فاضلات به { كلما أضآء } وأشرق { لهم } التجلي اللطفي { مشوا } ساروا { فيه } باقين ببقائه { وإذآ أظلم عليهم } بالتجلي القهري { قاموا } سكنوا على ما هم عليه من عدم الصرف { ولو شآء الله } التجلي عليهم بالقهر دائما { لذهب بسمعهم وأبصرهم } أي: بتعيناتهم التي ظنوا أنهم موجودات حقيقية بسببها، وصيرهم فانين معدومين لا وجود لهم أصلا، كما هم عليه دائما، قل لهم يا أكمل الرسل بلسان الجمع: { إن الله } المتجلي بالتجلي اللطفي { على } إبقاء { كل شيء قدير } [البقرة: 20] على إفنائه بالتجلي القهري؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء، ثم نبه تعالى على كيفية رجوعهم إليه وتنبههم على تجلياته، فناداهم إشفاقا لهم وامتنانا عليهم ليقبلوا إليه فقال:
{ يأيها الناس } الذين نسوا حقوق الله بمتابعة آبائكم { اعبدوا } تذللوا وتفزعوا وانقادوا { ربكم الذي خلقكم } أخرجكم وأظهركم من كتم العدم بإشراق تجلياته اللطيفة إلى فضاء الوجود { و } أيضا أخرج آباءكم { الذين } مضوا { من قبلكم } إن عبدتم كما ذكر { لعلكم تتقون } [البقرة: 21] تحذرون من تجلياته القهرية، فهو في بدء الوجود في المعاني اعبدوا ربكم:
{ الذي جعل لكم الأرض فرشا } مبسوطا؛ لتستقروا عليها وتسترزقوا منها { والسماء بنآء } مرفوعا؛ لترتقي الأبخرة والأدخنة والمتصاعدة إليهم وتتراكم السحب فيها { و } بعد وجود هذه الأسباب { أنزل } بمحض فضله وفيضه { من } جانب { السمآء مآء } منبتا لكم الزروع والأثمار المقومة لمزاجكم وإذا أنزل { فأخرج به } سبحانه؛ أي: بسبب الماء { من الثمرت رزقا لكم } أي: أخرج رزقا لكم من الثمرات والطعوم؛ لتعيشوا بها وتقدروا إلى التوجه إلى توحيده وتفريده الذي هو غاية إيجادكم وخلقكم وما يترتب على وجودكم، وإذا كان كذلك { فلا تجعلوا } أيها المنعمون بانتزاع النعم { لله } الواحد القهار لجميع الأغيار { أندادا } أمثالا في استحقاق العبادة والإيجاد والتكوين والترزيق والإنبات والإضاء وغير ذلك مما يتعلق بالألوهية { وأنتم } إن وصلتم إلى مرتبة التوحيد الذي { تعلمون } [البقرة: 22] أن سلسلة الأسباب منتهية إليه سبحانه، ولا موجود إلا هو، بل لا موجود إلا هو
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام: 59] والتحقيق بهذا المقام والوصول إلى هذا المرام لا يحصل إلا بعد التخلق بأخلاق الله، والتخلق بأخلاقه لا يتيسر إلا بمتابعة المتخلق الكامل، وأكمل المتخلفين نبينا صلى الله عليه وسلم، والمتخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم إنما يكون بالكتاب الجامع لجميع أخلاق الله، المنزل على مرتبته، الجامع جميع مراتب المظان، وفي نسخة أخرى: المظاهر.
[2.23-25]
{ وإن كنتم } أيها المحجوبون بالأديان الباطلة { في ريب } شك وارتياب { مما نزلنا } من مقام كما ترتيبنا وإرشادنا { على عبدنا } الذي هو خليفتنا ومرآنا ومظهر جميع أوصافنا، وحامل وحينا المنزل عليه، المشتمل على جميع الأخلاق الإلهية { فأتوا بسورة } جملة قصيرة { من مثله } إذ من خواص هذا الكتاب أن مجموعة مشتمل على جميع الأخلاق الإلهية، وكل سورة منه تشتمل على ما اشتمل عليه المجموع، تأمل.
{ و } إن عجزتم أنتم عن إتيانه { ادعوا شهدآءكم } حضراءكم الذين أنتم تشهدون بألوهيتهم وترجعون في الخطاب إليهم { من دون الله } المحيط بكم وبهم، فأمروهم بإتيان كل سورة جامعة جميع أوصاف المعبود بالحق { إن كنتم صدقين } [البقرة: 23] أنهم آلهة غير الله، سبحان الله وتعالى عما يقولون.
{ فإن لم تفعلوا } فإن لم تفعلوا الإتيان أنتم في حين التحدي والمعارضة { ولن تفعلوا } أيضا بعدما رجعتم إليهم، فلا تكابروا ولا تنازعوا، بل انقادوا وامتثلوا بأوامر الكتاب المنزل على عبدنا، واجتنبوا عن نواهيه { فاتقوا النار التي } أخبر فيه بأنه { وقودها } أي: ما يتقد به النار { الناس } الذين يعبدون غير الله { والحجارة } التي هي معبوداتهم التي نحتوها بأيديهم وما { أعدت } هذه النار إلا { للكفرين } [البقرة: 24] الجاهلين طريق توحيد الحق، والمكذبين كتاب الله ورسوله المنزل عليه.
{ وبشر } المؤمنين الموقنين الموحدين { الذين آمنوا } بالكتاب المنزل على عبدنا { وعملوا الصلحت } المؤمنون فيه، واجتنبوا عن الفاسدات المنهي عنها { أن } أي: حق وثبت { لهم } بعد رفع القيود { جنت } متنزهات من العلم والعين والحق التي هي المعارف الكلية المخلصة عن جميع القيود المنافية للتوحيد { تجري من تحتها الأنهر } أنهار المعارف الجزئية المترتبة على تلك المعارف الكلية { كلما رزقوا } حظوا منها؛ أي من تلك المعارف الكلية { منها من ثمرة } حاصلة من شجرة اليقين { رزقا } حظا كاملا يخصلهم من رتبة الإمكان { قالوا } متذكرين العهود السابقة: { هذا الذي رزقنا من قبل } من الأعيان الثابتة، أو في عالم الأسماء والصفات، أو في اللوح المحفوظ، أو في عالم الأرواح إلى غير ذلك من العبارات، ومن غايات التلذاذهم ونهاية شوقهم والتذاذهم بالثمرة المحظوظ بها { وأتوا به } متماثلا { متشبها } متجددا بتجدد الأمثال { ولهم فيهآ } في تلك المرتبة الكلية { أزوج } أعمال صالحة ونيات خالصة { مطهرة } عن شوائب الأغيار المانعة عن الوصول إلى دار القرار { وهم فيها } في تلك المراتب { خلدون } [البقرة: 25] دائمون يداومه، باقون ببقائه، مستغرقون بمشاهدة لقائه سبحانه. أرزقنا بلطفك حلاوة التحقيق وبرد اليقين.
[2.26-28]
ثم لما طعن الكفار في غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم نفوسهم، واعتقادهم الأصالة في الوجود، والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهرا على الكتاب، والرسول المنزل عليه قائلين بأن ما جئت به وسميته وحيا نازلا إليك من عند الله الحكيم لا يدل على كلام من يعتد به ويعتمد عليه، فضلا عن أن يدل على أنه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة؛ لأن ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة، مثل الكلب والحمار والذباب والنمل والنحل والعنكبوت وغيرها، والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثار لا يصدر من الكبير المتعال؟!
رد الله عليهم وروج أمر نبيه - صلوات الله عليه - فقال: { إن الله } المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء، المقتضية لظواهر الكائنات، المرتبة لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت، كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق، وسريان الروح في جميع الأعضاء { لا يستحى } استحياء من في فعله ضعف وعافية وضيعة، بل الله سبحانة { أن يضرب مثلا } بمظهر { ما } من المظاهر غير المتفاوتة في المظهرية؛ إذ له بذاته من جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا إضافة، فلا تفاوت في المظاهر عنده، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، وسواء كانت { بعوضة } مستحقرة عندكم أو أحقر منها { فما فوقها } في الحقارة والخساسة كالبق والنمل، فلا يبالي الله في تمثيلها؛ إذ عند الكل على السواء { فأما الذين } صدقوا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم و { آمنوا } بما جاء به من عند ربه { فيعلمون } علما يقينا أن التمثيل بهذه الأمثال { أنه الحق } الثابت الصادر { من ربهم } الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه.
{ وأما الذين كفروا } أعرضوا عن تصديق الله ورسوله { فيقولون } مستهزئين متهكمين على سبيل الاستفهام { ماذآ أراد الله } المقدس عن جميع الرذائل المتصف بالأوصاف الحميدة { بهذا } الحقير الخسيس بأن يضرب { مثلا } بهذا تعريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبلغ وجه؛ يعني: ما جئت به من عندك كلمات مفتريات بعضها فوق بعض، أسندته إلى الله لتروجها على أولي الأحلام الضعيفة، ومن غاية استكبارهم ونهاية جهلهم المقتضي لعمى القلب لم يروا الحكمة في تمثيله، ولم يعلموا أنه { يضل } الله باسمه المنتقم { به } بسبب إنكار هذا المثال { كثيرا } من المستكبرين المستحقرين بعض المظاهر { ويهدي به كثيرا } من الموحدين الموقنين الذين لا يرون في المظاهر إلا الله، ففي هذا المشهد لا يسع الإضافات المستلزمة للاستعظام والاستحقار، بل سقط هناك جميع الاعتبار، ثم بين سبب إضلاله له فقال: { وما يضل به إلا الفسقين } [البقرة: 26].
{ الذين } يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر { ينقضون } يفصمون { عهد الله } الذي هو حبله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات سيما { من بعد } توكيده بذكر { ميثقه } الموثق بقوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، وقولهم:
بلى
[الأعراف: 172] وبعدما نقضوا العهد الوثيق الذي من شأنه ألا ينقض لم يفزعوا ولم يتوجهوا إلى جبره ووصله، بل { ويقطعون } التوجه عن امتثال { مآ أمر الله به } في كتابه المنزل { أن يوصل } به ما نقض من عهده، ومع ذلك لا يقنعون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم، بل { ويفسدون في الأرض } بأنواع الفسادات السارية من إفساد واعتقاد الضعفاء، والبغض مع العرفاء الأنساء - وفي نسخة أخرى: ا لأمناء - والمخالفة مع الأنبياء والأولياء { أولئك } البعداء عن طريق التوحيد { هم الخسرون } [البقرة: 27] المقصورون على الخسران الكلي الذي لا خسران فوقه، أعاذنا الله من ذلك.
ثم استفهم سبحانه مخاطبا لهم، مستبعدا عما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكا لحمية الفطرة التي فطر الناس عليها، وتذكيرا لهم بالعهود التي عهدوا مع الله في استعدادتهم الأصلية بقوله:
{ كيف تكفرون } وتشركون { بالله } الذي قدر وجودكم في علمه السابق أراد إيجادكم { وكنتم أموتا فأحيكم } أظهركم من العدم بمد ظله عليكم، وبعدما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الأولى بأنواع النعم؛ لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها { ثم } بعد تربيتكم في النعم { يميتكم } يخرجكم من النشأة الأولى إظهارا لقدرته وقهره { ثم يحييكم } أيضا في النشأة الأخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الأولى { ثم } بعدما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل { إليه } لا إلى غيره من الأظلال { ترجعون } [البقرة: 28] إذ لا وجود للغير ليرجع إليه، فلا مرجع إلا هو ولا مآب بسواه، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.
[2.29-32]
{ هو الذي } جعلكم خلائف في الأرض وصوركم على صورته، وصيركم مظاهر جميع أوصافه وأسمائه و { خلق لكم } أي: قدر ودبر لكم { ما في الأرض جميعا } ما في العالم السفلي من آثار الأسماء والصفات تتميما لجسمانيتكم؛ لتتصرفوا فيها وتتنعموا بها متى شئتم { ثم } لما تم تقدير ما في العالم السفلي ترقى عنها و { استوى } توجه { إلى السمآء } إلى تقدير جميع ما في العالم العلوي { فسوهن } فهيأهن { سبع سموت } مطبقات مشتملات على ملائكة ذوي علوم ومعاملات، وعلى كواكب ذوي آثار كثيرة كلها من مقتضيات أسمائه وصفاته { و } لا يخفى عليه شيء مما في العالمين؛ إذ { هو بكل شيء عليم } البقرة: 29] لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ثم لما قدر لنوع الإنسان جميع ما في العالم العلوي والسفلي أشار إلى اصطفاء شخص من هذا النوع وانتخابه من بين الأشخاص؛ ليكون مظهرا جامعا لائقا لأمر الخلافة والنيات، فقال مخاطبا لنبيه، مذكرا له، مستحضرا إياه بقوله: { وإذ قال ربك } أي: استحضر أنت يا أكمل الرسل فذكر ممن تبعك وقت قول ربك { للملئكة } الذين هم مظاهر لطفه ومجالي جماله، لا يظهر عليهم أثر من آثار الجلال والقهر { إني } أريد أن أطالع ذاتي وألاحظ أسمائي وأوصافي على التفصيل، فأنا { جاعل في الأرض } أي: العالم السفلي { خليفة } مرآة مجلوة عن صداء الإمكان ورين التعلق؛ لأتجلى منها بجميع أوصافي وأسمائي حتى تعتدل خليفتي بأسمائي أخلاق من عليها وتصلح أحوالهم، وإذا شاور معهم قالوا في الجواب على مقتضى علمهم { قالوا } في الجواب على مقتضى علمهم من العالم السفلي الذي هو عالم الكون والفساد ومنزل الجدال والعناد: ما نرى في العالم السفلي إلا اللدد والعناد والمخاصمة المستمرة بين العباد والخروج من حدودك من سفك الدماء ونهب الأموال وسبي الذراري { أ } ن سلم ونجوز لك أن { تجعل } بعزتك وكبريائك مع أنا ننزهك عن جميع الرذائل خليفة لك نائبا عنك { فيها } في الأرض { من يفسد فيها } بأنواع الفسادات { و } خصوصا { يسفك الدمآء } المحرمة، وليس في وسعنا هذا التسليم، ولا نرى هذا الأمر لائقا بجلالك وعصمتك، وإن شئت بفضلك وجودك أن تصلح بينهم { و } تدبر أمرهم { نحن } أولى بإصلاحهم وتدبيرهم وحفظ حدودك الموضوعة فيهم؛ إذ { نسبح } نشتغل دائما { بحمدك } وثنائك على آلائك ونعمائك { ونقدس } به { لك } أي: ننزه ذاتك عن جميع ما يشعر بالعلل والأعراض فنحن أولى بأمر الخلافة والنيابة منه { قال } تعالى بلسان الجمع في جوابهم؛ إرشادا لهم وامتنانا لآدم: { إني أعلم } من آدم الذي هو مظهر ذاتي وجميع أسمائي { ما } أي: شيء من الجامعية { لا تعلمون } [البقرة: 30] أنتم لعدم جميعتكم.
ثم لما ادعى سبحانه استحقاقه للنيابة ولياقته للخلافة، وأجاب عن شبههم التي أوردوها إجمالا وأشار إلى تفصيل ما أجمل عليهم إرشادا لهم على مرتبة الجمع، وتنبيها على جلالة قدر المظهر الجامع فقال: { وعلم ءادم } سبحانه؛ أي: ذكره { الأسمآء } التي أودعها في ذاته وأوجد بها ما في العالم من الآثار البديعة { كلها } بحيث لا يبقى من الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة المتضادة شيء إلا ما استأثر به في غيبه { ثم عرضهم } الأسماء المودعة باعتبار مسمياتها وآثارها الظاهرة في الآفاق { على الملئكة } الذين يدعون الأولوية في أمر الخلافة { فقال } تعالى لهم مخاطبا على سبيل الإسكات والتبكيت: { أنبئوني } عن روية وبصيرة { بأسمآء هؤلاء } المسميات، وبأسباب هؤلاء الآثار والمسببات { إن كنتم صدقين } [البقرة: 31] في دعوى الأولوية والأحقية للنيابة، محقين في الاعتراض على آدم لا عن علم بحاله.
{ قالوا } مستوحشين من هذه الكلمات، معتذرين متذليين خائفين من عتابه تعالى، متذكرين عن سوء الأدب مع الله، مستحيين عن سؤالهم من فعله الذي لا يسأل عنه قائلين: { سبحنك } ننزهك من أن يعترض عليك ويسأل عن فعلك، ذلك الحكم في ملكوتك والتصرف في مقتضيات أسمائك، وإنما بسطنا معك الكلام لا لانبساطك بنا؛ إذ { لا علم لنآ } منها { إلا ما علمتنآ } بقدر استعداداتنا وقابلياتنا { إنك أنت العليم } بجميع الاستعدادات والقابليات { الحكيم } [البقرة: 32] بإقامته ما ينبغي لمن ينبغي بلا علل واعتراض.
[2.33-37]
ومتى اعترفوا بذنوبهم واعتذروا عن قصورهم وإجرامهم قبل الله عنهم عذرهم وتوبتهم، ثم أظهر عليهم الحكمة المقتضية لخلافة آدم - صلوات الله عليه - جبرا لانكسارهم ورفعا لحجابهم وامتنانا عليهم حيث: { قال يآءادم } المستجمع لجميع الأسماء المتخالفة { أنبئهم } عن خبرة وحضور { بأسمآئهم } المركوزة في هويتك عن هؤلاء المسميات المسببات المعروضة عليك المعبرة عنها بالعالم، ثم لما سمع آدم نداء ربه بادر إلى الجواب بمقتضى الوحي والإلهام الإلهي { فلمآ أنبأهم } بتوفيق الله وإلهامه ووحيه { بأسمآئهم } على التفصيل الذي أودعه الحق في ذاته؛ لأن المرأة تظهر جميع ما في الرائي، فلما سمعوا منه التفصيل واستخرجوا بإنبائه، وندموا عما صدر عنهم في حقه، وزادوا الاستحياء من الله وتوجهوا نحوه ساكتين نادمين حتى لطف معهم وأدركتهم الرحمة الواسعة، تكلم سبحانه معهم وخاطبهم مذكرا لهم عما جرى بينه وبينهم، ومستفهما لهم على وجه التأديب؛ لئلا يصدر عنهم أمثاله ولئلا يغتروا بعلومهم ومعامالاتهم، ولا يستحقروا مظاهر الحق، ولا ينظروا إليها بعين الاحتقار بل بنظر الاعتبار، ولا يتوهم إخفاء شيء من علم الله المحيط بالأشياء إحاطة حضور حيث { قال ألم أقل لكم } إجمالا أولا: { إني أعلم غيب السموت } أي: ما غاب عنهم في علم السماوات التي ادعيتم العلم بتفاصيل أحوالها { و } غيب { الأرض } التي قلتم فيها كلاما على التخمين وبحسب الظاهر { وأعلم } أيضا { ما تبدون وما كنتم تكتمون } [البقرة: 33] تظهرون في حق آدم باللسان ودعوى الاستقلال فيها والانحصار عليها.
ثم لما اعترفوا بذنوبهم وقصورهم، وتضرعوا إلى الله نادمين تائبين عن اجترائهم ومجادلتهم معه مستحيين عنه وعمن استخلفه لنفسه - يعني آدم - بنسبة المكروهات إليه، خائبين عما نووا في نفوسهم من الأولوية في الاستحقاق، تقبل الله عذرهم وأسقط حقه عنهم، ثم أمر بسجودهم لمن استخلفه؛ استجلالا معه وإيفاء لحقه ليسقط أيضا عن ذمتهم، فقال: { وإذ قلنا } أي: واذكر يا أكمل الرسل وقت قولنا { للملئكة } النادمين عن الجراءة التي صدرت عنهم { اسجدوا لأدم } تذللوا وتواضعوا تكريما لآدم وامتثالا لأمرنا { فسجدوا } مجتمعين متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والندامة { إلا إبليس } منهم { أبى } وامتنع عن السجود { واستكبر } عن الانقياد له، وأصر على ما هو عليه من الجحود { وكان } بعدم ا لامتثال الأمر الوجوبي { من الكفرين } [البقرة: 34] المطرودين عن ساحة عز الحضور.
والسر في استثنائه تعالى عن هذا الحكم وعدم توفيقه إياه وعدم اقتداره على السجود، أن يظهر سر الحضور والإظهار والربوبية والعبودية، وسر الإيمان والكفر والجنة والنار وجميع القيودات الشرعية والتكاليف الإلهية؛ إذ نسبته يظهر الاثنينية ويتعدد الطرق وتتفاوت الآراء والمقالات وتبين المخالفات والمنازعات، ويظهر الباطل ويستر الحق، وهو الرقيب المحافظ لآدابه والحاجب المعتكف ببابه، حتى لا تكون شرعية لكل وارد، أو يتوجه إليه واحد بعد واحد، غيره على الله وحمية لنفسه، ولهذا تمنى كثير من المحققين مرتبته.
ومن غيرته على ربه إلهاؤهم واغترارهم بالمستلذات والمزخرفات التي مالت إليها نفوسهم بطبعها يشغلهم ويلهيهم بها عن التوجيه إلى جنابه والعكوف ببابه، والسر في طرده ولعنه وإبعاده وبكفره تحذيرهم عن الانقياد والاقتداء على أبلغ وجه وآكده، وتمرين لعداوته ورقابته معهم في نفوسهم؛ لئلا يغفلوا عنه، ومع ذلك لم يتركوا متابعته ولم يجتنبوا من إقطاعه الملهية، نعوذ بالله من شرور أنفسنا.
{ و } وبعد ما خلقنا آدم في الأرض خليفة وأنزلنا عنه قوادح القاحدين، وأمرمنا جميع خصمائه بسجوده وتكريمه، وامتثلوا بالمأمور جميعا إلا إبليس، تركه للحكمة المذكورة آنفا ولئلا يتكبر آدم ويتجه بسببه انقياد جميعهم كما تجبر كثير من أبنائه في الأرض بانقياد الشرذمة القليلة { قلنا } له على سبيل الشفقة والنصيحة: { يآءادم } المستخلف المختار، لازم العبودية إنما تحصل بامتثال أوامرنا واجتناب نواهينا، ومتى قبلت بحمل الامتثال والاجتناب { اسكن أنت } أيها الخليفة أصالة { وزوجك } تبعا لك { الجنة } التي هي دار السرور ومنزل الفراغ والحضور، ومقام الأنس من الرب الغفور { و } إذا سكنتما فيها { كلا } تمتعا { منها } من جميع محظوظاتها ومستلذاتها الروحانية والجسمانية { رغدا } واسعا بلا مقدار وعدد { حيث شئتما } بلا مزاحمة أحد { ولا تقربا هذه الشجرة } المخصوصة المعينة حتى لا تخرجا من رق العبودية وإن قربتما { فتكونا من الظلمين } [البقرة: 35] الخارجين عن حدو الله بارتكاب المنهي.
ولما استشعر إبليس التوصية والمعاهدة المذكورة المنبئة عن كمال العناية الإلهية بالنسبة إلى آدم، بادر إلى دفعها ورفضها، فوسوس لهما بأن ألقى في قلبهما الدغدغة في تخصيص هذه الشجرة المعنية بالنهي وأنساهما المعاهدة المذكورة في العبودية، وبالجملة: { فأزلهما } ألجأهما إلى ارتكاب الزلة بوسوسة { الشيطان عنها } العدو لهما والرقيب معهما فتنادوا عنها عن الشجرة المنهية { فأخرجهما مما } أي: من الحضور الذي { كانا فيه } أي: في دار السرور { و } بعدما ظهر زلتهما { قلنا } لهما ولناصحهما: { اهبطوا } من دار السرور إلى دار الغرور، ومن دار الكرامة إلى دار الابتلاء والملائمة، وعيشوا فيها مع النزاع والخصومة؛ إذ { بعضكم لبعض عدو } ينتهز الفرصة لمقته { و } بعد هبوطمم { لكم في الأرض } التي هي محل التفرقة وموطن الفتن والمحن { مستقر } موضع قرار { ومتاع } استمتاع لمزخرفاتها ومستلذاتها الغير القارة التي ألهاكم الشيطان بها عن النعيم الدائم { إلى حين } [البقرة: 36] قيام الساعة التي هي الطامة الكبرى.
ثم لما لم يكن زلة آدم من نفسه ومن مقتضى طبعه بل بسوسوة عدوه، أشفق عليه وتوجه نحوه وتطلف معه { فتلقى } استفاد { ءادم } المذنب العاصي { من ربه } المستخلف المستقبل عليه { كلمت } مشتملات على الرجوع والإنانية عما صدر عنه من زلة هي قوله:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23] ولما تلقى آدم من ربه هذه الكلمات واستغفر بها، ورجع عما صدر { فتاب } الله { عليه } أي: قبل توبته ورحم عليه { إنه هو التواب } الرجاع للمذنبين المنهمكين في العصيان بالإنابة إليه عن ظهر الجنان { الرحيم } [البقرة: 37] لهم عما صدر عنهم من المعاصي والآثام بلا معاتبة ولا انتقام.
[2.38-42]
ثم لما تلقناه الكلمات التي تاب بها وقبلنا عنه توبته، أخرجناه من اليأس والقنوط وأطمعناه الرجوع إلى الجنة بأن: { قلنا } له ولذريته المتفرعة عليه، منبهين عليهم طريق الرجوع { اهبطوا } الزموا مكان الهبوط، واستقروا عليها حال كونكم خارجين { منها جميعا } ومن الجنة، وترقبوا دخولها بإذن منا { فإما يأتينكم } أيها المترقبون { مني } لا غيري { هدى } من وحي وإلهام، وهو علامة إذني ودليل رضاي برجوعكم { فمن تبع هداي } ومن رجع إلي به { فلا خوف عليهم } في المراجعة إلى المقام الأصلي { ولا هم يحزنون } [البقرة: 38] بعد رجوعهم إليها بل كما بدأكم تعودون.
{ والذين } لم يرتبقوا الرجوع، ونسوا ما هم عليه في الجنة ولم يلتفتوا إلى الهدى المؤتى، و { كفروا } به وأنكروا له { وكذبوا } رسلنا الذين أتوا إياهم { بآيتنآ } دلائلنا الدالة على صدقهم من المعجزات الظاهرة، والآثار الباهرة { أولئك } الهابطون الناسون والموطن الأصلي والمقام الحقيقي، المستبدلون عن الجنة بعرض هذا الأدنى، والكافرون بطريق الحق، والمكذبون بمن يهديهم { أصحب النار } التي هي معدن البعد والخذلان، ومنزل الطرد والحرمان { هم } بسبب نسيانهم وتكذيبهم { فيها خلدون } [البقرة: 39] إلى ما شاء الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
ثم لما بين سبحانه وتعالى طريق الهداية والضلال، ونبه على جزاء كل منهما إجمالا، أشار إلى تفصيله وتوضيحه من قصص القرون الماضية والأمم السالفة، ليتيقن المؤمنين منها ومن جملتها قصة ندائه تعالى بني إسرائيل أولاد يعقوب إسرائيل الله، مخاطبا لهم أمر تذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم؛ ليكونوا من الشاكرين لنعمه، الموفين بعهده بقوله:
{ يبني إسرائيل } المتنعمين بالنعم الكثيرة { اذكروا } واشكروا { نعمتي التي أنعمت عليكم } وعلى من استخفلكم من أسلافكم { وأوفوا } بعد اعتدادكم النعم على أنفسكم { بعهدي } الذي عاهدتم معي من متابعة الهدى النازل مني على لسان الأنبياء { أوف بعهدكم } من إرجاعهم إلى المقام الأصلي الذي أنتم فيه قبل هبوطكم إلى طار المحن، وبعد رجوعكم إليه في النشأة الأخرى، لا يبقى لكم خوف من الأغيار، بل رهبة من سطوة سلطنتي { و } عند عروجها { إيي } لا إلى غيري { فارهبون } [البقرة: 40] فارجعون؛ لأوانس معكم وأزيل رهبتكم.
{ و } علامة وفائكم بعهدي هي الإيمان { آمنوا } على وجه الإخلاص والإيقان { بمآ أنزلت } من فضلي على كل واحد من رسلي بالقرآن المنزل على الحضرة الختمية الخاتمية، المؤيد بالدلائل القاطعة والحجج الساطعة والمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة مع كونه { مصدقا لما معكم } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين، مشتملا على ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ والحقائق مع لطائف أخر خلت عنها جميعها، وبعد ظهور المنزل به وادعاء من أنزل عليه الرسالة والإهداء { ولا تكونوا أول كافر به } أي: لا تكونوا مبادرين على الكفر بالمهدي وما هدى به، بل كونوا أول من آمن به وصدق بما جاء به من عند ربه، فانتهزوا الفرصة للإيمان ولا تغفلوا عنه { و } بعد نزوله وظهوره { لا تشتروا } ولا تستبدلوا { بآيتي } المنزلة على أنبيائي { ثمنا قليلا } من المزخرفات الفانية { و } إن عسر عليكم ترك هذا الاستبدالا لميل نفوسكم إليه بالطبع { إيي } عند عروض ذلك { فاتقون } [البقرة: 41] لأحفظكم عنه وأسهله عليكم.
{ ولا تلبسوا الحق } الظاهر الثابت { بالبطل } الموهوم الزخرف للضعفاء الذين تمييز لهم { و } لا { تكتموا الحق } أيضا في نفوسكم { وأنتم تعلمون } [البقرة: 42] حقيقته عقلا وسمعا.
[2.43-48]
{ و } بعدما آمنتم بالله وكتبه المنزلة على رسله ذهبتم عما نهيتم { أقيموا الصلوة } أديموا الميل والتقرب إلى جنابه، وتوجهوا نحو بابه بجميع الأعضاء والجوارح، قاصدين فيه تخلية الظاهر والباطن عن الشواغل النفسية، والعوائق البدنية المانعة من الميل الحقيقي { وآتوا الزكوة } المطهرة لنفوسهم عن العلائق الخارجية، والعوارض اللاحقة المثمرة لأنواع الأمراض في الباطن في البخل والحسد والحقد و غير ذلك { و } إن قصدتم التقرب والتوجه على الوجه الأتم الأكمل { اركعوا } تذللوا وتضرعوا إليه سبحانه { مع الركعين } [البقرة: 43] الذين خرجوا عن هوياتهم بالموت الإرادي، ووصلوا إلى ما وصلوا بل اتصلوا، لا مع الذين يراءون الناس، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، لذلك خاطبهم الحق سبحانه على سبيل التوبيخ، فقال:
{ أتأمرون } أيها المراءون المدعون لليقين والعرفان { الناس } على سبيل النص والتذكير { بالبر } المقرب إلى الله { وتنسون } أنتم { أنفسكم } من امتثال ما قلتم { و } الحال أنكم { أنتم تتلون الكتب } المشتمل على الأوامر والنواهي، فحقكم أن تمتثلوا بها أولا { أ } تلتزمون تذكير الغير، وأنتم في الغفلة { فلا تعقلون } [البقرة: 44] ثبيح صنيعكم هذا.
ولما أمرتم بعد الإيحاء بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المطهرين لنفوسكم ظاهرا وباطنا، فعليكم الإتيان بالمأمور على الوجه الأتم، ولا يتيسر لكم الإتيان بها على الوجه الذي ذكر بإدامة الاستعانة { و } المظاهرة من الخصلتين؛ لذلك أمر سبحانه باستعانتهما { استعينوا } في التوجيه والتقرب إلى الله { بالصبر } عن المستلذات الجسمانية والمشتهيات المزينة { والصلوة } الميل والإعراض عما سوى الحق ولا تسهلوا أمر الاستعانة ولا تخففوها { وإنها لكبيرة } ثقيلة شاقة على كل واحد { إلا على الخشعين } [البقرة: 45] الخاضعين.
{ الذين } يرفعون رين الغيرية عن العين، ويسقطون شين الاثنينية عن البين { يظنون أنهم ملقوا ربهم } في هذه النشأة؛ لأنهم يعبدون إليه كأنهم يرونه { و } يعلمون يقينا { أنهم إليه } لا إلى غيره؛ إذ لا وجود للغير { رجعون } [البقرة: 46] عائدون صائرون في النشأة الأخرى، اللهم اجعلنا من متبعيهم ومحبيهم.
ثم لما من عليهم بالنعم التي تظهر آثارها وثمراتها في العالم الروحاني بحسب النشأة الأخرى، من عليهم بالنعم التي ظهرت آثارها عليهم في العالم الجسماني بحسب النشأة الأولى، فناداهم أيضا مبتدئا مذكرا بقوله: { يبني إسرائيل اذكروا } ولا تكفروا { نعمتي التي أنعمت عليكم } وعلى أسلافكم { و } اعلموا { أني } بحولي وقوتي { فضلتكم على العلمين } [البقرة: 47] من أبناء نوعكم بفضائل أغنت شهرتها على إحصائها.
وبعدما ذكرتم النعم وعرفتم المنعم المفضمل، لا تغتروا بفضلي ولطفي بل احذروا من انتقامي وقهري { واتقوا يوما } تحشرون إلي للجزاء، وفي ذلك اليوم { لا تجزي } لا تسقط { نفس } مطيعة كانت أو عاصية { عن نفس } عاصية { شيئا } من جزائها وعذابها { و } أيضا { لا يقبل } فيها { منها } من النفس العاصية { شفعة } من شافع صديق حميم { و } كذا { لا يؤخذ منها عدل } لتمهل مدة { ولا هم ينصرون } [البقرة: 48] فيه بالأعوان والأنصار، بل كل نفس رهينة بما كسبت.
[2.49-53]
وبعدما ما أمرهم بتذكير النعم إجمالا، وحذرهم عن جواء الكفران، أشار إلى مقدار النعم العظام التي خصصوا بها امتنانا عليهم، فقال: { وإذ نجينكم } أي: أذكروا وقت إنجائنا إياكم { من آل فرعون } الذين { يسومونكم سوء العذاب } بعلمونكم ويفضحونكم بسوء العذاب الذي لا عذاب أسوأ منه وهو أنهم { يذبحون أبنآءكم } لئلا يبقى ذكركم في الدنيا؛ إذ بالابن يذكر الأب ويحيا اسمه؛ لأنه سره { و } أشنع من ذلك أنهم { يستحيون نسآءكم } بناتكم ليلحق العار عليكم، بتزويجهم إياهن بلا نكاح ولا عار أشنع من ذلك، لذلك عد موت النبات من المكرمات { وفي ذلكم } أي: واعلموا في المحن المشار إليها { بلاء } اختيار لكم { من ربكم عظيم } [البقرة: 49] ليجزيكم بنعمة أعظم منها، وهو إنجاؤكم منهم واستيلاؤكم عليهم.
وبعدما ابتليناكم باحتمال الشدائد والمتاعب، ومقاساة الأحزان أردنا إنجاءكم من عذابهم وإهلاكهم بالمرة، فأمرناكم بالسير والفرار من العدو ففرتم ليلا، فأصبحتم مصادفين البحر والعدو صادفكم.
{ و } اذكروا { إذ فرقنا بكم } أي: وقت تفريقنا بالفرق الكبيرة { البحر } المتصل في بعضه ليسهل عبوركم منه ونجاتكم منه، وبالجملة: { فأنجينكم } فعبرناكم منه سالمين { وأغرقنا آل فرعون } المقتحمين بالفور خلفكم باجتماع تلك الفرق واتصال البحر على ما هو عليه في نفسه { وأنتم } حينئذ { تنظرون } [البقرة: 50] إلى الافتراق والاجتماع المتعاقبة، فكيف لا تذكرونها وتشكرونها.
{ و } بعد إنجائكم من البحر سالمين، وإغراقهم بالمرة وإيراثنا لكم أرضهم وديارهم وأموالهم اذكروا { إذ وعدنا موسى } المتبحر في ضبط المملكة في أول الاستيلاء بأمر، قلنا له: إن أخلصت التوجه والرجوع والميل إلينا مدة { أربعين ليلة } متوالية متتالية - خصصها لخلوها عن الشواغل المانعة من الإخلاص - أنزلنا عليكم كتابا جامعا لمرتبتي الإيمان والعمل، حاويا على جميع التدابير والحكم الظاهرة والباطنة { ثم } لم اشتغل موسى بإنجاز الوعد، وإيفاء العهد فذهب إلى الميقات { اتخذتم العجل } الذي صوغتم بيدكم من حليكم بتعليم السامري، بسبب الخوار الذي ظهر منه ابتلاء لكم وفتنة إلها من دون الله، بل حصرتم الإلهية له بقولكم: هذا إلهكم وإله موسى، فأخلفتم الوعد { من بعده } أي: من بعد ذهاب موسى إلى الميقات، وقيل رجوعه منه { وأنتم } بسبب خلف الوعد والا تخاذ المذكور { ظلمون } [البقرة: 51] خارجون عن الإيمان والتوحيد، والعياذ بالله من ذلك.
{ ثم } لما تبتم ورجعتم إلينا عن صميم القلب { عفونا عنكم } أي: أزلنا عن ذمتكم جزاء ذلك الظلم الذي ظلمتم { من بعد } إنابتكم ورجوعكم { ذلك } وإنما أزلناه عنكم { لعلكم تشكرون } [البقرة: 52] رجاء أن تشكروا، أو تعظموا نعمة العفو الذي هو من آثار اللطف، والجمال المتفرع على الظلم المعفو عنه الذي هو من آثار القهر والجلال، فتكونوا من الشاكرين الذين يشكرون الله في السراء والضراء والخصب والرخاء.
{ وإذ } بعدما أخلفتم الوعد قبل تمامها، وظلمتم باتخاذ العجل لم نهمل أمر موسى، ولم نخلف الوعد الذي وعدنا معه اذكروا { آتينا موسى } إنجازا لوعدنا { الكتاب } الموعود، الجامع لأسرار الربوبية { والفرقان } الفارق بين الحق والباطل، وبين الضلالة والهداية { لعلكم } تقتدرون له { تهتدون } [البقرة: 53] به إلى طريق التوحيد وتجاهدون فيه إلى أن تخلصوا عن الشواغل المانعة عنا.
[2.54-57]
{ و } ولما أنجزنا وعد موسى ورجع إلى قومه غضبان أسفا اذكروا { إذ قال موسى لقومه } المؤمنين له والمعاهدين من بعد رجوعه عن الميقات والتورية: { يقوم } الناقضون بعهدي ، والمجاوزون لحدود الله { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } إلها مستحقا للعبودية { فتوبوا } عن هذا الاعتقاد والاتخاذ، وارجعوا متذللين { إلى بارئكم } الذي برأكم من المعدم ليبرأكم عن هذا الظلم، وإذا تبتم ورجعتم { فاقتلوا أنفسكم } الأمارة بهذا الظلم، بأنوا الرياضات وترك المشتهيات والمستلذات، وقطع المألوفات وترك المستحسنات الملومين عليها بأنواع الملامات، حتى تكون مطمئنة بما فتنتم بها، راضية بجريان حكم القضاء، مرضية بالفناء بل فانية عن الفناء { ذلكم } المشار إليه من الإنابة والرجوع وإبراء الذمة والإذلال بأنواع الرياضات والفناء المطلق أيضا { خير لكم عند بارئكم } خالقكم الذي خلقكم للتوحيد والعرفان، وإذا تحقق إنابتكم وأخلاصكم فيها { فتاب عليكم } قبل توبتكم ورضي عنكم { إنه هو التواب } الرجاع للعباد إلى التوبة والإنابة { الرحيم } [البقرة: 54] لهم بقبول التوبة وإن عظمت زلتهم.
{ و } اذكروا أيضا { إذ قلتم } لموسى عند دعوتكم إلى الإيمان والهداية: { يموسى } المدعي للرسالة، الداعي إلى الله بمجرد الإخبار { لن نؤمن لك } ولما جئت به من عند ربك { حتى نرى الله } المرسل { جهرة } ظاهرا من غير حجاب كما يرى بعضنا بعضا { فأخذتكم الصعقة } النازلة من عين قهرنا وغضنا لإنكاركم ظهورنا الذي هو أظهر من الشمس، بل الشمس إنما هي لمعة من لمعات ذاتنا { وأنتم } حين ترونها { تنظرون } [البقرة: 55] متحيرين والهين بلا تدبير وتصرف، إلى أن صرتم فانين مقهورين تحت قهرنا.
{ ثم بعثنكم } أحييانكم وأنشأناكم بالتجلي اللطفي { من بعد موتكم } وفنائكم بالقهر والغصب امتنانا لكم { لعلكم تشكرون } [البقرة: 56] نعمة الوجود والحياة بد الموت، وتعتقدون الحشر والموعود به يوم الجزاء وتؤمنون بنه.
{ و } اذكروا أيضا إذ { ظللنا عليكم الغمام } يوم لا ظل إلا ظله، وأنتم تائهنن في التيه في الصيف، بأن سار معكم حيث شئتم، ولا يزول ظله عنكم { و } مع ذلك أنعمناكم فيها بأعظم من ذلك بأن { أنزلنا عليكم } من جانب السماء { المن } التي الترنجبين لسكن حرارتكم { و } أنزلنا لغذائكم { السلوى } وهو السماني، أو مثله في النزول من جانب السماء، وأبحنا لكم تناولهما، ولا تكفروا بها بأن قلنا لكم: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } من خصائص النعم واشكروا لها { وما ظلمونا } بمنع المنافع ورد الفوائد { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [البقرة: 57] من الفوائد العائدة لنفوسهم من ازدياد النعم في إدامة شكرنا، والتقرب إلينا في إقامة حدودنا.
[2.58-60]
{ و } واذكروا ظلمكم أيضا { إذ قلنا } بعد خروجكم من التيه إشفاقا لكم وامتنانا عليكم { ادخلوا هذه القرية } التي هي من منازل الأنبيا والأولياء وهي بيت المقدس { فكلوا منها } من مأكولاتها ومشروباتها { حيث شئتم } بلا مزاحم ولا مخاصم { رغدا } واسعا بلا خوف من السقم حتى يتقوى مزاجكم ويزول ضعفكم، وبعد تقويتكم المزاج بالنعم ارجعوا إلينا وتوجهوا نحو بيتنا التي فيها { وادخلوا الباب سجدا } مذللين خاضعين، واضعين جباهكم ووجوهكم على الأرض، وعند سجودكم استغفروا ربكم من خطاياكم { وقولوا } رجاؤنا منك يا مولانا { حطة } أي: حط ما صدر عنا وجرى علينا من المعاصي والآثام، وإذا دخلتم كما أمرتم واستغفرتم كما علمتم { نغفر لكم خطيكم } التي جئتم بها واستغفرتم لها { وسنزيد المحسنين } [البقرة: 58] منكم، الذين لم يتجاوزوا الحد ولم يخالفوا الأمر الراضون الذي لا مرتبة أعلى منه.
ولما أمرناهم بالدخل على هذا الوجه، وعلمناهم طريق الدعاء والاستغفار خالف بعضهم المأمول ظلما وتأويلا { فبدل الذين ظلموا } بالخروج عن أمرنا، قولنا لهم لإصلاح حالهم { قولا } آخر لفظا ومعنى { غير الذي قيل لهم } بأن أرادوا من اقول الملقى إليهم لفظا آخر، ومعنى آخر برأيهم الفاسد وطبعهم الكاسد حطا سمتاتا؛ أي: حنطة حمراء، ولما لم يأتوا بالمأمور به ومع ذلك بدلوا إلى ما تهوى أنفسهم أخذناهم بها { فأنزلنا على الذين ظلموا } تنصيصا عليهم وتخصيصا لهم، لتعلم أن سبب أخذهم ظلمهم { رجزا } طاعونا نازلا { من السمآء بما كانوا يفسقون } [البقرة: 59] يخرجون عن حدود الله المنزلة من السماء بأنواع الفسوق والعصيان.
{ و } اذكروا أيضا { إذ استسقى موسى } وطلب السقي بإنزال المطر { لقومه } حيث بثوا شكواهم عنده من شدة العطش في التيه { فقلنا } له مشيرا إلى ما يترقب من مطلوبه بل يستبعده: { اضرب } ولا تستعبد { بعصاك } التي استعنت بها في الأمور والوقائع { الحجر } الذي بين يديك فتفطن موسى بنور النبوة للأمر الوجوبي ، فضربه دفعة { فانفجرت منه } فجأة { اثنتا عشرة عينا } متمايزة منفردة كل منها عن صاحبتها بعدد رءوس الفرق الاثني عشر بحيث { قد علم كل أناس } من كل فرقة { مشربهم } المعينة لهم دفعا للتزاحم والتنازع، ثم أمرناكم بما ينفعكم ظاهرا وباطنا بأن قلنا لكم: { كلوا واشربوا } مترفهين متنعمين { من رزق الله } الذي رزقكم من محض فضله ولطفه من حيث لا تحتسبون ونهيناكم عما يضركم صورة { و } معنى بأن قلنا لكم: { لا تعثوا } أي: لا تظهروا { في الأرض } خيلاء متكبرين { مفسدين } [البقرة: 60] فيها بأنواع الفسادات منتهزين بها، و
الله لا يحب كل مختال فخور
[لقمان: 18].
[2.61]
{ و } اذكروا أيضا { إذ قلتم } لموسى في التيه بعد إنزال المن والسلوى وانفجار العيون محولا خاليا عن الإخلاص والمحبة، ناشئا عن محض الفساد والغفلة وكفران النعمة: { يموسى } على طريق سوء الأدب معه { لن نصبر } معك في التيه { على طعام واحد } وهذا غير ملائم لمزاجنا وطباعنا { فادع لنا ربك } الذي ادعيت تربيته لنا { يخرج } يظهر ويهيئ { لنا } غذائنا { مما } من جنس ما { تنبت الأرض } التي هي معظم عنصرنا سواء كان { من بقلها } خضرواتها التي يأكلها الناس للتفكه والتلذذ بحرافتها وحموضتها ومرارتها الملائمة لمزاجه { وقثآئها } التي يتفكه بها لتبريد المزاج { وفومها } حنطتها التي يتقوت بها لشدة ملاءمتها مزاجه، لذلك ما أزل الشيطان أبانا آدم إلا بتناولها { وعدسها } المعد لهضم الغذاء { وبصلها } التي تشتهيها النفوس المنتفرة عن الحلاوة والدسومة.
فلما سمع موسى منهم ما قالوا آيس وقنط من صلاحهم وإصلاحهم { قال } في جوابهم موبخا لهم ومقرعا: { أتستبدلون } أيها الناكبون عن طريق الحق، المائلون إلى الهوى { الذي هو أدنى } المخرج من الأدنى { بالذي هو خير } وأعلى، المنزل من الأعلى، وأنا أستحي من الله سؤال ما سألتم { اهبطوا } انزلوا { مصرا } أرض العمالقة وديار الفراعنة { فإن لكم } فيه { ما سألتم } بالكد والفلاحة { و } بعدما ذلوا نفوسهم بطلب الأشياء الدنية الخسيسة { ضربت عليهم } أعلمت وختمت عليهم { الذلة } لخباثة نفوسهم وقساوة قلوبهم وتمكن النفاق في جبلتهم؛ لذلك ما ترى يهوديا إلا ذليلا في نفسه خبيثا في معاشه { و } ضربت عليهم أيضا { المسكنة } المذمومة المتفرعة على الذلة المتفرعة على الدناءة والخباثة { و } بعما ضربت عليهم الذلة { بآءو } صاروا مقارنين { بغضب } نازل { من الله } المطلع على ضمائرهم وسرائرهم { ذلك } السبب الموجب لنزول الغضب { بأنهم كانوا } لخبث طبيعتهم وشدة نفاقهم وضغينتهم { يكفرون بآيات الله } النازلة عليهم عطاء وامتنان { و } مع ذلك لا يقنعون بكفران النعم بل { يقتلون النبيين } المنبئين لهم عن قبح صنيعهم { بغير الحق } الذي ظهر عندهم من الخبائث الموجبة للقتل بل { ذلك بما عصوا } عصيانا فاحشا { وكانوا } في ذلك العصيان { يعتدون } [البقرة: 61] يتجاوزون حدود الله عنادا واستكبارا.
ولما بالغوا في الإعراض عن الله والتجاوز عن حدوده وكفران نعمه، وصاروا من إفراطهم مظنة ألا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح، تقاعد موسى - صلوات الله عليه - عن تبليغهم، وآيس عن اهتدائهم بالمرة.
[2.62-64]
ثم أشار سبحانه إلى أن منهم ومن أمثالهم من ذوي الأديان والملل من يهدي إلى الحق، ويتوجه إلى طريق مستقيم، فقال: { إن الذين آمنوا } بدين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { والذين هادوا } انقادوا بدين موسى عليه السلام { والنصارى } الذين آمنوا بدين عيسى عليه السلام { والصابئين } الذين تدينوا بدين نوح عليه السلام { من آمن بالله واليوم الآخر } أي: أيقن بوحدانية الله، وأقر بربويته، واعترف بأن لا موجد إلا الله الواحد الأحد، ومع ذلك صدق واعترف بيوم الجزاء { وعمل } عملا { صالحا } موافقا لما أمر، خالصا لوجه الله مخلصا فيه { فلهم أجرهم عند ربهم } الذي يوفقهم على التوحيد والإخلاص { ولا خوف عليهم } من العقاب والعذاب { ولا هم يحزنون } [البقرة: 62] عن سوء المنقلب والمآب.
{ و } اذكروا أيضا { إذ أخذنا ميثاقكم } أي: طلبنا منكم العهد الوثيق بأن تتبعوا موسى وتمتثلوا بأوامر كتابه وتجتنبوا عن نواهيه، فامتنعتم عن متابعته واستثقلتم ما في كتابه، فأنجيناكم إليه بأن أمرنا جبريل عليه السلام بقلع الجبل من مكانه { و } بعد قلعه { رفعنا } بتوفيقنا أياه { فوقكم الطور } معلقا عليكم وقلنا لكم في تلك الحالة: { خذوا مآ ءاتينكم } من الدين والكتاب { بقوة } بجد واجتهاد { واذكروا } جميع { ما فيه } على التفصيل لنفوسكم، وإن لم تأخذوا وتذكروا، سقط عليكم الجبل فنستأصلكم فعهدتم خوفا من سقوطه، وإنما فعلنا ذلك بكم { لعلكم تتقون } [البقرة: 63] لكي تحذوا عن قهرنا وانتقامنا.
{ ثم } لما أمهلناكم زمانا { توليتم } أعرضتم عن العهد { من بعد } ما أزلنا عنكم { ذلك } الخوف وأنتم في جبلتكم ظالمون، مجاوزون عن الحدود والعهود { فلولا فضل الله } المحيط { عليكم } بإرادة إيمانكم وإصلاحكم { ورحمته } الواسعة الشاملة لكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب { لكنتم } في أنفسكم { من الخاسرين } [البقرة: 64] الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة،
ألا ذلك هو الخسران المبين
[الزمر: 15].
[2.65-71]
وكيف لا تكونون من الخاسرين الناقضين للعهود، وأنتم قوم شأنكم هذا { و } الله { لقد علمتم } وخفظتم قصة { منكم في } تجاوزوا عن العهد { الذين اعتدوا } زمن داود عليه السلام واصطياد يوم { السبت } ذلك أنهم سكنوا على شاطئ البحر بقرية، يقال لها: أيلة، وكان معاشهم من صيد البحر فأرسل الله عليهم داود عليه السلام، فدعاهم فآمنوا له، وعهد الله معهم على لسان داود بألا يصطادوا في يوم السبت، بل تعينوها وتخصصوها للتوجه والتعبد، فقبلوا العهد وكانت حيتان البحر بعد العهد يحضرون في يوم السبت على شاطئ البحر ويخرجن خراطيمهن من الماء، ولما مضى عليها زمان احتالوا لصيدها بأن حفروا حياضا وأخاديد على شاطئ البحر وأحدثوا جداول منه إليها، فلما كان يوم السبت يفتحون الجداول ويرسلون الماء في الحياض واجتمعت الحيتان فيها، وفي يوم الأحدا يصطادونها منها، ونقضوا عهد الله بهذه الحيلة، قال الله تعالى: لما أمهلناهم زمانا ظنوا أنهم خادعوا ثم انتقمنا منهم { فقلنا لهم } إذا أفسدتم لوازم الإنسانية؛ أي: العهود والتكاليف أفسدنا أيضا إنسانيتكم { كونوا } صيروا في الساعة { قردة خاسئين } [البقرة: 65] مهانين مبتذلين، فسمخوا عن لوازم الإنسانية من العلم والإرادة والمعرفة والإيمان، ولحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها.
{ فجعلناها } أي: قصة مسخهم وشأنهم { نكالا } عبرة { لما بين يديها } من الحاضرين المشاهدين حالهم وقصتهم { وما خلفها } ممن يوجد بعد من المذكرين السامعين قصتهم وتاريخهم { وموعظة } وتذكيرا { للمتقين } [البقرة: 66] الذين يحفظون نفوسهم دائما عن أمثالها.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين من سوء معاملة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وقبح صنيعهم معه، ومجادلتهم بما جاء به من عند الله جهلا وعنادا ليتنبهوا ويتفطنوا على أن الإيمان بنبي يوجب الانقياد والإطاعة له، وترك المراء والمجدالة معه والمحبة والإخلاص معه، وتفويض الأمور إليه وهو إلى الله؛ ليتم سر الربوبية والعبودية والنبوة والرسالة والتشريع والتكاليف والتوسل والتقرب والوصول، وذلك { إذ قال موسى لقومه } حين حدثت الفتنة العظيمة بينهم وهي: إنه كان فيهم رجل من صناديدهم له أموال وضياع وعقار كثيرة، وله ابن واحد وبنوا أعمام كثيرة، فطمعوا في أمواله فقتلوا ابنه ليرثوه، وطرحوه على الباب، فأصبحوا صائحين فزعين يطالبون القاتل، فأراد الله تفضيحهم وتشهيرهم، فأمر موسى بأن قال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } فلما سمعوا قوله استبعدوه وتحيروا في أمرهم ومن غاية استبعادهم { قالوا } على طريق المعاتبة: { أ } تعتقد أنت يا موسى الداعي للخلق إلى الحق { تتخذنا هزوا } أي: تأخذنا باستهزاء وسخرية ونحن محل استهزائك مع أنه لا يلي بك وبنا { قال } موسى مستبعدا ومستعيذا: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [البقرة: 67] المستهزئين بالناس، بل ما أتبع إلا ما يوحى إلي.
فلما سمعوا استبراءه واستعاذته خافوا من الابتلاء فأوجس كلامهم خيفة في نفسه، لكونهم خائنين، واشتغلوا بتدبير الدفع، وشاوروا وأقر رأيهم على أن نووا في نفوسهم تلك البقرة المخصوصة المعلمة المعلومة عندهم بالشخص، وبعد ذلك سألوه عن تعيينه بأن { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أكبير أم صغير؟ { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض } كبير في السن { ولا بكر } صغير فيه بل { عوان } متوسط { بين ذلك } الصغر والكبر استكمل النمو ولا تميل إلى الذبول، وإذا تحققتم { فافعلوا ما تؤمرون } [البقرة: 68].
ثم لما ازداد خوفهم من الفضيحة بنزول الوحي متعاقبة زادوا في الاستفسار عن التعيين مكابرة وعنادا وتسويفا حيث { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } من الألوان المتعارفة المشهورة حتى نذبحها { قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع } أصيل في الصفرة كأنه وضع اسم الصفرة بإزائها أولا { لونها } كلون ذهب { تسر الناظرين } [البقرة: 69] والسرور عبارة عن الانبساط والانتعاش الحاصل للقلب عند الفراعنة عن جميع الشواغل، وفي تلك الحالة يتعجب عن كل ذرة بل عن نفسه، ويؤدي تعجبه إلى التحير، فإذا تحير غرق في بحر لا ساحل له ولا قعر، أدركنا يا دليل المتحيرين.
ثم لما جزموا الإلجاء وقطعوا النظر عن الخلاص، كابروا وعنادوا أيضا مبالغين فيها حيث { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي: ما هويتها وهيئتها الشخصية المعينة، وقل: { إن البقر } المأمور به { تشابه علينا } واستوصفناه منك وصفتها بالصفات المشتركة العامة { وإنآ إن شآء الله } تعيينه وتشخيصه لنا { لمهتدون } [البقرة: 70] بذبحها.
{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } عجف مهزول بسبب أنها { تثير الأرض } تقلبها للزراعة { ولا } ذلول بسبب ذلتها إنها { تسقي الحرث } بالدلو والسقاية بل { مسلمة } من صغرها عن أمثال هذه المذلات { لا شية فيها } لا علامة في أعضائها من ضرب العود والسوط وغيرها، بل تأكل وتمشي هونا بلا مصرف ومراع، ولما بالغوا في الاستفسار إلى أن بلغوا ما نووا في نفوسهم ألزموا وأفحموا و { قالوا الآن جئت بالحق } الثابت الكائن في الواقع وفي نيتنا واعتقادنا.
حكي أن شيخا صالحا من صلحائهم كانت له هذه العجلة المتصفة بهذه الصفات، فذهب بها إلى " أيلة " فأودعها عند الله وقال: اللهم إني استودعتها عندك لولدي حتى يكبر، ثم مات الشيخ وكانت تلك البقرة في حمى الله وحفظه حتى كبر الولد وحدثت تلك الفتنة فيما بينهم، فأمر الله بذبح تلك البقرة على سبيل الإلجاء، فاشتروها بملء مسكها ذهبا { فذبحوها } ملجئين مكرهين { و } لولا إلجاؤها إياهم وإكراهنا لهم { ما كادوا يفعلون } [البقرة: 71] لخوف الفضيحة وغلاء الثمن.
[2.72-74]
{ و } كيف تفعلونه وأنتم تعلمون أن سبب نزوله تفضيحكم وإظهار ما كتمتم في نفوسكم { إذ قتلتم نفسا } بغير حق { فادارأتم } وتدافعتم { فيها } أي: في شأنها بأن أسقط كل منكم قتلها عن ذمته وسترتم أمرها وهدرتم دمه { والله } المحيط بسرائركم وضمائركم { مخرج } مظهر { ما كنتم تكتمون } [البقرة: 72] في نفوسكم.
{ فقلنا } لكم بعد تدارئكم وتدافعكم وذبحكم البقرة المأمورة { اضربوه } أي: المقتول { ببعضها } أي: ببعض البقرة أي بعض كان، فضربوه فحيي بإذن الله، فأخبر بقاتله، ففضحوا وارتفعت المدارأة { كذلك } أي: مثل إحياء هذه المقتول بلا سبب تقتضيه عقولكم وترتضيه نفوسكم { يحيي الله } القادر على ما يشاء جميع { الموتى } في يوم الحشر والجزاء بلا أسباب ووسائل اقتضتها عقول العقلاء؛ إذ عنده الإبداء عين الإعادة والإعادة عين الإبداء، بل الكل في مشيئته على السواء { ويريكم } ظهوره من { آياته } الدالة على تحقيق وقوعه { لعلكم تعقلون } [البقرة: 73] رجاء أن تتفكروا ووتفطنوا منها إليه وتؤمنوا بجميع المعتقدات الشرعية الدنيوية والأخروية.
وصدقوها على وجه التعبد والانقياد وبلا مراء ومجادلة مع من أوتي بها من الرسل والأنبياء، ولا يتيسر لكم هذه المرتبة إلا بعد ذبحكم بقرة النفس الأمارة المسلطة بالوقة التامة عليكم، المتلونة بالألوان المسرة لنفوسكم وطباعكم، المسلمة الممتنعة من التكاليف الشرعية من الأوامر والنواهي، وضربكم بها على النفس المطمئنة المقهورة المقتولة ظلما لتصير حية بالحياة الأبدية، باقية بالبقاء السرمدي، فتخبركم وتذكركم عن صنائع أمارتكم الظالمة المتجاوزة عن الحدود، خلصنا الله من شرورها.
{ ثم قست } بالقساوة الأصلية { قلوبكم } المتكبرة المتحجرة الصلبة البليدة { من بعد ذلك } الإحياء الملين للقلوب الخائفة الوجلة عن خشية الله، وإذا لم تلن قلوبكم ولم يؤثر فيها { فهي } في الصلابة والقساوة { كالحجارة } التي لا تقبل النقر والأثر أصلا { أو أشد قسوة } أي: بل قلوبكم أشد صلابة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتأثر بالخير وقلوبك لا تتأثر أصلا { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } ويتأثر منها، وقلوبكم لا تتأثر بأنهار المعارف المتشعبة عن بحر الذات الجارية على جداول ألسنة الأنبياء صلوات الله عليهم { وإن منها لما يشقق } يتأثر بالشقوق في نفسها بتخليل بحر الدهور ومن مؤثر خارجي وإذا تشقق { فيخرج منه المآء } ويدخل فيه الماء، وقلوبكم لا تتأثر لا بنفسها ولا بالمؤثر الخارجي { وإن منها لما يهبط } ينزل من أعلى الجبل { من خشية الله } الناشئة عن ظهور الآيات مثل المطر الهاطل والريح العاصف والزلزلة القالعة وغير ذلك من الآيات الظاهرة في الآفاق، لا تتأثر بالآيات الباهرة النازلة عليكم ترغيبا وترهيبا.
هذا تقريع وتوبيخ لهم على أبلغ وجه وآكده، وحث على المؤمنين وتحذير لهم من ربكم أمثالها بأنهم مع قابليتهم على التأثر لا يقبلون الأثر النافع لهم في الدارين، والحجارة مع صلابتها وعدم قابليتها تتأثر فهم أسوأ حالا وأشد قساوة وصلابة منها، ومع ذلك يخادعون الله في الأمر بالستر والإخفاء، ويظنون غفلته { وما الله } المظهر لهم، المحيط بجميع مخايلهم وحيلهم { بغافل عما تعملون } [البقرة: 74] ولو طرفة ولمحة وخطرة.
ثم لما ذكر سبحانه امتنانه على بني إسرائيل وإنعامه إياهم بأنواع النعم، وذكر أيضا ظلمهم وعداونهم وكفرانهم نعمه، أراد أن ينبه على المؤمنين المحمديين المتمنين إيمان اليهود وانقيادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤاخاتهم مع المؤمنين بأن متمناكم وملتمسكم محال.
[2.75-77]
{ أ } لم تسعموا قصتهم، ولم تعرفوا خيانتهم ودناءتهم وزلتهم المضروبة عليهم وسوء معاملتهم مع نبيهم المبعوث عليهم { فتطمعون } وترجون { أن يؤمنوا لكم } أي: بنبيكم، ويصادقوا ويحاقوا ويتلوا معكم كلام الله مع علمكم بحالهم { و } لم تسعموا أنه { قد كان فريق منهم } من أسلافهم قوم { يسمعون كلام الله } النازل لهم، وفيه وصف نبينا صلى الله عليه وسلم فيضطربون ويستقلون بعثته { ثم } لما قرب عهده صلى الله عليه وسلم وظهر أمره، واستشعروا من أمارته أنه هو النبي الموعود في كتابهم { يحرفونه } أي: الكتاب، حسدا وعنادا ويغيرونه مكابرة { من بعد ما عقلوه } جزموه وحققوه أنه هو { وهم } أيضا { يعلمون } [البقرة: 75] مكابرتهم ومعاندتهم ويجزمونه في نفوسهم بحقيته، ويقولون في خلواتهم: إنا وإن كان النبي الموعود لكن لا نؤمن له؛ لأنه من العرب لا منا.
{ و } منهم من آمن وصدق ظاهرا لمصلحة دنيوية وهو على خباثته الأصلية ودنائته الجبلية، بل أخبث منها بحيث { إذا لقوا الذين آمنوا } وأخلصوا في إيمانهم { قالوا آمنا } برسولكم الذي هو الرسول الموعود في التوراة يقينا، وصدقنا جمع ما جاء به من عند ربه { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } أي: المنافقين مع المصرين { قالوا } أي : كل من الفريقين للآخر عند المشاورة وبث الشكوى: أترون أمر هذا الرجل كيف يعلو ويرتقي وما هو إلا النبي المؤيد الموعود في كتابنا؟ أي شيء تعلمون يا معاشر اليهود؟ { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } في كتابكم من وصفه { ليحآجوكم به } ويغلبوا عليكم ويتقربوا { عند ربكم } فالعار كل العار، أم تحرفون الكتاب ولا تسلمونه غيرة وحمية؟ { أفلا تعقلون } [البقرة: 76] تتفكرون وتتأملون أيها المتيدنون بدين الآباء في أمر هذا الرجل؟ هكذا جرى حالتهم دائما بأن قالوا بأمثال هذه الهذيانات إلى أن تتفرقوا.
قال لهم يا أكمل الرسل: { أولا يعلمون أن الله } المحيط بظواهركم وبواطنكم { يعلم } بالعلم الحضوري { ما يسرون } من الكفر والتكذيب عنادا ومكابرة { وما يعلنون } [البقرة: 77] من القول الغير المطابق للاعتقاد.
[2.78-81]
هذا حال علمائهم وأحبارهم { ومنهم أميون لا يعلمون } لا يعقلون ولا يفهمون { الكتاب } والإنزال والإرسال والدين والإيمان وجميع التكاليف الشرعية؛ لعدم ذكائهم وتفظنهم في الأمور الدينية الاعتقادية، بل ما يأخذونه { إلا أماني } كسائر الأماني الدنيوية؛ تقليدا لرؤسائهم ورهبانهم { وإن هم } ما هم في أنفسهم من الممترين في المعتقدات { إلا } أنهم { يظنون } [البقرة: 78] ظنا بليغا في تمييز علمائهم المحرفين للكتاب، وبسبب هذا الظن لم يؤمنوا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولما صار المحرفون ضالين في أنفسهم مضلين لغيرهم، استحقوا أشد العذاب.
{ فويل } حرمان عن لذة الوصول بعدما قرب الحصول أو طرد، وتبعيد عن ذروة الوجوب إلى حضيض الإنكار، أو عود وترجيع لهم في الحرية إلى الرقية الأبدية في النشأة الأخرى { للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } بعد تحريفهم بآرائهم السخيفة { ثم يقولون } لسلفتهم وجهلتهم ترويجا للمحرف { هذا } ما نزل { من عند الله } وإنما قالوا ذلك { ليشتروا به } نبسبته إلى { ثمنا قليلا } على وجه التحف والهدايا من الضعفاء الذين يظنونهم عقلاء أمناء في أمور الدين كما يفعل مشايخ زماننا، أنصفهم الله مع من يتردد إليهم من عوام المؤمنين.
ثم لما كانت الويل عبارة عن نهاية مراتب القهر والجلال، وغاية البعد عن مراتب اللطف والجمال كرره مرارا وفصله تحذيرا للخائنين المستوحشين عن طرده وإبعاده فقال : { فويل لهم مما كتبت أيديهم } من المحرفات الباطلة { وويل لهم مما يكسبون } [البقرة: 79] من القبوحات والمعاملات الخبيثة.
ومن جملة هذياناتهم مع ضعفائهم أنهم لما ظهر فيما بينهم واشتهر ما نزل في التوراة: إن الذين اتخذوا العجل ألها يدخلون النار، اضطرب الضعفاء من هذا الكلام، وضاق المحرفون من اضطرابهم أن يميلوا إلى الإسلام.
{ وقالوا } لهم تسكينا وتسلية: لا تخافوا ولا تضطربوا { لن تمسنا النار إلا أياما } قلائل { معدودة } أربعين يوما مقدار زمان عبادة العجل وأقل من ذلك { قل } لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا: أأنتم { أتخذتم } وأخذتم { عند الله عهدا } بألا يمسكم النار إلا أياما معدودة { فلن يخلف الله عهده } إن ثبت، فنحن أيضا من المصدقين المؤمنين { أم تقولون على الله } افتراء { ما لا تعلمون } [البقرة: 80] ثبوته عنده فيجازيكم بما افتريتم.
{ بلى } أي: بلى الأمر الحق المحقق الكلي الثابت عهده وجرى عليه سنته أن { من كسب سيئة } مشغلة مبعدة عن الحق { و } مع ذلك { أحاطت } شملت واحتوت { به خطيئته } خطاياه كلها إلى سيئة مبعدة { فأولئك } البعداء عن طريق الحق { أصحاب النار } نار البعد والخذلان لا ينجون ولا يخرجون منها أصلا بل { هم فيها خالدون } [البقرة: 81] دائمون لها ما شاء الله.
[2.82-85]
{ والذين آمنوا } واعتقدوا بوحدانية الله، وأيقنوا بألا وجود لغير الله { و } مع الإيمان والإيقان { عملوا } بالجوارح { الصالحات } المترتبة على هذا الاعتقاد المستلزمة إياه { أولئك } المقربون الواصلون إلى ما يصلون { أصحاب الجنة } القرب والوصول { هم فيها خالدون } [البقرة: 82] متمكنون ما شاء الله، ولا مرمى وراء الله، ولا مقصد سوى: لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين أيضا قصة { إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي: العهد الوثيق من بني إسرائيل المفرطين في بعض العهود والمواثيق، بأن قلنا لهم: { لا تعبدون } أي: لا تتوجهون ولا تتقربون { إلا الله } الذي أظهركم من العدم ورتبكم ورباكم بأنواع اللطف والكرم، لكي تعرفون { و } لا تفعلون ولا تعاملون { بالوالدين } المربيين لكم باستخلاف الله إياهما إلا { إحسانا } محسنين معهما بخفض جناح الذل وبذل المال وخدمة البدن { و } مع ذلك كذا مع { ذي القربى } المنتمين إليهما بواسطتهما { و } لا يقهرون { اليتامى } الأطفال الذي لا متعهد لهم من الوالدين، بل تحسنون لهم وتتعطفون معهم { و } كذا مع { المساكين } الذين لا يمكنهم الكسب لعدم مساعدة إلا أنهم بالجملة { وقولوا للناس } أي: لجميع الأجانب المستغنين عن جميع الأمداد { حسنا } قولا حسنا هينا لينا مبينا عن المحبة والوداد.
{ و } لما أمرناهم ونهيناهم بما يتعلق بمبدئهم ومعاشهم أمرناهم أيضا بما يتعلق بمعادهم ورجوعهم إلينا، فقلنا لهم { أقيموا } أديموا { الصلاة } التي هي معراجكم الحقيقي إلى ذروة التوحيد { و } العروج إليها لا يتحقق إلا بترك العلائق وطرح الشواغل لذلك { آتوا الزكاة } المطهرة المزيلة عن نفوسكم محبة الغير والسوى، بل محبة نفوسكم الشاغلة عن الوصول إلى شرف اللقاء { ثم } لما اشتغلتم بالأمر والنواهي نقضتم العهود بأن { توليتم } أعرضتم عنها، ونبذتموها وراء ظهوركم { إلا قليلا منكم } وهم الذين ذكرهم الله في قوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا
[البقرة: 62] { وأنتم } قوم { معرضون } [البقرة: 83] شأنكم الإعراض عن الحق مستمرمين عليه.
{ و } كيف لا تكونون معرضين، اذكروا قبح صنيعكم وقت { إذ أخذنا ميثاقكم } بأن { لا تسفكون دمآءكم } أي: لا يسفك بعضكم دم بعض بلا موجب شرعي { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } أي: لا يخرج بعضكم بعضا من دياره تعديا وظلما { ثم أقررتم } طوعا، واعترفتم رغبة بهذا العهد { وأنتم } بأجمعكم { تشهدون } [البقرة: 84] تحضرون، وكلكم متفقون عليه.
{ ثم أنتم هؤلاء } الخبيثون الدنيئون، نقضتم العهد بعد توكيده بأن { تقتلون أنفسكم } بعضكم نفس بعض بغير حق { وتخرجون } أي: يخرج بعضكم { فريقا } بعضا { منكم من ديارهم } المألوفة إجلاء وظلما وأنتم بأجمعكم { تظاهرون } تعينون { عليهم } على المخرجين الظالمين { بالإثم } أي: الخصلة الفاحشة { والعدوان } أي: الظلم المتجاوز عن الحد { و } من جملة عهودكم أيضا: { إن يأتوكم } أي: يأتي بعضكم بعضا { أسارى } موثقين في يد العدو { تفادوهم } تعطوهم فديتهم وتنقذوهم من عدوهم تبرعا، فلا ينقضون هذا العهد مع أنه غير محرم عليك ترك فدائهم وينقضون العهد الوثيق المتعلق بالقتل والإخراج { و } الحال أنه { هو محرم عليكم إخراجهم } وقتلهم.
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب } وتوفون بعض العهد الثابت في الكتاب، وهو عهد الفدية { وتكفرون ببعض } وهو عهد عدم القتل والإجلاء مع أنه لا تفاوت بين العهود المنزلة من عند الله { فما جزآء من يفعل ذلك منكم } التفرقة بين عهود الله المنزلة في كتابه عتوا واستكبارا { إلا خزي } ذل يستكره جميع الناس { في الحياة الدنيا ويوم القيامة } القائمة للعدل والجزاء { يردون } هؤلاء الناقضون لعهد الله { إلى أشد العذاب } وهو قعر بحر الإمكان الذي لا نجاة لأحد منه { وما الله } المستوي على عروش الذرات الكائنة في العالم رطبها ويابسها، شهادتها وغيبها { بغافل } مشغول بشيء يشغله { عما تعملون } [البقرة: 85] أنتم بل شأنكم وحالكم وأعمالكم كلها عنده مكشوف معلوم له سبحانه بالعلم الحضوري، بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء فيها أصلا.
[2.86-88]
ولما ذكر سبحانه قبح معاشهم ومعادهم أراد أن ينبه على المؤمنين بأسباب مقابحهم وإعراضهم ليحذروا منها ويحترزوا عنها فقال مشيرا لهم: { أولئك } البعداء عن منهج الصدق والصواب هم { الذين اشتروا } استبدلوا واختاروا { الحياة الدنيا بالآخرة } الفانية غير القارة، بل اللاشيء المحض بالآخرة التي هي النعيم الدائم واللذة المستمرة والحياة الأزلية السرمدية { فلا يخفف عنهم العذاب } أي: عذاب الإمكان والافتقار لذلك { ولا هم ينصرون } [البقرة: 86] فيما هو متمناهم من الحوائج، بل دائما مفترضون محتاجون، مسودة الوجوه في النشأتين.
واذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين أيضا من قبح صنائعهم ليعتبروا: { ولقد آتينا موسى } المبعوث إليهم { الكتاب } أي: التوراة المشتملة على مصالحهم الدنيوية والأخروية فكذبوه، ولم يلتفتوا إلى كتابه { و } بعدما قضى وانقرض موسى { قفينا } أي: عقبناه { من بعده بالرسل } المرسلة إليهم، أولي الدعوات والآيات والمعجزات، فكذبوهم أيضا ولم يلتفتوا بما جاءوا به { و } بعد ذلك بزمان { آتينا } أيضا { عيسى } المبعوث إليهم { ابن مريم البينات } الواضحات المبينات لأمر معاشهم ومعادهم { و } مع ذلك { أيدناه } أي: خصصناه وقويناه { بروح القدس } بالروح المقدس عن رذائل الإمكان، فكذبوه أيضا، فأرادوا قتله ولم يظفروا عليه، ألم تكونوا أنتم أيها الناقضون للعهود والمواثيق { أفكلما جآءكم رسول } من الرسل من عند ربكم لإصلاح حالكم { بما لا تهوى } تحب وترضى { أنفسكم } اشتغلتم بما جاءوا به بل { استكبرتم } عليهم واستحقرتموهم { ففريقا كذبتم } كموسى وعيسى عليهما السلام { وفريقا تقتلون } [البقرة: 87] كزكريا ويحيى - عليهما السلام - والقوم الذين شأنهم هذا كيف يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح.
{ و } من غاية عداوتهم معك يا أكمل الرسل ومع من بايعك من المؤمنين أنهم { قالوا } حين دعوتكم إياهم إلى الإيمان والتصديق بالإسلام: لا نفقة حديثكم ولا نفهم كلامكم؛ إذ { قلوبنا } التي هي وعاء الإيمان والإذعان { غلف } مغلوف مغشاة بالأغطية الكثيفة لا يصل إليها دعوتكم وإخباركم قل لهم يا أكمل الرسل: لا غطاء ولا غشاوة إلا عنادكم وحديثكم وحسدكم على ظهور دين الإسلام وبغيكم عليه مع جزمكم بحقيته عقلا ونقلا { بل } قل لهم نيابة عنا: { لعنهم الله } أي: طردهم وبعدهم باسمه المنتقم { بكفرهم } أي: بسبب كفرهم المذكور في جبلتهم، لكونهم مقهروين تحت اسم المضل المذل، وإذا كانوا من مقتضيات اسم المضل { فقليلا ما } نزرا يسيرا منهم { يؤمنون } [البقرة: 88] يهتدون بطريق التوحيد إيفاء لحق الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، وهم الذين ذكرهم سبحانه في قوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا
[البقرة: 62] وبالجملة فلا يجرى منهم الإيمان.
[2.89-91]
{ و } أيضا من غاية عداوتهم وعتوهم وعنادهم وحسدهم على ظهرو دين الإسلام { لما جآءهم كتاب } مشتمل على الأحكام والمعتقدات والحقائق والمعارف جزموا أنه نازل { من عند الله } لتوافقه على ما في كتابهم وإعجازه عموم من تحدى معه ومع ذلك { مصدق لما معهم } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين { و } الحال أنهم { كانوا من قبل } ظهوره ونزوله { يستفتحون } يستنصرون بهذا النبي ودينه وكتابه { على الذين كفروا } بكتابهم ونبيهم ويقولون: سينصر ديننا بالنبي الموعود والدين الموعود { فلما جآءهم ما عرفوا } في كتابهم ونبيهم انتظروا له قبل مجيئه وافتخروا به على معاصريهم { كفروا به } حين مجيئه عنادا ومكابرة فاستحقوا بهذا الكفر والعناد طرد الله ومقمته وتبعيده عن طريق التوحيد وتخليده إياهم في جنهم الإمكان، نعوذ بالله من غضب الله { فلعنة الله } الهادي للكل إلى سواء السبيل نازلة دائما { على الكافرين } [البقرة: 89] المصرين على العناد، المستكبرين على العباد.
ثم لما ذكر سبحانه ذمائم أخلاقهم وقبائح أفعالهم، أراد أن يذكر كلاما مطلقا على وجه العظة والنصيحة في ضمن تعبيره وتقريعهم، ليتذكر به المؤمنون فقال: { بئسما اشتروا به أنفسهم } بما باعوا واستبدلوا به أنفسهم معارف نفوسهم أو شهدوها أو وصولها { أن يكفروا } أن يكذبوا من غاية خبائثهم وعنادهم { بمآ أنزل الله } على من هو أهل وقابل له؛ ليهدي به من ضل عن طريق الحق مع جزمهم أيضا بحقيته بلا شبهة ظهرت لهم، بل إنما يكفرون { بغيا } وحسدا على { أن ينزل الله } المستجمع المستحصر للقابليات والاستعدادات { من } محض { فضله } ولطفه بلا علة وغرض { على من يشآء من عباده } يختار ويريد من عباده الخلص، وهم الذين ارتفعت هوياتهم وتلاشت ماهياتهم واضمحلت وفنيت تعيناتهم، وصاروا ما صاروا لا إله إلا هو، ولما كفروا بالله وحدسوا لأنبيائه وبخلوا عن خزائن فضله { فبآءو } رجعوا مقاربين { بغضب } عظيم من الله المنتقم عن جريمتهم { على غضب } عظيم إلى ما شاء الله الظهور باسم المنتقم، وقل يا أكمل الرسل للمؤمنين: { وللكافرين } المستهينين بكتاب الله ودينه ونبيه { عذاب مهين } [البقرة: 90] لهم في الدنيا والآخرة، إهانتهم في الدنيا ضرب الذلة والمسكنة والجزية والصغار، وفي الآخرة حرمانهم عن الكمال الإنساني الذي يتوقع منهم، ولا عذاب أشد من ذلك.
ربنا اصرف عنا عذابك وقنا من سخطك.
{ و } من غاية استنكافهم واستكبارهم { إذا قيل لهم } كلاما صادقا يقبله كل العقول { آمنوا بما أنزل الله } في الواقع مطلقا { قالوا } في الجواب حاصرين: بل { نؤمن بمآ أنزل علينا } فقط، ولا تم الإنزال لغيرنا { و } لا يقتصرون عليه بل { يكفرون بما ورآءه و } إن كان { هو الحق } المطابق للواقع في نفسه وهم يعلمون حقيته، وإن كان { مصدقا لما معهم } من الكتاب، والحسد والعناد الراسخين في نفوسهم وطباعهم ومبالغتهم في العناد والإصرار على تكذيب هذا الكتاب مع أن الإيمان بأحد المتصدقين المتوافقين يوجب الإيمان بالآخر، يدل على ألا إيمان لهم بالتوارة أيضا، بل هم كافرون بها لدلالة أفعالهم وأعمالهم على الكفر بها وإن أنكروه { قل } لهم إلزاما يا أكمل الرسل: { فلم تقتلون } أيها المدينون بدين اليهود المؤمنون المصدقون بالتوراة { أنبيآء الله } الحاملين لها العاملين بها { من قبل إن كنتم } صادقين في أنكم { مؤمنين } [البقرة: 91] بها فثبت أنكم لستم مؤمنين بها حينئذ لتخلفكم عن مقتضاه وتكذيبكم من أنزل عليه، وإن أنكروه اذكر له:
[2.92-100]
{ ولقد جآءكم موسى بالبينات } الواضحات المبينات في التوراة المبينات لطريق التوحيد والإيمان، فكذبتم موسى عليه السلام على جميع بيناته بالمرة { ثم اتخذتم العجل } ألها { من بعده } أي من بعد ما ذهب موسى إلى الطور للفوائد الأخر المتعلقة لتكميلكم { وأنتم } قوم { ظالمون } [البقرة: 92] شأنكم العدول عن طريق الحق ومنهج الصواب.
{ و } إن أردت يا أكمل الرسل زيادة إلزامهم وإسكاتهم، اذكر لهم نيابة عنا وقت { إذ أخذنا } منكم أيها الناقضون لعهودنا والمنكرون لكتابنا { ميثاقكم } الذي واثقكم معنا ثم استثقلتموه وتركتموه { و } ألجأناكم على إيفائه بأن { رفعنا فوقكم الطور } معلقا وقلنا لكم استعلاء وتجبرا { خذوا } وامتثلوا { مآ ءاتينكم } على نبيكم من الأوامر والنواهي { بقوة } جد واجتهاد { واسمعوا } من المعارف والحقائق بسمع الرضا ونية الكشف { قالوا } ظاهرا: { سمعنا } ما أمرتنا به { و } قالوا خفية: { عصينا } عن الامتثال بها { و } سبب عصيانهم أنهم لدناءتهم وسخافة طبعهم { أشربوا } تداخلوا وتجبلوا وتطيبوا { في قلوبهم } التي هي محل الإيمان والتوحيد منازل العرفان واليقين { العجل } أي: محبة العجل المسترذل والمستقبح المستحدث من حليهم ما هي إلا { بكفرهم } بالله وبكتبه ورسله وحصرهم ظهرو الحق في مظهر مخصوص، ومع ذلك يدعون الإيمان بموسى { قل } لهم يا أكمل الرسل تقريعا لهم على وجه التعريض: { بئسما يأمركم به إيمانكم } من إنكار كتب الله وتكذيب رسلهم وقتلهم بغير حق واعتقادهم الشريك لله { إن كنتم } صادقين في كونكم { مؤمنين } [البقرة: 93].
ثم لما اشتهر بين الناس قولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وامتنع كثير من الناس القاصدين دين الإسلام وتغمم ضعفاء المسلمين أيضا من هذا الكلام، أشار سبحانه إلى دفعه مخاطبا لرسوله معكم: { قل } لهم نيابة عنا يا أكمل الرسل: { إن كانت } محصورة مسلمة { لكم الدار الآخرة عند الله } التي هي منازل الشهداء والسعداء ومقام العرفاء والأمناء { خالصة } خاصة مخصوصة { من دون } شركة { الناس } المنسوبين إلى الأديان الأخر { فتمنوا } عن صميم القلب ومحض الرغبة { الموت } المقرب لكم إليها والموصل إلى لذائذها، كما ينتمناه خلص المؤمنين بوحدانية الله في أكثر أوقاتهم.
قال المرتضى كرم الله وجهه: " لابن أبي طالب أشوق إلى الموت من الطفل بثدي أمه " ، وقال أيضا: " لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي " ، وقال أيضا:
أبربنا من كل خير وأرأف
جزى الله الموت عنا خيرا فإنه
ويداني إلى الدار التي هي أشرف
يعجل تخليص النفوس من الأذى
وقال عمار رضي الله عنه حين استشهد: " الآن ألقى الأحبة محمدا وصحبه " وأنتم أيضا تمنون الموت المقرب { إن كنتم صادقين } [البقرة: 94] في دعواكم.
{ و } الله { لن يتمنوه أبدا بما قدمت } كسبت { أيديهم } أنفسهم من الحرص وطول الأمل والاستلذاذ باللذات الحسية والوهمية من الجاه والمنزل والمكانة بين الناس، والاستكبار عليهم، ألا تراهم يتوجهون ويرجعون إلى الله عند نزول البلاء المشعر بتعجيل الموت المقرب استكشافا، وإذا كشف ولو على ما هم عليه مدبرين؟! { والله } المحيط بسرائرهم وضمائرهم { عليم بالظالمين } [البقرة: 95] القائلين بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
{ و } الله يا أكمل الرسل، إن فتشت عن أحوالهم واستكشفت عن ضمائرهم { لتجدنهم } أي: اليهود وجدانا صادقا { أحرص الناس على حياة } دائمة مستمرة من نوع الإنسان عموما وخصوصا { ومن الذين أشركوا } واعتقدوا ألا حياة إلا في دار الدنيا، بل { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } ليزيد عليه ألفا آخر، وهكذا { و } الحال أنه بهذه المحبة { ما هو بمزحزحه } بمبعد نفسه { من العذاب أن يعمر } إلى غاية ما يتمناه ويحب، بل ما زاد إلا عذابا فوق العذاب { والله } المجازي لهم أعمالهم { بصير بما يعملون } [البقرة: 96] أي: بجميع أعمالهم في جميع أعمارهم بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.
لم لما ظهر الإسلام وترقى أمره وارتفع قدره واشتهر إنزال القرآن الناسخ لجميع الأديان اضطرب اليهود ووقعوا فيما وقعوا، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن أنزل عليه من الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم: أخونا جبريل - صلوات الرحمن عليه - قالوا: هو عدونا القديم، ليس هذا أول ظهوره بالعداوة، بل ظهر علينا بالعداوة من قبل مرارا، وهو بصدد نسخ ديننا.
قال سبحانه وتعالى مخاطبا لنبيه: { قل } يا أكمل الرسل { من كان عدوا لجبريل } أي: لمن يدعي عداوة أمايننا جبرائيل بواسطة إنزال القرآن، أولئك لا وجه لاتخاذكم جبرائيل عدوا { فإنه } إنما { نزله } أي: القرآن { على قلبك } يا أكمل الرسل الذي هو وعاء الإيمان والإسلام ومهبط الوحي والإلهام { بإذن الله } المنزل إلقاء إليه، وأمره إياه بتنزيل لا من عند نفسه حتى يتخذوه عدوا، وإن اتخذوه عدوا فاتخذوا الله المنزل عدوا مع أنه لا وجه للعداوة أصالا؛ لكون المنزل عيه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب المنزلة { وهدى } يهتدي به إلى طريق الإيمان والتوحيد { وبشرى } بالنعيم الدائم الباقي { للمؤمنين } [البقرة: 97] المهتدين به، جعلنا الله ممن اقتضى أثرهم.
قل لهم أيضا يا أكمل الرسل: { من كان عدوا لله } ينقض عهوده، وعدم الامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه { وملائكته } بنسبتهم إلى أشيائهم منزوهون عنها { ورسله } بالتكذيب والقتل والاستهزاء والإهانة، وخصوصا من الملائكة { وجبريل وميكل } كلا الأمينين عند الله بنسبة الخيانة والعداوة إليهما فهو كافر بالله بثبوت واحد منهما { فإن الله عدو للكافرين } [البقرة: 98] بكفرهم وإصرارهم وعنادهم.
{ و } من جملة كفرهم وعنادهم أنهم { لقد أنزلنآ } من غاية لطفنا وجودنا { إليك } يا من وسعت مظهريته جميع أوصافنا وأخلاقنا { آيات } دلائل { بينات } واضحات لطريق المعرفة والإيمان والتوحيد والإيقان فكفروا بها وكذبوها { وما يكفر بهآ } مع وضوحها وجلائها { إلا الفاسقون } [البقرة: 99] الخارجون عن ربتة العبودية؛ لعدم الانقياد بالكتاب والنبي بل بالإنزال بل بالمنزل ألم يكونوا فاسقين دائما؟!
{ أوكلما عاهدوا عهدا } وثيقا مؤكدا { نبذه } نقضه { فريق منهم } لفسقه ثم سرى نقضه إلى الكل فنقضوا جميعا { بل أكثرهم لا يؤمنون } [البقرة: 100] ينقادون بالعهد والكتاب والنبي أو أمره.
[2.101-106]
{ و } أيضا من جملة عتوهم أنهم { لمآ جآءهم رسول } مرسل { من عند الله } المرسل للرسل لهداية الناس إلى التوحيد مع أنه { مصدق لما معهم } من الكتب المنزلة على الرسل، الهادي لارتفاع التعدد والاختلاف عن أهل التوحيد مع أن مجيء هذا الرسول منزل مثبت في كتابهم الذي يدعون الإيمان به { نبذ } طرح { فريق من الذين أوتوا الكتب } وهو اليهود { كتب الله } هو التوراة التي أدعوا الإيمان بها { ورآء ظهورهم } ولم يلتفتوا إليه ولم يتوجهوا نحوه بل صاروا من غاية عداوتهم وعنادهم مع الرسول المبعوث { كأنهم لا يعلمون } [البقرة: 101] ولا يقرأون كتابهم أصلا.
{ و } بعدما نبذوا التوراة وراء ظهورهم؛ لاشتمالها على أوصافك وظهورك يا أكمل الرسل أخذوا في معارضتك بالسحر { اتبعوا ما تتلوا } تنسب وتفتري { الشيطين } المردة من الجن { على ملك سليمن } بأن استيلاءه وتسلطه وتسخير الجن والإنس والوحوش والطيور والريح، إنما تم بالسحر { و } الحال أنه { ما كفر } وسحر { سليمن } قط بل أمره على الوحي والإلهام الوارد الغيبي { ولكن الشيطين } يسترقون من الملائكة وينسبون الأمور إلى الوسائط أصالة، بواسطة ذلك { كفروا } وبعدما كفروا { يعلمون الناس السحر } أي: الذي يسترقن منهم { و } خصوصا ما يسترقون من { مآ أنزل على الملكين } المحبوسين { ببابل } المسميان: { هروت ومروت } مع أن المنزل إليهما مكر الله مع عباده وابتلاهم وفتنهم { وما يعلمان من أحد حتى يقولا } له طريقة وكيفية، بل يقول لمن ظهر له بالسحر: { إنما نحن فتنة } من الله وابتلاء لعباده { فلا تكفر } بنسبة الأمور إلينا، ولا تكفر بصدد التعليم أيضا { فيتعلمون } المسترقون { منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } مما يورث قطع المحبة والعلاقة المستلزمين لحفظ النسب إضرارا للدين والإيمان { و } الحال أنهم { ما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله } ومشيئته وتقديره؛ إذ لا يجرى في ملكه إلا ما يشاء.
وهم مع إذعانهم العلم والعقل { ويتعلمون ما يضرهم } ضرارا فاحشا في النشأة الأولى والأخرى { ولا ينفعهم } نفعا فيهما أصلا { و } الله { لقد علموا } أي: اليهود { لمن اشتراه } أي: استبدله؛ أي: كتاب الله بالسحر { ما له } للمستبدل { في الآخرة من خلق } نصيب لا متنعوا عن الاستبدال، لكنهم لم يعلموا فاستبدلوا، فثبت أنهم ليسوا من العقلاء العالمين، وبعدما عيرهم سبحانه بما عيرهم وجهلهم، كرر تعييرهم مبالغة وتذكيرا للمتذكرين بها، فقال مقسما: { و } الله { لبئس ما شروا } وأباحوا { به أنفسهم } حقائقها ومعارفها ولذاتها الروحانية بالسحر المبني على الكفر بالله وكتبه ورسله وملائكته؛ لأن المشهور من أصحاب السحر أن سحرهم لا يؤثر بالكفر والخباثة والكثافة { لو كانوا يعلمون } [البقرة: 102] يفهمون قباحته لما ارتكبوا، لكنهم لم يعلموا فارتكبوا، فثبت أيضا جهلهم وسخافتهم.
ومن غاية جهلهم أيضا أنهم يدعون الإيمان بالله وبالرسول والكتب { ولو أنهم آمنوا } يوما بالله وكتبه ورسله بلا تفريق بين الكتب والرسل { واتقوا } عن القبائح الأخروية جميعا بلا رخصة { لمثوبة } فائدة جليلة عائدة إليهم { من عند الله } عندهم { خير } من الدنيا ومزخرفاتها ولذاتها الفانية كما هو عند المؤمنين الموقنين بوحدانيته { لو كانوا يعلمون } [البقرة: 103] خيريته لم يكفروا بعده، لكنهم كفروا فثبت جهلهم وغباوتهم أيضا.
ثم لما سمع اليهود من المؤمنين قولهم: راعنا عند رجوعهم إليه صلى الله عليه وسلم في الخطوب، قالوا: هؤلاء ليسوا مؤمنين منقادين له مطيعين لأمره؛ لدلالة قولهم: راعنا، على أنك محتاج إلينا، فلك أن تراعنا حق الرعاية ولما كان فيه من إيهام سوء الأدب وإن كان غرضهم الترقب والالتفات، أشار سبحانه إلى نهيهم عن هذا القول رعاية لمرتبة حبيبه صلى الله عليه والسلام وتأديبا للمؤمنين فقال: { يأيها الذين آمنوا لا تقولوا } مع نبيكم عند الخطاب له { راعنا } وإن كان مقصودكم صحيحا، لكن العبارة توهم للمعنى الباطل، بل الأولى لكم والأليق بحالكم أن تخاطبوا رسولكم إكراما له وتعظيما { و } إن اضطررتم إلى الخطاب { قولوا } بدله { انظرنا } بنظر المرحمة والشفقية { واسمعوا } هذا القول بسمع الرضا والقبول وحافظوا عليه؛ لئلا تسيئوا الأدب معه { و } اعلموا أن { للكافرين } المغتنمين للفرصة في أمثال هذه الكلمات { عذاب أليم } [البقرة: 104] لهم في الدنيا والآخرة.
ثم لما عجزوا عن معارضتكم صريحا أخذوا في التلبيس والتخمين وادعاء المحبة والمودة على وجه النفاق؛ ليحفظوا دماءهم وأموالهم عنكم، ولا تغتروا أيها المؤمنون بودادهم ولا تسمعوا منهم أقوالهم الكاذبة.
{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم } لإصلاح حالكم وزيادة إنعامكم وإفضالكم { من خير } وحي نازل { من ربكم } الذي اختاركم واصطفاكم على جميع الأممم بغضا وحسدا مركوزا في طباعهم، وبخلا على ما أعطاكم الله من الخير { و } لم يمكنهم منع إعطائه تعالى إذ { الله يختص برحمته } الواسعة ونعمته العامة الشاملة { من يشآء } من خلص عباده بلا علة وغرض ومرجح ومخصص، بل مع اختيار وإرادة بلا إيجاب وتوليد كما ظنه المعتزلة والحكماء الناقدون للبصيرة في الإلهيات والنبوات
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40] { و } لا تشكوا في سعة رحمته وفضله بحرمان البعض؛ إذ { الله ذو الفضل العظيم } [البقرة: 105] يفضل وينعم على مقتضى مشيئته وحكمته ومصلحته المخيفة عن عقول العباد إلا من أطلعه الله على سرائر أفعاله من الكمل.
جعلنا الله من محبيهم ومتبعيهم بمنة ولطفه.
ثم أعلم أن الحوادث الكائنة في الآفاق كلية كانت أو جزئية، غيبا أو شهادة، وهما أو خيالا إنما هي بمقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية الكلية المشتملة كل منها على أوصاف جزئية غير متناهية بلا تكرر فما من حادثة حدثت في العالم إلا بوصف خاص الذي يخصه ويرتبه لا يوجد في غيره؛ لذلك قيل: " لا يتجلى في صورة مرتين؛ لئلا يلزم التكرار المنافي للقدرة الكاملة، ولا في صورة واحدة لاثنين؛ لئلا يلزم العجز عن إتيان الصورة الأخرى ".
وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: { ما ننسخ } نغير ونبدل { من آية } نازلة حاكمة في وقت وزمان يقتضيه نزولهنا في اسم مخصوص { أو ننسها } من القولب، كأنه لم ينزل من قبل { نأت بخير منها } أي: متى ننسخها أو ننسها، نأت بخير منها بحسب أقتضاء الزمان الثاني والاسم الخاص له؛ إذ سريان الوجود دائما على الترقي في الكمال { أو مثلها } إذ التجدد ظاهرا إنما يكون بالمثل والمعاد مثل المبدأ، ثم استفهم لحبيبه؛ تذكيرا وعظة للمؤمنين فقال: { ألم تعلم } يقينا { أن الله } المتجلي بالتجليات غير المتناهية { على كل شيء } من الإجراء والإعادة والإنزال والتغيير { قدير } [البقرة: 106] لا تنتهي قدرته عند المراد بل له التصرف فيه ما شاء بالاختيار والإرادة.
[2.107-109]
{ ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض } يتصرف فيهما كيف يشاء، كما يشاء، متى يشاء بلا فتور ولا فطور، هذا في الآفاق { و } ارجعوا إلى أنفسكم، واعلموا أنه { ما لكم } في ذواتكم وهوياتكم { من دون الله } المحيط بكم وبجميع أوصافكم { من ولي } يولي أموركم { ولا نصير } [البقرة: 107] يعين عليكم من دونه بل هو محيط هوياتكم وماهياتكم كما أخبر به سبحانه في قوله:
" كنت سمعه... وبصره... ويده... ورجله... ".
أتسلمون وتفوضون أموركم إلى الله ورسوله أيها المؤمنون المسلمون، وتقبلون دين الإسلام تعبدا { أم تريدون } وتقصدون { أن تسألوا } وتقترحوا عن سرائر الآيات النازلة عليكم لإصلاحكم حالكم عنادا ومكابرة { رسولكم كما سئل موسى من قبل } عن الآيات النازلة لإصلاح بني إسرائيل مما نزل من آية إلا ويسألوه على وجه الإلحاح والاقتراح، فيجازيهم الله على مقتضى اقتراحهم، وإن اقترحتم كما اقترحوا يجازيكم الله كما جازاهم { و } اعلموا أن { من يتبدل الكفر } الموهوم المذموم { بالإيمان } المحقق المجزوم { فقد ضل سوآء السبيل } [البقرة: 108] طريق الحق المستقيم الموصل إلى التوحيد كما ضل بنو إسرائيل بمخالفة كتاب الله وتكذيب رسله.
ثم اعلموا أيها المؤمنون أنه { ود كثير من أهل الكتاب } خصوصا اليهود والنصارى { لو يردونكم } بأنواع الحيل والنفاق { من بعد إيمانكم } بالله وكتبه ورسله { كفارا } مردين واجب القتل والمقت عند الله، وليس ودادتهم كفركم لغايى تصلبهم في دينهم ونهاية غيرتهم عليه بل { حسدا } لكم ناشئا { من عند أنفسهم } من غاية عداوتهم معكم { من بعد ما تبين } ظهر { لهم } أن دينكم { الحق } المطابق للواقع بشهادة كتابهم ونبيهم، وإذا فهمتم أمرهم وعرفتم عداوتهم { فاعفوا } عن الانتقام والعقوبة { واصفحوا } أعرضوا عن التعبير في التقريع واصبروا { حتى يأتي الله } باسمه المنتقم { بأمره } المبرم من ضرب الذلة والمسكنة والغضب عليهم دائما { إن الله } المتجلي باسم المنتقم { على كل شيء قدير } [البقرة: 109] من أنواع الانتقامات قدير على الوجه الأصعب الأشد.
[2.110-113]
{ و } بعدما فوضتم أموركم إلى الله، واتخذتموه وكيلا حفيظا لكم عن أدائكم { أقيموا الصلاة } رابطوا ظواهركم وبواطنكم إليه سبحانه دائما على وجه التذلل والخضوع والانكسار والخشوع { وآتوا الزكاة } طهروا قلوبكم عن الميل إلى ما سوى الحق { و } اعلموا أن { } ما تقدموا في هذه النشأة { لأنفسكم من خير } من التوجه الدائم والإعراض الدائم عن محبة الغير { تجدوه عند } ظهور توحيد { الله } وتجريده وتفريده على قلوبكم { إن الله } المحيط بذواتكم { بما تعملون } من خير { بصير } [البقرة: 110] عليم خبير.
{ و } من جملة حيلتهم معكم ووداداتهم كفركم أنهم { قالوا } لكم على وجه العظة والتذكير { لن يدخل الجنة } من أهل الأديان { إلا من كان هودا أو نصارى تلك } المهملات ما هي إلا { أمانيهم } التي يخرمونها في نفوسهم بلا كتاب ولا دليل، وإن ادعوا الدليل { قل } له يا أكمل الرسل إلزاما: { هاتوا } أيها المدعون { برهانكم } من آيات الله وسنن رسله { إن كنتم صادقين } [البقرة: 111] في دعوة الاختصاص.
قل لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإخلاص لا وجه لدعوى اختصاص الجنة لا منكم ولا منا: { بلى } أي: بل مبنى الأمر على أن { من أسلم وجهه } وسلم وجهه المنسوب إليه مجازا { لله } المنسوب إليه حقيقة { وهو } في نفسه { محسن } عارف مشاهد { فله أجره } مرجعه ومقصده { عند } مرتبة { ربه } المخصوص له { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 112] لغنائهم عن قابلية الخوف والحزن ومقتضيات الطبيعة وبقائهم بمرتبة ربهم.
{ و } من عدم تفطنهم للإيمان والإذعان وعدم تنبههم على طريق التوحيد و العرفان { قالت اليهود }: الدين ديننا والكتاب كتابنا والنبي نبينا { ليست النصارى على شيء } في أمر الدين، بل هم ضالون عن طريق الحق، لا يهتدون النبي أصلا إلا أن يؤمنوا بديننا { و } أيضا { قالت النصارى }: ديننا حق وشريعتنا مؤيدة ونبينا مخلد { ليست اليهود على شيء } في الدين والإيمان، بل الدين ديننا { و } الحال أن { هم } أي: كلا الفريقين { يتلون الكتاب } المنزل على نبيهم، ويدعون الإيمان والإذعان، ومع ذلك لم يخلصوا من الجهل والعناد، ولم ينتبهوا على التوحيد المزيح للاختلاف ، المشعر للوفاق والاتحاد، بل فرق بينهم وبين المشركين النافيين للصانع؛ إذ { كذلك قال الذين لا يعلمون } الكتاب والنبي والدين والإيمان { مثل قولهم } بأن الحق ما نحن عليه بلا كتاب ولا نبي؛ لأن الإنسان مجبول على تجريح ما هو عليه سواء كان حقا أو باطلا، صلاحا أو فسادا، والأنبياء إنما يرسلون ويبعثون؛ ليميزوا لهم الحق عن الباطل والصالح عن الفاسد، وهم مع بعثة الرسل إليهم سواء كان مع المشركين الذين لا كتاب لهم ولا نبي { فالله } المحيط بسرائرهم وضمائرهم { يحكم بينهم } على مقتضى علمه بأعمالهم وأحوالهم { يوم القيامة } المعد لجزاء الأعمال { فيما كانوا فيه يختلفون } [البقرة: 113] على مقتضى آرائهم وأهوائهم فيجازيهم بمقتضى ما يعملون ويعلمون.
[2.114-117]
{ ومن } على الله المظهر للعباد ليعرفوه، ويتوجهوا نحوه في الأمكنة المعدة للتوجه { أظلم ممن منع مساجد الله } الموضوعة { أن يذكر فيها اسمه } أي: يذكر فيها أساؤه، والمؤمنون الموقنون بأسمائه الحسنى { و } مع المنع { سعى في خرابهآ } ليستأصلها ويخرجها عما يعدله { أولئك } المشركون { ما كان لهم أن يدخلوهآ } لنجاستهم وخباثتهم، وإن دخلوها لحاجة أحيانا لا بد لهم أن يدخلوها { إلا خآئفين } خاضعين متذللين مستوحشين، بحيث لم يتوجهوا يمنة ويسرة استحياء من الله، بل منكوسين رءوسهم على الأرض إلى أن يخرجوا، قل يا أكمل الرسل نيابة عنا: { لهم في الدنيا خزي } [البقرة: 114] حرمان عن الكمال الإنساني يكفرهم وظلمهم.
{ و } قل للمؤمنين يا أكمل الرسل تسلية لهم: لا تغتموا على منعهم منا وسعيهم في تخريبها، ولا تحصروا توجهكم إلى الله في الأمكنة المخصوصة، بل { لله } المتجلي في الآفاق { المشرق والمغرب } فهما كنايتان عن طرفي العالم { فأينما تولوا } توجهوا نحوه { فثم وجه الله } أي: ذاته؛ إذهو منتهى الجهات محيط بها { إن الله واسع } أجل من أن تحيط به القلوب إلا من وسعه الله بلطفه كما أخبر سبحانه بقوله: " لا يسعني أرضي ولا سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن " { عليم } [البقرة: 115] لا يغيب عن علمه شيء، وحيث اتجهتم نحوه علمه قبل توجهكم، بل توجهكم عين توجهه فلا يتوجه إليه إلا هو ، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه.
ومن غاية جهلهم بالله الواسع العليم الذي لا يسعه الأرض والسماء
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255] حصروه سبحانه في شخص وتخيلوه جسما، وأثبتوا له لوازم الأجسام { وقالوا اتخذ الله ولدا } قتل وإجلاء وسبي وذلة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } كعيسى وعزير عليهما السلام { سبحنه } وتعالى، عز الصمد الذين شأنه
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] أن يتخذ صاحبة وولدا { بل له } مظاهر { ما في السموت و } مظاهر { الأرض } ليظهر عليها ويتجلى لها؛ إظهارا لكمالاتها المترتبة على صفاته المندرجة في ذاته ونسبته تعالى إلى جميع المظاهر في التكوين والخلق على السوى من غير تفاوت، وعيسى وعزير - عليهما السلام - أيضا من جملة المظاهر، ومرجع جميع المظان إلى الظاهر؛ إذ { كل له قانتون } [البقرة: 116] خاضعون منقادون مقرون على ما هم عليه قبل ظهورهم من العدم مقرون بأنه:
{ بديع } مبدع { السموت والأرض } من العدم بلا سبق مادة وزمان { و } من بدائع إبداعه أنه { إذا قضى } أراد أن يوجد { أمرا } مما في خزائن علمه ولوحه المحفوظ وكتابه المبين { فإنما يقول له } إمضاء لحكمه ونفاذا لإرادته { كن فيكون } [البقرة: 117] بلا تراخ ولا مهلة، بحيث لا يسع التعقيب أيضا إلا لضيق التعبير، والألفاظ بمعزل عن أداء سرعة نفوذ القضاء.
[2.118-121]
ثم لما ظهر واشتهر أن القرآن ناسخ للكتب السالفة مع كونه مصدقا لها، ناطقا بأنها منزلة من عند الله على الرسل الماضين الهادين إلى طريق الحق، وأن حكم الناسخ ماض باق، وحكم المنسوخ مضى ولم يبق أثره، مع أن كلا منهما حكم الله في زمانين { وقال الذين لا يعلمون } لا يعرفون ظهور الله وتجلياته بحسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا في كل آن وشأن: لا نقبل هذ الحكم ولا نؤمن به { لولا يكلمنا الله } مشافهة، بأن هذا ناسخ راجح وذاك منسوخ مرجوح { أو تأتينآ } على الله من يدعي الرسالة { آية } ملجئة تدل على هذا الحكم بلا احتمال آخر، ولولا هذا ولا ذاك لم نقبله ولم نؤمن به، ولا تستبعد يا أكمل الرسل منهم هذا القول؛ إذ { كذلك قال الذين } كفروا للأنبياء الماضين { من قبلهم مثل قولهم } بلا تفاوت بل { تشابهت قلوبهم } المنكرة المخمرة لهذه الأباطيل، المموهة مع أنا { قد بينا الآيات } المنزلة الدالة على توحيدنا { لقوم } ذوي قلوب صافية عن كدر الإنكار { يوقنون } [البقرة: 118] بها سواء الآيات الظاهرة على الآفاق والأنفس، وهم لا نهماكهم في كدر الإمكان والإنكار لا يرجى منهم الإيمان والإقرار.
{ إنا } من مقام جودنا { أرسلناك } يا أكمل الرسل ملتبسا { بالحق بشيرا } إلى طريقه { ونذيرا } عن طريق الباطل { و } وإن لم يبششروا ولم ينذروا بعدما بلغت إليهم التبشير والإنذار { لا تسأل } أنت { عن } إعراض { أصحاب الجحيم } البقرة: 119] المجبولين على الكفر والعناد.
{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } بمجرد المؤانسة وإظهار المحبة وإرخاء العنان { حتى تتبع ملتهم } التي ادعوا حقيتها وهدايتها، بل حصروا الهداية عليها { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما على وجه التذكير النصح: { إن هدى الله } الذي يهدي به عباده { هو الهدى } النازل من عنده، وهو دين الإسلام، فاتبعوه لتهتدوا { ولئن اتبعت } يا أكمل الرسل، ومن تبعك بعد يأسكم في اتباعهم بكل { أهوآءهم } الباطلة { بعد الذي جآءك من العلم } من لدنا على هدايتك وإهداء من تبعك { ما لك من } عند { الله } الهادي للكل إلى سواء السبيل { من ولي } يحفظك من الضلال { ولا نصير } [البقرة: 120] يدفع عنك المكاره.
قال سبحانه: { الذين آتيناهم الكتب } واصطفيناهم من بين الأمم بإرسال الرسل، وهم { يتلونه } أي: الكتاب، متأملا متدبرا مما يشتمل عليه من الأمور والنواهي والمعارف والحقائق، مراعيا { حق تلاوته } بلا تحريف ولا تبديل { أولئك يؤمنون به } وبما فيه من الأحكام والآيات والأخبار { ومن يكفر به } بتحريفه أو تبديله إلى ما تهوى أنفسهم { فأولئك } المحرفون المغيرون كتاب الله لمصلحة نفوسهم { هم الخسرون } [البقرة: 121] الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة بسبب تحريف كتاب الله وتبديله.
[2.122-125]
ثم لما خاطب سبحانه بني إسرائيل أولا بإيفاء العهد الذي هو شعار الإيمان، وما يتعلق بإيفاء العهد من الرجوع إليه ، والإيمان بكتبه ورسله وعدم المبادرة إلى الفكر، وعدم استبدال آيات الله الدالة على ذاته علما وعينا وحقا بالمزخرفات الفانية التي لا مداد لها أصلا، وعدم لبس الحق الظاهر المكشوف المحقق بالباطل الموهوم المعدوم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة المنبئين من التوجه الفطري، والرجوع الحقيقي الأصلي، الركوع والخشوع على وجه التذلل والانكسار، إلى أن يصل إلى الفناء في ذاته بل إلى فناء الفناء لينعكس البقاء.
ثم عبر سبحانه تعبيرا فوق تعبير على الناسين نفوسهم في الغفلة بلا توجه ورجوع، ثم أمر خلص عباده باستعانة الصبر المورث للتمكين، والصلاة المشعر بالتوجه التام المسقط لجميع الآثام، هذا لتصفية ذواتهم.
ثم خاطبهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بشكر نعم تفضيلهم وتكريمهم على بني نوعهم بأنواع الكرامات الدينية والدنيوية.
ثم حذرهم وخوفهم عن يوم الجزاء على وجه المبالغة والتأكيد؛ لتصفية أوصافهم في معاشهم في النشأة الأولى.
ثم لما ذكر سبحانه كفرانهم وطغيانهم وعدم انقيادهم بالكتب والرسل، وتكذيبهم وقتلهم وخبث طينتهم ودناءة طبعهم، وقساوة قلبهم وشدة عداوتهم مع المؤمنين، وقبح صنيعهم مع الأنبياء الماضين كرر خطابه سبحانه إليهم ثالثا بما سبق ثانيا، مبالغة وتأكيدا وتلطفا وإمهالا لهم؛ كي يتنبهوا، ومع ذلك لم يتنبهوا لخبث طينتهم، فقال: { يابني إسرائيل } المعرضين عني بأنواع الإعراضات، والمعترضين لآيأتي بأصناف الاعتراضات مضى ما مضى { اذكروا } واشكروا { نعمتي التي أنعمت عليكم } بفضلي وإحساني مع عدم شكركم وكفرانكم { و } خصوصا اذكروا من النعم نعمة الجاه والتفضيل على جميع البرايا؛ إذ { أني } بحولي وطولي { فضلتكم على العالمين } [البقرة: 122] من بني نوعكم، وامتثلوا أمري ولا تجاوزوا عن حكمي، واحذروا عن قهري وانتقامي.
{ واتقوا يوما } وصفه أنه { لا تجزي } لا تحمل { نفس } مطيعة { عن نفس } عاصية { شيئا } قليلا من اوزارها { و } مع ذلك { لا يقبل منها عدل } فدية حتى تتخلص بها { و } أيضا { لا تنفعها شفاعة } من شفيع حميم حتى يخفف عذابها لأجلها { } ولا هم ينصرون [البقرة: 123] بغيرهم في تحمل العذاب، بل ما يحمل رزاياهم إلا مطاياهم، ومع هذه المبالغة والتأكيد قليلا منهم يؤمنون بخلاف الملة الحنيفية البيضاء الجليلة ، فإنهم بأجمعهم يرجى منهم الإيمان بوحدانية الله إن أقاموا الصلاة إليه مخلصين إلا المصلين الذين هم في صلاتهم ساهون بما يلهيهم محبة المال والجاه عصمنا من ذلك.
ثم لما ذكر سبحانه قصة بني إسرائيل وإنعامه عليهم بأنواع النعم، وكفرانهم لنعمه من خبث طينتهم، أراد أن يذكر طيب طينة الملة الجليلة وصفاء عقائدهم واصطبارهم، وتحملهم على الاختبارات والابتلاءات الإلهية، فقال: { وإذ ابتلى } اي: واذكر يا أكمل الرسل وقت ابتلاء أبيك { إبراهيم ربه } الذي ابتلاه واختبر خليله بأنواع البلاء من النار والمنجنيق وذبح الولد وإجلاء من الوطن وغير ذلك من البليات النازلة عليه { بكلمات } صادرة من ربه حين أراد اختباره { فأتمهن } على الوجه الذي صدر قصور ولا فتور تتميما لمرتبة الخلة والخلافة.
ثم لما اختبر سبحانه خلة خليله بأنواع البلاء أظهر خلته له بأنواع العطاء حيث { قال } سبحانه: { إني } من غاية محبتي وخلتي معك أيها الخليل الجليل { جاعلك للناس } الناسين التوحه والرجوع إلي { إماما } مقتدى لهم، هدايا يهديهم إلى طريق التوحيد، لما رأى إبراهيم عليه السلام انبساط ربه معه وإفضاله عليه وإظهاره الخلة له { قال }: { و } اجعل يا ربي { من ذريتي } أيضا أئتمة إلى يوم القيامة { قال } سبحانه تلطفا له وامتنانا عليه: ومن ذريتك أيضا الصالحين منهم لا الفاسقين؛ إذ { لا ينال عهدي } الذي هو نيابتي وخلافتي { الظالمين } [البقرة: 124] المتجاوزين عن حدودي وعهودي.
{ و } بعدما جعلناه إماما هدايا إلى طريق الحق هيأنا له طريق الاهتداء { إذ جعلنا البيت } أي: الكعبة المعدة للتوجه إلينا بترك المألوفات وقطع التعلقات من الأهل والمال والوطن، والاجتناب عن التصرفات المانعة عن التوجه الحقيقي من الرفت والفسوق والجدال والقتل، وغير ذلك من الأمور المتعلقة للحياة المستعارة { مثابة } موضع ثواب { للناس } ليتقربوا إلينا ويتوجهوا نحونا { وأمنا } من جميع المخافات الدينية إذا كانت الزيارة على نية الإخلاص { و } بعدما جعلنا البيت مثابة للناس قلنا للزائرين لها والطائفين حولها: { اتخذوا } أيها الزوار { من مقام } خليلنا { إبراهيم مصلى } موضع ميل وتوجه؛ اقتداء له صلوات الرحمن عليه { و } بعدما أمرنا الزوار بما أمرنا { عهدنآ } وصينا { إلى } خليلنا { إبراهيم و } ذبيحنا { إسماعيل } ابنه { أن طهرا } بالمظاهرة { بيتي } المعدة للطهارة الحقيقة عن جميع الشواغل { للطائفين } الذين قصدوا الميل إلى جنابنا ببذل المهج { والعاكفين } القائمين المقيمن ببابنا رجاء أن ينكشف لهم أسرار التكاليف التي كلفوا بها { والركع السجود } [البقرة: 125] أي: الراكعين الساجدين في فنائنا تذللا وانكسارا حتى يتحققوا بمقام العبودية.
[2.126-129]
{ و } بعد { إذ } أمرنا وابنه بطهارة البيت وامتثالا بالمأمور { قال إبراهيم } منيبا إلينا، داعيا راجيا في دعائه النفع العام: { رب اجعل } بيتك { هذا بلدا آمنا } ذا أمن للمتوجهين إليها والعاكفين ببابها عن العلائق المانعة عن التوحه المعنوي { و } بعدما توجهوا نحوه { ارزق أهله من الثمرات } المترتبة على سرائر تعيينه وتخصيصه، ووجوب طوافه على المستطيعين المنهمكين في الشواغل المانعة عن التوجه إلى الكعبة الحقيقية الممثلة عنها هذا البلد.
ولما دعا إبراهيم بهذا الدعاء المجمل المطلق لهم، فصله سبحانه إجابة دعائه بقوله: { من آمن منهم } من المتوجهين الزائرين { بالله } الواحد الأحد تعبدا وانقيادا { واليوم الآخر } المحقق الوقوع إذعانا وتصديقا، فلهم ما دعوت لهم من أنواع الإفضال والإنعام؛ جزاء لهم وإجابة لدعائك ثم { قال } سبحانه: { ومن كفر } منهم وجحد بعدما وضح لهم الطريق { فأمتعه } متاعا { قليلا } من مفاخرة الأقران والاستكبار على الإخوان وتفرج البلدان { ثم أضطره } بعد جحوده وإنكاره { إلى عذاب النار } بل أشد منها، وهو حرمانه عن الفوائد المرتبة على الطواف والزيادة المنبئة عن الوصول إلى مرتبة العبودية والمخلصة، عن جهنم الإمكان الذي هو مصير أهل الكفر والطغيان { وبئس المصير } [البقرة: 126] مصيرهم الذي لا ينجو منه أحد من أهله، عصمنا الله منه بمنه وجوده.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { إذ يرفع } يحمل جدك { إبرهيم } الاواه المنيب { القواعد } أي: التكاليف الشاقة الناشئة { من } إنشاء { البيت } المعد للاهتداء إلى كعبة الوصول من التجريد عن لوازم الحياة ومقتضيات الأوصاف المترتبة عليها، وترك المألوفات وقطع التعلقات العائقة عن الموت الإداري الموصل إلى مقر الوحدة المغنية للكثرة الموهمة، المستتبعة للبعد والفراق عن فضاء التوحيد { و } أبوك أيضا { إسمعيل } الراضي بقضاء الله، المرضي بما جرى عليه من البلاء، واذكر أيضا دعاءهما بعدما احتملا المشاق والمتاعب بقولهما: { ربنا } يا من ربانا بأنواع المنح التي ليست في وسعنا وقدرتنا { تقبل منآ } ما أقدرنا عليه { إنك أنت } القادر لما جئتنا به { السميع } لمناجاتنا قبل إلقائنا { العليم } [البقرة: 127] لحاجاتنا وإخلاصنا في نياتنا.
{ ربنا واجعلنا } بفضلك { مسلمين لك } مستسلمين مفوضين جميع أمورنا إليك، مخلصين فيه ربنا { و } اجعل أيضا { من ذريتنآ } المنتسبين إلينا { أمة مسلمة } مسلمة { لك } مطيعة لأمرك { وأرنا } اكشف لنا ولهم { مناسكنا } سرائر مناسكنا التي نعملها على مقتضى أمرك وتكليفك { و } إن أخطأنا فيما أمرتنا { تب علينآ } عماجرى علينا من لوازم بشريتنا { إنك أنت التواب } للعباد العاصين الخاطئين { الرحيم } [البقرة: 128] بقبول توبتهم، وإن نقضوها مرارا.
ثم لما كان الغالب عليهما توحيد الصفات والأفعال، دعوا ربهما متضرعين أن يبعث من ذريتهما من يغلب عليه توحيد الذات فقالا: { ربنا وابعث فيهم } أي: في الأمة المسلمة { رسولا منهم } هدايا إلى توحيد الذات { يتلوا عليهم } أولا { آيتك } الدالة على ذلك ظاهرا { و } ثانيا: { يعلمهم } يفهمهم { الكتب } المبين سرائر الآيات { و } ثالثا: بكشف ويوضح لهم { الحكمة } التي هي سلوك طريق التوحيد الذاتي { و } ورابعا: { يزكيهم } أي: يطهرهم عن رؤية الغير في الوجود مطلقا { إنك أنت العزيز } الغالب القاهر للأغيار { الحكيم } [البقرة: 129] في إيجادها وإظهارها على وفق مشيئتك وإرادتك.
[2.130-133]
{ و } بعدما جعلنا الخليل إماما مقتدى للأنام، هاديا لهم إلى دار السلام { من يرغب عن ملة إبراهيم } أي: من يعرض عن ملته الحنيفية، الطاهرة عن الميل إلى الآراء والآثام، البيضاء المنورة لقلوب أهل التفويض والإسلام، المبينة على محض الوحي والإلهام { إلا من سفه نفسه } أي: لا يعرض عن ملته الغراء إلا من ترك نفسه في ظلمة الإمكان من غير رجوع إلى الفضاء الوجوب، ليتبع الطريق الموصل إليه { و } الله { لقد اصطفيناه } واجتبيناه من بين الأنام { في الدنيا } للرسالة والنبوة لإرشاد العباد إلى طريق التوحيد { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [البقرة: 130] للتحقق والوصول، لا لطريق الاتحاد والحلول بل لطريق التوحيد الذاتي.
واذكر يا أكمل الرسل { إذ قال له ربه } اختبارا له { أسلم } توجه إلي بمقتضى علمك وكشفك مني { قال } على مقتضى علمه بربه { أسلمت لرب العالمين } [البقرة: 131] إذ كشف له ربه عن ذرائر الكائنات لذلك لم يخصصه ولم يقيده بمظهر دون مظهر.
{ ووصى بهآ } أي: بالتوحيد الذاتي { إبراهيم بنيه } إرشادا إلى طريق الحق ووصى أيضا بنوه بنيه { و } وصى أيضا { يعقوب } بنيه بما وصى أبوه وجده، وقالوا: { يابني إن الله اصطفى لكم الدين } دين الإسلام المشتمل، على توحيد الذات والصفات والأفعال { فلا تموتن } فلا تكونن في حال من الأحوال عند الموت { إلا وأنتم مسلمون } [البقرة: 132] موحدون بالتوحيد الذاتي.
ثم لما اعتقد اليهود أن يعقوب وبنيه كانوا هودا، والنصارى اعتقدوهم نصارى، أراد سبحانه أن يظهر فساد عقائدهم، فقال: أتسمعون أيها اليهود والنصارى يهودية يعقوب وبنفيه ونصرانيتهم لمن أنزل عليكم { أم كنتم شهدآء } حضراء { إذ حضر يعقوب الموت } ولولا هذا ولولا ذاك كنتم مفتشرين عليهم جاهلين بحالهم، اذكر لهم يا أكمل الرسل { إذ قال } حين أشرف على الموت { لبنيه } إرشادا لهم: { ما تعبدون من بعدي } با بني؟ { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا } أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا { ونحن له } لا لغيره من الآلهة الباطلة { مسلمون } [البقرة: 133] منقادون متوجهون، خاليا عن المكابرات والعناد، قالعا عرف التقليدات الراسخة في قلوب العباد.
[2.134-136]
{ تلك أمة قد خلت } مضت { لها ما كسبت } من العزائم الدينية، وعليها ما اكتسبت من الجرائم المتعلقة به بحسب ذلك الزمان { ولكم ما كسبتم } من فوائد الإيمان والإسلام، و عليكم ما اكتسبتم من غوائل الكفر والطغيان بحسب زمانكم هذا؛ إذ لك منكم ومنهم لم يجز إلا بما عمل وكسب { ولا تسألون } وتؤاخذون أنتم { عما كانوا يعملون } [البقرة: 134] من السيئات، كما لا تثابون من حسناتهم بل كل امرئ بما كسب رهين.
{ و } إن { قالوا } أي: كل من الفريقين لكم { كونوا هودا أو نصارى } لكي { تهتدوا } إلى طريق الحق { قل } لهم لا نتبع آراءكم الفاسدة وأهواءكم الباطلة { بل } نتبع { ملة إبراهيم حنيفا } مائلا عن الآراء الباطلة مهذبا منها { وما كان من المشركين } [البقرة: 135] بالله باعتقاد الوجود لغير الله.
{ قولوا } لهم في مقابلة قولهم أيها المؤمنون المتبعون لملة إبراهيم، إرشادا لهم وإسماعا إياهم طريق الحق: { آمنا بالله } الواحد المتجلي في الآفاق بالاستحقاق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا { و } آمنا أيضا { مآ أنزل إلينا } بوسيلة رسولنا من الكتاب المبين لمصلحتنا، المتعلق بمبدئنا ومعادنا في زماننا { و } آمنا آيضا { مآ أنزل } إلى المتبوعين الماضين { إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } المورثين وديننا { و } كذلك آمنا { مآ أوتي موسى وعيسى } من الكتب والآيات الدالة على توحيد الذات وتصديق من جاء به من عند ربه { و } الحاصل أنا آمنا بجميع { ما أوتي النبيون من ربهم } لإهداء المضلين من عباده إلى توحيده { لا نفرق بين أحد منهم } بالإيمان والإنكار، بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم؛ لكونهم هادين إلى توحيد الله وإن تفاوتت طرقهم { ونحن له } لتوحيد الله { مسلمون } [البقرة: 136] منقادون متوجهون؛ وإن بين بطرق متعددة وكتب مختلفة بحسب الأعصار والأزمان المتوهمة من تجليات الذات بالأسماء والصفات.
[2.137-141]
{ فإن آمنوا } بعدما سمعوا منكم هذه الأقوال { بمثل مآ آمنتم به } بعد سماعكم طريق الإيمان من رسولكم { فقد اهتدوا } إلى طريق التوحيد كما اهتديتم { وإن تولوا } أعرضوا عن أقوالكم لهم تذكيرا وعظة { فإنما هم في شقاق } أي: ما هم إلا في خلافهم وشقاقهم الأصلية وعداوتهم الجلية { فسيكفيكهم الله } المحيط بكم وبهم، المطلع على سرائرهم وضمائرهم مؤنة خلوفهم وشقاقهم { و } لا تشكو في كفايته؛ إذ هو السميع { } لأقوالهم الكاذبة { العليم } [البقرة: 137] بكفرهم ونفاقهم الكامنة في قلوبهم.
ثم قولوا لهم بعدما أظهروا الخلاف والشقاق: ما جئتنا به عن التوحيد الحاصل من متابعة الملة الحنيفية { صبغة الله } المحيط بنا، صبغ بها قلوبنا؛ لنتهدي إلى صفاء تجريده وزلال تفريده { ومن أحسن من الله صبغة } حتى نتبعه؛ إلا ذ وجود لغيره { و } إذ لم يكن للغير وجود { نحن له } لا لغيره { عابدون } [البقرة: 138] عائدون راجعون رجوع الظل إلى ذي ظل، والصور المرئية في المرآة إلى الرائي.
ثم لما طال نزاع أحبار اليهود مع المؤمنين ومجادلتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر سبحانه لحبيبه بأن يتكلم بكلام ناشئ عن لب الحكمة، فقال: { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما دالا على توحيد الذات، مسقطا لجميع الإضافات { أتحآجوننا } وتجادلوننا { في الله } المظهر للكل من كتم العدم، بإشراق تجليات أوصافه فيه، ورش من نوره عليه { و } الحال أنه ليس له اختصاص ببعض دون بعض بل { هو ربنا وربكم } بإظهار ذواتنا وذواتكم من العدم، { و } بعد إظهاره إيانا { لنآ أعمالنا } صالحها وفاسدها { ولكم } أيضا { أعمالكم } الصالحة والفاسدة، لا تسري منكم إلينا ولا منا إليكم { ونحن } المتبعون لملة إبراهيم { له } أي: لله المظهر الظاهر بجميع الأوصاف والأسماء لا لغيره من الأظلال { مخلصون } [البقرة: 139] متوجهون على وجه الإخلاص المنبئ عن المحبة المؤدية إلى الفناء في ذاته.
جعلنا الله من خدام أحبائه المخلصين.
أيسلم اليهود والنصارى ويذعنون بعدما أوضحنا لهم أنا على ملة إبراهيم دونهم؟ { أم } تعاندون { تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } تابعين لملتنا فإن كابروا وعاندوا وقالوا مثل هذا { قل } لهم يا أكمل الرسل مستفهما مستوبخا على وجه التنبيه: { أأنتم أعلم } بحالهم { أم الله }؟ النافي عنهم اليهودية والنصرانية بقوله:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا
[آل عمران: 67] مائلا منهما، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون { و } بعد ما ظهر عندهم حقية دين نبينا صلى الله عليه وسلم، وتحقق موافقة ملة أبيه إبراهيم بشهادة كتبهم ورسلهم { من أظلم } على الله { ممن كتم شهادة } ثابتة في كتب الله التي صحت { عنده } أنها منزلة { من الله } المنزل للرسل والكتب، مصدقا بعضها بعضا كتمانا ناشئا عن محض العداوة والشقاق بعد جزمهم حقيتها ومع ذلك يتوهمون كتمانها من الله أيضا { وما الله } المحيط بمخايلهم { بغافل عما تعملون } [البقرة: 140] من الكتمان والنفاق حفظا لجاههم وجاه آبائهم.
قل لمن تبعك يا أكمل الرسل تذكيرا لهم وتحذيرا: { تلك أمة } صالحة أو طالحة { قد خلت } مضت { لها } في النشأة الأخرى جزاء { ما كسبت } من الحسنات والسيئات في النشأة الأولى { ولكم } فيها جزاء { ما كسبتم } فيها { ولا تسألون } أنتم في يوم الجزاء { عما كانوا يعملون } [البقرة: 141] من الصالحات والفاسدات كما لا يسألون عن أعمالكم بل كل مجزي بصنيعه، مقتض ببضاعته.
نعوذ بفضلك من عذابك يا دليل المتحيرين.
[2.142-143]
ثم لما كان الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل حاله وسلوكه، توحيد الصفات والأفعال المورثين له عن آبائه - صلوات الله عليهم - كان تابعا لهم في قبلتهم التي كانوا عليها أيضا صورة، وحين ظهر وانكشف له صلى الله عليه وسلم توحيد الذات، وغلبت عليه تجلياتها وإشراقها استغرق ووله، بل فني واضمحل وتلاشت فيها هويته، وبعدما تنزل عن ولهه واستغراقه، خص له سبحانه قبلة مخصوصة، ووجهة معينة صورة؛ لتكون آية على قبلته الحقيقية المعنوية.
ثم لما أمره سبحانه بتوجهها واستقبالها وهو في الصلاة إلى القبلة التيكان عليها قبل الأمر وتحول نحوها فيها، أخذ المنافقون في الغيبة، واشتغلوا بالنفاق، ونسبوه إلى ما هو منزه عنه، وانتهزوا واغتنموا الفرصة لمقابلته وصمموا العزم بمجادلته، أراد سبحانه أن ينبه بما هم عليه من النفاق والشقاق في أمر القبلة على وجه الإخبار، فقال: { سيقول السفهآء } المعزولون عن مقتضى العقل الخيري، المتشعب من العقل الكلي، المتفرع على اسم العليم: { من الناس } المحجوبين بظلمة التعينات عن نور الوجود قولا ناشئا عن محض الغفلة والسفاهة على سبيل الاستهزاء، وهو قولهم: { ما ولهم } حولهم وصرفهم؛ أي: المؤمنين { عن قبلتهم التي كانوا عليها } ومن قبل مع أنها قبلة من يدعون الانتساب إليهم والاقتداء بملتهم؟
{ قل } لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والإرشاد وبلسان التوحيد الذاتي بعدما انكشف لك: { لله } المنزله عن الأماكن والجهات المتجلي فيها { المشرق والمغرب } أي: جميع ما يتوهم من الزمان والمكان والجهة، إنما هي مظاهر ذاته ومجالي أسمائه وصفاته { يهدي } بحبه الذاتي { من يشآء } من عباده المتوجهين إلى جنابه { إلى صراط مستقيم } [البقرة: 142] موصل إلى ذاته من أي مكان كان، وفي أي وجهة وزمان؛ إذ هو محيط بكلها.
{ وكذلك } أي: مثل صراط المستقيم الموصل إلى ذاتنا المعتدل المتوسط بين الطرق { جعلناكم أمة وسطا } معتدلا قابلا للخلافة والنيابة، بل في تولية الأمور بين العباد { لتكونوا شهدآء } قوامين بالقسط { على الناس } الغافلين عن التوجه إلينا { و } كذلك أرسلنا إليكم رسولا منكم حتى { يكون الرسول عليكم شهيدا } حفيظا لكم عن طرق الإفراط والتفريط فيما صدر عنكم من الأمور، فعليكم أن تلازموا وتداوموا امتثال ما جاء به رسولكم من عند ربكم؛ لتكونوا مهتدين إليه سبحانه من الصراط المستقيم.
{ وما جعلنا } أي: قبلتك يا أكمل الرسل { القبلة التي كنت عليهآ } قبل هجرتك منها { إلا لنعلم } ولنميز ونفصل { من يتبع الرسول } الهادي إلى توحيد الذات { ممن ينقلب } يعود ويرجع { على عقبيه } قبل الوصول إلى توحيد الذات { وإن كانت } الوصلة إلى الوحدة الذاتية { لكبيرة } ثقيلة شاقة { إلا على الذين هدى الله } إلى ذاته بتوفيقهم على الإيمان ممن يرشدهم إليه { وما كان الله } المظهر لكم { ليضيع إيمانكم } به بعد توفيقكم إياه { إن الله بالناس } المؤمنين بالرسول المرشد إلى توحيد الذات الموقنين بما جاء به من عند ربه { لرءوف } عطوف { رحيم } [البقرة: 143] مشفق يوصلهم إلى ما يظهرم لأجله بفضله وطوله.
[2.144-147]
ولما انكشف له صلى الله عليه وسلم توحيد الذات واستغرق فيها وتوجه وحوها، وانسلخ عن الأفعال والصفات بالمرة، انتظر صلى الله عليه وسلم الوحي المطابق لهذا الانكشاف بحسب الصورة أيضا، فقال سبحانه: { قد نرى } نطلع ونعلم حين انكشافك بذاتنا { تقلب وجهك في السمآء } منتظرا للوحي المتضمن للتوجه الصوري { فلنولينك } بعد انكشافك المعنوي { قبلة } صورية { ترضاها } مناسبة لقبلتك المعنوية { فول وجهك } يا أكمل الرسل صورة { شطر } جهة { المسجد الحرام } الذي يحرم فيه التوجه إلى غير الذات البحث المسقط للإضافة { و } لا تختص بهذه الكرامة لك، بل تسري منك إلى من تبعك من المؤمنين { حيث ما كنتم } من مراتب الوجود { فولوا وجوهكم } الفائضة لكم إيها المؤمنون من ربكم { شطره } لتكونوا من المنكشفين به المهتدين بذاته { وإن الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى { ليعلمون } يقينا بشهادة كتبهم ورسلهم { أنه } أي: شأن انكشافك وتحققك بالتوحيد الذاتي { الحق } الثابت المنزل { من ربهم } أي: رباهم بإعطاء العقل المميز بن الحق والباطل، والمحق والمبطل، ومع ذلك ينكرون عنادا { وما الله بغافل عما يعملون } [البقرة: 144] من الإخفاء والستر بعد الوضوح والكشف.
{ و } الله { لئن أتيت } يا أكمل الرسل { الذين أوتوا الكتاب بكل آية } نازلة لك دالة على توحيد الذات الذي هو مقصدك وقبلتك { ما تبعوا قبلتك } لانهماكهم في الغفلة والضلالة { ومآ أنت } أيضا بعدما انكشف لك الأمر يقينا { بتابع قبلتهم } التي توجهوا إليها ظنا وتخمينا { و } أيضا { ما بعضهم بتابع قبلة بعض } لتفاوت ظنونهم وآرائهم { و } الله { لئن اتبعت } أنت يا أكمل الرسل { أهواءهم } الباطلة { من بعد ما جآءك من العلم } اليقيني المطابق للعين بل للحق { إنك } مع اصطفائنا إياك واجتنابنا لك { إذا لمن الظالمين } [البقرة: 145] المعرضين عنا بعد توفيقنا إياك وإرشادنا لك إلى الكعبة الحقيقة.
هذا تهديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تهديد وحث له صلى الله عليه وسلم لدوام التوجه على ما اكشف له من توحيد الذات، تحريض للمؤمنين على متابعته صلى الله عليه وسلم في دوام التوجه والميل إليه، ومثله في القرآن كثير.
ثم قال سبحانه: { الذين آتيناهم الكتاب } المبين لهم طريق توحيد الصفات والأفعال، المنبه لهم على توحيد الذات، وعلى من يظهر به وهم { يعرفونه } بالأوصاف والخواص المبين في كتابهم { كما يعرفون أبناءهم } الذين خلقوا من أصلابهم، بل أشد من ذلك لإمكان الخلاف فيه دونه { و } مع ذلك { إن فريقا منهم } عنادا واستكبارا { ليكتمون الحق } الثابت في كتابهم { وهم } أيضا { يعلمون } [البقرة: 146] حقيته جزما، ويكتمونه مكابرة.
{ الحق } الذي هو ظهورك واستيلاؤك عليهم، ونسخك أديانهم وأحكام كتبهم إنما هو ناشئ { من ربك } الذي أظهرك مظهرا كاملا لذاته { فلا تكونن } أنت ومن تبعك { من الممترين } [البقرة: 147] الشاكين في توحيد الذات كما كانوا.
[2.148-152]
{ و } اعلموا أن { لكل } أي: لكل من أفراد الأمم { وجهة } مقصد وقبلة معينة من الأوصاف والأسماء الإلهية { هو موليها } بحسب اقتضائها وغلبتها { فاستبقوا الخيرات } أي: بادروا أيها المحمديون إلى منشأ جميع الخيرات، ومنبع جميع المبرات الناشئة من الأسماء والصفات، وهو الذات المستجمع لجميعها { أين ما تكونوا } من مقتضيات الأوصاف { يأت بكم الله } الجامع لها { جميعا } مجتمعين بعد رفع التعينات الناشئة من الصفات { إن الله } المتجلي بالأوصاف { على كل شيء } من المظاهر المتعينة المتكثرة بحسب المبدأ والمظاهر { قدير } [البقرة: 148] على رفع التعينات المسقطة لجميع الكثرات بحسب المعاد والباطن.
{ ومن حيث خرجت } يا أكمل الرسل من مقتضى كعبة الذات يغلبه حكم بعض الصفات { فول وجهك } منها متذكرا { شطر المسجد الحرام } المحرم للتوجيه إلى السوى والغير { وإنه } أي: شأن التوجه نحوه { للحق } الثابت النالز { من ربك } الذي رباك بمقتضى جميع أوصافه وأسمائه { و } اعلم أنه { ما الله بغافل عما تعملون } [البقرة: 149] أنت ومن تبعك، وعلى مقتضى علمه تثابون.
{ ومن حيث خرجت } عن مقتضى توحيد الذات بتكثير بعض المظان وترك ما يستقبلونه { فول وجهك شطر المسجد الحرام } الجامع لجميع المظاهر { وحيث ما كنتم } أيها المؤمنون { فولوا وجوهكم شطره } اقتداء لرسولكم { لئلا يكون للناس } المعرضين { عليكم حجة } غلبة بادعائكم التوحيد الذاتي، وإخراجكم بعض المظاهر { إلا الذين ظلموا منهم } ينفي ذات الله وصفاته، وهم الدهريون القائلون بوجود الطبائع بلا فاعل خارجي، فإنهم لا يفحمون ولا يلزمون بأمثاله { فلا تخشوهم } أي: فلا تخافوا منهم في التوجه إلى الكعبة الحقيقية { واخشوني } في عدم التوجه حتى لا تحرموا عن مقتضيات بعض الأوصاف { ولأتم نعمتي } الواصلة بحسب أوصافي وأسمائي { عليكم ولعلكم تهتدون } [البقرة: 150] إلى ذاتي بسببها.
ومن إتمام نعمنا إياكم أنا هديناكم إلى جهة الكعبة الحقيقية، وأمرناكم بالتوجه نحوها { كمآ أرسلنا } من مقام جودنا { فيكم رسولا } هاديا لكم نائشا { منكم يتلوا عليكم } أولا { آياتنا } آثار صفاتنا الدالة على وحدة ذاتنا { و } ثانيا: { يزكيكم } { و } ثالثا: { يعلمكم الكتاب } الموضح للدلائل والآيات المبين للآراء والمعتقدات { و } رابعا: يظهر لكم { الحكمة } الموصلة إلى توحيد الذات { و } بعد ذلك { يعلمكم } من الحقائق والمعارف { ما لم تكونوا تعلمون } [البقرة: 151] لولا إرشاده وإرساله.
وإذا أنعمنا عليكم بهذه النعم العظام وأتممناها لكم { فاذكروني } أيها المؤمنون بالميل الدائم والتوجه الصادق { أذكركم } بنفسات رحمانية ونسمات روحانية { واشكروا لي } بإسناد النعم إلي { ولا تكفرون } [البقرة: 152] بإسنادها إلى الوسائط والأسباب.
[2.153-157]
ثم إنه لما بالغ سبحانه في التنبيه والإرشاد، وناداهم رجاء أن يتنبهوا مع أن فطرتهم الأصلية على التوحيد الذاتي، فقال: { يآأيها الذين آمنوا } بتوحيد الذات { استعينوا } لتحققه وانكشافه { بالصبر } على ما جرى عليكم من الحوادث المنفرة لنفوسكم { والصلاة } أي: الميل والتوجه إلى جنابه لجميع الأعضاء والجوارح { إن الله } المعبر به عن الذات الأحدية { مع الصابرين } [البقرة: 153] المتحملين للبلاء لو كوشفوا.
رب اجعلنا منه بفضلك وكرمك.
{ و } مما يستعان فيه بالصبر إلى أن ينشكف سترة: الجهاد لذلك { لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله } طالبا الوصول إلى بابه { أموات } كالأموات الأخر { بل أحياء } بحية الله الأزلي السرمدي { ولكن لا تشعرون } [البقرة: 154] بحياتهم بحياتكم المستعارة المستهلكة في الحياة الأزلية، بل هي عكس منها موت في نفسها.
{ ولنبلونكم } والله لنختبرن ولنجربن تمكنكم ورسوخكم في توحيد الذات { بشيء } قليل مما يشعر بالكثرة والاثنينية { من الخوف } الحاصل من المنفرات الخارجية: مثل الحرق والغرق والعدو وغير ذلك { والجوع } الحاصل من المنفرات الداخلية، كالحرص والأمل والبخل وغيرها { ونقص من الأموال } التي يميل قلوبكم إليها بالطبع { والأنفس } التي تظاهرون وتفتخرون بها من الأولاد والإخوان والأقارب والعشائر { والثمرات } المرتبة على الأموال والأولاد من الجاه، والمظاهرة في الغلبة على الخصماء { وبشر } يأ اكمل الرسل { الصابرين } [البقرة: 155] من أهل التوحيد وهم:
{ الذين إذآ أصابتهم مصيبة قالوا } بلسان الجمع: { إنا } ظلال { لله } الواحد الأحد المتجلي بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا في النشأة الأولى { وإنآ } بعد رجوعنا في النشأة الأخرى { إليه } لا إلى غيره من الأظلال { راجعون } [البقرة: 156] عائدون صائرون رجوع الظل إلى ذل ظل.
{ أولئك } السعداء المتمكنون في مقر التوحيد المنزهون عن الإطلاق والتقييد { عليهم } لا على غيرهم من أصحاب المراتب { صلوات } ميول وتوجيهات متشبعة من بحر الذات، جارية من جداول الأوصاف والأسماء إلى فضاء الظهرو؛ لإنبات المعارف والحقائق الموصلة إلى النعيم الدائم السرمدي واللذة المستمرة الأبدية، نازلة لهم دائما { من ربهم } الذي أوصلهم إلى مقر عزه { ورحمة } شاملة لهم ولغيرهم من سعتها { وأولئك } الواصلون { هم المهتدون } [البقرة: 157] إلى المبدأ الحقيقي والمنزل الأصلي.
[2.158-162]
ثم لما نبه سبحانه إلى الكعبة الحقيقية بالكعبة الصورية، أراد أن ينبه على علاماتها بعلاماتها: { إن الصفا والمروة } أي: الظاهر والباطن { من شعآئر الله } وعلامات توحيجه { فمن حج } قصد { البيت } الممثل من المنزل الحقيقي والمرجع الأصلي على الوجه المفروض { أو اعتمر } على الوجه المسنون قاصدا فيه التوجه إلى الذات الأحدي، معرضا عن العلائق المانعة منه { فلا جناح } لا تعب ولا ضيق { عليه أن يطوف بهما } أي: يسعى بينهما، معتقدا ارتباطهما إلى أن ينكشف باتحادهما { ومن تطوع } توجه نحوه { خيرا } زائدا على ما أمر وفرض { فإن الله } الميسر له { شاكر } راض بفعله { عليم } [البقرة: 158] بحاله.
ثم قال سبحانه: { إن الذين يكتمون } يسترون { مآ أنزلنا } في التوراة { من البينات } الدالة على ظهور من يغلب عليه توحيد الذات { والهدى } المشير إلى أنه مبعوث إلى كافة البرايا، ناسخ لجميع الأديان؛ إذ به يتم أمر التكميل ولا بعثه بعد ظهوره، بل ختم به صلى الله عليه وسلم أمر الإرسال والإنزال والتديين والتشريع، والحال أن كتمانهم { من بعد ما بيناه } أوضحناه بلا ستره { للناس } الناظرين { في الكتاب } أي: التوراة { أولئك } الكاتمون المفرطون { يلعنهم الله } أي: يطردهم ويبعدهم عن عز حضوره لخروجهم عن اعتدال العبودية بكتمان ما أراد الله ظهوره { ويلعنهم } أيضا { اللاعنون } [البقرة: 159] المتمتعون باعتدال العبودية المستقيمون على ما أمروا بقدر وسعهم.
{ إلا الذين تابوا } رجعوا منهم عن الكتمان، وأظهروا ما ظهر لهم في كتابهم { وأصلحوا } بإظهار ما أفسدوا بالكتمان { وبينوا } ما بينه الله في كتابه من وصف نبيه المبعوث المرسل إلى كافة الأمم { فأولئك } التائبون منهم، المصلحون المبينون ما ظهر لهم في كتابهم { أتوب عليهم } قبل توبتهم واتجاوز عن سيئاتهم { وأنا التواب } الرجاع لهم عما جرى عليهم من العصيان والكفر { الرحيم } [البقرة: 160] لهم بعدما رجعوا إلي مخصلين.
ثم قال: { إن الذين كفروا } بكتمان ما بين الله في كتابه { وماتوا وهم كفار } كاتمون { أولئك } المصرون المعاندون في أمر الكتان بعد الظهور مكابرة، وتنزل { عليهم لعنة الله } طرده وتبعيده دائما مستمرا منحصرا عليهم، غر منفك عنهم على ما يقتضيه حال الجلمة المعبر عنها بخلاف اللعن السابق { و } تنزل عليهم أيضا لعنة { الملائكة } المستغفرين لمن تاب { و } أيضا لعنة { الناس } العارفين لحقوق الله المتحققين بآدابه المعتكفين ببابه { أجمعين } [البقرة: 161] مجتمعين عليها دائما لخروجهم عن ربتة العبودية.
{ خالدين فيها } بحيث { لا يخفف عنهم العذاب } المترتب عليها لحظة ليتنفسوا { ولا هم ينظرون } [البقرة: 162] يمهلون ساعة ليعتذروا.
[2.163-166]
{ وإلهكم } المظهر لكم أيها المؤمنون وإله الكافرين الكاتمين { إله واحد } لا تعدد فيه ولا اثنينية بل { لا إله } أي: لا موجود حقيقي { إلا هو } الموجود الحقيقي الحق؛ إذ لا كثرة في الوجود، بل هو واحد في الذات، فرد في الصفات، ليس كمثله شيء { الرحمن } المبدئ لكم ولهم عامة بإشراق تجلياته ومد أظلاله على العدم في النشأة الأولى { الرحيم } [البقرة: 163] المعيد لكم خاصة إلى مبدئكم الأصلي ومقصدكم الحقيقي في النشأة الأخرى.
ولما كان لوحدته سبحانه آيات ودلائل واضحات لمن تأمل في عجائب مصنوعاته، وبدائع مبدعاته ومخترعاته، المترتبة إلى أسمائه وصفاته المستندة إلى وحدة ذاته، أشار سبحانه إلى نبذتها إرشادا وتنبيها فقال: { إن في خلق السموت } أي: إظهار العلويات التي هي الأسماء والصفات المؤثرة الفاعلة { والأرض } أي: السفلية التي هي طبيعة العدم القابلة المتأثرة من العلويات { واختلاف الليل } أي: ظلمة العدم والجهل والعمى { والنهار } نور الوجود والعلم والعين { والفلك } أي: الأجساد الحاصلة من تأثير الأسماء وتأثير الطبيعة منها { التي تجري في البحر } أي: بحر الوجود الذلا لا ساحل له ولا قعر { بما ينفع الناس } من جواهر المعارف، ودرر الحقائق المستخرجة منه { ومآ أنزل الله } من كرمه وجوده بلا عوض ولا غرض { من السمآء } المعدة للإفاضة { من مآء } علم وعين وكشف { فأحيا به الأرض } أي: الطبيعة { بعد موتها } بالجهل الجبلي { و } بعدما ما أصابها { بث } بسط ونشر { فيها من كل دآبة } من القوى المدركة والمحركة المتشعبتين بالشعبة الكثيرة على صنعة الحياة المتفرعة على التجلي الحي { وتصريف الرياح } المروحة للنفوس، المتوجهة الناشئة المنشئة من النفس الرحمانية نحو الطبيعة المكدرة بالكدورات الجسمانية { والسحاب } أي: حجاب العبودية وقيود الغيرية الناشئة من مقتضيات الأسماء والصفات { المسخر } الممدود { بين السمآء والأرض } أي: سماء الأسماء الإلهية وأرض الطبيعة الكونية { لآيات } دلائل وبراهين يقينية دالة على أن مظهر الكل واحد { لقوم يعقلون } [البقرة: 164] يعلمون الأشياء بالدلائل العقلية اليقينة المنتجة لعلم اليقين إلى العين والحق لو كوشفوا.
ربنا اكشف علينا ما أودعت فينا بفضلك وتوفيقك، إنك أنت الجواد الكريم.
{ و } مع لوام هذه الآيات والدلائل الشواهد وبروق الواردات الغيبية، وشروق المكاشفات العينية الدالة على وحدة الذات { من الناس } المخلوقين على فطرة التوحيد القابلين لها { من يتخذ } منهم جهلا وعنادا { من دون الله } المعني للكثرة مطلقا { أندادا } أمثالا أحقاء للألوهية والربوبية مستحقين للعابدة إلى حيث { يحبونهم } أي: كلا منه معبودهم { كحب الله } الجامع للكل لحصر كل طائفة منهم مرتبة للألوهية في مظهر مخصوص، ولذلك كفروا { والذين آمنوا } بالله { أشد حبا } منهم { لله } المحيط للكل الحقيق بالحقية؛ لحصرهم الألوهية والربوبية والتحقق والوجود والهوية، والذات والحقيقة والصفات على الله لا على غيره؛ إذ لا غير في الوجود، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم في النشأةالأولى، وإليه الرجوع في النشأة الأخرى.
أذقنا حلاوة اليقين وارزقنا محبة المؤمنين الموقنين.
{ ولو يرى الذين ظلموا } حين خرجوا عن طريق التوحيد، وانصرفوا عن الصراط المستقيم واتخذوا أمثالا يحبونهم كحب الله ما يرون حين { إذ يرون العذاب } النازل عليهم باتخاذهم من { أن القوة } الكاملة والقدرة الشاملة الجامعة { لله جميعا } المنفرد بالمجد وإليها { و } من { أن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { شديد العذاب } [البقرة: 165] صعب الانتقام، سريع الحساب، لتبرءوا من متبوعهم في الدنيا كما تبرءوا منهم في الآخرة.
اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ تبرأ الذين اتبعوا } من الأنداد والأمثال { من الذين اتبعوا } من المتخذين { و } ذلك حين { رأوا } المتبوعين { العذاب } النازل على تابعيهم باتخاذهم آلهة، كذبوهم وأظهروا البراءة عنهم براءة نفوسهم { و } التابعون أيضا يرونهم ويفهمون براءتهم ويقصدون انتقامهم ولا يستطيعون؛ إذ { تقطعت بهم الأسباب } [البقرة: 166] أي : أسباب الانتقام بانقطاع النشأة الأولى.
[2.167-170]
{ و } بعدما آيسوا من الانتقام { قال الذين اتبعوا } نادمين متحسرين متمنين: { لو أن لنا كرة } مكررة في النشأة الأولى { فنتبرأ منهم } فيها تلافيا وتداركا لما مضى من اتخاذنا إياهم آلهة { كما تبرءوا منا } في هذه النشأة، ولا تنفعهم هذه الندامة ولا التمني، بل ما يزيدهم إلا غراما فوق غرام { كذلك } أي: مثل عذاب اتخاذهم { يريهم الله } أي: يحضرهم { أعمالهم } الفاسدة السابقة كلها، ويعذبهم عليها فردا فردا، وما يقولون فيه وما لهم في تلك الحالة إلا { حسرات } نازلة { عليهم } من تذكر سوء عملهم وقبح صنيعهم، وهذا من أسوأ العذاب وأشد العقاب، أعاذنا الله من ذلك { و } بالجملة: { ما هم } لا تابعون ولا متبوعون { بخارجين } أبدا { من النار } [البقرة: 167] أي: نار البعد والإمكان المورث للحسرة والخذلان.
أجرنا من النار يا مجير.
ثم لما بين سبحانه طريق توحيده على خلص عباده المتوجهين نحو جنابه، تطهيرا لبواطنهم عن خبائث الأهواء العاطلة والآراء الفاسدة، أراد أن يرشدهم إلى تهذيب ظواهرهم أيضا بالخصائل الحميدة الجميلة والأخلاق المرضية؛ ليكون ظاهرهم عنوانا لباطنهم، فقال تعالى مناديا لهم إشفاقا وإرشادا: { يأيها الناس } المجبولون على التوحيد { كلوا } وتناولوا { مما } من جميع ماخلق لكم { في الأرض } لتقويم مزاجكم وتقويته { حلالا } إذ الأصل في الأشياء الحل ما الم يرد الشرع على حرمته { طيبا } مما يحصل من كد يمينكم وعرق جبينكم؛ إذ لا رزق أطيب منه { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي: لا تقتدوا ولا تقنفوا في تحصيل الرزق إثر وساوس شياطين الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق، والمفضية إلى سبيل الظلم والعدون، ولا تغتروا بتمويهات الشيطان وتزييناته { إنه لكم عدو مبين } [البقرة: 168] ظاهر العداوة عند أولي البصائر بنور الله، المقتبسين من مشكاة توحيده.
{ إنما يأمركم } ويغرركم { بالسوء } الخصلة الذميمة { والفحشآء } الظاهر القباحة؛ ليخرجكم عن حدود الله الموضوعة فيكم لتهذيب ظاهركم { وأن تقولوا } بعدما خرجتم عن حدود الشرع { على الله } المتوحد المتفرد المنزه في ذاته { ما لا تعلمون } [البقرة: 169] لياقته في حقه في حصره في الأنداد والأشباه، وإثبات الولد له والمكان والجهة والجسم، تعالى عما يوقل الظالمون علوا كبيرا.
{ وإذا قيل لهم } أي: لمن يتبع خطوات الشيطان إمحاضا للنصح وتحريكا لحمية الفطرة الأصلية: { اتبعوا مآ أنزل الله } على نبيه من البينات والهدى لتهتدوا إلى توحيد الله { قالوا } في الجواب بإلقاء شياطينهم: لا نتبع ما ألقيتم علينا من المزخرفات { بل نتبع مآ ألفينا } وجدنا { عليه آبآءنآ } وهم أعقل منا، قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا توبيخا وتقريعا لهم: { أولو كان آباؤهم } ضالون جاهلون { لا يعقلون شيئا } من أمر الدين { ولا يهتدون } [البقرة: 170] أصلا إلى مرتبة اليقين، بل كانوا كذلك، بل أسوأ حالا من ذلك، فكيف تتبعهم؟.
[2.171-173]
{ و } إن شئت يا أكمل الرسل زيادة تفضيحهم اذكر للمؤمنين قولنا: { مثل الذين كفروا } تقليدا لآبائهم مع قابليتهم واستعدادهم للإيمان { كمثل } الشخص { الذي ينعق } يخاطب ويصوت من سفاهته { بما } أي: بجماد { لا يسمع } منه شيئا في مقابلته { إلا دعآء وندآء } منعكسين من دعائه، شبه حالهم في السفاهة والحماقة بحال من يصوت نحو الجبل فيسمع منه صوته منعكسة، فيتخيل من سفاهته أنه يتكلم معه، والحال أن آباءهم أيضا أمثالهم { صم } لا يسمعون دعوة الحق من ألسنة الرسل { بكم } أيضا لا يتكلمون بما ظهر لهم من الحق الصريح نقلا وعقلا { عمي } أيضا، لا يبصرون آثار الصفات وأنوار تجليات الذات الظاهرة على الآفاق { فهم } وآباؤهم من غاية انهماكهم في الغفلة والنسيان كأنهم { لا يعقلون } [البقرة: 171] أي: لا يخلقون من زمرة العقلاء.
نبهنا بفظلك عن سنة الغفلة ونوم النسيان.
ثم ناداهم سبحانه، وأوصاهم بما يتعلق بأمور معاشهم أيضا بقوله: { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات } مزكيات ما أحل لكم من الحيوانات من { ما رزقناكم } سقنا نحوكم تفضلا؛ لتقوية مزاجكم وتعديله { و } بعد تقويتنا وتعديلنا إياكم { اشكروا لله } المنعم المفضل، المربي لكم بلا التفات إلى الوسائق والوسائق { إن كنتم إياه } لا إلى غيره من الآليهة { تعبدون } [البقرة: 172] تقصرون العبادة.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة: { إنما حرم عليكم } أي: ما حرم ربكم عليكم في دينكم من الحيوانات إلا { الميتة } حتف نفسه بلا تزيكة وتهليل { والدم } السائل من أي وجه كان { ولحم الخنزير } المرخص في الأديان الأخر لنجاسة عينه طبعا وشرعا { ومآ أهل } صوت { به لغير } اسم { الله } عند ذبحه من أسماء الأصنام، وإنما حرم عليكم هذه الأشياء وقت سعتكم { فمن اضطر } منكم حال كونه { غير باغ } للولاة القائمين بحدود الله { ولا عاد } مجاوزا عن شدة الجوعة إلى وقت السعة { فلا إثم عليه } إن تناول منها مقدار سد الرمق { إن الله } المرخص لكم في أمثال المضائق والاضطرار { غفور } سائر لكم عن أمثال هذه الجراءة { رحيم } [البقرة: 173] علكيم بهذه الرخصة.
[2.174-176]
ثم قال سبحانه: { إن الذين يكتمون مآ أنزل الله } المدبر لأمور عباده { من الكتاب } المبين لهم طريق الرشاد والسداد، ويظهرون بدله ما تشتهيه نفوسهم وترتضيه عقولهم عتوا واستكبارا { ويشترون به } أي: بكتمان كتاب الله { ثمنا قليلا } من ضعفاء الناس على وجه التحف والهدايا { أولئك } الكاتمون طريق الحق، الناكبون عن منهج الصدق { ما يأكلون } بهذه الحيلة والتزوير، لا يستحيل { في بطونهم إلا النار } أي: نار الحرص والطمع المقتبسة من نيران الإمكان المنتهية إلى نار الجحيم، أعاذنا الله منها { و } من فطاعة أمرهم وسناعة صنيعهم { لا يكلمهم الله } المنكشف عن أحوال العباد { يوم القيامة } ليجزيهم على مقتضى أعمالهم التي كانوا عليها في النشأة الأولى، بل يسوقهم إلى النار بلا كشف عن حالهم { و } بعد ما ساقهم إليها { لا يزكيهم } أي: لا يطهرهم الله بها كما يطهر عصاة المؤمنين بالنار، ثم يخرجهم إلى الجنة، يبقون فيها خالدين { ولهم } فيها { عذاب أليم } [البقرة: 174] مؤلم غير منقطع أبدا.
{ أولئك } الظالون الخاسرون هم { الذين اشتروا الضلالة } المستتبعة لهذا النكال { بالهدى } الموصل إلى النعيم الدائم في النشأة الأولى { والعذاب بالمغفرة } الملذة المستمرة في النشأة الأخرى { فمآ } أعجب حالهم ما { أصبرهم على النار } [البقرة: 175] بارتكاب تلك الموجبات المؤدية إليها.
{ ذلك } النكال والعذاب { بأن الله } المرشد لهم إلى التوحيد { نزل الكتاب } أي: القرآن المبين لهم طريقه ملتبسا { بالحق } الصريح الثابت في الواقع { وإن الذين اختلفوا في } حقيقة { الكتاب لفي شقاق } خلاف { بعيد } [البقرة: 176] بمراحل عن الحق.
حققنا بفضلك حقية ما أنزلت علينا من جودك.
[2.177-178]
ثم لما اختلف الناس في أمر القبلة واهتموا بشأنها، بأن حصر البر والخير كل فيها، أشار سبحانه إلى تخطئتهم، ونبه على البر الحقيقي والخير الذاتي بقوله: { ليس البر } أي: الخصلة السنية والأخلاق المرضية مجرد { أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } مثلا، بل اتصاف بالعزائم، والحكمة المترتبة على تشريع القبلة { ولكن البر } الحقيقي { من آمن } صدق منكم { بالله } المنشئ لكم من كتم العدم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا { واليوم الآخر } المعد لجزاء الأعمال { والملائكة } المهيمنين الوالهين في مطالعة جمال الله، المستغفرين لمن آمن وعمل صالحا من عباده { والكتاب } المبين لكم طريق الهداية { والنبيين } المبعوثين إليكم به؛ ليرشدكم إلى مقاصده.
{ و } بعدم ما آمن بما ذكر { آتى المال } المانع من التوجه الحقيقي، وأنفقه { على حبه } سبحانه طالبا لرضاه، وأنقه على المحتاجين أولا هم { ذوي القربى } المنتمين إليه من قبل أبويه { واليتامى } الذين لا متعهد لهم من الوالدين وذوي القربى { والمساكين } الذين أسكنهم الفقر العارض لهم من عدم مساعدة آلات الكسب والحوادث الأخر { وابن السبيل } الغرباء الذين لا يمكنهم التصرف في أموالهم لوقوع البون والمبين { والسآئلين } الذين ألجأهم الاحتياج مطلقا إلى السؤال من أي وجه كان { وفي الرقاب } من الأسرى الموثقين في يد العدو، والمكاتبين الذين لا يقدرون على فك رقابهم من مواليهم وغير ذلك من المضطرين { وأقام الصلاة } أي: دوام الميل والتوجه بجميع الأعضاء والجوارح نحوه تعالى في جميع الأوقات، خصوصاص في الأوقات التي تفرض فيها التوجه { وآتى الزكاة } المفروضة المقدرة في كتاب الله.
{ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } كلهم من خيار الأبرار { و } بشر من بينهم يا أكمل الرسل { الصابرين في البأسآء } أي: الفقر المكسر للظهر { والضرآء } المرض المسقم للجسم { و } خصوصا الغزاة الذين صبروا { حين البأس } من اقتحام العدو بالإنعامات العلية والكرامات السنية { أولئك } الأبار الأحرار الصابرون في البلوى، المرجون لرضا المولى على أنفسهم هم { الذين صدقوا } في أقوالهم وأصلحوا في أفعالهم، وأخلصوا في نياتهم { وأولئك هم المتقون } [البقرة: 177] المحفوظون عن جميع ما ضيق عليهم في أمور الدين، الوصلون إلى مرتبة الحقيق واليقين.
رب اجعلنا منهم بلطفك وكرمك يا أرحم الراحمين.
ثم ناداهم سبحانه إصلاحا لهم فيما يقع بينهم من الوقائع الهائلة، والفتن العظيمة الحادثة من ثوران القوة الغضبية، وطغيان الحمية الجاهلية، المؤدية إلى قتل البعض بعضا ظلما وعدوانا فقال: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم وتوحيدكم المحافظة بزجر النفس الأمارة بالسوء عن مقتضياتها المنشعبة من القوى البشرية، وإن وقع فيكم أحيانا فاعلموا أنه { كتب } فرض { عليكم } في دينكم { القصاص } بالمثل { في القتلى } المقتولين عمدا فيقتل { الحر } القاتل { بالحر } المقتول { و } كذا { العبد } القاتل { بالعبد } المقتول، وبالحر وبالطريق الأولى { و } كذا يقتل { الأنثى } القاتلة حرة كانت أو أمة { بالأنثى } المقتولة أيضا، كذلك لنظيرتها قياسا على الحر ةالعبد، والأمة بالحرة بالطريق الأولى، وكذا بالذكرين مهما وافى قتل الحر، والحرة بالعبد والأمة، فقد خولف فيه، الظاهر أنه لم يقتل.
{ فمن عفي له } أي: للجاني والقاتل من المحقوق والسهام المشتركة بين الغرماء الطالبين منه قصاص أخيه المسلم المقتول بيده ظلما { من أخيه شيء } قليل من الحقوق المذكورة { فاتباع بالمعروف } أي: فالحكم لازم عليكم في دينكم أيها الغرماء متابعة المعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين والرجوع إلى الدية وعدم القصاص { و } عليك أيها الجاني { أدآء } أي: أ داء الدية التي هي فدية حياتك { إليه } أي: إلى و لي المقتول { بإحسان } معتذرا نادما متذللا على وجه الانكسار بلا مطل وكسل { ذلك } أي: سقوط القصاص بعد عفو البعض ولزوم الدية يدله { تخفيف } لكم أيها المؤمنون وإصلاح لحالكم { من } قبل { ربكم } أما التخفيف بالنسبة إلى الغرماء فبتسكين القوة الغضبية، وتليين الحمية العصبية بالمال المسرة لنفوسهم بعد وقوع ما وقع، وأما بالنسبة إلى الجاني فظاهر لإبقاء الحياة بالمال { ورحمة } نازلة لكم من ربكم لتصفية كدورتكم الواقعة بينكم بواسطة القتل { فمن اعتدى } منكم وتجاوز عن الحمم { بعد ذلك } المذكور بأن قتل الغرماء الجاني بعد عفو البعض وأخذ الدية، أو امتنع الجاني عن أداء الدية على الغرماء { فله } أي: لكل من المعتدين { عذاب أليم } [البقرة: 178] يؤاخذون في الدنيا بما صدر عنهم، ويعاقبون عليها في الآخرة.
[2.179-182]
{ ولكم } أيها الموحدون المكاشفون بسرائر الشرائع والنواميس الإلهية الموضوعة بين المؤمنين في هذه النشأة خصوصا { في القصاص } المسقط للجرائم الصادرة من جوارحكم البادية عليها { حيوة } عظيمة حقيقية لكم في النشأة الأخرى؛ إذ لا يؤاخذون عليه بعد مؤاخذتكم في النشأة الأولى { يأولي الألباب } الناظرين بنور الحق في لب الأمور المعرضين عن قشوره { لعلكم تتقون } [البقرة: 179] رجاء أن تتحفظوا عن مقتضى القوى البهمية، المنافية لطريق التوحيد المبني على الاعتدال والوفاق، المؤدية إلى أمثال هذه الخبائث.
ثم قال سبحانه: { كتب عليكم } أيضا في دينكم أيها المؤمنون { إذا حضر أحدكم الموت } أي: أسبابه وأماراته { إن ترك خيرا } مالا كثيرا يقبل التجزئة والانقسام المعتد بها بلا تحريم الورثة { الوصية } أي: الحصة المستخرجة منها لرضاء الله، للفقراء المستحقين لها، وأفضل الوصية وأولاها الوصية { للوالدين والأقربين } إن كانوا مستحقين لها، وأيضا أفضلها الاستخراج { بالمعروف } المعتدل المستحسن بين الناس، بحيث لا يتجاوز عن ثلث المال؛ لئلا يؤدي إلى تحريم الورثة، وما فرض في الوصية في دينكم إلا { حقا } لازما { على المتقين } [البقرة: 180] الذين يحفظون إيمانهم وتوحيدهم بمحبة الفقراء ومودة ذوي القربى عما يضاده ويخالفه.
{ فمن بدله } غيره من الأوصياء والحضار الشاهدين عليها { بعد ما سمعه } من الموضي صريحا { فإنما إثمه } أي: إثم التبديل والتغيير { على } المبدلين المغيرين { الذين يبدلونه } ظلما وزورا { إن الله سميع } بأقولهم الموصي { عليم } [البقرة: 181] بما صدر من المبدلين المغيرين، فيجازي كلا منهم على مقتضى علمه.
{ فمن خاف } من الأوصياء والوكلاء { من موص } حين الوصية { جنفا أو إثما فأصلح بينهم } ميلا بعض المستحقين، سألهم على مقتضى علمه بأحوالهم { فلا إثم عليه } أي: على الوصي في هذا التبديل والتغيير، بل يرجى من الله بإصلاحه الثواب له ولمن أوصى إليه { إن الله } المطلع بحالمها { غفور رحيم } [البقرة: 182] لكل منهما.
[2.183-185]
ثم لما نبههم سبحانه بنبذ ما يتعلق بتهذيب ظاهرهم، أراد أن ينبههم على بعض ما يتعلق بتهذيب باطنهم فقال أيضا مناديا لهم: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم } في دينكم { الصيام } هو الإمساك المخصوص من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس في الشهر المعروف بلسان الشريعة، والإمساك المطلق والإعراض الكلي عما سوى الحق عند أولي النهى واليقين المستكشفين عن سرائر الأمور، المتحققين بها حسب المقدور { كما كتب على } أمم الأنبياء { الذين } خلوا { من قبلكم } وإنما فرض عليكم { لعلكم تتقون } [البقرة: 183] رجاء أن تحفظوا أنفسكم عن الإفراد في الأكل المميت للقلب المطفئ نيران العشق والمحبة الحقيقية.
وإذ فرض عليكم صوموا { أياما } قلائل { معدودات } هي شهر رمضان { فمن كان منكم } حين ورود شهر رمضان الذي فرض فيه الصيام { مريضا } مرضا يضره الصوم أو يعسر عليه { أو } حين وروده { على } جناح { سفر } مقدار مسافة مقدرة عند الفقهاء فأنظر { فعدة من أيام أخر } مساوية للأيام المفطرة، يجب على المفطر بلا كفارة { وعلى الذين يطيقونه } أي: الصوم، فيفطرونه مع أنهم ليسوا مرضى ولا مسافرين { فدية } هي { طعام مسكين } أي: فدية كل يوم من الأيام المفطرة من رضمان طعام واحد من المساكين { فمن تطوع } زاد في الفدية { خيرا } تبرعا زائدا مما كتب له { فهو } أي: ما زاد عليها { خير له } عند ربه يجزيه عليه زيادة جزاء { وأن تصوموا } أيها المؤمنون { خير لكم } من الفدية، وزيادة عليها متبرعا { إن كنتم تعلمون } [البقرة: 184] سرائر الإمساك والفوائد والعائدة منها إلى نفوسكم، من كسر الشهوة والتلقي على الطاعة والتوجه مع الفراعنة، هذا في بدء الإسلام، ثم نسخ بالآية ستذكر.
واعلموا أيها المؤمنون أن أفضل الشهور عند الله وأرفعها قدرا ومرتبة: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } أي: ابتداء نزوله أو نزل كله فيه، بل الك تب الأربعة كلها تنزل فيه على ما نقل في الحديث وكيف لا يكون أفضل الشهور، والحال أن القرآن النزل فيه { هدى للناس } المؤمنين بتوحيد الله المتوجهين نحو جنابه يهديهم إلى مرتبة اليقين { وبينات } شواهد وآيات واضحات { من الهدى } الموصل للمستكشفين عن سرائر التوحيد إلى مرتبة عين اليقين { والفرقان } الفارق لهم بين الحق الذي هو الوجود الإلهي، والباطل الذي هو الوجودات الكونية يوصلهم إلى مرتبة حق اليقين { فمن شهد } أدرك { منكم الشهر } المذكور مقيما مطيقا بلا عذر { فليصمه } ثلاثين يوما حتى بلا إفطار وإفداء؛ لأن هذه الآية ناسخة للآية السابقة.
{ ومن كان مريضا } لا يطيق على صومه خوفا من شدة مرضه { أو على } متن { سفر } فأفطر دفعا للحرج { فعدة من أيام أخر } أي: لزم عليه صيام أيام أخر قضاء لأيام الفطر إنما { يريد الله بكم } أيها المؤمنون { اليسر } لئلا يتحرجوا { ولا يريد بكم العسر } لئلا تضطروا وتضطربوا وإنما رخص لكم الإفطار في المرض والسفر { و } ألزم عليكم القضاء بعد { لتكملوا العدة } المفروضة لكم في كل سنة؛ لئلا تحرموا عن منافع الصوم { ولتكبروا الله } وتعظموه { على ما هداكم } إلى الرخص عند الاضطرار { ولعلكم تشكرون } [البقرة: 185] تتنبهون بشكر نعمه الفائضة عليكم في أمثال هذه المضائق إلى ذاته، أو يشكر نعمه تتقربون إليه.
[2.186-187]
{ و } لذلك أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم إرشادا لعباده الشاكرين لنعمه عن تقربه إليهم بقولهم: { إذا سألك } أيها الداعي للخلق إلى لاحق { عبادي } الشاكرين لنعمه { عني } بقولهم: أقريب إلينا ربنا فنناجيه مناجاتنا نفوسنا، أم بعيد منا فنناديه نداء الأباعد؟ قل لهم يا أكمل الرسل في جوابهم نيابة عني: { فإني قريب } لهم من نفوسهم بحيث { أجيب دعوة الداع إذا دعان } استقبله سريعا لإجابة دعائه كما أشار إليه في الحديث القدسي حكاية عنه سبحانه { فليستجيبوا لي } في جميع مهماتهم وحاجاتهم { وليؤمنوا بي } معتقدين بي إيصالهم إلى غاية متمناهم؛ إذ لا مرجع لهم غيري ولا ملجأ لهم في الوجود سواي، وإنما أخبروا وأمروا بما أمروا { لعلهم يرشدون } [البقرة: 186] رجاء أن يتهدوا إلى مرتبة التوحيد راشدين مطمئنين.,
اهدنا بلطفك إلى مقر عزك يا هادي المضلين.
ثم أشار سبحانه إلى بيان أحكام الصوم مما يتعلق بالحل والحرمة فيه فقال: { أحل لكم } أيها الصائمون { ليلة الصيام } دون نهاره؛ إذ الإمساك عن الجماع في يوم الصوم مأخوذ في تعريفه شرعا { الرفث } الوقاع والجماع { إلى نسآئكم } أي: مع نسائكم اللاتي { هن لباس لكم } لا تصبرون عنهن لإفضاء طبعكم، وميل نفوسكم إليهن { وأنتم لباس لهن } أيضا، لا يصبرن عنكم لاشتداد شهوتهن إلى الوقاع بأضعاف ما أنتم عليه، وإنما رخص لكم الوقاع في لياليه؛ إذ { علم الله } المحيط بسرائركم وضمائركم { أنكم كنتم } لو كلفتم بها { تختانون أنفسكم فتاب عليكم } أي: توقعونها بأيديكم إلى الخبائث فتعاقبون عليها، وتحرمون جزاء الصوم المتكفل لها الحق بذاته، كما قال صلى الله عليه وسلم حكاية عنه سبحانه:
" الصوم لي وأنا أجزي به ".
{ و } إذا علم سبحانه منكم ما علم { عفا } محا { عنكم } ما يوقعكم إلى الفتنة والعذاب، وهو تحريم الرفث في الليلة أيضا، وإذا رخص لكم الوقاع فيها { فالآن بشروهن } أي: ألصقوا بشرتهن لبشرتكم في ليلة الصام المرخصة فيها الجماع، ولا تخافوا من عقوبة الله عليها بعد ما أذن { وابتغوا } اطلبوا سرائر { ما كتب } قدر { الله لكم } من الولد الصالح المتفرع على اجتماعكم من نسائكم؛ إذ سر الجماع والنزوع المستلزم له إبقاء نوع الإنسان المصور بصورة الرحمن؛ ليترقى في العبودية والعرفان إلى أن يستخلف وينوب عنه سبحانه { وكلوا } في ليلة { واشربوا } فيها { حتى يتبين } أي: إلى أن يظهر { لكم } بلا خفاية { الخيط الأبيض } أي: البياض الممتد الذي يقال له في العرف: الصبح الصادق { من الخيط الأسود } البياض المتوهم قبل الصبح الصادق المعبر عنها بالصبح الكاذب، وكلاهما { من الفجر } الشامل لهما، وهو آخر الليل.
{ ثم أتموا الصيام } من الوقت المبين { إلى } ابتداء { الليل } وهو غروب الشمس بحيث لا يرى في الأفق الشرقي بياض وحمرة منها { ولا تبشروهن } في ليلة الصيام أيضا { وأنتم عكفون } معتكفون { في المسجد } إذ الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد على نية التقرب، فيبطله الخروج إلا إلى التوضؤ والطهارة، والجماع فيه ليس بمرخص شرعا { تلك } الأحكام المذكورة { حدود الله } الحاجزة بينه وبينكم؛ لئلا تتجاوزوا عنها { فلا تقربوها } إلى حيث يتوهم تجاوزكم عنها { كذلك } كالحدود والأحكام المأمور به والمنهية { يبين الله } الهادي إلى وحدة ذاته جميع { ءايته } أي: علاماته الدالة على توحيده الذاتي { للناس } الناسين العهود السابقة بواسطة تعيناتهم { لعلهم يتقون } [البقرة: 187] رجاء أن يتخذوا عنها بسبب إشراق نور الوجود الحق المفني لها مطلقا.
[2.188-190]
{ و } من جملة الأحكام الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم أن { لا تأكلوا أموالكم بينكم } أي: لا يأكل كل منكم مال الآخر { بالباطل } أي: بالسبب الباطل الغير المبيح له أكل مال الغير، من السرقة والغصب والربا والرشوة، والحيل المنسوبة إلى الشرع افتراء، وغير ذلك مما ابتدعه الفقهاء في الوقائع من الحيل والشبه، ونسبوها إلى السمحة الحنيفية البيضاء المحمدية، المنبئة عن الحكمة الإلهية، المنزهة عن أمثال تلك المزخرفات الباطلة { و } أيضا من جملة الأحكام الموضوعة ألا { تدلوا بها } أي: لا يحاول بعضكم مال بعض { إلى الحكام } المسلطين عليكم؛ أي: لا يفتري بعضكم بعضا افتراء يوقع بينكم العداوة والحكومة والبغضاء المفضية إلى المصادرة المستلزمة لأخذ المال من الجانبين، ومن أحد الجانبين { لتأكلوا } أي: الحكام { فريقا } بعضا أو كلا { من أموال الناس } المظلومين { بالإثم } الصادر عن المدلي والمغري { وأنتم } أيها المدلون { تعلمون } البقرة: 188] أنكم آثمون مفترون.
بك نعتصم عن أمثاله يا ذا القوة المتين.
ثم لما قدر سبحانه في سابق علمه الحضوري سؤال أولئك السائلين عن كمية ازدياد القمر وانتقاصه وبدوه رقيقا واستكماله، ورجوعه على ما كان عليه، أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عما سألوه امتنانا عليه فقال: { يسألونك } أيها الداعي إلى الحق { عن } كيمة تغير { الأهلة قل } واختلافها كمالا ونقصانا، قل لهم في جوابهم كلاما ناشئا عن لسان الحكمة مطابقا لأسلوب الحكيم مقتضى حالكم وإدراككم: إن تسألوا عن الحكم والمصالح المودعة فيها لا عن كمية أمر القمر، فإنها خارجة عن طوق البشر، ونهاية مدارك العقلاء من أمر القمر ليس إلا أن نوره مستفاد من الشمس، وإنه مظلم في ذاته، وإن استفادته النور بحسب مقابلته بالشمس، وعدم ممانعة الأرض منها.
وإما أن الشمس ما هي في ذته والقمر ما هو؟ والارتباط بينهما على أي وجه فسر؟ لا يحوم حوله عقول أحد من خلقه، بل مما استأثر الله به في علمه، فلا يسأل عنه أحد، بل { هي } أي: الاختلافات الواقعة في القمر زيادة ونقصانا، ترقيا وتنزيلا لأجل أنه { مواقيت } معينة { للناس } في أمور معاشهم من الآجال المقدرة؛ لقضاء الديون والعدة وتعليقات المتعلقة بها، وغير ذلك من التقديرات الجارية في المعاملات بين الناس في العادات والعبادات { و } خصوصا في { الحج } والصوم والنذر المعينة، فإنها كلها تضبط باختلافات إلى غير ذلك من العبادات المؤقتة { و } كما أن سؤالكم هذا ليس من الأمور المبرورة المتعلقة لدينكم وتوحيدكم كذلك { ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } لا من أبوابها.
الأنصار كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا من أبواب البيوت، بل يثقبون ظهورها ويدخلون منها يعدون هذه الفعلة من الأمور المبرورة ويعتقدونها كذلك، لذلك نبه سبحانة على خطئهم، وأرشدهم إلى البر الحقيقي بقوله: { ولكن البر } المقبول عند الله بر { من اتقى } عن محارم الله مطلقا حين لبس الإحرام؛ إذ الإحرام للموت الإرادي المعبر عنه بلسان الشرع بالحج بمنزلة الكفن للموت الطبيعي، فكا أن لابس الكفن محفوظ عن جميع المحارم اضطرارا، كذلك لابس الإحرام لا بد أن يتقي نفسه عن جميع المحارم إرادة واختيارا { و } إذا لم يكن الدخول من ظهور البيوت وثيقة من البر { أتوا البيوت من أبوابها } مغمضين عيونكم عن محارم الله { واتقوا الله } مخلصين له خائفين منه { لعلكم تفلحون } [البقرة: 189] رجاء أن تفوزوا بالفلاح من عند الله بسبب تقواكم.
{ و } من جملة الحدود الموضوعة فيكم: القتال مع أعداء دينكم { قاتلوا في سبيل الله } مع المشركين المعرضين عن طريق الحق، المائلين عنه تعنتا واستكبارا وخصوصا مع { الذين يقاتلونكم } ويقصدون استئصالكم بادين للقتال مجترئين عليها { ولا تعتدوا } ولا تتجاوزوا أيها المؤمنون عما نهيتم عنه من قتل المعاهد، والفجر والاقتحام فجأة، والمقاتلة في الحرم وفي الشهور المحرمة، والابتداء بالمقاتلة وغير ذلك { إن الله لا يحب المعتدين } [البقرة: 190] المتجاوزين عن الحدود والعهود.
[2.191-194]
{ و } إن اجتمعوا لقتالكم وتوجهوا نحوكم { اقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي: في أي مكان وجدتموهم { وأخرجوهم } إن ظفرتم عليهم { من حيث أخرجوكم } أي: مكة { و } ألقوا بينهم الفتن والاضطراب وأوقعوهم في حيص بيص ؛ إذ { الفتنة أشد } أثرا { من القتل } لأن أثر القتل منقطع به وأثر الفتنة مستمر دائم غير منقطع { و } عليكم المحافظة للعهود خصوصا { لا تقاتلوهم } وأنتم بادون للقتل { عند المسجد الحرام } الذي حرم فيه إزالة الحياة مطلقا { حتى يقاتلوكم فيه } وهم بادون معتدون عن حدود الله { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } بعد فيه أيضا قائلين: { كذلك جزآء الكافرين } [الكافرين: 191] الهاتكين حرمة بيت الله.
{ فإن انتهوا } عن الكفر والقتال مع المؤمنين وآمنوا على وجه الإخلاص { فإن الله } المطلع لضمائرهم { غفور } لما صدر عنهم من الكفر { رحيم } [البقرة: 192] لهم بما ظهر منهم من الإيمان والإسلام.
{ وقاتلوهم } أيها المؤمنون إلى أن تستأصلوهم { حتى لا تكون فتنة } أي: لا يتبقى فتنة يفتتنون بها ويشوشون منها { ويكون الدين } كله { لله } بلا مزاحم ولا مخاصم { فإن انتهوا } عن كفرهم بلا مقاتلة ودخلوا في دين الإسلام طائعين { فلا عدوان } ولا عداوة باقيا لكم معهم، بل هم إخوانكم في الدين { إلا على الظالمين } [البقرة: 193] أي: مع الظالمين منهم المجاوزين عن الحدود والعهود، المصرين على ما هم عليه من الكفر والجحود.
وبعا ما قاتل المشركون مع المؤمنين عام الحديبية في ذي القعدة الحرام، عزم المؤمنون الخروج إلى مكة لعمرة القضاء أيضا فيها في السنة الثانية وهم يكرهون القتال؛ لئلا يهتكوا حرمة شهرهم هذا كما هتكوا، أنزل الله عليهم هذه الآية فقال: { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي: لا ينالوا ولا يمتنعوا عن القتال فيه؛ إذ هتككم حرمة شهركم في هذه السنة بسبب هتكهم حرمته في السنة السابقة، فيؤول كلا الهتكين إليهم { والحرمات قصاص } أي: و اعلموا أن الحرمات التي يجب محافظتها وعدم هتكها يجري فيها القصاص بالمثل، فلما هتكوا حرمة هذا الشهر في السنة السابقة، فافعلوا معهم في هذه السنة بمثله ولا تجاوزوا عنه { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهذا أيضا من الحدود الموضوعة بينكم لإصلاح حالكم وتهذيب أخلاقكم { واتقوا الله } أن تتخلفوا عن حدوده بالإقدام على ما نهيتم عنه، والإعراض عما أمرتم به { واعلموا } أيها المؤمنون { أن الله } المدبر لكم المصالح لأحوالكم { مع المتقين } [البقرة: 194] منكم، وهم الذين يحفظون نفوسهم عن محارم الله ومنهياته، ويرغبونها نحو أوامر الله ومرضياته.
[2.195-196]
{ و } من جملة الأخلا الموضوعة فيم: الإنفاق في فواضيل أمولكم إلى الفقراء والمساكين الذين أسكنهم الاحتياج والإسكان في زواية الخمول { أنفقوا } أيها المؤمنون { في سبيل الله } مقتصدين فيه بين طرفي التبذير والتقتير المذمومين عند الله وعند المؤمنين { ولا تلقوا بأيديكم } أنفسكم { إلى التهلكة } والمشقة بالإسراف والتضييع أو بالبخل والتقتير؛ إذ بالبخل تبقى النفس في ظلمة الإمكان وتوطن في وحشة الحرمان والخذلان { و } من جملة أخلاقكم الإحسان { أحسنوا } أيها المتوجهون إلى فضاء التوحيد أخلاقكم وأعمالكم وجميع أوصافكم؛ إذ ما من نبي ولا وليذ إلا هو مجبول على حسن الأخلاق والشيم المقتبسة من أخلاق الله سبحانه، لذلك استحقوا الخلافة والنيبة { إن الله يحب المحسنين } [البقرة: 195] المتفضلين بالأموال والأعمال.
{ و } من الأركان المفروضة في دينكم أيها المحمديون { أتموا الحج } أي: الخصائل والسنك المحفوظة المفروضة فيه، وإن أدى إلى المقاتلة والمشاجرة { والعمرة } الأمور المسنونة فيه { لله } قاصدين التقرب إليه والتوجه إلى بابه؛ إذ الحج الحقيقي هو الوصول إلى الكعبة الحقيقية التي هي الذات الأحدية { فإن أحصرتم } منعتم وحبستم بعدما أحرمتم للحج والعمرة من الوصول إلى المقيات، وتتميم الواجبات { فما استيسر من الهدي } أي: فعليكم إذا أردتم التحلل والخروج من الإحرام، ذبح ما تيسر لكم حصوله من الهدي المحلل، مثل البقرة والبدنة والشاة وغيرها بحسب طاقتكم وقدرتكم، بأن تبعثوها إلى الحرم أو تذبوحها حيث أحصتم { ولا تحلقوا رؤوسكم } أيها المحصورون المريدون التحلل { حتى يبلغ الهدي محله } المبعوث إليه، أو تذبحونه في المكان المحصور فيه، والحاصل ألا تحلقوا رءوسكم قبل ذبح الهدي أو قبل وصولها إلى الحرم.
{ فمن كان منكم مريضا } أزداد بشعر الرأس { أو به أذى } ناشئا { من } شعر { رأسه } من تزاحم قمل أو صداع مفرط أو جرب مشوش وحلق لأجله { ففدية } أي فاللازم عليه الفدية سواء كان { من صيام } مقدر بثلاثة أيام للفقراء العاجزين عن غيره { أو صدقة } مقدرة بثلاثة آصع من الطعام للمتوسطين { أو نسك } من بدنة أو بقرة أو شاة للأغنياء على اختلاف طبقاتهم { فإذآ أمنتم } أي: إذا أحرمتم للحج حال كونكم آمنين من الموانع من إحصار العدو والمرض العارض ونزول الحادثة وغير ذلك من العوائق، فعليكم إتمام نسكه على الوجه الذي أمرتم به بلا إهمال شيء من آدابه المحفوظة فيه.
{ فمن تمتع } تقرب إلى الله { بالعمرة } من أشهر الحج قبل تقربه إليه بالحج، وبعد ما تم مناسك عمرته قصد { إلى الحج فما استيسر } أي: فعليه ما استيسره { من الهدي } ويقال له عند الفقهاء: دم الجبران، يذبح حين أحرم للحج ولا تأكلوا منه { فمن لم يجد } الهدي منكم لفقره { فصيام ثلاثة أيام في } زمان { الحج وسبعة إذا رجعتم } إلى أوطانكم وأهليكم؛ إذ الصوم فيها خصوصا في أيام الحج من أصعب المشاق المفضي إلى الحرج { تلك عشرة كاملة } قائمة مقام الهدي للفقراء الغرباء الفاقدين وجه الهداية، وإنما أمرتم بصوم ثلاثة فيها؛ لئلا تحرموا عن إتمام متممات الحج في أوقاته { ذلك } الحكم المذكور { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } أي: من جملة المتوطنين فيها، أو في حواليها أقل من مقدار مسافة القصر { واتقوا الله } في محافظة أوامره التعبدية { واعلموا أن الله } المطلع بضمائر المتهاونين في أوامره { شديد العقاب } [البقرة: 196] إذ أكثر الأمور الشرعية والعزائم الدينية تعبدي لا يدرك سره، خصوصا الأعمال المنسوبة إلى الحج.
[2.197-198]
ثم لم أمر سبحانه عباده بالحج، بأن يأتوا إلى بيته من كل بلد بعيد وفج عميق، عين له وقتا معنيا من الأوقات التي لها فضيلة ومنزلة عنده سبحانه، فقال: { الحج } أي: أوقات الحج { أشهر معلومات } متبركات معروفات، وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامها أو بعضها على ما خولف فيه { فمن فرض } على نفسه { فيهن الحج } بأن ارتكب بشرائطه وأركانه عاديا له في خلال هذه الأشهر، لزمه إتمامه بلا فسخ العزيمة وقلب النية وحل المحرمات فيه { فلا رفث } أي: لا جماع ولا وقاع وإن طالت المدة { ولا فسوق } ولا خروج عن حدود الله بارتكاب المحظورات { ولا جدال } ولا مجادلة ولا مراءاة مع الخدام والرفقاء { في } أيام { الحج } إذ الحج كناية عن الموت الإداري المنبئ عن الحياة الحقيقة، وهذه الأمور من أوصاف الأحياء بالحياة الطبيعية، فمن قصد الحج الحقيقي والحياة الحقيقية، فله أن يميت نفسه من لوازم الحياة الطبيعية المستعارة، الغير القارة؛ ليفوز بالحياة الحقيقية الازلية والبقاء الأبدي السرمدي، وذلك لا يتيسر إلا بالخروج عن مقتضيات عقل الجزئي المشوب بالوهم والخيال، بل هو مقلوب منها محكوم لها دائما.
ولا يحصل ذلك إلا للسالك الناسك الذي جذبه الحق عن نفسه متدرجا مرتقيا من عالم إلى عالم من العوالم المنتخبة عنها ذاته إلى أن وصل إلى مقام ومرتبة طويت المراتب كلها عنده، وفنيت العوالم بأسرها فيها، وفني فيها أيضا، وهي فناؤها أيضا فيها، ولم ينزل فيها هابطا أصلا، بل تقرر وتمكن واطمأن فيها كما نشاهد مثلها متحسرين، متمنين لها من بعض بدلاء الزمان، مد الله ظلاله العالي على مفارق أهل اليقين والعرفان، وإبهام اسمه لإبهام شأنه، هيهات هيهات ما لنا وما لحتى حتى نتكم عنه.
جعلنا الله من خدام تراب أقدامه.
وبعدما أمر سبحانه عباده بحج بيته تعظيما له ولبيته، حثهم على الخيرات، وبذل المال فها وفي طريقها؛ لتقرر في نفوسهم هذه الخصلة الحميدة؛ إذ هو المناع من ميل القلوب إلى المحبوب الحقيقي وهو رأس كل فتنة فقال: { وما تفعلوا } لرضاء الله { من خير } خالص عن ثوب المنة والأذى، عار عن العجب والرياء، سالم عن وسوسة شياطين الأهواء { يعلمه الله } بالحضور،؛ إذ أمثال هذه الخيرات جار على الصراط المستقيم الذي هو صراط الله الأعظم الأقوم { وتزودوا } للعبور على صراط الله بالتقوى عن الدنيا وما فيها { فإن خير الزاد } للعباد ليوم المعاد هو { التقوى } عن جميع الفساد { واتقون يأولي الألباب } [البقرة: 197] المتوجهين إلى لب اللباب، والمتمايلين عن القشور العائقة عن الحضور، أدركنا بلفطك يا خفي الألطاف.
{ ليس عليكم } أيها المؤمنون { جناح } ضيق وتعب اتقائكم من سخط الله وتزويدكم بالتقوى { أن تبتغوا } أي: كل منكم { فضلا } من المعارف اليقينية واللذات الروحانية { من ربكم } الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم { فإذآ أفضتم } أيها المؤمنون { من عرفت } الذات المحيطة بجميع الصفات المرتبة لكم، جمعها باعتبار وصول كل من الواصلين إليها بطريق مخصوص، وإن كانت بعد الوصول واحدة، وحدة حقيقية ذاتية لا كثرة فيها أصلا { فاذكروا الله } المستجمع لذواتكم { عند المشعر الحرام } أي: الصفات المحرمة ثبوتها لغير ذات الله، أفرده لاختصاص كل بصفة مخصوصة يربيه { واذكروه كما هدكم } بتفويض الأمور كلها إليه، واتقائكم نحوه من وساوس الشياطين المضلة { وإن كنتم من قبله } أي: قبل إهدائه { لمن الضآلين } [البقرة: 198] التائهين في بيدات الضلالة، الناكبين عن الهداية الحقيقية.
[2.199-202]
{ ثم } لما تم توجهكم ووقوفكم بعرفة الذات وتحققكم بها { أفيضوا } منها { من حيث أفاض الناس } إلى المرابت المترتبة إلى الصفات { واستغفروا الله } المحيط بكم فيها { إن الله غفور } ساتر لرتبكم وتعيناتكم { رحيم } [البقرة: 199] لكم بإيصالكم إلى مبدئكم الأصلي.
{ فإذا قضيتم مناسككم } المأمور لكم من الاجتناب عن مقتضيات الحياة الطبيعية والاتصاف بمقتضيات المعين الحقيقية { فاذكروا الله } الهادي لكم إلى هذه المرتبة { كذكركم آبآءكم } بلا تردد وتشكيك { أو أشد ذكرا } بل ذكر الله أشد في الوضوع من ذكر الآباء؛ إذ يجري فيه التشكيك بخلاف ذكر الله المتفرع على الشهود، المستتبع للفناء فيه، فإنه خال عن وصمة الريب { فمن الناس من } يحصر التوجه والرجوع إلى الله والمناجاة معه للنشأة الأولى، و { يقول ربنآ آتنا في الدنيا } ما نحن محتاجون إليها من أمور المعاش { و } هو إن وصل إلى مبتغاه في الدنيا { ما له في الآخرة من خلاق } [البقرة: 200] نصيب؛ لصرفه استعداده إلى ما لا يغنيه بل يضره.
{ ومنهم من يقول } جامعا بين الظاهر والباطن والأولى والأخرى: { ربنآ آتنا في الدنيا حسنة } ترضى بها عنا فيها { وفي الآخرة حسنة } توصلنا إلى توحيدك { وقنا } بلطفك { عذاب النار } [البقرة: 201] أي: الإمكان المحوج إلى الذات الوهمية.
{ أولئك } الموفون الموحدون الجامعون بين مرتبتي الظاهر والباطن { لهم نصيب } حظ كامل { مما كسبوا } في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة من المعارف اللدنية والكشوف الإلهية { والله } المحيط وبضمائرهم { سريع الحساب } [البقرة: 202] يحاسبهم ويجازيهم على ما كسبوا.
[2.203-206]
{ واذكروا الله } بعد تتميمكم مناسككم ووقوفكم بعرفة { في أيام معدودات } هي أيام التشريق { فمن تعجل } أي: استعجل للرجوع والنفر { في يومين } أي: في ثاني أيام التشريق { فلا إثم عليه } باستعاجله { ومن تأخر } أيضا { فلا إثم عليه } بتأخيره؛ يعني: أنتم مخيرون في استعجال النفرة وتأخيرها بعدما وصلتم، والفوز العافية { لمن اتقى } إلى الله عن محارمه { واتقوا الله } في جميع ما صدر عنكمن واستحفظوا منه { واعلموآ أنكم } بأجمعكم { إليه } لا إلى غيره { تحشرون } [البقرة: 203] ترجعون رجوع الظل إلى ذي الظل.
{ و } من جملة الآدب الموضوعة فيكم بوضع الله المدبر لأموركم المهذب لأخلاقكم: الاجتناب عن الجلساء السوء، لذلك خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم امتنانا عليه وإرشادا لكم، فقال: { من الناس } المجبولين على البغض والنفاق، المستمرين عليه دائما بلا تصفية ووفاق { من يعجبك } يوقعك في العجب المحير العارض لنفسك بلا علمك بموجبه وسببه { قوله في الحيوة الدنيا } أي: مقوله المتعلق بأمور الدنيا وأسباب المعاش، بأن من تسلم أمور الدنيا وترتيبها يتوصل إلى الآخرة ولذاتها، كما هو المشهور بين أهل الدنيا، ويسمونه عقل المعاش { و } مع إغرائه وتغيره { يشهد الله على ما في قلبه } من حب الدنيا، ويدعي موافقة كلام الله وحكمه المودعة فيه على ما يدعيه، لا تغفل عنه ولا تسمع قوله { } [البقرة: 204] وأشد العداوة والجدال معك ومع من تبعك من المؤمنين.
قيل: نزلت فوهو ألد الخصامي الأخنس بن شريك الثقفي، وكان من بلغائهم وفصائحهم، له الوجاهةو الحسن والطلاقة، يتردد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويصاحب معه ويظهر المحبة والإخلاص، ويدعي الإيمان والانقياد.
{ وإذا تولى } أدبر من عنده { سعى في الأرض } الموضوعة للإصلاح والتعمير { ليفسد فيها } بأنواع الفسادات { و } من جملة ذلك أنه { يهلك الحرث والنسل } بالظلم والفسوق والعصيان المتجاوز للحد مثل: الزنا وقطع الطريق والخروج على الولاة القائمين بحدود الله المقيمن بأحكامه، كالمتمشيخة المبتدعة التي ظهرت في هذه الأمة بإفساد عقائد ضعفاء المسلمين بالشيخوصة، وترغيبهم إلى البدع والأهواء الباطلة المؤدية إلى تحليل المحرمات الشرعية، ورفع التكليفات الدينية والمعتدات اليقينة، شتت الله شملهم وفرق جمعهم { والله } الهادي للعباد { لا يحب الفساد } [البقرة: 205].
{ و } من غاية عتوه وعناده ونهاية استكباره { إذا قيل له } إمحاضا للنصح: { اتق الله } عن أمثال هذه الفضائح واستح منه { أخذته } هيجته وحركته { العزة } المرتكزة في نفسه { بالإثم } الذي منع منه لجاجا وعنادا { فحسبه } وحسب أمثاله { جهنم } الإمكان الذي يعلبون بنيرانها، كفت مؤنة شرورهم وطغيانهم { و } الله { لبئس المهاد } [البقرة: 206] مهدا لإمكان المستلزم لمهد النيران.
[2.207-210]
وأيضا من جملة الآداب الموضوعة فيكم بل من أجلها: الرضا والتسليم بما جاء من قضاء الله ومقتضياته، لذلك قال: { ومن الناس } المتشمرين إلى الله بالرضاء والتسليم { من يشري نفسه } ويوقعها في المهلكة لا لداعية تنبعث من نفسها، بل { ابتغآء مرضات الله } طالبا لرضائه، راضيا بما قضاه { والله } المحيط بجميع الحالات { رؤوف } عطوف مشفق { بالعباد } [البقرة: 207] الصابرين في البلوى الطائعين إلى المولى، الراضين بما يحب ويرضى.
ثم لما كان الرضاء والتسليم من أحسن أحوال السالكين المتوجهين إلى الله العزيز العليم، وأرفعها مقدارا ومنزلة عنده، أمرهم بها امتنانا عليهم وإصلاحا لحالهم، فقال مناديا: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم الرضا والتسليم { ادخلوا } أيها المستكشفون عن سرائر التوحيد { في السلم } أي: الانقياد والإطاعة المتفرعين على الرضا والإخلاص المنبئين عن التحقق بمقام العبودية { كآفة } أي: ادخلوا في السلم حالة كونكم مجتمعين كافين نفوسكم عما يضر إخلاصكم وتسليمكم { ولا تتبعوا } أيها المتوجهون إلى مقام العبودية والرضا إثر { خطوات الشيطان } أي: الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق، المعبرة عنها في الشرع بالشيطان { إنه لكم عدو مبين } [البقرة: 208] ظاهر العداوة والإضلال يضلكم عما يهديكم الحق إليه.
{ فإن زللتم } وانصرفتم عن طريق الحق { من بعد ما جآءتكم البينات } المبينة الموضحة لكم طريقه { فاعلموا أن الله عزيز } غالب قادر على الانتقام { حكيم } [البقرة: 209] لا ينتقم إلا بالحق.
{ هل ينظرون } أي: ما ينتظرون المزلون عن طريق الحق بعد الوضوح والتبيين { إلا أن يأتيهم الله } بعذابه المدرج المكنون { في ظلل من الغمام } السحاب الأبيض المظل لهم، يتوقعون منه الراحة والرحمة { والملائكة } الموكلون بجر سحب العذاب إليهم، فأنزل عليهم واستأصلهم بالمرة { وقضي الأمر } المبرم المقضي عليه من عنده لانتقامهم كالأمم الماضية { وإلى الله } لا إلى غيره من الوسائل والأسباب { ترجع الأمور } [البقرة: 210] أولا وبالذات، وإن تشكك أحد في الانتقام ونزول العذاب على المزلين المنصرفين عن طريق الحق بعد الوضوح والتبيين.
[2.211-213]
قل يا أكمل الرسل نيابة عنا إلزاما له: { سل بني إسرائيل } أي: تذكر قصتهم { كم } كثيرا { آتيناهم من آية بينة } مبينة في كتبهم، فأنكروا عليها ظلما وعداونا، فأخذناهم بظلمهم إلى أن أستأصلناهم بالمرة { و } لا يختص هذا ببني إسرائيل، بل { من يبدل } ويطير { نعمة الله } المسلتزمة للشكر والإيمان كفرا وكفرانا { من بعد ما جآءته } الموضحة المبينة، فله من العذاب والنكال ما جرى عليهم { فإن الله } المتجلي باسم المنتقم { شديد العقاب } [البقرة: 211] صعب الانتقام وسريع الحساب.
ثم ذكر سبحانه مساوئ أهل الكفر وسوء معاملتهم مع المؤمنين المخلصين؛ ليجتنب المؤمنون عن أمثاله، فقال على وجه الإخبار: { زين للذين كفروا } أي: حسن في عيونهم وارتكز في قلوبهم { الحياة الدنيا } أي: الحياة المستعارة المنسوبة إلى الدنيا { و } أدى أمرهم في هذا التزيين والتحسين إلى أن { يسخرون } ويستهزئون { من الذين آمنوا } أي: صار المؤمنون لفقرهم وعرائهم عن أمتعة الدنيا الدنية محل استهزائهم وسخريتهم، متى قصدوا الاستهزاء على مناقد الدنيا أخذوا منهم { و } الحال أن المؤمنين { الذين اتقوا } عن الدنيا ومزخرفاتها الفانية الغير الباقية يكون { فوقهم } رتبة ومنزلة عند الله { يوم القيامة } المعد لجزاء الأعمال الصالحة في النشأة الأولى { والله } الرزاق للكل { يرزق من يشآء } من عباده بالرزق الدنيوي { بغير حساب } [البقرة: 212] فيها، بل مستجبرين متكبرين مفتخرين بمزخرفاتها إلى النشأة الأخرى، فيحاسبهم فيها ويجازيهم عليها، ويرزق أيضا من يشاء من عباده بالرزق الأخروي بغير حساب، لا في النشأة الأولى ولا في الأخرى، بل صاروا في حمائه أزلا وأبدا لا يشوشهم الحساب ولا تتفاوت عندهم اللذة والعذاب، بل صاروا ما صاروا بلا سترة وحجاب.
آتنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
{ كان الناس } في الفطرة الأصلية والمرتبة الحقيقية الجبلية { أمة وحدة } وملة واحدة مستوجهة إلى مبدئهم الحقيقي ومقصدهم الأصلي طوعا، ثم اختلفت آراؤهم وتشتت أهواؤهم بشياطين القوى الوحدانية التي هي من جنود إبليس، فظهر بينهم العداوة والبغضاء والمجادلة والمراء { فبعث الله } المدبر لأمورهم { النبيين } من بني نوعهم، المؤيدين من عند ربهم { مبشرين } لهم طريق الإطلاق والتوحيد { ومنذرين } لهم عن الكثرة والتقييد { وأنزل معهم } تصديقا لهم { الكتب } الجامع لما يبشر به وينذر عنه ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع { ليحكم } كل نبي به { بين الناس } المنسوبين إليه { فيما اختلفوا فيه } من أمور معاشهم ومعادهم.
{ وما اختلف فيه } أي: في الكتاب المنزل إليهم بالتكذيب والإنكار أحد من الناس { إلا } القوم { الذين أوتوه } أي: الكتاب، وكان اختلافهم { من بعد ما جآءتهم البينت } الواضحات المصدقات، بأنه منزل لهم من عند الله العليم الحكيم { بغيا } خروجا عن طريق الحق وحسدا لأهله واقعا { بينهم } من وساوس شياطينهم، من الجاه و الرئاسة والعتو والاستكبار { فهدى الله } بلطفه { الذين آمنوا } بالنبي المبعوث، والكتاب المنزل معه { لما اختلفوا فيه } من الأمور الدينية مع المعاندين المنكرين، والحال أنه { من الحق } الصريح المطابق للواقع، واختلافاتهم أيضا معهم إنما يكون { بإذنه } أي: بأمره المنزل في كتابه { والله } المرشد لكل العباد إلى ما هم عليه { يهدي } بفضله { من يشآء } من خلص عباده { إلى صرط مستقيم } [البقرة: 213] الموصل إلى بابه بلا عوج وضلال.
[2.214-216]
أرجوتم وطمعتم أيها المحمديون المتوجون إلى زلال التوحيد، وصفو التجريد والتفريد، أن تصلوا إليه بأنيتكم هذه بلا سولك ومجاهدة، وسكر وصحو، وتلوين وتمكين، وقيد وإطلاق، ونفي وإثبات، وفناء وبقاء، وهيهات هيهات.
{ أم حسبتم } تمنيتم متوقعا { أن تدخلوا } فجأة بهويتكم هذه بلا إفنائها أو فنائها في هوية الله { الجنة } التي ارتفعت عندها الهويات، واضمحلت دونها الماهيات { ولما يأتكم } أي: لما يأتكم { مثل الذين خلوا } مضوا { من قبلكم } أي: شأنهم وقصتهم المشهورة المعروفة المنسوبة إلى الأحرار الأبرار الواصلين إلى دار القرار كيف { مستهم } بأبدانهم وأجسادهم وهوياتهم الجسمانية { البأسآء } المذلة الدميمة المزمنة المزعجة المفنية لإتيانهم، وكيف مستهم أيضا بأرواحهم المتكثرة بأشباحهم المتربتة على الأوصاف الذاتية الإلهية { والضرآء } المسقطة للإضافات كلها { و } بعد ما وصلوا إلى هذه المرتبة المعبرة بالقيامة والطامات الكبرى عند العارف { زلزلوا } اضطربوا وتلونوا وتذبذبوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وكان حالهم بين الحيرة والحسرة يترددون ويتحيرون، إلى أن غلب عليهم المحبة والشوق، وانبعث من المحبة الخالصة والإرادة الصادقة العشق المفرط المنبعث من جذب المعشوق الماثل بالطبع نحوه واحتاجوا إلى نصر الله وتوفيقه، وجذبه بلطف، فاضطروا في بين وبين، وأين إلى أين { حتى يقول الرسول } المرشد إلى طريق التوحيد مناجيا مع الله وأفعاله؛ إذ هم { و } أيضا { الذين آمنوا معه } مشايعين له في قوله ودعائه مشاركين معه في نهر الاشتياق والاستبطاء وقلة الصبر والجزع والفزع والاضطرار والمراقبة والانتظار { متى نصر الله } حتى يتخلص من التلون والتمكن والكون والتكون والظهور والإظهار والغيب والشهادة، وغير ذلك من الإضافات.
قيل لهم: وما لنا تعيين القائل؟ إذ لا قائل إلا هو، منبها مستقربا مستعجبا مستغربا { ألا } تنبهوا أيها الأطلال الممدودة المتعددة المنتشئة من الأوصاف المحمودة الذاتية الأحدية المضافة بعضها إلى بعض ارفعوا إضافتكم عن البين وغشاوتكم عن العين، حتى اتصل العين بالعين، وارتفع البين عن البين وقولوا: وما أدري ها هنا أيضا ما القائل وما المقول، وما القول وما المقول إليه، وما هذا وماذا؟.
أدركنا بلطفك عن حجاب الألفاظ وغشاوة العبارة.
{ إن نصر الله قريب } [البقرة: 214] حاضر غير مغيب لو تنبهتم إلى ذي ظلكم، والتنبه له محال إلا من كشف سبحانه عليه كيفية الظل والإظلال والاستعداد والتعدد الحاصل فيه، والكوائن الغير المتناهية، والمكونات الغير المحصورة الحاصلة فيه بأشخاصها وأنواعها وأجناسها إلى ما شاء الله، لا حول ولا وقة إلا بالله.
(و) بالجملة: لا تحوم الفهوم حول سرادقات عز جلله حتى يشقق عن كائناته ومصنوعاته، ليس كمثله شيء ليقاس عليه ولا غيره حتى يسمع منه ويبصر به، وهو السميع البصير العليم، وليس وراء الله مرمى { يسألونك } أيها الهادي للكل عن الإنفاق وعما ينفق به، ويقولون: { ماذا ينفقون } أي: أي شيء ينفق المنفق في سبيل الله؟ { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة: { مآ أنفقتم } سواء كانت تمرة أو كسرة أو حبة أو ذرة صادرة { من خير } خالص من ثوب المشوب المنة والأذى { فللوالدين والأقربين } إليكم نسبا أولى إن كانوا مستحقين { و } بعد ذلك أولاهم { اليتامى } الذين لا متعهد لهم { و } بعد ذلك { المساكين } الذين أسكنهم المذلة والهوان { و } بعد ذلك { ابن السبيل } الذين تعذر وصولهم إلى مملوكاتهم { و } اعلموا أيها المؤمنون أن { ما تفعلوا من خير } خالصا لرضائه سبحانه { فإن الله به عليم } [البقرة: 215] لصدروه عنه وعن جريان حكمه وسنته.
ثم لما ظهر أمر الإسلام وعلا قدره وارتفع مناره، فرض الله سبحانه على المؤمنين الموقنين بطريق التوحيد المشاجرة والمقاتلة مع المخالفين، الناكبين عن طريق الحق بالشرك والإشراك؛ ليظهر شمس التوحيد على النفاق، ويضمحل شوب الكثرة والثنوية المنبعثة عن الكفر والنفاق، ويتميز الحق عن الباطل والوجود عن العدم العاطل، فقال: { كتب عليكم } أيها المؤمنون { القتال } مع مخالفيكم من أهل الكثرة { وهو كره } مكروه مستهجن { لكم } ما دمتم في أنانيتكم وهويتكم هذا، وما دمتم فيها مع تكثر الإضافات ولوازم الإمكان والإضافات { وعسى أن تكرهوا شيئا } في النشأة الأولى { وهو خير لكم } في النشأة الأخرى { وعسى أن تحبوا شيئا } منها { وهو شر لكم } فيها { والله } الهادي لكم إلى سواء السبيل { يعلم } خيركم ويأمركم به وشرك فيحذركم عنه { وأنتم } بهويتكم هذه { لا تعلمون } [البقرة: 216] شيئا من الخير والشر، بل لكم الإطاعة والإنقياد بما أمر ونهى والعلم عند الله العزيز العليم.
[2.217-218]
{ يسألونك } أيها الداعي للخلق إلى الحق { عن الشهر الحرام } هو من المحرمات الإلهية أم لا؟ وعن { قتال } واقع { فيه } أهو أيضا من المحرمات أم لا؟ { قل } يا أكمل الرسل للسائلين نيابة عنا: هما من محرماته سبحانه، بل { قتال فيه } ذنب { كبير } إذ هو خروج عن مقتضى حد الله الموضوع في هذا الشهر { و } مع كونه ذنبا { وصد } منع وصرف للتجار { عن سبيل الله } المبيح لهم لكسب معاشهم { و } مع ذلك، العياذ بالله { وكفر به } أي: بالله بعدم إطاعة أمر الله.
روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين ليترصد القفل الذي كان لقريش في جانب الشام، وفيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فلما ظفروا عليهم قتلوا الحضرمي وأسروا اثنين واستاقوا العير نحو المدينة، وفيها تجارة للطائف أيضا، وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من الجمادى.
فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويتردد فيه الناس إلى معاشهم، ثم لما سمع صلى الله عليه وسلم بعير قريش قال لعبد الله: " ما أمرت لك القتال في الشهر الحارم وسوق العير فيه، وشق على أصحاب السرية، وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزلت.
ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى، فلاموه وعيروه على ما صدر عنه { و } قالوا: أنتوجه إلى { المسجد الحرام } ونمنع الزوةار منه؟ رد الله عليهم فقال: { وإخراج أهله } أي: أهل المسجد الحرام عدوانا وعمدا { منه أكبر } ذنبا { عند الله } من منع الزوار، والقتل سهوا أو خطأ ناشئا من عدم التدبر في تعين الوقت؛ إذ الإخراج: افتنان بني المسلمين المستأهلين ببيت الله { والفتنة أكبر من القتل } إذ شرها عام ممد بخلاف القتل.
{ و } الحاصل أن الكفار المصرين على الكفر والعناد { لا يزالون يقاتلونكم } أيها المؤمنون { حتى يردوكم عن دينكم } المنزل عليكم من ركبم هداية لكم { إن استطاعوا } والحال إنه { ومن يرتدد منكم عن دينه } الذي هو الإيمان والتوحيد { فيمت } بد الارتداد { وهو كافر } ساتر طريق الحق، تارك مشرب التوحيد { فأولئك } الكافرون المرتدون عن طريق الإيمان والإسلام { حبطت } هلكت وسقطت عن الاعتبار عند الله { أعمالهم } بالمرة إضلالا { في الدنيا } لحرماتهم عن مصاحبة أهل الإيمان والفرقان { و } لا في { الآخرة } لإرجاعهم نفوسهم إلى قعر الإمكان المفضي إلى أسفل دركات النيران { وأولئك } المحرمون عن لذة التوحيد { أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 217] إلى ما شاء الله، لا حول ولا وقة إلا بالله.
ثم قال سبحانه: { إن الذين ءامنوا } بالتوحيد الذاتي وأدى إيمانهم إلى أن وصولوا إلى مرتبة اليقين العلمي { والذين هاجروا } وتركوا ما يضاده وينازعه إلى أن وصلوا إلى مرتبة اليقين العيني { و } بعد ذلك { جهدوا في سبيل الله } مع نفوسهم إلى أن وصلوا بل اتصلوا باليقين الحقي { أولئك } المقربون المدرجون في طريق الوصول { يرجون رحمت الله } ما داموا في السلوك بأشباحهم { والله } المطلع لضمائرهم { غفور } ساتر لهم أشباحهم عن عيون بصائرهم { رحيم } [البقرة: 218] لهم، يوصلهم إلى ما يتوجهون إليه من جنة الذات بمنه وجوده.
أدركنا بلطفك يا خفي الألطاف.
[2.219-220]
{ يسألونك } يا أكمل الرسل { عن } حرمة { الخمر والميسر } أهما من المحرمات الإلهية أم لا؟ { قل فيهمآ إثم كبير } أما في الخمر؛ فلكونه معطلا مزيلا للعقل الجزئي المودع في الإنسان، ليتوصل به إلى العقل الكل المتفرع إلى اسم العليم، الشامل لجميع ما كان ويكون، وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين وأما في الميسر فلكونه متلفا للمال الذي هو سبب تعمير البدن، الذي هو مخزن جوهر العقل المذكور الذي اختص به الإنسان، وبه استحق مرتبة الخلافة والنيابة.
{ و } فيهما { منفع للناس } أي: لبعضهم من المرض الذي لا يمكنهم العلاج بدون إزالة عقولهم، والتداوي لهم منحصر في الخمر عند المتطببين، ومن استغناء بعض السفلة من الناس واسترزاقهم بالميسر { و } لكن { إثمهمآ } عند أولي النهي واليقين { أكبر من نفعهما } عندهم، بل لا نفع فيهما بالنسبة إليهم؛ إذ لا يبقى لهم رابطة مع أبدانهم ليصلحوا ويصححوا { ويسألونك } أيضا يا أكمل الرسل: { ماذا ينفقون } من أي شيء ينفقون، على أي وجه ينفقون؟ { قل } يا أكمل الرسل نيابة عنا: أنفقوا { العفو } الفاضل من أموالكم؛ لئلا يتضرروا بالجهد، وليسهل عليكم التجاوز عنه، لا يشق عليكم إنفاقه { كذلك } أي: على الوجه الأحسن الأسهل { يبين الله لكم } جميع { الأيت } المنزلة عليكم إصلاح حالكم { لعلكم تتفكرون } [البقرة: 219] رجاء أن تتأملوا:
{ في } الآيات المتعلقة لأمور { الدنيا } فتتصفوا بما فيها { و } أيضا تأملوا في الآيات المتعلقة لأمور { الآخرة } فتحققوا بها، وتمكنوا عليها واطمأنوا بسببها؛ ليتم لكم تهذيب الظاهر والباطن، وبعد ذلك يترتب ما يترتب { ويسألونك } أيضا { عن } أحوال { اليتامى } الذين لم يبلغوا الحلم، ولا متعهد لهم من ذوي القربى { قل إصلاح لهم } أحوالهم { خير } من إبقائهم في المذلة والهوان { وإن تخالطوهم } من غاية المرحمة والإشفاق { فإخوانكم } في الدين، يجزيكم الله خيرا إن كتنتم قاصدين فيه إصلاحهم ورعايتهم، دون إفساد مالهم وعرضهم { والله } الماطلع بمقاصدكم { يعلم المفسد } المبطل منكم { من المصلح } المحق، فيجازي كلا منهم على مقتضى علمه { ولو شآء الله } المطلع لإفسادكم وإعناتكم أن يفسد عليكم ويعنتكم { لأعنتكم } أذلكم وأفسدكم أشد من إفسادكم وإعناتكم إياهم { إن الله عزيز } غالب قادر على الانتقام { حكيم } [البقرة: 220] لا ينتقم بلا موجب.
[2.221-223]
{ و } من جملة الأحكام الموضوعة لإصلاحكم أن { لا تنكحوا } أيها المؤمنون النساء { المشركات } الكافرات { حتى يؤمن } لئلا يختلط ماؤكم بمهائن، وليوجد الولد على فطرة الإسلام { و } اعلموا أيها المؤمنون { لأمة مؤمنة } لكم أن تنكحوها { خير من } حرة { مشركة ولو أعجبتكم } مالها وجمالها { ولا تنكحوا } أيتها المؤمنات { المشركين } الكافرين { حتى يؤمنوا و } اعلمن أيتها المؤمنات { لعبد مؤمن } لنكاحكن { خير من } حر { مشرك ولو أعجبكم } ماله وجماله؛ إذ لا كفاءة بين المؤمن والكافر { أولئك } المشركون والمشركات { يدعون } أي: يريدون دعوتكم { إلى النار } المتفرعة على شركهم وكفرهم { والله } الهادي لكم إلى اختلاط المؤمنين والمؤمنات، الحافظ لمكافأتكم في النكاح والإنكاح { يدعوا إلى الجنة } المتفرعة على الإيمان والتوحيد { والمغفرة } المسلتزمة لدفع الآثام والمعاصي { بإذنه } بتوفيقه وإقداره { ويبين آياته } أي: أحكامه وآدابه وأخلاقه في كتابه { للناس لعلهم يتذكرون } [البقرة: 221] رجاء أن يتذكروا ويتعظوا بها ليهتدوا إلى زلال التوحيد.
{ ويسألونك } أيضا { عن المحيض } روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يسكانوا لحيض ولم يؤاكلوها كفعل اليهود والمجوس، واستمر ذلك إلى أن سألوا أبا الدحداح مع جمع من الصحابة عن ذلك فنزلت: { قل هو أذى } مؤذ يتأذى منه من يقربه { فاعتزلوا النسآء في المحيض ولا تقربوهن } بالإتيان والوقاع لا بالمصاحبة والمخالطة والمؤاكلة { حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } قاصدين فيه حكمة إبقاء نوع الإنسان المستخلف عن الله { إن الله يحب التوابين } عن الميل إلى خلاف ما أمر الله به { ويحب المتطهرين } [البقرة: 222] عن الأناس الظاهرة والباطنة.
{ نسآؤكم } أيها المؤمنون { حرث لكم } أي: موضع حراثتكم ومحل إتيانكم { فأتوا حرثكم أنى شئتم } مقبلين أو مدبرين، روي أن اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته من جانب دبرها كان ولده أحول، رد الله عليهم بهذه الآية { وقدموا لأنفسكم } أيها المستكشفون عن سرائر الأمور من الحكم والأسرار المودعة في التلذذ والنزول والانبعاث والشوق والانتعاش، وأنواع الكيفيات المستحدثة عند الوقاع لإيجاد النسل وإبقاء النوع، ولا تغفلوا عن سرائره، ولا تطمئوا بمجرد قضاء الشهوة كالحيوانات العجم { واتقوا الله } عن الخيانة والخباثة، والإتيان إلى غير المآتي المأمورة في الشرع، وغير ذلك من المحظورات المسقطة لحرمات الله الواقعة في أمر الجماع والاجتماع؛ إذ هو منزلة إقدام أولي الأحلام من عظماء الأنام { واعلموا أنكم } بأجمعكم { ملاقوه } سبحانه فتزودوا بزاد يليق بجانبه { وبشر } يا أكمل الرسل { المؤمنين } [البقرة: 223] القائمين بحدود الله، المحافظين عليها دائما، الخائفين من خشية الله، الراجين من رحمة الله بأن لهم عند ربهم روضة الرضاء وجنة التسليم.
[2.224-227]
{ و } من جملة الأخلاق المنزلة لكم أن { لا تجعلوا } اسم { الله عرضة } وجهة ومعرضا { لأيمانكم } المتعلقة بكل دني خسيس وحق وباطل؛ أي: لا تكثروا الحلف بالله في الأمور؛ إذ أنتم بشريتكم ما تخلون عن شوب الكذب والبطلان، ما لكم والتلفظ باسم الحق الحقيق الحقية لترويج الأمور المزخرفة بالباطلة { أن تبروا } افعلوا الخيرات وواظبا على الطاعات، وتوجهوا إلى الله في عموم الأوقات وشمول الحالات { و } إن أردتم أن { تتقوا } اجتنبوا عن المحظورات، واحذروا عن المحرمات، وارجعوا نحو ربكم بإسقاط الإضافات { و } إن أردتم أن { تصلحوا بين الناس } تليينا لقلوبهم، ادعوهم إلى التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أقوم { والله سميع } لإيمانكم { عليم } [البقرة: 224] بنياتكم فيجازيكم على مقتضى علمه بحالكم، هذا في الأيمان المثبتة للوقائع والأحكام، المقاربة للقصد والإرادة.
وأما الإيمان الجارية على ألسنة العوام بلا إثبات ونفي، بل على سبيل الاتفاق فمما يعفى عنه، فلذلك قال سبحانه: { لا يؤاخذكم الله باللغو } الواقع { في أيمانكم } بلا قصد وإرادة { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } بواسطة الأيمان الكاذبة من الأمور الباطلة التي لا تطابق الواقع، فلبستم فيها وأثبتهم بها { والله غفور } لكم لو تبتم ورجعتم إليه عما كسبتم من الآثام { حليم } [البقرة: 225] بالانتقام رجاء أن يتوبوا عنها.
ثم قال سبحانه: { للذين يؤلون } أي: يحلفون أن يمتنعوا { من } وقاع { نسآئهم تربص أربعة أشهر } أي: يلزم عليم الانتظار إلى أن تنقضي مدة أربعة أشهر { فإن فآءو } أي: رجعوا في هذه المدة عن الحلف بأن جامعوا معهن، حنثوا { فإن الله غفور } بحنثهم يتجاوز عنهم بالكفارة { رحيم } [البقرة: 229] لهم بإبقاء النكاح بينهم.
{ وإن عزموا الطلاق } بلا حنث الحلف { فإن الله سميع } يسمع منهم الطلاق { عليم } [البقرة: 227] بنفرة قلوبهم منهن.
[2.228-230]
{ والمطلقات } المدخولات بهن { يتربصن } ينتظرن { بأنفسهن ثلاثة قروء } أي: مضى مدتها والقروء: يطلق على الحيض والطهر، وأصل وضعه للانتقال من الطهر إلى الحيض، وهو المراد في الآية لأنه لاستبراء الرحم والدال على البراءة، هذا { ولا يحل لهن } أي: المطلقات المعتدات { أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } مدة المعدة من الحيض؛ لئلا يختلط النسب { إن كن يؤمن بالله } العالم بالسرائر { واليوم الآخر } الذي تبلى فيه جميع السرائر والضمائر { وبعولتهن أحق } أليق وأولى { بردهن } إليهم { في ذلك } أي: في زمان التربص { إن أرادوا } أي: الأزواج { إصلاحا و } اعلموا أيها المؤمنون { لهن } عليكم من الرعاية والمحافظة على آداب الخدمة، والاستئناس وغير ذلك { مثل الذي } لكم { عليهن بالمعروف } من الحقوق والرعاية والمحافظة { وللرجال عليهن درجة } فضيلة بحسب الخلق والعقل والتميز وكمال الإيمان والمحافظة على حدود الله وامتثال مأموراته { والله عزيز } يعز من يشاء من عباده ويذل من يشاء { حكيم } [البقرة: 228] في فعله لا يسأل عما يفعل.
{ الطلق } الصادر من أولي العزائم وذوي الألباب { مرتان } مرة عند عروض النفرة المنافية للرغبة السابقة، المستلزمة للزواج والازدواج، المنبعث عن طبيعته المقتضية بالطبع للاختلافات والازدواجيات الواقعة بين أسبابها، وهي الأوصاف الإلهية، ثم إذا رجع العازم عنه لا بد أن يكون رجوعه أيضا عن روية وتدبر، بأن يلاحظ أنه سبب انبعاث الرغبة السابقة واشتياقها ثانيا، فيكذب نفسه ويرجع إليها، وإن طلقها بعد تلك المراجعة { فإمساك بمعروف } أي: فعليه بعد الطلقة الثانية أحد الأمرين، ولا يتجاوز عنه إلى الطلقة الثالثة، وإلا لسقط عن زمرة العقلاء العازمين على الأمور الشرعية بالعزيمة الخالصة، إما إمساك بالمعروف، والمستحسن عند الله وعند المؤمنين، بل لا بد أن يكون هذا الإمساك أحسن من الإمساك السابق على الطلاق حي الوفاق { أو تسريح } وإطلاق وتبعيد مقارن { بإحسن } من مال وخلق وكلمة طيبة؛ ليرتفع غبار العداوة والبغضاء الواقعة بإغواء الشيطان بينهماز
{ ولا يحل لكم } أيها الحكام المقيمون للأحكام الشرعية أصلا { أن تأخذوا } من النساء { ممآ آتيتموهن } من المهور والصداقات { شيئا } وتردوه إلى أزواجهن { إلا أن يخافآ } أي: الزوجان كل منهما على نفسه { ألا يقيما حدود الله } الموضوعة من عنده سبحانه لإصلاح حالهما { فإن خفتم } أيها الحكام أيضا { ألا يقيما حدود الله } بينهما { فلا جناح } إثم { عليهما } على الرجل { فيما } أخذ { افتدت به } المراة للخلاص والطلاق، وعلى المرأة لإعطائه له { تلك } الأحكام المذكورة { حدود الله } الموضوعة فيكم أيها المؤمنون لإصلاح أحوالكم { و } فلا تتجاوزوا عنها بالمخالفة وعدم الامتثال { فلا تعتدوها } اعملوا أن { من يتعد حدود الله فأولئك هم الظلمون } [البقرة: 229] المجاوزون عن حد الإنسانية إلى البهيمية، والمضيعون لمقتضيات العقل الشريف المفاض عليهم من لدنه سبحانه.
{ فإن طلقها } أي: إن وقع الطلاق بينهما بعد المرتين { فلا تحل } المرأة المطلقة { له } أي: للرجل المطلق { من بعد } أي: بعد وقوع الطلاق الثالثة { حتى تنكح } تتزوج المرأة { زوجا } ثانيا { غيره } أي: غير الزوج الأول { فإن طلقها } الزوج الثاني { فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ } أي: يرجع كل من الزوج الاول والمرأة إلى الآخر بالزواج، ويلمس كل منهما عسلية الزوج الثاني إن اشتهى، وذلك حين { إن ظنآ أن يقيما حدود الله } بينهما { وتلك } الأحكام { حدود الله يبينها لقوم يعلمون } [البقرة: 230] يعقلون ويفهمون حدوده ويعلمون بها بمقتضى العقل؛ إذ التكاليف الواقعة في الشرع الماضي لأجله.
[2.231-232]
{ وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن } أي: قرب انقضاء عدتهن { فأمسكوهن } أي: فعليكم بعدما قرب انقضاء مدة العدة أن تراجعوهن فيها وتمسكوهن { بمعروف } مستحسن عقلا وشرعا { أو سرحوهن } وفارقوهن { بمعروف } حتى لا يتضررن بعدم الزواج وطول المدة { ولا تمسكوهن } أي: ولا تراجعوهن { ضرارا } أي: بمجرد أن تضروهن { لتعتدوا } أي: تبقوا مدة طويلة بلا محبة ومودة حتى يأتيهن الموت كما يفعله الجهال غيره وحمية { ومن يفعل ذلك } الفعلة منكم { فقد ظلم نفسه } بتعريضها على عقاب الله بإبطال حكمته وتعطيل محل خلقه وقدرته.
{ ولا تتخذوا } أيها المؤمنون { آيات الله } النازلة عليكم { هزوا } تتهاونون عليها وتأخذونها سهلا، احذوا عن انتقامه { واذكروا نعمت الله } المنعمة { عليكم } واشكروا لها { و } خصوصا { مآ أنزل عليكم } لإصلاح حالكم { من الكتاب } المبين لكم طريق المعاش في النشأة الأولى { والحكمة } الموصلة إلى ذروة التوحيد في النشأة الأخرى لكي { يعظكم به } فعليكم أن تتعظوا وتتذكروا به { واتقوا الله } عن مساخطته وانتقاماته ولا تتجاوزوا عن حدوده المبينة في كتابه { واعلموا أن الله } المحيط بكم وبحالاتكم { بكل شيء } صدر عنكم من الخير والشر والنفع والضر العائد لنفوسكم { عليم } [البقرة: 231] بالعلم الحضوري، لا يعرب عن علمه شيء مما ظهر وكان، ويظهر ويكون.
{ وإذا طلقتم } أيها المؤمنون { النسآء فبلغن } بعد الطلاق { أجلهن } من المعدة المفروضة المقدرة لاستبراء الرحم { فلا تعضلوهن } أي: لا تحبسوهن ولا تعيروهن إن أردن { أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } كما يفعله الجهال من الحمية الجاهلية { ذلك } التذكر والعظمة المنزلة من عند الله { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله } بجميع ما أنزل من الأحكام والمواعظ { واليوم الآخر } بجميع ما فيه من النكال والعذاب والحساب العقاب { ذلكم } أي: الأحكام والمواعظ والأخلاق والآداب { أزكى لكم } لتزيكة نفوسكم من الأهواء والآراء الباطلة { وأطهر } لقلوبكم عن متابعتها { والله يعلم } مصالح عباده { وأنتم لا تعلمون } [البقرة: 232] فعليكم الامتثال والانقياد على وجه التعبد.
[2.233-234]
{ والوالدات } سواء كانت مطلقات أو غيرها { يرضعن } ولا يضيعن { أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي: يرضعن للأب الذي أراد إتما إرضاع ولده { وعلى المولود له } أي: على الأب { رزقهن } أي: رزق المرضعات { وكسوتهن بالمعروف } المتعارف { لا تكلف نفس إلا وسعها } إذ من سنته سبحانه أن لا يكلف عبده إلا بما يطيقه ويقدر عليه؛ لذلك { لا تضآر والدة بولدها } بأن ألزم عليها بأنه ولدك لا بد لك أن تسترضعيه بلا أجرة { ولا } يضار أيضا { مولود له بولده } بأن حمل عليه ما ليس في وسعه ن أجرة الرضاعة.
{ و } إن لم يكن المولود له موجودا يجب { على الوارث } الحائز لأمواله { مثل ذلك } أي: ما يجب على المولود له لإرضاع ولده { فإن أرادا } المولود له والمرضعة قبل انقضاء الحولين { فصالا } فطاما صادرا { عن تراض منهما وتشاور } أي: شورة واقعة بينهما { فلا جناح عليهما } في هذا الفطام إن لم يتضرر الرضعي، وإن تضرر فللحاكم أن يمنعها؛ لإفضائه إلى تضييع الرضيع وتخريب بناء الله { وإن أردتم } أيها المؤمنون { أن تسترضعوا أولادكم } أي: تطلبوا المرضعة لإرضاع رضيعكم سواء كانت المرضعة أم الرضيع أملا لا { فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بالمعروف } أي: لا ضيق ولا تعب عليكم أن تسلموا باطلريق المعروف المستحسن ما سميتم من الأجرة للإرضاع قبل انقضاء مدة الرضاع { واتقوا الله } عن تضييع الرضيع وتنقيص أجرة المرضعة { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } [البقرة: 233] يجازيكم على مقتضى علمه.
{ والذين يتوفون منكم } أيها المؤمنون { ويذرون } يتركون { أزواجا } واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا فعليهن أن { يتربصن } ينتظرن ويعتددن { بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } حتى يعلم ويظهر أنهن حاملات أم لا { فإذا بلغن أجلهن } بأن تنقضي المدة المذكورة { فلا جناح عليكم فيما } أيها الحكام { فعلن } إصلاح { في أنفسهن } من طلب الخطبة والخاطب والناكح والتجسس عنه والعروض عليه إن صدر عنهن هذه الأمور { بالمعروف } المستحسن في الشرع والعرف، وإلا فعليكم الجناح أيها الحكام عند الله إن لم يمنعوهن { والله بما تعملون } أيها الحكام من التهاون في إجراء أحكامه وحفظ حدوده { خبير } [البقرة: 234] يؤاخذكم عليه ويجازيكم بمقتضى خبرته.
[2.235-237]
{ ولا جناح عليكم } أيها المؤمنون { فيما } أي: في كلام وألفاظ { عرضتم به } تعريضا حسنا وتلميحا مليحا خاليا عن ومصة الفساد، ناشئا { من } إرادة { خطبة النسآء } المعتادت للوفاة { أو أكننتم } أضمرتم وأخفيتم { في أنفسكم } إذ { علم الله } منكم وإن أخفيتم { أنكم } يميل طبيعتكم إليهن { ستذكرونهن } فاذكروهن على الوجه الأحسن ألابعد عن التهمة { ولكن لا تواعدوهن سرا } أي: الوقاع والجماع؛ أي: لا تخالطوا معهن إلى حيث يرتفع الحجاب عنكم، فتتكلمون معهن بالكلمات التي جرت بين الزوج والزوجة { إلا أن تقولوا قولا معروفا } يومئ إلى خطبتكم إياهن إن خفتم أن يسبق عليكم الغير من الخطباء { و } عليكم أن { لا تعزموا عقدة النكاح } أي: لا تستعجلوا في العزيمة على العقد { حتى يبلغ الكتاب أجله } أي: ما فرض في الكتاب؛ أي: من العدة المقدرة فيه { واعلموا أن الله } المطلع لضمائركم { يعلم ما في أنفسكم } من الخيانة في حدوده { فاحذروه } لتنجوا من غضبه { واعلموا أن الله غفور } لمن عزم المعصية ولم يفعل { حليم } [البقرة: 235] لا يستعجل بالعقوبة على العاصين.
{ لا جناح } لا وزر ولا إثم { عليكم } أيها المؤمنون { إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن } أي: لا تجامعوا معهن { أو } لم { تفرضوا } تقدروا { لهن فريضة } مهرا أو صداقا { و } عليكم إن طلقتموهن { متعوهن } بالإحسان جبرا لما انكسر بالطلاق بعد العقد { على الموسع قدره } أي: قدر وسعه ويسره { و } كذا { على المقتر } المعسر { قدره } قدر إعساره وتقتيره { متاعا } أي: متعوهن متاعا ملتبسا { بالمعروف } الذي يستحسنه الشرع المروءة، ولذلك صار التمتيع المجان في الشرع { حقا } لأنها { على } المؤمنين { المحسنين } [البقرة: 236] الذين لا يريدون الأذى لأحد من الناس وإن وقع منهم نادرا، جبروا بالإحسان حفظا للمودة والإخاء الدينية.
{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و } الحال أنه { قد فرضتم } سميتم { لهن فريضة } صداقا ومهرا { فنصف ما فرضتم } أي: فلزمكم أداء نصف ما سميتم من المهر إليهن { إلا أن يعفون } أي: المطلقات فلا يأخذن شيئا اتقاء عن التهمة { أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح } ويرد جميع المهر إليها تبرعا { وأن تعفوا } أي: وعفوكم أيها المؤمنون في أمثال هذا { أقرب للتقوى } وأفضل عند المولى { ولا تنسوا } أي: لا تتركوا { الفضل } والإحسان { بينكم } أيها المحسنون بل أحسنوا بعضا مما أحسن الله لكم إلى مستحقيكم { إن الله } المراقب لجميع أعمالكم { بما تعملون } من الفضل والإحسان { بصير } [البقرة: 237] يجازيكم عليه بفضله.
[2.238-242]
ثم لما كان للعارف الحائر المسغرق في بحر الحيرة ميولا وتوجهات متعددة بحسب تجددات أنفاسه ونفساته المستنشقة، المستمدة بها النفسات الرحمانية، المهبة من يمن عالم اللاهوت، المنتشئة من الذات الأحدية، المتجلية بالتجليات الجمالية والجلالية، المعبرة بالأسماء والصفات الإلهية المتخالفة في الآثار والمقتضيات على حسب الكمال؛ أراد سبحانه أن ينبه عليه بمخالطته الميول والصلوات في الأوقات كلها؛ لئلا ينشغل عن الحق في وقت من الأوقات، فقال: { حافظوا } وداوموا أيها المتوجهون إلى توحيد الذات { على الصلوت } المكتوبة لكم في الأوقات المتعارفة { و } خصوصا { الصلوة الوسطى } التي هي عبارة عن التوجه الرفيق المعنوي بين كل نفسين من أنفاسكم { و } بالجملة: { قوموا } أيها الأظلال الهالكة في نفسها المستهلكة في الذات الأحدية؛ إذ لا وجود لكم من ذواتكم { لله } المظهر لكم من كتم العدم بامتداد أظلال أسمائه؛ ورش من بحر جود وجوده عليكم { قنتين } [البقرة: 238] متذللين خاضعين، مفنين هويتكم الظلية الغير الحقيقية بالكلية في الهوية الحقيقة الإلهية.
{ فإن خفتم } عن مقتضيات القوى البشري { فرجالا } أي: فعليكم التوجه راجلين منسلخين عنها وعن مقتضياتها بالمرة { أو ركبانا } راكبين عليها بتسخيرها بالرياضيات الشاقة إلى حيث ينصرف بالكلية عن مقتضاها { فإذآ أمنتم } من شرورها { فاذكروا الله } المفني للفرد والسوى مطلقا { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } [البقرة: 239] لولا إنزاله سورة الإخلاص وكلمة التوحيد وغيرها من الآيات الدالة على التوحيد الذاتي.
{ والذين يتوفون } يستشرفون إلى الوفاة { منكم } أيها المؤمنون { ويذرون } يتركون { أزواجا } بعدم لزمهم أن يوصوا { وصية } مستخرجة من أموالهم { لأزواجهم } ليتمتعن بها { متاعا إلى } انقضاء { الحول } بعد موتهم { غير إخراج } لهن من المسكن المألوف، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخت بتعيين المدة لعدة الوفاة من أربعة أشهر وعشرا { فإن خرجن } من مسكن الأزواج { فلا جناح عليكم } أيها الحكام { في ما فعلن } من التطيب وترك الحداد وطلب الخطبة { في } إصلاح { أنفسهن } إن كانت الأمور الصادرة منهم { من معروف } مستحسن مشروع مرخص، وإن لم يكن كذلك فعليكم الجناح أيها الحكام { والله عزيز } غالب قادر على الانتقام، ينتقم من المتجاوزين عن حدوده، المتهاونين في إجراء أحكامه { حكيم } [البقرة: 240] في رعاية مصالح عباده.
{ و } واعلموا أيها المؤمنون أن { للمطلقات } مطلقا { متاع بالمعروف } المشروع المستحسن لازم { حقا } ثابتا { على } ذمة { المتقين } [البقرة: 241] المطلقين لهن منا دمن في العدة؛ أي: جميع مؤنتهن عليهم فيها.
{ كذلك } أي: مثل ما ذكر من أحكام الطلاق والأمر المتفرعة عليه { يبين الله } الهادي { لكم } جميع { آياته } الدالة على توحيده { لعلكم تعقلون } [البقرة: 242] رجاء أن تتأملوا فيها وتفوزوا بالفوز العظيم من عنده.
[2.243-245]
{ ألم تر } أيها الرائي { إلى الذين خرجوا من ديرهم } وهم أهل " داود " قرية قبل " واسط " وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين { وهم ألوف } كثيير { حذر الموت فقال لهم الله } بعدما علم منهم الفرار عن قضائه: { موتوا } فماتوا بالمرة { ثم أحيهم } بدعاء حزقيل عليه السلام حين مر على تلك القرية، فأبصروا قد عريت عظامهم وتفرقت أجسامهم فتعجب من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه، ناد فيهم: أن قوموا بأمر الله ومشيئته، فنادى فقاموا يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت { إن الله } المدبر لمصالح عباده { لذو فضل } وإحسان { على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } [البقرة: 243] فضله وإحسانه.
وبوجه آخر { ألم تر } أيها المغتر الرائي { إلى الذين خرجوا من ديرهم } المألوفة المأنوسة وهي بقعة الإمكان { و } الحال أنهم { هم ألوف } متألفون فيها مع بني نوعهم { حذر الموت } الإرادي { فقال لهم الله } الهادي إلى توحيد الذات بلسان مرشديهم: { موتوا } عن إنابتكم وهويتكم أيها المتوجهون إلى بحر الحقيقة، فماتوا عن مقتضيات القوى البشرية، ولوازم الحياة الطبيعية بالكلية { ثم أحيهم } الله بالحياة الحقيقية والعلم اللدني والوجود العيني الحقي، والبقاء الأزلي السرمدي { إن الله } المتكفل لأمور عباده { لذو فضل على الناس } الناسين منزلهم الأصلي ومقصدهم الحقيقي بإيصالهم إلى ما هم عليه قبل نزولهم إلى فضاء الإمكان { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } [البقرة: 243] ولا يعقلون ولا يفهمون نعمة الوصول إلى الموطن الأصلي والمقام الحقيقي حتى يقوموا بشكره ويتواظبوا عليه.
{ و } إن أردتم أيها المؤمنون أن تكونوا من الشاكرين لنعمه الفائزين بفضله وإحسانه { قتلوا } مع الكفرة التي هي القوى الحيوانية { في سبيل الله } المفني للغير مطلقا، واعلموا إن متم فإلى الله تحشرون، وإن عشتم فإلى الله تبعثون، وما لكم أيها المؤمنون ألا تقاتلوا مع جنود الشياطين حتى تنجوا من مهلكة الإمكان، وتصلوا إلى فضاء الوجوب { واعلموا أن الله سميع } لأقوالكم المتعلقة بعدم الجهاد { عليم } [البقرة: 244] بنياتكم المترتبة على الحياة الطبيعية.
{ من ذا } العارف { الذي يقرض الله } أي: يفوض ويسلم هوية الإمكان وماهية الكوني والكياني إلى الله المسقط للهويات مطلقا { قرضا حسنا } تفويضا سلسا نشطا فرحانا بلا مضايقة ولا مماطلة، راضيا بما قضى عليه، صابرا على عموم البلوى المقربة إليه { فيضعفه له } بعدما فني عن هيوته فيه { أضعافا كثيرة } لا يحيط بكنهها إلا هو؛ إذ المحدث قرن بالعديم، وترتب عليه ما ترتب عليه بل سقط الاثنينية بالكلية، وارتفع غيار الأغيار بالمرة { والله } الواحد الأحد الصمد { يقبض } إلى ذاته ما ينشر { ويبسط } كم أظلال أسمائه وصفاته وآثار تجلياته الذاتية { وإليه } لا إلى غيره { ترجعون } [البقرة: 245] أيها الأظلال والآثار طوعا وكرها.
[2.246-247]
{ ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } الذين كانوا معرضين عن القتال في حياة موسى - صلوات الله عليه - كيف اضطروا إليه { من بعد } وفاة { موسى إذ قالوا لنبي لهم } هو يوشع أو شمعون أو أشمويل حين ظهرت العمالقة عليهم، وخربوا ديارهم ونهبوا أموالهم وأسروا أولادهم: { ابعث } عين { لنا ملكا نقاتل } مع أعداء الله { في سبيل الله قال هل عسيتم } أي: أتوقع جبنكم وتقاعدكم { إن كتب عليكم القتال } من عند الله { ألا تقاتلوا قالوا وما لنآ } أي: أي شيء عرض لنا { ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا } بسبب ترك القتال، لو لم نقاتل بعد لاستؤصلنا بالمرة { فلما كتب } فرض { عليهم القتال تولوا } أعرضوا عنه { إلا قليلا منهم } ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر { والله عليم بالظالمين } [البقرة: 246] المجاوزين عن أوامره.
{ وقال لهم نبيهم } بإلالهام لله ووحيه { إن الله } المدبر لأموركم { قد بعث لكم طالوت } من المرتجلات العجمية { ملكا } يولي أموركم ويقاتلك مع عدوكم { قالوا } مستكبرين مستنكرين: { أنى } من أين { يكون له الملك علينا } وهو من سفلة الناس، كيف يستأهل هذا المنصب؟ { ونحن أحق بالملك منه و } الحال أنه { } لم يؤت سعة من المال حتى يقوى به، وإنما استحقروه؛ لأنه كان فقيرا راعيا أو سقاء أو دباغا، وكان من أولاد بنيامينن، ولم يكن في أولاده النبوة والملك، إنما كانت النبوة في أولاد لاوي والملك في أولاد يهوذا، وكان فيهم من أسباطهما خلق عظيم.
{ قال } لهم نبيهم: { إن الله } المعز لأذلة عباده { اصطفاه } واختاره للملك { عليكم } مع فقره وسقوط نسبه { و } بعدما اختاره { زاده بسطة } حيطة وشمولا { في العلم } المتعلق لتبدير المملكة { و } قوة عظيمة في { الجسم } لمقاومة العدو ومدافعته { والله } المدبر لمصالح عباده { يؤتي ملكه من يشآء } من عباده على مقتضى علمه منهم وحكمته من غير التفات إلى فقرهم ونسبهم { والله } الحكيم العليم { واسع } في فضله وإحسانه { عليم } [البقرة: 247] في حكمه وعدله، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، بلا سسبق علل وأغراض.
[2.248-249]
{ و } بعدما آيسوا من تغيير قضاء الله وتبديل رضاه، أتوا يطلبون الدليل والعلامات على ملكه { قال لهم نبيهم } بوحي الله وإلهامه أياه: { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الذي { فيه سكينة } أي: فيه ما يوجب سكينتكم وطمأنينتكم وقراركم على الحرب؛ إذ هو صندوق التوراة المنزل { من ربكم } لإصلاح أموركم { و } أيضا من آية ملكه أن يأتيكم { بقية مما ترك آل موسى وآل هارون } قيل: هي رخامة الألواح وعصا موسى وعمامة هارون، وكان أنبياء بني إسرائيل يتوارثون إلى أن { تحمله الملائكة } بأمر الله وتوصله إلى طالوت { إن في ذلك } المذكور { لآية لكم } على ملكية طالوت { إن كنتم مؤمنين } [البقرة: 248] بالله وبما جاء من عنده على أنبيائه، وبعدما آتاه الله الملك والعلامات الدالة عليه تجهز بتوفيق الله، وخرج نحو العدو.
روي أنه قال وقت خروجه: لا يخرج معي إلا الشباب الخالي عن الحيل ، الفارغ عن الأمل، النشيط للأجل، الفرحان للمقاتلة والشهادة.
{ فلما فصل طالوت بالجنود } وكان في شدة الحر والعبور على مفازة لا ماء فيها، ناجى مع الله كل من جنوده في نفسه أن يظهر عليهم نهرا في تلكل المفازة؛ خوفا من شدة العطش، ألهم الله مناجاتهم إلى قلب طالوت { قال } لهم { إن الله } القادر على ما يشاء { مبتليكم } ومجربكم في هذه المفازة { بنهر } عظيم { فمن شرب منه فليس مني } أي: ليس من أتباعي وأعواني وظهيري { ومن لم يطعمه } ولم يذقه { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } لا لتسكين العطش، بل لشكر نعمة الله وإنجاز وعده وتعديد إحسانه وفضله، ولما وصلوا إليه { فشربوا منه } من النهر { إلا قليلا منهم } معدودين، قيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل: ثلاثة آلاف، وقيل: ألف.
وإياك أيها المبتلى بنهر الدنيا في فضاء الوجود أن تشرب منها خوفا من عطش حرارة العشق المفني للعاشق والعشق في المعشوق الحقيقي بالمرة، حتى لا يخرج عن زمرة المحبين المحترفين بنيران المحبة إلى أن خلصوا عن هوياتهم بالكلية، وأن يطعم ويذوق من مستلذاتها ومشتهاتها حتى لا يحرم من مرتبة أولي النهى واليقين، الفائزين بجنة اللقاء وروضة التسليم { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا } أي: بعضهم لبعض خفية: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لقوتهمه وشوكتهم { قال الذين يظنون } بربهم ظنا حسنا، بل يعلمون يقينا { أنهم } بعد انخلاعهم عن ملابس الإمكان { ملاقوا الله } بلا سترة الثنوية وحجاب الهوية: { كم من فئة قليلة } من العقل والنهى { غلبت فئة كثيرة } من جنود النفس والهوى { بإذن الله } بتوفيقه وتيسيره { والله } المختبر لعباده { مع الصابرين } [البقرة: 249] لبلواه ينصرهم على من يعاديهم بحوله وقوته، وما النصر إلا من عند الله.
[2.250-252]
{ ولما برزوا } ظهروا { لجالوت وجنوده } ودنوا منهم { قالوا } متوجهين إلى ربهم متضرعين له مستمدين منه: { ربنآ أفرغ } أفض { علينا صبرا } نصبر به عند نزول بلائك { وثبت أقدامنا } فيه رضاء لقضائك { وانصرنا } لتنفيذ حكمك وإمضائك { على القوم الكافرين } [البقرة: 250] لآلائك ونعمائك، إنك أنت العزيز الحكيم.
{ فهزموهم } كسروهم وهزموهم { بإذن الله } بعونه ونصره { وقتل داود جالوت } قيل: كان أيضا أشعيا في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم، وكان صغيرا يرعى الغنم، فأوحى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء، وقد كلمته في الطريق ثلاثة أحجار، وقالت له: إنك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته، ورماه بها، فقتله، ثم زوجه طالوت بنته { و } بعد ذلك { آتاه الله الملك } أي: ملك بني إسرائيل، ولم يجتمعوا قبل داود على ملك { و } آتاه { الحكمة } أي: دعوة الخلق إلى طريق الحق بالحكمة المؤتاة له من قبل ربه { وعلمه مما يشآء } من العلوم والحكمة والمعجزات وخوارق العادات بالجملة { ولولا دفع الله } الرقيب الحفيظ لحدوده بين عباده { الناس بعضهم ببعض } أي: ظلم بعض الظالمين بتقوية بعض المظلومين ونصره عليهم { لفسدت الأرض } التي هي منشأ الهون والفساد ومعدن الظلم والعناد { ولكن الله } المصلح لأحوال العباد { ذو فضل } كثير { على العالمين } [البقرة: 251] ليعتدل ويتمكن كل من ساكنيها على ما خلقهم الله لأجله بلا مزاحمة بعضهم بعضا ظلما وزورا.
{ تلك } المذكورات { آيات الله } الدالة على توحيد ذاته وتعظيم شأنه { نتلوها عليك } يا أكمل الرسل { بالحق } المطابق للواقع { وإنك لمن المرسلين } [البقرة: 253] المتلوين عليهم آياتنا؛ امتنانا لهم بل من أفضلهم وأكملهم إذ:
[2.253-254]
{ تلك الرسل } المخصوص بالوحي والإلهمام والإنزال { فضلنا بعضهم على بعض } بأنواع الفضائل والكمالات { منهم من كلم الله } معه، وهو موسى صلوات الله عليه { و } منهم من { رفع بعضهم درجات } وهم ما ذكرهم الله سبحانه في كتابه بقوله في مواضع:
ورفعناه مكانا عليا
[مريم: 57] ورفعناه كذا في وصف أنبيائه فعليك استقصاؤها، { وآتينا } من نبيهم { عيسى ابن مريم البينات } الواضحة الدالة على نبوته { و } مع ذلك { أيدناه بروح القدس } المنزه عن رذائل الأغيار مطلقا، وهو الذات البحث الخالص عن جميع الاعتبارات.
وكم بين فضيلة عيسى عليه السلام، وفضل نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ قال سبحانه في حقه:
وأيدناه بروح القدس
[البقرة: 87] وفي شأنه صلى الله عليه وسلم في مقام الامتنان له:
ألم نشرح لك صدرك
[الشرح: 1] أيها المظهر الكامل بذاتها، المقدس عن السوى مطلقا:
ووضعنا عنك وزرك
[الشرح: 2] أي: هويتك التي بها انفصالك عنا
الذي أنقض ظهرك
[الشرح: 3] قبل انكشافك بذاتنا، كما أنقض ظهور جميع المخلوقات الباقية وراء الحجاب وبعد ذلك
ورفعنا لك ذكرك
[الشرح: 4] أي: إن وصلت إليها ورفعت الاثنينية بنا لذلك قلت:
" من أطاعني فقد أطاع الله "
، وقلت أيضا:
" من رآني فقد رأى الحق "
وقلنا لك:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح: 10] وغير ذلك من الرموز والإشارات الواردة في القرآن والحديث.
ولم يقدر أحد من الأنبياء أن يتفوه عن الرؤية سوى نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول:
" رأيت ربي في ليلة المعراج "
، لذلك نزل في شأنه:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة: 3] وقوله عليه السلام:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشعرة للتوحيد الذاتي، المسقط للإضافات والاعتبارات مطلقا.
{ ولو شآء الله } الهادي للكل هداية جميع الناس { ما اقتتل الذين } آمنوا لهم { من بعدهم } خصوصا { من بعد ما جآءتهم البينات } الموضحة لهم طريق الرشاد والمستخلفة فهم بين أممهم لإرشادهم، ولكن جرت عادة الله وسنته أن يختلفوا ويقتتلوا بحسب اقتضاء أوصافه المتقابلة لذلك { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن } بنبي بعث إليهم { ومنهم من كفر ولو شآء الله } هدايتهم { ما اقتتلوا ولكن الله } الفاعل المختار { يفعل ما يريد } [البقرة: 253] لا يسأل عن فعله، إنه حكيم حميد.
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم قطع العلائق عما سوى الله الحق خصوصا عن مزخرفات الدنيا المانعة من الميل الحقيقي { أنفقوا مما رزقنكم } ابتلاء لكم { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } ولا معاوضة ولا تجارة حتى يحصلوا فيه ما فوتم لأنفسكم { ولا خلة } حتى تتعاونوا بها وتستظهروا { ولا شفاعة } مقبولة من أحد حتى تستشفعوا منه { و } بالجلمة: { الكفرون } الساترون هوية الحق بهوياتهم الباطلة، المضيفون نعم الله إليها { هم الظلمون } [البقرة: 254] المتجاوزون عن حدود الله عنادا واستكبارا المعتقدون أصالتهم في الوجود واستقلالهم في الآثار الصادرة عنهم، مع كونهم هالكين مستهلكين في وجود الحق وهويته إذ :
[2.255]
{ الله } أي: الذات الثابت الوجود والكائن الحق الحقيقي بالحقيقة والتحقق والثبوت، إياك أن تقصد بالألفاظ محتملاتها؛ إذ الغرض من التعبير التنبيه، وإلا فكيف يعبر عنه وهو أجل من أن يحيط به العقول فيعبر عنه، أو يورد في قالب الألفاظ الذي { لا إله } أي: لا موجود، وإن شئت قل: لا وجود ولا تحقق ولا كون ولا ثبوت { إلا هو } هذا هو نهاية ما تنطق عنه ألسنة التعبير عن الذات الأحدية؛ أذ كل من التعبيرات والإدراكات والمكاشفات والمشاهدات، إنما ينتهي إليه، وبعد انتهائه إليه تكل وتجهل وتعمى وتدهش، ما للعباد ورب الأرباب حتى يتكلموا عنه، سوى أن الحق سبحانه لما ظهر لهم بذاته جميع أوصافه وأسمائه، أنزل عليهم على قدر عقولهم المودعة فيهم كلاما جامعا نبههم على مبدئهم بعد توفيق مه وجذب من جانبه؛ إذ أسهل الطريق بالنسبة إلى المحجوبين هو الألفاظ المنبهة عن غيب الذات؛ إذ هو خال عن المواد الغليظة والكدورات الكثيفة المزيحة لصفاء الوحدة، ومع ذلك أيضا لا ينجو عن ثوب الكثرة.
والحاصل أن من اطلع باطلاع الله وإلهامه على أن فيه مبدأ التكاليف الذي هو العقل المتشعب من العلم الحضوري الحقي، فلا بد أن يصرفه امتثال ما أمر واجتناب ما نهى، ليكون في مرتبة العبودية مطمئنا راضيا مستدرجا من الحياة الصورية إلى الحياة المعنوية التي هي { الحي } الأزلي الأبدي السرمدي الدائم { القيوم } الذي { لا تأخذه } فتور وفترة وتعديل وغفلة لا { سنة } نعاس لا ينتهي إلى حد النوم { ولا نوم } يتجاوز عنها قمها، مع أن المناسب للترقي تأخيرها اهتماما بشأنها؛ لكونها أقرب نسبة إلى الله سبحانه تعالى من النوم بالنسبة إلى أولي الأحلام السخيفة من المجسمة وغيرها، هو الذي { له } محافظة { ما } ظهر { في السموت } أي: سموات الأسماء والصفات الذاتية التي هي أول كثرة ظهرت من الغيب إلى الإضافية { وما } ظهر { في الأرض } أي: طبيعة العدم التي هي آخر كثرة عادت من الشهادة الحقيقية إلى الغيب الإضافي الذي هو قلب الإنسان، وهو البرزخ بين الغيب الحقيقي والشهادة الحقيقية { من ذا } من الأنبياء والأولياء { الذي يشفع } يهدي ويرشد للناقصين المنحطين عن مرتبة الإنسانية { عنده } بعد ظهوره له بهو هو { إلا } من يرشدهم { بإذنه } بوحيه على قلبه ورقائق مناسباته التي لا يمكننا التعبير عنها الذي هو { يعلم } بعلمه الحضوري { ما بين أيديهم } حالة إذ { وما خلفهم } أزلا وأبدا { ولا يحيطون بشيء } قليل { من علمه } الحضوري { إلا بما شآء } وتعلق إرادته ومشيئته عليه.
من هذا يتفطن العارف أن العالم ما هو إلا مظاهر ذات الحق وأظلال أسمائه وآثار أوصافه؛ إذ الموجود هو، والوجود هو، والحي هو، والقيوم هو، الرقيب المحافظ الملازم على محافظة ما ظهر في الأولى والأخرى هو، والعالم المدبر بالحضور مصالح جميع ما ظهر وبطن هو، والعلم والإدراكات الصادرة من المظاهر هو على العلم الحضوري.
فلم يبق للعالم إلا مناسبة الظلية والانعكاس والمظهرية؛ إذ { وسع كرسيه } مجلاه ومظاهره { السموت } المذكورة { والأرض } المذكورة { ولا يؤوده } يثقله { حفظهما } وإن كانت سموات الأسماء وأرض الطبيعة غير متناهية، بل وإن فرضت بأضعافها وآلافها أمورا متعددة غير متناهية لا يثقله؛ إذ كل من تحقق بمرتبة قلب الإنسان المنعكس من الذات الأحدي المائل نحوها بالميل الحبي الشوقي المتلذذ دائما بوجوده وحضوره، تحقق عنده من الوسعة ما لا يمكن التعبير عنه مطلقا.
كما سمح سلطان العارفين وبرهان الواصلين - عمت بركات أنفاسه الشريفة على الفقراء المتوجهين نحو فضاء التوحيد - حيث قال: " لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايات قلب العارف، ما أحسن ".
جاء بعده رأس الموحدين، ورئيس أرباب التحقيق واليقين، محيي الملة والدين، الذي هيج بحر التوحيد تهييدا شديدا إلى حيث يترشح من تيار قلبه الزخار رشحات المعارف والحقائق، على قلوب أولي العزائم الصحيحة المقتفية إثر طريقة - قدس الله روحه وأرواحهم وشكر سعيهم وسعيه - حيث قال: هذا وسع أبي زيد في عالم الأجسام، بل أقول: " لو أن ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارفين، ما أحسن بذلك في علمه ". انتهى.
أقول والحديث القدسي مغن عن أمثالهم إن قوله سبحانه:
" وسعني قلب عبدي المؤمن "
وسعة عجز عنها التعبير مطلقا { و } بالجملة: ما لكم أيها العباد ومعرفة الذات غير هذا { هو العلي } بذاته تعالى عن أن تدركه عقول العقلاء وتنزه عن أن تصفه ألسنة الفصحاء { العظيم } [البقرة: 255] بآثار أسمائه وصفاته الممتدة على صفحات الإعدام، وهو في ذاته على حرافة وحدته، وهو ولا شيء سواه.
[2.256-257]
{ لا إكراه } أي: لا جبر ولا تهديد ولا إلجاء { في الدين } أي: في الانقياد بدين الإسلام والإطاعة له بعد ما ظهر الحق؛ إذ { قد تبين } وتميز { الرشد } والهداية { من الغي } والضلالة { فمن يكفر بالطاغوت } التي هي النفس الأمارة المضلة عن طريق الحق { ويؤمن بالله } الهادي إلى سواء السبيل { فقد استمسك } بل تمسك وتشبث { بالعروة الوثقى } التي هي حبل الله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات { لا انفصام } ولا انقطاع { لها } أصلا { والله } الهادي للكل { سميع } بذاته لأقواله { عليم } [البقرة: 256] بحمه ومصالحه المودعة فيها، فانظروا ما أنتم أيها الهلكى.
{ الله } أي: الذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات { ولي الذين آمنوا } بالله يريبهم حسب شموله وإحاطته { يخرجهم من الظلمات } ظلمة الطبيعة وظلمة الإمكان وظلمة الإضافة { إلى النور } صفاء الوحدة الخالصة عن رين الإضافة الخالية عن شين الكثرة { والذين كفروا } بالله { أوليآؤهم الطاغوت } التي هي علم الجنس للنفوس البهيمية التي هي الطواغيت المضلة عن الهدي الحقيقي { يخرجونهم من النور } أي: المرآة الصقلية المجلوة القابلة لأن يتراءى فيها جميع ما في العالم { إلى الظلمات } ظلمة الكثرة وظلمة التعيين وظلمة الغفلة { أولئك } البعداء المطرودين عن ساحة الوحدة { أصحاب النار } أي: نار الخذلان وسعير الإمكان { هم فيها خالدون } [البقرة: 257] دائمون إلى ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله.
[2.258-259]
{ ألم تر إلى } الكافر العابد للطاغوت وهو نمورد اللعين المعاند { الذي حآج } جادل مكابرة مع { إبراهيم } صلوات الرحمن عليه { في } شأن { ربه } حين { أن آتاه الله الملك } وأبطره عليه وغيره بملكه وذلك وقت { إذ قال إبراهيم } إلزاما له حين أخرجه من السجن، فسأكل عن ربه الذي يدعي الدعوة إليه: { ربي الذي يحيي } يوجد من العدم { ويميت } يرد إليه بعد إيجاده { قال } مكابرة ومجادلة: { أنا } أيضا { أحيي وأميت } بالعفو والقصاص { قال إبراهيم } تصريحا لإلزامه من غير التفات إلى كلام: { فإن الله } القادر على ما يشاء { يأتي بالشمس من المشرق فأت } أيها المعاند المكابر { بها من المغرب فبهت الذي كفر } بالله بالمعارضة معه فصار مبهوتا متحيرا { والله } الهادي للكل { لا يهدي القوم الظالمين } [البقرة: 259] المجاوزين عن حقوق الله وآداب العبودية معه.
{ أو كالذي } أي: ألم تر إلى الشخص الذي { مر على قرية } هي البيت المقدس في زمان خربها بختنصر فرآها { وهي خاوية } ساقطة { على عروشها قال } محاجا مجادلا مبعدا للحشر والنشر: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } أي: كيف يقدر على إحياء أهلها وهم قد انقرضوا واندرسوا إلى حيث لم يبق منهم أثر؟ { فأماته الله } فجأة؛ إظهار لقدرته وتبيينا لحجته، وألبثه { مئة عام } ميتا كالأموات الأخر { ثم بعثه } إحياء بعد تلك المدة، ثم سأله هاتف بأن { قال كم لبثت } في هذا المكان { قال لبثت يوما } والتفت إلى الشمس فرآها باقية قال: { أو بعض يوم قال } السائل: ما تعرف مدة لبثك { بل لبثت مئة عام فانظر } أيها المبعد للحشر الجسماني بنظر العبرة إلى كمال قدرة الله { إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } لم يتغير مع سرعة تغييره { وانظر إلى حمارك } كيف تفرقت عظامه وتفتت أجزاؤه مع بطء تغيره وبعد ما نظرت إليهما تذكر قولك حين مرورك على القرية: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فألزم.
ثم قيل له من قبل الحق: { و } إنما فعلنا ذلك معك أيها المبعد للحشر الجسماني { لنجعلك آية } ودليلا وحجة { للناس } القائلين بالحشر الجسماني على المنكرين المبعدين لها { و } بدما تحققت حالك { انظر } بنظرة العبرة { إلى العظام } الرفات التي تعجبت من كيفية إحيائها وأنكرت عليها { كيف ننشزها } نركب بعضها مع بعض { ثم نكسوها لحما } بعد تتميم تركيب العظام { فلما تبين له } أمر الحشر ألزم وسلم و { قال أعلم } يقينا { أن الله } القادر { على } إحياء { كل شيء } مبدئا مبدعا { قدير } [البقرة: 259] على إحيائه معيدا.
[2.260-261]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قال } أبوك { إبراهيم } صلوات الرحمن عليه حين أراد أن يندرج ويرتقي من العلم إلى العين { رب أرني كيف تحيي الموتى } قال له ربه تنشيطا له على الترقي: { قال أولم تؤمن } تذعن وتوقن بأني قادر على الإعادة كما أني قادر على الإيجاد الإبداعي { قال بلى } آمنت يا ربي بأنك على كل شيء قدير { ولكن } سألتك المعاينة { ليطمئن قلبي } بها ويزيد بصيرتي بسببها، ويزداد حيرتي منها { قال } سبحانه: { فخذ أربعة من الطير } طاووس مزخرفات الدنيا الدنية، وديك شهواتها وغراب الآمال الطويلة فيها، وحمام الأهواء الباطلة المتعلقة بها، وبعدما أخذتهها { فصرهن إليك } أي: أمسكهن، اضممهن إلى نفسك بحيث تجد جميع أجزائك في نفسك على التفصيل بلا فوت جزء، ثم جزئهن أجزاء هوائية هبائية.
{ ثم اجعل على كل جبل } من الجبال المشهورة لك في نفسك { منهن جزءا } إلى حيث تخليت فناءها بالمرة، واطمأننت عن شرورها بالكلية { ثم ادعهن } فارضا وجودهن، مستحيلا إيجادهن { يأتينك } بأجمعهن { سعيا } ساعيات مسرعات بلا فوات جزء ونفقصان شيء { و } بعدما تحققت بها واستكشفت عنها { اعلم } يقينا بل عيانا { أن الله عزيز } غالب قادر لكل ما أراد { حكيم } [البقرة: 260] ذو حكمة بالغة في كل ما يفعل ويريد.
وإنكار الحشر والنشر إنما نشأ من العقل الجزئي، المشوب بالوهم والخيال القاصر عن إدراك رقائق الارتباطات الواقعة بين الحق وأجزاء العالم المستمدة منه، وإنما متجددة مبتدئة معادة، وإلا فمن خلص عقله المودع فيه عن مزاحمة الأوهام والخيالات، واتصل بالعقل الكل المدرك بالحضور جميع ما كان ويكون من المكونات، وتأمل في عجائب المصنوعات وغرائب المبدعات، والمخترعات الواقعة في الآيات التي هو فيها، انكشف له للا سترة وحجاب أمر الحشر والنشر وجحميع الأمور المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى، لا ينكر شيئا منها، بل يؤمن ويوقن بجميعها.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
{ مثل الذين ينفقون أموالهم } المنسوبة إليهم بنسبة شرعية { في سبيل الله } طلبا لمرضاته { كمثل } باذر { حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف } حسب قدرته الكاملة تلك المضاعفة بأضعاف غير متناهية { لمن يشآء } من خلص عباده بحسب إخلاصهم في نياتهم وإخراجهم نفوسهم عن البين، وتفويضهم الأمور كلها إلى الله أصالة { والله } المتجلي في الآفاق والأنفس { واسع } لا ضيق في فضله وإحسانه { عليم } [البقرة: 261] بحال من توجه نحوه وأنفق لرضاه مخلصا، لا يعزب عن علمه شيء.
[2.262-264]
وبشر يا أكمل الرسل { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } معتقدين أنهم مستخلفون عن الله فيها لا مالكون لها { ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى } لاعتقادهم الاستخلاف والنيابة { لهم أجرهم عند ربهم } المستخلف لهم لا يدرك مقداره وكيفيته أحد من خلقه { و } بعدما أنفقوا على الوجه المذكور { لا خوف عليهم } من الحساب والعقاب الأخروي { ولا هم يحزنون } [البقرة: 292] من فوات الأجرة بل لهم عند ربهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{ قول معروف } رد جميل للسائل ناشئ من حسن الخلق { ومغفرة } من الله بعد رده متحسرا على نعمة الإنفاق { خير من صدقة يتبعهآ أذى } إذ بذلك القول يجرى الثواب وبتلك الصدقة يستحق العقاب { والله غني } عن إنفاقكم بالمن والأذى للفقراء الذين هم من عيال الله { حليم } [البقرة: 263] لا يعجل بمؤاخذة من يمن ويؤذي.
{ يأيها الذين آمنوا } بالله الغني الحليم مقتضى إيمانكم أن { لا تبطلوا صدقتكم } عند الله { بالمن والأذى } حتى لا تعاقبوا عليها بأشد العقاب { ك } الكافر { الذي ينفق ماله رئآء الناس و } الحال أنه { لا يؤمن بالله واليوم الآخر } المعد لجزاء الأعمال { فمثله } أي: مثل المرائي في أنفاقه في يوم الجزاء { كمثل صفوان } حجر أملس { عليه تراب } اجتمع من هبوب الرياح فطرح فيه البذور لتنبت وتثمر { فأصابه وابل } مطر عظيم القطر { فتركه صلدا } أملس كما كان، وذهب بالبذور والتراب إلى حيث { لا يقدرون على } تحصيل { شيء مما كسبوا } وبذروا عليه { والله } الهادي للكل { لا يهدي القوم الكافرين } [البقرة: 264] المبطلين بالمن والأذى حكمة الله المتعلقة لتربية الفقراء وتقوية العجز والضعف ، فلا بد للمؤمن أن يجتنب عن أمثاله.
[2.265-266]
{ و } بعدما مثل سبحانه إنفاق المرائي المبطل مثل أيضا إنفاق المؤمن المحق بقوله: { مثل } المؤمنين { الذين ينفقون أمولهم } في سبيل الله { ابتغآء مرضات الله } لا لعوض ولا لغرض فضلا عن الرياء وعن المن والأذى { وتثبيتا } لهم ناشئا { من أنفسهم } ليثبتوا على ما أمرهم الله به واستخلفهم فيه بقوله: أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه { كمثل جنة } بستان واقع { بربوة } موضع مرتفع من الأرض { أصابها وابل } مطر عظيم القطر { فآتت أكلها } ثمرتها { ضعفين } مما في الأرض المنخفضة بإصابة الوابل { فإن لم يصبها وابل فطل } أي: إن لم يصبها وابل يكفي في إضعاف ثمرتها، طل: رطوبة رقيقة تنزل على الأرض في المواضع المترفعة؛ لصفاء هوائها عن جميع الكدورات، كأراضي بيت المقدس شرفها الله.
والمعنى: إن إنفاق المؤمن المخلص في الإنفاق، الطالب لرضاء الحق، المائل عن المن والرياء، الراغب لامتثال الأمر وتثبيت النفس وتقريره على أمر تلك الجنة، بل هي الجنة الحقيقية المثمرة للفواضل والإحسانات التي لا يدرك نموها { والله } المحيط بجميع أعمالكم { بما تعملون } من الإخلاص والرياء والمن والأذى { بصير } [البقرة: 265] لا يغيب شيء عن بصارته وحضوره.
ثم حث سبحانه عموم عباده على الإخلاص ورغبهم عن الرياء والمن والأذى على أبلغ وجه وآكده كأنه استدل عليه فقال: { أيود } ويحب { أحدكم } أيها المؤمنون المنتشرون في فضاء الدنيا { أن تكون له جنة } مملوءة { من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار } بل { له فيها من كل الثمرات } المتنوعة المتلونة { و } الحال أنه { أصابه الكبر وله ذرية ضعفآء } لا يقدرون على الكسب { فأصابهآ } أي: الحنة { إعصار } أي: ريح عاصف تستدير عند هبوبها فيرى لغبرتها مثل العمود الممدود نحو السماء { فيه نار } متكونة من الأبخرة والأدخنة المحتبسة فيها، والتقطها من شعل النار فسقطت النار فيها { فاحترقت } بالمرة ولم ينتفع منها أصلا، كيف يحرم هو؟!
وحرمانكم في النشأة الأخرى أيها المراءون أشد من حرمانه؛ لإحراقكم جنة الأعمال الصالحة المشتملة على نخيل التوحيد، وأعناب التسليم تجري من تحتها أنهار المعارف والحقائق المنتشئة من النفحات الإلهية المثمرة ثمرات الإنفاق والصدقات، والمتشعبة من الرضا المشعر بمقام العبودية، المسقط للإضافات كلها بإعصار الرياء والمن والأذى، المشتمل على نيران الأنانية والغيرية، المشعرة بعدم التحقق بمقام الرضا التسليم، فاحترقت بالمرة.
والحال أنكم مبطلون على الكسب، وقواكم الكاسبة قد رجعت إلى بدء رجموع القهرى ضعفاء مطلعين مثلكم { كذلك يبين الله لكم الأيت لعلكم تتفكرون } [البقرة: 266] فيها وتدخرون الزاد ليوم لا كسب فيه ولا مكسب، ولا زرع ولا حصاد.
[2.267-269]
{ يأيها الذين آمنوا أنفقوا } لرضاء الله { من طيبات } جيدات { ما كسبتم } أي: ما كسبتم في النشأة الأولى بأيديكم بالتجارة والصناعة { وممآ أخرجنا لكم من الأرض } بلا عمل منكم من الحبوب والثمار والمعدنيات وغير ذلك { ولا تيمموا } أي: لا تقصدوا { الخبيث } الرديء { منه } أي: مما كسبتم، ومما أخرجنا لكم حال كونك { تنفقون } للفقراء { و } الحال أنكم { لستم بآخذيه } من الغير { إلا أن تغمضوا فيه } تسامحوا في أخذه { واعلموا أن الله } المدبر لمصالح عباده { غني } عن إنفاقكم وتصدقكم، وإنما يأمركم به لانتفاعكم إذ هو { حميد } [البقرة: 267] شكور، فما أنتم وإنفاقكم.
{ الشيطان يعدكم الفقر } في الإنفاق ويخوفكم منه { ويأمركم بالفحشآء } أي: البخف المتجاوز عن الحدود { والله يعدكم } فيه { مغفرة } لذنوبكم ناشئة { منه وفضلا } زائدا على وجه التبرع والإكرام خلفا لما أنفقتم لطلب رضاه { والله واسع } لاضيق في فضله وأحسانه { عليم } [البقرة: 268] بنية من أنفق.
{ يؤتي الحكمة } أي: سرائر جميع الأعمال المأمورة لعباده { من يشآء } بفضله وجوده { ومن يؤت الحكمة } من العباد { فقد أوتي خيرا كثيرا } لا يحيط بكثرته إلا هو { وما يذكر } أي: ما يتعظ ويتذكر بهذه الآية { إلا أولوا الألباب } [البقرة: 269] الواصلون إلى لب الأمور، المائلون عن قشورها المتجهون إلى الله بالعزائم الصحيحة، المعرضون عن الرخص المؤدية إلى الجرائم.
[2.270-272]
{ و } اعلموا أيها المؤمنون أن { مآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر } يؤدي على الإنفاق في سبيل الله { فإن الله } الناظر لعباده في كل الأمور { يعلمه } يعلمه الحضوري، ويجازي عليه بأضعافه { وما للظالمين } المجاوزين عن حدوده، بمتابعة الشيطان المضل عن سبيل الله { من أنصار } [البقرة: 270] ينصرهم عند انتقام الله على ما صدر عنهم من الفسوق والعصيان، والتبذيرات الواقعة فيها.
{ إن تبدوا الصدقات } أيها المؤمنون وتظهروها { فنعما هي } أي: نعم شيئا إبداؤها عند الله وعند المؤمنين { وإن تخفوها وتؤتوها } أي: تعطوها خفية من الناس { الفقرآء فهو خير لكم } من إبدائها لعرائها عن وصمة الرياء، وعن ثوب المن والأذى، وعن لحوق العار على الفقراء { ويكفر عنكم من سيئاتكم } لستركم ذاته الفقراء الذين يذلون عند أخذها منكم { والله } المجازي لكم { بما تعملون } من الخيرات { خبير } [البقرة: 271] يكفيكم خبرته بمجازاتكم عليه.
ثم قال سبحانه مخاطبا لنبيه كلاما خاليا عن السترة، ناشئا عن عين الحكمة: { ليس عليك } يا أكمل الرسل { هداهم } أي: أن تجعلهم مهديين إلى طريق الحق، بل ما عليك إلا الإرشاد والتنبيه على مسالك التوحيد، والترغيب على محاسن الأوامر المتعلقة به، والترهيب عن مفاتح المناهي المنافية له { ولكن الله } الهادي للكل { يهدي } بتوفيقه { من يشآء } من عباده إلى صراطه لتوصلهم إلى بابه { و } قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { ما تنفقوا من خير } صدقة أو نذر { فلأنفسكم } أي: فهو لكم ونفعاه من نفعكم وانتفاعكم.
{ و } قل لهم أيضا: خير إنفاقكم أنكم { ما تنفقون } شيئا { إلا ابتغآء وجه الله } طالبا لرضاه، شاكرا لنعمه، عاريا عما يشغلكم عن الحق، مائلا عن مطلق الجزاء؛ إذ لا جزاء أعظم من مطالعة وجهه الكريم { و } اعلموا أن { ما تنفقوا من خير } على هذه الوجه { يوف إليكم } جزاؤه فوق ما يصفه ألسنة مصنوعاته أو يدرك عقولهم { وأنتم لا تظلمون } [البقرة: 272] لا تنقصون وتخسرون في هذه المعاملة مع الله.
[2.273-274]
ومتى عرفتم خير الإنفاق، فعليكم أن تعرفوا خير من ينفق إليه فاجعلوا إنفاقكم: { للفقرآء } العرفاء الأمناء { الذين أحصروا } تمكنوا { في سبيل الله } مشمرين للفناءفيه بحيث { لا يستطيعون } من غاية استغراقهم في مطالعة جماله { ضربا في الأرض } لطلب الرزق الصوري ومن غاية استغنائهم عن الدنيا وما فيها { يحسبهم الجاهل } بحالهم { أغنيآء من } أجل { التعفف } المرتكز في جبلتهم { تعرفهم } وتنتبه على حالهم أيها المؤمنون المنفق لرضاء الله { بسيماهم } من ضعف القوى ورثاثة الحال، وهم من غاية رجوعهم وركونهم عن الدنيا نحو المولى { لا يسألون الناس إلحافا } إلماما متمنين راجين بما عندهم، بل رزقهم الله المتجلي في الآفاق يرزقهم ن حيث لا يحتسب، وبعدما سمعتم أوصاف هؤلاء الوالهين في مطالعة جمال الله وجلاله، بادروا إلى تقوية مزاجهم ليسعدوا بالسعادة العظمى التي لا مرتبة أعلى منه { و } اعلموا أن { ما تنفقوا من خير } خصوصا لهؤلاء { فإن الله به } بذاته { عليم } [البقرة: 273] يجازيكم بمقتضى علمه.
ربنا اجعلنا من خدامهم وتراب أقدامهم.
بشر يا أكمل الرسل { الذين ينفقون أموالهم } المنسوبة إليهم { بالليل والنهار سرا وعلانية } أي: في جميع أوقاتهم وحالاتهم، طالبا لرضاه، هاربا عما شغل من الحق وابتلاه { فلهم أجرهم عند ربهم } بقدر قابليتهم واستعدادهم { ولا خوف عليهم } من التضييع والإحباط { ولا هم يحزنون } [البقرة: 274] من سوء المنقلب والمآب.
[2.275-277]
بشر أيضا يا أكمل الرسل { الذين يأكلون الربوا } وهو تنمية المال بأخس الطرق، والإضرار بأخيه المسلم، وإتلاق ماله مجانا بلا رعاية غبطة بأنهم { لا يقومون } في البعث { إلا كما يقوم } الشخص { الذي يتخبطه الشيطان من المس } في النوم، كيف يقوم صرعى حيارى، مضطربا منتهكا مشوشا هائلا بلا سبب { ذلك } الأمر الفظيع الهائل { بأنهم قالوا إنما البيع } في التنيمة { مثل الربوا } وهم يسوون بين البيع والربا { و } الحال أنه { أحل الله البيع } لأن غبطة المشتري مرعي فيه حالا ومآلا، وهو يرضاه بلا اضطرار، بخلاف الربا فإن غبطة الآخذ غير مرعية فيه، بل إنما ارتكبه اضطرارا { و } لذلك { حرم } الله العليم الحكيم { الربوا } لئلا يتلف أموال المسلمين مجانا بلا عوض ولا رضا { فمن جآءه } بلغه { موعظة } قبل { من ربه } في أثناء ما يربو به { فانتهى } نفسه بإسماعها في الربا { فله ما سلف } أخذ وقبل الموعظة لا يسترده الشرع { وأمره } مفوض { إلى الله } يجازيه على الانتهاء إن كان من أهل القبول والإنابة، ويعاق عليها إن كان من أهل التزلزل والاضطراب { ومن عاد } بعدما سمع وانتهى { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 275] دائمون مستمرون ما شاء الله.
ومن سنته سبحانه أنه { يمحق الله الربوا } أي: يذهب بركته، ويهلك المال الذي يدخل هو فيه { ويربي } يزيد وينمي المال الذي يخرج منه { الصدقت } ويضاعف ثوابها ويبارك على صاحبها، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: " ما نصقت زكاة من مال قط " { والله } المتجلي بالتجلي الجلي { لا يحب كل كفار } ستار مصر على تحليل المحرمات { أثيم } [البقرة: 276] بارتكاب المحظورات مجترء على ترك المأمورات.
ثم قال سبحانه: { إن الذين آمنوا } بالله الواحد القهار الأحد الفرد الوتر في ذاته { و } آمنوا أيضا بجميع رسله المرسلة من عنده، وبجميع ما جاء به من الأوامر والنواهي { عملوا } جميع { الصلحت } المأمورة لهم { و } خصوصا { أقاموا الصلوة } المفروضة لهم بكتاب الله { وآتوا الزكوة } المكتوبة عليهم فيه { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم } من ترقب مؤلم { ولا هم يحزنون } [البقرة: 277] من فوت ملذ مسربل، لهم ما لهم بالفعل بلا انتظار وترقب.
[2.278-281]
{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي: مقتضى إيمانكم اختيار التقوى والعزيمة الخالصة في جميع الأعمال المأمورة لكم، والاجتناب عن الرخص فيها { وذروا } اتركوا { ما بقي } لكم { من الربوا } عند الغرماء { إن كنتم مؤمنين } [البقرة: 278] موقنين بحرمة الربا وسر حرمته.
{ فإن لم تفعلوا } ولم تمتثلوا بما أمروا، ولم يتيقنوا لسر ما منعوا منه { فأذنوا } انتظروا واعلموا { بحرب } عظيم نازل { من الله } المتجلي باسم المنتقم { ورسوله } التابع له المتخلق بأخلاقه { وإن تبتم } من الارتباء والإنماء على هذا الطريق الأخس الأخبث { فلكم } في دينكم { رؤوس أمولكم لا تظلمون } بأخذ الزيادة وإتلاف مال الغريم بلا عوض { ولا تظلمون } [البقرة: 279] تتضررون بالمطل والتسويف وتعويق الأداء وتأخيرها.
{ وإن كان } الذي عليه رءوس أموالكم { ذو عسرة } لا يقدر على أدائها رخصة { فنظرة إلى ميسرة } أي: فعليكم أن تنتظروا إلى وقت يساره ثم تأخذوا { وأن تصدقوا } أي: تصدقكم على ذي عسرة { خير لكم } عند ربكم يجازيكم به جزاء لا يدرك كنهه إلا هو؛ إذ إدخال السرور في قلب المؤمن يوازي عند الله عمل الثقلين { إن كنتم تعلمون } [البقرة : 280].
{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } المسقط لجميع الإضافات منسلخين عن جميع ما أنتم عليه في الدنيا، مؤاخذين عليها؛ ليحاسبوا ويجازوا على نقير وقمطير { ثم توفى } تجزى { كل نفس } على مقتضى { ما كسبت } من خير وشر وظلم وجور { وهم لا يظلمون } [البقرة: 281] أصلا، لا بتنقيص الثواب ولا بتضعيف العقاب بل كل نفس فيها رهينة بما كسبت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها آخر ىية نزل بها جبريل عليه السلام، وقال:
" ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة "
وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهدها إحدى وعشرين يوما وقيل: إحدى وثمانين، وقيل: سبعة آيام، وقيل: ثلاث ساعات.
عليك أيها المؤمن المتوجه إلى تصفية الذات أن تدخر لنفسك هذه الآية كزاد آخرتك ما لا يسعه المطولات ولا يتدرج في المجلدات، ولا يفي باستقصائها التعبيرات والإشارات، وهي محتوية على جميع الأسرار الباعثة للإرسال والإنزوال والتبشير والإنذار، لذلك ختم به الوحي، وانقطع به الإنزال.
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
[2.282]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم المحافظة على الحدود خصوصا { إذا تداينتم بدين } أي: يعطي بعضكم بعضا مبلغا، ويأخذه أن يؤديه له { إلى أجل مسمى } مقدر معلوم بتقدير الأيام والشهور والأعوام لا بوقت الحصاد وقدوم الحاج وغير ذلك { فاكتبوه } لئلا يقع بينكم العداوة البغضاء المؤدية إلى النزاع والمراء، المنافية للإيمان والتوحيد { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } على الوجه الذي وقع بلا زيادة ولا نقصان، والحاصل أن تكتب المراضاة التي جرت بينكم حين الإعطاء والأخذ بلا تفاوت حتى تتذكروا به لدى الحاجة { ولا يأب } لا يمتنع { كاتب أن يكتب كما علمه الله } أي: لا يوجز إيجازا مخلا منقصا، ولا يطنب إطنابا مملا مزيدا؛ لئلا يؤدي إلى النزاع والمناكرة عند الأداء { فليكتب } الكاتب العادل.
{ وليملل } على الكاتب المديون { الذي عليه الحق } لأنه المعترف بالأداء { وليتق الله ربه } حين الإملاء عن فوت شيء من الحقوق { ولا } خصوصا { يبخس } لا ينقص { منه شيئا } هذا التخصيص بعدما دل عليه الكلام السابق؛ لزيادة التأكيد والاهتمام في الاجتناب عن حق الغير { فإن كان الذي عليه الحق سفيها } ناقص العقل من اهل التبذير { أو ضعيفا } في الرأي والقوة كالصبي والهرم { أو لا يستطيع } هو بنفسه { أن يمل هو } لخرس أو لجهل باللغة { فليملل } لأجله { وليه } أي: من يولي أمره شرعا { بالعدل } برعاية الجانبين بلا ازدياد ولا تبخيس.
{ و } مع ذلك { استشهدوا } على دينكم ومراضاتكم من الجانبين { شهيدين } حاضرين في مجلس المراضاة { ن رجالكم } لكمال عقلهم ودينهم { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } أي: فعلكيم أن تستشهدوا بدل الرجلين برجل وامرأتين دفعا للحرج، هذا مخصوص بالأموال دون الحدود والقصاص؛ لقلة عقلهن وضعف تأملهن { ممن ترضون } أنتم أيها العاملون { من الشهدآء } الذين ثبت عندكم عدالتهم وديانتهم، وإنما خص هذا العدد لأجل { أن تضل } تنسى { إحداهما } بمرور الزمان { فتذكر إحداهما } الذاكرة { الأخرى } الناسية؛ لئلا يبطل حقوق المسلمين.
{ ولا يأب } لا يمتنع { الشهدآء إذا ما دعوا } لأداء الشهادة أو تحملها مع الاستشهاد والإشهاد { ولا تسأموا أن تكتبوه } أي: الكتاب الشامل على مراضاتكم ومعاملاتكم المؤجلة { صغيرا } كان الحق { أو كبيرا إلى } وقت حلول { أجله } المسمى عند الأخذ { ذلكم } أي: الكتاب على الوجه المذكور { أقسط } أعدل معاملاتكم { عند الله وأقوم } أعون { للشهدة } أي: لأدائها { وأدنى } أقرب الطرق وأحفظها في أن { ألا ترتابوا } فيما جرى بينكم من المعاملة نسيئة، فعليكم أن تحافظوا عليها ولا تجاوزوا عنها { إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها } تداولونها { بينكم } يدا بيد { فليس عليكم جناح } ذنب { ألا تكتبوها } لمبعدها من التنازع { وأشهدوا } إن لم تكتبوا { إذا تبايعتم } احتياطا؛ إذ البشر لا يخلو من الضرر والإضرار { ولا يضآر كاتب ولا شهيد } هذه الصيغة تحتمل البنائين وكلاهما مراد.
أما بناء الفاعل، فلا بد أن يضرهم الكاتب المعاملين بترك الإجابة والحضور عند المملي، والزيادة والنقصان في المكتوب وغير ذلك، والشاهد المدعو إلى التحميل والأداء بترك الإجابة والتهاون والإنكار وغير ذلك.
أما بناء المفعول، فلا بد ألا يضر الكاتب بمنع أجرته واستعجاله عن مصالحه كذا الشاهد.
{ وإن تفعلوا } أشياء مما نهي عنه { فإنه فسوق بكم } خروج عن حدود الله لاحق به ضره { واتقوا الله } عن مخالفة حدوده وأحكامه { و } خصوصا بعدما { يعلمكم الله } المدبر لمصالحكم ما ينبغي لكم ويليق بحالكم { والله } المتجلي بصفة الجمال والجلال { بكل شيء } صدر عنكم { عليم } [البقرة: 282] يجازيكم على مقتضى علمه.
[2.283-284]
{ وإن كنتم } أيها المتداينون { على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة } أي: فعليكم في أمثال هذه المعاملة رهن مقبوض من الديون إلى أجل مسمى { فإن أمن بعضكم } أيها الدائنون { بعضا } من المدينون بلا ارتهان اعتمادا على أمانته { فليؤد } المديون { الذي اؤتمن } اعتمادا { أمانته } اي: دينه عند انقضاء أجله المسمى { وليتق الله ربه } في الإنكار والخيانة والبخص والمماطلة { ولا تكتموا } أيها المؤمنون { الشهدة } الحاضرة الحاصلة عندكم، المتعلقة بحقوق الناس سواء كنتم من المستشهدين أو الشاهدين على أنفسكم، المعترفين بما في ذمتكم من حقوق الغير { ومن يكتمها } إنكارا وعنادا { فإنه آثم قلبه } أي: يأثم قلبه، ومن كان إثمه من قلبه لا يرجى منه الفلاح والفوز بالنجاح { و } المحيط بحيلكم ومخايلكم { الله بما تعملون } من الإنكار والخيانة وكتمان الشهادة { عليم } [البقرة: 283] ينتقم منكم بكل ما جرى في نفوسكم منها.
{ لله } الواحد الأحد الحي، الحقيق بالحقية، القيوم المتفرد بالقيومية، الدائم الظاهر بالديمومية مظاهر { ما في السموت } من الأسماء الذاتية والصفات الفعلية { وما في الأرض } أي: الطبيعة العدمية القابلة لمظهرية آثار الصفات الذاتية، المحدثة المظهر للكائنات الكونية والكيانية، والواردات الغيبية والواضحات العينية { و } بعدما ظهر ما ظهر وما بطن { إن تبدوا } تظهروا أيها الأظلال والعكوس { ما في أنفسكم } من الأنانية والأصالة في الوجود والاستقلال بالآثار { أو تخفوه يحاسبكم به الله } الجامع بجميع الأسماء، المحيط بجميع الأشياء، بل الأشياء كلها مستهلكة في وجوده، فانية في ذاته { فيغفر } يستر ذنب الأنانية ومعصية الغيرية { لمن يشآء } من عباده بفضله وجوده { ويعذب من يشآء } بقهره وطرده إرادة واختيارا؛ إظهارا لقدرته وقلعا لشوكته { والله على كل شيء } مما شاء ويشاء { قدير } [البقرة: 284] بالقدرة الأزلية الأبدية المتصرف مطلقا في جميع ما كان ويكون، لا يعزب عن حضوره ذرة، ولا يشغله فترة.
[2.285-286]
لذلك : { ءامن الرسول } الفاني في الله، الباقي ببقائه، المستغرق بمطالعة لقائه { بمآ أنزل إليه } من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات، المتجددة بتجددات التجليات، المنتشئة { من ربه } الذي يربيه؛ لاستخلافه ونيابته وتحمل أسرار أعباء نبوته ورسالته { والمؤمنون } المتبعون له، المسترشدون منه المقتفون أثره { كل آمن بالله } المتفرد والمتعزز بالعظمة والكبرياء { وملائكته } المرسومين بصفات الذات والأسماء { وكتبه } المنزلة على ألسنة رسله للهداية والإهداء { ورسله } المنبهة على أولي البصائر والنهى مما في آياته الكبرى من السرائر والأسرار التي تفتت دونها الآراء، واضمحلت الأهواء، قائلين حالا ومقالا: { لا نفرق بين أحد من رسله } بعدما ظهر الكل منه ورجع إليه { و } بعدما آمنوا بالله وإحاطته { قالوا } طوعا { سمعنا و } سمعا { أطعنا } بجميع ما جاءوا به؛ إذ الكل من عندك نرجو { غفرانك ربنا } يا من ربانا بملابس الإمكان، والمفضي بالطبع إلى الخذلان والخسران { وإليك } يا هادي الكل لا إلى غيرك؛ إذ لا غير معك { المصير } [البقرة: 285] في الإعادة عن شيطان الإمكان.
ثم نبه سبحانه على خلص عباده ما يؤول أمرهم إليه وينقطع سعيهم دونه بقوله: { لا يكلف الله } الهادي لعباده نحو جنابه { نفسا إلا وسعها } أي: إلا ما في وسعها وطاقتها واستعدادها مما عينه الله في سابق علمه الحضوري لأجله، فظهر أن { لها ما كسبت } م نالخيرات باستعداده الفطري الجبلي { وعليها ما اكتسبت } من الشرور بمتابعة قوى النفس في الإمكان التي هي منشأ جميع الفسادات، ثم لما أشار سبحانه إلى سر التكليف أراد أن يشير إلى الإتيان بما كلف به لا يكون إلا بتوفيقه وجذب من عنده، لذلك لقنهم الدعاء والاستعانة والمناجاة بقوله: { ربنا } يا من ربانا بلطفك لقبول تكليفاتك لنصل إلى صفاء توحيدك وتقديسك { لا تؤاخذنا إن نسينآ } إتيان ما تكلفنا بسبب إمكاننا { أو أخطأنا } فيها لقصور إدراكنا { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا } حجابا غليظا وغشاوة كثيفا، يعمي بصائر قلوبنا عن إدراك نور توحيدك { كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا } من متاعب الرياضات ومشاق التكليفات الفائقة لدرن الإمكان ورين التعلقات { ما لا طاقة لنا به واعف } امح بفظلك { عنا } مقتضيات أوصافنا الإمكانية { واغفر لنا } أي: استر لنا ربنا أنانيتنا وهويتنا عن نظرا { و } بعد ذلك { ارحمنآ } برحمتك الواسعة { أنت مولنا } ومولى نعمنا { فانصرنا } بعونك ونصرتك في ترويج توحيدك { على القوم الكافرين } [البقرة: 286] الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهرة على الآفاق.
حققنا بلطفك بحقيتك وتوحيدك، يا خير الناصرين، ويا هادي المضلين.
خاتمة سورة البقرة.
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات - شرح الله صدرك ويسر أمرك - أن تأخذ لنفسك حسب قدرتك وطاقتك من هذه السورة المشتملة على جميع المطالب الدينية والمراتب اليقينة، فلك أن تشمر أولا ذيلك عن الدنيا وما فيها، معرضا عن لذاتها وشهواتها، متوجها بوجه قلبك إلى توحيد ربك، مستفتحا لما في صدرك من خزائن جوده ودفائن وجوده، طاويا كشح حالك وفعلك عما لا يعنيك، هاربا عن مصاحبة ما يضرك ويغويك، طالبا الوصول إلى معارج التوحيد ومدارج التجريد والتفريد، راغبا عما سوى الحق من أسباب الكثرة والتقييد، مستنشقا من نسمات أنسه ونفحات قدسه، مستروحا بنفسات رحمته، مستكشفا عن أسرار ربوبيته، مستهديا من زلال هدايته بمتابعة نبيه المخلوق على صورته، المبعوث على جميع بريته، مسترشدا من كتابه المنزل عليه، الجامع لما في الكتب السالفة من الحكم والمواعظ والعبر والرموز والإشارات الواردة منه عنده؛ لإهداء التائهين في فضاء وجوده، المستغرقين في تيار بحار إحسانه وجوده.
فعليك أيها المريد القاصد لسلوك طريق الحق أن تلازم هذا الكتاب الذي لا ريب فيه هدايته لمن آمن في غيب الهوية، وأدام التوجه نحوه، صارفا عنان عزمك عن كل ما يشغلك عن ربك، مقبلا بشأنك نحو مقصدك ومطلبك، معرضا على نفسك ما فيه من الحقائق والمعارف والحكم والأحكام والقصص والتذكيرات؛ إذ ما من حرف من حروف هذا الكتاب إلا هو ظرف المعاني إلى ما شاء الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم عليم.
فلا بدك لك عند تلاوة القرآن أن تطهر ظاهرك وباطنك عن جميع لوازم بشريتك، بحيث تغيب عنك نفسك، وتفنى هويتك وشأنك، وأنقطك ربك بنطقه وكلامه، ومتى رسخت هذه الحالة فيك وصارت خلقك وشيمتك، فزت بحظك من تلاوته، وإياك أن تغفل عند قراءته عن محض إشارته والتدقيق في روايته ودرايته.
ومتى صفت سريرتك عن العوائق كلها، وخلصت طويتك عن العوائق برمتها، صح لك أن تسترشد منه حسب ما قدر الله لك ووفقك في سابق علمه، إنه على ما يشاء قدير، وبإجابته حقيق جدير.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-6]
{ الم } [آل عمران: 1] أيها الإنسان الكامل الأحدي الأوحدي الأقدسي، اللائح على صورة الرحماني، الملازم الملاحظ لمقتضيات الأوصاف والسماء الإلهية، المتفرعة عليها جميع الماظهر الكونية المشتمل عليها، المحيط بها.
{ الله } أي: الذات الصمد المبدع المظهر الموجد الذي { لا إله } أي: لا مظهر ولا موجد { إلا هو الحي } الدائم الثابت، الذي لا يقدر حياته الزمان ولا حصره المكان، ولا يشغله شأن عن شأن { القيوم } [آل عمران: 2] الذي لا يعرضه الفتور، ولا يعجزه كره الأعوام ومر الدهور.
هو الذي: { نزل عليك } يا مظهر الكل امتنانا لك { الكتب } أي: القرآن الجامع الشامل لما في الكائنات أعلاها أولاها وأخراها ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع { مصدقا لما بين يديه } من الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء الماضين { وأنزل } أيضا { التوراة والإنجيل } [آل عمران: 3] على موسى وعيسى - عليهما السلام - مصدقين لما مضى من الكتب السابقة.
{ من قبل } أي: من قبل إنزالهما عليهما { هدى للناس } يهديهم إلى توحيده الذاتي عند ظهور خلافه من الغي والضلالة { و } بعدما ظهر الظلال { أنزل الفرقان } أي: الكتاب السماوي الفارق بين الهداية والضلالة؛ ليتميز الحق عن الباطل، وآيات الله عن تسويلات الشياطين { إن الذين كفروا بآيات الله } بعد ظهوره ونزوله، وكذبوا من أنزل إليهم من الكتب والآيات { لهم عذاب شديد } هو الطرد والحرمان عن ساحة التوحيد بسبب إنكارهم الآيات الهادية لهم إلى طريقه { والله } الهادي إلى توحيده { عزيز } غالب قادر { ذو انتقام } [آل عمران: 4] عظيم وتعذيب شديد على من كفر بآياته واستكبر على من أنزل عليه الآيات، وكيف لا؟.
{ إن الله } المحيط بجميع ما كان ويكون { لا يخفى عليه شيء } مما حدث { في الأرض } { ولا في } ما حدث { السمآء } [آل عمران: 5] من الإيمان والكفر والهداية والضلالة، وغير ذلك من الأعمال والأحوال الصادرة من العباد.
فيكف يخفى عليه؛ إذ { هو الذي يصوركم } بقدرته ابتداء { في الأرحام } بعد انصبابكم من أصلاب آبائكم إليها { كيف يشآء } أي: كيف تتعلق مشيئته وإرادته بلا مزاحمة ضد، ومشاركة أحد من شريك وند؛ إذ { لا إله } أي: لا مصور ولا موجد { إلا هو } يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا منازع له ولا مخاصم دونه بل هو { العزيز } الغالب على كل ما يشاء { الحكيم } [آل عمران: 6] المتقن في كل ما يريد.
[3.7-9]
{ هو الذي } اصفاك يا أكمل الرسل لرسالته واجتباك لنيابته وخلافته، بأن { أنزل } تفضلا وامتنا { عليك } من عنده لتصديقك وتأييدك { الكتاب } المعجز لجميع من تحدى وتعارض معك تعظيما لشأنك، وفصله بالسور والآيات الدالة على الأمور المتعلقة لأحوال العباد، وفي النشأة الأولى والأخرى؛ إذ { منه آيات محكمات } متعلقة بعموم أحوال العباد على اختلاف طبقاتهم في معاشهم معادهم من الأحكام والمعاملات والمعتقدات الجارية فيما بينهم بحسب النشأتين { هن أم الكتاب } واجبة الاقتداء والامتثال لكافة الأنام { وأخر متشابهات } متعلقة بالمعارف والحقائق المتربتة على الحكم والمصالح المودعة في إيجاب التكليفات، والطاعات والعبادات المؤدية إليها بالنسبة إلى أولى العزائم الصحيحة المتوجهة إلى بحر التوحيد.
{ فأما الذين في قلوبهم زيغ } ميل وعدول عن طريق الحق الجامع بين الظاهر والباطن { فيتبعون ما تشابه منه } ويتركون الامتثال بمحكماته جهلا وعنادا، ولم يعلموا أن الوصول إلى المعارف والحقائق إنما تنال بتهذيب الظاهر بامتثال المحكمات، وليس غرضهم من تلك المتابعة { ابتغاء الفتنة } أي: طلب إيقاع الفتنة بين الناس إفساد عقائدهم عن منهج التوحيد { وابتغاء تأويله } إلى ما يرتضيه عقولهم وتشتهيه نفوسهم، كالمبتدعة خذلهم الله { و } الحال أنه { ما يعلم تأويله } على ما ينبغي { إلا الله } المنزل؛ إذ تأويل كلامه لا يسع لغيره إلا بتوفيقه وإعانته { والراسخون في العلم } اللدني المؤيدون من عنده بإلهامه ووحيه بمعارف وحقائق لا تحصل بمجرد القوة البشرية إلا بتأييد منه، وجذب من جانبه { يقولون آمنا به } أي: أيقنا وأذعنا بمحكمات الكتاب ومتشابهاته جميعا؛ إذ { كل } منزل { من عند ربنا } ومالنا أن يتفاوت فيه { وما يذكر } يتعظ ويتيقظ منه { إلا أولوا الألباب } [آل عمران: 7] المجبولون على لب التوحيد، المعرضون عن قشوره التي هي من مقتضيات القوى النفسانية، التي هي من جنود شياطين الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة.
{ ربنا } يا من ربانا بلطفك على نشأة توحيدك { لا تزغ } ولا تمل { قلوبنا } عن طريقك { بعد إذ هديتنا } عليه بإنزال الكتب وإرسال الرسل { وهب لنا } وتفضل علينا { من لدنك رحمة } علما وعينا وحقا { إنك أنت الوهاب } [آل عمران: 8] بلا إعراض وأغراض.
{ ربنآ إنك } بذاتك وأوصافك وأسمائك { جامع } شتات { الناس ليوم } شأنه { لا ريب فيه } ولا شك في وقوعه لإخبارك بوقوعه على ألسنة رسلك، وإنزالك في كتبك { إن الله } الجامع لتشات العباد في المعاد { لا يخلف الميعاد } [آل عمران: 9] الذي وعده في كتابه، بل أنجزه على مقتضى إنزاله ووحيه.
[3.10-13]
{ إن الذين كفروا } بالله، وأعرضوا عن كتبه ورسله وأصروا عليه اغترار بمزخرفاتهم الباطلة من الأموال والأولاد { لن تغني } وترفع { عنهم } في النشأة الأخرى { أموالهم ولا أولادهم من } غضب { الله شيئا وأولئك } المصرون المعاندون فيها { هم وقود النار } [آل عمران: 10] أي: أجسامهم وقود نار الحسرة و الخذلان دأبهم وديدنتهم في النشأة الأولى.
{ كدأب آل فرعون والذين } مضروا { من قبلهم } كعاد وثمود { كذبوا بآياتنا } الدالة على توحيدنا، المنزل على رسلنا المستخلفين من عندنا { فأخذهم الله } باسمه المنتقم { بذنوبهم } الصادرة منهم من التكذيب والإنكار والعناد والاستكبار، فاستأصلهم بالمرة في النشأة الأولى، وأحرقهم بالنار في النشأة الأخرى جزاء بما كسبوا في الأولى { والله } القادر المقتدر على ما يشاء { شديد العقاب } [آل عمران: 11] لكل من عاندوا واستكبروا.
{ قل } يا أكمل الرسل نيابة عنا { للذين كفروا } بك وبكتابك إخبارا لهم عما سيجري عليهم: { ستغلبون } بقهر الله وغضبه في يوم الجزاء { وتحشرون } بين يدي الله، وتحاسبون عنده سبحانه عما جرى عليهم في النشأة الأولى، وبعد ذلك تساقون { إلى جهنم } البعد والخذلان مطرودين مهانين { وبئس المهاد } [آل عمران : 12] ما مهدوا فيها بما اقترفته نفوسهم من الاستكبار على الأنبياء والإصرار على ما هم عليه من الكفر والضلالة، بعد ظهور آيات الإيمان وعلامات الهدى؛ إذ:
{ قد كان لكم } أيها الضالون في تيه الحرمان { آية } ظاهرة دالة على الهدى الحقيقي { في } التقاء { فئتين } حين { التقتا } إحداهما { فئة تقاتل في سبيل الله } لإعلاء كلمته وإظهار توحيده { وأخرى كافرة } تقاتل مع الموحدين مكابرة وعنادا، ومع كونكم أيها الكافرون المعاندون بأضعاف المؤمنين الموحدين، وكثرة عددكم وعددكم { يرونهم } أي: الموحدون { مثليهم رأي العين } أي: في بادي النظر ويرهبون منهم رهبة شديدة بتأييد الله ونصره { والله } المحيط بجميع ما جرى في ملكه { يؤيد بنصره } العزيز { من يشآء } من عباده المخلصين في إطاعته وانقياده { إن في ذلك } التأييد والنصر مع ظهور عكسه { لعبرة } تبصرة وتذكرة { لأولي الأبصار } [آل عمران: 13] المستبصرين بنظر الاعتبار عن سرائر الأمور وأسرارها بلا التفات إلى مزخرفات الدنيا الدنية من شهواتها ولذاتها، لا للمنهمكين المستغرقين في بحر الغفلة والغرور إذ:
[3.14-18]
{ زين } حبب وحسن { للناس } المغرورين بزخرفة الدنيا { حب الشهوات } أي: مشتهياتها المنحصرة أصولها في هذه المذكورات { من النساء } اللاتي هن لمن اشتهاها؛ إذ هو للوقاع الذي هو من ألذ الملذات النفسانية { والبنين } للمظاهرة والمفاخرة والغلبة على الخصوم { والقناطير } الأموال الكثيرة { المقنطرة } المجتمعة المزخرفة { من الذهب والفضة } لكونها وسائل إلى المشتهيات التي مالت القلوب إليها بالطبع { والخيل المسومة } المعلمة المنسوبة إليهم ليركبوها ويبطروا عليها { والأنعام } من الإبل والبقر والغنم ليحملوها، ويأكلوا منها ويزرعوا بها { والحرث } ليقتاتوا بها ويعيشوا بأكملها { ذلك } الأصول المذكورة { متاع الحياة الدنيا } الفانية المانعة من الوصول إلى الجنة، الماوى التي هي دار القرار والخلود، وموعد لقاء الخلاق الودود { والله } الهادي إلى سبيل الصواب { عنده } لمن توجه نحوه واستقبل جنابه { حسن المآب } [آل عمران: 14] وخير المنقلب والمئاب.
{ قل } يا أكمل الرسل للمؤمنين، للمخلصين في عبادة الله، الراغبين إلى جزيل عطائه، الطائرين إلى فضاء فنائه، الطالبين الوصول إلى شرف لقائه، الفانين في الله؛ ليفوزوا بشرف بقائه تحريكا لهم سلسة الشوق والمحبة { أؤنبئكم } أيها الحيارى في صحارى الإمكان، الموثقون بقيود الأكوان، المحبوسون في مضيق الجدران بسلاسل الزمان والمكان { بخير } مراتب { من ذلكم } الذي ملتم إليها واشتهيتم إلى نيلها في هذه النشأة، حاصل واصل إليكم في النشأة الأخرى { للذين اتقوا } منكم عن محارم الله وتوجهوا إلى الله في الدنيا، ولم يرتكبوا ما نهاهم الله على ألسنة رسله { عند ربهم } الذي رباهم بتوفيقه على ترك المحظورات واجتناب المكروهات { جنات } معراف وحقائق { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أنهار الكشوف والشهود { وأزواج } أعمال وحالات { مطهرة } خالصة عن كدر الرعونة والرياء خالية عن الميل إلى البدع والأهواء { و } مع ذلك لهم { رضوان } عظيم { من الله } ليحققهم في مقام العبودية والرضاء بما جرى عليهم من القضاء، بحيث لا ينسبون شيئا من الحوادث إلى الأسباب والوسائق، بل لا يرون الوسائط في البين أصلا { والله } الهادي للكل { بصير بالعباد } [آل عمران: 15] الراضين بقضائه، المرضيين بإنفاذه وإمضائه؛ يعني:
{ الذين يقولون } بألسنتهم موافقا لما في قلوبهم عند مناجاتهم مع ربهم { ربنآ إننآ آمنا } بمقتضى توفيقك بوحدانيتك وبكتبك ورسلك { فاغفر لنا } بلطفك { ذنوبنا } التي صدرت عنا من أنانيتنا واستر عيوبنا التي كنا عليها قل انكشافنا بتوحيدك { وقنا } بلطفك، واحفظنا بفضلك { عذاب النار } [آل عمران: 16] المعد لأصحاب البعد الخذلان عن ساحة عز حضورك، واجعلنا بفضلك من:
{ الصابرين } على عموم ما أصابهم من البأساء والضرءا في طريق توحيدك { والصادقين } عن الكذب مطلقا في أقوالهم المعتبرة، المعربة عن أفئدتهم المطمئنة بالإيمان { والقانتين } الخاضعين الخاشعين إليك بظواهرهم وبواطنهم { والمنفقين } من طيبات ما رزقت لهم؛ طلبا لمرضاتك بلا شوب المنة والأذى { والمستغفرين } لك الخائفين من سخطك وجلالك، الراجين العفو من عموم أوقاتهم خصوصا { بالأسحار } [آل عمران: 17] الخالية عن جميع الموانع العائقة عن التوجه إلى جنابك الشاهدين بوحدانيتك بما: { شهد الله } به لذاته، وهو { أنه لا إله } أي: لا موجود ولا وجود ولا كون ولا تحقق ولا كائن ولا ثابت { إلا هو } الحي الحقيق بالحقية، الوحيد بالقيومية، الفريد بالديمومية، لا شيء سواه { و } بما شهد بوحدته { الملائكة } أي: الأسماء والصفات القائمة بالذات الأحدية؛ إذ الكل قائم به ثابت له لا مرجع لها سواه { و } بما شهد به { أولوا العلم } من مظاهر المخلوقات على صورته المتأثرة من أوصافه وأسمائه، وإن كانت شهادة كل منها راجعة إلى شهادته؛ لكون الكل { قآئما } مقوما متحققا { بالقسط } أي: العدل الإلهي المنبسط على ظواهر الكائنات أزلا وأبدا؛ إذ { لا إله } أي: لا مظهر لها { إلا هو العزيز } الغالب القادر على إظهارها { الحكيم } [آل عمران: 18] المتقن في تربيتها وتدبيرها، القائلين طوعا ورغبة بعدما تحققوا بمقام العبودية:
[3.19-20]
{ إن الدين } القيوم والشرع المستقيم المقبول المرضي { عند الله } الهادي للعباد إلى طريق الرشاد هو { الإسلام } المنزل من عنده إلى خير الأنام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { وما اختلف } المعاندون المنكرون لدين الإسلام من { الذين أوتوا الكتاب } أي: اليهود والنصارى { إلا من بعد ما جآءهم العلم } اليقيني في كتبهم المنزلة من عند الله بأنه سيظهر النبي الحق، والدين الحق الناسخ لجميع الأديان السابقة، وعلموا حين ظهوره حقيته بالدلائل والعلامات المبينة في كتابهم، ومع ذلك ينكرونه { بغيا } حسدا ثابتا { بينهم } ناشئا من طلب الرئاسة والاستكبار والعتو الإصرار { ومن يكفر بآيات الله } بأمثال هذه الأباطيل المموهة يجازيهم على كل منها بلا فوت شيء { فإن الله سريع الحساب } [آل عمران: 19] لا ي عزب عن علمه شيء، شديد العقاب لمن أنكر آياته بعد ظهور حقيتها.
{ فإن حآجوك } جادلوك يا أكمل الرسل بعد ظهور حقية دينك وكتابك عندهم مكابرة وعنادا، لا تجادل معهم بل أعرض عنهم { فقل أسلمت } أي: فوضت وسلمت أمري في ظهور ديني، ووجهت: { وجهي } صورتي المخلوقة على صورة الله المستجمع للكل { لله } ظاهرا وباطنا { ومن اتبعن } فعليهم الانقياد والتسليم إلى الله في جميع الأمور { وقل } يا أكمل الرسل إمحاضا للنصح { للذين أوتوا الكتب } أي: اليهود والنصارى { والأميين } الذين لا يأتيهم الكتاب والدعوة: { أأسلمتم } بدين الإسلام المبين لتوحيد الله كما أسلمت أنا ومن اتبعني بعدما ظهر لكم دلائل حقيته، أم لم تسلموا بغيا وعنادا؟ { فإن أسلموا } بعد دعوتك وعرضك لهم طريق الهداية { فقد اهتدوا } إلىطريق الحق كما اهتديت أنت ومن تبعك { وإن تولوا } أعرضوا عن دعوتك عنادا واستكبارا { فإنما عليك البلغ } أي: لم يضروك بإعراضهم بل ما عليك من حسابهم من شيء، ولا عليهم من حسابك من شيء، فأعرض عنهم { والله } المحيط بهم وبضمائرهم { بصير } خبير { بالعباد } [آل عمران: 20] وأحوالهم وأعمالهم، يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته.
[3.21-22]
وقل لهم أيضاص تذكيرا واستحضارا حكاية عن حال أسلافهم الماضين: { إن الذين يكفرون } ينكرون { بآيات الله } المنزلة على أنبيائه بعد ظهور صدقها وحقيتها { و } مع ذلك { يقتلون النبيين } الذين أنزل عليهم الآيات من عنده سبحانه { بغير حق } بلا رخصة شرعية أي: موافقة بشرع ودين { ويقتلون } أيضا { الذين يأمرون بالقسط } بالعدل { من الناس } الذين يتبعون شرائعهم وينقادون بأديانهم، ويمتثلون بأديانهم ويمتثلون بأوامرهم وأحكامهم، جرى عليهم في الدنيا ما جرى، في الآخرة ما جرى بأضعاف ذلك لعلهم ينتبهوا ويمتنعوا، وإلا { فبشرهم بعذاب أليم } [آل عمران: 21] جزاء لإصرارهم وعنادهم.
{ أولئك } المصرون المعاندون هم { الذين حبطت } ضاعت { أعمالهم } كلها بحيث لا ينفع لهم عند الله لا { في الدنيا و } ولا في { الآخرة وما لهم } عند ربهم من يشفع لهم أو يعين عليهم { من ناصرين } [آل عمران: 22] الذين يدعون الاقتداء بهم ويستنصرون منهم لكونهمه ضالين منهمكين في الغفلة، لاحظ لهم من الهداية أصلا.
[3.23-25]
{ ألم تر } أيها الرائي { إلى الذين } أي: إلى إصرار اليهود وعنادهم مع كونهم { أوتوا نصيبا } كاملا { من الكتاب } أي: التوراة في زعمهم حين { يدعون } في الوقائع { إلى } رجوع { كتاب الله } الذي يدعون الإيمان والعمل بمقتضاه { ليحكم بينهم } بمقتضى ما أمره الله في كتابه كيف يتكاسلون ويتهاونون { ثم } يترقى تكاسلهم وتهاونهم إلى أن { يتولى } يستدبر ونبذ { فريق منهم } الكتاب وراء ظهروهم { وهم معرضون } [آل عمران: 23] عنه وعن أحكامه بالمرة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم دخل مدارس اليهود، فقال لهم نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: " على دين أبي إبراهيم عليه السلام " ، فقال: إن إبراهيم يهودي، فقال صلى الله عليه وسلم: " هلموا كتابكم ليحكم بيننا وبينكم، فأنكروا عليه وامتنعا عن إحضاره فنزلت ":
{ ذلك } التولي والإعراض من كثرة الخصلة الذميمة والديدنة الخبيثة، المتركزة في نفوسهم المنسوبة إلى دينهم افتراء { بأنهم } اعتقدوا { قالوا لن تمسنا النار } المعدة لجزاء العصاة { إلا أياما } قلائل { معدودات } سواء كانت ذنوبنا كثيرة أو قليلة، صغير أو كبيرة { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } [آل عمران: 24] اي: جرأهم على الذنب والعصيان ما يفترون في شأن دينهم من أمثال هذه الهذايانات، منها قولهم هذا، ومنها اعتقادهم أن آباءهم الأنبياء سيشفعون لهم، وإن عظمت ذنوبهم، ومنها أن يعقوب عليه السلام ناجى مع الله ألا يعذب أولاده إل تحلة القسم.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { فكيف } لا تمسهم النار، اذكر لهم { إذا جمعناهم } إلينا بعد تفريقهم منا لكسب المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات { ليوم } شأنه { لا ريب فيه } عند من يكاشف له { و } بعد جمعنا إياهم { وفيت كل نفس } جزاء { ما كسبت } من الحقائق والعرفان والمعاصي والخذلان { وهم } أي: كل منهم في ذلك اليوم مجزي بما كسبت { لا يظلمون } [آل عمران: 25] فالنيل والوصول لأرباب الفضل، والقبول والويل كل الويل لأصحاب الطرد والخمول.
أدركنا بلطفك يا خفي الألطاف.
[3.26-28]
{ قل } يا أيها المتحقق بمقام الشهود الذاتي، المكاشف بوحدة الحق دعاء صادرا من لسان مرتبتك الجامعة الشاملة لجميع المراتب { اللهم } يا { مالك الملك } أي: المتصرف المستقبل في مظاهر ذاتك { تؤتي } تعطي وتكشف بلطفك { الملك } أي: التوحيد الذاتي { من تشآء } من خواص مظاهر صفاتك وأسمائك { وتنزع } تمنع وتستر بقهرك { الملك } المذكور { ممن تشآء } من عوامهم؛ تتميما لمقتضيات أوصاف جمالك وجلالك { وتعز من تشآء } بالوصول إلى فضاء فنائك { وتذل من تشآء } وراء حجاب سرادقات جلالك، وبالجملة: { بيدك } وقدرتك وسلطانك ومشيئتك وإرادتك { الخير } أي: كله الوجود، وظهوره على أنحاء شتى { إنك } بذاتك { على كل شيء } من مظاهر وجودك { قدير } [آل عمران: 26] لا تنتهي قدراتك أصلا.
ومن جملة مقدوراتك: إنك { تولج } تدخل وتدرج { الليل } أي: العدم { في } صورة { النهار } أي: الوجود إظهارا لقدرتك وجمالك { وتولج } أيضا { النهار } نور الوجود { في الليل } أي: مشكاة العدم؛ إظهارا لقدرتك وجلالك { وتخرج } تظهر { الحي } والحق الحقيق مع غاية صفائها وظهورها { من الميت } العدم الأصلي الذي هو مرآة التعينات { و } أيضا { تخرج الميت } أي: العدم الجامد الذي ما شم رائحة الحياة أصلا بامتداد أضلال أسمائك وصفاتك عليه { من الحي } الذي لا يموت أبدا وهو ذاتك { وترزق } بلطفك { من تشآء } من مظاهرك من موائد فضلك وإنعامك ونوال جودك وإحسانك { بغير حساب } [آل عمران: 27] تفضلا لهم وامتنانا عليهم بلا مظاهرة أحد.
هب لنا بلطفك من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ثم لما بين سبحانه أن الهداية إلى طريق التوحيد والإضلال عنه بقدرته واختياره، يؤتي ملك توحيده من يشأ من عباده ويمنعه عمن يشاء، أراد أن ينبه على خلص توحيد عباده ما يقربهم إلى الهداية ويبعدهم عن الضلا فقال تحذيرا لهم: { لا يتخذ المؤمنون } المتوجهون نحو توحيد الذات، الطالبون إفناء ذواتهم في ذات الله، لخوضوا في لجج بحر التوحيد، ويفوزوا بدرر المعارف والحقائق الكامنة فيها { الكافرين } الساترين بهوياتهم الكثيفة المظلة نور الوجود { أوليآء } ولا يصاحبون معهم، ولا يجالسون موالاة لهم ومؤخاة معهم لقرابة طينية وصداقة جاهلية، مع كوهم خالين معهم { من دون } حضور { المؤمنين } الماظهرين لهم؛ لئلا يسري كفرهم ونفاقهم إليهم؛ إذ الطبائع تسرق والأمراض تسري، سيما الكفر و الفسوق؛ إذ الطبائع مائلة إليها { ومن يفعل ذلك } ولم يترك مصاحبتهم ولا موالاتهم { فليس من } ولاية { الله } وطريق توحيده { في شيء } بل ملحق بهم معدود من عداوتهم بل أسوءهم حالا وأشدهم جرما عند الله بعدما نهاهم الله ولم ينتهوا { إلا أن تتقوا منهم } وتخافوا { تقة } توجب الموالات المصاحبة ضرورة من إتلاف النفس المال والعرض، وعند ذلك المحذور موالاتهم جائزة ومؤاختهم معذورة مداهنة ومداراة { و } مع وجود تلك الضرورة المستلزمة للموالاة الضرورةي { يحذركم الله نفسه } أي: يحذركم يا أهل العزائم عن نفسه على وجه المبالغة، حتى لا تأمنوا عن سخطه ولا تغفلوا عن غضبه، ولا تميلوا عنه سبحانه بارتكاب ما نهيتم عنه { و } اعلموا أن المحذورات كلها راجعة { إلى الله } إيجادا وإظهارا؛ إذ إليه { المصير } [آل عمران: 28] في الخير والشر والنفع والضر، لا مرجع سواه ولا منتهى إلا إياه.
[3.29-32]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وعظة وتنبيها على ما في فطرتهم الجبلية: { إن تخفوا ما في صدوركم } من محبة أقاربكم { أو تبدوه يعلمه الله } المحيط بظواهركم وبواطنكم { ويعلم } أيضا بعلمه الحضوري جميع { ما في السموت } من الكائنات والفاسدات أزلا وأبدا { وما في الأرض } منها لا يغيب عن علمه مما لمع عليه نور وجوده { والله } المتجلي لذاته بذاته { على كل شيء } من مظاهر تجلياته { قدير } [آل عمران: 29] بلا فتور وقصورن، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، يجازيهم على مقتضى علمه وقدرته في النشأة الأخرى.
{ يوم تجد كل نفس } خيرة { ما عملت } في النشأة الأولى { من خير } إحسان وإنعام وعمل صالح ويقين وعرفان { محضرا } بين يديه يستحضره ويود استعجاله { و } كذا تجد كل نفس شديدة { ما عملت } فيها { من سوء } غير صالح وكفر ونفاق وشرك وشقاق محضرا بين يديه، مشاهدا بين عينيه تستأخره وتتمنى بعده { تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } وزمانا متطاولا، بل يتمنى ألا تلقاه أصلا { ويحذركم الله } بهذا التذكير والتنبيه { نفسه } وقدرته على الانتقام وزيادة قهره وغضبه على من استكبر عن أوامره ونواهيه { والله } القادر المقتدر على انتقام العصاة { رؤوف } عطوف مشفق { بالعباد } [آل عمران: 30] الذين يترصدون إلى الله بين طرفي الخوف والرجاء، معرضين عن جانبي القنوط والطمع.
{ قل } أيها المخلوق على صورتنا، المجبول على مقتضيات جميع أوصافنا وأسمائنا، المتخلق بجميع أخلاقنا، لمن أراد إرشادهم وتبلغهم من البرايا { إن كنتم } أيها الأضلال المنهمكون في بحر الغفلة والضلال { تحبون الله } أي: تدعون محبة الله المظهر لكم من العدم، وتطلبون التوجه إلى جنابه والترب نحو بابه { فاتبعوني } بأمره وحكمه { يحببكم الله } أي: يقربكم إلى جنابه، ويوصلكم إلى ضرف لقائه { ويغفر } يستر، ويضمحل { لكم } عن أبصاركم وبصائركم { ذنوبكم } التي حجبتم بها عن مشاهدة جمال الله وجلاله، ومعاينة أسمائه وصفاته { والله } الهادي لكم إلى صراط توحيده { غفور } لكم يرفع موانع وصولكم { رحيم } [آل عمران: 31] لكم يوصلكم إلى مطلوبكم.
{ قل } لهم أيضا أجل أعمالكم وأفضالها إطاعة أمر الله وإتباع رسوله المرسل إليكم { أطيعوا الله } في امتثال جميع أوامره وأحكامه، واجتناب جميع نواهيه ومحظوراته مما فاز به المؤمنون { و } أطيعوا { الرسول } المبلغ لكم كتاب الله، المبين لكم المراد منه، فإن أطاعوا فازوا مما فاز به المؤمنون { فإن تولوا } أعرضوا عن إطاة الله ورسوله، فقد كفروا فلهم ما سيجري عليهم من عذاب الله وغضبه في النشأة الأخرى { فإن الله } الهادي لعباده { لا يحب الكافرين } [آل عمران: 32] منهم لا يقربهم ولا يرضى عنهم، بل يعذبهم ويبعد9م عن عز حضورهم.
[3.33-37]
ثم لم وقف سبحاه محبته ورضاه لعباده على متابعة حبيبه ورسوله المصور على صورته، المتخلق بأخلاقه، صار مظنة أن يتوهم أن نسبة ظهوره إلى المظاهر كلها على السواء، فما وجه التخصيص باختيار بعض بالمتابعة؟ أشار سبحانه إلى دفعه، بأن من سنتنا تفضيل بعض مظاهرنا على بعض فقال: { إن الله اصطفى } اختار واجتبى { ءادم } بالخلافة والنيابة، وأمر الملائكة الذين يدعون الفضيلة عليه بسجوده كرمه على جميع مخلوقاته { و } أيضا اصطفى { نوحا } بالنجاة والخلاص، وإغراق جميع من في الأرض بدعائه { و } كذا اصطفى { آل إبراهيم } أي: أهل بيته بالإمامة والخلافة، لذلك دعا إبراهيم عليه السلام ربه بألا يخرج الزمان عن إمامة ذريته إلى يوم القيامة { و } كذا اختار { آل عمران على العالمين } [آل عمران: 33] بإرهاصات ومعجزات لم يظهر من آحد مثلها، مثل: إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والولادة بلا أب وغير ذلك.
ثم إن اصطفاء الله إياهم ليس مخصوصا بهم بل اصطفى منهم { ذرية } أخلافا فضلاء { بعضها من بعض } أي: أعلى ربتة من بعض في الفضيلة كما قال سبحانه: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [البقرة: 253] { والله } المحيط بسرائر عباده المتوجهين نحو بابه { سميع } لمناجاتهم الصادرة من ألسنة استعدادتهم { عليم } [آل عمران: 34] بما يليق لهم من المراتب العلية.
اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مناقب آل عمران وقت { إذ قالت امرأت عمران } حين ناجت ربها في سرها بلسان استعدادها وقت ظهور حملها، بإلقاء الله إياها: { رب } يا من رباني بحولك وقولك { إني نذرت لك ما في بطني محررا } معتقا عن أمور الدنيا كلها، خالصا لعبادتك وخدمة بيتك لا أشغله شيئا سواه، وكان من عادتهم تحرير بعض أولادهم الذكور لخدمة بيت المقدس شرفها الله { فتقبل } بلطفك { مني } ما نذرت لك للتقرب إليك يا رب { إنك } بذاتك وصفاتك وأسمائك { أنت السميع } لمناجاتي { العليم } [آل عمران: 35] بحاجاتي.
{ فلما وضعتها } أنثى آيست { قالت } متحسرة متحيرة مشتكية إلى ربها في نذرها: { رب إني } وإن بالغت في إخلاص النية في نذري لم تقبله مني يا رب أن { وضعتهآ أنثى } والأنثى لا تصلح لخدمة بيتك { و } لما امتدت في إظهار التحزن، وبث الشكوى والتحسر نودي في سرها: لا تجزعي ولا تحزني؛ إذ { الله } المطلع لإخلاص نيتك { أعلم } منك { بما وضعت } وما ظهرت منها من البدائع والغرائب والإرهاصات الخارقة للعادات { وليس } مطلق { الذكر } الذي حررر لخدمة هذا البيت { كالأنثى } التي هي هذه؛ إذ يترتب على وجود عجائب صنع الله وبدائع قدرته لما سمعت بسمع سرها ما سمعت قالت نشطة فرحانة: { وإني سميتها مريم } ليكون اسمها مطابقا لمسماها؛ لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، ولما تحققت عندها بإلهام الله وقاية الله إياها وذريتها، قالت مفوضة إلى الله: { وإني أعيذها بك وذريتها } أيضا { من الشيطان الرجيم } [آل عمران: 36] لتكون هي وهم في حفظك وحمائك من إغوائه وإضلاله.
{ فتقبلها ربها } ما نذرت له { بقبول حسن } حتى نشطت بمكاشفة اللطف من الله بعدما آيست { و } بعد قبول الحسن { أنبتها } ربها بلطفه حتى صار { نباتا حسنا } مظهرا لعجائب صنعه وبدائع حكمته { و } بعدما أنبتها وتقبلها { كفلها } أي: جعل كفيلها وحاضنها من أحبار البيت { زكريا }.
روي أن حنة لما كوشفت بأمرها بإلهام الله إياها لفتها في خرقه وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار المجاورين فيه على العادة المستمرة، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتخالفوا في حضانتها؛ لأنها كانت بنت إمامهم وملكهم، فقال زكريا: أنا ا؛ق بحضانتها، لأن عندي خالتها، فأبطأ إلى أن اقترعوا وكانوا سبعة وعشرين، فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيها أقلامهم، فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم، فتكلفها في بيت لا باب له إلا كوة في سقفه.
فلما أراد زكريا أن يأتي برزقها نزل منها، ولما خرج أغلق وقفل، ثم صار { كلما دخل عليها زكريا المحراب } لتفقدها { وجد عندها رزقا } من ألوان الأطعمة والفواكة، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، والصيف في الشتاء، فتعجب من حالها إلى أن سألها { قال يمريم أنى لك هذا } من أين لك هذا الرزق الآتي الذي لا يشبه أطعمة الدنيا، والفاكهة الآتية لا على وفق العادة والأبواب مغلقة عليك؟! { قالت } بإلهام الله إياها: { هو من عند الله } المتكفل لأرزاق عباده { إن الله } المراقب المحافظ لتربية مظاهره { يرزق من يشآء } ما يشاء { بغير حساب } [آل عمران: 37] بلا إحصاء وتعديد من حيث لا يحتسب.
[3.38-41]
ولما سمع زكريا منها ما سمع ورأى ما رأى { هنالك } أي: في ذلك الوقت والزمان { دعا زكريا } المراقب لنفحات الله في جميع حالاته { ربه } الذر رباه بتعرض نفحاته لإصلاح حاله متمنيا في دعائه خلفا يحيي اسمه حيث { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } بريئة عن جميع الرذائل والنقائض كما وهبتها لامرأة عمران { إنك } بإحاطتك على سرائر عبادك { سميع الدعآء } [آل عمران: 38] أي: الدعاء الصادر عن ألسنة استعداداتهم بإلقائك على قلوبهم.
ولما كان دعاؤه صادرا عن عزيمة صحيحة واردة في وقت قدر الله في علمه، بادر سبحانه إلى إجابته، أمر الملائكة بتبشيره { فنادته الملائكة } بأمر ربهم { وهو } في تلك الحالة مترصد للإجابة { قائم } للخضوع والتذلل { يصلي } لله، ويميل إليه مقبلا عليه { في المحراب } المعد للاستقبال قائلين له، منادين عليه: يا زكريا { أن الله } السميع لدعائك يجيبك { يبشرك بيحيى } بابن سمي من عنده بيحيى، لتضمن دعائك بمن يحيي اسمك، ثم لما كان الباعث لك على هذا الدعاء مشاهدة الخوارق والإرهاصات الظاهرة من مريم - رضي الله عنها - صار ابنك الموهوب لك { مصدقا بكلمة } لابنها الحاصل لها بلا مباشرة زوج بل صادرة { من الله } سمي من عنده المسيح { و } مع كونه مصدقا بعيسى عليه السلام بصير { سيدا } فائقا على أهل زمانه بالزهد والتقوى، فإنه عليه السلام كان في حايته ما هم بمعصية قط { و } مع كون يحيى سيدا ورئيسا في قومه { حصورا } مبالغا في حبس نفسه عن مشتهياتها مع القدرة عليها { و } يصير بسبب اتصافه بالأوصاف المذكورة { نبيا من } الأنبياء { الصالحين } [آل عمران: 39] لتبليغ أحكام الله إلى عباده وأهدائهم إلى جنابه.
ولما سمع زكريا من الملائكة ما سمع { قال } متحيرا مستعبدا لكونه على خلاف جري العادة: { رب } يا من رباني بنعمك إلى كبر سني { أنى } من أين { يكون لي غلام } في هذا السن { وقد بلغني الكبر } غايتها { و } الحال إن { امرأتي عاقر } ذات عقر من الأولاد في أصل الخلقة، ومع ذلك كبيرة لا يرجى منها الولادة { قال } له حبرائيل بوحي الله: لا تستبعده، فإنه يكون { كذلك } أي: مثل ما قلت بلا سبب موافق لجري العادة؛ إذ { الله } القادر المختار { يفعل } يخلق ويوجد { ما يشآء } [آل عمران: 40] من الموجودات إيجادا إبداعيا بلا سبق سبب ومادة.
فلك أن ترتفع غشاوة الأسباب الحاجبة عن البين، وتنسب ما جرى في ملكه إليه بلا رؤية الوسائط والأسباب؛ إذ لا حجاب عند أولي الألباب، بل كل ما صدر عنه لا يتوقف على شيء من سوابقه، ولا يتوقف عليه شيء من لواحقه عند أولي البصائر، الناظرين بنور الله في تجددات تجليات الوجود الإلهي.
ثم لما تفطن زكريا من هذا الكلام ما تفطن { قال } مستسرعا مستنشطا: { رب } يا من رباني بأنواع اللطف والكرم { اجعل لي } بفظلك { آية } علامة أعرف بها الحمل؛ ليفرح بها قلبي ويخلص عن الانتظار { قال آيتك ألا تكلم الناس } أي: لا تطيق التكلم معهم؛ لعدم مساعدة آلاتك عليه مدة { ثلاثة أيام } ولا تعلمهم حوائجك { إلا رمزا } إشارة بيد ورأس وغير ذلك { و } عند حبسك عن الكلام والتنطق { اذكر ربك } في نفسك ذكرا { كثيرا وسبح } نزهه عن جميع النقائض تسبيحا مقارنا { بالعشي } أي: جميع الليل { والإبكار } [آل عمران: 41] أي: جميع النهار لتستوعب جميع أوقاتك بذكره.
من هذا تفطن العارف أن الداعي المستجيب من الله لا بد له أولا أن يفرغ قلبه عن غير الله ويستوعب أوقاته بذكره، بل يكل لسانه عن ذكر غيره مطلقا، حتى يفوز بمطلوبه ويجيب له بفضله وطوله.
[3.42-46]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح آل عمران واصطفاء الله إياهم { إذ قالت الملائكة } بأمر الله ووحيه لمريم - رضي الله عنها - ملهمين لها، مشافهين معها، منادين على سرها: أبشري { يمريم إن الله اصطفك } اختارك لخدمة بيته مع أنه لم يعهد منه اختيار النساء للخدمة { وطهرك } بفضله عن جميع الخبائث والأدناس العارضة للنسوان { واصطفك } خيرك وفظلك بهاتين الخصلتين الحميدتين { على نسآء العلمين } [آل عمران: 42] وإنما خصصها بما خصصها؛ لتكون آية لما يترتب عليها ويظ هر بسببها من بدائع أودعه الله سبحانه في إيجادها من حبلها بلا مباشرة أحد، بل بمجرد كلمة ملقاة من عنده ومعجزاته وخوارق ظهرت من ابنها لم يظهر مثلها من أحد.
ثم لما أخبرت الملائكة بإصفائه سبحنه إياها، نادتها الملائكة ثانيا بأمر الله أيضا؛ تعليما لها التوجه والرجوع إلى الله على وجه الخضوع والتذلل والإخبات والخشوع { يمريم } المختارة المقبولة عند الله { اقنتي } توجهي وتضرعي { لربك } الذي رباك بلطفه وقبلك نذيرة من أمك، واصطفاك على نساء العالمين بأنواع الفضائل شكرا لما تفضل عليك { واسجدي } واخضعي وتذللي نحوه ملقية جباهك على الأرض؛ لأداء شيء من حقه { واركعي } دائما؛ لخدمة بيته وتطهيرا من الأوساخ والأدناس { مع الراكعين } [آل عمران: 43] المحريين المنحنين قامتهم دائما على خدمة الله وخدمة بيته.
{ ذلك } المذكور من اصطفاه الله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران، وخصوصا قصة مريم وأمها وزكريا وزوجه وابنه { من أنبآء الغيب } أي: من الأخبار المغيبة المجهولة عندك { نوحيه إليك } يا أكمل الرسل مع خلاء خاطرك وضميرك عنها، ولا معلم لك سوى وحينا وإلهامنا مع كونك أميا عن مطالعة القصص والتواريخ { و } الحال أنه { ما كنت } لهويتك الشخصية { لديهم } وقت { إذ يلقون } أي: الأحبار { أقلامهم } للاقتراع في أنهم { أيهم يكفل } يحفظ { مريم وما كنت لديهم } أيضا { إذ يختصمون } [آل عمر ان: 44] في أمرها وحفظها.
وإنما نوحيه إليك؛ ليكون آية لك على صدقك في دعواك النبوة والرسالة، والإكار على أمثال هذه الأخبارات والإنباءات الصادرة عن الأنبياء والأولياء، المستندة إلى محض الوحي والإلهام النازلة من عند الله، إما نشأ من العقل القاصر المموه المضل عن طريق الكشف واليقين، وإلا فمن صفات عقله المفاض له من حضرة العلم المحيط الإلهي عن كدورات الوهم والخيال، وانكشفت سريرة سره بسرائر الأقوال والأفعال والأحوال، ظهر عنده بلا سترة وحجاب أن من النفوس البشرية من ترقب في هذه النشأة من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، واتصلت بالمبادئ العلية التي هي الصفات الإلهية، واضمحلت ناسوتها وغلبت اللأهوتية عليها.
وحينئذ ظهرت منها على اتفاق من الحضرة العلية الإلهية، وإرادة غيبية ومكاشفات عينية متعلقة بعضها بالغيب وبعضها بالشهادة، كالإخبار عن الوقائع الماضية والمستقبلية، كما نسمع ونشاهد أمثال ذلك من بعض بدلاء الزمان، أدام الله بركته على مفارق أهل اليقين والعرفان، في حالتي قبضه وبسطه حكايات وكلمات متعلقة بوقائع وقعت في البلاد البعيدة.
ونحن نجزن بوقوع بعضها كما نسمع منه، ونجزم أيضا بأنه ما هو حاضر عند وقوعها، وأيضا نجزم بأنه لم يسمع من أحد لانسلاخه عن الاستخبار الاستفسار على الوجه المعتاد بين الناس، وسمع منه مدخله أيضا عن الأحوال التي جرت بيننا وبينه بمدة متطاولة نستحضره في خلواته، ويتلفظ بها بلا فوت دقيقة، ونحن إذا راجعنا وجداننا لم نستحضر الأمور التي جرت علينا في يومنا هذا بلا فوت شيء.
وأمثال ذلك من جنابه - أدام الله بركته - كثيرة، ومن له أدنى بصيرة وإيمان صادق بطريق المكاشفة والوحي والإلهام الإلهي لم يشك في أمثال هذه الخوارق من الأنبياء والأولياء أصلا، بل يعلم يقينا أن الحكمة والمصلحة في إظهار نوع الإنسان وإرسال الرسل وإنزال الكتب إنما هي لهذا التفطن والتدبر،
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائحها وقت { إذ قالت الملائكة } منادين على سرها مبشرين لها: { يمريم } المخترة المصطفاه { إن الله } المتفضل عليك بأنواع اللطف والكرم { يبشرك بكلمة } صاردة { منه } مكونة لك منك ابنا بلا أب؛ إظهارا لقدرته ليكون معجزة لابنك، وإرهاصا لك { اسمه } من عنده { المسيح } لفظ سرياني معناه: المبارك؛ لأنه سبحانه بارك عليه، وعلمه الشخصي بين الأنام { عيسى } وهو من الأعلام العجمية، وكنيته { ابن مريم } إذ لا أب له حتى يكنى به، وهو مع كونه بلا أب { وجيها } مشهورا معروفا مرجعا للأنام { في الدنيا } بالنبوة والرسالة، يتوجه إليه الناس في أمور معاشهم ومعادهم { و } في { الآخرة } أيضا لرجوعهم إليه للشفاعة { و } كيف لا يشفع للعصاة وهو { من المقربين } [آل عمران: 45] عند الله.
{ و } علاقمة تقربه أنه { يكلم الناس } بما يتعلق بأمور الدنيا والدين حال كونه طفلا { في المهد و } حال كونه { كهلا } على طريق واحد بلا تفاوت زيادة ونقصان { و } هو لنجابة عرقه في حالتي الطفولة والكهولة { من الصالحين } [آل عمران: 46] للرسالة والنبوة.
[3.47-50]
فلما سمعت مريم ما سمعت تضرعت إلى ربها واشتكت حيث { قالت رب } يا من رباني بالستر والصلاح والعبادة والفلاح { أنى } من أين { يكون لي ولد و } وأنت تعلم يا رب أني { لم يمسسني بشر } ومن سنتك إيجاد الولد بعد مباشرة الزوج؟ { قال } سبحانه إشفاقا لها وإزالة لشكها: { كذلك } أي: مثل حالتك التي تعجبين منها، وهي ولادتك بلا مساس أحد وجود جميع الأشياء الظاهرة من كتم العدم ظهورا إبداعيا؛ إذ { الله } بقدرته { يخلق } يظهر جميع { ما يشآء } بلا سباق مدة ومادة بل { إذا قضى } أراد { أمرا } إيجاد أمر وإظهاره من الأمور المكانية الثابتة في حضرة العلم { فإنما يقول له } تنفيذا لقضائه مجرد كلمة: { كن فيكون } [آل عمران: 47] بلا تراخ ولا مهلة، بلا توقف على شرط وارتفاع مانع، وحالك التي تتعجبين منها وتستبعدين وقوعها من هذا القبيل.
ولا تحزني ولا تخافي من التهمة والفضيحة والتعبير والتشنيع؛ إذ لابنك خصائص ومعجزات رفعت عنك جميع ما يعيبك ويشينك؛ إذ لا يشتبه على ذي عقل إن ولد الزنا لا يتصف بأمثال هذه الخصائل والخوارق { و } من جملتها أنه { يعلمه } من لدنه لا تعليم أحد { الكتب } أي: العلوم المتعلقة بالأمور الظاهرة والتدابير الملكية الشهادية { والحكمة } أي: العلوم الباطننة المتعلقة بالحقائق الغيبية { و } يعلمه أيضا { التوراة } المنزل على موسى صلوات الله عليه { و } ينزل عليه خاصة { الإنجيل } [آل عمران: 48] من عنده.
{ و } بعد إنزال الإنجيل يرسله { رسولا إلى بني إسرائيل } يدعوهم إلى طريق الحق ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويؤيده بالآيات الساطعة والمعجزات الباهرة الظاهرة من يده الدالة على تصديقه إلى حيث يقول: { أني } بأمر ربي { قد جئتكم بآية } دالة على نبوتي ورسالة نازلة { من ربكم } وهي { أني أخلق } أصور وأقدر { لكم } بين أيديكم بإقدار الله أياي { من الطين } الجماد صورة { كهيئة } كصورة { الطير } ومثاله جمادا بلا حس وحركة { فأنفخ فيه } أي: في ذلك المثال { فيكون طيرا } حيوانا طيارا مثل سائر الطيور، ذلك التقدير والنفخ يصير صادرا مني { بإذن الله } بقدرته وإرادته { و } كذا { أبرىء الأكمه } المكفوف العينين { والأبرص } الذي لا يرجى يرؤهما { و } أعظم من جميع ذلك أن { أحي الموتى } القديمة كل ذلك { بإذن الله } وقدرته وإرادته، فهو إجمالا لا إطلاع لكم على لميته بعد وقوعها أيضا { و } مما لكم إطلاع عليه بعد قوعه { أنبئكم } أخبركم { بما تأكلون } من الطعام والفواكه { وما تدخرون } منها { في بيوتكم إن في ذلك } المذكور من المعجزات والخوارق التي ما جاء به أحد { لآية } ظاهرة دالة على نبوتي ورسالتي { لكم } لإهدائكم { إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 49] بالله وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
{ و } مع هذه الآيات والمعجزات الظاهرة الباهرة جئتكم { مصدقا لما بين يدي من التوراة } المنمزل على موسى - صلوات الرحمن عليه - بل على جميع الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين - صلوات الله عليهم أجمعين - وأديانهم وشرائعهم؛ إذ من جملة أمارات النبوة تصديق الأنبياء الذين مضوا من قبله { و } جئتكم أيضا { لأحل لكم } في دينكم، وملتكم المنزلة من عند الله علي { بعض الذي حرم عليكم } في الأديان الماضية؛ إذ من سنته سبحانه نسخ بعض الأديان ببعض، وإن كان الكل نازل من عنده، ولمية أمر النسخ ما مر في سورة البقرة في قوله:
ما ننسخ من آية
[البقرة: 106] { و } الحاصل أني { جئتكم بآية } قاطعة ساطعة { من ربكم } دالة على توحيده سبحانه، أفردها من عنده باعتبار أن كل واحد من المذكورات يكفي لثبوت نبوته، وبعدما ظهر منه الكل { فاتقوا الله } أي: فاحذروا الله من غضبه ألا تؤمنوا بعد وضوح الدلائل { وأطيعون } [آل عمران: 50] في جميع ما جئت به من عنده سبحانه.
[3.51-54]
{ إن الله } المصلح المدبر لحالي وحالكم { ربي وربكم } أحسن تربيتي بفضله ولطفه وتربيتكم بأن أرسلني إليكم، وإذا سمعتم ما جئت به وأطعتم بمضمونه { فاعبدوه } حتى تعرفوه واعلموا أن { هذا } أي: العبادة والإيمان { صراط مستقيم } [آل عمران: 51] إلى اليقين والعرفان، فعلكيم أن تسلكوه على الوجه الذي أمرت به، والله المستعان، يوصلكم إلى غاية متمناكم، ونهاية مقصدكم ومرامكم.
{ فلمآ أحس عيسى } أي: شعر وأدرك بنور النبوة { منهم الكفر } وعدم تأثرهم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة { قال } مستفسرا مستبشرا، إظهارا للمحبة معهم اختبارا لهم على مقتضى وفق النبوة { من أنصاري } في إهداء المضلين { إلى } سبيل { الله } ينصرني ويعينني عليه؟ { قال الحواريون } أي: الجماعة من أصحابه المنسوبة إلى الحور الذي هو البياض؛ لصفاء قلوبهم وعقائدهم عن كدورة النفاق والشقاق، وخلوص طويتهم بالوفاق: { نحن أنصار } رسول { الله } ننصرك بقدر وسعنا وطاقتنا في إجراء أحكام الله وتنفيذ أوامره؛ لأنا { آمنا بالله } المرسل للرسل، المنزل الكتب بتبليغك إيانا { واشهد } أيها الداعي للخلق إلى الحق لنا يوم العرض الأكبر عند الملك المقتدر { بأنا } مع إيماننا وإخلاصنا فيه { مسلمون } [آل عمران: 52] منقادون مطيعون لما جئت به من عند ربنا لإصلاح حالنا.
ثم لما اعترفوا بالإيمان بالله وبنصرة رسوله المبلغ لأحكامه، وأشهدوا على إيمانه وإسلامهم، ناجوا مع الله مخبتين مخلصين في سريهم حيث قالوا: { ربنآ } يا من ربانا بإرسال الرسل وإنزال الكتب { آمنا } بتوفيقك وبإرشادك رسلك { بمآ أنزلت } من الكتاب المبين لأحكامك المنبهة المتعلقة لتوحيدك { و } مع الإيمان به { اتبعنا } في امتثال ما أمرت له فيه { الرسول } المنزل عليه، المتمثل بجميع أوامره الموسلة إلى الكشف والشهود { فاكتبنا } بفضلك { مع الشهدين } [آل عمران: 53] الذين لا يشهدون في الوجود سوى شمس ذاتك وتجلياتها.
{ ومكروا } احتالوا؛ أي: الكافرون المحسوسون بالكفر في قتل عيسى عليه السلام بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة { ومكر الله } معهم في إنجائه ورفعه إلى السماء، وإلقاء شبهة على من اغتال عليه حتى قتل مجانا على مظنة أنه هو، مع أنه رفع إلى السماء { والله } المنتقم عن من ظلم لأجل من ظلم { خير الماكرين } [آل عمران: 54] أي: أقوى المحتالين لمن اغتال عليه لقتله.
[3.55-58]
اذكر يا أكمل الرسل { إذ قال الله } إعلاما لعيسى عليه السلام حين هموا بقتله وعينوا من اغتال عليه وهو غافل عن كيدههم: { يعيسى إني } بغلبة لاهوتيتي عليك { متوفيك } مصفيك عن ناسوتيتك المانعة عن الوصول إلى مقر العز { و } بعد تصفيتك عن كدورة ناسوتيتك { رافعك } بعد ارتفاع موانعك { إلي } إذ لا مرجع لك غيري { و } بعد رفعك { مطهرك } ومزكيك { من } حجاب { الذين كفروا } ستروا بغيوب أنانتيك الباطلة شمس الذات الظاهرة على جميع الذرات { و } إني بعد رفعك إلي { جاعل الذين } آمنوا بك و { اتبعوك } في جميع ما جئت به لإصلاح حالهم { فوق الذين كفروا } أي: أعلى رتبة وأشرف منزلة ومكانة { إلى يوم القيامة } بحيث
ضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءو بغضب من الله
[البقرة: 61] ولهم عذاب أليم.
وبعد ظهور عيسى عيه السلام لم يتفق غلبة اليهود أصلا، بل كانوا منكوبين منكوسين دائما إلى الآن { ثم } قال سبحانه بلسان التوحيد على وجه التنبيه لعيسى ولمن آمن له، ولمن أنكر عليه وكفر: { إلي مرجعكم } جميعا في النشأة الأخرى أيها المختلفون في أمر الدين والإطاعة والإيمان والكفر في النشأة الأولى { فأحكم بينكم } بعد رجوعكم إلي { فيما كنتم فيه تختلفون } [آل عمران: 55] لعى مقتضى علمي وإرادتي.
ثم فصل سبحانه حكمه بقوله: { فأما الذين كفروا } ستروا سبيل الحق الظاهر عن مشكاة النبوة والرسالة؛ عنادا واستكبارا، وكذبوا الأنبياء، وأنكروا ما جاءوا من الأحكام والمواعظ والحكم والعبر وأصروا عليها { فأعذبهم عذابا شديدا } أطردهم وأبعدهم { في الدنيا } بالمذلة والصغار والإجلاء وضرب الجزية { و } في { الآخرة } بجهنم البعد والخذلان، وسعير الطرج والحرمان { وما لهم } بعد ظهور الدين الناسخ للأديان المارضية { من ناصرين } [آل عمران: 56] من الأنبياء الذين يدعون الإيمان بهم، ويدعونهم بدينهم وكتابهم، ينصرونهم وينقذونهم من عذاب الله؛ لتركهم العمل بالناسخ.
{ وأما الذين آمنوا } بالدين الناسخ والكتاب الناسخ، واتبعوا النبي الذي جاء به من عند ربه { وعملوا الصالحات } المأمورة فيه؛ انقيادا وامتنانا { فيوفيهم } أي: في النشأة الأخرى { أجورهم } أي: يوفي عليهم أجور أعمالهم بأضعاف ما عملوا؛ تفضلا عليهم بمحبة الله إياهم بسبب امتثال أوامره وإطاعة رسله { والله } الهادي للعباد { لا يحب الظالمين } [آل عمران: 57] الخارجين عن حدوده المنزلة على رسله، المكاشفين تحقيق توحيده، وما يحصل لهم الظلم والخروج إلا بمتابعة عقولهم السخيفة بظلام الموهم المفضل عن الطريق المستبين.
{ ذلك } المذكور من نبأ عيسى عليه السلام وغيره الذي { نتلوه عليك } يا أكمل الرسل مع كونك خالي الذهن عنه ولم تتعلم من معلم بشري، والحال أنك أمي، إنما هي { من الآيات } المنزلة عليك من عندنا الدالة على نبوتك ورسالتك { و } من { الذكر الحكيم } [آل عمران: 58] الكلام المجيد المحكم المشتمل على الحكم المتقنة والأحكام المبرمة الصادرة عن محض الحكمة، لا يأتيه الباطل ولا يقربه النسخ والتبديل.
[3.59-63]
ثم قال سبحانه: { إن مثل عيسى } أي: شأنه وقصته الغريبة الخارقة للعادة، وهي وجوده بلا أب { عند الله كمثل } كشأن { ءادم } في إبداعه سبحانه وإيجاده، بل قصة آدم أغرب من قصته؛ إذ لا أب له ولا أم بل { خلقه } قده وصوره سبحانه { من تراب } جماد { ثم قال له كن } بشرا حيا { فيكون } [آل عمران: 59] بالفور حيوانا ذا حس وحركة إرادية وإدراك وفهم.
هذا الكتاب المتلو عليك يا أكمل الرسل هو { الحق } المطابق للواقع، النازل إليك؛ لتأييدك ونصرك في دعواك الرسالة { من ربك فلا تكن } في حقيته { من الممترين } [آل عمران: 60] الشاكين بمقتضى عقولهم السخيفة.
{ فمن حآجك } جادلك وخاصمك { فيه } أي: في أمر عيسى وشأنه من النصارى { من بعد ما جآءك من العلم } المستنبط من الكتاب المنزل من عندنا، المبين لشأنه وإيجاده بلا أب { فقل } لهم حين خاصموك { تعالوا } هلموا أيها المجادلون المدعون ابنية عيسى لله، المفرطون في أمره { ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم } ونجتمع بعد ذلك في مجمع عظيم { ثم نبتهل } أي: نتباهل بأن يتضرع ويدعو كل منا ومنكم إلى الله { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } [آل عمران: 61] حتى يظهر الصادق من الكاذب، ويتميز الحق عن الباطل.
" روي أنهم لما دعو إلى المباهلة، قالوا: حتى ننظر ونتأهل، فلما خلوا مع ذي رأيهم قالوا: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: والله، لقد عرفتم أنه هو النبي الموعود في كتابكم، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، والله، ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا، فإن أبيتم إلا إلف دينكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلى خلفها وهو يقول: " إذا أنا دعوت فأمنوا " ، فقال أسقفهم: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزسل جبلا من مكانه لازاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، فأذعنوا للرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلوا الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد، فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو باهلوا لمسخوا قردة وخنازير، ولا ضطرم عليم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران، وأهله حتى الطير على الشجر ".
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { إن هذا } المذكور من نبأ عيسى ومرميم عليهما السلام { لهو القصص الحق } المطابق للواقع { و } لا تكفروا بابنية عيسى لله وزوجية مريم، ولا تقولوا بالتثليث والأقانيم؛ إذ { ما من إله } معبود بالحق في الوجود { إلا الله } الواحد الأحد الصمد الذي
لم يلد ولم يولد
[الإخلاص: 3] ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا { وإن الله } الحق الحقيق بالحقية، المتصف بالديمومية، المتحد بالقيومية { لهو العزيز } الغالب القادر، القاهر للأغيار مطلقا { الحكيم } [آل عمران: 62] في إظهارها على مقتضى إرادته واختياره.
{ فإن تولوا } أعرضوا عن الحق بعدما ظهر دلالته وشواهده أعرض عنهم ولا تجادل معهم { فإن الله } المنتقم لمن أعرض عن سبيله { عليم بالمفسدين } [آل عمران: 63] الذين يفسدون في الأرض بإفساد عقائد ضعفاء العباد بالإعراض عن طريق الحق، والإلحاد عن الصراط المستقيم.
[3.64-66]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إمحاضا للنصح كلاما صادرا عن لسان الحكمة والتوحيد خاليا عن وصمة الغفلة والتقليد: { يأهل الكتاب } الذين يدعون الإيمان بتوحيد الله وكتبه ورسله { تعالوا } هلموا نتفق ونرجع { إلى كلمة } حق صحيحة { سوآء } حقيتها وصحتها { بيننا وبينكم } مسلمة ثبوتها عندنا وعندكم بلا خلاف منا ومنكم، وهي { ألا نعبد إلا الله } المعبود بحق، المستحق للعبادة بالأصالة { ولا نشرك به } في عبادته { شيئا } من مصنوعاته { و } أيضا { لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا } واجب الإطاعة والانقياد { من دون الله } المتوحد بالألوهية، المنفرد بالمعبودية، وإن قبلوا ما قلت لهم عليه وانقادوا وأطاعوا فقد آمنوا { فإن تولوا } أعرضوا عن الكلمة الحقة المسلمة المتفقة عليها { فقولوا } إلزاما وتبكيتا { اشهدوا } أيها المنكرون الكافرون { بأنا } لا أنتم { مسلمون } [آل عمران: 64] موحدون، مؤمنون منقادون.
ثم قل لهم إلزاما: { يأهل الكتاب لم تحآجون } وتجادلون { في } شأن { إبراهيم } بأنه يهودي أو نصراني { و } الحال أنه { مآ أنزلت التوراة } المبين لليهودية { والإنجيل } المبين للنصرانية { إلا من بعده } بمدة متطاولة { أفلا تعقلون } [آل عمران: 65] أنتم أيها الكافرون المكابرون في هذه الدعوى.
{ هأنتم } أيها الحمقى العميان في أمور الدين { هؤلاء } الضالون المصرون على الكفر والعناد { حاججتم } جادلتم { فيما لكم به علم } مذكور مثبت في كتابكم من بعثه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأوصافه فتغيرونه وتحرفونه عنادا بعدما ظهر عندكم حقيته { فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم } مثبت مذكور في كتابكم من يهودية إبراهيم ونصرانيته، فتفترون وتنسبون إلى كتباكم ما لم يذكر فيه؛ مكابرة وعنادا { والله } المطلع لضمائركم { يعلم } ما حرفتم وما افتريتم ويعاقب على مقضتى علمه { وأنتم لا تعلمون } [آل عمران: 66] ولا تعتقدون بعلمه على ما فرطتم فيه.
[3.67-71]
ثم قال سبحانه: { ما كان إبراهيم يهوديا } لأن موسى إنما جاء بعده بألف سنة { ولا نصرانيا } لأن عيسى عليه السلام إنما جاء بعده بألفي سنة { ولكن كان حنيفا } مائلا عن إفراط اليهود والنصارى في عزير وعيسى وتفريطهم في إنكار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { مسلما } منقادا معتدلا، مستويا على صراط التوحيد { وما كان من المشركين } [آل عمران: 67] الضالين عن طريق الحق بنسبة الحوادث إلى الأسباب والوسائل.
{ إن أولى الناس بإبراهيم } وأقربهم دينا، وأولاهم محبة ومودة { للذين اتبعوه } من أمته، وتدينوا بدينه، وامتثلوا بما جاء به من عند ربه { وهذا النبي } المبعوث من شيعته، المنتسب إلى ملته، المنشعب من أهل بيته وزمرته { والذين آمنوا } بهذا النبي، وبما جاء به من الكتاب الناسخ للكتب السافلة، المبين لطريق التوحيد الذاتي { والله } الهادي لعباده إلى جادة توحيده { ولي المؤمنين } [آل عمران: 68] الموحدين الذين يريدون وجه الله في جميع حالاتهم، يولي أمور دينهم بحيث لا يشغلهمه عن التوجيه إليه مزخفات الدنيا الشاغلة عن المولى.
{ ودت طآئفة من أهل الكتاب } لخباثة نفوسهم وبغضهم المرتكز في قلوبهم؛ حسدا لظهور دين الإسلام { لو يضلونكم } أي: يضلونكم ويحرفونكم عن جادة الشريعة وسبيل الإيمان والتوحيد، نزلت في اليهود لما دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية { و } الحال أنهم { ما يضلون } بهذا الضلال { إلا أنفسهم } لتضعيف العذاب عليهم بسبب هذا الإضلال { و } هم { ما يشعرون } [آل عمران: 69] بهذا الضرر والنكال.
{ يأهل الكتاب } المدعين الإيمان بموسى وعيسى - عليهما السلام - والتصديق بكتابهما { لم تكفرون بآيات الله } المنزلة فيهما الناطقة على بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { وأنتم تشهدون } [آل عمران: 70] فيهما أوصافه ونعوته، وتنتظرون إلى ظهوره وبعثته، وبعدما ظهر وبعث، لم أنكرتم عليه عنادا، وكفرتم استكبارا؟ ومع ذلك غيرتم وحرفتم كتابكم ظلما وزورا.
{ يأهل الكتاب } المحرفين لكتاب الله { لم تلبسون الحق } الظاهر البين المكشوف المنزل من عند الله { بالباطل } المموه المزخرف المفترى من عند أنفسكم { وتكتمون الحق } الذي هو بعثة سيدنا محمد عليه السلام { و } الحال أنكم { أنتم تعلمون } [آل عمران: 71] حقيته في نفوسكم ولا تظهرونه؛ حسدا وبغيا.
[3.72-74]
{ و } من غاية حسدهم ونهاية بغضهم أنهم احتالوا واستخدعوا لإضلال المسلمين حيث { قالت طآئفة من أهل الكتاب } لأصحابه وجلسائه على وجه الحيل والمخادعة: { آمنوا } استهزاء و تسفيها { بالذي } يدعون أنه { أنزل } عليه موافقة { على الذين آمنوا } به { وجه النهار } أي: أول بدو النهار؛ ليفرحوا ويسروا بموافقتكم إياه { واكفروا آخره } أي: اتركوه وأنكروا عليه في آخر النهار، معللين بأنا لم نجد محمدا على الوصف الذي ذكر في كتابنا؛ ليترددوا ويضطربوا بمخالفتكم، افعلوا كذلك دائما { لعلهم يرجعون } [آل عمران: 72] رجاء أن يرجعوا عن دينهم وإيمانهم.
{ ولا تؤمنوا } أي: لا تخلصوا عن صميم القلب، ولا تظهروا تصديقكم { إلا لمن تبع دينكم } من إخوانكم وأصحابكم المتدينين بدين آبائكم وأسلافكم { قل } لهم يا أكمل الرسل ردا لمخادعتهم ودفعا لحيلتهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة: { إن الهدى } الموصل إلى سواء السبيل { هدى الله } الهادي لعباده، يهدي من يشاء إلى طريق توحيده، ويضل عنه من يشاء، وإنما دبرتم وخادعتم { أن يؤتى } أي: لأن يؤتى { أحد مثل مآ أوتيتم } من الكفر والإنكار بمحمد صلى الله عليه وسلم { أو يحآجوكم } أي: يغلبوكم بهذا الخداع والتدبير { عند ربكم } على زعمكم الفاسد واعتقادكم الباطل { قل } يا أكمل الرسل: لا تغتروا بمزخرفات عقولكم، ولا تطمئنوا بمقتضياتها؛ إذ هو صار عن المعرفة خصوصا عند تزاحم الوهم، بل { إن الفضل } والهداية { بيد الله } بقدرته ومشيئته { يؤتيه من يشآء } بلا معاينة العقل ونصرته { والله } الهادي لعباده { واسع } في فضله وهدايته، لا حصر لطريق إلهامه وعلمه { عليم } [آل عمران: 73] باستعدادات عباده، يوصل كلا منهم إلى توحيده بطريق يناسب استعداده.
بل { يختص برحمته } الواسعة الشاملة لجميع الفضائل والكمالات { من يشآء } من خلص عباده، تفضلا عليه من عنده من استعداداتهم ما لا يدرك غوره، ولا يكتنه طوره { والله } المتجلي بجميع الكمالات { ذو الفضل العظيم } [آل عمران: 74] واللطف الجسيم على بعض مظاهره من الأنبياء والأولياء الذين فنيت هوياتهم البشرية بالكلية في بحر الوحدة، وتجردوا عن جلبابها بالمرة.
[3.75-77]
{ و } من تفاوت الاستعدادات، واختلاف القابليات الفطرية ترى { من أهل الكتب من إن تأمنه } ثقة عليه واعتمادا له { بقنطار } مال كثير مفضل مخرون { يؤده إليك } على الوجه الذي ائتمنت عليه بلا تغيير وخيانة؛ لصفاء فطرته وحسن استعداده وقابليته { ومنهم من إن تأمنه بدينار } أو أقل { لا يؤده إليك } لخباثة طينته وقبح قابليته { إلا ما دمت عليه قآئما } دائما مطالبا أمانتك منه على وجه الإلحاح والإتمام، نزلت في عبد الله بن سلام حين استودعه قريشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأداه إليه، وفنخاص بن عاذوراء استودعه أيضا قريشي آخر دينارا، أنكر عليه وجحد، مع اتفاقهما في الكفر والضلال، وأنهماكهما في الإصرار والفساد.
{ ذلك } أي: ترك البعض اليهودي { بأنهم } بسبب أنهم استحلوا مال من ليس على دينهم { قالوا ليس } في كتابنا المنزل { علينا } من ربنا { في } حق { الأميين سبيل } أي: طريق معاتبة ومؤاخذة؛ لأنهم ليسوا من أهل الكتاب { و } هم بهذا القول { يقولون } ويفترون { على الله الكذب } لأنه ليس في كتابهم هذا الباطل بل يفترونه عنادا { وهم } أيضا { يعلمون } [آل عمران: 75] أنه افتراء منهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزول هذه الآية: " كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا هو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ".
{ بلى } للحق سبيل معاتبة وانتقام معهم في حق كل واحد من عباده على أي دين كان وملة كانت إذا صدر عنهم التعدي إلا { من أوفى } منهم { بعهده } الذي عهد مع الله ومع عباده { واتقى } من غضب الله بعدم الفواء، فهو من المحبوبين عند الله { فإن الله يحب المتقين } [آل عمران: 76] ويرضى عنهم، يوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله.
ثم قال سبحانه: { إن الذين يشترون } يستبدلون { بعهد الله } الذين عهدوا مع رسوله { وأيمانهم } المغلظة الصادرة منهم على وفائه، كقولهم: والله، ليؤمنن به ولينصرنه { ثمنا قليلا } من متاع الدنيا، مثل أخذ الرشاوى وإبقاء الرئاسة { أولئك } المستبدلون الخاسرون هم الذين { لا خلاق } لا نصيب ولا حظ { لهم في } النشأة { الآخرة } التي هي دار الوصول والقرار { ولا يكلمهم الله } تكليمه من استخلفه عن مقتضيات جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } بنظر الرحمة حتى ينعكس بروق أنواع الوحدة الذاتية المتلأئمة المشعشعة من عالم العماء التي هي السواد الأعظم المشار إليه في الحديث النبوي - صلوات الله على قائله - على مرائي قلوبهم { ولا يزكيهم } ولا يثني عليهم ولا يلتفت إليهم حين ثنائه.
والتفاته على خلص عباده المستصقلين مرايا قلوبهم عن صداء الالتفات إلى الغير مطلقا؛ لينعكس فيها أشعة التجليات الجمالية والجلالية اللطفية والقهرية، حتى تعتدلوا وتستقيموا على الصراط المستقيم الذي هو صراط توحيد الله { ولهم } في تلك الحالة { عذاب } طرد وخذلان { أليم } [آل عمران: 77] مؤلم لا إيلام أعظم منه؛ إذ حرمان الوصول إلى غاية ما يترتب على الوجود والحصول من أشد المؤلمات والمؤذيات.
نعوذ بالله من غضب الله، لا حول إلا بالله.
[3.78-80]
{ وإن منهم } لغاية بغضهم وعداوتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم { لفريقا } جماعة وفئة من المحرفين الذين يحرفون اسمه ونعته في التوراة، يقصدون تشهير المحرف وترويجه على ضعفاء العوام، إضلالا لهم حيث { يلوون } يطلقون { ألسنتهم } بالمحرف إطلاقهم { بالكتاب لتحسبوه } أي: ليظن السامعون أنه { من الكتاب و } الحال أنه { ما هو من الكتاب } المنزل لا نصا ولا أخذا ولا تأويلا { و } مع ذلك يفترون { يقولون هو } المحرف منزل { من عند الله و } الحال أنه { ما هو من عند الله } بل من تسويلات نفوسهم الخبيثة، والباعث عليها أهويتهم الباطلة من حب الجاه والرئاسة { و } لترويج { يقولون } فيه ينسبون { على الله الكذب } افتراء { وهم } في ضمائرهم وبواطنهم { يعلمون } [آل عمران: 78] يقينا أنه فرية صدرت عنهم؛ مكابرة وعنادا.
ومع ادعائهم الإيمان والتوحيد والكتاب والرسل، وحصرهم الدين والشريعة على دينهم وشروعهم، لم يتفطنوا ولم يعلموا أن البشر و إن أرسل وأنزل وخصص بفضائل جليلة وخصائل جميلة، لكن لا ينسلخ عن لوازم البشرية مطلقا، حتى يتصف بالألوهية، بل لا يزال البعد عبدا والرب ربا.
غاية ما في الباب أن الأشخاص البشرية في التجريد عن لوازمها تتفاوت، فمن كان تجريده أكثر كان إلى الله أقرب، وإلى الفناء أميل، وإلى البقاء أشوق، وإلا فالسلوك لا ينقطع أبد الآبدين، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل:
" ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي "
ما للعباد ورب الأرباب، فعيسى - صلوات الرحمن عليه - وإن ارتفع قدره وعلت رتبته عند الله، وأظهر بنصر الله خوارق خلت عنها الأنبياء - عليهم السلام - لكن لا ينسلخ عن لوازم البشرية مطلقا، وهم يدعون انسلاخه ويعبدونه كعبادته سبحانه وتعالى، وينسبونه إلى الله بالنبوة - والعياذ بالله - وما قدروا الله حق قدره.
لذلك رد الله عليهم على سبيل التنبيه والتعليم بقوله: { ما كان } أي: ما صح وجاز { لبشر } خصه لرسالته ونيابته { أن يؤتيه الله } ينزله { الكتب } المبين له الشرائع { والحكم } المحفوظ فيها، المتعلق بأحوال العباد في معاشهم { والنبوة } المقتبسة منها، المتعلقة بأحوالهم في معادهم { ثم } بعدما اصطفاه الله واختاره بالتشريف الأتم الأكمل { يقول للناس } المرسل إليهم تجبرا واستكبارا: { كونوا عبادا لي } اعبدوني عبادة خاصة { من دون } عبادة { الله } وما هي إلا شرك غليظ، كيف صدر أمثال هذه الهذيانات من مشكاة النبوة، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا { ولكن } قولهم وأمرهم عليهم هو كذا: { كونوا } أيها الموحدون { ربنيين } مخلصين، ولا تكونوا شياطنيين مشركين { بما كنتم تعلمون } أي: تعلمون أنتم من { الكتب } من أمور دينكم { وبما كنتم تدرسون } [آل عمران: 79] تعلمونه لغيركم من تلامذتكم، وما يأمر ويوحي الأنبياء إلا مثل هذا.
{ ولا يأمركم } نبيكم إضلالا لكم مع كونه هدايا { أن تتخذوا الملائكة والنبيين } المرسلين لكم من عد الله بوسيلة الملائكة { أربابا } آلهة موجودين أصالة غير الله { أيأمركم } أتظنون أن يأمركم النبي المرسل لهدايتكم إلى طريق التوحيد { بالكفر } بالشرك { بعد إذ أنتم مسلمون } [آل عمران: 80] موحدون برسالته، أفلا تعقلون؟.
[3.81-84]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن خاصمك من أهل الكتاب وقت { إذ أخذ الله } المدبر لأمور عباده { ميثاق النبيين } أي: عهودهم الوثيقة، المتعلقة بالأمثال، والمحافظة { لمآ } أي: الذي { آتيتكم } تفضيلا عليكم { من كتاب } مبين لكم ولأمتكم الأحكام الظاهرة المتعلقة بالمعاملات { وحكمة } مورثة لكم ولهم الأخلاق المرضية، الموصلة إلى التوحيد الذاتي { ثم } أخذ الله مواثيقهم أيضا بأنه متى { جآءكم } وعلى أمتكم { رسول } مرسل من عندنا على التوحيد الذاتي { مصدق لما معكم } من توحيد الصفات والأفعال { لتؤمنن به } أنتم، ولتبلغن على أمتكم أن يؤمنوا له، وتصدقوه { و } لا تكتفون أنتم وأممكم بمجرد الإيمان والتصديق، بل { لتنصرنه } فيما جاء به، وهو التوحيد الذاتي؛ إذ مرجع جميع الملل والنحل إليه، لذلك ختم ببعثته صلى الله عليه وسلم أمر الإنزال والإرسال.
وبعد أخذ المواثيق { قال } سبحانه مستفهما على سبيل التقرير وتأكيدا: { أأقررتم } أيها الأنبياء أنتم { وأخذتم } من أممكم المنتسبون إليكم { على ذلكم } عهودكم ومواثيقكم { إصري } أي: حلفي وعهدي الثقيل الذي يوجب نقضه أنواعا من العذاب والنكال؟ { قالوا أقررنا } بعهودك ومواثيقك سمعا وطاعة، وأخذنا أيضا من أممنا { قال } سبحانه: { فاشهدوا } أي: فاحفظوا المواثيق، ولا تغفلوا عنها { وأنا معكم من الشاهدين } [آل عمران: 81] الحاضرين المطلعين لحفظكم ووقائكم { فمن تولى } أعرض منكم { بعد ذلك } العهد الوثيق { فأولئك } المعرضون { هم الفاسقون } [آل عمران: 82] الخارجون عن طريق التوحيد الذاتي الجامع لجميع الطرق.
{ أفغير دين الله } الذي هو التوحيد الذاتي { يبغون } تطلبون أيها المعرضون الفاسقون { و } الحال أن { له أسلم } انقاد وتذلل { من في السموت } من أرباب الشهود والمكاشفات { و } من في { الأرض } من أصحاب العلوم والمعاملات { طوعا } تحقيقا ويقينا { وكرها } تقليدا وتخمينا { وإليه } لا إلى غيره { يرجعون } [آل عمران: 83] رجوع الظل إلى ذي ظل.
{ قل } يا أكمل الرسل بلسان الجمع { آمنا } أذعنا وأيقنا { بالله } الواحد الأحد، المتفرد بالتحقيق والوجود { و } صدقنا { مآ أنزل علينا } من عنده من الكتاب المبين لتوحيده { ومآ أنزل } أيضا في سالف الزمان { على } أسلافنا { إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } أولاد يعقوب وأحفاده { و } صدقنا أيضا { ما أوتي موسى وعيسى والنبيون } الموجودون الملهمون { من ربهم } على مقتضى استعداداتهم { لا نفرق بين أحد منهم } بالإطاعة والتصديق { و } كيف نفرق ونخصص؛ إذ { نحن } المتدينون بدين الله المتجلي في الآفاق { له } باعتبار تفرده وإحاطته وظهوره في المظاهر كلها بأوصافه وأسمائه بلا تفاوت { مسلمون } [آل عمران: 84] مؤمنون موقنون.
[3.85-89]
{ ومن يبتغ } يطلب ويتدين { غير الإسلام } المنزل على خير الأنام { دينا } وشريعة { فلن يقبل منه } يوم الدين القويم، المستجمع لجميع الأديان، الناسخ لها هو الإسلام؛ لابتنائه على التوحيد الذاتي المسقط للإضافات والخصوصيات مطلقا { وهو } أي: المتدين بغير دين الإسلام { في } النشأة { الآخرة } وقت حصاد كل ما يزرعه في النشأة الأولى { من الخاسرين } [آل عمران: 85] خسرانا مبينا.
نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين.
ثم قال سبحانه مستفهما مستبعدا على سبيل التوبيخ والتريع: { كيف يهدي الله } الهادي لعباده { قوما كفروا بعد إيمانهم } بوحدانية الله { و } بعد أن { شهدوا } أقروا واعترفوا وصدقوا { أن الرسول } المبين لهم طريق التوحيد، المرشد إليه مرسل { حق } من عند الله صادق في دعواه { و } مع ذلك { جآءهم البينات } الدالة على صدقه، فقبلوا جميعه ثم ارتدوا، العياذ بالله { والله } الهادي للكل إلى سواء السبيل { لا يهدي القوم الظالمين } [آل عمران: 86] الخارجين عن حدوده.
{ أولئك } الظالمون الضالون عن منهج الصدق والصواب { جزآؤهم } المتفرع على ضلالهم هو { أن عليهم لعنة الله } وطرده وتخذييله إياهم ثابت له مستقر أزلا وأبدا { و } لعنة { الملائكة } المستغفرين { و } لعنة { الناس أجمعين } [آل عمران: 87].
{ خالدين } هؤلاء { فيها } أي: في اللعنة ولوازمها من أنواع العذاب والنكال بحيث { لا يخفف عنهم العذاب } المتفرع عليها أصلا { ولا هم ينظرون } [آل عمران: 88] ينتظرون تخفيفه.
{ إلا الذين تابوا } منهم في النشأة الأولى { من بعد ذلك } الارتداد والضلال { وأصلحوا } أحوالهم بالتوبة والإخلاص والاستغفار والندماة على ما صدر عنهم { فإن الله } الموفق لهم على التوبة { غفور } يستر جرائمهم { رحيم } [آل عمران: 89] مشفق يتجاوز عن زلاتهم.
[3.90-92]
ثم قال سبحانه: { إن الذين كفروا } ارتدوا، العياذ بالله { بعد إيمانهم } ثم لم يتوبوا { ثم } لم يتندموا بل { ازدادوا كفرا } أو إصرارا وعتوا واستكبارا { لن تقبل توبتهم } بعدما عاندوا { وأولئك } المعاندون المصرون { هم الضآلون } [آل عمران: 90] المقصرون على الضلالة في بدء الفطرة، لا يرجى منهم الفلاح أصلا بل:
{ إن الذين كفروا } في مدة أعمارهم { وماتوا و } الحال أنه { هم كفار } كما كانوا { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } أي: لن تقبل توبتهم عند الله وإن أنفق وافتدى كل واحد منهم ملء الأرض ذهبا رجاء أن تقبل توبته، بل { أولئك } الهالكون في تيه الضلال { لهم عذاب أليم } دائما مستمرا { وما لهم من ناصرين } [آل عمران: 91] من أنواع النصر من الشفاعة والإنفاق والعمل الصالح والحج المبرور وغير ذلك.
ثم لما سجل سبحاه عليهم العذاب بحيث لا يخفف عنهم أصلا، ولا تقبل توبتهم وإن أنفق كل واحد منهم ملء الأرض ذهبا، نبه علكى المؤمنين طريق الإنفاق، وخاطبهم على وجه التأكيد والمبالغة فقال: { لن تنالوا البر } أي: لن تصلوا ولن تبلغوا أيها المؤمنون مرتبة الأبرار والأخيار عند الله مطلقا { حتى تنفقوا } امتثالا لأمره وطلبا لرضاه { مما تحبون } أي: من أحسن ما عندكم وأكرمه { و } اعلموا أن { ما تنفقوا من شيء } ولو حبة أو ذرة أو كلمة طيبة خالصا لرضاه بلا شوب المنة والأذى { فإن الله } المطلع لجميع أحوالكم ونياتكم { به عليم } [آل عمران: 92] لا يغيب عن علمه شيء فيجازيكم على مقتضى علمه.
[3.93-95]
ثم لما ادعى اليهود أن ما حرم في ديننا كان حراما في دين إبراهيم أيضا، وأنتم أيها المدعون موافقة دينكم وملتكم دين إبراهيم وملته، لم تحلون ما حرم في دينه؟
رد الله عليهم وكذبهم بقوله: { كل الطعام } الذي به يقتات الإنسان ويتغذى { كان حلا } حلالا { لبني إسرائيل } إذ الأصل في الأشياء الحل ما لم يرد الشرع بتحريمه { إلا ما حرم إسرائيل } وهو يعقوب عليه السلام { على نفسه } على سبيل النذر بلا ورود الوحي؛ إذ كان له عرق النسا، فنذر إن شفي لم يأكل ما هو أحب الطعام عنده واللذة، وهو لين الإبل ولحمه فشفي، ولم يأكل بعده منها ذلك { من قبل أن تنزل التوراة } ثم لما ظهر أنواع الخبائث والقبائح من اليهود، وحرم الله عليهم في التوراة طيبات أحلت لهم قبلها بسبب خباثتهم وكثافتهم، فإن أنكروا عليها وقالوا: لسنا أول ما حرم عليه هذه الآشياء المحرمة فيها، بل حرم لمن قبلنا ونحن نقتدي بهم { قل } لهم إلزاما: { فأتوا بالتوراة فاتلوها } على رءوس الأشهاد { إن كنتم صادقين } [آل عمران: 93] في دعواكم، وإلا فقد افتريتم على كتاب الله ما ليس فيه.
{ فمن افترى على الله الكذب من بعد } ظهور { ذلك } الديليل والبرهان { فأولئك } المفترون المنهمكون في العتو والعناد { هم الظالمون } [آل عمران: 94] الخارجون عن مسالك التوحيد، المتمردون عن ربقة الإيمان.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إمحاضا للنصح: { صدق الله } المطلع لجميع ما كان ويكون ألا حرمة لهذا الأشياء في دين إبراهيم عليه السلام، بل أول من حرم عليهم أنتم أيها اليهود؛ وإن أردتم استحلالها { فاتبعوا ملة إبراهيم } التي هي الإسلام المنزل على خير الأنام؛ لأنه كان { حنيفا } طاهرا عن الخبائث والرذائل المؤدية إلى تحريم الطيبات؛ إذ هو على صراط التوحيد وجادة الاعتدال، بعيد عن طرفي الإفراط والتفريط المؤديان إلى الشرك { وما كان من المشركين } [آل عمران: 95] أصلا لصفاء فطرته ونجابة طينته.
[3.96-99]
ثم لما كان إبراهيم - صلوات الرحمن عليه - مستقيما على صراط التوحيد، مستويا عليه ما وضع سبحانه أول معبد للموحدين إلا لأجله كما قال: { إن أول بيت وضع للناس } ليعبدوا فيه الله ويتوجهوا إلى جنابه { للذي ببكة } للبيت الذي بمكة قبل وضع المسجد الحرام، قبل وضع البيت المقدس بأربعين سنة، والحال أنه وضع { مباركا } كثير الخير والنفع لساكنيه وطائفيه، يرشدهم إلى الإيما بالله وملائكته وكتبه ورسله { وهدى للعالمين } [آل عمران: 96] يوصلهم إلى التوحيد الذاتي لو كوشفوا بسرائر وضعه وتشريعه إذ: { فيه ءايت } دلائل وشواهد { بينت } واضحات دالة على توحيد الذات منها: { مقام إبرهيم } وهو مقام الرضا والتسليم { ومن دخله } ضيفا مسلما مفوضا { كان آمنا } عن وسوسة الأنانية ودغدغة الغيرية، متصفا بصفة الخلة { ولله } أي: للوصول إلى توحيده وللتحقق بمقام عبوديته وإحسانه ويجب { على الناس حج البيت } الممثل عن قلب الخليل اللائق لخلعة الخلة { من استطاع } منكم أيها الحيارى في صحارى الإمكان { إليه سبيلا } ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من رشدا { ومن كفر } ولم يحج إنكارا وعنادا { فإن الله } المستغني في ذاته عن جميع مظاهره ومصنوعاته { غني عن العلمين } [آل عمران: 97] لم يبال بهم وبعابدتهم، وإنما أظهرهم وأوجب عليهم العبادة والرجوع إلى جنابه والتوجه نحو بابه؛ ليتحققوا في مرتبة العبودية، ويتقرروا فيها حتى يستحقوا الخلافة والنيابة المتفرعة على سر الظهور والإظهار.
{ قل } يا أكمل الرسل لمن أنكر شعائر الإسلام { يأهل الكتاب } المدعين للإيمان بوحدانية الله { لم تكفرون بآيات الله } الدالة على توحيده المنزلة على نبيه الذي جاء من عنده بالتوحيد الذاتي ليكون مرسلا إلى كافة البرايا رحمة للعالمينن؟ { و } لا تخافون من غضب الله وسخطه، إذ { الله شهيد } مطلع حاضر { على ما تعملون } [آل عمران: 98] من الإنكار والاستكبار والتحريف والاستسرار.
{ قل يأهل الكتاب } المدعين الاتباع بالكتب والرسل المنزلة من عند الله { لم تصدون } تصرفون وتحرفون { عن سبيل الله } الذي هو دين الإسلام وهو الصراط المستقيم إلى صفاء الوحدة { من آمن } انقاد وتدين به { تبغونها عوجا } حال كونكم طالبين أن توقعوا فيه عوجا وانحناء وضعفا حتى يضعف اعتقاد المسلمين، ويتزلزون آراؤهم في أمور دينهم كما في زماننا هذا { و } الحال أنكم { أنتم شهدآء } مطلعون عن مطالعة كتبكم المنزلة من عند الله على ظهور دين الإسلام وارتفاع قدره وقدر من أوتي به ومع ذلك حرفتم الكتب وأنكرتم له عنادا واستكبارا { و } لا تغفلوا عن غضب الله وانتقامه؛ إذ { ما الله } العالم بالسرائر والخفيات { بغافل عما تعملون } [آل عمران: 99] من التلبيس والعناد والتحريف والتغيير.
[3.100-103]
ثم لما وبخ سبحانه الكافرين القاصدين إضلال المؤمنين بما وبخ وبالغ توبيخهم بما بالغ، أراد أن يحذر المؤمنين عن مخالطتهم وموافاتهم، فناداهم؛ لأنه دخل في قبول النصح فقال: { يأيها الذين آمنوا } وفقوا على تشريف الإيمان، مقتضى إيمانكم الاجتناب عن مخالطة الكفار ومؤاخاتهم وادعاء المحبة والمودة معهم؛ لأنكم { إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } طائعين قاصدين إطاعتهم وانقيادهم { يردوكم } البتة { بعد إيمانكم } وتوحيدكم { كافرين } [آل عمران: 100] مشركين ما أنتم عليه في جاهليتكم.
" نزلت في فرقة من الأوس والخزرج كانوا يجتمعون ويتحدثون ويتناشدون، فمر على اجتماعهم شاس بن قيس اليهودي، فغاظه مؤاخاتهم ومخالطتهم، فأمر بشاب من اليهود أن يجلس إليهم، ويذكرهم يوم بعاث، وينشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ففعل، فتنازع القوم وتفاخروا إلى تغاضبوا وتخاصموا ، وصاحوا: السلاح! واجتمع من الجانبين خلق عظيم.
وتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال لهم: " أتدعون الجاهية، وأنا بين أظهركم بعد، إذ أكرمكم الله بالإسلام وشرفكم بالإيمان والتوحيد الرافع لجميع الخصومات " فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح و استغفروا وتعانقوا وتحابوا، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
{ و } لذلك قال لهم: { كيف تكفرون } يا أيها المؤمنون بالله الواحد الأحد الفرد الصمد { و } الحال أنكم { أنتم تتلى عليكم آيات الله } الدالة على توحيده { و } مع ذلك { فيكم رسوله } المرسل إليكم المولي لأموركم { ومن يعتصم } منكم { بالله } ويتبع رسوله المنزل من عنده بتوحيده الذاتي { فقد هدي } واهتدى { إلى صراط مستقيم } [آل عمران: 101] يوصله إلى صفاء الوحدة.
{ يأيها الذين آمنوا } معظم أموركم في محافظة الإيمان المؤدي إلى الكشف والعيان، التقوى والاجتناب عن محارم الله ومنهياته، والتحلي بأوامره ومرضياته { اتقوا الله } المطلع لجميع حالاتكم { حق تقاته } خالية عن الميل والرياء والبدع والأهواء المضيفة إلى الإلحاد والزندقة { و } اجتهدوا أيها المؤمنون أن { لا تموتن } عن هويتكم { إلا وأنتم مسلمون } [آل عمران: 102] مخلصون في الاعتصام بحبل التوحيد والإيمان، مخلصون عن ربقة التقليد والحسبان.
{ و } بعد موتكم عن أنانيتكم { اعتصموا } أيها المخلصون الموقنون { بحبل الله } الممتد من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات، وارفعوا أنانيتكم وهويتكم عن البين { جميعا } حتى لايبقى توهم الغير والسوى مطلقا، وتخلص نفوسكم عن مشتهياتها ومستلذاتها الفانية، وتصل إلى الحياة الأزلية والبقاء السرمدي { ولا تفرقوا } أي: لا تتفرقوا بمقتضيات أوهامكم المتفرعة على هوياتكم الباطلة عن الحقية الحقيقية { و } بعدما وصلتهم بمقام الجمعية والوحدة الذاتية { اذكروا } أيها العكوس والأظلال { نعمت الله } المتجلي فيكم بذاته المتفضل { عليكم } بلا عوض ولا غرض { إذ كنتم أعدآء } بعداء متروكين في ظلمة العدم.
{ فألف } سبحانه بتجلياته الجمالية على مرأة العدم { بين قلوبكم } في قضاء الإمكان، بأن يجعلكم أزواجا وبنين وحفدة، متظاهرين بعضكم ببعض على مقتضى الإضافات، ورقائق المناسبات الرافعة بين الأوصاف والأسماء الإلهية { فأصبحتم } بعدما تيقظتم عن منام الإمكان { بنعمته } التي هي التوفيق والإقدار على طلب الرشد والرشاد { إخوانا } مجتمعين في فضاء الوحدة بلا توهم الكثرة المستدعية للعداوة والخصومة.
{ و } الحال أنكم { كنتم } في طغيان الإمكان { على شفا } طرف { حفرة } ملئت { من النار } مشرفين بالوقوع فيها، وهي حفرة العدم المباين لقضاء الوجود، المملوءة بنيران البعد والخذلان { فأنقذكم } الله؛ أي: أنجاكم وخلصكم { منها } بلفطه، بأن أودع فيكم العقل الجزئي المتشعب من العقل الكلي العائد إليه { كذلك يبين الله } الهادي { لكم } دائما مستمرا إلى توحيده الذاتي { آياته } آثار أسمائه وأوصافه الدالة على ذاته { لعلكم تهتدون } [آل عمران: 103] رجاء أن تهتدوا منها إليها لغاية ظهورها ووضوحها.
[3.104-108]
{ و } بعدما وفقتم للإيمان، ونبهتم للتوحيد والعرفان { لتكن منكم أمة } ملتزمة للإرشاد والتكميل { يدعون } الناس { إلى الخير } أي: إلى التوحيد وإسقاط الإضافات { ويأمرون بالمعروف } المستحسن في طريق التوحيد { وينهون عن المنكر } المستقبح فيه، المناسع عن الوصول إليه { وأولئك } الراشدون، المهديون، المرشدون، الهادون { هم المفلحون } [آل عمران: 104] الفائزون من عنده بالمثوبة العظمى، والدرجة العليا التي هي طريق مقام الجمعية والرضا.
{ ولا تكونوا } أيها المحمديون المتحققون بمقام الجمعية { كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جآءهم البينات } الدالة على الجمعية والاتفاق، ولم ينتبهوا منها إلى التوحيد الذاتي { وأولئك } الأشقياء الهاكلون في تيه الخذلان والحرمان { لهم عذاب عظيم } [آل عمران: 105] في جهنم البعد والإمكان وسعير الشرك والطغيان.
اذكر لهم يا أكمل الرسل: { يوم تبيض وجوه } بقبول النور من الوجه الباقي { وتسود وجوه } ببقائها في سواد الإمكان { فأما الذين اسودت وجوههم } ولم يرتفع غشاوة هوايتهم، وكثافة ماهياتهم عن أعينهم وأبصارهم، ولم تصف مرآت قلوبهم عن صداء الكثرة وشوب التنويه لذلك قيل تقريعا وتوبيخا: { أكفرتم } أيها الهالكون في بقعة الإمكان من { بعد إيمانكم } بوجوب الوجود، ووجوب الرجوع إليه { فذوقوا العذاب } أي: الطرد والحرمان { بما } أي: بأنانيتكم { كنتم تكفرون } [آل عمران: 106] وتسترونن، وتستبلدون به نور الوجود وصفاء التوحيد الخالص عن الكدورات مطلقا.
{ وأما الذين ابيضت وجوههم } عن دنس التعليقات ورين الإضافات، واضمحلت هوياتهم في هوية الحق، وارتفعت الحجب والأستار المانعة عن الوصول إلى دار القرار عن عيون بصائرهم وأبصارهم { ففي رحمة الله } التي وسعت كل شيء، مستغرقون في بحر توحيده، غائصون، سابحون لا يخرجون منها أبدا { هم فيها خالدون } [آل عمران: 107] دائمون، مستمرون ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
{ تلك } المواعيد والوعيدات المذكورة للأولياء والأعداء { آيات الله } الدالة على كمال قدرته وتفرده في ألوهيته، واستقلاله في ربوبيته { نتلوها عليك } يا أكمل الرسل؛ تفضلا وامتنانا ملتبسا { بالحق } لا شك في وقوعها { وما الله } الممنتقم في يوم الميعاد { يريد ظلما للعالمين } [آل عمران: 108] بل يجازيهم على مقتضى ما صدر عنهم في النشأة الأولى، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا فيها يره فيها، ومن يعمل مثقال ذرة شرا فيها يره فيها.
[3.109-111]
{ و } لا يتصور الظلم والتعدي من جانبه سبحانه؛ إذ { لله } لظهوره واستوائه على عروش ذرائر الكائنات بالقسط والاعتدال الحقيقي محافظة { ما في السموت } أي: ما ظهر في عالم الغيب وعالم الأرواح { وما } ظهر { في الأرض } أي: عالم الشهادة والأشباح { وإلى الله } لا إلى غيره؛ إذ لا غير { ترجع الأمور } [آل عمران: 109] المتعلقة بالمظاهر كلها؛ إذ هو الفاعل المطلق لا فعل لسواه، بل لا سواه ولا رجوع إلا إياه.
{ كنتم } أيها المحمديون { خير أمة } في علم الله مستوية على صراط التوحيد، معتدلة بين طرفي الإفراط والتفريط { أخرجت للناس } أي: قدرت ظهوركم؛ لتكميل الناقصين من الناس، حتى { تأمرون بالمعروف } المفروض في سلوك طريق التوحيد { وتنهون عن المنكر } المحظور فيه { و } ذلك الأمر والنهي إنما صدر منكم؛ لكونكم { تؤمنون } توقنون { بالله } المستوي على عروش ذرائر الكائنات، بالاعتدال الذي هو صراط الله الأقوم { ولو آمن أهل الكتاب } بأجمعهم بدينكم وملتكم { لكان خيرا لهم } ينجيهم عن ورطتي الإفراد والتفريط، ويوصلهم إلى صراط مستقيم، وإن كان القليل { منهم المؤمنون } الداخلون في حصار الإيمان مع المؤمنين { و } لكن { أكثرهم الفاسقون } [آل عمران: 110] الخارجون عن حدوده وأحكامه.
لا تبالوا أيها الموحدون بفسهم وكفرهم؛ إذ { لن يضروكم } ضرارا فاحشا { إلا أذى } صدرت من سقطات ألسنتهم من التقريع والتشنيع { وإن } بالغوا في العداوة إلى أن { يقاتلوكم يولوكم الأدبار } اضطرارا والزاما { ثم لا ينصرون } [آل عمران: 111] بالكبر عليكم بعد الفر منكم، بل ينصركم الله عليهم بنصره العزيز، ويخذلهم ويذلهم.
[3.112-115]
لذلك { ضربت عليهم الذلة } والصغار والهوان { أين ما ثقفوا } وجدوا، صاروا مهانين، صاغرين { إلا } المعتصمين منهم { بحبل } موفق { من } عند { الله } وهو الانقياد لدين الإسلام { وحبل } عهد وثيق، وذمة { من الناس و } بعدما { بآءوا } رجعوا عن تصديق دين الإسلام المنزل لخير الأنام، استحقوا { بغضب } نازل عظيم { من الله و } لا يمكنهم دفعه؛ إذ { ضربت } تمكنت وتقررت { عليهم المسكنة } المذمومة الناشئة من خباثة طينتهم، لا ترجى عزتهم أصلا.
{ ذلك } أي: ضرب الذلة والمسكنة، والصغار والهوان عليهم { بأنهم كانوا } في أوان عزتهم وعظمتهم { يكفرون } يكذبون ويستهزئون { بآيات الله } المنزلة من عنده { ويقتلون الأنبيآء بغير حق } بلا رخصة شرعية { ذلك } الكفر والقتل الصادر منهم { بما عصوا } أي: بسبب عصيانهم وخروجهم عن إطاعة أمر الله، والانقياد لأحكامه عتوا وعنادا { و } متى عصوا { كانوا يعتدون } [آل عمران: 112] يتجاوزون عن حدود الله بالمرة، ويقتلون من يقيمها استكبارا.
{ ليسوا } أي: ليس جميع أهل الكتاب { سوآء } مستوية الأقدام في الاعتدال والإنكار، بل { من أهل الكتاب } أيضا { أمة قآئمة } مستقيمة على صراط العدل { يتلون آيات الله } الدالة على توحديه { آنآء الليل } أي: جميع آنائه { وهم يسجدون } [آل عمران: 113] يصلون خاضعين، متذللين، واضعين جباههم على تراب المذلة؛ تعظيما له، وخوفا من خشيته، ورجاء من سعة رحمته.
وذلك لأنهم { يؤمنون بالله } أي: بوحدانيته { واليوم الآخر } بصدقه وحقيته { و } مع ذلك { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات } المبرات المؤدية إلى إسقاط الإضافات وقطع التعليقات المستلزمة لرفع التعيينات الحاجبة عن شهود الذات { وأولئك } المتصفون منهم بهذه الصفات { من الصالحين } [آل عمران: 114] لسلوك طريق الحق، المستحقين للوصول إلى سواء التوحيد الذي هو السواد الأعظم، المشار إليه في الحديث النبوي، صلوات الله على قائله.
{ وما يفعلوا } هؤلاء الموصوفون منهم { من خير } طالبين فيه رضاء الله، راجين ثوابه حقا خائفين من عقابه { فلن يكفروه } أي: لن ينقصوا من أجره، بل يزادوا ويضاعفوا { والله } الهادي لجميع العباد { عليم بالمتقين } [آل عمران: 115] منهم، فيجازيهم على مقتضى علمه، وحسب لطفه وكرمه.
أدركنا بلطفك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
[3.116-117]
{ إن الذين كفروا } بالله في النشاة الأولى؛ عتوا واستكبارا مفتخرين بأموالهم وأولادهم متظاهرين بها { لن تغني } وتدفع { عنهم } في النشأة الأخرى { أموالهم ولا أولادهم من } غضب { الله شيئا } قليلا { وأولئك } المستكبرون، المفتخرون، هم { أصحاب النار } لا يخصلون، ولا يخرجون منها بل { هم فيها خالدون } [آل عمران: 116] مخلقدون، لا ترجى نجاتهم وتخفيف عذابهم أصلا، ولا ينفع لهم إنفاقهم وإحسانهم الذي صدر عنهم في دار الدنيا؛ لعدم مقارنته بالإيمان.
بل { مثل ما ينفقون } رياء وسمعة واشتهارا { في هذه الحياة الدنيا } لا لمثولة أخروية؛ لعدم اعتقادهم بالآخرة { كمثل ريح } عاصف { فيها صر } برد شديد { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } بالكفر والفسق والعصيان { فأهلكته } بالمرة، وصاروا آيسين، قانطين من نفعها، وشكوا من الله بما لا يليق بدنابه من نسبة الظلم والتعدي، تعالى عن ذلك { و } الحال أنه { ما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } [آل عمران: 117] أي: ولكن هم يظلمون أنفسهم بكفرهم وفسقهم، ولم يتفطنوا له ونسبوه إلى الله، وما الله يريد ظلما للعباد.
[3.118-120]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم أن { لا تتخذوا بطانة } صديقا وصاحب سر، تستودعون سرائركم عنده { من دونكم } أي: الكفار دون المؤمنين، واعلموا أنهم { لا يألونكم } لا يمنعون عنكم ولا يقصرون في شأنكم { خبالا } ضررا وفسادا، بل { ودوا } رجوا دائما { ما عنتم } أي: ضرركم وهلاككم، ومن غاية وداتدتهم { قد بدت } ظهرت { البغضآء } المكنونة في نفوسهم { من أفواههم } بلا قصد واختبار { و } لا شك أن { ما تخفي صدورهم } قصدا واختيارا { أكبر } مما تبدي أفواههم وألسنتهم هفوة واضطرارا { قد بينا } أوضحنا { لكم } أيها المؤمنون { الآيات } المتعلقة لأمور معاشكم ومعادكم { إن كنتم تعقلون } [آل عمران: 118] تفهمون مقصادها، وتتعظون بها، وتعملون بمقتضاها.
{ هآأنتم } أيها المؤمنون { أولاء } الخاطئون، المغفلون الذين { تحبونهم } محبة صادقة { ولا يحبونكم } إلا تلبيسا ونفاقا { و } أنتم { تؤمنون بالكتاب كله } أي: بجميع الكتب النازلة من عند الله على رسله، وهم لا يؤمنون بكتابكم الجامع لما في الكتب السالفة، { و } من غاية نفاقهم معكم { إذا لقوكم قالوا } تلبيسا وتقريرا: { آمنا } بدينكم وكتابكم ورسولكم { وإذا خلوا } مضوا عنكم { عضوا عليكم الأنامل من } غاية { الغيظ } وعدم القدرة على الانتقام والتشفي { قل } يا أكمل الرسل نيابة عنا، مخاطبا لهم على وجه التقريع والتوبيخ: { موتوا } أيها المنافقون { بغيظكم } المتزايد المترقى يوما فيوما، حسب ارتفاع قدر الإسلام وعلو شأنه، ولا تأمنوا عن مكر الله وانتقامه { إن الله عليم بذات الصدور } [آل عمران: 119] يعلم ما تخفون فيها منا لكفر والنفاق، ويجازي على مقتضى علمه، ولا يغرب عن علمه شيء.
ومن غاية حسدهم ونهاية بغضهم { إن تمسسكم } وتحيط بكم { حسنة } مسرة مفرحة لنفسوكم { تسؤهم } وتشق عليه من كمال عداوتم ونفاقهم { وإن تصبكم سيئة } مملة مؤلمة { يفرحوا بها } تشفيا وتفرجا، شامتين بها، سارين عليها { وإن تصبروا } على غيظهم وأذاهم { وتتقوا } وترجعوا إلى الله مفوضين أموركم إليه يحفظكم عن جميع ما يؤذيكم، بحيث { لا يضركم كيدهم } مكرهم وحيلتهم { شيئا } من الضرر { إن الله } المطلع لسرائرهم وضمائرهم { بما يعملون } من الحيل والمخايل { محيط } [آل عمران: 120] لا يشذ عن علمه شيء ولو خطرة وطرفة.
وعلى قراءة " تعملون " بالخطاب، كان المعنى { إن الله } الموفق لكم على دين الإسلام { بما يعملون } من الصبر والتقوى، والتفويض والرضوخ إلى المولى { محيط } حاضر، غير مغيب عنكم وعن علمكم.
[3.121-124]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ غدوت } خرجت أنت مسرعا في الغداة { من أهلك } عائشة - رضي الله عنها - حال كونك { تبوىء المؤمنين } تعينهم، وتهيئ لهم { مقاعد } أمكنة ومواقف { للقتال } وبعض منهم مع جميع المنافقين يتقاعدن عنه، ويسوفون، معلللين بعلل ودلائل ضعيفة وبعض آخر يريدون الخروج، ويرغبونك عليه { والله } المطلبع لضمائر الفريقين { سميع } لأقوالهم { عليم } [آل عمران: 121] بنياتهم.
" روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء في عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي، ولم يدعه قبل، فقال هو وأكثر الأنصار: أقم يا رسول الله بمالدينة ولا تخرج، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا أحد إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فدعهم فإن أقاموا أقاموا شر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال، ورمامهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين، وأشار بعضهم إلى الخروج، فقال عليه السلام: " رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي، فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ".
فقال رجال من المسلمين فاتهم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا، فبالغوا حتى دخل وليس لأمته، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم، فقالوا: اصنع يا رسول الله ما شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " ، فخرج بعد صلاة الجمعة، وأصبح بشعب من أحد، ونزل في عدوة الوادي، وجعل ظهر عسكره، وسوى صفهم، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة، وقال: " انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا " ، وحين استوى الصفوف، وبلغوا الشرط، قال ابن أبي: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فانصرف فوقع الخلاف بين المؤمنين فتزلزوا ".
{ إذ همت } قصرت في تلك الحالة { طآئفتان منكم } بنو سلمة من الخرزج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناح العسكر { أن تفشلا } تنهزما ضعفاء وجبناء، وتتبعنا أثر ابن أبي فعصمهما الله عن متابعة الشيطان وجنوده، فمضيا مع رسول الله يستغفرون عما جرى عليهما { و } كيف لا يعصمهما من مخالفتخ؛ إذ { الله وليهما } ومولي أمورهما أرشدهما إلى ماهو أصح لحالهما { وعلى الله } المدبر لمصالح عباده لا على غيره من الأظلال { فليتوكل المؤمنون } [ال عمران: 122] حتى يتحققوا بقمام العبودية والرضا والتفويض.
{ و } بعدما ظهرتم على العدو، لا تيأسوا من نصر الله وتأييده، ولا تضعفوا ولا تجنبوا ولا تبالوا بكثرتهم وعدتهم، بل اذكروا وتذكروا { لقد نصركم الله } الرقيب عليكم { ببدر } موضع بين مكة والمدينة، يتسوق فيها العرب مع قوافل الحجاج { و } الحال أنكم { أنتم } في تلك الوقعة { أذلة } ضعفاء في العدد والعدد، وعدوكم على عكسكم، هكذا بأن أنزل عليكم من الملائكة جنودا لم تروها { فاتقوا الله } اليوم عن الفرار والانهزام ومخالفة الرسول { لعلكم تشكرون } [آل عمران: 123] تلك النصرة فيما مضى.
اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت { إذ تقول } أنت يوم بدر { للمؤمنين } حين حديث في قلوبهم الرعب من العدو؛ ولكونه على ثلاضة أضعافهم قولا استفهاميا على سبيل التبكيت والإسكات، بعدما ظهر عندك الأمر بالوحي الإلهي: { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالف من الملائكة منزلين } [آل عمران: 124].
[3.125-129]
ثم أوحى إ ليك بأن قلت: { بلى } يكفيكم هذا القدر، أن تستغيثوا وتستلجئوا إلى الله؛ رغبا وترهيبا من العدو، ولكن { إن تصبروا } في مقابلتهم ومقاتلتهم { وتتقوا } عن الاستدبار والانهزام، وتصيروا فرارين، كرارين مرارا، طالبين رضا الله وإمضاء حكمه، وإنفاذ قضائه، يزيد عليكم { ويأتوكم من فورهم هذا } أي: ساعتهم الحاضرة التي هي هذه { يمددكم ربكم } أجرا؛ لصبركم وتقواكم { بخمسة ءالف من الملائكة مسومين } [آل عمران: 125] معلمين، معلومين، ممتازين عن البشر.
{ و } اعلموا أيها المؤمنين { ما جعله الله } الهادي لعابده إلى زلال توحيده، أمثال هذه الإمدادات والإرهاصات الواردة في أمثال هذه الوقائع { إلا بشرى لكم } يبشركم بمقام التوكل والتفويض والرضا والتسليم { ولتطمئن قلوبكم به } أي: لتكونوا مطمئنين بالله، فانين ببقائه { و } اعلموا أيضا { ما النصر } والانهزام { إلا } مقدرين { من عند الله } العليم العلام { العزيز } القادر والغالب على الإنعام والانتقام { الحكيم } [آل عمران: 126] المتقن في فعله على أتم الوجه، وأكمل النظام.
وإنما جعله وبشر به { ليقطع } وليستأصل { طرفا } جملة وجماعة { من الذين كفروا } أعرضوا عن طريق التوحيد، فينهزم الباقون { أو يكبتهم } أي: يخزيهم ويرديهم { فينقلبوا } جميعا { خآئبين } [آل عمران: 127] خاسرين، نادمين.
وإذا كان الكل من عند الله العزيز الحكيم { ليس لك } يا أكمل الرسل { من الأمر شيء } أي: شيء من أمورهم، بل الأمر كله لله، فله أن يفعل معهم ما شاء وأراد، إما أن يستأصلهم { أو يتوب عليهم } توبة تنجيهم من أنانيتهم { أو يعذبهم } دائما؛ جزاء لظلمهم وكفرهم { فإنهم ظالمون } [آل عمران: 128] مستقرون على الظلم ما داموا في الحياة الدنيا.
{ و } كيف لا تكون أمورهم مفوضة إلى الله؛ إذ { لله } خاصة مستقلة بلا مزاحم ومشارك { ما } ظهر { في السموت وما } ظهر { في الأرض يغفر } يستر { لمن يشآء } جريمة المخالفة لطريق التوحيد بعد رجوعه وإنابته إليه سبحانه { ويعذب } بها { من يشآء } في جهنم البعد والخذلان { والله غفور } لمن تاب واستغفر { رحيم } [آل عمران: 129] لمن استحى وندم.
[3.130-134]
ثم خاطب سبحانه المؤمنين، مناديا لهم بما يتعلق برسوخهم في طريق التوحيد من الخصائل الجميلة والشيم المرضية، فقال: { يأيها الذين آمنوا } بالله ورسوله، مقتضى إيمانكم { لا تأكلوا الربوا } سيما إذا كان { أضعفا مضعفة } بحيث يستغرق مال المديون مجانا { واتقوا الله } المنتقم الغيور، ولا تجاوزوا عن حدوده { لعلكم تفلحون } [آل عمران: 130] توفوزون بامتثال مأموراته ومرضياته.
{ واتقوا } أيها المؤمنون { النار التي أعدت } هيئت { للكافرين } [آل عمران: 131] أصالة وللمقتفين إثرهم؛ تبعا، ويعلمون معاملتهم؛ استنكارا واستكبارا.
{ و } إن أردتم الفلاح { أطيعوا الله والرسول } المبين لكم طريق أطاعة الله { لعلكم ترحمون } [آل عمران: 132] من عند الله، إن أخلصتم في انقايدكم وطاعاتكم.
{ و } لا تتكئوا، ولا تتكلوا إلى طاعاتكم وعبادتكم، ولا تزنوها عند الله، بل { سارعوا } بادروا وواظبوا { إلى } طلب { مغفرة من ربكم } ستر ومحو لهوياتكم { و } وصول { جنة } منزل ومقر { عرضها السموت } أي: الأسماء الصفات الإلهية القائمة بذات الله { والأرض } أي: طبيعة العدم القابل لانعكاس أشعة تلك الأسماء والصفات، إنما { أعدت } وهيئت { للمتقين } [آل عمران: 133] من أهل التوحيد، وهم الذين يرفعون غشاوة الغيرية وغطاء التعامي عن نور الوجود مطلقا. لذلك هم: { الذين ينفقون } من طيبات ما سكبوا من رزق صوري ومعنوي للمستخقين من أهل الله، سواء كانوا { في السرآء } أي: حين الفراغة عن الشواغل العائقة عن التوجه الحقيقي { والضرآء } عند عروض العوارض اللاحقة عن لوازم البشر { والكاظمين الغيظ } أي: الماسكين، الكافين غيظهم عند ثوران القوة الغضبية، وهيجان الحمية البشرية الناشئة عن مقتيضات القوى الحيوانية { والعافين عن الناس } الذين يعفون ويتركون عقوبة من يسوءهم ويظلمهم؛ لتحققهم في مقر التوحيد المسقط للإضافات والاختلافات مطلقا { والله } المطلع لسرائر عباده { يحب المحسنين } [آل عمران: 134] منهم بجميع أنواع الإحسان، خصوصا بكظم الغيظ والعفو عند القدرة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصمه الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت ".
[3.135-139]
{ و } من جملة المتقين والمعدودين من زمرتهم: { الذين إذا فعلوا فاحشة } فعلة قبيحة صغيرة كانت أو كبيرة، صدرت منهم هفوة خطأ { أو ظلموا أنفسهم } بأن صدرت عنهم عن قصد وتعمد، ثم { ذكروا الله } خائفا من بطشه وانتقامه { فاستغفروا } منه راجين العفو والستر { لذنوبهم } التي صدرت عنهم عمدا أو خطأ { ومن يغفر الذنوب } مطلقا من العباد { إلا الله } غير الله الذي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده إرادة واختيارا { و } بعد استغفارهم { لم يصروا } ولم يرجعوا { على ما فعلوا } بل تركوه بالمرة، ولم يرجعوا عليها أصلا { و } الحال أنهم { هم يعلمون } [آل عمران: 135] قبحه ووخامة عاقبته.
{ أولئك } المتذكرون، المستغفرون { جزآؤهم مغفرة } ستر لأنانيتهم، عطاء { من ربهم } لإخلاصهم في الإنابة والرجوع { وجنات } كشوف وشهود { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق { خالدين فيها } أبدا، لا يظمؤون منها أبدا، بل يطلبون دائما مزيدا { ونعم أجر العاملين } [آل عمران: 136] تلك الغفران والجنان.
بادروا أيها المؤمنون إلى الطاعات، وداوموا على الأعمال الصالحات، ولا تغفلوا عن الله في عموم الحالات، واعلموا { قد خلت } مضت { من قبلكم } في القرون الماضية { سنن } وقائع هائلة بين الأمم الهالكة، المنهمكة في بحر الضلال والخسران، وإن أردتم أن تعتبروا منها { فسيروا في الأرض } أي: عالم الطبيعة أيها المفردون، السائحون في ملكوت السماوات والأرض { فانظروا } في آثارهم وأظلالهم { كيف كان عاقبة المكذبين } [آل عمران: 137] بتوحيد الله وبرسوله، المبينين له، وإذا نظرتم وتأملتم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
{ هذا } أي: في تذكر سنتهم وسيرهم { بيان } ودليل واضح { للناس } المستكشفين عن غوامض مسالك التوحيد الذاتي من أهل الإرادة { وهدى } أي: لأهل الكشف والشهود من أرباب المحبة والولاء { وموعظة } وتذكيرا { للمتقين } [آل عمران: 138] من عموم المؤمنين.
{ ولا تهنوا } أي: ولا تضعفوا أيها المؤمنون من متاعب مسالك الفنا { ولا تحزنوا } من المكروهات التي عرضت عليكم من مقتضيات الأوصاف البشرية في النشأة الأولى { و } اعلموا أنكم { أنتم } أيها المحمديون أنتم { الأعلون } في دار البقاء؛ أي: المقصرون، المنحصرون على أعلى المراتب إذ لا دين ولا نبي أعلى من دينكم ونبيكم، لظهوره على التوحيد الذاتي، لذلك ختم به صلى الله عليه وسلم أمر النسخ والتبديل، وظهر سر قوله سبحانه:
ما يبدل القول لدي
[ق: 29]، { إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139] محققين بتلك المرتبة.
آتنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
[3.140-143]
{ إن يمسسكم } ويصبكم أيها المجاهدون في سبيل الله؛ لإعلاء كلمته { قرح } ضيق ومشقة من أعداء الله يوم أحد، لا تبالوا به ولا تضعفوا بسببه، ولكم أن تذكروا يوم بدر { فقد مس القوم } العدو { قرح مثله } بل أشد من ذلك، ومع ذلك لم يضعفوا ولم يجنبوا، مع كونهم ساعين على الباطل، وأنتم أحقاء بألا تجبنوا ولا تشعفوا؛ لكونكم مجاهدين في طريق الحق، ساعين لترويجه { و } اعلموا أن { تلك الأيام } أي: أيام النصر والظفر والقرح والغنيمة أيام وأزمان { نداولها بين } جميع { الناس } محقهم ومبطلهم، مؤمنهم وكافرهم؛ ليعلموا أنهم جميعا تحت حيطة أوصافنا الجمالية والجلالية، واللطفية والقهرية.
{ وليعلم الله } أي: ينبه ويرشد خصوصا { الذين آمنوا } بتوحيد الله بأمورهم على الجهاد طريق الفناء فيه؛ ليفوزوا بشرف بقائه { و } لذلك { يتخذ منكم } أيها المؤمنون { شهدآء } واصلين، أحياء دائمين { والله } المتوحد بذاته { لا يحب الظالمين } [آل عمران: 140] المتجاوزين عن طريق توحيده المائلين عن صراطه المستقيم.
{ وليمحص } يطهر ويصفي { الله } بلطفه قلوب { الذين آمنوا } تيقنوا وتحققوا بصفاء التوحيد { ويمحق } ويهلك في ظلمة البعد والإمكان { الكافرين } [ال عمران: 141] الساترين بهوياتهم الباطلة، المظلمة الكثيفة نور صفاء الوجود.
أتحسبون وتطمعون أيها المريدون، القاصدون سلوك طريق التوحيد، أنكم مستوون عند الله في السلوك { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } الوحدة الذاتية { ولما يعلم الله } أي: لم يفرق، ولم يميز الله بعلمه الحضري { الذين جاهدوا منكم } في سبيله ظاهرا وباطنا، وبذلوا جهودهم فيها إلى أن بذلوا مهجهم فتفانوا في الله حتى صاروا شهداء حضراء أمناء عند الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون عن المتقاعدين المتكاسلين { و } أيضا { يعلم } وليميز منكم { الصابرين } [آل عمران: 142] المتمكنين في مرمى القضاء الرضا بما جرى عليهم من سهام التقدير، بلا إقدام ولا إحجام.
{ ولقد كنتم } أيها المحمديون، المستكشفون عن سرائر التوحيد الذي { تمنون الموت } الموصل إلى مرتبة اليقين العيني والحقي عند وصولكم إلى مربتة اليقين العلمي، مسرعين عليها؛ شوقا واستلذاذا { من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه } متى ظهرت أمارات التوحيد، ولمع سراب الفناء، وبرق صوارم القضاء المفضية إلى هلاك الغير والسوى مطلقا { وأنتم } أيها الطالبون للوصول إلى جنة الذات { تنظرون } [آل عمران: 143] تبطئون وتغتبرون.
[3.144-146]
{ و } اعلموا أيها المسترشدون { ما محمد إلا رسول } من الرسل، هاد لكم إلى التوحيد الذاتي ينبهكم على طريقه { قد خلت } مضت { من قبله } أي: قبل ظهوره { الرسل } الهادين إليه مثله، المنبهين لطريقه في ضمن توحيد الصفات والأفعال، وما لهم وله إلا التبليغ والتنبيه، فعليكم أن تتنبهوا وتتحقوا بمقام التحقيق واليقين، معرضين عن التقليد والتخمين، أتؤمنون به وتسترشدون منه أيها المريدون حال حياته؟.
{ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } غير واصلين إلى فضاء التوحيد { ومن ينقلب } منكم { على عقبيه } بلا وصول إلى الغاية { فلن يضر الله شيئا } بنقصان أو زيادة؛ إذ و مستو على عرضه كما كان، بلا تبديل ولا تغيير، بل ما يضر إلا نفسه بعدم إيصالها إلى غياتها الممكن لها، وبذلك حط عن رتبة الشاكرين { و } اعلموا أيها المؤمنون { سيجزي الله } بلطفه بالجزاء الجميل والإحسان الجزيل { الشاكرين } [آل عمران: 144] منكم، الصادقين جميع القوى والجوارح إلى ما خلق لأجله الصابرين على ما أصابهم في سبيله، الباذلين مهجهم في إعلاء كلمة توحيده، الراجين منه الوصول إلى زلال تجريده وتفريده.
{ و } اعلموا أيها المؤمنون بقضاء الله وقدره { ما كان لنفس } من النفوس الخيرة والشريرة { أن تموت } بقتل أو حتف أنفه { إلا بإذن الله } بتقديره ومشيئته، الثابت المثبت في قضائه، السابق له { كتبا } جامعا بجميع ما يجري عليه في عالم الشهادة، حياته وموته ورزقه { مؤجلا } بوقت معين لا يتأخر عنه ولا يتقدم { ومن يرد } منكم { ثواب الدنيا } التي هي أدنى مرتبة الإنسان، وأنزل منزلته من المفاخرة بالمال والجاه والحسب والنسب { نؤته } نعطه { منها } مقدار ما يقدر لنا في سابق علمنا، ونحاسبه عليها في يوم الجزاء في النشأة الأخرى.
{ ومن يرد } منكم { ثواب الآخرة } من الحقائق والمعارف والمواهب العلية التي هي المقصد الأقصى، والمطلب الأعلى من وجوده { نؤته منها } مقدار ما يقتضي استعداده الفطري { و } اعلموا أيها المؤمنون { سنجزي } بفضلنا وجودنا بلا وساطة ووسائل { الشكرين } [آل عمران: 145] المنسلخين عن الإرادة، بل عن جميع الأمور المرادة، الراضين بما قسم لهم، وقدر عليهم في سابق علمنا بروضة الرضا وجنة التسليم.
{ وكأين من نبي } يجاهد في سبيل الله؛ لترويج توحيده { قاتل معه ربيون } ربانيون مخلصون { كثير } منهم قتلوا وأصيبوا { فما وهنوا } وما جبنوا { لمآ أصابهم } من القرح { في سبيل الله } لإعلاء دينه { وما ضعفوا } من محاربة أعداء الله { وما استكانوا } وتضرعوا إليهم؛ استبقاء واستخلافا، بل كانوا كرارين جرارين، بحيث لا يرى عليهم أمارات الجبن والخوف أصلا، صابرين على ما أصابهم من القرح والجرح، وقتل الأقارب والعشائر { والله } الهادي لعباده إلى توحيده { يحب الصابرين } [آل عمران: 146] منهم في البلوى، والطائرين شوقا إلى المولى، الراضين بما يحب له ويرضى.
[3.147-150]
{ و } من غاية تصبرهم وتمكنمهم على الجهاد في سبيل الله { ما كان قولهم } عند عروض المكروهات والمصيبات فيه { إلا أن قالوا } مستغفرين، مسترجعين إلى الله، خائفين من ضعف الأخلاص في امتثال أوامره: { ربنا } يا من ربانا في مضيق الإمكان بأنواع اللطف والإحسان { اغفر لنا } بفضلك { ذنوبنا } خواطرنا التي خطرت في نفوسنا من خوف أعدائك بعدما أمرتنا إلى مقاتلتهم.
{ و } اغفر لنا أيضا يا ربنا: { إسرافنا في أمرنا } أي: ميلنا وتجاوزنا إلى طرفي الإفراد والتفريط عن حدودك التي وضعت لنا في الغزو الجهاد { وثبت أقدامنا } على جادتك التي وضعت له في علمك { و } بعد ثبوتنا بتثبيتك { انصرنا } بحولك وقوتك { على القوم الكافرين } [آل عمران: 147] الساترين نور الوجود بأباطيل هوياتهم وماهياتهم، المائلين عن طريق التوحيد بمتابعة عقولهم المموهة بشياطين الأوهام الباطلة.
وبعدما أخلصوا لله، واستغفروا لذنوبهم، والتجأوا لحوله وقوته { فآتاهم الله } مجازيا لهم؛ تفضلا وامتنانا { ثواب الدنيا } من النصر والغنيمة، والفوز بالفتح، والظفر على الأعداء، والسيادة والرئاسة على الأولياء على أحيائهم { وحسن ثواب الآخرة } من المشاهدة والرضا والمكاشفة، واللقاء على شهدائهم الذين قتلوا في سبي الله، مشتشوقين إلى الفناء فيه؛ ليتحققوا ببقائه
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء
[آل عمران: 169] عن الآية، { والله } الهادي لعباده إلى فضله في معاده { يحب المحسنين } [آل عمران: 148] منهم، ويرضى عنهم، خصوصا الذين أحسنوا في سبيل الله ببذل المهج وأعطاء الروح.
ربنا اجعلنا من خدامهم وتراب أقدامهم.
ثم لما أراد سبحانه تثبيت المؤمنين على قواعد الإسلام، ورسوخهم على مقتضى شعار الدين والإيمان، حذرهم عن إطاعة الكفار ومخالطتهم، والاستعانة منهم، والاستكانة إليهم، فقال مناديا لهم: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا } وتنقادوا وتستنصورا من { الذين كفروا } بتوحيد الله عنادا، وأعرضوا عن كتبه ورسله؛ استكبارا { يردوكم } إلبتة بعد إهدائكم إلى الإيمان { على أعقابكم } التي أنتم فيها من الكفر والطغيان قبل انكشافكم بالإيمان، وإن انقلبتم { فتنقلبوا خاسرين } [آل عمران: 149] خسرانا عظيما، فعليكم أن تتركوا موالاتهم وموافاتهم.
{ بل } يكفي { الله } المدبر لأموركم { مولاكم } يولي أموركم، ويعينكم عليهم متى اضطررتم { و } اعلموا أيها المضطرون في الوقائع { هو خير الناصرين } [آل عمران: 150] فاستنصروا منهم وتوكلوا عليه، وما النصر إلا من ندن الله العزيز العليم.
[3.151-152]
وحين استرجعتم إلينا، واستغنيتم بنا مخلصين { سنلقي } بقهرنا وغضبنا { في قلوب الذين كفروا } بتوحيدنا { الرعب } والمخافة مع كونكم مستضعفين، وإنما نلقيهم الرعب { بمآ أشركوا بالله } المنزه عن الأشياء والأنداد { ما لم ينزل به } أي: أصناما وآلهة ما لم ينزل الله بسببها عليهم { سلطانا } حجة تلجئهم إلى عبادتها وإطاعتها، بل ما اتخذوها آلهة إلا من تلقاء أنفسهم؛ ظلما وعدوانا، تعالى عما يقول الظالمون { و } ليس { مأواهم } في النشأة الاخرى إلا { النار } الموعود لمن أظلم على الله، واتبع هواه { وبئس } المثوى والمأوى { مثوى الظالمين } [آل عمران: 151] الخارجين عن حدود الله وشعائر توحيده.
{ ولقد صدقكم الله } أيها المؤمنون { وعده } الذي وعده لكم من النصر والظفر وقت { إذ تحسونهم } أي: العدو، ويحفظ كلا منكم المكان الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم { بإذنه } أي: بإذن الله ووحيه بلا ميل إلى الغنيمة والنهب { حتى إذا فشلتم } ملتم إلى الغنيمة، وخالفتم حكم الله ورسوله { وتنازعتم في الأمر } أي: أمر التبادر والتسابق إلى الغنيمة { وعصيتم } تركتم إطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم { من بعد مآ أراكم } أمارات { ما تحبون } وتطلبون، وتوعدونه من النصر والظفر المشروط بالتقرر والتمكن، وبعد رؤيتكم أنفسكم قسمين: { منكم من يريد } حطام { الدنيا } فترك المركز وخالف الأمر { ومنكم من يريد الآخرة } فثبت على المركز وحفظ الأمر، ولم يضطرب عن مكانه.
{ ثم } لما غيرتم ما في نفوسكم من عقد الله ورسوله { صرفكم } أي: بعدكم { عنهم } وعن أموالهم خائنين، فارين { ليبتليكم } ويختبركم ببلاء الهزيمة، هل تستقرون وتثبتون على الإيمان وتصبرون على المصائب الحادثة في حفظه أم لا؟ { و } بعدما خالفتم أمر الله وأمر رسوله، وملتم إلى الغنائم بعدما ورد النهي عن الله ورسوله { لقد عفا } الله { عنكم } ذنوبكم بعد ندامتكم واستغفاركم؛ تفضلا عليكم وإن كان مقتضى جريمتكم استئصالكم بالمرة { والله } الهادي لعباده { ذو فضل } عظيم { على المؤمنين } [آل عمران: 152] تجاوز عن سيئاتكم، وإن عظمت بعدما تابوا واستغفروا.
[3.153-154]
واذكر أيها المؤمنون قبح صنيعكم، وستحيوا من الله، وتندموا عما صدر منكم وقت { إذ تصعدون } تذهبون إلى الأباعد؛ خوفا من العدو، فارين من الزحف، متخالفين لرسول الله { و } عند ذهابكم وفراركم { لا تلوون } تلتفتون على أعقابكم، ولا تنتظرون { على أحد } من إخوانكم { والرسول } صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة { يدعوكم } ويناديكم صارخا: إلي عباد الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم { في أخركم } ساقتكم وعصيانكم، ولم يلتفت أحد منكم إلى عقبه لإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك لم تنجوا سالمين { فأثبكم } أورثكم الله، المصلح لأحوالكم؛ تأديبا لكم، متصلا { غما بغم } آخر، حيث أحاطت بكم الغموم من القتل والجرح والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بكم ما فعل { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من النهب والغنيمة { ولا مآ أصبكم } من الفرار والهزيمة، ولتتمكنوا أو تتمرنوا في مقام الرضا والتسليم، ولا تخالفوا أمر الله ورسوله { والله } المدبر لأمروكم { خبير بما تعملون } [آل عمران: 153] بمقتضى تسويلات نفوسكم الأمارة بالسوء، فيجازيكم بها؛ لكي تتنبهوا وتسلموا أموركم إلى الله وتتحققوا بالتوحيد الذاتي.
{ ثم } لما تبتم ورجعتم إلى الله، وندمتم عما فعلتم { أنزل عليكم } امتنانا لكم وتفضلا { من بعد الغم } المفرط { أمنة } طمأنينة ووقارا، حيث تورث { نعاسا } رقدة ونوما { يغشى طآئفة منكم } وهم المتحقوون بمقام العبودية، الراضون بما جرى عليهم من القضاء، لا يشوشهم السراء والضراء { وطآئفة } من منافقيكم { قد أهمتهم أنفسهم } أي: أوقعتهم نفوسهم وأمانيتهم في الهموم والغموم المبعدة عن مقام التفويض والتسليم إلى حيث { يظنون بالله } ظنا باطلا { غير } ظن { الحق } بل { ظن الجهلية } حيث { يقولون } لرسول الله استكشافا ظاهرا، أو استنكافا خفية: { هل لنا من الأمر } أي: أمر الله الذي وعدتنا والنصر والظفر { من شيء } أم الأمر للعدو دائما، واليد له مستمرا؟
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { إن الأمر } أي: أمر جميع ما كان وما يكون { كله لله } اولا، وبالذات بلا رؤية الوسائط والوسائل في البين، وهم من غاية عماهم { يخفون في أنفسهم } من البغض والنفاق { ما لا يبدون لك } بل يبدون لإخوانهم، إذا خلا بعضهم بعضا حتى { يقولون } متهكمين، مستهزئين: { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } مهانين، مظلومين { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة: لا مرد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه، بل يجري في ملكه ما ثبت في علمه.
واعلموا أنكم { لو كنتم } متمكنين { في بيوتكم } غير خارجين منها للقتال { لبرز } لظهر وخرج البتة { الذين كتب } قدر وفرض في الأزل { عليهم القتل } في هذه المعركة، مسرعين { إلى مضاجعهم } ومقاتلهم في الوقت الذي قدر بلا تأخير ولا تقديم { و } إنما فعل بكم ما فعل { ليبتلي } ويختببر ويمتحن { الله ما في صدوركم } أهو من الرضا والإخلاص؟ أم من الشقاق والنفاق؟ { وليمحص } يطهر ويصفي { ما في قلوبكم } من الإيمان والتوحيد عن الكفر والنفاق { والله } المطلع لسرائركم وضمائركم { عليم بذات الصدور } [آل عمران: 154] أي: الأمور المكنونة فيها.
[3.155-157]
{ إن الذين تولوا } استدبروا وتخلفوا { منكم } أيها المؤمنون؛ ترهيبا وجبنا، بلا كفر ونفاق { يوم } وقت { التقى الجمعان } الصفان للقتال { إنما استزلهم الشيطان } وأزال قدمهم عن التثبت والتفرد { ببعض ما كسبوا } بشؤم بعض ما كسبوا، بتسويلات نفوسهم التي هي من جنود الشيطان { و } بعدما ندموا واستغفروا، وأخلصوا الرجوع إلى الله { لقد عفا الله عنهم } بلطفه { إن الله } العفو عن ذنوب عباده { غفور } ستار لهم ما صدر عنهم الآثام { حليم } [آل عمران: 155] لا يعجل بالبطس والانتقام؛ ليتوبوا ويرجعوا.
{ يأيها الذين آمنوا } عليكم أن تحافظوا على مقتضى الإيمان والتوحيد، ولا تنسبوا الحوادث إلى غير الله، بل تفوضوا جميعا إلى الله أصاله حتى { لا تكونوا } أيها المؤمنون { كالذين كفروا } بالله بانتساب الحوادث إلى الأسباب أولا وبالذات { وقالوا لإخوانهم } الذين ماتوا في حقهم { إذا ضربوا } سافروا { في الأرض } للتجارة والسياحة { أو } قتلوا، أو { كانوا غزى } غازين في سبيل الله، طالبين رتبة الشهادة:
{ لو كانوا } هؤلاء الميتين والمقتولين متوكلين، متمكنين { عندنا ما ماتوا } في الغربة { وما قتلوا } في يد العدو، معتقدين أن وما أصابهم، إنما أصابهم من الغزو والغربة لا من الله، وإنما أخطرهم سبحانه بهذا الرأي، وأقوالهم بهذا القول { ليجعل الله } المنتقم منهم في النشأة الأولى والأخرى { ذلك } الحزن والأسف { حسرة } مستمكنة { في قلوبهم } وتمرضهم وتضعفهم بها في الدنيا، وتعذبهم في الآخرة { والله } القادر المقتدر، المستقل في الإحياء والإماتة { يحيي } بلطفه { ويميت } يقهره بلا مظاهرة ولا مشاركة { والله } المطلع لسرائر عباده { بما تعملون } أيها المؤمنون { بصير } [آل عمران: 156] ناقد خبير، يميز ويصفي إخلاصكم من الرعونة والرياء، وأعمالكم من الميل إلى البدع والأهواء.
{ و } الله أيها المؤمنون المتوجهون إلى الله، الطالبون الوصول إلى زلال توحيده { لئن قتلتم في سبيل الله } طالبين لرضاه { أو متم } قبل موتكم، سالكين، سياحين في طريق الفناء فيه { لمغفرة } سترة ساترة لأنانيتكم، ناشئة { من } ضرب { الله } لكم إلى توحيده الذاتي { ورحمة } فائضة منه، مفنية لهوياتكم بالمرة في هويته { خير } لكم { مما يجمعون } [آل عمران: 157] وتدخرون أنتم لأنفسكم بهوياتكم الباطلة، وإن كنتم خيرين فيها.
[3.158-160]
{ و } الله أيها الموحدون المخلصون { لئن متم } في طريق الفناء { أو قتلتم } فيه في يد الأعداء { لإلى الله } لا إلى غيره؛ إذ لا غير { تحشرون } [آل عمران: 158] ترجعون رجوع الظل إلى ذي ظل.
{ فبما رحمة } أي: فبرحمة نازلة لك يا أكمل الرسل { من الله } المرسل لك؛ رحمة للعالمين { لنت لهم } حين مخالفتهم عن إطاعتك واتباعك { ولو كنت فظا } سيء الخلق { غليظ القلب } قاسية { لانفضوا } تفتتوا وتفرقوا البتة { من حولك } وإن آذوك جهلا وغلفة { فاعف عنهم } تلطفا وترحما على مقتضى نبوتك.
{ و } بعد عفوك { استغفر لهم } من الله ليغفر زلتهم؛ لأنك مصلحهم ومولي أمرهم { و } بعد عفوك عما لك، واستغفارك عما لله { شاورهم في الأمر } أي: الرخص المتعلقة لترويج الدين والإيمان بعدما تركت المشورة معهم؛ بسبب جريمتهم { فإذا عزمت } فالعزيمة لك خاصة، بلا مشورة الغير { فتوكل } في عزائمك { على الله } واتخذه وكيلا، ولا تلتفت إلى الغير مطلقا { إن الله } الهادي لعباده { يحب المتوكلين } [آل عمران: 159] المتخذين الله وكيلا، المفوضين أمورهم كلها إليه.
قلا يا أكمل الرسل إمحاضا للنصح: { إن ينصركم الله } المولي لأموركم بعزته وسلطانه { فلا غالب لكم } أي: لا أحد يغلبكم ويخاصمكم؛ لكونكم في حمى الله وكنف حوله وقوته { وإن يخذلكم } بقهره وسخطه { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } أي: من بعد قهره وبطشه { وعلى الله } المعز المذل القوي المتين { فليتوكل المؤمنون } [آل عمران: 160] في جميع أمورهم حتى خلصوا وأخلصوا.
[3.161-164]
ثم لما نسب المنافقون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما برأه الله ذيل عصمته عنه من الخيانة والغلول، راد الله عليهم في ضمن الحكمة الكلية، الشاملة لجميع الأنبياء؛ إذ مرتبة النبوة مطلقا مصونة عن أمثال هذه الخرافات، فقال: { وما كان } أي: ما صح وما جاز { لنبي } من الأنبياء، خصوصا خاتم النبوة والرسالة صلى الله عليه وسلم { أن يغل } يخون ويحيف بالنسبة إلى أحد { ومن يغلل } أحدا من الناس { يأت بما غل يوم القيامة } أي: تأتي مغلولة مع ما غل فيه على رءوس الأشهاد { ثم توفى كل نفس } مطيعة أو عاصية جزاء { ما كسبت } أي: يعطي جزاء ما كسبت وافيا { وهم } في تلك الحالة { لا يظلمون } [آل عمران: 161] لا ينقصون من أجورهم؛ إذ لا ظلم فيها، بل يزاد عليها تفضلا وامتنانا.
{ أفمن اتبع } انقاد وأطاع { رضوان الله } أي: رضاه، ورضي الله عنه؛ لتحققه بمقام الرضا ومأواه جنة التسليم { كمن بآء } رجع وقصد بكفر وظلم مستلزم { بسخط } عظيم { من الله و } بسببه { مأواه جهنم } البعد الطرد { وبئس المصير } [آل عمران: 162] والمنقلب مصير أهل الكفر والظلم وحاشا ليسوا كمثلهم.
بل { هم } أي: المتابعون رضوان الله { درجت } عالية عظيمة { عند الله } حسب درجات أعمالهم { والله } المطلع لحالات عباده { بصير بما يعملون } [آل عمران: 163] يجازيهم على مقتضى عملهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
والله { لقد من الله } منة عظيمة { على المؤمنين } المخلصين { إذ بعث فيهم } لهدايتهم { رسولا } مرشدا لهم، ناشئا { من أنفسهم } يرشدهم بأنواع الإرشاد { يتلوا عليهم } ويسمعهم أولا { آياته } الدالة على وحدة ذاته { ويزكيهم } ثانية عن وسوسة شياطين الأهواء، المضلة عن طريق التوحيد { ويعلمهم } ثالثا { الكتاب } المبين لهم طريقة تصفية الظاهر، وما يتعلق بعالم الشهادة { و } رابعا بعلمهم { الحكمة } المصفية للباطن عن الميل إلى الغير والسوى، الموصلة إلى سدرة المنتهى التي عندها جنبة المأوى { وإن كانوا من قبل } أي: قبل انكشافهم بالمراتب الأربعة { لفي ضلال مبين } [آل عمران: 164] وخذلان عظيم.
نبهنا بفضلك عن نومة الغافلين.
[3.165-168]
{ أو لمآ أصبتكم مصيبة } أي: أتيأسون وتقنطون من فضل الله عليكم أيها المؤمنون حين أصابتكم مصيبة يوم أحد، ولا تذكرون نصره يوم بدر؛ إذ { قد أصبتم } فيه { مثليها } إذ قتلتم سبعين وأسرتم سبعين؟ { قلتم } من غاية حزنكم وأسفكم: { أنى هذا } أي: من أين حدث لنا هذه الحادثة الهائلة ونحن قد وعدنا النصر والظفر؟ { قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { هو من عند أنفسكم } بعدم تثبتكم وتصبركم على المكان الذي عينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم وفائكم على العهد الذي عاهدتم معه، أو من الفدية التي أخذتم يوم بدر، مع أن الأولى قتلهم واستئصالهم { إن الله } المطلع على جميع مخايلكم { على كل شيء } من المصيبة والإصابة { قدير } [آل عمران: 165].
{ و } اعلموا أيها المؤمنون، الموقنون بقدرة الله على عموم الإنعام والانتقام أن { مآ أصابكم يوم التقى الجمعان } الصفان يوم أحد { فبإذن الله } المنتقم منكم؛ لتغييركم ما في ضميركم من نية التقريب بالميل إلى زخرفة الدنيا، واتباع الهوى { و } إنما يبتليكم الله بما ابتلاكم { ليعلم } وليميز { المؤمنين } [آل عمران: 166] الذين ثبتوا على الإيمان، واستقروا على شعائر الإسلام من غيرهم.
{ وليعلم } ويفضل أيضا { الذين نافقوا } أظهروا النفاق مع الله ورسوله { و } ذلك حين { قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله } مع أعداء الله إلى أن تستأصلهم { أو ادفعوا } ضررهم عن المسلمين { قالوا } في الجواب على مقتضى نفاقهم المكنوز في قلوبهم: { لو نعلم } مساواة بينكم، أو مضاعفتهم إياكم بمثلين فنسمي { قتالا } فإذن { لاتبعناكم } بل هم بأضعفكم عددا وعددا وما أنتم عليه، إنما إلقاء النفس في التهلكة لا المقاتلة، فكيف اتبعناكم؟.
{ هم } بإظهار هذا القول { للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } لأن القول مناسب، مطابق لكفرهم المكنون في قلوبهم دون إيمانهم، مجرد القول الذي { يقولون بأفواههم } تلبيسا وتغريرا { ما ليس في قلوبهم } من القبول والإذعان { والله } المطلع لضمائركم { أعلم } منهم، فهم { بما يكتمون } [آل عمران: 167] في قلوبهم من الكمفر والنفاق يجازيهم على مقتضى علمه.
هم { الذين قالوا } من غاية نفاقهم وشقاقهم { لإخوانهم } أي: في حق إخوانهم الذين خرجوا مع المؤمنين وقتلوا { و } الحال أنهم قد { قعدوا } في مساكنهم، وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لو أطاعونا } هؤلاء المقتولون في القعود والتخلف { ما قتلوا } كما لم نقتل، واعتقادهم أن القعود سبب النجاة، والخروج سبب القتل، ولم يعلم أن للموت أسباب، وللنجاة أسباب لا يدركها إلا هو، وكم من قاعد قد مات وقتل، وكم من خارج قد نجا وإن اقتحم، والعلم عند الله { قل } لهم يا أكمل الرسل تبكيتا إن قدرتهم على الدفع: { فادرءوا } فادفعوا { عن أنفسكم الموت } المقدر لكم من عند الله { إن كنتم صادقين } [آل عمران: 168] أيها الكاذبون.
[3.169-173]
وبعدما بين سبحانه جرائم المؤمنين يوم أحد، وذلتهم ومتابعتهم للمنافقين في التخلف عن رسول الله، والميل إلى الغنيمة، وترك المركز مع كونهم مأمورين على خلافها، أراد أن ينبه عليهم سرائر الغزو والشهادة فيه، وبذل المهج في سبيله، فقال مخاطبا لرسوله على طريق الكف والنهي؛ لينبه من يقتدي به من المؤمنين؛ لأن أمثال هذه الخطابات والتنبيهات إنما يليق لمن وصل إلى ذورة مسالك التوحيد، وتحقق بنهاية مراتب التجريد والتفريد بقوله: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } باذلين أرواحهم في طريق الفناء؛ ليفوزوا بشرف البقاء { أمواتا } منقطعين عن الحياة والحركة، كالأموات الأخر { بل } هم { أحياء } ذو أوصاف وأسماء أزلية أبدية، مقربين بها { عند ربهم } الجامع لجميع الأوصاف والأسماء { يرزقون } [آل عمران: 169] بها من عنده.
{ فرحين بمآ آتاهم الله } من موائد المعرفة والإحسان بواسطتهما { من فضله } دائما، خالدين فيها { و } مع تلك اللذة والفرح { يستبشرون } يطلبون الباشرة والشفاعة من الله { بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } من إخوانهم الذين بقوا من خلفهم في دار الدنيا التي هي دار الخوف والعناء، محل الخطر الفناء، قابلين لهم منادين، منبيهن أن { ألا خوف عليهم } لم يحلقوا بنا { ولا هم يحزنون } [آل عمران: 170] لم يخلصوا عن الدنيا ولوازمها.
بل { يستبشرون } دائما لأنفسهم ولإخوانهمه { بنعمة من الله وفضل } جزاء لما جاهدوا في سيله وفضل مع عطاء منه، وامتنانا عليهم من لطفه { و } اعلموا أيها العاملون؛ لرضاء الله، المجاهدون في سبيله { أن الله لا يضيع أجر المؤمنين } [آل عمران: 171] الذين بذلوا جهدهم في محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم خصوصا.
{ الذين استجابوا } طلبوا الإجابة { لله والرسول } حين دعاهم الله ورسوله إلى المقاتلة { من بعد مآ أصابهم القرح } من العدو بلا مماطلة وتسويف، بل رغبتهم أشد من الكرة الأولى.
وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من المدينة، فبلغوا الروحاء ندموا وقصدوا الرجوع؛ ليستأصلوهم، فبلغهم الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبهم، وقال: لا يخرج معنا اليوم إلا من كان معنا أمس.
فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة من المؤمنين حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وكان بأصحابه الفرح والسرور، متلهفين، متحسرين للشهادة، مشتوقين إلى مرتبة إخوانهم الذين استشهدوا في سبيل الله، فمر بهم معبد الخزاعي، وكان مشركا يومئذ، فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك وأصاحبك، ثم خرج فلقي أبا سفيان بالروحاء، فقال له أبو سفيان: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج مع أصحابه، يطلبونكم على مهور لم أر مثلهم في الجراءة أحدا، يتحرقون عليكم تحرقا لو لقيتم، قال أبو سفيان: ويلك! ما تقول؟ قال: والله، ما أراك تحل حتى ترى نواحي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا للكرة عليهم؛ لنستأصل بقيتهم، قال: فإني والله، أنهاك عن ذلك.
فألقى الله الرغب في قلوبهم، فرجعوا مستوحشين منهم، لذلك قال سبحانه في حق المؤمنين { للذين أحسنوا } ببذل المهج في سبيل الله، بالخروج مع رسوله { منهم واتقوا } عن مخالفة أمر الله ورسوله { أجر عظيم } [آل عمران: 172] لا أجر أعظم منه، وهو الفوز بالبقاء الأيدي والحياة السرمدية، وهم من كمال إيمانهم بهم.
{ الذين قال لهم الناس } المخبرون لهم، ترحما وتحذيرا: { إن الناس } يعني: أبو سفيان وأصحابه { قد جمعوا لكم } ليكروا عليكم ويستأصلوكم { فاخشوهم } حتى لا يلحقكم شر العدو ثانيا { فزادهم } قول المخبرين { إيمانا } إطاعة وانقيادا وتسليما وإحسانا { وقالوا } في جوابهم من غاية رضاهم ونهاية تفويضهم: { حسبنا الله } وكافينا، يكفينا عنايته لنا في حياتنا ومماتنا { ونعم الوكيل } [آل عمران: 173] هو لمصالحنا، نفوض أمورنا كلها إليه، نعتصم به من سخطه وغضبه.
[3.174-177]
ولما فوضوا أمورهم إلى الله، واعتصموا له، واستنصروا منه، وتوكلوا عليه، قذف في قلوب عدوهم الرعب فهربوا { فانقلبوا } رجعوا من حمراء الأسد { بنعمة } عظيمة { من الله } جزاء ما صبروا { وفضل } زيادة عطاء لهم تفضلا وامتنانا؛ لتحققهم في مقام الرضاء بما أصابهم من القضاء { لم يمسسهم سوء } أصلا بعدما أصابوا يوم أحد، بل صاروا غالبين دائما على الأعداء { و } ذلك لأنهم { اتبعوا رضوان الله } ومتابعة رسوله بلا ميل منهم إلى هوية نفوسهم { والله } المجاري لعباده { ذو فضل عظيم } [آل عمران: 174] ولطف جسيم على من هو من أهل الرضا والتسليم.
{ إنما ذلكم } المخبرون، المخوفون لكم، هم { الشيطان } وأتباعه، ما { يخوف } من الأعداء إلا { أولياءه } وهم المنافقون { فلا تخافوهم } أيها المؤمنون؛ إذ الله معكم يحفظكم عما يضركم { وخافون } من إطاعة الشيطان ومتابعته، حتى لا يلحقكم غضبي وسخطي { إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175] موقنين بقدرتي على الإنعام والانتقام.
{ ولا يحزنك } ضرر { الذين يسارعون } يوقعون أنفسهم { في الكفر } سريعا في المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم { إنهم } إذ هم بسبب كفرهم { لن يضروا الله شيئا } بل ضرر كفرهم إنما يعود إليهم؛ لا حق بهم { يريد الله } المقد لكفرهم { ألا يجعل لهم حظا } نصيبا { في } النشأة { الآخرة } لذلك أقدرهم على الكفر { و } هيأ { لهم عذاب عظيم } [آل عمران: 176] هو عذاب الطرد والخذلان، والحسرة والحرمان؛ جزاء لكفرهم ونفاقهم.
ثم برهن عليه سبحانه بقوله: { إن الذين اشتروا } استبدلوا { الكفر بالإيمان } من غاية نفاقهم { لن يضروا الله شيئا } بسبب هذا الاستبدال والاختيار، بل { ولهم عذاب أليم } [آل عمران: 177] مؤلم في الدنيا بالقتل والسبي والإجلاء، وفي الآخرة بالحرمان عن مرتبة الإنسان.
[3.178-180]
{ ولا يحسبن } المفسر بقراءة: " ولا تحسبن " يا أكمل الرسل { الذين كفروا أنما نملي لهم } أي: إمهالنا إياهم في النشأة الأولى { خير لأنفسهم } ولهم فيه نفع وعزة، بل { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } موجبا للعذاب { ولهم } في النشأة الأخرى { عذاب مهين } [آل عمران: 178] مذل ومخز؛ جزاء لاستكبارهم واستعدائهم في الدنيا.
ثم لما اختلط المنافقون مع المؤمنين، وتشاركوا في إظهار الإيمان، والقول به على طرفي اللسان بلا اعتقاد منهم وإخلاص، أراد سبحانه أن يبين ويميز المؤمن من المنافق، والمخلص من المرائي فقال: { ما كان الله } المطلع لضمائر عباده { ليذر } وليترك { المؤمنين } المخلصين { على مآ أنتم عليه } من الالتباس والمشاركة مع اهل الكفر والنفاق بحسب الظاهر، بل يختبر ويمتحن إخلاصكم بأنواع البليات والمصيبات { حتى يميز } ويفصل { الخبيث } المنافق، المصر على النفاق { من الطيب } المؤمن، الموقن بتوحيد الله، الراضي بما جرى عليه من قضائه.
{ و } بعد تميزه وفصله سبحانه { ما كان الله ليطلعكم } أي: جميعكم { على الغيب } الذي هو الاطلاع على خفيات ضمائر عباده { ولكن الله } المحيط بجميع القابليات { يجتبي } ويختار { من رسله من يشآء } بأن يوحي إليه، ويلهمه التمييز بين استعدادات عباده للإيمان والكفر، وإذا كان أمركم عند الله ورسوله { فآمنوا } أيها المؤمنون { بالله } المميز لكم أصالة { ورسله } الملهمين بالتمييز بأمره تبعا { وإن تؤمنوا } وتحافظوا على شعائر الإيمان بعدما آمنتم { وتتقوا } عن مخالفاته { فلكم } عند الله { أجر عظيم } [آل عمران: 179] هو إيصالكم إلى التحقيق بمقام العبودية والتوحيد؛ إذ لا أجر أعظم منه.
{ و } من جملة الأمور التي يجب الاتقاء والتحرز عنه: البخل { لا يحسبن } البخلاء { الذين يبخلون بمآ آتاهم الله من فضله } اختيارهم تدخيرا أو توريثا لأولادهم { هو } أي: البخل { خيرا لهم } ينفعهم عند الله، ويثيبهم به أو يدفع عنهم العذاب بسببه { بل هو شر لهم } يستجلب العذاب عليهم؛ إذ هم { سيطوقون } ويسلسلون مع { ما بخلوا به يوم القيامة } ويسحبون على وجوههم إلى نار البعد والحرمان؛ جزاء لبخلهم الذي كانوا عليها.
{ و } اعلموا أيها المؤمنون { لله } لا لغيره؛ إذ لا غير { ميراث } أي: حيازة وإحاطة ما في { السموت } أي: عالم الأرواح { و } ما في { الأرض } أي: علام الأجسام تملكا وتصرفا، لا ينازعه في ملكه، ولا يشارك في سلطانه، له الحكم، وإليه الرجوع في جميع ما كان ويكون { والله } المتوحد، المتفرد في ملكوته وجبروته { بما تعملون } من التصرفات الجارية { خبير } [آل عمران: 180] لا يغيب عن شيء من أفعالكم وأقوالكم.
[3.181-184]
كما أخبر سبحانه عن علمه بقول اليهود وبقوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا } استهزاء وسخرية حين نزل:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه
[الحديد: 11] { إن الله فقير } استقرض منا { ونحن أغنيآء } وبعدما سمعنا منهم { سنكتب ما قالوا } اي: قولهم هذا { وقتلهم الأنبياء بغير حق } فيما مضى في صحائف أعمالهم، في نظم واحد، ونجازي عليهم يوم الجزاء { ونقول } لهم وقت جزائهم: { ذوقوا } أيها المفرطون، المسيئون للأدب مع الله ورسوله { عذاب الحريق } [آل عمران: 181] المحرق غاية الإحراق، بحيث يذوق إحراقه أجسامكم وجميع قواكم.
ولا تنسبونا في هذا التعذيب إلى الظلم والعدوان؛ إذ { ذلك } العذاب { بما قدمت } واقترفت { أيديكم } من المعاصي العظيمة التي هي من جملتها: قولكم هذا، وقتلكم الأنبياء فيما مضى { و } اعلموا { أن الله } المنتقم من عباده { ليس بظلام } بذي ظلم { للعبيد } [آل عمران: 182] أي: للذين ظلموا في دار الدنيا، بل يجازيهم وينتقم منهم على مقتضى ظلمهم بلا زيادة ونقصان؛ عدلا منه.
والمعذبون بالعذاب الحرق هم { الذين قالوا } افتراء على الله في تعليل عدم إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم: { إن الله عهد إلينا } في التوراة، وأوصانا { ألا نؤمن } نقر { لرسول } أي: لكل رسول يدعي الرسالة من عنده، ويظهر المعجزات وفق عدواه { حتى يأتينا } في أظهرنا وبين أيدينا { بقربان تأكله } تحيلة { النار } النازلة من السماء؛ وذلك أنهم ادعوا أن أنبياء بني إسرائيل يتقربون إلى الله بقربان، فيقوم النبي يدعو، والناس حوله، فتنزل نار من جانب السماء فتحيل القربان إلى طبعها فجأة، وإحالته نارا علامة قبول الله قربانهم.
{ قل } يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما: { قد جآءكم رسل من قبلي بالبينات } أي: بالمعجزات الواضحة، الدالة على رسالاتهم { و } خصوصا { بالذي قلتم فلم قتلتموهم } مع إتيانهم بما اقترحتموهم { إن كنتم صادقين } [آل عمران: 183] بأن إيمانكم موقوف على هذه المعجزة.
{ فإن كذبوك } وأنكروا عليك يا أكمل الرسل فلا تبال بتكذيبهم وإنكارهم { فقد كذب رسل من قبلك } ذو معجزات كثيرة، وآيات عظام { جآءوا } على من أرسل إليهم { بالبينات } الواضحة { والزبر } أي: الصحف المثبتة فيها الأحكام فقط { والكتاب } المبين فيه الأحكام والمواعظ والرموز والإرشادات { المنير } [آل عمران: 184] على كل من استنار منه واسترشد، ومع ذلك ينكرونهم، فمضوا هم ومنكروهم.
[3.185-187]
إذ { كل نفس } خيرة كانت أو شريرة { ذآئقة } كأس { الموت } عند حلول الأجل المقدر له من عندنا { وإنما توفون أجوركم } تعطون؛ أي: جزاء أعمالكم خيرا كان أو شرا { يوم القيامة } التي هي يوم الجزاء { فمن زحزح } بعد منكم بعمله الصالح { عن النار } المعدة للفجرة والفساق { وأدخل } بها { الجنة } التي أعدت للسعداء { فقد فاز } فوزا عظيما، ومن لم يزحزح عن النار؛ لفساد عمله، وأدخل فيها بسببه، فقد خسر خسرانا مبينا { و } اعلموا أيها المكلفون بالإيمان والأعمال والصالحة المتفرعة عليه: { ما الحياة الدنيا } التي أنتم فيها تعيشون { إلا متاع الغرور } [آل عمران: 185] يغركم بلذاتها الفانية الغير القارة عن النعيم الدائم والسرور المستمر، وأنتم أيها المغررورون بمزخرفاتها لا تنتبهون.
والله أيها المؤمنون { لتبلون } ولتختبرن { في } إتلاف { أموالكم } التي هي من حطام الدنيا { و } إماتة { أنفسكم } وأولادكم التي هي الهالكة، المستهلكة في ذواتها { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } من اليهود والنصارى { ومن الذين أشركوا } ممن لا كتاب لهم و لانبي { أذى كثيرا } يؤذيكم سماعها؛ كل ذلك لتوطنوا أنفسكم على التوحيد، وتتمكنوا في مقام الرضا والتسليم وتستقروا في مقام العبودية، متمكنين، مطمئنين بلا تزلزل وتلوين { وإن تصبروا } أيها الموحدون بأمثالها { وتتقوا } عن الإضرار بها { فإن ذلك } الصبر والتقوى { من عزم الأمور } [آل عمران: 186] أي: الأمور التي هي من عزائم أرباب التوحيد، فعليكم أن تلازموها وتواظبوا عليها، إن كنتم راسخين فيه.
ثبتنا بلطفك على نهج الاستقامة، وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن يؤذيك، ومتبعيك من أهل الكتاب وقت { إذ أخذ الله } المرسل للرسل، المنزل للكتب { ميثاق } أي: العهد الوثيق { الذين أوتوا الكتاب } أي: أحبار اليهود والنصارى { لتبيننه } أي: الكتاب صريحا واضحا، بلا تبديل ولا تغيير { للناس ولا تكتمونه } شيئا مما فيه من القصص والعبر والرموز والإشارات، وخصوصا من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم { فنبذوه } بعدما عهدوه { ورآء ظهورهم } وإن كان المعهود عند أولي العزائم الصحيحة أن يكون نصب عيونهم { واشتروا به } أي: اختاروا بدله { ثمنا قليلا } من الرشى من مترفيهم ومستكبريهم؛ حفظا لجاههم ورئاستهم { فبئس ما يشترون } [آل عمران: 187] تلك الرشى بدل مما يكتمونه من أوصاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
[3.188-191]
{ لا تحسبن } أيها الكامل في أمر الرسالة المنافقين { الذين يفرحون بمآ أتوا } من الخداع والنفاق مع المؤمنين وإظهار الإيمان على طرف اللسان { ويحبون أن يحمدوا } عند إخوانهم { بما لم يفعلوا } من الإخلاص مع أهل الإيمان، وهم وإن أخلصوا عن أيدي المؤمنين، ظاهر انخداعهم ونفاقهم { فلا تحسبنهم بمفازة } منجاة ومخلص { من العذاب } المعد له في يوم الجزاء، بل { ولهم } فيها { عذاب أليم } [آل عمران: 188] مؤلم عن رؤيتهم المؤمنين، المخلصين في النعيم الدائم واللذة المستمرة.
{ و } إن اغتروا بإمهال الله إياهم في النشأة الدنيا، لا يمهلون في الآخرة؛ إذ { لله ملك السموت } أي: عالم الأرواح { والأرض } أيك علام الطبيعة، وله التصرف فيهما بالاستقلال، كيف يشاء؟ متى يشاء؟ بطشا وإمهالا { والله } المتفرد، المتوحد في ملكه ملكوته { على كل شيء } من الأنعام والانتقام { قدير } [آل عمران: 189] إكثارا وتقتيرا.
{ إن في خلق السموت } أي: الأسماء والأوصاف الفاعلة الفياضة { والأرض } أي: الطبيعة القابلة، المستعدة لقبول الفيض { واختلاف اليل } أي: آثار القبض والجلال { والنهار } أي: آثار البسط والجمال { لآيات } دلائل وعلامات دالة على رقائق المناسبات، ودقائق الارتباطات الواقعة بين الأسماء والصفات، المستدعية لظهور التجليات الظاهرة في الآفاق بسحب القوابل والمظاهر { لأولي الألباب } [آل عمران: 190] الواصلين إلى لب التوحيد، المنخلعين عن قشورة بالمرة.
وهم: { الذين يذكرون الله } المتوحد في ذاته في جميع حالالتهم { قياما } قائمين { وقعودا } قاعدين { وعلى جنوبهم } مضطجعين، متكئين { ويتفكرون } دائما { في خلق السموت والأرض } إلى أن سكروا، وترقى سكرهم إلآ ان تحيروا، بعد تحيرهم استغرقوا، وبعدما استغرقوا تاهوا، وبعدما تاهوا فاتوا، وحينئذ انقطع سيرهم، فمنهم من تمكن في تلك المرتبة واستقر عليها، ومنهم من صحى عن سكره ورجع إلى بدنه مستكملا، قائلا: { ربنآ ما خلقت هذا } المحسوس، المشاهد { باطلا } بلا طائل { سبحانك } ننزهك يا ربنا عن مدركات عقولننا وحواسنا { فقنا } واحفظنا بلطفك { عذاب النار } [آل عمران: 191] التي هي غفلتنا من مطالعة وجهك الكريم.
[3.192-194]
{ ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته } جعلته في مضيق الإمكان محبوسين، معذبين، مطرودين، فظلموا أنفسهم بالالتفات إلى غيرك { وما للظالمين } المستقرين، نفوسهم في ظلمة الإمكان { من أنصار } [آل عمران: 192] ينصرونهم ويخرجونهم منها، سوى من أبدت من عندك بأخراجهم من الأنبياء والأولياء، بعد توفيقك إيانا بإرسال الرسل.
{ ربنآ إننآ سمعنا مناديا } مشفقا، هاديا، مرشدا؛ إذ هو { ينادي } ويرشد { للإيمان } بتوحيدك قائلا: { أن آمنوا } أيها التائهون في ظلمة الإمكان { بربكم } الذي رباكم بنور الوجود { فآمنا } فامتثلنا أمره يا { ربنا } فتحققنا بإرشاده في مرتبة اليقين العلمي بوحدة ذاتك، وبعد تحققننا فيها { فاغفر } استر { لنا ذنوبنا } أنانيتنا التي صرنا بها محرومين عن ساحة حضورك، حتى يتحقق بلطفك وتوفيقك في مرتبة اليقين العيني بمعاينة ذاتك { و } بعد تحققنا فيها { كفر } طهر { عنا سيئاتنا } أوصافنا التي تشعر بالاثنينية بالكلية، حتى نتحقق بفضلك وجودك في مرتبة اليقين الحقي { و } بعد ذلك { توفنا } في فضاء الفناء { مع الأبرار } [آل عمران: 193] الفانين في الله، الباقين ببقائه.
{ ربنا } ثبتنا في مقام عبوديتك { وآتنا ما وعدتنا على } لسان { رسلك } من الكشوف والشهود وسائر ما جاءوا به، وأخبروا عنه { ولا تخزنا } تحرمنا { يوم القيامة } حين لقيناك عما وعدتنا من شرف لقائك { إنك } بلطفك وفضلك على عبادك { لا تخلف الميعاد } [آل عمران: 194] الذي وعدت من سعة رحمتك وجودك على عبادك.
[3.195-197]
ولما تضرعوا إلى الله، والتجأوا إليه، وندموا عما هم عليه { فاستجاب لهم ربهم } فاستقبل عليهم بالإجابة قائلا: { أني لا أضيع عمل عامل } مخلص { منكم } سواء كان { من ذكر أو أنثى } إذ { بعضكم } ناشئ { من بعض } ذكركم من أنثاكم، وأنثاكم من ذكركم في الإنسانية والمظهرية الجامعة اللائقة للخلافة، { فالذين هاجروا } منكم من دار الغرور، طالبا الوصول إلى دار السرور { وأخرجوا } بسبب هذا الميل { من ديرهم } المألوفة التي هي بقعة الإمكان { وأوذوا في سبيلي } بسبب قطع التعلقات وترك المألوفات { وقتلوا } مع القوى الحيوانية { وقتلوا } في الجهاد الأكبر.
{ لأكفرن } لأمحون وأطهرن { عنهم سيئاتهم } التي هي ذواتهم الباطلة، الهالكة { ولأدخلنهم جنت } ملاحظات ومكاشفات ومشاهدات { تجري من تحتها الأنهر } أي: أنهار المعارف والحقائق دائما ، متجددا { ثوابا } نازلا { من عند الله } تفضلا وامتنانا { والله } المستجمع شتات العباد { عنده حسن الثواب } [آل عمران: 195] وخير المنقلب والمآب.
{ لا يغرنك } يا أكمل الرسل { تقلب الذين كفروا } أي: انتقالهم وإرتحالهم { في البلاد } [آل عمران: 196] لاستجلاب المنافع والمتاجر.
إذ هو { متاع قليل } لذة يسيرة في مدة قسيرة { ثم } بعد انقضاء النشأة الأولى { مأواهم } ومنقلبهم { جهنم } البعد والخذلان، خالدين فيها أبدا { وبئس المهاد } [آل عمران: 197] مهد نيران الحرمان.
[3.198-200]
{ لكن الذين اتقوا ربهم } عن الاشتغال بزخرفة الدنيا وأمتعتها، منيبين إليه، متوجهين نحوه { لهم } عنده { جنات } منتزها من اللذة الروحانية { تجري من تحتها الأنهار } من العلوم الدينية { خالدين فيها نزلا من عند الله } حين وصلوا إليه { و } اعلموا أيها المؤمنون { ما عند الله } من المثوبات المستمرة واللذات الدائمة { خير للأبرار } [آل عمران: 198] المتوجهين إلى دار القرار.
{ وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله } المنزل للكتب المرسلة للرسل { و } لا يفرق بين الكتب والرسل أصلا، بل يؤمن بجميع { مآ أنزل إليكم } من القرآن والرسول الذي هو سيدنا محمد عليه السلام { ومآ أنزل إليهم } من التوراة والإنجيل، المنزلين على موسى وعيسى - عليهما السلام - وكذا على سائر الكتب المنزلة من عنده؛ لتحققهم في مقام العبودية والتوحيد، وهم في هذا الإيمان والإذعان { خشعين لله } مخلصين له.
وعلامة خشوعهم وإخلاصهم أنهم { لا يشترون بآيت الله } أي: بتبديلها { ثمنا قليلا } من الرشى، مثل أحبار اليهود ومتفقهة هذه الأمة في هذا العصر - خذلهم الله - وهم الذين يحتالون في أحكام الشريعة الغراء على مقتضى هويتم الفاسدة، ويأخذون الرشى؛ لأجل حيلهم الباطلة، ويسمونها حيلة شرعية، كأنه ظهر ما قال صلى الله عليه وسلم: " بدأ غريبا، وسيعود غريبا " ، { أولئك } المخلصون، الخاشعون { لهم أجرهم عند ربهم } يوفيهم أجورهم من حيث لا يحتسبون { إن الله } المطلع لضمائرهم { سريع الحساب } آل عمران: 199] يحاسب أعمالهم، ويجازيهم عليها سريعا، بل يزيد عليهم؛ تفضلا وامتنانا.
{ يا أيها الذين آمنوا } بتوحيد الله، مقتضى إيمانكم الصبر على متاعب مسالك التوحيد { اصبروا } على مشاق التكليفات الواقعة فيها { وصابروا } عالبوا على القوى النفسانية العائقة عن الرياضات المزكية للأهوية الفاسدة { ورابطوا } قلوبكم على المشاهدات والمكاشفات الواردة من النسمات الإلهية والنفسات الرحمانية { واتقوا الله } عن جميع اما يعوقكم ويشغلكم { لعلكم تفلحون } [آل عمران: 200] تفوزون منه بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ربنا أفرغ علينا صبرا، وتوفنا مسلمين، واحشرنا مع الصابرين المرابطين، هب لنا من لدنك رحمة إنك أرحم الراحمين.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المترصد لفيضان الكشف والشهود واليقين، ونزول الاطمئنان والتمكين أن تتصبر بما جرى عليك من المصيبات والبليات المشعرة للاختبارات الإلهية، وابتلائه عن رسوخ قدمك في جادة التوحيد، وصدق عزيمتك في مسلك الفناء، وعلو همتك في التحقق بدار البقاء.
وتربط قلبك بحقك الذي هو أصلك وحقيقتك، مقبلا عليه، متوجها إليه، مجتنبا عن جميع ما يعوقك عنه من لوازم ماهيتك وهويتك التي لا حقيقة لها عند التحقيق والإقرار لما يترتب عليها وعلى لوازمها؛ إذ هي أعراض متبدلة، وأظلال باطلة، وإعدام صرفة زائلة لا تحقق لها، ولا آثار لها أصلا سوى أن الوجود الحق انبسط عليها، وامتد إليها بجميع كمالات، فانعكس منه فيها ما انعكس، فيتراءى العكوس والأظلال مشعشعة متجددة دائما بمقتضى تجدد تجليات الأوصاف والأسماء، فظن المحجوبون أنها متناصلات، وهي عند التحقيق تجل واحد على هذا المنوال.
ارزقنا بلطفك حلاوة معرفتك وتوحيدك.
فلك أن تصفي ضميرك عن جميع ما يؤدي إلى التقليد والتخمين، وتفرغ خاطرك وسترك عن كل ما يوهم التعدد والكثرة، حتى انشرح صدرك واتسع قلبك؛ لتصيرمنزلا لسلطان الوجود الذي هو منبع جميع الكمالات والجود، وقبلة الواجد والموجود، والحوض المورود، والمقام المحمود.
وإياك إياك أن تقتضي أثر وساوس مقتضيات نفسك التي هي أعدى عدوك، وأشد ما يغويك ويضلك، بل جميع شياطينك إنما انتشأت منها، واستتبعت عليها، فعليك أن تلتجئ في الاجتناب من غوائلها بالرشد الكامل الذي هو القرآن المنزل من عند الله على خير الأنام، المؤيد من عند العليم العلام؛ ليهدي المضلين جادة التوحيد عن متابعة الشيطان المريد، ويوصلهم إلى صفاء التجريد وزلال التفريد بتوفيق من الله وجذب من جانبه.
وفقنا بلطفك وكرمك بما تحب عنا وترضى.
[4 - سورة النساء]
[4.1-3]
{ يأيها الناس } الذين نسوا الموطن الأصلي، والمنزل الحقيقي بزخرفة الدنيا المانعة من الوصول إليه، عليكم الاتقاء من غوائلها، والأجتناب عن مخايلها، حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الأصلية ومكانكم الحقيقي { اتقوا } أي: اجتنبوا والتجئوا { ربكم الذي } رباكم بحسن التربية، بأن { خلقكم } أظهركم وأوجدكم أولا { من نفس واحدة } هي المرتبة الفعالى، المحيطة بجميع المراتب الكونية والكيانية، وهي المرابت الجامعة المحمدية، المسماة بالعقل الكلي، والقلم الاعلى؛ تكميلا لباطنكم وغيبكم.
{ وخلق منها } بالنكاح المعنوي والزواج الحقيقي الواقع بين الأوصاف والأسماء الإلهية { زوجها } التي هي الكلية القابلة الفيضان عموم الآثار الصادرة من المبدأ المختار؛ تتميما لظاهركم وشهادتكم، حتى استحقوا الخلافة والنيةبة بحسب الظاهر والباطن { و } بعد جعلهما زوجين كذلك { بث } بسط ونشر { منهما } أيضا بتلك النكاح المذكور { رجالا كثيرا } فواعل مفيضات { ونسآء } قوابل مستفيضات كل لنظيرتها، على تفاوت دقائق المناسبات الواقعة بين التجليات الحبية على الوجه الذي بينتها الكتب والرسل.
ولما كان الرب من الأسماء التي تتفاوت بتفاوت المربوب، صرح بألوهيته المستجمعة لجميع الأوصاف والأسماء بلا تفاوت، تأكيدا ومبالغة لأمر التقوى، فقال: { واتقوا الله } أي: واحذروا عما يشغلكم عنه سباحنه، مع أنه أقرب إليكم من حبل وريدكم؛ إذ هو { الذي تسآءلون } تتساءلون وتتنافسون { به } وتتوهمون بعده من غاية قربه { و } احفظوا { الأرحام } المنبئة عن النكاح المعنوي والزواج الحيي على الوجه الذي ذكره { إن الله } المحيط بكم وبأحوالكم { كان عليكم } دائما { رقيبا } [النساء: 1] حفيظا يحفظكم عما لا يغنيكم إن أخلصتم التوجه.
ومن جملة الأمور التي يجب المحافظة عليها أيها المأمورون بالتقوى: حقوق اليتامى، فعليكم أيها الأولياء والأوصيا أن تحفظوا مال اليتيم حين موت أبيه أو جده، وتزيدوه بالمرابحة والمعاملة، وتصرفوا بقدر الكفاف.
{ و } بعد البلوغ { آتوا اليتامى } قبل البلوغ؛ إذ لا يتم بعد البلوغ { أموالهم } المحفوظة، الموروثة من آبائهم { و } عليكم حين الأداء أن { لا تتبدلوا الخبيث } الرديء من أموالكم { بالطيب } الجيد من أموالهم { و } أيضا، عليكمإن أردتم التصرف في أموالهم مقدار معاشهم أن { لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } أي: مع أموالكم مختلطين { إنه } أي: التصرف في أموالهم بلا رعاية غبطتهم { كان حوبا كبيرا } [النساء: 2] إثما عظيما، مسقطا للمروءة بالمرة.
{ وإن خفتم } أيها الأولياء { ألا تقسطوا } ولا تعدلوا { في } حفظ { اليتامى } النساء اللاتي لهن مال وجمال { فانكحوا ما طاب لكم من النسآء } البالغة مقدار ما يسكن مليكم إلى اليتامى وشهوتكم إليهن { مثنى وثلث وربع } أي: اثنين اثنين، وثلاث ثلاث، وأربعة أربعة، على تفاوت ميولكم إن حفظتم العدالة بينهن.
{ فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة } أي: فلكم نكاح الواحدة؛ لتأمنوا من الفتنة، سواء كانت من الحرائر { أو ما ملكت أيمنكم } من الإماء، ثم لما لم يكن في الإسلام رهبانية؛ لأن الحكمة تقتضي عدمها، كما أشار إلأيه صلى الله عله وسلم بقوله:
" لا رهبانية في الإسلام "
، نبه سبحانه على أقل مرتبة الزواج الصوري، المنبئ عن النكاح المعنوي والارتباط الحقيقي بقوله: { ذلك } أي: نكاح الواحدة، والقناعة بالإماء { أدنى } مرتبة الزواج على الذين يخافون { ألا تعولوا } [النساء: 3] أي: من كثرة العيال.
[4.4-6]
{ و } إذا أردتم النكاح أيها المسلمون { ءاتوا النسآء } الحرائر، والإماء لغيركم { صدقتهن } أي: مهورهن { نحلة } بتة مؤبدا بلا حيلة وخديعة { فإن طبن } هن { لكم } لإفراط محبتكم في قلوبهن { عن شيء } كل أو بعض { منه } أي: من المهر { نفسا } رغبة ورضا، لا كرها واستحياء { فكلوه } أي: الشيء الموهوب من المهر { هنيئا } حلالا { مريئا } [النساء: 4] طيبا؛ تقويما لمزاجكم؛ لإقامة القسط والعدل الذي هو من حدود الله المتعلقة بالقتوى.
{ و } أيضا من جملة الحقوق المتعلقة بالتقوى أيها الأولياء أن { لا تؤتوا السفهآء } سواء كانوا من أصلابكم وما ينتمي إليكم، وهم الذين خرجوا عن طور العقل ومرتبة التدبير والتكليف { أموالكم التي جعل الله } ملكا { لكم } أيها العقلاء المكلفون { قيما } سببا لقيامكم على الطاعة والعبادة { و } لكن { ارزقوهم } أي: اجعلوا طعامهم وسائر حوائجهم في مدة أعمالهم { فيها } في ربحها ونمائها { واكسوهم } أيضا منها { و } إن كان منهم له أدنى شعور بأمر الإضافة والتمليك، ولكن لا ينتهي إلى التدبير والتصرف المشروع { قولوا لهم } لهؤلاء المخطئين من مرتبة العقلاء { قولا معروفا } [النساء: 5] مستحسنا عقلا وشرعا؛ لئلا ينكسر قلوبهم.
{ و } أيضا من جملة الأمور التي وجب حفظها: ابتلاء أو رشد اليتامى قبل أداء أموالهم إليهم { ابتلوا } اختبروا وجربوا أيها الأولياء عقول { اليتامى } وتدابيرهم في التصرفات الجارية بين أصحاب المعاملات { حتى إذا بلغوا النكاح } أي: السن المعتبر في باب النكاح، هو خمسة عشر عند الشافعي - رحمة الله عليه - وثمانية عشر عند أبي حنيفة { فإن آنستم } أي: أشعرتم وأحسستم { منهم رشدا } تدبيرا كافيا، وافيا للتصرفات الشرعية { فادفعوا إليهم أموالهم } على الوجه المذكور بلا مماطلة وتأخير، وإن لم تؤنسوا الرشد المعتبر فيهم لا تدفعوها، بل تحفظوها إلى إيناس الرشد.
لكن { ولا تأكلوهآ إسرافا } مسرفين في أجرة المحافظة { وبدارا } مبادرين في أكلها؛ خوفا { أن يكبروا } ويخرجوها من أيديكم { ومن كان } منكم أيها الاولياء { غنيا } ذو يسر { فليستعفف } من أكلها، والتعفف منها خير له في الدنيا والآخرة { ومن كان } منكم { فقيرا } ذا عسر { فليأكل } منها { بالمعروف } المعتدل، لا ناقصا من أجرة حفظ، ولا زائدا عليها؛ حفظا للغبطتين { فإذا دفعتم } أيها الأولياء بعدما آنستم الرشد المعتبر منهم { إليهم أموالهم فأشهدوا } فأحضروا ذوي عدل من المسلمين { عليهم } ليشهدوا فيماجرى بينك وبينهم { وكفى بالله حسيبا } [النساء: 6] أي: كفى الله حسيبا فيماجرى بينكم وبينه سبحانه في مدة المحافظة، يحاسبكم ويجازيكم على مقتضى حسابه.
ومن خطر هذه التصرفات، كان أرباب الولاء من المشايخ - قدس الله أسرارهم - يمنعون أهل الإرادة عن أمثالها؛ لأن البشر قلما يخلون عن الخطر، خصوصا في أمثال هذه المزالق.
ثبت أقدامنا على جادة توحيدك، وجنبنا عن الخطر والتزلزل منها بمنك وجودك.
[4.7-10]
ثم لما أمر أولا سبحانه عباده بالتقوى على وجه المبالغة والتأكيد، وقرن عليه حفظ الأرحام ومراعاة الأيتام، ومواساة السفهاء المنحطين عن درجة العقلاء، أراد أن يبين أحوال المواريث والمتوارثين مطلقا، حتى لا يقع التغالب والتظالم فيها كما في الجاهلية الأولى؛ إذ روي أنهم لا يرثون النساء معللين بأنهن لا يحضرن الوغى ولا يدفعون العدو.
رد الله عليهم وعين لكل واحد من الفريقين نصيبا مفروزا مفروظا، فقال: { للرجال } سواء كانوا بالغين أم لا، عقلاء أم سفهاء { نصيب } بينهم مفروض مقدر { مما ترك الوالدان والأقربون وللنسآء } أيضا بالغات، عاقلات أم لا { نصيب } مقدر { مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه } المتروك { أو كثر نصيبا مفروضا } [النساء: 7] مقدرا في كتاب الله، كما يجيء بيانه وتعيينه من قريب.
{ و } من جملة الأمور المترتبة على التقوى: تصدق الوارثين من المتروك { إذا حضر القسمة } أي: وقتها { أولوا القربى } المقلين، المحجوبين عن الإرث { واليتامى } الذين لا مال لهم ولا متعهد لهم { والمساكين } الفاقدين وجه المعاش { فارزقوهم منه } أي: فاعطوهم أيها الوارثون من المقسم المتروك مقدار ما لا يؤدي إلى تحريم الورثة { وقولوا لهم } حين الإعطاء { قولا معروفا } [النساء: 8] خاليا عن وصمة المن والأذى.
{ وليخش } من سخط الله وغضبه الأوصياء أو الحضار { الذين } حضروا عند من أشرف على الموت أن يلقنوا له التصدق من ماله على وجه يؤدي إلى تحريم الورثة، وعلى الحضار أن يفرضوا { لو } ماتوا أو { تركوا من خلفهم ذرية } أخلافا { ضعافا } بلا مال ولا متعهد { خافوا عليهم } البتة ألا يضيعوا، فيكف لا يخافون على أولئك الضعاف الضياع؟! بل المؤمن لا بد أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه بل أولى منه { فليتقوا الله } أولئك الحضار أو الأوصياء عن التلقين المخل لنصيب الورثة { وليقولوا } له ويلقنوا عليه { قولا سديدا } [النساء: 9] معتدلا بين طرفي الإفراط والتفريط؛ رعاية للجانبين، وحفظا للغبطتين.
ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على الظالمين المولعين في أكل أموال اليتامى من الحكام والأوصياء والمتغلبة من الورثة: { إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما } بلا رخصة شرعية { إنما يأكلون } ويدخرون { في بطونهم نارا } معنويا في النشأة الأولى، مستتبعا النار الصوري في النشأة الأخرى، وهي نار البعد والخذلان { و } هم فيها { سيصلون } أي: سيدخلون { سعيرا } [النساء: 10] لا ينجو منها أحد.
[4.11]
ثم لما قدر سبحانه على المتوارثين نصيبا مفروضا على وجه الإجمال، أراد أن يفصل ويعين أنصباءهم، فقال: { يوصيكم الله } أي: يأخذ منكم العهد ويأمركم بمحافظته { في } حق { أولدكم } المستخلفين بعدكم، وهو أن يقسم متروك المتوفى منكم بينهم { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي: لأن كل ذكر لا بد له من أنثى أو أكثر ليتزوجها، حتى يتم أمر النظام الإلهي والنكاح المعنوي، ويجب عليه جميع حوائجها، وكذا لكل أنثى لا بد لها من ذكر ينكحها بعين ما ذكر، ويأتي بحوائجها، فاقتضت أيضا الحكمة الألهية أن يكون نصيبهما بقدر كفافهما واحتياجهما؛ لذلك عينه سبحانه هكذا.
{ فإن كن } أي: الوارثات { نسآء } خلصا ليس بينهن ذكور، هن { فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } المتوفى { وإن كانت } الوارثة بنتا { واحدة } فقط { فلها النصف } مما ترك المتوفى، وإن كانتا بنتين فقط، فقد اختلف فيهما، فقال ابن عباس: حكمهما حكم الواحدة، وقال الباقون: حكمهما حكم ما فوق الاثنين، وعلى هذا يكون لفظة: { فوق } مقحما، كما في قوله تعالى:
فاضربوا فوق الأعناق
[الأنفال: 12] وكذا عين سبحانه نصيب الأبوين، فقال: { ولأبويه } أي: لأبوي المتوفى { لكل واحد منهما السدس مما ترك } المتوفى { إن كان له ولد } ذكرا أو أنثى { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } وللأب الباقي، هذا إذا لم يكن له غير الأب والأم وارث.
{ فإن كان له إخوة } للمتوفى { فلأمه السدس } أي: تردون الأم من الثلث إلى السدس بخلاف الأب، فإنهم لا يرثون معه هذه القسمة والأنصباء المعينة { من بعد } إخراجه { وصية يوصي بهآ } من ماله للفقراء { أو } قضاء { دين } كان في ذمته، وهما أيضا بعد تجهيزه وتكفينه، ثم أشار سبحانه إلى أن أمر الميراث وتعيين الأنصباء أمر تعبدي، ليس لكم أن تتخلفوا عنها؛ لمقتضى ميلكم وظنكم، إلى أن تورثوا بعض الورثة وتحرموا الآخر، بل لكم ألا تفاوتوا بينهم، سواء كانوا { آبآؤكم وأبناؤكم }.
إذ { لا تدرون } ولا تعلمون جزما { أيهم أقرب لكم نفعا } في الدار الآخرة عند الله فعليكم ألا تتجاوزوا عن قسمة الله، بل انقادوا لها واعتدوها { فريضة } مقدرة { من } عندن { الله } صادرة عن محض العلم و الحكمة { إن الله } المصلح لأحوال عباده { كان عليما } بمصالحهم { حكيما } [النساء: 11] في ترتيبها وتدبيرها.
[4.12]
{ ولكم } أيها الذكور { نصف ما ترك أزوجكم } من الإناث { إن لم يكن لهن ولد } منكم أو من غيركم، أو ولد ولدس وإن سفل { فإن كان لهن ولد } أو ولد ولد كما ذكر { فلكم الربع مما تركن } هن أيضا { من بعد } تنفيذ { وصية يوصين بهآ } للفقراء { أو } أداء { دين } لازم عليهن { ولهن } أي: للنساء الوارثات { الربع مما تركتم } أيها الأزواج { إن لم يكن لكم ولد } منها أو من غيرها، أو ولد ولد مثل ما مر { فإن كان لكم ولد } على التعميم المذكور { فلهن الثمن مما تركتم } ذلك أيضا { من بعد } تنفيذ { وصية توصون بهآ } تقربا إلى الله { أو } قضاء { دين } لزم على ذمتكم.
{ وإن كان } المتوفى { رجل يورث } منه، وكان { كللة } ليس لها والد ولا ولد { أو امرأة } كذلك { وله } للرجل { أخ أو أخت } لأم؛ لأن حكم الأخ والأخت من الأبوين أو من الأب سيجيء في آخر السورة، فلا بد أن يصرف ها هنا إلى ما صرف { فلكل واحد منهما السدس } من ماله { فإن كانوا } أي: الإخوة والأخوات من الأم { أكثر من ذلك فهم } بأجمعهم { شركآء في الثلث } على السوية؛ لاشتراك السبب بينهم، ذلك أيضا { من بعد } إخراج { وصية يوصى بهآ أو دين } يقتضى فعليكم أيها الحكام أن تتخذوا هذه القسمة { غير مضآر وصية } عهدا صادرا، ناشئا { من الله } لإصلاح أحوال عباده { والله } المصلح بين عباده { عليم } بمصالحهم { حليم } [النساء: 12] لا يعجل بالانتقام على من امتنع عن حكمه.
[4.13-14]
{ تلك } المذكورات من الأمور المتعلقة بأحوال الأموات { حدود الله } الموضوعة بينكم أيها المؤمنون بالله ورسوله { ومن يطع الله } في امتثال أوامره واجتناب نواهيه { ورسوله } في جميع ما جاء به من عند ربه من الأمور المتعلقة؛ لتهذيب الظاهر والباطن من الكدورات البشرية والعلائق الدينية { يدخله } الله بفضله ولطفه { جنات } منتزهات التوحيد وهي اليقين العلمي والعيني والحقي { تجري من تحتها الأنهار } أنهار المعارف الجزئية من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وهم لا يتحولون عنها، بل صاروا { خالدين فيها } أبدا { وذلك } أي: الخلود فيها، هو { الفوز العظيم } [النساء: 13] والفضل الكريم، طوبى لمن فاز من الله بالفوز العظيم.
{ ومن يعص الله } بإنكار الأوامر، والإصرار على النواهي { ورسوله } بالتكذيب والإيذاء وعدم الإطاعة { ويتعد حدوده } الموضوعة بين عباده { يدخله } الله باسمه المنتقم { نارا } هي نار البعد والطرد عن كنفه وجوده، فصار { خالدا فيها } أبدا { وله } بعصيانه وإصراره عليه { عذاب مهين } [النساء: 14] يبعده عن ساحة عن الحضور.
أدركنا بلطفك يا خفي الألطاف.
ثم لما بين سبحانه أحكام المواريث وأحكام أحوال المتوارثين، وعين سهامهم وأنصباءهم، أراد أن يحذر المؤمنين عن الزنا التي هي هتك حرمة الله الموضوعة بين الإزواجات الحبية الإلهية، واختلاط الأنساب المصححة للأحكام المذكورة، وبالجملة: هي الخروج عن السنة الإلهية التي سنها بين عباده على طريق الحكمة والمصلحة الإلهية الصالحة، والمصلحة لأصل فطرتهم التي خلقوا عليها، هي التوحيد الذاتي.
والزنا يتصور بين المرء والمرأة الأجنبية المحرمة؛ لذلك قدم سبحانه أمر النساء، وبين أحكامهن وأحال حكم الرجال على المقايسة؛ لقباحتها وشناعتها، كأنه استبعد سبحانه عن أهل الإيمان أمثال هذه الآثام والجرائم العظام الأخر الناقصات؛ ولأنهن في أنفسهن شباك شياطين، يصطادون بهن ضعفاء المؤمنين وأقوياءهم أيضا، على ما نطق به حديث النبي - صلوات الله على قائله -:
" ما آيس الشيطان من ابن آدم إلا ويأتيهم من قبل النساء ".
[4.15-17]
{ واللاتي يأتين الفحشة } الفعلة القبيحة التي هي الزنا، وهن { من نسآئكم } وفي حجركم ونكاحكم، فأخبرتم بها - العياذ بالله - فعليكم في تلك الحالة ألا تبادروا إلى رميها ورجمها، بل { فاستشهدوا } اطلبوا الشهداء من المخبر؛ ليشهدوا { عليهن } بالزنا، والمعتبر أن يكون { أربعة منكم } أي: من عدول، رجالكم، بشرط ألا يسبق منهم تحبسس وترقب، بل وقع منهم النظر بغتة على سبيل الاتفاق، فيرون ما يرون، كالميل في المكحلة، مستكرهين، مستعجبين.
{ فإن شهدوا } هؤلاء الشهود على الوجه المعهود، فعليكم أيها المؤمنون، المستحفظون لحدود الله ألا تضطروا، ولا تستعجلوا في مقتهن وإخراجهن، بل عليكم الإمساك { فأمسكوهن في البيوت } التي أنتم فيها بلا مراودة إليهن؛ كيلا يلحق عليكم بالإخراج عار آخر، بل اتركوهن فيها { حتى يتوفاهن الموت } الطبيعي { أو يجعل الله } أي: يحكم الله { لهن } أي: في حقهن { سبيلا } [النساء: 15] حكما مبرما، هذا في بدء الإسلام، ثم نسخ بآية الرجم والجلد.
{ واللذان يأتيانها } أي: الفعلة القبيحة التي هي اللواطة، وهما الآتي والمأتي { منكم } أيها الرجال وهذا أفحش من الزنا؛ لخروج كل منهما عن حد الله، وانحطاطهما عن كمال الإنسان؛ لارتكابهما شئا لا يقتضيه العقل والشرع بخلاف الزن، ولشناعها وخباثتها لم يعين لها سبحانه حدا في كتابه المبين لأخلاق الإنسان، كأن هؤلاء ليسوا من الإنسان، بل من البهائم، بل أسوأ حالا منها، لذلك قال: { فآذوهما } إيذاء بليغا، وتعزيزا شديدا حتى يمتنعوا { فإن تابا } وامتنعا { وأصلحا } ما أفسد بالتوبة والندامة { فأعرضوا عنهمآ } متغفرين لهما من الله، مستشفعين عنهما، غير موبخين ومقرعين عليهما { إن الله } المطلع لأحوال عباده المذنبين { كان توابا } لهم، يرجعهم عما صدر عنهم نادمين { رحيما } [النساء: 16] يعفو عنهم.
ثم قال سبحانه: { إنما التوبة } أي: ما التوبة المبرورة المقبولة إلا التوبة الناشئة من محض الندامة المتفرعة على تنبيه القلب عن قبيح المعصية، وهي المصححة، الباعثة { على } قبول { الله } إياها، النافعة { للذين } أي: للمؤمنين الذين { يعملون السوء } الفعلة الذميمة لا عن قصد وروية، بل { بجهالة } عن قبحه ووخامة عاقبته { ثم } لما تأملوا وأدركوا قبحها { يتوبون } يبادرون إلى التوبة والرجوع { من } زمان { قريب } أي: قبل الانتهاء إلى وقت الإلجاء { فأولئك } التائبون، المبادرون على التوبة قبل حلول الأجل { يتوب الله عليهم } أي: يقبل توبتهم بعدما وفقهم عليها، ولقنهم بها { وكان الله } المطلع على ضمائرهم { عليما } بمعاصيهم في سابق علمه { حكيما } [النساء: 17] في إلزام التوبة عليهم ليجبروا بها ما انكسروا على نفوسهم.
[4.18-19]
{ وليست التوبة } الصادرة حين الإلجاء والاضطرار نافعة { للذين يعملون السيئات } في مدة أعمارهم، مسوفين التوبة فيها { حتى إذا حضر أحدهم الموت } الملجئ إليها { قال } متحسرا، متأسفا مضطرا بعدما آيس من الحياة، وأبصر أمارات الموت في نفسه على السكرات: { إني تبت الآن } على وجه التأكيد والمبالغة، وهي لا تنفع له وإن بالغ، والسر في عدم قبول الله إياها؛ لأن الإنابة والرجوع إلى الله لا بد أن يكون عن قصد واختيار، حتى يعتبر عند الله ويقبل، لا عن الإلجاء الاضطرار؛ إذ لا يتصف التائب حينئذ بالعبودية والإطاعة وقصد التقرب إلى الله.
بل { ولا } فرق بينهم وبين الكافرين { الذين يموتون وهم } في حال الموت { كفار } كما كان { أولئك } المسوفون، المقصرون في أمر التوبة { أعتدنا } هيأنا باسمنا المنتقم في النشأة الأخرى { لهم عذابا } حرمانا وطردا { أليما } [النساء: 18] مؤلما؛ لرؤيتهم التائبين المبادرين عليها في مقعهد صدق عند مليك مقتدر على الإنعام والانتقام.
تب علينا بفضلك، إنك أنت التواب الرحيم.
ثم لما كانت العادة في الجاهلية إيراث النساء كرها، وذلك أنه لو مات واحد منهم وله عصبة، ألقى ثوبه على امرأة الميت، فكانت في تصرفه وحمايته، وله اختيارها، سواء تزوجها بالصداق الأول أو إكراها أو طوعا، ويضر عليها، ويمنعها إلى أن يقدم له مثل صداقها، ثم أطلقها، نبه سبحانه على المؤمنين ألا تصدر عنهم أمثال هذا فقال: { يأيها الذين ءامنوا } بالله ورسوله اتركوا جميع ما كان عليكم في جاهليتكم قبل الإيمان، سيما إيراث النساء، واعلموا أنه { لا يحل لكم } في دينكم وشرعكم { أن ترثوا النسآء } أي: نساء أقاربكم ومورثكم، وتزوجوهن أو تفدوا منهن { كرها } حال كونكم مكرهين، أو هن كارهات لتزويجكم.
{ و } أيضا من الحدود المتعلقة بأمور النساء أن { لا تعضلوهن } مطلقا؛ أي: لا يحل أن تضيقوا على نسائكم حين انتقضت محبتكم إياهن، وقل وقعن عندكم إلى أن تلجئوهن بالفدية والخلع { لتذهبوا } حين الطلاق { ببعض مآ ءاتيتموهن } أو كلها حين النكاح { إلا أن يأتين } - العياذ بالله تعالى - { بفحشة } فعلة قبيحة، محرمة عقلا وشرعا { مبينة } ثابتة ظاهرة { و } إن لم يأتين بشيء من الفواحش { عاشروهن بالمعروف } المستحسن عقلا وشرعا { فإن كرهتموهن } طبعا عليكم أن تكذبوا طباعكم المخالفة للعقل والشرع؛ إذ هي من طغيان القوة البهيمية، لا تبالوا بها وبمقتضاها { فعسى أن تكرهوا شيئا } بمقتضى طبعكم { و } لا تعلمون أن { يجعل الله فيه } بمقتضى حكمته ومصلحته { خيرا كثيرا } [النساء: 19] نافعا لكم ولغيركم.
[4.20-22]
{ وإن } غلب عليكم بمقتضى طبعكم { أردتم استبدال زوج } منكوحة جديدة { مكان زوج } قديمة أردتم تطليقها، فعلكيم في دينكم ألا تأخذوا من المطلقة شيئا { و } إن { آتيتم } حالة النكاح { إحداهن } أي: كل واحدة منهم إن كن أكثر من واحدة { قنطارا } مالا كثيرا منضدا، مخزونا { فلا تأخذوا منه } من القنطار { شيئا } قليلا نزا يسيرا { أتأخذونه } أي: من مهورهن أيها المفرطون في متابعة الطبيعة { بهتانا } تفترونه عليهن { و } تكسبون به { إثما مبينا } [النساء: 20] عظيما عند الله وعند المؤمنين.
{ وكيف تأخذونه } ولا تعلمون { و } تستحضرون أنه { قد أفضى } وصل بالمهر { بعضكم } ذكوركم { إلى بعض } إناثكم { وأخذن } عهدهن { منكم } من أجلكم ورعاية غبطتكم { ميثقا غليظا } [النساء: 21] عهدا وثيقا لا ينفصم أصلا، وهو ألا يأتين بفاحشة، ولا يبيدن زينتهن إلا لبعولتهن، وأن يقصرن نظرهن عليكم، ويخدمن ويحسن المعاشرة، إلى غير ذلك من الحدود والحقوق.
{ و } أيضا من الحدود المتعلقة بأمر النساء أن { لا تنكحوا } أي: لا تطئوا ولا تجامعوا أيها المؤمنون { ما نكح } ما وطئ { ءابآؤكم } أسلافكم سواء كانوا مؤمنين أو كفارا { من النسآء } سواء كن أمهاتكم أم لا، حرائر ورقيقات لاستهجان هذا الأمر عقلا وشرعا ومروءة بل طبعا، بناء على ما حكي عن بعض الحيوانات أنه لا يجامع مع أمه لتبة كالفرس النجيب وغيره، ومن أتى ما نهي عنه فقد استحق مقت الله وطرده { إلا ما قد سلف } سبق من وقوعه قبل ورورد النهي { إنه } أي نكاح منكوحة الأسلاف { كان } صار { فاحشة } عظيمة من الفواحش التي منعها الشرع { و } مع ذلك { مقتا } حرمانا وطردا عن مربتة الإنسانية، لذلك سمى العرب من حصل منه: المقتى { وسآء سبيلا } [النساء: 22] لمن أتى به سبيل البعد والخذلان عن ساحة الحضور.
عصمنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
[4.23]
ومن شدة سناعته وعظيم قبحه عند الله، قدمه سبحانه على جميع المحرمات ثم فرعها عليه بقوله: { حرمت عليكم } في دينكم { أمهتكم } أي: نكاحها مطلقا { وبنتكم } أيضا كذلك { وأخوتكم } مع من يتفرع عليهن { وعمتكم } أنفسهن { وخالتكم } أيضا كذلك { وبنات الأخ } من الأبوين أو من الأب أو من الأم { وبنات الأخت } أيضا كذلك { و } أيضا حرمت عليكم { أمهتكم } من الأجنبيات { التي أرضعنكم } مصة أو مصتين { و } حرمت أيضا { أخوتكم من الرضعة } إذ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب غالبا { و } كذا حرمت عليكم { أمهت نسآئكم } لحرمة المصاهرة { و } أيضا حرمت عليكم { ربائبكم التي في حجوركم } حال كون تلك الربائب { من نسآئكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح } أي: لا ضيق { عليكم } في تزويجهن { و } كذا حرمت عليكم في دينكم { حلئل أبنائكم الذين } حصلوا { من أصلبكم و } كذا حرمت عليكم { أن تجمعوا بين الأختين } في زمان واحد { إلا ما قد سلف } أمثال هذا منكم قبل إيمانكم فإنكم لا تؤخذون عليه { إن الله } المصلح لأحوالكم { كان غفورا } لذنوبكم بعد إنابتك واستغفاركم { رحيما } [النساء: 23] لكم يقبل توبتكم وإن عظمت زلتكم.
[4.24]
{ و } حرمت أيضا عليكم { المحصنت من النسآء } الأجنبيات اللاتي أحصنهن أزواجهن { إلا ما ملكت أيمنكم } من المسبيات اللاتي لهن أزواج كفار؛ إذ بالسبي يرتفع النكاح، فصار تلك المحرمات { كتب الله عليكم } أي: من الأمور التي حرمه الله عليكم حتما مقتضيا { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي: ما سوى المحرمات المذكورة، وإنما أحل لكم ما أحل { أن تبتغوا } أي: لأن تطلبوا { بأمولكم } أزواجا حلائل مصلحات لدينكم، صالحات لإبقاء نوعكم حال كونكم { محصنين } بهن دينكم { غير مسفحين } أي: مجتنبين عن الزنا المؤدي إلى إبطال حكمة الله وإفساد مصلحته { فما استمتعتم } أي: فمن انتفعتم واجتمعتم { به } بسبب المهر حين العقد { منهن } أي: من النساء اللاتي أحلهن الله لكم أيها المؤمنون { فآتوهن } أي: فعليكم أن تدفعوا إليهن { أجورهن } مهورهن معتقدين أداءها { فريضة } أي: مما فرض الله لكم في دينكم واجبة الأداء شرعا وعقلا؛ إذ الإفضاء إنما هو بسببه كما هر، هذا إذا كانت المرأة طالبة كمال مهرها.
{ ولا جناح } أي: لا مواخذة { عليكم فيما ترضيتم به } من الأخذ والترك والزيادة والنقصان بعدما حصل التراضي من الجانبين { من بعد الفريضة } المقدرة الواجبة الأداء، هذا الحكم مما يقبل التغيير بعد المراضاة { إن الله } المصلح لأحوال عباده { كان عليما } في سابق علمه بصلحهم ومراضاتهم { حكيما } [النساء: 24] في إصدارها عنهم إصلاحا لمعاشهم.
[4.25-26]
{ ومن لم يستطع منكم طولا } اقتدارا وغنى { أن ينكح } به { المحصنت } المتعففات الحرائر { المؤمنت فمن ما ملكت أيمنكم } أي: فعليكم أن تنكحوا { من فتيتكم } أي: إمائكم { المؤمنت } المقرات بكلمتي الشهادة ظاهرا { والله } المطلع بضمائر عباده { أعلم بإيمنكم } وإيمانهن وكفرهن وكلكم في أنفسكم أمثال أكفاء؛ إذ { بعضكم } يا بني آدم قد حصل { من بعض } والتفاضل بينكم إنما هو في علم الله، وإن اضطررتم إلى نكاح الإماء { فانكحوهن بإذن أهلهن } أربابهن { وآتوهن أجورهن } أي: أعطوهن أجور مهورهن المسماة لهن بإذن أهلهن { بالمعروف } إعطاء مستحسنا عقلا وشرعا بلا مطل وتسويف واضطرار وتنقيص حال كونهن { محصنت } عفائف { غير مسفحت } زانيات مجاهرات غير حاجزات { ولا متخذت أخدان } وأخلان.
{ فإذآ أحصن } وأنكحن بعد وجود الشرائط المذكورة المستحسنة عند الله وعند المؤمنين { فإن أتين } بعدما أحصن { بفحشة فعليهن نصف ما على المحصنت } الحرائر { من العذاب } أي: الذي حد الله لهن في كتابه سوى الرجم؛ إذ لا يجري التنصيف فيه لذلك لم يشرع في حد الرقيق { ذلك } أي: نكاح الإماء إنما يرخص { لمن خشي العنت منكم } أي: الوقوع في الزنا أيها المؤمنون المجتنبون عن المحرمات { وأن تصبروا } أيها الفاقدون المؤمنون لوجه المعاش وترتاضوا نفوسكم بتقليل الأغذية المستمنية المثيرة للقوة الشهوية الموقعة للمهالك، وتدفعوا أمارة إثارتكم بالقاطع العقلي والواضح الشرعي، وتترنوا على عفة العزومة، وتسكنوا نار الطبيعة بقطع النطر والاتقاء عن المخاطر فهو { خير لكم } من نكاح الإماء بل من نكاح أكثر الحرائر أيضا سيما في هذا الزمن { والله } المطلع لضمائر عباده { غفور } لذنوب من صبر ولم ينكح لقلة معاشهم { رحيم } [النساء: 25] له بحفظه عن الفرطات والعثرات في أمر المعاش.
عصمنا الله من المهالك المتعلقة بالمعاش بفضله وطوله.
إنما { يريد الله } بتعيين المحرمات وبتبيين المحللات { ليبين لكم } أيها المؤمنون طريق الرشد والغي والهداية والضلالة { ويهديكم } أي: يشرشدكم ويوصلكم { سنن الذين } مضوا { من قبلكم } من أرباب الولاء والمكاشفات بسر التوحيد { ويتوب عليكم } يرجعكم عن ميل المزخرفات الدنية الدنيوية؛ ليصولكم إلى المراتب العلية الأخروية { والله } الهادي لعباده إلى توحيده { عليم } بمصالحهم الموصلة إليه { حكيم } [النساء: 26] في إلقائها إليهم في ضمن العظة والعبر والقصص والتواريخ والرموز والإشارات ليرتاضوا بها نفوسهم حتى تستعد قلوبهم لنزول سلطان التوحيد المفني للغير والسوى مطلقا.
[4.27-30]
ثم كرر سبحانه ذكر التوبة والرجوع عن المزخرفات الباطلة المانعة من الوصول إلى دار السرور حثا للمؤمنين إليها؛ ليفوزوا بمرتبة التوحيد بقوله: { والله } المرشد لكم إلى توحيده الذاتي { يريد أن يتوب عليكم } أي: يفوقكم على التوبة التي هي الرجوع عما سوى الحق مطلقا، ومتى انفتح عليكم باب التوبة انفتح باب الطلب المستلزم للترقي والتقرب نحو المطلوب، إلى أن يتولد من الشوق المزعج إلى المحبة المفنية لغير المحبوب مطلقا، بل نفس المحبة بل نفس المحبوب أيضا، كما حكي عن مجنون العامري أنه وله يوما من الأيام واستغرق في بحر المحبة إلى أن اضمحلت عن بصره غشاوة التعيينات مطلقا، بل ارتفع حجب الاثنينية رأسا، وفي تلك الحالة السريعة الزوال تمثل ليلى قائمة على رأسها فصاحت عليه صيحة: عمن اشتغلت يا مجنون؟ فقال: طاب وقته وعنى على حال فإن حبك شغلني عنك وعني.
ثم قال سبحانه: { ويريد الذين } يضلونكم عن طريق التوحيد المسقط لجميع الرسوم والعادات بوضع طرق غير طريق الشرع مبتدعا أو منسوبا إلى مبتدع، وعينوا فيه اللباس والكسوة المعنية، ومع ذلك { يتبعون الشهوات } ويبيحون المحرمات، ويرتكبون المنهيات إرادة { أن تميلوا } وتنحرفوا عن جادة التوحيد بأمثال هذه الخرافات والهذيانات { ميلا عظيما } [النساء: 27] وانحرافا بليغا لا يستقيم لهم أصلا.
{ يريد الله } المدبر لأحوالكم { أن يخفف عنكم } أيها المؤمنون أثقالكم التي هي سبب احتياجاكم وإمكانكم { و } الحال أنه قد { خلق الإنسان } في مبدأ الفطرة { ضعيفا } [النساء: 28] لا يحتمل تحمل أثقال الإمكان مثل الحيوانات الأخر.
خفض عنا بفضلك ثقل الأوزار، واصرف عنا شر الأشرار بمقتضى جودك وارزقنا عيشة الأبرار.
ثم نبه سبحانه على المؤمنين بما يتعلق بأمور معاشهم مع بني نوعهم؛ ليهذبوا به ظاهرهم، فقال مناديا لهم ليهتموا باستماعها وامتثالها: { يأيها الذين آمنوا } بالله ورسله وكتبه عليكم أن { لا تأكلوا أمولكم بينكم } أي: بعضكم مال بعض بلا رخصة شرعية بل { بالبطل } ظلما وزورا سواء كانت سرقة أو غصبا، أو حيلة منسوبة إلى الشرع افتراء أو ربا أو تلبيسا وتشيخا كما يفعله المتشيخة، ويأخذون بسببها حطاما كثيرة من ضعفاء المؤمنين، واعلموا أيها المؤمنون أن مال المؤمن على المؤمن في غير العقود المتبرعة حرام { إلا أن تكون تجرة } معاملة ومعاوضة حاصلة { عن تراض } مراضاة { منكم } منبعثة عن اطمئنان نفوسكم عليها بلا اضطرار وغرر.
{ ولا تقتلوا أنفسكم } ولا تلقوها بأيديكم في المهالك التي جرت بين أرباب المعاملات من الربا والخداع والتغرير والتلبيس وغير ذلك من أنواع الحيل؛ حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الأصلية ومنزلتكم الحقيقية التي هي مرتبة العدالة؛ إذ لا خسران أعظم من الحرمان منها - أدركنا بلطفك يا خفي الألطاف - { إن الله } المنبه عليكم بأمثال هذه التدبيرات الصادرة عن محض الحكمة والمصلحة { كان بكم رحيما } [النساء: 29] مشفقا عليكم، مريدا إيصالكم إلى ما خلقكم لأجله وأوجدكم لحصوله.
{ ومن يفعل ذلك } أي: ما يحذر عنه من المهالك ويمقت نفسه بالعرض عليها لا عن جهل ساذج بل عن جهل مركب اعتقدها حقا { عدوانا } مجاوزا مائلا عن الحق إصرارا { وظلما } خروجا وميلا عن طريق الشرع الموضح سبيل التوحيد { فسوف } ننتقم عنه يوم الجزاء { نصليه } ندخله { نارا } حرمانا دائما عن ساحة عز الحضور وطردا سرمديا عن فضاء السرور، بك نعتصم يا ذا القوة المتين { و } لا تغفلوا أيها المنهمكون للاقتحام في المهالك المتعلقة لأمر المعاش عن انتقام الله القادر القدير الغيور إياكم، ولا تعتقدوا عسره بالنسبة إليه؛ إذ { كان ذلك } الانتقام عن تلك الآثام { على الله } الميسر لكل عسير { يسيرا } [النساء: 30] وإن استعسرتم في نفوسكم؛ إذ لا راد لإرادته ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
[4.31-33]
ثم قال سبحانه امتنانا على المؤمنين، تفضلا وإشفاقا وجذبا من جانبه: { إن تجتنبوا } وتجوزوا أيها المحبوسون في مهادي الإمكان ومضيق الحدثان { كبآئر } أعاظم { ما تنهون عنه } وهي الشرك بالله بأنواعه من إثبات الوجود لغيره، وإسناد الحوادث إلى الأسباب وغير ذلك { نكفر } نمحو ونتجاوز { عنكم } تفضلا عليكم { سيئتكم } خطاياكم اللاحقة لنفوسكم من لوازم بشريتكم ومقتضى طبيعتكم { و } بعدما غفرناكم { ندخلكم } بمحض جودنا ولطفنا { مدخلا كريما } [النساء: 31] هو فضاء التوحيد الذي ليس فيه هوةاء ولا ماء ولا غدو ولا مساء، بل فيها إفناء وبقاء ولقاء، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى.
وفقنا بكرمك وجودك لما تحبه عنا وترضى.
{ و } من مقتضى إيمانكم أيها المؤمنون المحمديون المتوجهونن نحو توحيد الذات من محجة الفناء والرضا بما نفذ عليه القضاء، فعليكم أن { لا تتمنوا } تمني المتحسر المتأسف حصول { ما فضل الله به } في النشأة الأولى { بعضكم على بعض } من الجاه ولمال والمكانة الرفيعة في عالم الصورة؛ إذ هي ابتلاء واختبار لهم وفتنة تبعدهم عن طريق الفناء، وتوقعهم في التكثر والتشتت، والموحدون المحمديون لا بد له أن يقتفوا أثر نبيهم صلى الله عليه وسلم في ترك الدنيا وعدم الالتفات نحوها إلا ستر عورة وسد جوعة؛ إذ الإضافة والتمليك مطلقا مخل بالتوحيد، والغنى المطغي جالب للعذاب الأخروي.
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذاباها كان غراما.
واعملوا أيها المحمديون السالكون سبيل الفناء لتفوزوا بجنة البقاء أن لكم عند ربكم درجات ومداخل متفاوتة بتفاوت استعداداتكم المترتبة على ترتيب الأسماء والصفات الإلهية؛ إذ { للرجال } أي: للذكور الكمل لكل منكم على تفاوت طبقاتهم { نصيب } حظ من التوحيد الذاتي هو مقرهم وغاية مقصدهم حاصل لهم { مما اكتسبوا } من الرياضات والمجاهدات المعدة لفيضان المكاشفات والمشاهدات { و } كذا { للنسآء } منكم مع تفاوت طبقاتهن { نصيب مما اكتسبن } في تلك الطريق؛ إذ كل ميسر لما خلق له وعليكم التوجه نحو مقصدكم { واسألوا الله من فضله } يا عباده لييسر لكم ما يعينكم ويجنبكم عما لا يعنيكم ويغويكم { إن الله } الميسر لأمور عباده { كان بكل شيء } مما صدر عنهم من صلاح وفساد { عليما } [النساء: 2] بعلمه الحضروري، يصلح لهم وييسر عليهم الهدى بقدر استعداداتهم وقابلياتهم.
ثم قال سبحانه: { ولكل } من الأسلاف الذين مضوا { جعلنا } من محض جودنا وحكمتنا { مولي } أخلافا يولونهم ويوالونهم ويأخذون { مما } أي : من الأموال التي { ترك الولدان و } كذا مما ترك { الأقربون } من ذوي الأرحام { و } كذا من متروكات { الذين عقدت أيمنكم } بالنكاح والزواج على الوجه المشروع { فآتوهم } أيها الحكام { نصيبهم } أي: نصيب كل من الولاة على الوجه المفروض { إن الله } المدبر لمصالح عباده { كان } في سابق علمه { على كل شيء } من الحوادث الكائنة { شهيدا } شيهدا [النساء: 44] حاضرا مطلقا.
[4.34-35]
ثم نبه سبحانه على تفضيل { الرجال } المعتدلة المزاج المستقيمة العقول { قومون } حافظون { على النسآء } إذ لا بد لهن لضعفهن من حفيظ يرقبهن عما يشتهين؛ صيانة لعفتهن { بما فضل الله } به { بعضهم على بعض } أي: بعض بني آدم على بعض، وهو الحمية المنبعثة من كمال العقل { وبمآ أنفقوا } لهن { من أمولهم } التي حصلت لهم من مكاسبهم { فالصلحت } العفائف من النساء { قنتت } مطيعات لأزواجهن، خادمات لهم ظاهرا { حفظت للغيب } أي: لحقوقهم المخفية الباطنة عنهم، تابعات ممتثلات { بما حفظ الله } لهن من رعاية أزواجهن وعدم الخيانة في حقوقهم.
{ و } النساء { التي تخافون نشوزهن } عصيانهن وعدم خفظهن بحقوق الزواج من أمارات ظهرت منهن { فعظوهن } أي: فعليكم أيها الأزواج أن تعظوهن رفقا بما وعظ الله لهن من رعاية حقوق الله وحقوق الأزواج لعلهن يفطن ويتركن ما عليهن { و } إن لم يتركن { اهجروهن } اتركوهن { في المضاجع } وحدية فلا ترجعوا إليه، بل اعتزلوا عنهن لعلهن يتأثرن بها { و } إن لم يتأثرن بها أيضا { اضربوهن } ضربا مؤلما غير متجاوز عن الحد { فإن أطعنكم } بامتثال هذه التأديبات { فلا تبغوا } لا تطلبوا { عليهن } لطلاقهن وإخراجهن { سبيلا } استعلاء وترفعا { إن الله } المصلح لأحوال عباده { كان عليا } في شأنه { كبيرا } [النساء: 34] في أحكامه، لا ينازع في حكمه، ولا يسأل عن أمره.
{ وإن } تطالوت الخصومة والنزاع بينهما حتى { خفتم } وظننتم أيها الحكام { شقاق بينهما } وآيستم عن المصالحة والوفاق { فابعثوا } أي: فعليكم أيها الحكام أن بعثوا { حكما } مصلحا ذا رأي { من أهله } أي: من أقاربه { وحكما } مثل ذلك { من أهلهآ } ليصيرا وكيلين عنهما يصلحا صلاحا وطلاقا وخلعا وفداء، ثم { إن يريدآ } أي: الحكمان { إصلحا } لأمرهما ورفعا لنزاعهما { يوفق الله بينهمآ } إن رضيا بمصالحتهما وإلا فليرفعا عقد النكاح بينهما على أي طريق كان { إن الله } المطلع لضمائر عباده { كان عليما } بنزاعهما { خبيرا } [النساء: 35] بما يؤول إليه النزاع.
[4.36-37]
{ و } بعدما هذبتم ظواهركم أيها المؤمنون بهذه الأخلاق { اعبدوا الله } الموحد في ذاته ووجوده، المستقل في أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه الذاتية { ولا تشركوا به شيئا } من مصنوعاته؛ أي: لا تثبتوا الوجود والأثر لغيره؛ إذ الأغيار مطلقا معدومة في أنفسها مستهلكة في ذاته سبحانه { و } افعلوا { بالولدين } اللذين هما سبب ظهوركم عادة { إحسانا } قولا وفعلا { و } أيضا { بذي القربى } المنتمين إليهما بواستطهما { و } أيضا { اليتمى } الذين لا متعهد لهم من الرجال { والمسكين } الذين أسكنهم الفقر في زاوية الهوان { والجار ذي القربى } هم الذين لهم قرابة جوار بحيث يقع الملاقاة في كل يوم مرتين { والجار الجنب } هم الذين لهم بعد جوار، بحث لا يقع التلاقي إلا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة.
{ و } عليكم رعاية { الصاحب بالجنب } أي: الذي معكم وفي جنبكم في السراء والضراء يصاحبكم ويعينكم { وابن السبيل } المتباعدين عن الأهل والواطن لمصالح دينية، مثل طلب العلم وصلة الرحم وحج البيت وغير ذلك { و } أيضا من أهم المأمورات لكم رعاية { ما ملكت أيمنكم } من العبيد والإماء والحيوانات المسنوبة إليكم، وعليكم ألا تتكبروا على هؤلاء المستحقين حين الإحسان، ولا تتفوقوا عليهم بالامتنان { إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { لا يحب من كان مختالا } متكبرا يمشي على الناس خيلاء { فخورا } [النساء: 36] بفضله وماله أو نسبه.
وهم: { الذين يبخلون } من أموالهم التي استخلفهم الله عليها، معليين بأنا لم نجد فقيرا متدينا يستحق الصدقة { و } مع بخلهم في أنفسهم { يأمرون الناس } أيضا { بالبخل } لئلا يلحق العار عليهم خاصة { و } مع ذلك { يكتمون } من الحكام والعملة { مآ آتاهم الله من فضله } من الأموال؛ خوفا من إخراج الزكاة والصدقات، ومن عظم جرم هؤلاء الخيلاء البخلاء أسند سبحانه انتقامهم إلى نفسه غير الأسلوب، فقال: { وأعتدنا } أي: هيأنا من غاية قهرنا وانتقامنا { للكافرين } لنعمنا كفرانا ناشئا عن محض النفاق والشقاق { عذابا } طردا وحرمانا مؤلما، وتخذيلا وإذلالا { مهينا } [النساء: 37].
[4.38-41]
{ و } منهم، بل أسوأ حالا: { الذين ينفقون أموالهم } لا لامتثال أمر الله وطلب رضاه بل { رئآء الناس } ليعتقدوا لهم ويكسبوا الجاه والرئاسة بسبب اعتقادهم { و } مع هذا الوهم المزخرف { لا يؤمنون بالله } الرحيم التواب الكريم الوهاب { ولا باليوم الآخر } المعد لجزاء العصاة الغواة حتى يتوب عليهم ويغفر زلتهم وهم من جنود الشيطان وقرنائه { ومن يكن الشيطان له قرينا } يحمله على أمثال هذه الأباطيل الزائفة ويوقعه في المهاوي الهائلة { فسآء } الشيطان { قرينا } [النساء: 38] أيها المتوجهون إلى الله، الراغبون عما سواه، فعليكم أن تجتنبوا عن غوائله.
ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتنبيها لغيرهم: { وماذا } يعرض { عليهم } ويلحق لهم من المكروه { لو آمنوا بالله } المتوحد في الألوهية، المتفمرد بالقيومية { واليوم الآخر } المعد ليرى فيه كل جزاء ما عمل من خير وشر { وأنفقوا } ما أنفقوا { مما رزقهم الله } خالصا لرضاه بلا شوب المن والأذى والسمعة والرياء { وكان الله } المطلع { بهم } وبجميع أحوالهم { عليما } [النساء: 39] بضمائرهم، لا يعزب عن علمه شيء مما كان ويكون، وكيف يعزب عن علمه شيء من أحوالهم؟!
{ إن الله } المجازي لأعمالهم { لا يظلم } عليهم ولا ينقص من أجورهم { مثقال } مقدار أجر { ذرة } صغيرة قريبة من العدم جدا { وإن تك } تلك الذرة { حسنة } صادرة عنهم مقارنة بالإخلاص { يضعفها } حسب فضله وطوله إلى سبعة بل إلى سبعين بل إلى ما شاء الله { و } مع تضعيفها { يؤت } للمخلصين { من لدنه } امتنانا عليهم وتفضيلا { أجرا عظيما } [النساء: 40] هو الفوز بمقام الكشف والشهود.
آتنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
{ فكيف } لا تفوزون أنتم أيها المحمديون ما تفوزون؟ إنا { إذا جئنا } في يوم الجزاء { من كل أمة بشهيد } نبي مرسل إليهم ومهد لهم إلينا بإذن منا بطريق مخصوص { وجئنا بك } يا أكمل الرسل، الجامع لجميع المراتب والطرق من توحيد الصفات والأفعال { على هؤلاء } الأمناء الخلص { شهيدا } [النساء: 41] أرشدتهم إلينا بالدين الناسخ لجميع الأديان.
[4.42-43]
{ يومئذ } أي: يوم إذ جئنا بك شهيدا على المؤمنين { يود } يحب ويتمنى { الذين كفروا } بالله { وعصوا الرسول } الأمي المبعوث إلى كافة الأنام بدين الإسلام أن { لو تسوى } تغطى { بهم الأرض } في تلك الساعة، وصاروا نسيا منسيا لكان خيرا لهم من المذلة التي عرضت لهم في تلك الحالة { ولا يكتمون الله حديثا } [النساء: 42] أي: لا يمكن كتمان حديث نفوسهم بهذا من الله في تلك الحالة، فكيف كتمان أعمالهم الصادرة عنهم؟!
ثم لما حضر بعض لمؤمنين المسجد لأداء الصلاة سكارى حين إباحة الخمر، وغفلوا عن أداء بعض أركاناها وتعديلها، وغلطوا في القراءة وحفظ الترتيب، نبه سبحانه عليهم ونهاهم ألا تبادروا إلى المساجد قبل أن تفيقوا، فقال مناديا ليقبلوا: { يا أيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم حفظ الأدب، سيما عند التوجه نحو الحق فعليكم أن { لا تقربوا } ولا تتوجهوا { الصلوة } أي: لأداء الصلاة، هي عبارةعن التوجه نحو الذات الإلهية بجميع الأعضاء والجوارج، المقارن بالخضوع والخشوع، المنبئ عن الاعتراف بالعبودية والإذلال، المشعر عن المعجز والتقصير، فلا بد لأدائها من فراغ الهم وخلاء الخاطر عن أدناس الطبيعة مطلقا { و } خصوصا { أنتم } في أدائها { سكرى } لا تعلمون ما تفعلون وما تقرأون بل اصبروا { حتى } تفيقوا { تعلموا ما تقولون } وما تفعلون في أدائها من محافظة الأركان والأبعاض والأركان والهيئات وغير ذلك.
{ و } عليكم أيضا أن { لا } تقربوا الصلاة { جنبا } حالة كونكم مجنبين بأي طريق كان؛ إذ استفراغ المني إنما هو من استيلاء القوة الشهوية التي هي أقوى القوى الحيوانية وأبعدها عن مرتبة الإيمان والتوحيد، وحين استيلائها تسري خباثتها إلى جميع الأعضاء الحاملة للقوى الدراكة وتعطلها عن مقتضياتها بالمرة، فحينئذ تتحير الأمزجة وتضطرب لانحرافها عن اعتدال الفطرة الأصلية بعروض الخباثة السارية، فتكون الخباثة أيضا كالسكر من مخللات العقل، فعليكم ألا تقربوها معه { إلا } إذا كنتم { عابري سبيل } أي: على متن سفر ليس لكم قدرة استعمال الماء؛ لفقده أو لوجود المانع، فعليكم أن تتيمووا وتصلوا جنبا { حتى تغتسلوا } وتتمكنوا من استعماله.
{ و } كذا { إن كنتم } مقيمين { مرضى } تخافون من شدة المرض في استعماله { أو } راكبين { على } متن { سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط } أي: من الخلاء محدثين { أو لمستم النسآء } أي: جامعتم معهن أو لعبتم بهن بالملامسة والمساس { فلم تجدوا } في هذه الصورة { مآء } لإزالة ما عرض عليكم من الجنابة { فتيمموا صعيدا طيبا } أي: فعليكم أن تقصدوا عند عروض هذه الحالات بالتراب الطيب من صعيد الأرض بأن تضربوا أيديكم عليها، وبعدها ضربتم { فامسحوا } باليدين المغبرتين { بوجوهكم } مقدار ما يغسل { وأيديكم } أيضا كذلك؛ جبرا لما فوتم من الغسل بالماء؛ إذ التراب من المطهرات خصوصا من الصعيد المرتفع { إن الله } المصلح لأحوالكم { كان عفوا } لكم مجاوزا عن أمثاله { غفورا } [النساء: 43] يستر عنكم ولا يؤاخذكم عليها إن كنتم مضطرين فيها، بل يجازيكم خيرا تفضلا وامتنانا.
[4.44-46]
ثم قال سبحانه مستفهما مخاطبا لمن يتأتى منه الرؤية عن حرمان بعض المعاندين عن هداية القرآن: { ألم تر } أيها الرائي { إلى } قبح صنيع القوم { الذين أوتوا نصيبا } حظا { من الكتب } الجامع لجميع الكتب، الهادي للكل لكونهم موجودين عند نزوله، سامعين الدعوة، فممن أنزل إليه صلى الله عليه وسلم كيف يحرمون أنفسهمم عن الهادية إلى حيث { يشترون } يختارون لأنفسهم { الضللة } بدل هدايته { و } مع ذلك لا يقتصرون عليه بل { يريدون أن تضلوا } ترتدوا ويظلموا عليكم أيها المؤمنون { السبيل } [النساء: 44] الواضح الموصل إلى زلال الهداية بإلقاء الشبه الزائفة في قلوب ضعفائكم، وإظهار التكذيب وادعاء المخالفة بينك وبين الكتب المتقدمة.
ولا تغتروا أيها المؤمنون بودادتهم وتلمقهم ولا تتخذوهم أولياء؛ إذ هم أعداء لكم { والله } الرقيب عليكم { أعلم } منكم { بأعدائكم } فعليكم أن تفوضوا أموركم كلها إليه، والتجئوا نحوه واستنصروا منه ليدفع بلطفه مؤونة شرورهم { وكفى بالله وليا } أي: كفى الله وليا للأولياء { وكفى بالله نصيرا } [النساء: 45] لهم ينصرهم علكى الأعداء بأن يغلبهم عليهم وينتقم منهم خصوصا.
{ من الذين هادوا } نسبوا إلى اليهودية وسموا به، وهم من غاية بغضهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدعون مخالفة القرآن بجميع الكتب السالفة، لذلك { يحرفون } ويغيرون { الكلم } المنزلة في التوراة في شأن القرآن وشأن بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { عن مواضعه } التي وضعها الحق سبحانه، بل يستبدلونها لفظا ومعنى مراء ومجادلة { ويقولون } حين دعاهم الرسول إلى الإيمان: { سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { واسمع } منا في أمرن الدين كلاما { غير مسمع } لك من أحد { ورعنا } لتستفيد منا، وإنما يقصدون بأمثال هذه المزخرفات الباطلة { ليا } إعراضا وصرفا للمؤمنين { بألسنتهم } عما توجهوا نحوه من التوحيد الإيمان إلى ما تشتهيه نفوسهم.
{ و } يريدون أن توقعوا بها { طعنا في الدين } القويم والشرع المستقيم { ولو أنهم } من أهل الهداية ولهم نصيب منها { قالوا } حين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام: { سمعنا } قولك { وأطعنا } أمرك { واسمع } من ربك من الأحكمام، واسمع إيانا { وانظرنا } بنظر الشفقة والمرحمة حتى نسترشد منك ونستهدي { لكان خيرا لهم } في أولاهم وأخراهم { وأقوم } أي: أعدل سبيلا إلى التوحيد والإيمان { ولكن لعنهم الله } أي: طردهم عن عز حضوره في سابق علمه { بكفرهم } المركوز في جبلتهم { فلا يؤمنون } منهم { إلا قليلا } [النساء: 46] استثناهم الله سبحانه في سابق علمه.
[4.47-50]
ثم ناداهم سبحانه وأوعدهم رجاء أن يتبنهوا بقوله: { يا أيهآ الذين أوتوا الكتب } أي: التوراة { ءامنوا بما } أي: بالكتاب الجامع الذي { نزلنا } من غاية فضلنا وجودنا على محمد صلى الله عليه وسلم مع كونه { مصدقا لما معكم } أي: لكتابكم { من قبل أن نطمس وجوها } أي: تمحو وتضمحل مراتب إنسانيتكم وإدراككم مطلقا { فنردها على أدبارهآ } قهقرى إلى المراتب الأنزل الأرذل قبل وصولكم إلى مرتبة الكمال { أو نلعنهم } نطردهم عن ساحة عز الوجوب إلى مضيق الإمكان { كما لعنآ } مسخنا { أصحب السبت } لمخالفتهم الأمر الوجوبي بافتراء الحيلة عن لوازم الإنسانية مطلقا، ورددناهم إلى أخس المراتب { و } لا تستبعدوا من الله القادر المقتدر على جميع ما يشاء أمثال هذا الطرد والإدبار؛ إذ { كان أمر الله } أي: إرادته المتعلقة بتكموين أمره { مفعولا } [النساء: 47] مقتضيا البتة لا تخفف.
ثم قال سبحانه: { إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء، المتفرد بالمجد والبهاء { لا يغفر أن يشرك به } أي: لا يستر ولا يعفو عن انتقام الشرك به بإثبات الوجود لغيره { ويغفر ما دون ذلك } من الكبائر والصغائر { لمن يشآء } من التائبين وغيرهم، ثم قال سبحانه تأكيدا وتحقيقا: { ومن يشرك بالله } الواحد الأحد الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الاخلاص: 3-4] شيئا من مظاهره بادعاء الوجود له أصالة استقلالا { فقد افترى } على الله واكتسب لنفسه { إثما عظيما } [النساء: 48] لا مخلص له عنه.
نعوذ بك ونستغفرك من أن نشرك بك شيئا ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، إنك أنت علام الغيوب.
{ ألم تر } أيها الرائي { إلى الذين يزكون أنفسهم } بألسنتهم وألبستهم؛ رياء وسمعة ويفتخرون بها ويباهون عليها، كيف وظنوا أنفسهم بهذا المزخرف الباطل ولم يتفطنوا أن العبد قل ما بخلوا عن الشرك الجلي فضلا عن الخفي، ولا تليق التزكية للعبد مطلقا سواء يزكي نفسه أو غيره { بل الله } المطلع لأحوال عباده { يزكي } بفضله { من يشآء } من عباده، والمراءون المزكون لنفوسهم قولا بلا توافق أحوالهم وأعمالهم على مقالهم يعاقبون عليها { ولا يظلمون فتيلا } [النساء: 49] أي: لا يزاد على انتقام ما اقترحوا مقدار حبل النواة، وهو مثل في الصغر والحقارة.
{ انظر } أيها الرائي { كيف يفترون } أولئك المراءون المزكزون نفوسهم { على الله الكذب } بادعائهم تزكية الله إياهم ترويجا لما عليه نفوسهم من التلبيس { وكفى به } هذا الافتراء { إثما مبينا } [النساء: 50] ظاهرا موجبا لانتقام عظيم من الله.
[4.51-55]
{ ألم تر } أيها الرائي { إلى الذين } يدعون أنهم { أوتوا نصيبا من } علم { الكتب } أي: التوراة المبين لطريق التوحيد الموضح لسبيله كيف { يؤمنون بالجبت } أي: الصنم الذي لا خير يرجى منه ولا شر، ولا نفع ولا ضر { والطغوت } التي هي الآراء البالطة والأهوية الفاسدة المؤدية إلى الكفر والزندقة والإلحاد عن طريق الرشاد، ولو أنهم في أهل التوحيد ولهم نصيب من اكتساب النازل من عند الله لتبيينه وتعليم طريقه، لما آمنوا بالأباطيل الزائفة الفاسدة المضلة عن طريق الحق والصراط المستقيم، ومع ضلالهم في أنفسهم يريدون إضلال غيرهم { ويقولون للذين كفروا } أي: في حق ضعفائهم وأتباعهم: { هؤلاء } الضعفاء من إخواننا { أهدى } وأقوى { من } السفهاء { الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم { سبيلا } [النساء: 51] وإنما يقولون أمثال هذا؛ استخفافا للنبي صلى الله عليه وسلم وطعنا وقدحا في الإسلام.
{ أولئك } البعداء المعزولون عن منهج الرشاد هم { الذين لعنهم الله } أي: طردهم عن ساحة التوحيد إلى ذل الإمكان { ومن يلعن الله } المنتقم المقتدر { فلن تجد له نصيرا } [النساء: 52] يشفع له عنده؛ إذ لا غير معه ولا شيء سواه.
أتعتقد وترى أيها الرائي أن لهم حظا من الإيمان والتوحيد؟ فليس لهم ذلك { أم لهم نصيب من الملك فإذا } أي: حين كانوا ملوكا متصرفين على وجه الأرض { لا يؤتون الناس } أي: القراء المحتاجين { نقيرا } [النساء: 53] بل قطميرا شحهم وبخلهم.
{ أم } بل { يحسدون الناس } المنظورين لله الناظرين بنوره { على مآ آتهم الله من فضله } من الحكمة والنبوة والكتاب المبين، ومن غاية حسدهم يكذبونهم وكتابهم عنادا وإذا أرادت أن ترى أيها الرائي من لهم نصيب من الكتاب والملك { فقد آتينآ } من محض جودنا وفضلنا { آل إبرهيم } وذريته الذي من جملتهم وصفوتهم محمد صلى الله عليه وسلم { الكتب } المبين للشرائع و الأحكام { والحكمة } السرائر المقتضية تشريعها { و } مع ذلك { آتيناهم } في الدنيا { ملكا عظيما } [النساء: 54] استيلاء بسطة ممتدة إلى يوم القيامة.
{ فمنهم من آمن به } بنوبتهم وعظمتهم وبسطتهم { ومنهم من صد عنه } أي: أعرض ولم يؤمن عتوا وعنادا، فلا تعجل يا أكمل الرسل بانتقامهم وعقوبتهم { وكفى بجهنم سعيرا } [النساء: 55] أي: كفى جهنم المسعورة المعدة لانتقامهم وتعذيبهم منتقما عنهم على أقبح وجه وأشد تعذيب.
[4.56-58]
قل للمؤمنين يا أكمل الرسل نيابة عنا، إخبارا لهم عن وخامة عاقبة هؤلاء المعرضين: { إن الذين كفروا بآيتنا } كهؤلاء المدبرين { سوف نصليهم } وندخلهم { نارا } معدة لجزاء الغواة بحيث { كلما نضجت } تفانت واضمحلت { جلودهم } بإحراق نار الخذلان { بدلنهم } من غاية قهرنا وانتقامنا { جلودا غيرها } مماثلة لما احترقت منها { ليذوقوا العذاب } أي: ليدوم لهم ذوقه وخذلانه { إن الله } المنتقم منهم { كان عزيزا } غالبا على الانتقام حسب المرام { حكيما } [النساء: 56] عادلا لا يظلم بالزيادة ولا يهمل بنقصان.
ثم قال سبحانه: { والذين آمنوا } بأياتنا { وعملوا الصالحات } امتثلوا بالصالحات المأمورة فيها { سندخلهم } من غاية فضلنا وجودنا { جنات } منتزهات من العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أنهار اللذات الروحانية المترتبة على التجليات الرحمانية الغير المتناهية، لذلك { خالدين فيهآ أبدا } بلا انقطاع وانصرام، ومع ذلك { لهم فيهآ أزواج } صواحب من الصفات والأسماء يؤانسهم { مطهرة } عن أدناس الطبيعة مطلقا { و } بالجملة: { ندخلهم } من غاية لطفنا إياهم { ظلا } مروحا لقلوبهم { ظليلا } [النساء: 57] ممدودا لا يزول أصلا.
واعلموا أيها المبشرون بهذه البشارة العظمى { إن الله } المبشر بأمثاله { يأمركم أن تؤدوا } وتدفعوا { الأمانات } من الأحوال والشهادات وسائر حقوق العباد { إلى أهلها و } يأمركم أيضا { إذا حكمتم بين الناس } المتخاصمين في الوقائع { أن تحكموا بالعدل } بالإنصاف والسوية بلا ميل إلى جانب أحد من المتخاصمين { إن الله } المصلح لأحوالكم { نعما } نعم شيئا { يعظكم به } ويأمركم بامتثاله { إن الله } المطلع على جميع حالاتكم { كان سميعا } لجميع أقوالكم { بصيرا } [النساء: 58] لنياتكم وأفعالكم فيها، لا يعزب عنه مثال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
[4.59-61]
ثم قال سبحانه مناديا لأهل الإيمان إيصاء وتنبيها: { يا أيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم إطاعة الله وإطاعة رسوله { أطيعوا الله } بامتثال أوامره واجتناب نواهيه { وأطيعوا الرسول } الذي استخلفه من عنده يهديكم إلى توحيده { و } أطيعوا أيضا { أولي الأمر منكم } وهم الذي يقيمون شعائر الإسلام بينكم من الأمراء والحكام والقضاة المتجتهدين في تنقيذ الأحكام واستنباطه { فإن تنازعتم } أنتم مع حكامكم { في شيء } من أمور في أنه مطابق للشرع أو غير مطابق { فردوه } وراجعوا فيه { إلى } كتاب { الله و } أحاديث { الرسول } بأن عرضوا عليهما واستنبطوه منهما { إن كنتم تؤمنون بالله } المجازي لعباده على أعمالهم خيرا كان أو شرا { واليوم الآخر } المعد للجزاء { ذلك } الرد { خير } لكم من استبدادكم بعقولكم { وأحسن تأويلا } [النساء: 59] من تأويلكم، وأحمد عاقبة باستبدادكم.
{ ألم تر } أيها الرسول المرسل إلى كافة الأنام { إلى } المنافقين { الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك } من الفرقان الفارق بين الحق والباطل { ومآ أنزل من قبلك } من الكتب المنزلة على إخوانكم من الأنبياء - عليهم السلام - ومع ادعائهم هذا { يريدون أن يتحاكموا } ويتراجعوا في الوقائع { إلى الطاغوت } المضل عن مقتضى الإيمان والكتب { و } الحال أنهم { قد أمروا أن يكفروا به } أي: بالطاغوت { و } ما ذلك إلا أن { يريد الشيطان } الذي هو رئيس الطواغيت { أن يضلهم } عن طريق الحق { ضلالا بعيدا } [النساء: 60] إلى حيث لا يرجى منهم الاهتداء أصلا.
{ وإذا قيل لهم } إمحاضا للنصح { تعالوا } هلموا { إلى مآ أنزل الله } من الكتاب الجامع لجميع الكتب المبينة لطريق الحق، الهادية إلى توحيده { وإلى } متابعة { الرسول } المبلغ الكاشف لكم أحكامه { رأيت المنفقين } والذين في قلوبهم مرض { يصدون } يعرضون { عنك } وعن عظتك وتذكيرك { صدودا } [النساء: 61] إعراضا نائشا عن محض القساوة والفساد.
[4.62-64]
{ فكيف } لا يكونون منافقين إنهم { إذآ أصبتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } من نفاقهم مع المؤمنين وتحاكمهم إلى الطاغوت، وعدم الرضا بحكمك وقضائك { ثم } بعدما أصابوا { جآءوك } معتذرين لك { يحلفون بالله إن أردنآ } أي: ما قصدنا { إلا إحسنا } طلبا للخير من الله لإخواننا المؤمنين { وتوفيقا } [النساء: 62] بينهم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن منافقا نازع يهوديا، فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم بعد النزاع والجدال احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي فلم يرضى المنافق بقضائه، فقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فحضروا عنده فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض، فخاصم إليك، فقال عمر للمنافق: أهكذا، قال: نعم، فقال: مكانكما حتى أخرج، فدخل بيته، وأخذ سيفه، فخرج فضرب به عنق المنافق، فقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، فنزل جبريل وقال: إن عمر رضي الله عنه قد فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق.
{ أولئك } المنهمكون في الغي والضلال هم { الذين يعلم الله ما في قلوبهم } من النفاق والشقاق، فلا يغني عنهم حلفهم الكاذب شيئا من عذاب الله { فأعرض عنهم } وعن حلفهم عن المؤمنين { وعظهم } في الخلوات على مقتضى شقاق مرتبة النبوة والرسالة { وقل لهم } حين كانوا مفترقين متفردين { في أنفسهم } عن المؤمنين { قولا بليغا } [النساء: 63] ليؤثر فيهم ويحرك فطرتهم الأصلية التي فطروا عليها؛ رجاء أن يتفطنوا بالتوحيد وينتبهوا بحقيته بتوفيق الله وجذب من جانبه.
{ و } لا تستبعد يا أكمل الرسل مثال هذا التوفيق منا؛ إذ { مآ أرسلنا من رسول } إلى أمة من الأممم الماضية { إلا ليطاع } ويؤمن به ويمتثل بأمره إلا { بإذن الله } وتعلق إرادته بإطاعتهم له وإيمانهم به { ولو أنهم } من غاية جهلهم ونفاقهم { إذ ظلموا أنفسهم } بالخروج عن إطاعتك وانقيادك عنا { جآءوك } تائبين معتذرين مما صدر عنهم { فاستغفروا الله } مخلصين نادمين { واستغفر لهم الرسول } أيضا بالاستشفاع والاستدعاء من الله بالقبول بعدما جاءوا معتذرين { لوجدوا الله } وصادقوه مفضلا كريما { توابا } يثل توبتهم { رحيما } [النساء: 64] لهم يوفقهم عليها.
[4.65-68]
{ فلا وربك } أي: فوربك وعظم شأنه وسطوع برهانه { لا يؤمنون } بالله وبكتبه ورسله { حتى يحكموك } أيها لمبعوث لكل { فيما شجر } وحدث { بينهم } من الوقائع التي اختلفوا فيها { ثم } بعدما حكموك { لا يجدوا } حين راجعوا وجدانهم { في أنفسهم حرجا } ضيقا واضطرابا وشكا { مما قضيت } حكمت به { ويسلموا } حكمك وقضاءك { تسليما } [النساء: 65] ناشئا عن محض الإطاعة والانقياد، ظاهرا وباطنا؛ إذ طاعتك عين إطاعتنا وانقيادنا.
{ ولو أنا كتبنا } فرضنا وأمرنا { عليهم أن اقتلوا أنفسكم } في سبيلنا { أو اخرجوا من دياركم } المألوفة التي هي بقعة الإمكان { ما فعلوه } أي: المأمور به { إلا قليل منهم } وهم المخلصون المبادرون إلى الفناء في الله؛ ليفوزوا بشرف بقائه { ولو أنهم } من غاية تشوقهم وتعطشهم بمرتبة الفناء فيه { فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم } في أولادهم وأخراهم { وأشد تثبيتا } [النساء: 66] لقدمهم في طريق التوحيد والعرفان.
{ وإذا } أي: حين ثبتوا على طريق التوحيد أشد تثبيت { لأتينهم من لدنآ } بلا صنع منهم { أجرا عظيما } [النساء: 67] هو الفوز بمرتبة الكشف والشهود.
{ ولهديناهم صراطا مستقيما } [النساء: 68] يوصلهم إلينا بلا اعوجاج ولا انحراف.
اهدنا بلطفك صراطا مستقيما يوصلنا إلى ذروة توحيدك.
[4.69-73]
{ و } واعلموا أيها المؤمنون { من يطع الله } حق إطاعته { و } حق إطاعته أن يطيعوا { الرسول } المستخلف منه { فأولئك } المطيعون لله ولرسوله مصاحبون { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } الذين يجمعون بين مرتبتي الكمال والتكميل، الفائزون بمقام الكشف والشهود، لا يرون غير الله في الوجود، ولذلك يدبرون الظاهر والباطن { والصديقين } وهم الذين يصلون إلى مقام المشاهدة، ويتحيرون بمطالعة وجه الله الكريم إلى حيث لا يلتفتون إلى الكمال والتكميل، بل يهيمون ويستغرقون { والشهدآء } وهم الذين يرفعون مزاحمة هويتهم عن البين مطلقا { والصالحين } وهم الذين يستعدون نفوسهم لنقصان المراتب السابقة، ويترصدون لها إيمانا واحتسابا { وحسن أولئك } المقربون المجتهدون في طريق التوحيد مقدورهم { رفيقا } [النساء: 69] شفيقا للساكنين المتوجهين نحوه.
{ ذلك الفضل } والهداية والرفاقة مع هؤلاء العظماء وللإنعام تفضلا { من الله } وامتنانا منه لا صنع للعبد فيه، ولا علم لأحد في كيفيته وكيمته { وكفى بالله عليما } [النساء: 70] في مقدوراته وهوهوبته.
هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ومن أجل أسباب المرافقة مع هؤلاء المقربين: الجهاد؛ لذلك أمرهم سبحانه بتهيئة أسبابه ليتهيئوا له، فقال مناديا اهتماما لشأنه: { يأيها الذين ءامنوا } مقتضى إيمانكم ترويج دينكم، ونصرة نبيكم { خذوا حذركم } أي: عدتكم التي بها تحذرون عن العدو واستعدوا للقتال، وبعدما تم استعدادكم { فانفروا } اخرجوا قبل العدو { ثبات } فرقة بعد فرقة { أو انفروا جميعا } [النساء: 71] مجتمعين مختلطين؛ لأنه أدخل في المهابة.
{ وإن منكم لمن ليبطئن } أي: وإن أناسا منكم والله ليتكاسلن، ويتثاقلن لنفاقهم ومرض قلوبهم { فإن أصبتكم مصيبة } قتل وهزيمة { قال } المنافق المتكاسل { قد أنعم الله علي } بسبب هذا البطء والتأخير { إذ لم أكن معهم شهيدا } النساء: 72] حاضرا فيصيبني ما أصابهم.
{ ولئن أصبكم فضل من الله ليقولن } متمنيا من فرط تحسره وتحسده بكم { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } أي: كتحسر الأعداء للأعداء: { يليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } [النساء: 73] مثل ما فازوا.
وإن أبطأ المنافقون في أمر القتال، وتكاسلوا نفاقا.
[4.74-76]
{ فليقاتل } المخلصون المبادرون إلى الفناء { في سبيل الله } مع المشركين { الذين يشرون } ويختارون { الحياة الدنيا بالآخرة } أي: بدلها، ويبيعونها بها { ومن يقاتل في سبيل الله } ترويجا لتوحيده مع هؤلاء المشركون المصرين على الشرك { فيقتل } في أيديهم { أو يغلب } عليهم { فسوف نؤتيه } من لدنا { أجرا عظيما } [النساء: 74] لا كأجر الدنيا ولا كأجر الآخرة المتربتة على الأعمال الصالحة، بل الشهداء منهم أحياء عند الله يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، والغزاة فهم في حمى الله وكنف حفظه وجواره.
{ وما } عرض ولحق { لكم } أيها المؤمنون المبشرون بهذه البشارة العظمى { لا تقتلون في سبيل الله } مع أعداء الله { و } لا تنقذون { المستضعفين } منكم من أيديهم { من الرجال والنسآء والولدن } الذين بقوا في مكة بعد الهجرة، فآذوهم واستذلوهم إلى أن استعبدوهم، وهم { الذين يقولون } من غاية حزوننهم، ونهاية مذلتهم متضرعا إلى الله مستشكيا إليه: { ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } إذ لا طقاة لنا بظلمهم { واجعل لنا من لدنك وليا } يولي أمرنا، وينقذنا من أيديهم، ويخرجنا من بينهم { واجعل لنا من لدنك نصيرا } [النساء: 75] ينصرنا عليهم لينتقم عنهم، فاستجاب الله دعاءهم بأن ألحق بعضهم إلى المهاجرين، ونصر بعضهم بالنبي والمؤمنين حين فتحوا مكة - شرفها الله - فوصلوا إلى ما طلبوا من الله.
{ الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله } تقربا إليه وطلبا لرضاه، وترويجا لدينه ونصرة نبيه المبعوث لإعلاء كلمة توحيده { والذين كفروا يقتلون في سبيل الطغوت } المضل عن طريق الحق، وسبيل الهداية إلى متابعة الشيطان وموالاته { فقتلوا } أيها المؤمنون المخلصون { أولياء الشيطن } ولا تبالوا بعددهم وعددهم { إن كيد الشيطن } بالنسبة إلى كيد الله ومكره { كان ضعيفا } [النساء: 76] لا عبرة له ولا تأثير.
[4.77-78]
{ ألم تر إلى } المؤمنين { الذين قيل لهم } عند ضعفهم، وثاثة حالهم حين كانوا في مكةك قبل الهجرة يريدون أن يقاتلوا: { كفوا أيديكم } عن القتال إلى أن يأذن الله لكم به ويرد الأمر عليه { وأقيموا } أديموا { الصلوة } المقرب لكم نحوه بجميع الأعضاء والجوارح { وآتوا الزكوة } المصفية لنفوسكم عن الميل إلى زخرفة الدنيا، وانتظروا إلى أن يأمركم الله بالقتال والجهاد { فلما كتب عليهم القتال } بعدما قوي حالهم، وزال ضعفهم { إذا فريق منهم } بضعف يقينهم، وقلة وثوقهم بنصر الله وتأييده { يخشون الناس } أي: يخالفون من الكفار { كخشية الله } مثل خوفهم من الله { أو } بل { أشد خشية } لوهن اعتقادهم، واعتمادهم على الله؛ إذ هم في أوائل ظهور الإسلام حين كانوا متزلزلين، لا يصفوا يقينهم بالتوحيد { وقالوا } حين سمعوا نزول أمر القتال مسوفين متأخرين: { ربنا لم كتبت علينا القتال } مع أنا على ضعفنا { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } يزداد فيه قوتنا وشوكتنا وعدتنا، وإنما قالوه خوفا من الموت وفوات المال { قل } لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وتنبيها: { متاع الدنيا قليل } عمل قصير بالنسبة إلى عطاء الله، وشرف لقائه { والآخرة } المعدة لجزيل العطاء وشرف اللقاء { خير لمن اتقى } عما يشغلهم عنه وعن عطائه { و } اعلموا أيها المؤمنون أنكم { لا تظلمون } لا تنقصون ولا تهملون مما قدر لكم في القضاء { فتيلا } [النساء: 77] مقدر فتيل النواة.
واعلموا أيضا أن تسويفكم وتأخيركم لا يفيدكم نفعا في أمر الموت، بل وقته مبهم وأمره مبرم.
{ أينما تكونوا يدرككم الموت } عند حلول الأجل المقدر له من عده { ولو كنتم } متحصنين { في بروج } قلاع وحصون { مشيدة } بأنواع التشييدات والتحصنات؛ إذ لا مرد من قضاء الله ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد { و } هم أيضا من غاية تزلزلهم وتذبذهم، وعدم رسوخهم في جادة التوحيد { إن تصبهم } حسنة فتح وغنيمة تفرح بها نفوسهم وتنبسط { يقولوا هذه من عند الله } تفضلا علينا، وامتنانا { وإن تصبهم سيئة } بلية واختبار تنقبض بها نفوسهم { يقولوا هذه من عندك } أي: اضافوها إليك مشتائمين بك، كما تشاءمت اليهود حيث قالت: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلبت أسعارها { قل } لهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإيقان: { كل } من الحوادث الكائنة سواء كانت مفرحة أو مملة، مقبضة أو مبسطة نازل { من عند الله } حسب قدرته وإرادته، لا يسأل عن فعله ولا في أمره، بل له التصرف مطلقا { فمال } عرض { هؤلاء القوم } المنحطين عن درجة التوحيد والعرفان { لا يكادون يفقهون } ويفهمون { حديثا } [النساء: 78] يخلصهم عن التزلزل، وتردد المرتبة على الإضافات المنافية للتوحيد، ولو أنهم من أهل التدبير والتأمل في سرائر كلام الله ومرموزاته لفتح عليهم مما يخلصهم عن دغدغة الكثرة مطلقا، فكيف إضافة الحسنة والسيئة.
[4.79-82]
ثم لما أراد سبحانه أن ينبه على خلص عباده طريق توحيده، وأن ظهوره في المظاهر كلها خير محض لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن تحمل أمثال هذه الخطابات، وأن الشر إنما هو من الإضافة العارضة بسبب التعينات العدمية، فقال مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن تحمل أمثال هذه الخطابات الصادرة عن محض الحكمة، إنما يليق بجنابه ليصل منه إلى أمته: { مآ أصابك من حسنة } مسرة لنفسك { فمن الله } وعلى جري عادته، وظهوره على مظاهره بالخير والحسنى { ومآ أصابك من سيئة } محزنة مملة لنفسك { فمن نفسك } تظهر، ومن إضافتك تحصل، وإلا فهو خير في نفسه لا شر في الوجود أصلا { وأرسلناك للناس رسولا } تنبه لهم ما نبهت من لدنا { وكفى بالله شهيدا } [النساء: 79] على إرسالك وتبليغك.
ثم قال سبحانه: { من يطع الرسول } ويؤمن به ويصدقه بما جاء من عند ربه { فقد أطاع الله } لأنه المظهر الجامع لجميع أوصافه وأسمائه، وللمظهر حكم الظاهر فيه { ومن تولى } أعرض عن إطاعتك أعرض عنهم، ولا تلتفت نحوهم { فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } [النساء: 80] تحفظهم عما يشينهم، بل مبلغا داعيا لهم إلى طريق الحق وصراط مستقيم.
{ و } ممن يحوم حولك من المنافقين قوم إذا أمرتهم بامتثال أمر الله { يقولون } في جوابك: { طاعة } أي: منا امتثال وإطاعة لما أمرت { فإذا برزوا } خرجوا { من عندك بيت طآئفة منهم } زورت وافترت ولبست { غير الذي تقول } تلك الطائفة لك، وقلت لها { والله } المجازي لهم والمحاسب أعمالهم { يكتب } في صحائفهم، ويجازي عليهم بها { ما يبيتون } ويزورون { فأعرض عنهم } ولا تبال بإطاعتهم وقبولهم { وتوكل على الله } في جميع الأمور، واتخذه وليا ونصيرا { وكفى بالله وكيلا } [النساء: 81] يكفيك مؤونة ضررهم وشرورهم، وينتقم لك عنهم.
ومن جملة نفاقهم وشقاقهم أنهم يطعنون في القرآن بأنواع المطاعن، تارة ينسبونه إلى غير الله وتارة يكذبونه، وتارة يقولون: هو من أساطير الأولين، أيترددون في أمره ويطعنون في شأنه؟.
{ أفلا يتدبرون } ويتأملون { القرآن } لفظا ومعى، ظهرا وبطنا، دلالة وحكما، اقتضاء ونصا إشارة وإيماء، تلويحا ورمزا، حتى يتفطنوا أنه ما هو من كلام البشر { ولو كان من عند غير الله } أي: من جنس كلام البشر { لوجدوا فيه } البتة { اختلافا كثيرا } [النساء: 82] حسب تفاوت درجات أشخاص البشر.
[4.83-85]
{ و } من ضعفه المسلمين قوم { إذا جآءهم أمر من } موجبات { الأمن أو الخوف أذاعوا به } أي: فشوه ونشروه سواء كان واقعا أما أراجيف، ولحق للمسلمين بسبب تلك الإذاعة والأشاعة ما لايليق بهم { ولو } أنهم حين سمعوا الخبر { ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر } أصحاب الرأي والتدبير { منهم } ليتأملوا فيه ويتبصروا { لعلمه } واستخرجه البتة المجتهدون { الذين يستنبطونه } وأمثاله { منهم } وجها موجبا للإفشاء أو الإسرار، ولا تغتروا أيها المؤمنون بعقولكم، ولا تستبدوا برأيكم { و } اعلموا أنه { لولا فضل الله عليكم } بإرسال الرسول فيكم، وإنزال الكتب علكيم { ورحمته } الشاملة بكم بتوفيقكم على الإيمان، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم { لاتبعتم } بأجمعكم { الشيطان } المضل عن طريق الحق { إلا قليلا } [النساء: 83] منكم، وهم الذين استثناهم الله سبحانه في سابق عمله تفضلا عليهم وامتنانا، وإن انصرفوا عنك بالمرة وانتشروا من حولك.
{ فقاتل } بنفسك يا أكمل الرسل { في سبيل الله } إذ { لا تكلف إلا نفسك } ولا تحمل أعباء الرسالة إلا عليك، فعليك أن تشعر ذيلك لأمر الجهاد، لا تبال بإعانتهم وانتصارهم، ولا بتقاعدهم وانتشارهم، فإن الله ناصرك ومعينك لا الجنود { وحرض المؤمنين } أي: رغبهم على القتال؛ إذ ما عليك في شأنهم إلا الترغيب والتبليغ سواء قبلوا أو لم يقبلوا، ولا تخف من كثرة المشركين وعظم شركهم { عسى الله أن يكف } أي: يمحو عن قبلك { بأس الذين كفروا } يعني: قريشا { والله } المنتقم المقتدر بالقوة التامة الكاملة { أشد بأسا } مهابة { وأشد تنكيلا } [النساء: 84] تعذيبا من هؤلاء الغواة الطغاة، يكفيك مؤونة شرورهم عن قريب، وقد كفاه بأن ألقى في قلوبهم الرعب، فرجعوا خائبين خاسرين.
{ من يشفع شفعة حسنة } يراعي بها حق الله وحقوق عباده، ويرغبهم بها على الخير، ويبعدهم عن الشر، خالصا لرضا الله بلا تغرير لنفسه وجلب نفع لها، أو دفع ضر عنها { يكن له نصيب منها } من ثواب الشفاعة التي تسبب لها، والدعاء الخير للأخ المسلم من هذا القبيل، قال عليه السلام:
" من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له، وقال الملك: ولك مثل ذلك "
{ ومن يشفع شفعة سيئة } يحمل بها إلى ارتكاب محرم، أو يوقعهم في فتنة وبلية { يكن له } أيضا { كفل } نصيب { منها } من أوزارها وآثامها المترتبة عليها مثل فاعلها بل أزيد { وكان الله } المجازي لعباه { على كل شيء } من الحسنة والسيئة { مقيتا } [النساء: 85] مقتدرا على جزاء كل منهما فضلا وعدلا.
[4.86-88]
{ وإذا حييتم } أيها المؤمنون { بتحية } ناشئة من أخيكم المسلم { فحيوا بأحسن منهآ } أي: زيدوا عليها؛ وفاء لحق المبادرة { أو ردوهآ } كمثلها بلا نقصان شيء منها؛ وفاء لحق المؤاخاة { إن الله } المراقب لجميع حالاتكم { كان على كل شيء } صدر عنكم من خير وشر ونفع وضر { حسيبا } [النساء: 86] يحاسبكم بلا فوت شيء، ويجازيكم على مقتضى حسابه.
{ الله } الجامع لجميع مراتب الأسماء الموجودة المريبة لمسمياتكم وهوياتكم { لا إله } لا موجودة ولا مربي لكم في الوجود { إلا هو } الحي القيوم الذي لا يعرض له التغيير مطلقا { ليجمعنكم } وليحشرنكم من قبور تعيناتكم { إلى يوم القيامة } التي عرضوا فيها إلى الله، وحشروا نحوه مسنلخين عن هوياتكم الباطلة { لا ريب فيه } وفي جمعه، فلكم بعدما أخبرتم أن تصدقوه { ومن أصدق من الله حديثا } [النساء: 87] حتى تصدقوا حديثه وتؤمنوا، فعلكيم ألا تخالفوا حكم الله وأمره بعد وروده.
وإذا كان الأمر على هذا { فما } أي شيء عرض ولحق { لكم } أيها المؤمنون { في } أمر { المنافقين } حتى تكونوا { فئتين } فرقتين، ولم تتفقوا على كفرهم وشركهم { والله أركسهم } الحال أنه سبحانه قلبهم وردهم إلى كفرهم { بما كسبوا } لأنفسهم من الشرك بالله - العياذ بالله - والبغض مع رسوله والنفاق مع المؤمنين { أتريدون } بهذا التفرق والتردد في أمرهم { أن تهدوا من أضل الله } وتخالفوا كلمه، كأنكم لم تصدقوه { و } اعلم أيها الكامل في أمر الرسالة { من يضلل الله } عن نور الإيمان والهداية { فلن تجد } أنت مع كونك ممن أذن بالكشف عنه { له سبيلا } [النساء: 88] إلى الهداية فضلا عن أن يجده غيرك، وهم من غاية بغضهم معكم.
[4.89-90]
{ ودوا لو تكفرون } أي: تمنوا أن تكفروا { كما كفروا فتكونون } معهم { سوآء } في الكفر والضلال والبعد من جوار الله وكنفه، وإذا كان الأمر على هذه { فلا تتخذوا منهم } أي: أعداءكم { أوليآء } توالونهم وتوادونهم { حتى يهاجروا } أي: إلى أن يسلموا ويهاجروا { في سبيل الله } ويبعدوا عن ديارهم وعشائرهم؛ تقربا إلى الله وتوجها إلى رسوله { فإن تولوا } أي: أعرضوا عن الإسلام والتقرب إلى الله بعدما هاجروا عن ديارهم { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم } كسائر المشركين { ولا تتخذوا منهم } أي: من هؤلاء المهاجرين المصرين على شركهم وكفره { وليا } توالونه { ولا نصيرا } [النساء: 89] تنصرونه، فعليكم أن تجانبوهم وتتركوا ولايتهم وودادهم.
{ إلا } المهاجرين { الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثق } عهد وثيق على ألا تستعينوا منهم ولا تعينوا عليهم، والمواصلون إليهم في حكمهم وعلى عهدهم، فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم حتى لا تنقضوا الميثاق { أو جآءوكم } حال كونهم قد { حصرت } ضاقت وانقضت { صدورهم } من الرعب، من المهابة، وحين كره ولم يؤذن { أن يقتلوكم أو يقتلوا قومهم } لأن المروءة تأبى عن ذلك؛ إذ هم ليسوا على عدة القتال، فعليكم ألا تبادروا إليه؛ إذ القتال إنما فرض مع المقاتلين المجترئين { ولو شآء الله } قتالكم { لسلطهم } لجرأهم { عليكم } وأزال رعبهم عنكم { فلقتلوكم } ولم ينصرفوا عنكم { فإن اعتزلوكم } وانصرفوا عنكم { فلم يقتلوكم } ولم يتعرضوا لكم { و } مع ذلك { ألقوا إليكم السلم } أي: الاستسلام والانقياد { فما جعل الله } الميسر { لكم } جميع أموركم { عليهم } أي: على قتلهم وأسرهم { سبيلا } [النساء: 90] بل اصبروا حتى يأذدن الله لكم.
[4.91-92]
{ ستجدون آخرين } من الكفار { يريدون أن يأمنوكم } بإظهار الهدنة والمحبة والاستسلام { ويأمنوا قومهم } عن شركم وقتالكم، هم أعداء لكم لا تغفلوا عنهم وعن هجومهم بغتة؛ إذ هم { كل ما ردوا إلى الفتنة } إلى الكفر والعداوة { أركسوا فيها } وعادوا إليها وصاروا على ما كانوا، بل أشد منه { فإن لم يعتزلوكم } إظهارا لودادتكم { ويلقوا إليكم السلم } تخديعا وتأمينا { ويكفوا أيديهم } عن قتالكم تغريرا لكم حتى يتهيئوا أسبابهم { فخذوهم } وأسروهم { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث وجدتموهم في داركم أو دارهم { وأولئكم } المغرورون بخداعهم { جعلنا لكم عليهم } على أخذهم وقتلهم { سلطانا مبينا } [النساء: 91] حجة واضحة، فعليكم ألا تعبئوا بدعواهم، ولا تغتروا بصلحهم وكفهم، وإلقائهم السلم؛ إذ هم من غاية بغضهم معكم يريدون أن يخدعوكم وينتهزوا الفرصة لمقتكم.
{ وما كان } أي: ما صح وجاز { لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا } لا قصدا واختيارا مطلقا { ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة } أي: لزم عليه شرعا تحرير رقبة متصفة بالإيمان، محكومة به؛ ليكون كفارة مسقطة لحق الله { و } لزم عليه أيضا { دية } كاملة { مسلمة إلى أهله } ورثته الذين يرثون منه حفظا لحقوقهم، وجبرا لما انكسر من قلوبهم { إلا أن يصدقوا } أي: يسقطوا حقوقهم متصدقين { فإن كان } المقتول { من } عداد { قوم عدو لكم } عداوة بينة { وهو } أي: المقتول { مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } أي: فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط، إذ لا مواساة مع أهله، ولا وراثة لهم منه { وإن كان } المؤمن المقتول { من قوم } ذوي ذمة { بينكم وبينهم ميثاق } عهد وثيق { فدية } أي: فاللازم حينئذ دية كاملة { مسلمة إلى أهله } حفظا للميثاق ومواساة معهم رجاء أن يؤمنوا؛ إذ سر المواثيق والعهود الواقعة بين أهل الإيمان والكفر إنما هو المواسة والمداراة معهم ملاطفة؛ رجاء أن يرغبوا بالإيما طوعا { وتحرير رقبة مؤمنة } لإسقاط حق الله وجبر ما انكسر من حدوده { فمن لم يجد } رقبة مملوكة ولا ما يتوصل به إلأيها { فصيام شهرين متتابعين } فعليه أن يصوم شهرين كاملين على التوالي بلا فصل كسرا لما جرأه على هذا الخطأ، وليكون { توبة } مقبولة عند الله مكفرة لخطئه ناشئة { من } خوف { الله } وخشيته لاجترائه على تخريب بيته { وكان الله } المطلع بصمائر عباده { عليما } بحاله وقت إنابته ورجوعه { حكيما } [النساء: 92] فيما أمره وحكم عليه لإزالة ما عليه وما صدر عنه.
[4.93-94]
{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا } مباشرا على قتله إرادة واختيارا، والعمد على الوجه من إمارات الاستحلال { فجزآؤه } أي: جزاء المستحل ووبال وزره لا يسقط عنه لا بالتحرير ولا بالدية، ولا بالصوم والصدقة، بل جزاؤه { جهنم } البعد عن جوار الله يصير { خلدا فيها } مؤبدا إلى ما شاء الله { و } مع خلوده في نار الخذلان والحرمان { غضب الله عليه } أي: أخذه وأخزاه بأنواع الخزي والمذلة { ولعنه } طرده عن حضوره، وأسقطه عن مرتبة خلافته { وأعد له } أي: هيأ له { عذابا عظيما } [النساء: 93] بحيث لا يصغو معه، ولا ينظر إليه أبدا.
نعوذ بك من غضبك وسخطك يا أرحم الراحمين.
ومن عظم أمر القتل عند الله، وإزالة الحياة التي حصل من نفخ الروح الذي أضافه لنفسه، أمر سبحانه على المؤمنين الذين يقصدون بالقتال والجهاد رضاء الله وإعلاء دينه ترويج توحيده بالتبيين والتفتيش فيه على وجه المبالغة؛ حتى لا يؤدي إلى تخريب بنائه وإبطال صنيعه، فقال مناديا: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم { إذا ضربتم } سافرتم للجهاد { في سبيل الله } لإعلاء كلمة توحيده، وانتصار دين نبيه { فتبينوا } فاطلبوا بيان الأمر والحال من كل من استقبل عليكم، ولا تبادروا إلى قتل بلا تفتيش حالة { و } خصوصا { لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } الإطاعة والانقياد { لست مؤمنا } بل كافرا مداهنا خائفا تبادر علينا بالإطاعة حفظا لدمك ومالك حال كونكم { تبتغون } تطلبون بهذا القول { عرض الحيوة الدنيا } أي: متاعها التي هي حطام زائلة، وأثاث باطلة { فعند الله } لكم إن امتثلتم لأمره ورضيتم { مغانم كثيرة } مما تتلذذ به نفوسكم يغنيكم عن حطام الدنيا ومزخرفاتها، بادروا إليها، ولا تميلوا إلى لذاتها الفانية.
{ كذلك } أي: مثل ما ألقى إليكم السلم { كنتم من قبل } أي: قبل رسوخكم على الإيمان واطمئنانكم على شعائر الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة، وأظهرتم الإيمان والإطاعة لحفظ دمائكم وأموالكم { فمن الله عليكم } بالتمكن والاطمئنان والعزيمة الصحيحة والاستقامة في شعائر الإسلام، { فتبينوا } أيضا عن حالهم، واقبلوا منهم قالوا كما قبل الله منكم من قبل؛ رجاء أن ينكشفوا بما انكشفتم { إن الله } المطلع بسرائركم وضمائركم { كان } في سباق علمه { بما تعملون } من الأغراض المؤدية إلى الحطام الدنيوية { خبيرا } [النساء: 94] علميا لا يعزب عن علمه وخبرته شيء.
روي أن سرية من أصحاب رسول الله غزت أهل فدك، فهربوا وبقي لها مرداس اعتمادا على إسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ عنمه إلى شعب الجبل وصعد عليه، فلما تلاحقوا كبروا وكبر أيضا، ونزل وقال: لا إله إلى الله محمد رسول الله السلام عليكم يا أصحاب رسول الله، مرحبا بكم وبقدومكم فقتله أسامة، واستاق غنمه، فنزلت.
[4.95-96]
ثم قال سبحانه: { لا يستوي القعدون } عن الحرب { من المؤمنين } حال كونكم { غير أولي الضرر } من الدم والمرض الذمامة وغيرها { والمجهدون في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم } ابتغاء لوجه الله وطلبا لمرضاته { فضل الله المجهدين بأمولهم وأنفسهم على القعدين درجة } عظيمة وفاء لحق ما اجتهدوا في سبيه { و } إن كان { كلا } منهم ممن { وعد الله } لهم المثوبة { الحسنى } والمراتب العظمى والدرجة العليا { وفضل الله المجهدين } زيادة { على القعدين أجرا عظيما } [النساء: 95] هو الفوز بمرتبة الشهادة.
وفضل الله لهم في تلك المرتبة { درجات منه } بعضها قريب، وبعضها أقرب إلى ما يشاء الله { ومغفرة } لذنوبهم بالمرة كيوم الولادة { ورحمة } خاصة لهم بأن يكونوا عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله { وكان الله } المراقب لأحوال عباده { غفورا } لذنوبهم { رحيما } [النساء: 96] لهم يرحمهم حسب فضله وطوله.
[4.97-99]
ثم قال سبحانه: { إن الذين توفاهم الملائكة } وهم الذين بقوا في مكة، ولم يهاجروا مع رسول الله ولا بعده، فاستزلهم العدو، وأخرجوهم إلى قتال رسول الله يوم بدر، فقتلهم الملائكة حين إمدادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم { ظالمي أنفسهم } بتوطينها بين العدو مع القدرة على الهجرة، مع أنه حينئذ لا يقبل منهم الإيمان بلا هجرة، ثم نسخ بعد الفتح لذلك قال عليه السلام:
" لا هجرة بعد الفتح "
{ قالوا } أي: الملائكة لهم حين أظهروا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { فيم كنتم } في أي أمر وشأن من دينكم مع كونكم بين أعداء الله ورسوله؟ { قالوا } في جوابهم معتذرين: { كنا مستضعفين } محبوسين { في الأرض } أرض العدو حين استزلونا وأخرجونا إلى قتال رسول الله { قالوا } أي: الملائكة موبخين لهم مقرعين تبكيتا والزاما: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } مع كونكم غير ملجئين على القعود { فأولئك } البعداء المداهنون مع الأعداء المظاهرين لهم { مأواهم } ومثواهم { جهنم } البعد عن جوار الله وسعة رحمته { وسآءت } جهنم { مصيرا } [النساء: 97] مآبا ومتقلبا لهم.
{ إلا المستضعفين من الرجال } الذين استضعهم المرض أو الهرم أو عدم المكنة { والنسآء } لأنهن لسن متكلفات بالهجرة إلا مع أزواجهن { والولدان } وهم ليسوا من أهل التكليف، وبالجملة: المستضعفون هم الذين { لا يستطيعون حيلة } أي: لا يقدرون على إحداث حيلة تنجيهم عن أعدائهم { ولا يهتدون سبيلا } [النساء: 98] يوصلهم إلى أوليائهم حتى يهاجروا.
{ فأولئك } المضطربون في أمر الهجرة المستضعفون في يد العدو { عسى الله أن يعفو عنهم } أي: يمحو عن صحائف أعمالهم زلتهم الاضطرارية، ويغفر ذنوبهم كسائر المؤمنين إن كانوا مخلصين في الإيمان { وكان الله } المطلع لسرائر عباده ونيابتهم { عفوا } لمن أخلص { غفورا } [النساء: 99] لمن تاب ورجع.
[4.100-101]
{ ومن يهاجر } عن بقعة الإمكان التي هي أرض الطبيعة سالكا { في سبيل الله } الذي هو الصراط المستقيم الموصل إلى الفناء فيهن، متوجها إلى الفوز ببقائه الأزلي السرمدي { يجد في الأرض } أرض الطبيعة { مرغما كثيرا } أي: بوادي وأودية من اللذات الوهمية، كثر وقوفه فيها إلى أن ينجو { و } يجد أيضا { سعة } مخرجا من تلك المضائق حسب إخلاصه في سلوكه إلى أن يفوز بمطلوبه { و } بالجملة: أن { من يخرج من بيته } أي: هويته الباطلة في نفسها حال كونه { مهاجرا إلى } توحيد { الله و } متابعة { رسوله ثم يدركه الموت } الإرادي فمات عن لوازم البشرية مطلقا { فقد وقع أجره على الله } كما قال سبحانه في الحديث القدسي:
" من أحبني أحببته، ومن أحببته قتلته، ومن قتلته فعلي ديته، ومن علي ديته فأنا ديته ".
من هذا تفطن العارف أن ليس وراء الله مرمى، وإياك أن تتقيد بهويتك ولوازمها، ومتى تخلصت عنها وعن لوازمها وصلت، بل اتصلت { وكان الله } المرشد لعباده إلى توحيده { غفورا } لذنوب أنانيتهم وهيتهم { رحيما } [النساء: 100] لهم يوصلهم إلى ما يتوجهون نحو.
ثم قال سبحانه: { وإذا ضربتم } سافرتم { في الأرض } لا لمعصية، بل لمصلحة دينية من تجارة وغزو وحج وصلة وطلب علم، وغير ذلك { فليس عليكم جناح } ضيق وزر { أن تقصروا من الصلوة } الرباعية ركعتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } بالاحتيال والاغتيال { إن الكافرين كانوا } دائما { لكم عدوا مبينا } [النساء: 101] ظاهر العداوة مترصدين للفرصة.
[4.102]
{ وإذا كنت } يا أكمل الرسل { فيهم } أي: في المؤمنين { فأقمت لهم } أنت لهم { الصلوة } إماما، فرقهم فرقتين { فلتقم طآئفة منهم معك } متابعين لكل مؤتمنين بك { وليأخذوا أسلحتهم } أي: جميعها احتياطا { فإذا سجدوا } هؤلاء المؤتمون { فليكونوا } أي: الطائفة الأخرى { من ورآئكم } حارسين حافظين لكم { ولتأت } بعدما صلوا { طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } كما صلوا { وليأخذوا } معهم { حذرهم وأسلحتهم } كما أخذوا، فليكن المصلون من ورائكم كما كانوا، فيصلي الإمام صلاة الخوف مرتين مع الطائفتين، أو يوزعهما عليهما على اختلاف الفقهاء، فعليكم ألا تغفلوا من العدو سيما عند الخوف؛ إذ { ود } تمنى { الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } بصلاة ونحوها { فيميلون عليكم } بغتة { ميلة واحدة } فصادفوكم عزلا لا سلاح معكم، فاستأصلوكم بالمرة.
{ و } ليس هذا الأمر للوجوب، بل { لا جناح } لا ضيق، ولا جرم { عليكم إن كان بكم أذى من مطر } وغيره { أو كنتم مرضى } يشق عليكم أخذها { أن تضعوا أسلحتكم } لدفع الحرج { وخذوا } حين وضعها { حذركم } أي: من حذركم مقدار ما يحذر به إن أتوا بغتة { إن الله } القادر المقتدر على الانتقام { أعد } هيأ { للكافرين } به وبرسوله { عذابا مهينا } [النساء: 102] بأيدي المؤمنين، يغلبهم ويذلهم، وأعد للمؤمنين النصر والظفر بعدما أمرهم بالتيقظ والاحتياط؛ لئلا ييأسوا من عون الله ونصره.
[4.103-105]
{ فإذا قضيتم الصلوة } عند الخوف على الوجه المأمور { فاذكروا الله } بعد الفراغ منها { قياما } قائمين { وقعودا } قاعدين { وعلى جنوبكم } مضطجعين؛ جبرا لما فوتم من أركانها وأبعاضها وآدابها حالة اضطرابكم { فإذا اطمأننتم } وزال خوفكم وارتفع رعبكم { فأقيموا الصلوة } وأتموها وأدوها، مراعين جميع شرائطها وآدابها، محافظين عليها، مهتمين { إن الصلوة } المقربة لكم إلى ربكم { كانت على المؤمنين } الموقنين بوحدانية الله المتوجهين نحو فردانيته بجميع الأعضاء والجوارح { كتبا موقوتا } [النساء: 103] فرضا موقتا محدودا، لازم الأداء لكل مكلف جبل على نشأة التوحيد.
{ ولا تهنوا } ولا تضعفوا { في ابتغآء القوم } أي: في وقت طلب الكفار قتالكم، إذ هم مثلكم { إن تكونوا تألمون } أيضا { فإنهم يألمون كما تألمون و } فائدة القتال وربحه عائد بكم؛ إذ { ترجون من } فضل { الله } لانتصاره وإعلا كلمته { ما لا يرجون } فما لكم تضعفون وتجنبون عنه { وكان الله } الموفق لكم على القتال والأمر به { عليما } بقوتكم ومقاومتكم { حكيما } [النساء: 104] فيما أمركم ونهى عنكم؟ فاتخذوه سبحانه وقاية لأنفسكم، وفوضوا أموركم كلها إليه، وامتثلوا لجميع ما أمر طائعين راغبين.
{ إنآ أنزلنا } من مقام جودنا وإحساننا { إليك } يا أكمل الرسل { الكتاب } الفارق بين الحق والباطل متلبسا بالحق الصريح { بالحق لتحكم بين الناس } بالعدل الذي هو صراط الله الأعدل الأقوم خصوصا { بمآ أراك الله } أي: عرفك وأوصاك به { ولا تكن للخآئنين } أي: لأجلهم وعاية جانبهم { خصيما } [النساء: 105] لأهل البراءة.
[4.106-109]
{ واستغفر الله } من رمي البرئ، والميل إلى الخائن { إن الله } المطلع لضمائر عباده { كان غفورا } لمن استغفر له { رحيما } [النساء: 106] لمن أخلص في استغفاره.
نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر، سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان، هو في جراب دقيق ينثر من خرق فيه، وأودعها عند زيد بن السهني اليهودي، فلما وقف قتادة ظن أنه عند طعمة وطلب منه، فأنكر وتفحص في بيته ولم يجد، وحلف ما أخذها وما له بها علم وخبر، فتركه واتبع أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي، فوجدها في بيته، وقال: أودعها عندي طعمة، وشهد له ناس من اليهود، فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فالتمسوا منه صلى الله عليه وسلم أن يجادل في صاحبهم، وقالوا: إن لم تجادل عنه هلك وافتضح، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميل ويفعل ما التمسوا مداهنة ومجادلة، فجاء جبريل عليه السلام بهذه الآية، فندم صلى الله عليه وسلم عما هم، واستغفر ربه، ورجع، وتضرع.
{ ولا تجادل } يا من أرسل على الحق مع المحقين { عن } جانب المبطلين { الذين يختانون أنفسهم } باقتراف الخياننة وانتسابها إلى الغير افتراء { إن الله } المرسل لك على الحق { لا يحب من كان خوانا } مقترفا للخياننة { أثيما } [النساء: 107] مفتريا لغيره؛ تنزيها لنفسه عند الناس، استخفاء منهم.
وهم من غاية عمههم وجهلهم { يستخفون } خيانتهم { من الناس } مع بعدهم عنهم { ولا يستخفون من الله وهو معهم } والرقيب عليهم أقرب من وريدهم { إذ يبيتون } يلبسون ويزورون { ما لا يرضى } الله { من القول } الكاذب ورمي البرئ وشهادة الزور، والحلف الكاذب وغير ذلك { وكان الله } المطلع بسرائرهم وضمائركم { بما يعملون } من أمثال هذه الأباطيل الزائفة { محيطا } [النساء: 108] لا يعزب عن عمله شيء.
{ هأنتم } أيها المجادلون المبطلون { هؤلاء } الخائنون المفترون { جدلتم عنهم في الحيوة الدنيا } فسترتم ما عرض بهم من الخيانة والعار في هذه الدار { فمن يجدل الله } المنتقم { عنهم يوم القيمة } ويستر زلتهم عنه فيها { أم من يكون عليهم وكيلا } [النساء: 109] بظاهرهم، وينقذهم من عذاب الله وبطشه.
[4.110-113]
{ و } بالجملة: { من يعمل سوءا } معصية متعدية ليسوء به غيره رميا وافتراء { أو يظلم نفسه } بالخروج عن حدود الله بلا تعدية إلى الغير، ثم بعدما تفطن بوخامة عاقبته { ثم يستغفر الله } بالتوبة والندامة الناشئة عن محض الخلوص والتيقظ { يجد الله } الموفق له على التوبة { غفورا } يغفر ذنوبه { رحيما } [النساء: 110] يقبل توبته تفضلا وامتنانا.
{ ومن يكسب } منكم { إثما } موجبا للنكال والعذاب { فإنما يكسبه على نفسه } لا يتعدى وباله عنه { وكان الله } المجازي لعباده { عليما } بما صدر عنهم { حكيما } [النساء: 111] فيما جرى عليهم.
{ ومن يكسب } منكم { خطيئة } معصية صادرة عن خطأ لا عن قصد { أو إثما } صادرا عن قصد وعن اختيار { ثم يرم به } منزها عند نزاهة نفسه { بريئا فقد احتمل } وتحمل الرامي { بهتانا } افتراء { وإثما مبينا } [النساء: 112] في إسقاط العدالة واستجلاب العذاب.
{ ولولا فضل الله عليك } يا أكمل الرسل بإنزال الوحي { ورحمته } بإعلام ما هم عليه من رمي البريء { لهمت طآئفة منهم أن يضلوك } عن منهج الرشاد ومقتضى حكم الله وأمره { و } بعدما أدركك الوحي والإلهام { ما يضلون } بتلبيسهم { إلا أنفسهم } إذ عاد وباله ونكاله عليهم { وما يضرونك من شيء } أي: شيئا من الضرر؛ لأن الله يعصمك عما لبسوه عليك، ويأخذهم { و } عليك أن تجتنب عن تلبيساتهم وتزوراتهم، والإصغاء إلى أكاذيبهم ومفترياتهم؛ إذ { أنزل الله عليك } من غاية لطفه { الكتاب } المبين للوقائع والأحكام { والحكمة } المتقنة الكاشفة عن سرائرها { وعلمك } من الحقائق والمعارف { ما لم تكن تعلم } من قبل { وكان فضل الله عليك } بإعطاء هذه الفضائل { عظيما } [النساء: 113] إذ لا فضل أعظم منه.
[4.114-116]
وإذا كان شأنك عند الله هذا، لا تبالك بهم وبمعاونتهم ومصاحبتهم؛ إذ { لا خير في كثير من نجواهم } دعائهم ومناجاتهم في خلواتهم { إلا من أمر } نفسه { بصدقة } على الفقراء موجبة لرحمة الله له { أو معروف } مستحسن عقلا وشرعا من الأخلاق الحميدة والخصائل المرضية { أو إصلاح بين الناس } على الوجه الأحسن الأوفق { ومن يفعل ذلك } كل واحد من ذلك { ابتغآء مرضات الله } خالصا لرضاه، بل تخلل الرياء والسمعة، وقصد الرئاسة والجاة بين الأنام { فسوف نؤتيه } من فضلنا وجودنا { أجرا عظيما } [النساء: 114] فوق ما يستحقه.
{ ومن يشاقق الرسول } ويخالفه { من بعد ما تبين } ظهر { له الهدى } جاء به الرسول لدلالة المعجزات الساطعة والبراهين القاطعة على صدقه { و } مع ظهور هذه الدلائل الواضحة { يتبع غير سبيل المؤمنين } المتابعين لهم كابرة وعنادا { نوله } على { ما تولى } من الغي والضلال، ونخل بينه وبينه في النشأة الأولى { و } في النشأة الأخرى { نصله } ندخله { جهنم } البعد والخلاذن { وسآءت } جهنم { مصيرا } [النساء: 115] منقلبا ومآبا لأهلها.
أجرنا من النار يا مجير.
ثم قال سبحانه؛ تسلية للعصاة وترغيبا لهم إلى الإنابة والرجوع: { إن الله } المطلع لسرائر عباده { لا يغفر } ولا يعفو { أن يشرك به } شيئا من مصنوعاته في استحقاق العبادة، وإسناد الحوادث نحوه { ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } وإن استكرهه واستنكره وندم منه، ولم يصر عليه { ومن يشرك بالله } بنسبة الحوادث الكائنة إلى غيره { فقد ضل } عن جادة التوحيد { ضلالا بعيدا } [النساء: 116] لا ترجى هدايته أصلا.
[4.117-121]
{ إن يدعون من دونه } أي: ما يدعون من دون الله آلهة { إلا إنثا } وهي: اللات والعزى والمناة { وإن يدعون } من دونه { إلا شيطنا مريدا } [النساء: 117] مردودا لا خير فيه أصلا؛ إذ هو حملهم وأغراهم على عبادة الأصنام الجامدة.
وكيف يعبدونه ويدعون له وقد { لعنه الله } وطردهه عن عز حضوره، وأخرجه من خلص عباده بواسطة تغرير العباد وإغراضهم إلى الشرك والطغيان { و } بعدمى آيس عن روح الله، وقنط من رحمته { قال لأتخذن من عبادك } الذين طردتني بسببهم وأبعدتني لأجلهم { نصيبا } حظا كاملا مما جعلته { مفروضا } [النساء: 118] لهم من توحيدك وتقديسك، بأن يغرهم ويلبس عليهم إلى أن يشركوا بك، وينسبوا إليك ما لا يليق بجنابك فينحطوا بها عن كتف حفظك وجوارك، ويستحقوا سخطك وغضبك.
{ ولأضلنهم } بأنواع الخدات والوسوسة عن طريق توحيدك { ولأمنينهم } بما يتعلق بمعاشهم في دار الغرور من الحرص وطول الأمل، وسائر مشتهيات النفس ومستلذاتها { ولأمرنهم } بتغيير أوضاعك وتنقيص مصنوعاتك وتخريب مخترعاتك { فليبتكن } ليشقن { ءاذان الأنعم } وأنوف الخيل، وغير ذلك من الأعمال التي عملوا مع خلقك بلا رخصة شرعية { ولأمرنهم فليغيرن خلق الله } بموالاتي أياهم، ومواساتي معهم إلى أن يغيروا ما خلق على مقتضى الحكمة من الأمور التي خرج بها عن الفطرة الإلهية وانحرفوا بها عن طريق الأقوم الأعدل { و } بالجملة: { من يتخذ الشيطن وليا من دون } ولاية { الله } المولي لجميع أموره { فقد خسر } لنفسه { خسرانا مبينا } [النساء: 119] ظاهرة الخسارة والحرمانن؛ إذ بدل ولاية الله الهادي بولاية الشيطان المضل، ولا خسران أعظم منه.
وكيف لا يكون ولاية الشيطان خسرانا؛ إذ { يعدهم ويمنيهم } ما لا ينالون ويصلون إليه أصلا، كيف يصلون وإلى أي شيء ينالون { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [النساء: 120] أوهاما وخيالات باطلة، لا وجود لها أصلا لا حالا ولا مآلا؟!
{ أولئك } المغرورون بغرور الشيطان والضالون بإضلاله { مأواهم } ومثواهم { جهنم } البعد والإمكان { و } هم { لا يجدون عنها محيصا } [النساء: 121] ملجا ومهربا أصلا، بل يبقون فيها مخلدا مؤبدا.
[4.122-123]
{ والذين آمنوا } بولاية الله وتوحيده { وعملوا الصالحات } على مقتضى ما أمر الله ويسره { سندخلهم } من فضلنا { جنات } متنزهات من العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أنهار الحقائق والمعارف والكشوفات والشهودات المتجددة بتجددات التجليات المترتبة على الأسماء والصفات الإلهية { خالدين فيهآ أبدا } على هذا المنوال { وعد الله } الذي وعده لخلص عباده { حقا } ثابتا في علمه الحضوري قبل خلقهم بمدة لا يعرفها إلا هو، فعليكم أيها المؤمنون أن تصدقوا وعده الثابت عنده { ومن أصدق من الله قيلا } [النساء: 122] فيصدقوه ويثقوا به.
واعلموا أن ما ينالكم، ويصل إليكم مما وعد لكم ربكم { ليس } وصوله وحصوله { بأمنيكم } أي: بمجرد أماني بلا قدم وسلوك { ولا أماني أهل الكتاب } أي: ليس ما ييصل إليهم بأمانيههم، فلا تخالفوا، وتنازعوا معهم، بل الأمور كلها إنما هي بمتقضى فضل الله وعدله وحسب توفيقه وتيسيره، وبالجملة: { من يعمل } منكم ومنهم { سوءا } بسوء به نفسه وغيره { يجز به } على مقتضى عدل الله عاجلا وآجلا { ولا يجد له من دون الله وليا } ينقذه من عذاب الله { ولا نصيرا } [النساء: 123] يحمل بعض عذابه تخفيفا له.
[4.124-126]
{ ومن يعمل من الصلحت } المأمورة كلها، أو بعضها سواء كان { من ذكر أو أنثى و } الحال أنه { هو مؤمن } بتوحيد الله وجميع كتبه ورسله { فأولئك } الصالحون الأمناء { يدخلون الجنة } المعدة لأهل الإيمان والصلاح { ولا يظلمون } ينقصون من جزاء ما عملوا { نقيرا } [النساء: 124] مقدار نقر النواة، بل يزدادون عليها ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
{ ومن أحسن دينا } وأقوم سبيلا { ممن أسلم } أي: أسلم { وجهه } المفاض له من الله { لله } المفيض لوجوه الأشياء الموجودة { وهو } في حالة التسليم { محسن } مع الله مستغرق بمطالعة جماله { واتبع ملة إبرهيم } التي هي أقوم الملل وأحسنها؛ إذ هو { حنيفا } مائلا عن الأديان الباطلة، والآراء الفاسدة مطلقا { و } لذلك { اتخذ الله } المطلع لضمائر عباده { إبراهيم خليلا } [النساء: 125] كأنه تخلل فيه إلى حيث صار سمعه وبصره ويده ورجله على ما نطق به الحديث القدسي.
ولا يظن أنه تخلل فيه على وجه الحلول والاتحاد، بل على التوحيدج الصرف الخالي عن الكثرة مطلقا؛ إذ { ولله } الواحد الأحد الصمد، الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] جميع { ما } ظهر { في السموت } أي: العلويات { وما } ظهر { في الأرض } أي: السفليات؛ إذ كل ما ظهر وما بطن فمنه بدأ وإلأيه يعود { وكان الله } االمتجلي في الآفاق والأنفس { بكل شيء } من مظاهره { محيطا } [النساء: 126] لا كإحاطة الظرفية بمظروفه، بل كإحاطة الشمس بالأضواء والأضلال، وإحاطة الروح بالجسم.
أذقنا بلطفك حلاوة توحيدك.
[4.127-128]
ثم قال سبحانه: { ويستفتونك في } ميراث { النسآء } هل يرثن أم لا؟ { قل } في جوابهم يا أكمل الرسل: { الله يفتيكم } ويبين لكم { فيهن } ميراثهن { و } هن { ما يتلى عليكم في الكتب } أي: القرآن { في } حق { يتمى النسآء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن } وتحرمونهن عن حقوقهن ظلما { و } مع ذلك { ترغبون أن تنكحوهن } أو تعضلوهن كرها { و } أيضا في حق { المستضعفين من الولدن } إذ هم كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النسوان { و } عليكم { أن تقوموا لليتمى بالقسط } وةالعدلا بلا جيف لهم في مالهم وعرضهم { وما تفعلوا من خير فإن الله } الرقيب عليكم { كان به عليما } [النساء: 127] فيجازيكم على مقتضى علمه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
{ وإن } اضطرت { امرأة } إلى الفرقة والسراح بأن { خافت من بعلها } سوء عشرته معها، وعدم رعاية حقوقها { نشوزا } عنها وميلا إلى غيرها { أو إعراضا } طلاقا وسراحا { فلا جناح } أي: لا ضيق، ولا تعب { عليهمآ } أي: على الزوجين { أن يصلحا بينهما } بأن أسقط كل منهما عما استحق له شيئا، أو زاد إلى أن يتصالحا { صلحا } ناشئا عن التراضي من الجانبين { والصلح } بينهما { خير } من الفرقة والطلاق { و } لكن فلما يقع إذا { أحضرت الأنفس } الأمارة بالسوء من الجانبين { الشح } أي: قد صارت الأنفس حينئذ مطبوعة مرغوبة على إحضار الشح والبخل فيما وجب عليها، فلا يسمح كل منهما من حقه شيئا، لذلك لم يرتفع النزاع والخصومة { وإن تحسنوا } أيها المؤمنون في المعاشرة مع الأزواج { وتتقوا } من غضب الله في الخروج عن مقتضى حدوده { فإن الله } المجازي لعباده { كان بما تعملون } من الميل إلى المحارم والإعراض عن حدود الله والمخالفة لأمره { خبيرا } [النساء: 128] يجازيكم على مقتضى خبرته.
[4.129-131]
{ و } إن كنتم ذوي أزواج فوق واحدة { لن تستطيعوا أن تعدلوا } وتعاشروا بالقسط إلى ألا يقع التفاوت والتفاضل { بين النسآء } أصلا { ولو حرصتم } بالغتم في رعاية العدل؛ إذ الميل الطبيعي يأبى عن إقامة العدل، لذلك قيل: لا وجود للاعتدال الحقيقي سيما في أمثاله { فلا تميلوا } أي: فعليكم ألا تميلوا، وتجانبوا عما تميلوا عنه { كل الميل فتذروها } إلى حيث تتركوها { كالمعلقة } لا أيما ولا ذات بعل { وإن تصلحوا } بعدما أفسدتم { وتتقوا } عن غضب الله في إضاعة حقها { فإن الله } المطلع لجميع ما صدر ويصدر عنكم { كان غفورا } لكم بعد ما تبتم ورجعتم عما صدر عنكم { رحيما } [النساء: 129] لكم يقبل توبتكم إن أخلصتم فيها.
{ وإن } يتنازعون حتى { يتفرقا } وارتفع النكاح بينهما { يغن الله } بفضله { كلا } منهما عن الآخر { من سعته } أي: من سعة رحمته وبسطة رزقه وفسحة مملكته { وكان الله } المتفضل لعباده { واسعا } لهم في عطائه { حكيما } [النساء: 130] في إعطاء ما ينبغي.
{ و } كيف لا يكون واسع العطاء؛ إذ { لله } المنعك المفضل جميع { ما في السموت وما في الأرض } وما بينهما ملكا وخلقا، وتدبيرا وتصرفا، وأيجادا وإعداما، وإبقاء وإفناء، وإذا كان الأمر على هذا فعليكم أن تتقوا من الله في السراء والضراء والخصب الرخاء { و } اعلموا أنا { لقد وصينا } من قمام فضلنا وجودنا { الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي: اليهود والنصارى، وجميع من أنزل إليهم الكتاب في كتبهم { وإياكم } أيضا في كتابكم هذا { أن اتقوا الله } المالك لأزمة الأمور بالاستحقاق، وأطيعوا أمره وتوجهوا نحوه، ولا تكفروا به { وإن تكفروا } وتعرضوا عن غاية جهلكم وعنادكم عما فرض عليكم أصلا إصلاحا لحالكم، فاعلموا أن الله الغني بذاته لا يبالي بكفركم وإيمانكم { فإن لله } رجوع { ما في السموت وما في الأرض } إرادة وطوعا { و } مع ذلك { كان الله غنيا } مستغنيا في ذاته وصفاته عن العالمين، وعن كفرهم وإيمانهم { حميدا } [النساء: 131] في نفسه حمد أو لم يحمد، وكيف لا يكون سبحانه غنيا في ذاته حميدا في نفسه؛ إذ ليس في الوجود غيره ولا شيء سواه ليحمده؟!.
[4.132-134]
بل { ولله } المنزه المستغني عن الأكوان الباطلة مطلقا { ما } ظهر { في السموت } أي: الأسماء والصفات المترتبة على تجليات الذات وتشعشعاتها { وما } انعكس منها { في الأرض } أي: الطبيعة العدم التي هي بمنزلة المرآة المقابلة لها { و } بالجملة: { كفى بالله } أي: كفى الله المتجلي لذاته بذاته في ملابس أسمائه وصفاته { وكيلا } [النساء: 132] مظاهر ظلاله وعكوسه، وليس نسبتم على الله أيها المنهمكون في بحر الغفلة، المحجوبون بحجاب التعينات العدمية لا بالمظهر الظلية.
{ إن يشأ يذهبكم أيها الناس } أي: الأضلال المحجوبون عن شمس الذات، الناسون في ظلمة العدم نور الوجود { ويأت } بدلكم { بآخرين } أي: بأظلال أخر تتذكروا لها، وتتوجهوا نحوها، وما ذلك على الله بعزيز { وكان الله } في ذاته { على ذلك } الإذهاب والتبديل { قديرا } [النساء: 133] لا يفتر قدرته أصلا، بل على هذا جريان سنته دائما؛ إذ هو كل يوم وآن في شأن، مع أن المحجوب لم ينتبه ولم يتفطن، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
نور قلوبنا بمعرفتك، وأبصارنا بمشاهدتك، وأرواحنا بمعاينتك، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.
{ من كان يريد } بالجهاد والقتال وجميع الأعمال المأمورة من عند الله { ثواب الدنيا } وما يصل إليها فيها من الغنيمة والرئاسة والتفوق على الأقران، وعلو المرتبة بين الأنام { فعند الله ثواب الدنيا } إنجاحا لمطلوبه { والآخرة } تفضلا وامتنانا { وكان الله } المطلع لسرائر عباده { سميعا } لمناجاتهم { بصيرا } [النساء: 134] بحاجاتهم، يوصلهم إلى غاية متمناهم مع زيادة إنعام وإفضال من عنده.
[4.135-136]
{ يأيها الذين آمنوا كونوا قومين } مداومين مواظبين { بالقسط } بإقامة العدل والإنصاف بينكم، وإن كنتم { شهدآء } في الوقائع كونوا شهداء مخلصين { لله } في أدائها بلا ميل وزور وإخفاء { ولو } كنتم شاهدين { على أنفسكم } باعتراف ما على ذمتكم من حقوق الغير { أو } ذمة { الولدين و } ذمم { الأقربين } فعليكم إيها الشهداء أن تقسطوا في أداء الشهادة بلا حيف وميل { إن يكن } المشهود عليه، أو المشهود له { غنيا أو فقيرا } يعني: ليس لكم أن تراعوا جانب الفقير وتجانوبا عن الغني، بل ما عليكم إلا أداء ما عندكم من الشهادة على وجهها { فالله أولى بهما } برعايتهما وإصلاحهما { فلا تتبعوا الهوى } أي: ما تهوى نفوسكم، وتميل قلوبكم إليه إن أردتم { أن تعدلوا } في أداء الشهادة { وإن تلووا } تغيروا وتحرفوا ألسنتكم عما ثبت وتحقق عندكم { أو تعرضوا } عن أدائها مطلقا، ألجموا بلجاممم من نار على ما نطق به الحديث، صلوات الله على قائله { فإن الله } المجازي لعباده { كان بما تعملون } من تغيركم وإعراضكم { خبيرا } [النساء: 135] يجازيكم على مقتضى خبرتهز
{ يأيها الذين ءامنوا } أي: الذين يدعون الإيمان، ويجرون كلمة التوحيد على اللسان على وجه التقليد والحسبان، وينكرون طريق أهل التوحيد والعرفان، ونسبون أهله إلى الإيمان والطغيان { ءامنوا } أيقنوا وأذعنوا { بالله } المتفرد في ذاته المتوحد في أسمائه وصفاته حتى عوينوا، وكوشفوا بتوحيده { ورسوله } أي: خليفته المصورة بصورته المبعوث على كافة بريته، الجامع لجميع مراتب أوصافه وأسمائه { والكتب } المبين لطريق توحيده { الذي نزل } من فضله ولطفه { على رسوله } المظهر لتوحيده الذاتي { و } جميع { الكتب الذي أنزل } من عنده { من قبل } على الرسل الماضين المبعوثين على الأمم الماضية، الظاهرين بتوحيد صفاته وأفعاله { ومن يكفر بالله } الأحد الصمد باعتقاد الوجود لغير الله من الأظلال والعكوس { وملآئكته } أوصافه وأسمائه المنتشئة من شئونه وصنوف كمالاته { وكتبه } المنتخبة من شئونه وتصوراته وتنوزلاته على هيئة الصوت الحرف؛ ليبين بها طريق التوحيد على التائهين في بيدان الغفلة، المنهمكين في بحر الضلال { ورسله } المكاشفين بمقاصد كتبه، المتحققين المتصفين على جميع ما أمر ونهى فيها المأمورين بتبليغها والإرشاد إلى مقاصدها { واليوم الآخر } المعد لجزاء من يتنبه ويتفطن من إنزال الكتب وإرسال الرسل، ومن لم يتنبه ولم يتفطن؛ إذ الحكمة تقتضي التفضل والترحم على من تنبه إلى طريق الحق بعد ورود المنبه والمبين، والانتقام على من لم يتنبه ولم يؤمن، بل ينكر ويكفر، ومن يكفر { فقد ضل } عن طريق التوحيد { ضلالا بعيدا } [النساء: 136] إلى حيث لا يتمنى هدايته وفلاحه.
من يضلل الله فلا هادي له، نعوذ بك منك يا أرحم الراحمين.
[4.137-140]
ثم قال سبحانه: { إن الذين آمنوا } بالله حين ظهر موسى كليم الله وبعث إليهم { ثم كفروا } به وبدينه حين ظهر عليهم السامري بالعجل { ثم آمنوا } بعد رجوع موسى من ميقاته { ثم } لما ظهر الزامن بانقطاع الوحي وإرسل الرسل وإنزال الكتب، وقع في أمر الدن فترة وضعف، أرسل عليهم عيسى عليه السلام وأنزل عليه الإنجيل؛ ليبين لهم طريق توحيده { كفروا } به وكذبوا بكتابه عنادا واستكبارا.
وبعدما انقرض جيل عيسى عليه السلام، أظهر سبحانه النبي الموعود في كتبه السالفة بأنه سيأتي نبي مبعوث على كافة البرة بالتوحيد الذاتي، وله دين ناسخ لجميع الأديان، وكتابه ناسخ لجميع الكتب، وبه يختم أمر النبوة والوحي والإرسال والإنزال؛ إذ بظهوره كمل طريق التوحيد والعرفان { ثم } لما ظهروتحقق عندهم ظهوره { ازدادوا } به { كفرا } وتكذيبا، وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا { لم يكن الله } الهادي لعباده والماحي لذنوبهم { ليغفر لهم } إن بقوا على كفره وإصرارهم { ولا ليهديهم سبيلا } [النساء: 137] إن انهمكوا في الغي والضلال.
{ بشر } يا أكمل الرسل { المنافقين } منهم، وهم الذين يدعون الإيمان بك وبكتابك وبدينك على طرف اللسان، وقلبم على الشقاق والطغيان الأصلي { بأن لهم } عند ربهم { عذابا أليما } [النساء: 138].
وحذر منهم ومن سراية خبثهم المؤمنين { الذين يتخذون الكافرين } المصرين على الكفر بالله وتكذيب الرسول { أوليآء } أحباء أصدقاء يصاحبونهم { من دون المؤمنين } قل للمتخذين من المؤمنين نيابة عنا: { أيبتغون } ويطلبون { عندهم العزة } ويعتقدون أنهم أعزة يتعززون بهم وبمصاحبتهم وموالاتهم مع أنه لا عزة لهم حقيقة، بل ضربت عليهم الذلة والهوان { فإن العزة } الغلبة والكبرياء والبسطة والبهاء { لله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { جميعا } [النساء: 39] لا يسع لغيره أن يتعزز في نفسه إلا بفضله وطوله.
ومن فضل الله لكم { وقد نزل عليكم في الكتب } المبين لدينكم، المنزل على نبيكم { أن } أي: أنه { إذا سمعتم } وعلمتم حين تلاوتكم { آيات الله } على رءوس الملأ أنه { يكفر بها ويستهزأ بها } - العياذ بالله - { فلا تقعدوا معهم } مع هؤلاء الكفار المستهزئين بل اتركونهم ومجالستهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } فإن لم تتركوهم، وتخرجوا من بينهم صرتم منتسبين للكفر، والاستهزاء بآيات الله { إنكم إذا } حين لم تتركونهم وتقعوا معهم { مثلهم } في استحقاق العذاب والنكال { إن الله } المتعزز بالمجد والبهاء لقادر على كل ما أراد وشاء { جامع المنفقين } المداهنين { والكفرين } المكذبين، المستهزئين { في جهنم } البعد والخذلان، وسعير الطرد والحرمان { جميعا } [النساء: 140] مجتمعين بلا تفاوت في العقوبة.
[4.141-143]
وكيف لا يجمع المنافقون مع الكافرين، وهم { الذين يتربصون بكم } أي: ينتظرون لمقتكم وهلاككم أيه المؤمنون المخلصون { فإن كان لكم فتح } وغنيمة { من } نصر { الله } عليكم { قالوا ألم نكن معكم } وفي عسكركم، لم لم يسهموا علينا، ولم يستخرجوا حقنا من الغنيمة؟ { نصيب } المقاتلين { قالوا } حظ من الاستيلاء والغلبة { وإن كان للكافرين } للكفرة إظهارا للمؤاخاة والمظاهرة: { ألم نستحوذ } ولم نستعن { عليكم } بالتكاسل والتواني وعدم الإعانة والمظاهرة عليهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم { ونمنعكم } بهذه الحيل { من المؤمنين }؟
فعليكم أن تشركونا فيما أصبتم منهم؛ إذ كانا متسببين لهم، لا تبالوا أيها المؤمنون بإيمان هؤلاء المنافقين وادعاء وفاقهم، ولا ينافقهم وشقاقهم { فالله } المطلع لضمائرهم { يحكم بينكم يوم القيامة } المعد للفصل والانتقام { و } ان احتجوا عليكم، وادعوا الإيمان؛ تلبيسا في هذه النشأة { لن يجعل الله } المولي لأمور عباده { للكافرين } المنافقين الملبسين { على المؤمنين } الموقنين، المخلصين { سبيلا } [النساء: 141] حجة دليلا في النشأة الأخرى؛ إذ فيها تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، وتجزى كل نفس بما تسمى.
ثم قال سبحانه: { إن المنافقين } المصرين على النفاق، يتخيلون أنهم { يخادعون الله } ويلبسون عليه، كخديعهم وتلبيسهم على المؤمنين { و } الحال أنه { هو خادعهم } وماكرهم باقتدارهم على هذا الخداع؛ إذ يترتب عليه من الجزاء ما لو علموا لهلكوا { و } من جملة نفاقهم وشقاقهم أنهم { إذا قاموا إلى } أداء { الصلاة } مع المؤمنين { قاموا كسالى } مبطئين، متكاسلين، وليس غرضهم منها سوى أنهم { يرآءون الناس } حتى يظنوا أنهم مؤمنون، مخلصون { و } مع ذلك { لا يذكرون الله } في الصلاة { إلا قليلا } النساء: 142] منهم، أخلصوا في نفسه، ولم يظهروا لخوفهم ، والحاصل أن أهل النفاق ليسوا من الكافرين عند الكافرين، وأيضا ليسوا من المؤمنين عند المؤمنين.
بل { مذبذبين } مرددين { بين ذلك } بحيث { لا } ينسبون { إلى هؤلاء } المؤمنين { ولا إلى هؤلاء } الكافرين، هم في أنفسهم ضالين، وعند الله مردودين { ومن يضلل الله } ويحليه على الضلال { فلن تجد له سبيلا } [النساء: 143] إلى الهداية أصلا.
اهدنا بلطفك إلى الصراط المستقيم.
[4.144-147]
{ يا أيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم { لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أتريدون } بصنيعكم هذا { أن تجعلوا لله } المحاسب، المجازي لأعمال عباده { عليكم } أيها المتخذون { سلطانا مبينا } [النساء: 144] حجة واضحة على كفركم ونفاقكم؛ إذ من فعلكم هذا يلوح أثر النفاق والشقاق مع المؤمنين، فعليكم ألا تصحبوهم، ولا تتخذوهم أولياء، سيما بعد ورود النهي، حتى لا تلحقوا بهم، ولا تحشروا في زمرتهم.
{ إن المنافقين } المصرين على النفاق { في الدرك الأسفل } والمرتبة الأرذل، الأذل { من النار } المعد لجزاء العصاة، الطغاة، الضالين عن طريق الحق وصرطه المستقيم { ولن تجد لهم نصيرا } [النساء: 145] يشفعه لهمن وينجيهم منها.
{ إلا الذين تابوا } وندموا عما جرى عليهم من النفاق { وأصلحوا } بالتوبة ما أفسدوا بالنفاق من شعائر الإيمان والإسلام { واعتصموا بالله } وفضله ولطفه حين رجعوا إليه، وتوجهوا نحوه { و } بعدما تابوا واعتصموا بالله { أخلصوا دينهم } إطاعتهم وانقيادهم { لله } المنزه عن الشريك والنظير، المقدس عن المشير والظهير، ليس كثمله شيء، وهو السميع البصير { فأولئك } السعداء، المقبولون عند الله { مع المؤمنين } في روح الله وكنف لطفه ورحمته { وسوف يؤت الله المؤمنين } في يوم الجزاء { أجرا عظيما } [النساء: 146] هو الفو بشرف اللقاء.
{ ما يفعل الله } المتجلي في الآفاق بالاستحقاق { بعذابكم } طردكم وحرمانكم { إن شكرتم } تحققتم بظهوره في هوياتكم الباطلة، وأسندتم ما صدر وظهر منكم إليه أصالة واستقلالا { وآمنتم } عرفتم توحيده، واعترفتم به { و } متى فنيتم في هوية الحق { كان الله } بذاته { شاكرا } لنعمه { عليما } [النساء: 147] بنفسه ولقد أحسن من قال:
لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطاء
أخال بإني شاكر لك ذاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا
بأنك مذكور وذكر وذاكر
[4.148-151]
ومن متقضيات التوحيد أيها المتوجهون نحوه ألا تظهروا، وتبثوا إلى الله الشكوى في الأمور المتعلقة بالدنيا، ولا تلحوا في المناجاة والدعاء، فإن ناقدكم بصير بحاجاتكم، وعليكم الرضا بما جرى عليكم من القضاء، ونعم القرين الرضا؛ إذ { لا يحب الله } المتجلي باسم الرحمن على ذرائر الأكوان معتدلا، مستويا بلا تفاوت، ولا يمدح عنده { الجهر } والإشاعة { بالسوء } أي: لا يحب أن يجهر بالقبيح، المستهجين عقلا وشرعا، ويبالي بشأنه، ويستدعي لأجله؛ إذ لا يجري في ملكه إلا العدل والخير، خصوصا الجهر { من القول إلا } جهر { من ظلم } فإنه سبحانه يحبه، ويبادر إلى إجابته؛ إذ الظالم خارج عن مقتضى عدل الله وصراطه المستقيم { وكان الله } المتجلي على العدل القويم { سميعا } لجهر المظلوم { عليما } [النساء: 148] بظلم الظالم، وبما استحق له من الجزاء، يجازيه على مقتضى علمه.
{ إن تبدوا } أيها المؤمنون وتظهروا { خيرا } على رءوس الأشهاد { أو تخفوه } أي: تعطوه خفية عن الناس { أو تعفوا } تجاوزوا عن الظالم، ولم تنتقموا منه، ولم تتضرعوا إلى الله المنتقم { عن سوء } فعل الظالم بكم { فإن الله } المطلع لسرائركم ونياتكم { كان عفوا } عنكم، ماحيا لذنوبكم مع كونه { قديرا } [النساء: 149] على انتقامه منكم.
ثم قال سبحانه { إن الذين يكفرون بالله } ويشركون له بإثبات الوجود لغيره { ورسله } أي: يكفرون برسله، ويكذبونهم مع كونهم مبعوثين على الحق من عنده { و } مع كفرهم وتكذيبهم { يريدون أن يفرقوا بين الله } المتوحد، المتفرد بذاته، المستقبل في وجوده { ورسله } المستخلفين من عنده بظهوره عليهم بجميع أسمائه وصفاته { ويقولون } من غاية جهلهم بظهور الله، واستيلائه على مظاهرة: { نؤمن ببعض } من الرسل { ونكفر ببعض } آخر، مع أن ظهوره في الكل على السواء بلا تفاوت { ويريدون } وتوهمون { أن يتخذوا } ويثبتوا { بين ذلك } أي: ارتباط الظاهر بالمظهر والمظهر بالظاهر { سبيلا } [النساء: 150] غير سبيل لاحق المطابق للواقع.
{ أولئك } البعداء، المتوغلون في الكفر { هم الكافرون حقا } أي: الكافرون المنهمكون فيه، المنتهون إلى مرتبة لا يعبأ بإيمانهم أصلا { وأعتدنا للكافرين } المستغرقين فقي الغي والضلال { عذابا مهينا } [النساء: 151] مذلا، مقسطا لهم عن الإنسانية بعدما جلبوا عليه صورة؛ إذ لا إهانة أشد من ذلك.
[4.152-154]
{ والذين آمنوا بالله } المتفرد في الوجود { و } اعترفوا بظهوره في { رسله } بجميع أوصافه وأسمائه { ولم يفرقوا بين أحد منهم } بالإيمان والكفر، بل يؤمنوا بجميعهم على السوية { أولئك } السعداء، الموفقون بهذه الكرامة في هذه النشأة { سوف يؤتيهم } تفضلا عليهم في النشأة الأخرى { أجورهم } بأضعاف ما استحقوا عليه { و } لا تستبعدوا من الله أمثال هذا؛ إذ { كان الله } الموفق لهم على الهداية { غفورا } لذنوبهم المبعدة عن طريق توحيده { رحيما } [النساء: 152] لهم، يوصلهم إلى ما عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
هب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
{ يسألك أهل الكتاب } من غاية جهلهم بالله، ونهاية غفلتهم عنه { أن تنزل عليهم كتابا من السمآء } على مقتضى ما تهوى نفوسهم، وترضى عقولهم، ولا تستكبر منهم هذا { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } وأشد بعدا واستحالة { فقالوا } من غاية بعدهم عن الله، ونهاية حجابهم عن مطالعة جماله: { أرنا الله } الذي تدعونا إليه، وترشدنا نحوه { جهرة } ظاهرة معاينة كالموجودات الأخر، وما قدروا الله حق قدره، لذلك أرادوا أن يحصروا، ويحيطوا به، مع أنه سبحانه أجل من أن يشار إليه، ويحاط به، ويدرك على ما هو عليه؛ إذ الإشارة والإحاطة والإدراك إنما هو منه وبه وفيه وإليه، ومن هذا شأنه كيف يدرك ويحس؟.
ونهاية حال الواصلين إليه أنهم انخلعوا عن هوياتهم الباطلة بالمرة، وفنوا في هويته واضمحلوا، لا إليه إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه { فأخذتهم الصاعقة } النازلة من السماء { بظلمهم } هذا فهلكوا { ثم } بعدما تابوا، ورجعوا إلى الله واستشفع لهم موسى صلوات الله عليه { اتخذوا العجل } إلها، وحصروا الألوهية فيه حين لبس عليهم السامري وخادعهم به، مع أن اتخاذهم هذا { من بعد ما جآءتهم البينات } الواضحة، الدالة على توحيد الله وتقديسه من الحصر والإحاطة { فعفونا عن ذلك } أيضا بعدما رجعوا إلينا والتجئوا نحونا متذللين { وآتينا } بعد ذلك { موسى سلطانا مبينا } [النساء: 153] حجة واضحة، ومعجزرة ملجئة لهم إلى الإيمان.
{ و } ذلك أن { رفعنا فوقهم الطور } معلقا { بميثاقهم } بسبب أن نأخذ منهم العهد الوثيق، إذ جاءوا به أزلنا عنهم، وإن أبوا أسقطنا عليهم { وقلنا لهم } أيضا بعدما أخذنا الميثاق عنهم على لسان موسى عليه السلام: { ادخلوا الباب } أي: البيت المقدس { سجدا } حال كونكم ساجدين، واضعين جباهكم على تراب المذلة، فدخلوا مسرعين ومزحفين، فنقضوا { وقلنا لهم } أيضا ميثاقا ومعادة على لسان داود عليه السلام: { لا تعدوا } لا تجاوزوا، ولا تخرجوا عن حد، ولا سيما { في السبت } أي: اصطياد الحيتان فيه، فاحتالوا في اصطيادها، فنقضوا ما عهدوا { و } بعدما { أخذنا منهم ميثاقا غليظا } [النساء: 154] أي: مواثيق غلاظ على إرادة الجنس، فنقضوا الكل، وخالفوا الأمر.
[4.155-158]
{ فبما نقضهم ميثاقهم } فبنقضهم المواثيق الغلاظ والعهود المؤكدة، فعلنا بهم ما فعلنا من الابتلاءات والاختبارات، وتحريم المباحثات وأنواع البليات والأذيات { وكفرهم بآيات الله } الدالة على توحيده، والمنزل على خلص عبيده { وقتلهم الأنبيآء } المعصومين عن الجرائم مطلقا { بغير حق } بلا رخصة شرعية { وقولهم } للأنبياء والرسل حين دعتهم للإيمان عتوا واستكبارا: { قلوبنا غلف } أوعية مملوءة بالحقائق والمعارف مختومة، لا يسع فيها ما جئتم به، والحال أنهم ليس في قلوبهم ما يتعلق بأمور الدين مقدار خردلة { بل طبع الله عليها } باسمه المضل، المذل، وختم عليها { بكفرهم } أي: بسبب كفرهم وشركهم { فلا يؤمنون } فلا يفقون على الإيمان منهم { إلا قليلا } [النساء: 155].
{ وبكفرهم } أي: بسبب كفرهم وسترهم الحق؛ عنادا ومكابرة { وقولهم } رميا وافتراء { على مريم } المنزهة عن الكدروات مطلقا { بهتانا عظيما } [النساء: 156] يتهمونها، ويرمونها بالزنا مع عصمتها وطهارة ذيلها.
{ وقولهم } أيضا إرجافا وإسماعا وتبجحا: { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم } مع كونه { رسول الله } وكلمته وروحا منه { و } الحال أنه { ما قتلوه وما صلبوه } لأنه في حمى الله وفوق سمائه { ولكن شبه لهم } رجل منهم؛ أي: ألقى الله شبهه على حارس منهم يحرسه؛ ليظفروا عليه، فرفع المشبه به فبقي المشبه، فقتل وصلب، ثم اختلفوا فقالوا: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا، فأين هو عيسى؟ { وإن الذين اختلفوا فيه } في قتله وصلبه ورفعه إلى السماء { لفي شك منه } تردد وارتياب { ما لهم به } وبأمره { من علم } تصديق ويقين { إلا اتباع الظن } والظن لا يغني عن الحق شيئا { و } الحق أنه { ما قتلوه يقينا } النساء: 157] كما زعموا.
{ بل } الحق أنه { رفعه الله } الرقيب عليه، المتولي لحفظه وأمره { إليه } أي: إلى كنفه وجواره؛ إنجازا لوعده في قوله:
إني متوفيك ورافعك إلي
[آل عمران: 55] { وكان الله } القادر على كل ما أراد وشاء { عزيزا } غالبا، مقتدرا على رفعه { حكيما } [النساء: 158] في قتل من شبه له؛ ليرجعوا بها.
[4.159-162]
ثم قال سبحانه: { وإن من أهل الكتاب } أي: ما من جميع من أنزل إليه الكتاب من المسلمين والنصارى واليهود، وسائر من أنزل إليهم أحد مكلف { إلا } وقد وجب له ولزم عليه، إنه { ليؤمنن به } أي: بعيسى - صلوات الله عليه وسلامه - حين نزوله؛ لتقوية دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو جامع لجميع الأديان؛ لإتيانها على التوحيد الذاتي.
وعند ظهوره صلى الله عليه وسلم اتحدت الأديان كلها، إلا أن المحجوبون لا يفهمون، مع أن عيسى - صلوات الله عليه وسلامه - من عجائب صنع الله، وبدائع مبدعاته، وغرائب مخترعاته، ومن أعزة أنبيائه وأجلة رسله، فلا بد أن يكون الإيمان به { قبل موته } إذ حكي في الحديث النبوي: إنه ينزل من السماء، ويعيش في الأرض زمانا، ويؤمن له جميع من في الأرض، ثم يموت قريب الساعة { ويوم القيامة يكون عليهم } أي: على جميع من آمن له، واتبع هداه { شهيدا } [النساء: 159] يشهد لهم بالإيمان عند الله.
{ فبظلم } خروج عن حدود الله، ونقض لعهوده صدر وظهر { من الذين هادوا حرمنا عليهم } في كتابهم { طيبات أحلت لهم } فيما مضى { و } أيضا { بصدهم عن سبيل الله } أي: إعراضهم عن طريق الحق إعراضا { كثيرا } [النساء: 160].
{ وأخذهم الربا } من المضطرين أضعافا مضاعفة { و } الحال أنه { قد نهوا عنه } في دينهم وكتابهم { وأكلهم أموال الناس بالباطل } بلا رخصة شرعية، مثل: السرقة، والغضب، والربا، والرشوة، وحيل الفقهاء، وتزويراتهم التي ينسبونها إلى الشرع الشريف افتراء، وتلبيسات أهل التشييخ والتدليس من هذا القبيل، ومن عظم جرم هؤلاء أسند سبحانه انتقامهم إلى نفسه بقوله: { وأعتدنا } صيرها وهيأنا { للكافرين } الساترين طريق الحق { منهم عذابا } بعيدا، وطردا { أليما } [النساء: 161] مؤلما؛ لتحسرهم على مرتبة أهل القرب والعناية.
{ لكن الراسخون في العلم منهم } وهم الذين يرتقون من مرتبة العلم إلى العين الحق { والمؤمنون } المصدقون الذين { يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } بلا تفريق وتفاوت؛ إيمانا واحتسابا { والمقيمين الصلاة } وهم الذين يديمون الميل بجميع الإعضاء والجوارح؛ إطاعة وانقيادا؛ إذ رجوع الكل إليه { والمؤتون الزكاة } وهم الذين يؤتون ما نسب إليهم من زخرفات الدنيا؛ طلبا لمرضات الله، وهربا عن التعلق بغيره { والمؤمنون بالله } أي: الذين يوقنون بتوحيد الله { واليوم الآخر } المعد لثمرة الأعمال الصالحة في طريقه { أولئك } السعداء، الأمناء، الموحدون، المخلصون { سنؤتيهم } من لدنا { أجرا عظيما } [النساء: 162] هو الفوز بشرف اللقاء.
ربنا آتنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
ورسوخ الراسخين إنما يحصل من إلهامنا ووحينا وإعلامنا، وإيقاظنا إياهم من سنة الغفلة ونعاس النسيان، وإرشادنا لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم من عندنا وذلك سنتنا المستمرة، وعادتنا القديمة، لا يحتاج فيها للإلحاح والاقتراح.
[4.163-165]
{ إنآ أوحينآ } من مقام جودنا { إليك } يا أكمل الرسل الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة على الوجه الأبلغ، الأبين لطريق التوحيد { كمآ أوحينآ إلى نوح } صحفا مبينة لطريق التوحيد والتنزيه؛ قدم لكونه أول من أنزل إليه الكتاب، وأقدم من سائر الأنبياء { و } أوحينا أيضا بعد نوح إلى { النبيين من بعده } ما يبنون به طريق الحق من الكتب والصحف { وأوحينآ } خصوصا { إلى } آبائك { إبراهيم } المتخلف بأخلاقه الإلهية، المتحقق بمقام الخلفة { وإسماعيل } المتمكن بمقام الرضا والتسليم.
{ وإسحاق } المترقب، المتوجه إلى الحق من كل صورة وشكل؛ لتحققه بمقام التوحيد { ويعقوب } المتوجه إلى الله في السراء والضراء؛ لتحققه في مقام التفويض { والأسباط } المتوجهين إلى الله في جميع حالاتهم، منهم: يوسف المترقي من الصور الخيالية إلى الأمور العينية والغيبية لصفاء ظاهره وباطنه عن الكدورات البشرية { وعيسى } المؤثر في العلم بالتأثيرات الإلهيات والنفسات الرحمانية؛ لاضمحلال ناسوتيته في لاهوتيه الحق { وأيوب } المتحقق في مقام الصبر والرضا بما جرى عليه من القضاء؛ لتحققه بمقام العبودية { ويونس } المتحقق في مقام الخوف والرجاء مع الله.
{ وهارون } المتمكن في مرتبة الأمانة والديانة واطمئنان النفس { وسليمان } الجامع لجميع مراتب عالم الشهادة؛ لتحققه في مقام البسطة والاستيلاء { وآتينا } من فضلنا وجودنا { داوود } المتحقق بمقام الحكمة المتقضية للتدبيرات الواقعة بين مراتب الإلهية { زبورا } [النساء : 163] يفصل به بين الحق والباطل و الخطأ والصواب.
{ و } كما أرسلنا هؤلاء المذكورين، أرسلنا أيضا { رسلا قد قصصناهم عليك } في كتابك { من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك و } كمل أمر الوحي في موسى؛ إذ { كلم الله } المرسل للرسل، المنزل للكتب { موسى } المتحقق بمقام القرب والوصول { تكليما } [النساء: 164] لا يدرك كيفيته، ولا يكتنه لميته.
وإنما أرسلنا { رسلا } وأنزلنا معهم كتبا؛ ليكونوا { مبشرين } للناس بالتوحيد وسائر المأمورات الواردة في طريقه، المؤدية إليه { ومنذرين } لهم عن الشرك المنافي له وعن جميع المحرمات المفضية إليه { لئلا يكون للناس } المجبولين على الجدال والنزاع { على الله } المنزه عن المجادلة والمراء { حجة } متمسك وغلبة حين أخذهم بالانتقام يوم الجزاء إذ لا يبقى لهم مجادلة ومرءا { بعد } إرسال { الرسل } لإهدائهم إلى طريق الحق وسبيل التوحيد مع كونهم مؤيدين بإنزال الكتب من عنده { وكان الله } المستقل في الألوهية { عزيزا } غالبا في أوامره ونواهيه { حكيما } [النساء: 165] في تدبيراته المتعلقة بها.
[4.166-170]
ومن غاية جدالهم ونزاعهم يجادلون غالبا معك في رسالتك وكتابك، ولا يشهدون لك وبحقية كتابك، وبصدقك في رسالتك، مع كونك مشهودا في كتبهم وعلى لسان رسلهم؛ مكابرة وعنادا، لا تبال بهم وبشهادتهم، { لكن الله } المطلع للسرائر والخفيات { يشهد بمآ أنزل إليك } أي: بحقيته، وصدقك فيه، وبأنه { أنزله } إليك ملتبسا { بعلمه } المتعلق بتأليف كلماته، وكيفية ترتيبه ونظمه على وجه يعجز عنه جميع من تحدى وتعارض معه { والملائكة } أيضا { يشهدون } بأنه منزل من الحق على الحق { وكفى بالله شهيدا } [النساء: 166] سواء شهدوا، أو لم يشهدوا.
ثم قال سبحانه { إن الذين كفروا } بك وبكتابك { وصدوا } أعرضوا { عن سبيل الله } المبين فيه { قد ضلوا } عن طريق التوحيد { ضللا بعيدا } [النساء: 167] لا ترجى هدايتهم أصلا، وكيف ترجى هدايتهم وقد أضلهم الله؟.
{ إن الذين كفروا } ستروا طريق الحق { و } مع كفرهم { ظلموا } خرجوا عن حدود الله بالمرة { لم يكن الله } الهادي لعباده { ليغفر لهم } ذنوبهم؛ لعظم جرمهم { ولا ليهديهم طريقا } [النساء: 168] من طريق النجاة؛ لانهماكهم في الغفلة والضلال.
{ إلا طريق جهنم } البعد الخذلان { خالدين فيهآ أبدا } لا ينجون منها أصلا { و } لا تستبعد عن الله أمثال هذه التبعيدات والتخذيلات؛ إذ { كان ذلك على الله } المنتقم، المضل للغواة الطغاة { يسيرا } [النساء: 169].
ثم لما بين سبحانه حقية الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدقه في دعواه، وأوعد على من كذبه وخالف كتابه ما أوعد، أراد أن ينبه على عامة أهل التكليف من أرباب الملل وغيرهم أن يؤمنوا له، وما جاء به من عنده، فقال مناديا؛ ليقبلوا عليه: { يأيها الناس } المجبولون على النيسان والغفلة { قد جآءكم الرسول } أي: المبعوث إلى كافة الخلق ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع { من ربكم } الذي رباكم بنعمة العقل الذي هو مناط جميع التكاليف، وبه الوصول إلى الإيمان والتوحيد.
{ فآمنوا خيرا لكم } أي: فإن آمنوا به بعد ما ظهر كان خيرا لكم عند ركبم، يوصلكم إلى توحيده، { وإن تكفروا } به عنادا، ولم تؤمنوا به مكابرة، لا يبالي الله بكفركم، ولا بإيمانكم { فإن لله } أي: يسجد ويخضع له جميع { ما في السموت والأرض } إرادة وطوعا { وكان الله } المكلف لأمر عباده { عليما } بقابلياتهم { حكيما } [النساء: 170] فيما أمرهم به وكلفهم عليه؛ ليفوزوا من عنده فوزا عظيما.
[4.171-172]
{ يأهل الكتاب } أي: الإنجيل المبالغين في أمر عيسى عليه السلام إلى حيث ينتهي إلى الغلو المذموم عقلا وشرعا { لا تغلوا في دينكم } ونبيكم، ولا تبالغوا في الإغراء في وصفه { و } عليكم أن { لا تقولوا على الله } الواحد، الأحد، الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا { إلا الحق } الحقيق اللائق بجناية { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } كسائر رسله { و } غاية أمره { كلمته } أي: يحصل، ويتكون من كلمته التي { ألقاها إلى مريم } { و } هو { روح } يتجلى { منه } سبحانه، ويظهر فيه عليه السلام كظهوره في سائر الأشخاص إلا أن لا هوتيته غلبت على ناسوتيته، لذلك ظهر منه من الخوارق ما خلت عنها الأنبياء { فآمنوا بالله } المنزه في ذاته عن الأهل والولد { ورسله } المؤيدين من عنده؛ لتبليغ حكمه وأحكامه.
ومن جملتهم عيسى عليه السلام { ولا تقولوا } على الله المنزه عن التعدد مطلقا ما لا يليق بجنابه بأنه { ثلاثة } الله والمسيح ومريم { انتهوا } عن التثليث، بل عن التعدد مطلقا، فإن انتهاءكم عنه يكون { خيرا لكم } يرشدكم إلى سبيل التوحيد { إنما الله } المتجلي في الآفاق والاستحقاق { إله واحد } أي: موجود واحد، لا يمكن التعدد فيه أصلا { سبحانه } بذاته، وتعالى عن { أن يكون له ولد } كما يقول الظالمون { له } باعتبار تجلياته على صفحات الإعدام بجميع أوصافه وأسمائه مظاهر { ما في السموت } من جنود الله ومرايا أوصاف جماله وجلاله { وما في الأرض } أيضا منها، وكذا فيما شاء الله، وما يعلم جنود ربك إلا هو { وكفى بالله وكيلا } [النساء: 171] أي: كفى الله المتجلي بجميع أوصافه وأسمائه وكيلا على مظاهره، موليا لأمورهم أصالة واستقلالا.
ومن غاية إغراء النصارى في وصف المسيح، ونهاية غلوهم في حقه استنكفوا واستكبروا عن كونه عبد الله، ونسبوه إليه بالنبوة، وعبدوا له كعبادة الله، لذلك رد عليهم بقولهم: { لن يستنكف } ويستكبر { المسيح } وإن ترقى إلى السماء بقوة لاهوتية { أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } عند الله، المترقون من السماء أيضا؛ إذ لا ناسوتية لهم أصلا، { و } كيف يستنكر، ويستنكف عن عبادته أحد من مظاهره ومخلوقاته؛ إذ { من يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم } الله { إليه جميعا } [النساء: 172] ويحاسبهم بما صنعوا، ويجازيهم على مقتضى حسابهم بأشد العذاب، وأسوء النكال.
[4.173-175]
{ فأما الذين آمنوا } بالله وكتبه ورسله { وعملوا الصالحات } المأمور لهم؛ إطاعة وانقيادا { فيوفيهم } الله { أجورهم } بأضعاف ما استحقوا { ويزيدهم من فضله } ما لا يسع في عقولهم { وأما الذين استنكفوا واستكبروا } عن عبادة الله { فيعذبهم } الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء، المتفرد بعلو المجد، وإليها { عذابا } بطردهم عن ساحة عز حضوره { أليما } ولا ألم أشد من ذلك { و } مع ذلك { لا يجدون لهم من دون الله وليا } يدفع عنهم الأذى { ولا نصيرا } [النساء: 173] يخفف عنهم العذاب.
{ يا أيها الناس } المتوجهون إلى توحيد الله، لم يبق لكم عذر في الوصول إ ليه والرجوع نحوه؛ إذ { قد جآءكم برهان } واضح { من ربكم } على لسان نبيكم { و } مع ذلك { أنزلنآ } من مقام جودنا { إليكم } لهدايتكم وإصلاح حالكم { نورا مبينا } [النساء: 174] هو القرآن.
{ فأما الذين آمنوا } منكم { بالله } المتوحد في ذاته { واعتصموا به } وبكتابه ورسله { فسيدخلهم } الله { في رحمة } عظيمة، وروح عظيم؛ إشفاقا { منه } لاستحقاق منهم { وفضل } وإحسان؛ امتنانا عليهم { ويهديهم إليه } أي: إلى ذاته { صراطا مستقيما } [النساء: 175] موصلا إلى ذورة توحيده، لا يعرض لهم يها ضلال أصلآ.
[4.176]
{ يستفتونك } يا أكمل الرسل عن ميراث الكلالة: كيف يقسم؟ { قل } لهم: { الله يفتيكم في الكلالة } في أوائل السورة، ويعيد في آخرها، تأكيدا أو مبالغة، وهي آخر ما نزلت في الأحكام { إن امرؤ هلك } وحين هلك { ليس له ولد } لا ذكر ولا أنثى { و } الحال أن { له أخت } من الأبوين أو الأب { فلها نصف ما ترك } الهالك { و } ذا هلكت الأخت { هو يرثهآ } جميع مالها { إن لم يكن لهآ ولد } لا ذكر ولا أنثى.
{ فإن كانتا } الأختان { اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } أخوهما { وإن كانوا } أي: الوارثون { إخوة } وأخوات مختلطين { رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الأنثيين } من متروكات أخيهم، وإنما { يبين الله لكم } حكم الكلالة هاهنا، مع أنه بينه في ما مضى؛ كراهة { أن تضلوا } وتغفلوا عنها { والله } المدبر لأموركم { بكل شيء } من حوائجكم المتعلقة بحياتكم ومماتكم { عليم } [النساء: 176] يعلمكم، وينبهكم عليه حتى لا تذهلوا وتنصفوا به.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لتحقيق الحق، القاصد نحو توحيده - أوصلك الله إلى أقصى مرامك - أن تتمسك بالبرهان الواضح الذي وصل إليك من الرسول صلى الله عليه وسلم، الدال على توحيد الحق، وتستنير بنور القرآن الفارق بين الحق والباطل، الواقع في طريقه، وتمتثل بما فيه من الأوامر المؤدية إليه، وتجنب عن نواهيه المضلة، المبعدة عنه، وتتخلق بعزائمه المكنونة في ضمن الأحكام والقصص المذكورة فيه؛ لتتحقق بما رمز فيه من غوامض سر التوحيد، وسريان الوحدة في ملابس الكثرة، وتتمكن في مقر الوحدة الذاتية، المفنية للهويات الباطلة، الزائلة في أنفسها.
ولا يتيسر لك هذا إلا بطول خدمة المرشد الكامل، المكمل الذي يرشدك إلى الله امتداد حبل الله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات، ألا وهو القرآن المنزل على خير الأنام كما قال صلى الله عليه وسلم:
" القرآن حبل الله، ممدود من السماء إلى الأرض ".
فمن أراد أن يغوص في لحجج بحار القرآن، لاستخراج فرائد اليقين والعرفان، فعليه أن يتمسك أولا بالأحكام الشرعية الفرعية التي استنبطها أرباب العزائم الصحيحة عن ظواهر كلم القرآن؛ ليكون مهذبا لظواهر أصحاب اليقظة من أهل الطلب والإرادة حتى تستعد بها نفوسهم، وتتصفى بواطنهم لأن يفيض عليها رشحات بحر التوحيد، ويصبر قابلا لأن ينزل عليها سلطان العشق والمحبة؛ إذ الوقاية للب التوحيد إنما هي أحكام الشريعة، وآداب الطريقة للسالكين، القاصدين نحو الحقيقة بالسلوك والمجاهدة.
وأم البدلاء المستغرقون في بحر الذات، الهائمون بمطالعة جماله، الفانون فيه مطلقا، فهم هو، وهو هم، ما لنا ومالهم حتى تتكلم عنهم، جعلنا الله من خدام وتراب أقدامهم.
فعليك أيها المريد، العازم لسلوك طريق الفناء، الجازم، الحازم في هذا العزم أن تصفي أولا سرك وسريرتك عن التوجه إلى غير الحق، وتجعل مطلبك ومقصودك الاستغراق والفناء في بحر الوحدة.
لا يتيسر لك هذا إلا بعد كسر سفينة هويتك الباطلة، ولا يتيسر كسرها إلا بالرياضاتت الشاقة من الجوع والعطش والسهر المفرط، والانقطاع عن اللذات الحسية والمشتهيات النفسية بالتلذذ بالمودة والفناء، والصبر على البلاء، والرضا على ما جرى عليه القضاء، ومتى تحققت هذه الأمور فيك، وهن هويتك، وضعف سفينتك، وحينئذ يمكنك كسرها إن وفقت بها.
زين بلطفك ظواهرنا بشريعتك، وبواطننا بحقيقتك، وأسرارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك، إنك على ما تشاء قدير، وبرجاء المؤمنين جدير.
[5 - سورة المائدة]
[5.1-2]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم الوفاء بالعهدو والعقود الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم { أوفوا بالعقود } واظبوا على إقامة الحدود، وداوموا على محافظة المواثيق التي وضعها الحق بينكم؛ لتدبر أمور معاشكم ومعادكم من جملتها أنها { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وهي الأزواج الثمانية وما يشبهها؛ تقويما لمزاجكم وتقيوة له؛ ليتمكنوا على إتيان ما كلفوا به { إلا ما يتلى عليكم } في كتاب الله تحريمه حال كونكم { غير محلي الصيد } مطلقا { وأنتم } في تلك الحالة { حرم } محرمين للحج ، مأمورين بحبس القوى الشهوية والغضبية عن مقتضياتهما، بل معطلين لها حتى تتكنوا، وتقدروا على الموت الإرادي { إن الله } المدبر لمصالح عباده { يحكم } بمقتضى حكمته ومصلحته { ما يريد } [المائدة: 1] لهم من التحليل والتحريم بحسب الأوقات والحالات، لا يسأل عن فعله ، بل لا بد لكم الانقياد؛ تعبدا، سيما في أعمال الحج.
{ يا أيها الذين آمنوا } بالله؛ طاعة وتعبدا، مقتضى إيمانكنم أن { لا تحلوا } وتبيحوا لأنفسكم { شعآئر الله } أي: حرمات الله التي حرمها سبحانه في أيام الحج؛ تعظيما لأمره وتوقيرا لبيته { ولا الشهر الحرام } أي: لا تحلوا قواكم الحيوانية عن الحبس والزجر في الأزمنة التي حرم سبحانه إطلاقها فيها؛ تعظيما لبيته { ولا } تبيحوا أيضا لأنفسكم { الهدي } أي: التعرض لما أهدي إلى البيت قبل بلوغه إلى كله { و } أيضا { لا } يتعرضوا { القلائد } وهي ما يعلم، ويقلد بقلادة دالة على أنه من هدايا بيت الله على ما هو من عادة العرب.
{ و } عليكم أن { لا } تتعرضوا، وتتقاتلوا مع المؤمنين الموقنين الذين توجهوا نحو الكعبة الحقيقة، وأرادوا أن يخرجوا عن بقعة الإمكان، فدخلوا في طريق المجاهدة وسلكوا نحو الوجوب؛ تقربا وتشوقا، مع كونهم { آمين البيت الحرام } قاصدين التقرب والتحقق بكعبة الذات، والوقوف بعرفات الأسماء والصفات؛ إذ لا بد من وقوفها لمن قصد زيارة بيت الله الأعظم، بل الركن الأصلي لزيارة بيت الله، وهي هنا الوقوف عند المنجذبين نحو الحق من طريق المجاهدة المستتبعة للكشف والمشاهدة لأهل العناية.
وأما المنجبون نحوه بالاستغناء والاستغراق التام الذي لا يحوم حله شائبة من الكثرة أصلا، فهم في مقعد صدق عن مليك مقتدر، حال كونهم { يبتغون } ويطلبون هؤلاء الزوار التحقق بهذه المرتبة العلية، والمنزلة السنية { فضلا من ربهم } بلا وسائق الأعمال والنسك، ووسائق المأمورات والمنهيات { و } يطلبون أيضا من فضل الله { رضوانا } رضا من جانب الحق، وتحسينا من قبله فيما يأتونه من الشعائر المكتوبة في الحي الحقيقي؛ إذ لا وثوق للعبد سوى الرضا منك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
{ وإذا حللتم } قوى حيوانيتكم عن عقال التكاليف المفروضة في الحج بخروج أيامها وأوقاتها مع متمماتها { فاصطادوا } أي: أبيحوا على أنفسكم اصطياد ما أحل الله لكم من صيد البر والبحر { و } بعدما علمتم فوائد الحج، وعرفتم عرفانه ومناسكه { لا يجرمنكم شنآن قوم } أي: لا يوقعنم في الجريمة العظيمة بغض قوم إياكم، وخوفكم منهم إلى { أن صدوكم } وصرفوكم { عن } التوجه نحو { المسجد الحرام } الذي حرمت عنده سجود السوى والأغيار مطلقا.
فعليكم أيها القاصدون زيارة الكعبة المعظمة، والقبلة المكرمة التي هي بيت الوحدة { أن تعتدوا } وتتمنوا، وتعتادوا على المقاتلة، والمقاتلة مع الكفار إنما يغني عن الزيارة من القوى الشهوية والغضبية، والمستلذات الخالية الواهية { وتعاونوا } استنصورا { على } جنود { البر } المورث للرجاء، وحسن الظن بربكم { و } على جنود { التقوى } المشعر للخوف من قهر الله وغضبه { ولا تعاونوا على الإثم } الخصلة الذميمة عقلا وشرعا { والعدوان } أي: التجاوز عن الحدود الشرعية - العياذ بالله - { واتقوا الله } أن تجترئوا عليه بنقض عهوده ، ومجاوزة حدوده { إن الله } القادر على كل ما يريد { شديد العقاب } [المائدة: 2] أليم العذاب لمن ظلم نفسه بالإثم والعدوان.
[5.3]
ثم لما كان الأصل في الأشياء الحل والإباحة، والحرمة إنما عرضت من الشرع، بين سبحانه أولا حكم المحللات مطلقا وما يتفرع عليها، ثم عين المحرمات التي استثناها بقوله { إلا ما يتلى } [المائدة: 1، الحج: 30] فقال { حرمت عليكم } في دينكم { الميتة } المائت حتف أنفه بلا موجب لإزالة الحياة { والدم } المسفوح، السائل التزكية أو بغيرها { ولحم الخنزير } النجس، الظاهر خباثته عقلا وشرعا.
{ و } من جملة المحرمات { مآ أهل } صوت ذبحه { لغير } اسم { الله به } من أسماء الأصنام { و } كذا { المنخنقة } المزيلة حياتها بالخنق بلا تذكية، كما يفعل المشركون { و } كذا { الموقوذة المضروبة بالخضب الأحجار إلى أن تذهب منها الروح { والمتردية } التي سقطت من علو، أو في بئر فزالت حياتها { والنطيحة } أيضا، وهي التي نطحها الحيوان الآخر فماتت { و } كذا حرمت عليكم { مآ أكل السبع } منه فزال حياته { إلا ما ذكيتم } قطعتم حلقومه مهللين حين أحسستم الرمق منه، فإنه يحل لكم.
{ و } كذا حرمت عليكم { ما ذبح على النصب } أي: الأصنام الموضوعة حول البيت، كانوا يعظمونها، ويتقربون إليها بالذبائح والقرابين { و } من جملة المحرمات { أن تستقسموا بالأزلام } أي: الأقداح، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، وعلى الثالث: غفل، فإن خرج الأمر مضو عليه، وإن خرج النهي انصرفوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا.
ومعنى الاستقسام بها: الاستخبار، والاستفسار عن القسمة الغيبية التي استأثر الله بها، ولم يطلع أحدا عليها، وأمثال هذا ما هي إلا كهانة وكفر، صدرت عن أولي الأحلام السخيفة، الخبيثة، الناشئة من عدم الرضا بقضاء الله { ذلكم } أي: استقسامكم واستخباركم من أزلامكم { فسق } خروج عما عليه الأمر والشروع وديدنة الجاهلية فعليكم أن تجتنبوا عن أمثالها، خصوصا { اليوم يئس } وقنط بالمرة { الذين كفروا } عن انصرافكم { من دينكم فلا تخشوهم } على غلبتهم بترك رسومهم وعاداتهم المستقبحة.
{ واخشون } عن بشطي وانتقامي بترك ما أمرتب لكم، ونهيت عنه في جميع أحوالكم وأزمانكم، سيما { اليوم } الذي هذا قد { أكملت لكم دينكم } بأن ينصركم ويغلبكم على مخالفيكم مطلقا، ويظهر دينكم على الأديان كلها { وأتممت عليكم نعمتي } ظاهرا وباطنا بالاستيلاء، والغلبة على الأعداء، وقمع الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة بالكلية { و } من إتمام نعمتي عليكم أني { رضيت } اخترت وانتخبت { لكم الإسلم } الإطاعة والانقياد { دينا } ديدنه ومذهبا؛ إذ لا دين عند الله إلا الإسلام.
وبعد كما دينكم وإتمام النعم عليكم، وتحليل ما أحل، وتحريم ما حرم { فمن اضطر } منكم { في مخمصة } مجاعة مفرطة، ملجئة إلى تناول الجيف والمحرمات حال كونكم { غير متجانف } مائل { لإثم } ومعصية، رخص التناول منها مقدار سد جوعه { فإن الله } المصلح لأحوالكم { غفور } مما صدر عنكم حين اضطراركم ومخمصتكم { رحيم } [المائدة: 3] لا يخواذكم عليه بعدما رخص لكم.
[5.4-5]
{ يسألونك ماذآ } أي: أي شيء من الأشياء المألوفة المتعارفة { أحل لهم قل أحل لكم } في دينكم { الطيبات } التي مضى ذكرها في أول السورة من البهائم المذكاة { و } كذا أحل لكم صيد { ما علمتم من الجوارح } الكواسب، لكم الصيد من أدوات القوائم والمخالب حال كونكم { مكلبين } مؤدبين، معلمين إياهن لاصطياد { تعلمونهن مما علمكم الله } من مقتضيات العقل المفاض لكم بأنواع الحيل إياهن.
وإذا علمتوهن { فكلوا ممآ أمسكن عليكم } من صيدهن حلالا طيبا { واذكروا اسم الله عليه } أي: وعليكم أن تذكروا اسم الله حين إرسال الجوارح إلى الصيد { واتقوا الله } ألا تهلوا على الصيد والذبائح، ولا تحلوها بذكر اسم الله بعدها أمركم به { إن الله } المطلع لجميع حالاتكم { سريع الحساب } [المائدة: 4] شديد العقاب لمن لم يمتثل بأوامره، ولم يجتنب عن نواهيه.
{ اليوم } أي: حين انتشر وظهر دينكم على الأديان كلها { أحل لكم الطيبت } المذكورة، المحللة فيه { و } أيضا { طعام الذين أوتوا الكتب } أي: اليهود والنصارى وذبائحهم { حل لكم } في دينكم { وطعامكم } وإطعامكم أيضا { حل لهم } لأنهم من ذوي الملل والأديان { و } كذا أحل لكم { المحصنت } الحرائر، العفائف { من المؤمنت } أي: نكاحكم إياهن { و } كذا { المحصنت من الذين أوتوا الكتب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن } مهروهن بلا نقص وتكسير.
والحال أنكم { محصنين } محافظين على حقوق الزوج والنكاح { غير مسفحين } مجاهرين بالزنا { ولا متخذي أخدان } مستترين به { ومن يكفر } منكم، وينكر { بالإيمن } وبلوازمه، وحدوده الدالة على صحته { فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخسرين } [المائدة: 5] الذي ظل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
[5.6]
ثم لما بين سبحانه ما يتعلق بمعاش عباده من الحل والحرمة، والزواج والنكاح وحسن المعاشرة، ورعاية الآداب المشروعة فيها، أراد أن يهديهم إلى طريق الرجوع إلى المعاج الذي هو المبدأ بعينه؛ ليميلوا إليه، ويتوجهوا نحوه على نية التقرب، إلى أن وصلوا واتصلوا، فقال مناديا: { يا أيها الذين آمنوا } بوحدة ذات الحق، وتنزهه عن صمة الكثرة { إذا قمتم إلى الصلاة } أ ي: إذا أردتم أن تخرجوا من بقعة الإمكان، وتميلوا نحو فضاء الوحدة متشوقين، متقربين { فاغسلوا وجوهكم } أي: فعليكم أن تغسلوا بماء المحبة والشوق، والجذب الإلهي المحيي، المنبت لأموت الأرواح من أرض تعينات وجوهكم التي تلي الحق عن رين الإمكان، وشين الكثرة.
{ و } طهروا { أيديكم } أي: قصروها عن أدناس الأخذ والإعطاء من حطام الدنيا وأقذارها { إلى المرافق } أي: مبالغين في تطهيرها إلى أقصى الغاية { و } بعدما غسلتم الوجوه، وطهرتم الأيدي { امسحوا برؤوسكم } أي: امحوا، وحكوا أنانيتكم وهويتكم التي منها طبلكم وأدبكم { و } احوا أيضا { أرجلكم } وأقدامكم التي بها سلكوككم وطلبكم { إلى الكعبين } إلى أن ينقعط سيركم وسلوككم بالفناء فيه { وإن كنتم } أيها المائلون نحو الحق { جنبا } منغمسين في خبائث الإمكان وقاذوراتها { فاطهروا } فعليكم المبالغة في التطهير بالرياضات الشاقة من قطع التعلقات، وترك المألوفات والمشتهيات، وبالركون إلى الموت الإداري، والخروج عن الأوصاف البشرية.
{ وإن كنتم مرضى } من الأبرار الذين مرضوا بسموم الإمكان، وبحموم نيرانه وصاروا محبوسين فيه بلا قدم وإقدام { أو على سفر } من السالكين، السائرين نحو الحق بلا ممد { أو جآء أحد منكم من الغائط } أي: رجع من التلوث والتندس بغلاظ أدناس الدنيا من جاهها ومالها ورئاستها { أو لامستم النسآء } واستكرهتموهن؛ لأنهن أقوى من بحائل الشيطان وشباكها، يصرف بها أهل الإرادة عن جادة السلامة { فلم تجدوا } في هذه الصورة من لدن نفوسكم وقلوبكم { مآء } شوقا إلى الحق، مطهرا لخبائث نفسوكم، قالعا لها مطلقا، ومحبة مزيلة لدرن التعلقات، وجذبا مفرطا من جانب الحق، مزعجا ملجئا إلى الفناء.
{ فتيمموا } أي: فعليكم أن تقصدوا، وتتوجهوا { صعيدا طيبا } مرشدا كاملا ومكملا طاهرا عن جميع الرذائل والآثام العائقة عن الوصول { فامسحوا بوجوهكم } إي: هوياتكم الباطلة { وأيديكم } أي: أوصافكم الذميمة، العاطلة { منه } أي: من تراب أقدام، وثرى سدته السنية؛ لعلة يرشدكم إلى النجاة عن مضيق التعيينات نحو قضاء الذات { ما يريد الله } المدبر لأموركم { ليجعل عليكم } ويبقى فيكم { ولكن يريد ليطهركم } يمنعكم عن الوصل إلى ما جبلتم لأجله { من حرج } ويصفيكم أولا من التعيين وأدناسها { وليتم نعمته عليكم } ثانيا مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر { لعلكم تشكرون } [المائدة: 6] حيثن تفوزون ما تفوزون.
[5.7-9]
{ و } بعدما سمعتم ما سمعتم، ووعدتم من عنده ما وعدتم { اذكروا نعمة الله } التي أنعم بها { عليكم } وقوموا بشكرها { و } تذكروا { ميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم } حين سمعتم قوله: { ألست بربكم } [الأعراف: 172]: { سمعنا } قولك ، أنت ربنا أظهرتنا من العدم { وأطعنا } ما أمرتنا به طوعا { واتقوا الله } من نقض ميثاثه { إن الله } المطلع بالسرائر والخفايا { عليم بذات الصدور } [المائدة: 7] أي: بمكنونات صدروكم يجازيكم على مقتضى علمه وخبرته.
{ يا أيهآ الذين آمنوا كونوا قوامين لله } مستقيمين فيما أمرتم به في طريق توحيده { شهدآء } حضراء مستحضرين { بالقسط } لحقوق آلائه الإلهية، ونعمائه الفائضة لكم من عنده تفضلا وامتنانا { ولا يجرمنكم } أي: لا حملنكم ولا يبعثنكم { شنآن قوم } شدة عداوة قوم وبغضهم { على ألا تعدلوا } ولا تقصطوا فيما أنعم الله عليكم، بأن تجاوزوا عن حدود الله حين القدرة على الانتقام منهم؛ تشفيا لصدوركم، بل عليكم أن تقسطوا في كل الأحوال، سيما عند الاقتدار { اعدلوا } أيها المنعمون بالقدرة والظفر { هو } أي: عدلكم { أقرب للتقوى } عن محارم الله، والاجتناب عن منهياته { واتقوا الله } المراقب لكم في جميع أحوالكم { إن الله خبير بما تعملون } [المائدة: 8] من مقتضيات نفوسكم وتسويلاتها.
{ وعد الله } المدبر لأمور عباده { الذين آمنوا } بتوحيده { وعملوا الصالحات } المقربة نحوه، المأمورة من عنده بأن حصل لهم مغفرة لذنوبهم؛ تفضلا وامتنانا (و) مع ذلك { لهم مغفرة وأجر عظيم } [المائدة: 9] هو الفوز بشرف اللقاء.
[5.10-11]
بعد وعد للمؤمنين ما وعد، أردفه بوعيد الكفارة؛ جريا على عادته المستمرة في دعوة عباده، فقال: { والذين كفروا } بتوحيدنا، وأثبتوا الوجود لغيرها؛ مكابرة وعنادا { وكذبوا بآياتنآ } الدالة على توحيدنا، المنزلة على رسلنا { أولئك } البعداء المشركون { أصحاب الجحيم } [المائدة: 10] مصاحبوها وملازموها، لا نجاة لهم منها أصلا توغلهم وانهماكهم في الكفر والضلال.
{ يا أيهآ الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم } كيف ينجيكم من يد العدو { إذ هم } قصد { قوم } من عدوكم { أن يبسطوا إليكم أيديهم } حين كنتم مشغولين بالصلاة، ويفاجئوكم بغتة، ويستأصلوكم مرة { فكف أيديهم عنكم } بالوحي على نبيكم امتنانا وتفضلا عليكم { واتقوا الله } الرقيب عليكم أن تخالفوا أمره { وعلى الله } في كل الأمور { فليتوكل المؤمنون } [المائدة: 11] الموقنون بوحدانيته وحفظه وحمايته.
[5.12]
ثم لما أراد سبحانه تقرير المؤمنين على الإيمان، وتثبيت قدمهم على جادة التوحيد والفرقان، استشهد عليهم تزلزل بني إسرائيل، وعدم رسوخ قدمهم في الإيمان والإطاعة مع أخذ المواثيق منهم على لسان نبيهم - صلوات الرحمن على نبينا وعليه - فقال: { ولقد أخذ الله } بلسان موسى كليم الله { ميثاق بني إسرآئيل } أي: العهد الوثيق منهم بعدما خلصوا من فرعون، وورثوا منه ما ورثوا، واستقروا على ملك مصر { و } ذلكا أنا { بعثنا منهم اثني عشر نقيبا } من نجبائهم ونخبائهم، من كل فرقة نقيب مسلم، بينهم رئاسة وجاها، وبالجملة: كل من النقباء يولي أمر فرقته عند نبينا موسى عليه السلام.
فعهدوا أن يسيروا مع موسى إلى " أريحا " بالشام حين أوحى إليه، فساروا إلى أن وصلوا، وكان فيها الجبابرة الكنعانيون، فلما رأوا العدو ذوي قوة ، وأولي بأس شديد هابوا منه، وترهبوا، فرجعوا إلى قومهم، فأبخروا لهم ما ظهر عليهم إلا قليلا منهم فنقضوا العهد والميثاق.
{ و } مع ذلك { قال الله } لهم حين أمرهم: { إني معكم } لينصركم على عدوكم وأخرجهم منها: فوعزتي وجلالي { لئن أقمتم الصلاة } على الوجه الذي وصل إليكم من رسولكم { وآتيتم الزكاة } على الوجه المشروع { وآمنتم برسلي } بلا تفريق بينهم { وعزرتموهم } أي: نصرتموهم في إعلاء كلمة الحق، وإشاعة دينه { وأقرضتم الله } ما في أيديكم من زخرفة الدنيا { قرضا } إنفاقا للفقراء والمساكين { حسنا } بلا شوب المنة والأذى { لأكفرن عنكم } أي: لأمحو عن ديوان عملكم { سيئاتكم } بأسرها { ولأدخلنكم } جزاء لإخلاصكم { جنات } متنزهات ثلاث: هي العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } مملوء بمياه الحقائق والمعارف { فمن كفر بعد ذلك منكم } أي: بعدما سمع التذكير والعظة من الله { فقد ضل } وفقد { سوآء السبيل } [المائدة: 12] لا دواء لدائه، ولا رجاء لإنجائه.
اهدنا بفظلك إلى سواء السبيل.
[5.13-14]
{ فبما نقضهم ميثاقهم } وبعدم وفائهم للعهود الوثيقة { لعناهم } طردناهم عن فضاء التوحيد { وجعلنا قلوبهم قاسية } مظلمة بظلمة الإمكان إلى حيث { يحرفون الكلم } المثبتة في كتاب الله؛ لإعلاء كلمة التوحيد { عن مواضعه } التي وضعها الحق { ونسوا حظا } نصيبا { مما ذكروا به } أي: بالتوراة، ووعظوا عنه، وأفادوا منه { و } صاروا من غاية القساوة والنيسان بحيث { لا تزال تطلع } دائما مستمرا { على خآئنة منهم } تبالغ في الخيانة { إلا قليلا منهم } وهم الذين آمنوا بكم، وأنصفوا على ما في التوراة وأظهروها { فاعف عنهم } ولم يحرفوها زمانا { واصفح } وانصرف عن انتقامهم إلى الإحسان معهم { إن الله } القادر على الانتقام { يحب المحسنين } [المائدة: 13] المجاوزين عن الانتقام بعد الاقتدار عليهز
{ ومن الذين قالوا إنا نصارى } مدعين نصرة الدين، وإعلاء كلمة الحق { أخذنا } كما أخذنا من اليهود { ميثاقهم } فنقضوا كما نقضوا { فنسوا } كما نسوا { حظا مما ذكروا به } أي: بالإنجيل المنزل على عيسى - صلوات الرحمن عليه - { فأغرينا } ألقينا، وألزمنا { بينهم } بين اليهود والنصارى، وهم اليعقوبية والنسطورية والملكائية { العداوة والبغضآء } المستمرة { إلى يوم القيامة } بحيث لا يصفو نفاقهم وشقاقهم أصلا { وسوف ينبئهم الله } كلا الفريقين، أو الفرق { بما كانوا يصنعون } [المائدة: 14] في الدنيا من البغض والنفاق، وبما يكسبون به في الآخرة من العذاب والعقاب.
[5.15-16]
{ يا أهل الكتاب } أي: اليهود والنصارى المجبولين على الكفر والنفاق { قد جآءكم رسولنا } أضافه إلى نفسه؛ تعظيما وتوقيرا { يبين } ويظهر { لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } من أوامره ونواهيه، وأخباره المتعلقة بالزمان الماضي والآتي، سيما نعت خاتم الأنبياء والرسل - صلوات الله عليه وسلامه - وإنما يبين لكم المذكورات؛ لئلا يفوت منكم شيء من أمور الدين، ولا يؤخذون بها.
{ و } مع ذلك { يعفوا } ويصفح { عن } تبيين { كثير } من مخفياتكم من الكتب مما لا يترتب عليه العذاب والنكال، فعليكم أن تؤمنوا به، وبما جاء به من عند ربه لإهدائكم إلى طريق توحيده؛ إذ { قد جآءكم من الله } معه { نور } واضح { و } هو { كتاب مبين } [المائدة: 15] ظاهر لائح هدايته وإرشاده.
{ يهدي به الله } الهادي لعباده { من اتبع } منهم { رضوانه } أي: يرضى به { سبل السلام } أي: طريق التوحيد الموصلة إلى سلامة الوحدة، المسماة عند بدار السلام { ويخرجهم } أيك المتبعين رضوان { من الظلمات } ظلمة العدم، وظلمة الإمكان وظلمة التعينات { إلى النور } أي: الوجود البحث، الخالص عن شوب الظلمة؛ إذ هو نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء من أهل العناية، وإنما يخرجهم { بإذنه } وتوفيقه، وجذب { و } بالجملمة: { يهديهم } أن سيق لهم العناية منه { إلى صراط مستقيم } [المائدة: 16] موصل إلى توحيده.
[5.17-18]
{ لقد كفر } وأعرض عن الحق، ولم يعرف حق قدره { الذين } بالغوا في وصف عيسى عليه السلام، وغالوا فيه إلى أن { قآلوا } على سبيل الحصر، { إن الله } المتجلي في الآفاق { هو المسيح ابن مريم قل } لهم يا أكمل الرسل تبكتا لهم وإلزاما: { فمن يملك } يدفع ويمنع { من الله شيئا } من مراداته ومقدوراته { إن أراد أن يهلك } أي: يبقي على الهلاك الأصلي، والفناء الجبلي بلا مد من ظله، ورش من نوره { المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } لا يبالي الله به وبهم؛ إذ { ولله } المنزه عن الأكوان مطلقا { ملك السموت والأرض وما بينهما } متصرف فيها حسب إرادته واختياره إيجادا وإعداما { يخلق } ويظهر { ما يشآء } بلطفه، ويعدم ويخفي ما يشاء بقهره { والله } المتصف بجميع أوصاف الكمال { على كل شيء } مقدر إرادته { قدير } [المائدة: 17] لا تفتر قدرته، ولا تنتهي إرادته ومشيئته.
{ وقالت اليهود والنصرى } من غاية مبالغتهم، وغلوهم في حق عيسى وعزير - عليهما السلام -: { نحن أبنؤا الله } إذ نعبد نبيه { وأحبؤه } إذ نحبهما، وهما محبوباه { قل } لهم يا أكمل الرسل: { فلم يعذبكم } الله { بذنوبكم } إن كنتم صادقين في هذه الدعوة، يعذبكم في الدنيا بالقتل والسبي والإجلاء، وضرب الذلة والمسكنة، وفي الآخرة بأضعاف ما في الدنيا وآلافها، فعليكم ألا تغلوا في دينكم ونبيكم، ولا تفتروا على الله الكذب.
{ بل أنتم } ونبيكم أيضا { بشر ممن } أي: من جنس ما { خلق } الله بقدرته وأظهره حسب إرادته، فله التصرف فيكم وفيهم { يغفر لمن يشآء } تفضلا وامتنانا { ويعذب من يشآء } عدلا وانتقاما { و } اعلموا أن { لله ملك السموت والأرض وما بينهما } يتصرف فيها كيف يشاء إرادة واختيارا { وإليه } لا إلى غيره { المصير } [المائدة: 18] والرجع؛ إذ الكل منه بدأ، وإليه يعود.
[5.19-21]
{ يا أهل الكتاب } لا تغتروا في أمور دينكم ولا تضعفوا فيها؛ إذ { قد جآءكم رسولنا } الموعود في كتابكم { يبين لكم } أمور دينكم حال كونه { على فترة } انقطاع وحي { من الرسل } وإنما أرسلناه؛ كراهة { أن تقولوا } وتعتذروا حين وهن دينكم وضعف يقينكم: { ما جآءنا من بشير ولا نذير } حتى يصلح أمور ديننا { فقد جاءكم بشير ونذير } لئلا تعتذروا على ما تقتصرون فيه، فكذبوه، ولم يقبلوا ما جاء به من أسرار الدين والإيمان { والله } المجازي لكم { على كل شيء } من أنواع الجزاء { قدير } [المائدة: 19] يجازيكم على مقتضى قدرته.
{ و } اذكروا { إذ قال موسى لقومه } وهم أسلاف لكم وآباؤكم حين أراد أن يذكرهم نعم الله التي أنعمها عليهم؛ ليقوموا بشكرها: { ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم } تفضلا وامتنانا { إذ جعل فيكم } منكم { أنبيآء } يرشدونكم، ويهدونكم إلى طريق التوحيد { وجعلكم ملوكا } متصرفين في أقطار الأرض { وآتاكم } من الخوارق والإرهاصات من فلق البحر، وظل الغمام، وسقي الحجر، ونزول المن والسلوى وغير ذلك { ما لم يؤت أحدا من العالمين } [المائدة: 20] حين ظهروكم واستيلائكم.
{ يقوم ادخلوا الأرض المقدسة } المطهرة عن شوائر الفتن { التي كتب الله لكم } أي: قدرها في علمه لمقركم ومسكنكمح إذ هي منازل الأنبياء، ومقر الأولياء والأصفياء، فعليكم أن تقبلوا إليها تاركين ديار العمالقة والفراعنة التي هي محل الجور والفساد، ومجمع البغي والفساد { و } عليكم أن { لا ترتدوا } بعدما سمعتم الوحي { على أدباركم } خوفا من الجبابرة.
قيل: لما سمعوا أوصاف جبابرة كنعان من نقبائهم خافوا، واستوحشوا وفزعوا وقالوا: ليتنا نرد على أعقابنا، تعالوا ننصب رأسا ينصرف بنا إلى مصر؛ إذ موتنا فيها خير من الحياة وموضع آخر، فارتدوا { فتنقلبوا خسرين } [المائدة: 21] خسرانا عظيما في الدنيا تائهين حائرين، وفي الآخرى خاسرين خائبين.
[5.22-24]
{ قالوا ياموسى } على صورة الاعتذار وإظهار العجز وعدم الإقدار، وما هي إلا من عدم تثبتهم على الإيمان، وعدم رسوخهم في مقتضياته، وعدم وثوقهم بنصر الله وإعانته بعدما أمرهم بالقتل والترحال، ووعدهم ما وعدهم: { إن فيها قوما جبارين } لا يتأتى مقاومتهم ومقاتلتهم { و } بالجملة: { إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } بقتال أو غيره { فإن يخرجوا منها } على أي وجه { فإنا داخلون } [المائدة: 22] إذ لا طاقة ولا قدرة لنا معهم.
{ قال رجلان من الذين يخافون } من قهر الله وغضبه، سيما بعد ورورد أمره؛ إذ هما من أهل الوثوق بنصر الله وإنجاز وعده؛ إذ { أنعم الله عليهما } بالإيمان والإذعان وبإعطاء الحكمة والمعرفة: { ادخلوا عليهم الباب } أي: ضيقوا على عدوكم باب بلدهم، وقربوهم إلى حيث يضطرون ويخنقون من جسامتهم، وضيق مكانهم { فإذا دخلتموه } على هذا الوجه { فإنكم غالبون } غانمون { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 23].
{ قالوا } مستهزئين، مصرحين بما تكن صدورهم من الكفر، وعدم الوثوق والإخلاص، ومناقضة العهود والمواثيق: { ياموسى } لا تحملنا ما لا طاقة لنا به { إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها } وإن شئت { فاذهب أنت } أيها الداعي { وربك } الذي دعوتناك إليه، وادعيت الإعانة والانتصار منه { فقاتلا } مع العدو { إنا هاهنا قاعدون } [المائدة: 24] منتظرون إلى أن يظهر الأمر.
[5.25-27]
{ قال } موسى آيسا، متحيزا، باثا شكواه مع ربه: { رب إني لا أملك } ولا أثق لامتثال أمرك { إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [المائدة: 25] الخارجين عن مقتضى أمرك، التاركين الامتثال به؛ من عدم وثوقهم بإعانتك وتأييدك.
ولما سمع سبحانه من موسى ما سمع من بث الشكوى، وكان حالهم وصلاحهم معلومة عنده سبحانه { قال فإنها } أي: الأرض المقدسة { محرمة عليهم } مدة { أربعين سنة } خص هذا العدد؛ لأنهم لما أعادوا نفوسهم بعدم امتثال أمر الله، والاستهزاء به وبرسوله إلى ما هم عليه قبل إيمانهم، والإيمان ماي كمل غالبا إلا بعد الأربعين، لذلك خص هذه المدة؛ لمجازاتهم ومجاهداتهم، ليكملوا الإيمان، وهم بعدما ارتدوا من الشام وتوجهوا إلى المصر { يتيهون في الأرض } المقدسة بستة فراسخ تائهين، حائرين، مذبذبين لا إلى مصر وإلا إلى الشام في تلك المدة، وموسى سار معهم فيها، يرشدهم إلى أن يخرجهم من الضلال الصوري والمعنوي.
ثم لما رأى موسى اضطراب قومه وحزنهم وقلقهم واضطرارهم، رحمهم، وندم عما دعا عليهم، على مقتضى شفقة النبوة ومرحمته، لذلك رد الله عليه بقوله: { فلا تأس } أي: لا تحزن أيها النبي الشاكي { على القوم الفاسقين } [المائدة: 26] الخارجين عن مقتضى التصديق والإيمان.
{ واتل } يا أكمل الرسل { عليهم } أي: على من اتبعك من المؤمنين { نبأ ابني ءادم } أي: قصة قابيل وهابيل واختلافهما ونزاعهما وقربانهما، وقتل قابيل هاببيل، ليعتبروا وينتبهوا من قصتهما على ما هو الأقول من السبيل، والأليق بحال المؤمن من حسن المعاشرة والمصاحبة مع الأخوان، ورعاية الغبطة، والتصبر على البلية والمحنة، وإن أدى إلى بذل المجهة والإخلاص مع الله في جميع الأحوال، تلاوة متلبسة { بالحق } مطابقة للواقع موافقة لما في الكتب السالفة.
وذلك أنهما تنازعا في تزويج كل منهما توءمة الآخر على ما هو شرع أبيهم، فقال قابيل: توءمتي أحسن صورة من توءمتك، أنا أحق بتزويجها منك، فترافعا إلى أبيهما فأمرهما بالقربان المقرب إلى الله، اذكر { إذ قربا قربانا } بإذن أبيهما، كل واحد منهما على مقتضى إخلاصهما مع الله، وكان قابيل صاحب زرع، قرب مقدارا من أردأ قمحه، وهابيل صاحب ضرع، قرب شاة سمينة حسناء { فتقبل من أحدهما } وهو هابيل { ولم يتقبل من الآخر }.
وعلامة القبول حينئذ أنه تنزل نار من السماء، وتأكل ما يتقربون به، فأخذا قربانهما وذهبا إلى جبل فطرحها عليه، وانتظرا القبول، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل، ولم تأكل قربان أخيه، فاشتد سخطه وعضبه على أخيه، وزاد حسده بقبول الله قربانه { قال لأقتلنك } البتة؛ إذ ظهر مزيتك علي، وفضلك عند الله مني، وبذلك تفتخفر وتتفوق علي بين الناس { قال } هابيل: يا أخي، ما لي في هذا التقرب إلا الإخلاص والرجوع إلى الله والإطاعة والانقياد لأمره، والاجتناب والتحرز عن سخطه وغضبه بلا غرض نفساني وميل شهواني، فتقبل مني بفضله ولطفه { إنما يتقبل الله } أي: ما يتقبل المطلع لسرائر عباده أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله إلا { من المتقين } [المائدة: 27] المتقربين إليه بين طرفين الخوف والرجاء، المخلصين فيما جاءوا به خالصا لوجهه الكريم، بلا ميل إلى ما تهوى نفوسهم.
[5.28-31]
ثم أقسم هابيل بعدما أوعده قابيل القتل: والله { لئن بسطت إلي يدك } من إفراط غيظك وغضبك، وشؤم إمارة نفسك { لتقتلني } ظلما بلا رخصة شرعية، بل محض عناد ومكابرة { مآ أنا بباسط يدي إليك } لدفع صولتك عن نفسي، أو { لأقتلك } على مقتضى أمارتي { إني أخاف الله رب العالمين } [المائدة: 28] من تخريب؛ لمجرد دفع الصائل ولا أخاف على نفسي من القتل؛ إذا الشهداء المقتولون ظلما أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله.
{ إني } من غاية إشافقي وإعطافي معك يا أخي { أريد أن تبوء } أي: لأن تذهب وترجع إلى الله { بإثمي } أي: بإثمك المنسوب إلى قتلي { وإثمك } الذي كنت فيه { فتكون من أصحاب النار } عند الله بهذا الظلم { وذلك جزآء الظالمين } [المائدة: 29] عنده.
{ فطوعت له نفسه } أي: هيجت حسده إلى أن طوعت، وأرضت نفسه { قتل أخيه فقتله } ظلما بلا مدافعة منه كما شرط، فندم دفعة { فأصبح } وصار { من الخاسرين } [المائدة: 30] خسارنا عظيما في الدنيا والآخرة، فتحير في دفعه وإخفائه، إذ لا يموت أحد من بني آدم إلى ذلك الوقت، فحمله على عاتقه، وسار معه إلى حين أروح وأنتن.
{ فبعث الله } إعلاما له { غرابا } فقتل غرابا من جنسه أراد أن يدفعه { يبحث في الأرض } بمنقاره ورجله { ليريه كيف يواري } ويستر { سوءة أخيه } أي: جثته وجسده التي يسوء { قال } قابيل محتسرا، متحزنا، قلقا، حائرا: { ياويلتا } يا هلكتي أحضري { أعجزت } وعلزت عن مقتضى العقل، وعن الاهتداء به إلى حيث { أن أكون مثل هذا الغراب } المتعزل عن العقل والإدراك، بل متابعا له، متلمذا منه { فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين } [المائدة: 31] ندامة مؤبدة بحيث لا يضحك مدة حياته أصلا وعاش مدة مائة سنة، واسود لونه إلى حيث لم يعرف.
[5.32-33]
{ من أجل ذلك } وبسبب وقوعه بين بني آدم { كتبنا } قضينا وألزمنا { على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس } أي: بلا قصاص شرعي { أو فساد في الأرض } مرخص، موجب لقتله من شرك وبغي، وقطع طريق وغير ذلك من الفسادات العامة السارية ضرها وشرها { فكأنما قتل الناس جميعا } إذ كل فرد من أفراد الإنسان مستجمع لكمالات الجميع بسعة قلبه، وعلو مرتبته، واستعداده وقابليته لمظهرية الحق وخلافته فكان قتله قتل الجميع.
{ ومن أحياها } خلصها وأنجاها من المهلكة والمتعلقة { فكأنما أحيا الناس جميعا } على الوجه المذكور { و } بعدما قضينا عليهم { لقد جآءتهم رسلنا } تأكيدا وتشديدا { بالبينت } الدالة على عظم جريمة القتل عند الله، وعظم النكال المترتب عليها في الآخرة { ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض } التشديد والتأكيد { لمسرفون } [المائدة: 32] على أنفسهم بالقتل بلا رخصة شرعية من غير مبالاة بالآيات والبينات.
{ إنما جزآء الذين يحاربون الله } ويقابلون له بعدم الامتثال لأمره، والانقياد لشرعه { ورسوله } بتكذيبه وتكذيب ما جاء به من عند ربه، والقتال معه ومع من تابعه { و } مع ذلك { يسعون في الأرض فسادا } مفسدين بأنواع الفسادات الساري ضررها في أقطار الأرض { أن يقتلوا } حيث وجدوا دفعة { أو يصلبوا } أحياء؛ ليعتبر منهم من في قلبه مرض مثل مرضهم، ثم يقتل على أفظع وجه وأقبحه.
{ أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } متبادلتين؛ ليعيشوا بين الناس على هذا الوجه، ولينزجر منهم نفوس أهل الأهوية الفاسدة { أو ينفوا من الأرض } إلى حيث يؤمن من شرورهم { ذلك } المذكور { لهم خزي } تذليل وتفضيح { في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة: 33] طرد وتبعيد عن مرتبة أهل التوحيد.
[5.34-37]
{ إلا الذين تابوا } ورجعوا إلى الله عما كانوا عليه مخلصين، نادمين، خائفين من بطشه، راجين من عفوه وجوده { من قبل أن تقدروا عليهم } أي: غرماؤهم، وتأخذوهم مطالبين القصاص عنهم، يسقط عنهم حق الله بالتوبة إن أخلصوا فيها { فاعلموا } أيها المؤمنون { أن الله } الموفق لهم على التوبة { غفور } لهم، يغفر ذنوبهم { رحيم } [المائدة: 34] يقبل توبتهم.
{ يا أيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم التقوى عن محارم الله { اتقوا الله } عن ارتكاب ما حرم عليكم، ونهاكم عنه { وابتغوا } واطلبوا { إليه الوسيلة } المقربة إلى ذاته لتتوسلوا به إلى توحيده { وجاهدوا في سبيله } لقطع العلائق، ورفع الموانع مع القوى البشرية الشاغلة عن التوجه نحوه { لعلكم تفلحون } [المائدة: 35] تفوزون بفضاء توحيده، وصفاء تجريده وتفريده.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقب الوعد بالوعيد: { إن الذين كفروا } بتوحيد الله، وأصروا على ما هم عليه من الكفر والشقاق { لو } تحقق وثبت { أن لهم } ملك { ما في الأرض } من الزخارف والكنوز { جميعا ومثله معه } بل أضعاف أمثاله { ليفتدوا به } فدية، ويخلصوا { من عذاب يوم القيامة } ونكالها المترتبة على كفرهم { ما تقبل منهم } لعظم جرمهم وإصرارهم عليه، بل { ولهم } فيها { عذاب أليم } [المائدة: 36] مؤبد، لا يرجى نجاتهم أصلا.
{ يريدون } متمينا { أن يخرجوا من النار و } الحال أنه { ما هم بخارجين منها } لاستحالة الخروج من ذلك لزوم النكال { ولهم عذاب مقيم } [المائدة: 37] دائم، متجدد متلون؛ لئلا يعتادوا بنوع منه.
[5.38-40]
{ والسارق } المتجاوز عن حدود الله { والسارقة } المتجاوزة عنها { فاقطعوا } أيها الحكام { أيديهما } أي: يمينها إن أخرجا المسروق من الحرز المتعارف { جزآء بما كسبا } معهما { نكالا } عقوبة وتعذيبا { من الله } لتصرفهم في ملك الغير { والله } المتصرف المستقل في ملكه { عزيز } غالب، قادر على الانتقام { حكيم } [المائدة: 38] متقن في مقداره وتعيينه.
{ فمن تاب } ورجع إلى الله مخلصا، خائفا { من بعد ظلمه } وخروجه عن حدود الله { وأصلح } بالتوبة ما أفسد على نفسه من مجاوزة حكم الله { فإن الله } المصلح لأحوال عباده { يتوب عليه } ويقبل توبته بعدما وفقه { إن الله } الميسر لأمور عباده { غفور } لذنوبهم { رحيم } [المائدة: 39] لهم بعدما رجعوا إليه، راجين عفوهز
{ ألم تعلم } أيها الداعي للخلق إلى الحق { أن الله } المتوحد، المستقل بالألوهية والتصرف { له ملك السموت } من الكائنات والفاسدات { والأرض } وما يتكون عليها، وكذا ما بينهما من بدائع الكوائن { يعذب من يشآء } من أهل التكاليف على ما صدر عنهم من الجرائم؛ عدلا منه { ويغفر لمن يشآء } فضلا منه { والله } المتصرف بالاستقلال في ملكه { على كل شيء } من الإنعام والانتقام { قدير } [المائدة: 40] له الإرادة والاختيار، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
[5.41]
{ يأيها الرسول } البعوث بالحق على كافة الخلق بشيرا ونذيرا { لا يحزنك } صنيع الفرق { الذين يسارعون في الكفر } أي: يسرعون إليه عند الفرصة؛ لكون جبلتهم عليه وميلهم بالطبع نحوه { من } المداهنين المنافقين { الذين قالوا } حفظا لدمائهم وأموالهم: { آمنا } قولا مجردا { بأفواههم و } الحال أنه { لم تؤمن } ولم تذعن { قلوبهم } بل ختم عليها بالكفر.
{ و } علامة كفرهم أنهم من غاية نفاقهم معك ومع من تبعك { من الذين هادوا سماعون للكذب } أي: للكذب المفترى بالتورية، بأنك لست النبي الموعود فيها ومصدقون لها من الذين هادوا، قدم الاختصاص؛ إذ لا مصاحبة للمنافقين مع المؤمنين خصوصا في خلواتهم، بل مع أحبار اليهود، وهم من أعدى عدوك، وأشدهم غيظا وبغضا، ومع ذلك { سماعون } أيضا { لقوم آخرين } ممن آمن بك من أقاربهم وعشائرهم؛ لضلوهم عن طريق الحق، ومن لم يؤمن لك يميلون بقلوبهم إلى الإيمان ليقعدوهم، وليصرفوهم عما نووا في نفوسهم، وكيف لا يكون أحبار اليهود من أعدى عدوك يا أكمل الرسل، وهم من غاية بغضهم معك { لم يأتوك }؟.
ومع عدم إتيانهم { يحرفون } ويغيرون { الكلم } المنزلة في التوراة بيان بعثتك ووصفك وحليتك، ومنشأتك وحسبك ونسبك وعلو شأنك، ووضوح برهانك وتكملتك أمر النبوة والرسالة، ونسخك جمع الأديان { من بعد } كونه مثبتا عن { مواضعه } بوضع إلهي، وهم أيضا من غاية بغضهم معك { يقولون } لإخوانهم حينما حكموك في أمر؛ لشهرة أمانتك، ووثوقهم برأيك وعزيمتك في قطع الخصومات: { إن أوتيتم } وحكمتم طبق { هذا } أي: المحرف { فخذوه } واقبلوه، وامضوا عليه، وارضوا به { وإن لم تؤتوه } موافقا له { فاحذروا } منه، وأعرضوا عنه.
ثم قال سبحانه؛ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: { ومن يرد الله فتنته } كفره وظلمته وقساوته { فلن تملك له من الله شيئا أولئك } البعداء عن نهج الرشاد من الكفارين { الذين لم يرد الله } ولم يتعلق مشيئته { أن يطهر قلوبهم } من خباثة الكفر الشرك { لهم في الدنيا خزي } هوان وصغار وجزية وذلة ومسكنة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة: 41] هو الخلود في نار الحرمان عن مرتبة الإنسان.
[5.42-43]
وما هو إلا أنهم { سماعون للكذب } المذكور، معتقدون صدقها ومطابتها للواقع ومسمعونهم أيضا، وهم؛ أي: الأحبار { أكالون للسحت } أي: الحرام الذين يرتشون منهم؛ بسبب تحريفهم نعتك يا أكمل الرسل من كتابهم؛ لتبقى رئاستهم وجاههم فأعرض عنهم وعن إيمانهم { فإن جآءوك } ليحكموك، إن شئب { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } وعن حكمهم، فلك الخيار.
{ و } لا تبال بهم وبعداوتهم { إن تعرض عنهم } فإنهم وإن عادوك أشد عداوة وبغضا { فلن يضروك شيئا } من المكروه، فإن الله يعصمك ويكفيك من شرورهم { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } والعدل الذي هو أمر الحق ونطق به الفرقان { إن الله } المستوي باسم الرحمن على عروش الذرائر معتدلا بلا تفاوت { يحب المقسطين } [المائدة: 42] المتعدلين من عباده، المائلين عن كلا طرفي الإفراط والتفريط، المنتهين إلى قعر الجحيم، وليس غرضهم من تحكيمك الإطاعة بك وبحكمك، والوثوق لأمانتك ووقوفك، بل ليس غرضهم إلا التسهيل والتيسير، والإعراض عن بعض الأحكام مداهنة.
{ و } إلا { كيف يحكمونك } مع عدم إيمانهم بك وبكتابك { و } الحال أنه { عندهم التوراة فيها حكم الله } على التفصيل، وم يدعون العلم بها { ثم يتولون } وينصرفون { من بعد ذلك } أي: بعدما حكمت فيما حكموك فيه مع أنه مطالق لكتابهم { ومآ أولئك بالمؤمنين } [المائدة: 43] أي: وما إعراض أولئك المؤمنين بكتابهم، الموقنين فيه حتى يحكموك مع كونهم عالمين بحكمك فيه.
[5.44-45]
{ إنآ } من مقام جودنا { أنزلنا التوراة } إلى موسى، وأدرجنا { فيها هدى } بهدي إلى الحق من ضل عن طريقه { ونور } يكشف طريق التوحيد لمن استكشف منه { يحكم بها النبيون } من أنبياء بين إسرائيل { الذين أسلموا } معه، وفوضوا أمورهم كلها إليه بعدما تحققوا بتوحيده { للذين هادوا و } وكذا يحكم بها { الربانيون } المنسوبون إلى الرب بمتابعة الأنبياء، وهم الأولياء، فهم { و } كذا { الأحبار } المتفقهة، فهم يحكمون { بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه } أي: على ما استحفظوا { شهدآء } مستحضرين يراقبون، ويداومون على حفظه.
{ فلا تخشوا الناس } أي: لا تميلوا أيها الحكام عن طريق الحق من أجل الناس المتعظمين بجاههن ورئاستهم، ولا تداهنوا في الأحكم؛ رغاية لجانبهم { واخشون } من بطشي، وغضبي عليكم حين مخالفتكم كمي وأمري، مداهنة { و } عليكم أن { لا تشتروا بآياتي } وأحكامي { ثمنا قليلا } من الرشى { و } اعلموا أن { من لم يحكم بمآ أنزل الله } أي: بمقتضاه، وموافقا له { فأولئك } البعداء المداهنون، المرتشون { هم الكافرون } [المائدة: 44] الساترون مقتضى الحكمة بأهويتهم الباطلة، الخارجون عن رتبة العبودية بمخالفة حكم الله وأمره.
{ و } من جملة الأحكام التي { كتبنا عليهم فيهآ } القصاص، فاعلموا أيها الحكام { أن النفس } القاتلة تقتص { بالنفس } المقتولة { والعين } تفقا { بالعين } المفقوءة { والأنف } يقطع { بالأنف } المقطوعة { والأذن } تصلم { بالأذن } المصلومة { والسن } تقلغ { بالسن } المقلوعة { و } كذا { الجروح } يجري فيها { قصاص } مثلا بمثل على قياس ما ذكر { فمن تصدق } من المستحقين { به } أي: بالقصاص، وعفا عنه طوعا { فهو } أي: تصدقه { كفارة له } أي: لذنوبه { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله } من الأحكام؛ ميلا وارتشاء { فأولئك } الحاكمون { هم الظالمون } [المائدة: 45] المتجاوزون عن مقتضى الإيمان والإطاعة والانقياد.
[5.46-47]
{ و } بعدما انقرض هؤلاء النبيون الحاكمون { قفينا على آثارهم } أي: أتبعناهم { بعيسى ابن مريم } خلفا لهم { مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه } امتنانا له { الإنجيل فيه } أيضا { هدى ونور } للمستهدين المستكشفين منه { و } مع كونه مشتملا على الهداية والإنارة { مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى } هاديا لأهل العناية { وموعظة } وتذكيرا { للمتقين } [المائدة: 46] المتوجيهن إلى الحق بين الخوف والرجاء.
{ وليحكم } أيضا { أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه } من الأحكام { ومن لم يحكم } منهم أيضا { بمآ أنزل الله } لغرض من الأغراض الفاسدة { فأولئك } البعداء، المنصرفون عن منهج الرشاد { هم الفاسقون } [المائدة: 47] الخارجون عن ربقة الإيمان، المنهمكون في حبر الضلال والطغيان.
ومآل هذه الصفات الثلاثة لهؤلاء الحاكمين المجاوزين عما حكم الله في كتبه واحد إذ الفكر: هو ستر حكم الله، والظلم: هو المتجاوز عنه إلى غيره من الآراء الفاسدة والفسق: الخروج عن حكمه؛ عنادا ومكابرة، ومآل الكل إلى الشرك بالله، والإلحاد عن توحيده.
[5.48-50]
{ و } بعدما انقرض عيسى - صلوات الرحمن عليه - { أنزلنآ إليك } يا أكمل الرسل، وخاتم النبيين { الكتاب } الجامع لجميع الكتب السالفة متلبسا { بالحق } والصدق { مصدقا لما بين يديه من } جنس { الكتاب } المنزل على الرسل الماضين { و } مع كونه مصدقا { مهيمنا عليه } مستحضرا لما فيه، يحفظه عن التحريف والتغيير؛ إذ الكتب الإلهية كل لا حق منها يحفظ حكم سابق، ويصونه عن التطرق والتحريف، وإن كان مشتملا على نسخ وتغيير إلهي بحسب الزمانين ومقتضى المرتبتين { فاحكم } أيضا { بينهم } مطابقا { بمآ أنزل الله } إليك في كتابه { ولا تتبع أهوآءهم } الباطلة؛ ميلا ومداهنة، ولا تنحرف { عما جآءك من الحق } الصريح، لائق للحكمة الإلهية المقتضية للأحكام.
واعلموا أيها الأمم المتوجهون نحو التوحيد المسقط لجميع الإضافات { لكل جعلنا منكم شرعة } موردا ومذهبا تردون منها إلى بحر الوحدة { ومنهاجا } طريقا واضحا، بينها الحق لأنبيائه ورسله بإنزال الكتب عليهم { ولو شآء الله } الهادي لعباده إلى توحيده { لجعلكم } وصيركم { أمة واحدة } متحدة في المنهج والمقصد بحسب الظاهر أيضا { ولكن } كثركم، وعدد طرقكم { ليبلوكم } ويجربكم { في } رعاية مقتضيات { مآ آتاكم } من مواهبه، وعطاياه الفائضة من تجلياته الحبية.
{ فاستبقوا } أيها المعترضون لنفحات الحق { الخيرات } الفائضة عن محض جوده فابتدروها، وتعرضوا لمهايتها، واعلموا أيها التائهون في سراب الإمكان { إلى الله } المتوحد في الجود والوجود { مرجعكم جميعا } أيها الأضلال الباطلة، والتماثيل العاطلة المنعدمة في أنفاسها { فينبئكم } بد رفع تعيناتكم { بما كنتم فيه تختلفون } [المائدة: 48] من الإضافات المترتبة على الهويات الباطنة.
ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
{ و } أيضا أمرناك فيما أنزلنا إليك بالحق { أن احكم بينهم } مطابقا، موافقا { بمآ أنزل الله } إليك في كتابه بلا ميل وانحراف عنه { ولا تتبع أهوآءهم } المضلة { واحذرهم } عن { أن يفتنوك } ويلبسوا عليك { عن بعض مآ أنزل الله إليك } بمواساتك، وإظهار محبتك ومودتك قاصدين انحرافك، وميلك إلى ما تهوى نفوسهم { فإن تولوا } أعرضوا عنك وعن حكمك.
{ فاعلم } أيها الداعي للخلق إلى الحق { أنما يريد الله } وتتعلق مشيئته به { أن يصيبهم } ويأخذهم { ببعض ذنوبهم } وهو التولي والإعراض عنك وعن حكمك؛ لأنهم قد خرجوا بالإعراض عنك عن حكمك، عن جميع حدود الله وأحكامه { و } لا تتعجب خروجهم { إن كثيرا من الناس } الناسين للعهود الأصلية { لفاسقون } [المائدة: 49] خارجون عن مقتضى الأحكام الإلهية وحكمه بمتابعة الأهواء الباطلة.
{ أ } يعرضون، وينصرفون عن حكمك { فحكم الجاهلية } الناشئة من الآراء الفاسدة، الزائفة، الحاصلة عن تمويهات عقولهم، القاصرة، كأحكام متفقهة هذا العصر { يبغون } يطلبون منك، ويعتقدون أن الحسن والحق ما هم عليه من تلقاء أنفسهم { ومن أحسن من الله } المتفرد بذاته { حكما لقوم يوقنون } [المائدة: 50] بتوحيده وتفريده.
[5.51-53]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم أن { لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء } توالونهم، وتصاحبونهم، مثل موالاة المؤمنين، ولا تعتمدوا، ولا تثقوا بودادتهم ومودتهم إذ هم { بعضهم أوليآء بعض } متظاهرون متعاونون، ينتهزون الفرضة لمقتدكم { ومن يتولهم } ويعتمد عليهم { منكم فإنه منهم } من جملتهم، وعدادهم عند الله { إن الله } المطلع لضمائر عباده { لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة: 51] المجاوزين عن مقتضى أوامر الله، المرتكبين لمناهيه، فكيف لا يكون المتولون معهم من زمرتهم؟!.
{ فترى } أيها الرائي { الذين في قلوبهم مرض } كفر ونفاق { يسارعون } ويبادرون { فيهم } في مودتهم ومؤاخاتهم { يقولون } معتذرين لكم؛ نفاقا: { نخشى أن تصيبنا دآئرة } من دوائر الزمان، كان الأمر فيها لهم، والدولة تتوجه نحوههم، فنداريهم ونواليهم؛ خوفا منها { فعسى الله أن يأتي بالفتح } والظفر لرسوله؛ ليظهر دينه على الأديان كلها { أو أمر } عظيم، نازل { من عنده } يكفي مؤنة كفرهم ونفاقهم { فيصبحوا على مآ أسروا في أنفسهم } من بغض رسول الله، والإنكار لرسالته، وتكذيب كتابه { نادمين } [المائدة: 52] خائبين، خاسرين.
{ و } حينئذ { يقول الذين آمنوا } وأخلصوا في إيمانهم بعضهم لبعض، مستهزئين لهؤلاء المنافقين: { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } أي: أغلظها وأوكدها { إنهم لمعكم } مؤمنين بنبيكم؛ مظاهرة لكم في إعلاء كلمة الحق وانتشارها { حبطت } واضمحلت { أعمالهم } إلى حيث لا تفيدهم أصلا { فأصبحوا خاسرين } [المائدة: 53] خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة.
[5.54-56]
{ يأيها الذين آمنوا } لا تحزنوا بصنيع { من يرتد منكم عن دينه } بعد إيمانه وقبوله الإسلام، ولا تبالوا بشأنه { فسوف يأتي الله } من فضله ولطفه { بقوم يحبهم } الله ويفوقهم على الإيمان، ويوصلهم إلى مرتبة اليقين والعرفان { ويحبونه } إلى حيث بذلوا مهجهم في سبيله طوعا ورضا؛ إعلاء لكلمة توحيده، ونصر دين نبيه { أذلة على المؤمنين } تواضعا وإخاء { أعزة على الكافرين } غلبة واستيلاء { يجاهدون في سبيل الله } وطريق توحيده، باذلين نفوسهم فيه، طالبين رضاه { ولا يخافون لومة } ملامة { لائم } مليم كهؤلاء المنافقين الذين يخافون من العلامة؛ حفظا لجاههم ورئاستهم، وحمية لما أسروا في نفوسهم من الأهوية الباطلة.
{ ذلك } الأوصاف الحميدة { فضل الله } الهادي لعباده إلى فضاء توحيده { يؤتيه من يشآء } من أهل العناية { والله } المتفضل، المحسن لأرباب الولاء { واسع } في فضله وطوله { عليم } [المائدة: 54] على من يستحق الإفضال والإنعام .
ثم لما نهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكفار وودادتهم، وبالغ فيه، أراد أن ينبه على من يستحق الولاية والودادة وحقيقته، فقال: { إنما وليكم الله } المتولي لأموركم بالولاية العامة { ورسوله } النائب عنه، المستخلف له { والذين آمنوا } بالله، بالولاية الخاصة بمتابعته صلى الله عليه وسلم، وهم { الذين يقيمون } يديمون { الصلاة } المقربة إلى الحق { ويؤتون الزكاة } المصفية لبواطنهم عن التوجه نحو الغير { و } الحال { هم راكعون } [المائدة: 55] خاضعون في صلاتهم، نزلت في علي - كرم الله وجهه - حين سأله سائل، وهو راكع في صلاته، فرمى له خامته.
{ ومن يتول الله } ويفوض أمره إليه، ويتخذه وكيلا { ورسوله } الذي ظهر على صورته، ونزل في شأنه
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80] { والذين آمنوا } طلبا لرضاه، فهم من حزب الله وجنوده، يحفظهم في حفظه وحمياته، ويغلبهم على من يصول إليهم { فإن حزب الله } القادر، المقتدر على كل ما أراد وشاء { هم الغالبون } [المائدة: 56] الواصلون إلى جميع مقاصدهم، بفضل الله وسعة جوده.
[5.57-60]
{ يأيها الذين آمنوا } عليكم أن { لا تتخذوا الذين اتخذوا } من غاية بغضهم ونفاقهم { دينكم } الذي هو أقدم الأديان وأقسطها { هزوا ولعبا } يستهزئون ويسخرون به؛ استخفافا واستهانة لأهله { من الذين } يدعون الدين والإيمان، والإطاعة والانقياد افتراء ومراء؛ لأنهم { أوتوا الكتاب من قبلكم } متلبسا بالحق، لم يمتثلوا به، ولم يعملوا بمقتضاه، ولم يصدقوا الرسل الذين أنزل إليهم الكتاب، بل يكذبونهم، ويقتلونهم؛ ظلما وعنادا من كفرهم الأصلي، وشركهم الجبلي.
{ و } خصوصا { الكفار } الذين أشركوا بالله المتوحد بذاته، المنزه عما ينسبونه إليه { أوليآء } يوالونهم، ويحبونهم، كموالاة بعضكم بعضا؛ إذ هم أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين { واتقوا الله } عن موالاة أعدائه { إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 57] موقنين به ومصدقين لرسوله.
{ و } من غاية بغضهم وغيظهم منهم { إذا ناديتم } وأذنتم { إلى الصلاة } المقربة نحو الحق { اتخذوها هزوا ولعبا } تلك الملاعبة والاستهزاء، والمجادلة والمراء مع الأمناء العرفاء بالله { ذلك بأنهم قوم } جهلاء بمقتضى الربوبية، غفلاء عن مرتبة الألوهية وبالجملة: هم سفهاء في أنفسهم { لا يعقلون } [المائدة: 58] ولا يصرفون العقل الجزئي المفاض لهم من الحق بمعرفة المبدأ والمعاد إلى ما خلق لأجله، ومع ذلك ينكرون العقلاء الشاكرين، الصارفين عقولهم وجميع جوارحهم وأعضائهم إلى ما جبل لأجله من الأعمال المفربة نحو التوحيد الإلهي.
{ قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ } وتنكرون علينا، وتستهزئون بنا { إلا أن آمنا بالله } المتوحد، المتفرد بذاته، المتجلي على الآفاق بالاستحقاق { و } آمنا أيضا { مآ أنزل إلينا } لتبيين توحيده { و } كذا آمنا { مآ أنزل من قبل } من الكتب على الرسل الماضين لإهداء طريق الحق { و } تعلمون أنتم أيضا يقينا { أن أكثركم فاسقون } [المائدة: 59] خارجون عن الإيمان وجادة التوحيد، ولا تظهرونه؛ عنادا ومكابرة، ويستهزئون مع أهل الحق تجاهلا؛ حفظا لكم ورئاستكم.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما: { هل أنبئكم } وأخبركم { بشر من ذلك } الدين الذي أنتم تنقمون منه؛ مكابرة { مثوبة } عائدة، وجزاء مرتبا عليه، ثابتا { عند الله } قبحه وديدنه { من لعنه الله } طرده عن قبوله { وغضب عليه } بأن أخرجه من رتبة خلافته ونيابته { وجعل منهم القردة والخنازير } المنعزلة عن إدراك الحق { وعبد الطاغوت } أي: الأهوية الباطلة، المضلة عن الهداية إلى طريق الحق { أولئك } المطرودون، المغضوبون، الممسوخون عن مقتضى الإنسانية { شر مكانا } منزلة ومكانة عند الله { وأضل عن سوآء السبيل } [المائدة: 60] الذي هو الاعتدال الإنساني، المنعكس عن الاعتدال الإلهي.
[5.61-64]
{ وإذا جآءوكم } مدعين المحبة لكم ولدينكم؛ مداهنة ونفاقا، حيث { قالوا آمنا } بنبيكم، وبما جاء به من عند ربه، لا تبالوا بهم وبإيمانهم، ولا تصاحبوا معهم { و } الحال أنهم { قد دخلوا } عليكم متلبسين { بالكفر } والإصرار { وهم } أيضا { قد خرجوا به } بل زادوا إصرارا وعنادا، وإن أظهروا خلافه { والله } المطلع لضمائر عباده { أعلم بما كانوا يكتمون } [المائدة: 61] من الكفر والنفاق، وبغض رسول الله الذين آمنوا معه.
{ وترى } أيها الرائي { كثيرا منهم } أي: من اليهود والنصارى { يسارعون } ويبادرون { في الإثم } أي: الخصلة الذميمة عقلا وشرعا { والعدوان } أي: التجاوز عن الحدود الشرعية { و } خصوصا { أكلهم السحت } أي: الحرام { لبئس } أي: بئس شيئا { ما كانوا يعملون } [المائدة: 62] ويكسبون لأنفسهم من الأمور التي تستجلب العذاب والنكال.
{ لولا } هلا { ينهاهم } ويمنعهم { الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم } افتراء على الله، وعلى كتابه { وأكلهم السحت } زاعمين إباحته { لبئس ما كانوا يصنعون } [المائدة: 63] لبئس شيئا يصنعونه لأنفسهم برأيهم الفاسد، وعقلهم القاصر الكاسد.
{ و } من غاية جهلهم بالله، ونهاية غفلتهم عن مقتضيات أوصافه { قالت اليهود يد الله مغلولة } مقبوضة، يقتر بالرزق حين فقدوا البسطة والرخاء الذي كانوا فيه قبل تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه؛ دعاء عليهم: { غلت أيديهم } عن جميع الخيرات والمبرات بضرب الذلة والمسكنة عليهم في الدنيا، وفي الآخرة بالأغلال والسلاسل يسحبون بها إلى الجحيم.
{ و } أعظم منه أنهم { لعنوا } طردوا عن مرتبة الإنسانية { بما قالوا } على ما قالوا على الله الجواد، الكريم ما لا يليق بجنابه { بل يداه } أي: أوصافه اللطفية والقهرية { مبسوطتان ينفق كيف يشآء } ويتعلق إرادته لمن يشاء؛ لطفا وجودا، ويمنع عمن يشاء قهرا وعدلا { و } الله { ليزيدن كثيرا منهم } حقدا وحسدا من { مآ أنزل إليك } يا أكمل الرسل؛ إنعاما وإفضالا لك { من ربك طغيانا } اجتراء وظلما على الله، لا يليق بجنابه { وكفرا } إصرارا وتشددا على ما هم عليه من الشرك والعناد.
{ و } بسبب طغيانهم وكفرهم { ألقينا } وأوقعنا { بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة } لا ينفقون، ولا يوافقون أصلا، بل { كلمآ أوقدوا نارا للحرب } مع المسلمين وصمموا العزم نحوه { أطفأها الله } بإيقاع المخالفة والعداوة بينهم { و } بالجملة: هم { يسعون في الأرض } دائما، مستمرين { فسادا } أي: لأجل الفساد، وإثارة الفتن { والله } المصلح لأحوال عباده { لا يحب المفسدين } [المائدة: 64] المعاندين منهم، المجترئين على الله وعلى رسوله؛ مكابرة وعنادا.
[5.65-67]
{ ولو أن أهل الكتب ءامنوا } بك وبكتابك { واتقوا } عما اجترؤوا عليه في حق الله، وفي حقك { لكفرنا عنهم } أي: محنا عن ديوان أعمالهم بالمرة { سيئاتهم } التي كانوا عليها { ولأدخلنهم } تفضلا وامتنانا { جنت النعيم } [المائدة: 65] منتزهات العلم والعين والحق، إن أخلصوا في إيمانهم.
{ ولو أنهم } أي: أهل الكتاب { أقاموا التوراة } وامتثلوا بأوامرها، وأظهروا ما فيها من الأحكام والعبر والتذكيرات، سيما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ونعته { و } أقاموا أيضا { الإنجيل } وعملوا بمقتضى ما فيه { و } كذا جميع { مآ أنزل إليهم من ربهم } لوسع عليهم الرزق الصوري والمعنوي إلى حيث { لأكلوا } الرزق { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } - ذكر الجهتين يغني عن الجهات كلها - لو كوشفوا بوحدة الله من جميع الجوانب والجهات، ولا يرون غير الله في مظاهره ومجاليه { منهم أمة مقتصدة } معتدلة، لا من أهل التفريط، ولا من أهل الإفراط، يرجى إيمانهم، وكشفهم { و } إن كان { كثير منهم سآء ما يعملون } [المائدة: 66] أي: ساء عملهم في الإفراط والتفريط عن جادة الاعتدال والتوحيد.
{ يأيها الرسول } المبعوث إلى كافة الخلق بالرسالة العامة، والدعوة إلى توحيد الذات { بلغ } وأوصل جميع { مآ أنزل إليك من ربك } لتبيين طريق توحيده الذاتي على جميع من كلف به { وإن لم تفعل } ولم تبلغ؛ إمهالا وخوفا { فما بلغت رسالته } التي كلفك سبحانه بتبليغها، وبالجملة: اعتصم بالله، وتوكل عليه في أدائها { والله } المراقب لجميع أحوالك { يعصمك } ويحفظك { من } شرور { الناس } القاصدين مقتك ومساءتك يكفيك مؤنة شرورهم، ويكف عك أذاهم بحوله وقوته { إن الله } المطلع لضمائر عباده { لا يهدي القوم الكافرين } [المائدة: 67] القاصدين مقتك، ولا يوصلهم إلى ما يريدون بك من المضرة والمساءة.
[5.68-69]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل: { يأهل الكتاب لستم على شيء } من أمر الدين والإيمان والإطاعة والانقياد { حتى تقيموا التوراة والإنجيل و } جميع { مآ أنزل إليكم من ربكم } وتمتثلوا بأحكامها، وتتصفوا بما فيها من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم المرضية عند الله، وتتحققوا بحقائقها ومعارفها المودعة فيها { و } الله { ليزيدن كثيرا منهم } حين سمعوا منك أمثال هذا، ناشئا من { مآ أنزل إليك من ربك } لتأييدك ونصرك { طغيانا وكفرا } من غاية غيظهم، وبغضهم معك، ومع من تبعك من المؤمنين { فلا تأس } ولا تحزن { على القوم الكافرين } [المائدة: 68] الساترين طريق الحق بأهويتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة الفاسدة.
ثم قال سبحانه: { إن الذين آمنوا } أسلموا، وانقادوا، وامتثلوا بأوامر كتابك واجتنبوا عن نواهيه، وآمنوا أيضا بجميع الكتب والرسل، وجميع الأنبياء وذوي الأديان وغيرها؛ لتمكنهم في مقر التوحيد البحث، الخالص عن شوب الكثرة { والذين هادوا } من الممتثلين جميع ما أمر في التوراة، ونهي عنه إلى أن وصلوا إلى مرتبة التوحيد، المسقط للاختلافات الصوري والمعنوي { والصابئون } الذين يتوسلون بالملائكة في عبادة الله، لا الصابئون الطبيعيون الذين هم يعبدون الكواكب من صور نظرهم، وكثافة حجابهم { والنصارى } الذين يعلمون على مقتضى الإنجيل بلا فوت شيء من أوامره ونواهيه.
{ من آمن } منهم { بالله } المتوحد بذاته، المستغني عن الأشياء والأنداد مطلقا ووصل بمتابعة كتبه المنزلة، ورسله المبينين لكتبه إلى توحيده { واليوم الآخر } المعد للكشف والوصول { وعمل } عملا { صالحا } بطريق توحيده { فلا خوف عليهم } في سلوكهم { ولا هم يحزنون } [المائدة: 69] بعدما وصلوا؛ إذ كل ما جاء من عند الله إنما هو بمقتضى توحيده، مبين له، وإن كانت الطرق متعددة بتعدد الأوصاف والأسماء الإلهية لكن كل منها موصلة إليه سبحانه؛ إذ ليس وراء الله مرمى ومنتهى، لذلك قيل: التوحيد إسقاط الإضافات رأسا حتى يتحقق الفناء فيه والبقاء به، بل لا فناء ولا بقاء في مرتبة العماء أصلا، حارت في ملكوتك عميقات مذاهب التفكر.
[5.70-72]
والله { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل } على لسان أنبيائهم ألا تشركوا بالله، ولا تخاصموا مع أنبيائه ورسوله { و } بعدما أخذنا منهم الميثاق { أرسلنآ إليهم رسلا } مبشرين ومنذرين تخاصموا، وصاروا من خبث بواطنهم { كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم } وبما لا ترضى به عقولهم { فريقا كذبوا } عندنا؛ مكابرة وعنادا { وفريقا يقتلون } [المائدة: 70] الأنبياء؛ ظلما وعتوا.
{ و } هم من غاية عمههم وانهماكهم في الإعراض عن الحق { حسبوا } وظنوا { ألا تكون } وتدور عليهم { فتنة } مصيبة وبلاء بواسطة التكذيب والقتل { فعموا } عن أمارات الدين، وعلامات اليقين { وصموا } عن استماع دلائل التوحيد والعرفان { ثم } بعدما تنبهوا تابوا مخلصين { تاب الله عليهم } عفا عنهم وقبل توبتهم، ثم بعدما تابوا { ثم عموا وصموا كثير منهم } كرة أخرى؛ لخباثتهم الجبلية { والله } المطلع لجميع حالاتهم { بصير } خبير { بما يعملون } [المائدة: 71] بمقتضى أهويتهم الباطلة يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته.
{ لقد كفر الذين قالوا } من غاية جهلهم بقدر الله وما يليق بجانبه: { إن الله } المتجلي على عروش الذرائر الكائنة شهادة وغيبا { هو المسيح ابن مريم } أي: متحد به محصور عليه؛ إفراطا وعلوا { وقال المسيح } لهم حين سمع منهم ما قالوا: { يابني إسرائيل } التائهين بتيه الجهل والإفراط { اعبدوا الله } المنزه عن الحصر والحلول والاتحاد بل هو { ربي } رباني بأنواع اللطف والكرم.
{ وربكم } أيضا بإفاضة العقل الموصل إلى معرفة توحيده، لا فرق بيني وبينكم في العبودية والربوبية، لا تشركوا معه، ولا تحصروه في { إنه من يشرك بالله } المنزه عن الشريك مطلقا غيره من مخلوقاته { فقد حرم الله عليه الجنة } التي هي منزل السعداء الموحدين { ومأواه النار } المعدة للأشقياء الظالمين، المشركين { و } اعلموا أن { ما للظالمين } المفترين على الله ما هو بريء عنه بذاته { من أنصار } [المائدة: 72] ينصرونهم ويشفعون لهم عند أخذ سبحانه وبطشه.
[5.73-75]
{ لقد كفر الذين قالوا } من عدم تحققهم بمقام التوحيد، وعدم تنبههم بمرتبة الفناء في الله: { إن الله } المنزه عن التعدد، بل عن العدد مطلقا { ثالث ثلاثة } واحد منها وأراد بالثلاثة هو ومريم وعيسى { و } الحال أنه { ما من إله } أي: في الوجود موجود { إلا إله } موجود { واحد } محير للعقول والأبصار، ماح لظلال السوى الأغيار { وإن لم ينتهوا } هؤلاء الظلمة { عما يقولون } من التثليث والتعدد في الألوهية { ليمسن الذين كفروا منهم } أي: بقوا على كفرهم بلا إيمان إلى أن ماتوا عليه { عذاب أليم } [المائدة: 73] لا عذاب أشد منه، وهو حرمانهم عن مرتبة التوحيد التي هي مرتبة الخلافة والنيابة، أتصرون على هذا الكفر والضلال؟
{ أفلا يتوبون إلى الله } ولا يؤمنون له { و } لا { يستغفرونه } عما صدر عنهم من الجرائم العظام؟ حتى تقبل توبتهم وإيمانهم { والله } المنزه في ذاته عن كفرهم وإيمانهم { غفور } لهم إن أخلصوا في توبتهم وإيمانهم { رحيم } [المائدة: 74] لهم، يقبل توبتهم ولم يأخذهم على ما صدر عنهم بعدما تابوا.
{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول } من الرسل العظام { قد خلت } مضت { من قبله الرسل } مثله: ولم ينسبهم أحد إلى ما نسبوه { وأمه } أيضا { صديقة } مقبولة عند الله، قد مضت مثلها كثيرة من الصادقات المقبولات، لم ينسبها أحد إلى ما نسبتموها وبالجلمة: كيف ينسبونها إلى الألوهية { كانا } مركبان { يأكلان الطعام } بدلا لا يتحلل والإله منزة عن التركيب والتحليل، والأكل والشرب، والأبوة والأمومة وغيرها من أوصاف البشر { انظر } أيها الناظر متعجبا { كيف نبين } ونوضح { لهم الآيات } الدلائل القاطعة، الدالة على عدم ليقاتها بمرتبة الألوهية، مع أنه لا حاجة إلى الدليل أصلا عند من له أدنى درية { ثم انظر } وازدد في تعجبك { أنى } كيف { يؤفكون } [المائدة: 75] يصرفون وجوه عقولهم عن طريق الحق وإسماع كلمة التوحيد.
[5.76-79]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { أتعبدون } وتؤمنون { من دون الله } المتفرد بالألوهية والوجود { ما } أي: أضلالا وتماثيل { لا يملك لكم } ولا لأنفسهم { ضرا ولا نفعا } ولا وجودا، ولا حياة، بل ما هي إ لا تماثيل موهومة، وعكوس معدومة تنعكس من أشعة التجليات الإلهية، ليس لها في أنفسها أوصاف وآثار { والله } المتجلي في الآفاق بالاستحقاق { هو السميع } في مظاهره لا غيره؛ إذ لا غير { العليم } [المائدة: 76] أيضا فيها، فله الاستقلال في التصرف في ملكه وملكوته بلا مشاركة أحد ومظارته.
{ قل يأهل الكتاب } أي: النصارى { لا تغلوا في دينكم } ونبيكم { غير الحق } اقتراء ومراء، سيما بعد ظهور المبين، المؤيد، المدق { ولا تتبعوا أهوآء قوم } من أسلافكم { قد ضلوا من قبل } عن طريق الحق { و } مع ذلك لا يقتصرون على الضلال بل { أضلوا كثيرا } من ضعفائهم وعوامهم { و } هم قوم { ضلوا عن سوآء السبيل } [المائدة: 77] بلا هاد ومنبه يهديهم إليه، وما لكم تضلون عنه مع وجود المنبة المؤيد من عند الله، الهادي بالهداية العامة إلى صراط مستقيم، موصل إلى مقر التوحيد.
{ لعن } أي: طرد ، وحرم، ورد من مقر العز ومرتبة النيابة { الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم } أيضا { ذلك } الطرد واللعن { بما عصوا } على الله بعدم امتثال أوامره واجتناب نواهيه { وكانوا يعتدون } [المائدة: 78] يتجاوزون عن مرتبة الإنسانية بالخروج عما حد الله لهم، وبينه في كتابه إلى ما تهوى أنفسهم، وترضى عقولهم.
{ كانوا } من غاية غفلتهم وانهماكهم { لا يتناهون } أي: لا ينهون أنفسهم { عن منكر } مخالف للشرع { فعلوه } بعد تنبههم بمخالفته، بل يصرون عليها؛ عنادا واستكبارا، والله { لبئس ما كانوا يفعلون } [المائدة: 79] لأنفسهم ذلك المنكر، والإصرار المستجلب للعذاب والنكال.
[5.80-82]
{ ترى } أيها الرائي { كثيرا منهم يتولون } ويودون، ويوالون { الذين كفروا } أشركوا بالله ويصاحبونهم، لذلك يسري شركهم وكفرهم عليهم، والله { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم } بسببه { وفي العذاب هم خالدون } [المائدة: 80] يشؤمه.
{ ولو كانوا } أي: هؤلاء المنافقون { يؤمنون بالله } المتوحد في ذاته { والنبي } المؤيد من عنده، المبعوث إلى كافة الخلق { وما أنزل إليه } من الفرقان الفارق بين الحق والباطل { ما اتخذوهم } أي: المشركين { أوليآء } أحياء، أصدقاء { ولكن كثيرا منهم فاسقون } [المائدة: 81] خارجون عما فيه صلاحهم، وسدادهم من الحكم والأحكام المنزلة في القرآن.
{ لتجدن } أيها الداعي للخلق إلى الحق { أشد الناس عداوة للذين آمنوا } بك ويكتابك { اليهود } الذين جبلوا على النفاق والشقاق، سيما معك، وممن تبعك { والذين أشركوا } بالله بإثبات الوجود لغيره؛ لبغضهم مع الموحدين الموفقين بتوحيد الله ووحدة ذاته، القاطعين عرق الشركة بالكلية { ولتجدن أقربهم مودة } ومحبة { للذين آمنوا الذين قالوا } للمؤمنين من محض ودادهم وصميم فؤادهم بعدما تحققوا بحقية الدين المصطفوية، والشرعة المحمدية الموصلة إلى بحر التوحيد: { إنا نصارى } ننصر دينكم ونقوي عضدكم.
{ ذلك } أي: بسبب ودادتكم ومحبتكم في قلوبهم { بأن منهم } جمعا { قسيسين } طالين للعلم اللدني الذي هو ثمرة جميع الشرائع والأديان { ورهبانا } متحققين بمرتبة العين، ومتصرفين بلا تفرج، متفرجين بلا تصرف في الأمور الدنيوية، منتظرين لظهور مرتبة الحق التي أنت تظهر به يا أكمل الرسل { وأنهم } بعدما وجدوا في وجدانهم ما وجدوا { لا يستكبرون } [المائدة: 82] عن نصرك وودادتك أيها الجامع لجميع مراتب الحق.
[5.83-86]
{ و } من غاية تشوقهم إلى مرتبة اليقين الحقي { إذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول } من الحكم والأحكام والتذكير، والرموز والإشارات، والعبر والأمثال، المنبئ كل منها من مرتبة اليقين الحقي { ترى } أيها الرائي { أعينهم تفيض } تسيل { من الدمع } من غاية تلذذهم، ونهاية تشوقهم بتلك المرتبة، وذلك التذلل والتشوق { مما عرفوا } بقدر وسعهم وطاقتهم { من } أمارات مرتبة { الحق } فكيف إذا تحققوا بها، وتمكنوا في مقعد الصدق.
{ يقولون } من غاية تحننهم وتشوقهم مناديا، مناجيا، قلقا، حائرا، خائفا، حذرا، راجيا: { ربنآ آمنا } صدقنا، وتحققنا بما وهبت لنا من مرتبتي العلم والعين، وبعدما تحققنا بتوفيقك بهما { فاكتبنا } بلطفك { مع الشاهدين } [المائدة: 83] المتمكنين الذين حضروا وانقطع سيرهم، وحاروا إلى أن تاهوا أو فانوا، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه.
{ و } يقولون أيضا من غاية تحسرهم وتعطشهم: { ما لنا } أي: أي شيء عرض لنا { لا نؤمن } نصدق ونوقن ونذعن { بالله } المتوحد، المتجلي في الأكوان، المستغني عن الدليل والبرهان { و } لا نتبع ونمتثل { ما جآءنا من } دلائل { الحق } وبنيانه { و } مع ذلك { نطمع } ونرجو { أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } [المائدة: 84] لتلك المرتبة.
وبعدما فزعوا إلى الله، وأخلصوا فيما أظهروا { فأثابهم الله } وأورثهم { بما قالوا } راجيا، مناجيا، متمنيا، متحسرا { جنات } منتزهات من العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أنهار المعارف والحقائق من ألسنة أرباب الكشف واليقين؛ ليحيي بلدة ميتا من المحجوبين المسجونين بسلاسل التلقليدات، وأغلال الدلائل والتخمينات { خالدين فيها } ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، و { وذلك } الفوز العظيم، والفضل الكريم { جزآء المحسنين } [المائدة: 85] الموصلين إلى مرتبة حق اليقينز
{ والذين كفروا } بتوحيدنا { وكذبوا بآيتنآ } الدالة عليه، المبينة لطريقة { أولئك } البعداء، المحبوسون في مضيق الإمكان { أصحب الجحيم } [المائدة: 86] لا نجاة لهم منها، ولا خلاص من غوائلها.
[5.87-89]
ثم لما بلغ النصارى في الإعراض والترهب عن حظوظ الدنيا والذاتها إلى حيث يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم، وأفرطوا فيه إلى حيث لم يبق مزاجهم على الاعتدال الذي جبلوا عليه، أراد سبحانه أن ينبه على المؤمنين طريقا مستقيما، وسبيلا واضحا متوسطا بين طرفي الإفراط والتفريط؛ لئلا يؤدي إلى تخريب المزاج وتحريفه؛ إذ للحق سبحانه في إيجاد الأمزجة صنائع عجيبة، وبدائع غريبة منتشئة عن محض الحكمة الجامع لجميع الأوصاف الذاتية الإلهية من العلم والقدرة والإرادة وغيرها.
فقال مناديا: { يأيها الذين آمنوا } صدقوا بدين الإسلام، وامتثلوا ما أمروا فيه ونهوا عنه، عليكم أن { لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم } في دينكم { ولا تعتدوا } عن حدود الله؛ ترهبا وتزهدا، مفضيا إلى الرياء والسمعة { إن الله } المدبر لعباده { لا يحب المعتدين } [المائدة: 87] المجاوزين عن مقتضى تدبيره وإصلاحه.
{ و } إذا سمعتم من الحق ما سمعتم { كلوا } من طيبات { مما رزقكم الله حللا } غير مسرفين في أكلها { طيبا } من كد يمينكم، وعرق جبينكم مقدار ما يقوم مزاجكم ويقويكم على إقامة أمر الله وأحكامه { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } [المائدة: 88]. موقنون مخلصون عن مجاوزة حدوده وارتكاب محظوراته، واحذروا عن بطشه وانتقامه واعلموا أن خير قوتكم في دنياكم تقواكم ورضاكم، لذلك أوصاكم سبحانه.
ومن جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم في معاشكم،؛ لتكونوا مع المتقين المبرورين عند الله ألا تجترئوا على اليمين والحلف بالله في الوقائع والعقود، سيما على وجه الكذب قصدا واختيارا حتى لا تنحطوا عن مرتبة العدالة الفطرية، ولا تحلقوا بالأخسرين
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا
[الكهف: 104] إلا أن تصدر عنكم هفوة بغتة بلا قصد على ما هو المتعارف عند العرب في أثناء أكثر الكلام: " لا والله " بلا إغراء وتمويه، فإنه معفو عنكم.
كما قال سبحانه: { لا يؤاخذكم الله } المجازي عن أعمالكم { باللغو } الصادر منكم { في أيمانكم } بلا قصد وتغرير { ولكن يؤاخذكم } ويعذبكم { بما عقدتم الأيمان } أي: بالعقود التي وثقتموها بالأيمان، وحنثتم فيها، فعليكم بعدما حنثتهم أن تجبروها بالكفارة { فكفارته } المسقط نكاله { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } اي: كساوتهم على هذا الوجه { أو تحرير رقبة } على تفاوت رتبكم ودرجاتكم عسرا أو يسرا.
{ فمن لم يجد } شيئا منها { فصيام ثلاثة أيام } أي: فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متوالية؛ زجرا للنفس، وجبرا لما انكسر من المروءة الفطرية { ذلك } المذكور { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } جازمين حقيته وحنثتم، وأما إذا حلفتم كذبا وزورا - والعياذ بالله - فنكاله لا يسقط عنكم إلا بخلاص التوبة الندامة المؤكدة { واحفظوا } أيها المؤمنون { أيمانكم } التي حلفتم بها في مواقعها عن شوب الكذب والشك، بل عن شوب الظن أيضا إن أردتم أن تبروا فيها، وتقسطوا عند الله، { كذلك } الذي وعظتم به { يبين الله لكم آياته } الدالة على توحيده { لعلكم تشكرون } [المائدة: 89] رجاء أن تتحققوا في مقام الشكر، تصرفوا ما وهب لكم من العطايا إلى ما اقتضته حكمته.
[5.90-92]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم محافظة حدود الله الموضوعة فيكم لإصلاحكم أمرا ونهيا، كراهة وندبا، حلا وحرمة { إنما الخمر } أي: مطلق ما يترتب عليه السكر وإزالة العقل من أي شيء أخذتم { والميسر } القمار مع أي شيء لعبتم { والأنصاب } أي: الأصنام الموضوعة؛ لتضليل العباد { والأزلام } الموضوعة للاستعلام مما استأثر الله به من غيبه، كل منها { رجس من عمل الشيطان } قذر ونجس بلا واسطة أو واسطة { فاجتنبوه } أي: جانبوا، وأبعدوا أنفسكم عن كل منها { لعلكم تفلحون } [المائدة: 90] رجاء أ تفوزوا بما يرضى به الله عنكم.
{ إنما يريد الشيطان } المضل { أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء في الخمر والميسر } إلى حيث يفضي إلى المقاتلة والمشاجرة { و } يريد أن { يصدكم عن ذكر الله } وخصوصا { وعن الصلاة } التي هي معراج المؤمن نحو الحق { فهل أنتم منتهون } [المائدة: 91] أيها المؤمنون، أم مهلكون بارتكابها؛ إذ لا واسطة فيهما ولا عذر.
{ وأطيعوا الله } فيما أمركم به، ونهاكم عنه { وأطيعوا الرسول } المبين لكم أمر الله ونهيه { واحذروا } عما حذركم الله ورسوله { فإن توليتم } وأعرضتم بعد وضوح البرهان { فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } [المائدة: 92] الظاهر الواضح، وعلينا الحساب والأخذ، والانتقام والعذاب والنكال.
[5.93-94]
{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات } المأمورة { جناح } حرج وضيق وتعب { فيما طعموا } من المحرمات المذكورة قبل ورود تحريمها { إذا ما اتقوا } بعد ورودها عن غضب الله { وآمنوا } صدقوا تحريمها { وعملوا الصالحات } المرخصة بمقتضاها بلا إخلال { ثم اتقوا } عن رخصها { وآمنوا } أي: أخلصوا بعزائمها { ثم اتقوا } عن عزائمها طالبين رضا الله { وأحسنوا } في هذه التقوى، وتعبدوا الله كأنهم يرونه { والله } المحسن، المفضل لعباده { يحب المحسنين } [المائدة: 93] منهم، الطالبين رضاه، المتشوقين لقاءه.
ومن أجل الأمور المحرمة علكيم في دينكم: الاصطياد حال كونكم محرمين للحج.
{ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم } ويختبرنكم { الله بشيء } حقير { من الصيد } حال كونكم محرمين يغشاكم بحيث { تناله أيديكم ورماحكم } من غاية قربه، هل ما تأخذونه وتشوشونه، أم تحفظون أمر التحريم، وتراعون حقه، وما ذلك إلا { ليعلم الله } أي: يميز ويفصل { من يخافه بالغيب } أي: من انتقامه في يوم الجزاء عمن لا يخاف، ولا يبال بأمره وشأنه { فمن اعتدى } وتجاوز { بعد ذلك } أي: بعدما سمع من الحق ما سمع { فله عذاب أليم } [المائدة: 94] وعقاب عظيم باعتدائه واجترائه.
[5.95-96]
ثم أردفه سبحانه بما يدل على جبره بعد انسكاره؛ رفعا للحرج عن عباده، مصرحا بتحريمه ونهيه أولا، فقال: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم أن { لا تقتلوا الصيد و } الحال أنه { أنتم حرم } محرمين للحج { ومن قتله منكم } في أوقات إحرامه { متعمدا } قاصدا { فجزآء مثل ما قتل من النعم } أي: لزمه؛ جبرا لما انكسر، ذبح مثلما قتل من النعم في النفع والفائدة؛ لسد جوعه الفقراء والمساكين { يحكم به } يمماثلته { ذوا عدل منكم } حال كون ذلك المجازي ناويا { هديا } يذبح لله ولرضاه { بالغ الكعبة } أي: عندهما ويتصدق بها للفقراء والمساكين.
{ أو } لزم عليه { كفارة } وهي { طعام مساكين } أي: يشتري بثمن ذلك المثل الذي يحكم به ذوا عدل طعاما ويتصدق به للفقراء، يعطي كل واحد منهم مدا من الطعام { أو عدل ذلك صياما } أو لزمه صيام مدة مساوية لعدد الفقراء إذا أطعم بثمنها عليهم سر كل تلك التكاليف الشاقة { ليذوق وبال أمره } أي: ثقله وشدته وفظاعته، ووخامة عاقبته؛ إذ هو إبطال لصنع الحق حين حماه الحق، ونهى عن التعرض.
وعليكم أن تحافظوا على النهي بعد الورود، ولا تخافوا عما قبله؛ إذ { عفا الله عما سلف } أي: محا عن الديوان، وأسقط عن الحساب ما اكتسبتم من الجرائم حين كونكم تائيهن في بيداء الغفلة { ومن عاد } عليها بعدما نبه وتنبه { فينتقم الله منه } ويؤاخذه عليه ويحاسبه عنه، ويجازيه على مقتضى حسابه { و } لا تغتروا بحلمه وإمهاله ومجاملته؛ إذ { الله } المستغني في ذاته عن جميع الشؤون والنشأة { عزيز } غالب غيور، متكبر، قهور { ذو انتقام } [المائدة: 95] عظيم، وبطش شديد على من تخلف عن حكمه، وأصر عليه.
نعوذ بفضلك من عذابك يا ذا القوة المتين.
{ أحل لكم } أيها المحرمون { صيد البحر } مائي المولد مظلقا إلا ما تستكرهه طباعكم { وطعامه } أكله { متاعا لكم } يمتعون بها مجانا { و } كذا { للسيارة } للتجارة والزيارة وغيرها تتزودون منها { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } أي: من أول مدة إحرامكم إلى أول الحل { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } [المائدة: 96] وتساقون أيها المؤمنون.
وعليكم الحذر والاتقاء عن التعرض بمصنوعاته بقهر وغلبة في جميع حالاتكم سيما عد لبس الإحرام الذي هو كفن الفناء المعنوي، والموت الحقيقي عند أولي الألباب الناظرين إلى لب الأحكام وزبدته.
وكما أن في الموت الصوري لا يبقى للقوى والأوصاف الظاهرة آثار وأفعال، بل تعطلت، وانمحت، وتلاشت بحيث لا يتوقع منها ذلك أصلا، كذلك في الموت الإرادي الذي هو عبارة عن حج العارف لا بد من إحرامه، وتعطيله أعضاءه وجوارحه عن مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الحيوانية، وعن جميع التعينات الجمسانية والرحانية، والغيبية والشهادية، والظاهرية والباطنية، وبالجلمة: عن جميع الإضافات والكثرات الحاجبة لصرافة الوحدة الذاتية، المستهلكة عنها جميع ما يتوهم من الأضلال والعكوس.
لذلك صار الموت الإرادي أشد في الانمحاء، وأغرق في الفناء من الموت الصوري؛ إذ ينتهي الأمر في الموت الإرادي إلى العدم والصرف والفناء المطلق الذي ما شم رائحة الوجود أصلا، فكيف تخلل الموت والحياة، والوجود والعدم، وتاهت في بيداء ألوهيته أنظار العقل وآرائه؟.
[5.97-100]
إنما { جعل } وصير { الله } المستغني بذاته عن الأمكنة والحلول فيها مطلقا { الكعبة } الكعبة المعيننة في أرض الحجاز { البيت الحرام } أي: المكان الذي يحرم فيه أكثر ما يحل في غيرها من الأمكنة، بل جميعها عند العارف؛ ليكون { قيما للناس } يقومون بها ويتيقظون بأركانها ومناسكها، وآدابها ومشاعرها عن منام الغفلة ورقود النسيان { و } كذا صير { الشهر الحرام } ميقاتا لزيارتها وطوافها؛ ليقوموا فيها بتهيئة أسباب الفناء، وتخلية الضمير عن الميل إلى الغير والسوى.
{ و } صير سبحانه أيضا { الهدي والقلائد } جبرا لما انكسر من رعاية نسكه، وأراد به؛ لئلا يتقاعدوا عن إتمامها { ذلك } أي : جعلها وتصييرها مرجعا لقاطبة الأنام، وقبلة لهم بحيث يجب عليهم التوجه نحوه من كل مرمى سحيق، وفج عميق، إنما هو { لتعلموا أن الله } المحيط بذرائر الأكوان { يعلم } بالعلم الحضوري جميع { ما في السموت } أي: العلويات والأعيان الثابتة { وما في الأرض } السفليات التي هي الهويات الباطلة { و } ليعلموا { أن الله } المنزه، المتعالي عن أن يحاط بمجلاه وتجلياته { بكل شيء } مما استأثر باطلاعه، وما يعلم جنوده إلا هو { عليم } [المائدة: 97] لا يعزب عن علمه وحضوره شيء، كلت الألسن عن تفسير صفتك، وانحسرت العقول عن كنه معرفتك، فكيف يعرف كنه صفتك يا رب؟.
وبالجملة: { اعلموا } أيها المتوجهون نحو الحق وزيارة بيته { أن الله شديد العقاب } لا تغتروا بإمهاله له بمقتضى لطفه وجماله، بل احذروا، وخافوا عن سطوة سلطنة قهره وجلاله { و } اعلموا أيضا { أن الله غفور } ستار لذنوب عباده المخلصين { رحيم } [المائدة: 98] لهم، يرحمهم بمقتضى جماله ونواله، عين عليكم أن تكونوا مقتصدين، معتدلين بين طرفي الخوف والرجاء؛ لتكونوا من زمرة عباده الشاكرين.
فإن جادلوا معك يا أكمل الرسل، أهل البدع الأهواء الفاسدة في هذه الإلهامات والاختبارات الإلهية المترشحة من بحر الحكمة، قل لهم نيابة عنا: { ما على الرسول } الهادي بإذن الحق { إلا البلاغ } أي: بلاغ ما أهدى به والقبول من الله، والتوفيق من عنده { والله } المطلع لضمائركم { يعلم ما تبدون } تظهرون، وتعلنون من الإيمان والإطاعة { وما } كنتم { تكتمون } [المائدة: 99] من الكفر والبدعة.
{ قل } يا أكمل الرسل { لا يستوي الخبيث والطيب } عند الله { ولو أعجبك } أيها المتعجب { كثرة الخبيث } إذ لا عبرة للقلة والكثرة بالجودة والرداءة في الأعمال { فاتقوا الله } حق تقاته { يأولي الألباب } الناظرين بلب الأمور { لعلكم تفلحون } [االمائدة: 100] تفوزون من عنده فوزا عظيما، بعدما تجودون أعمالكم بالإخلاص والتقوى.
[5.101-104]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم أن { لا تسألوا } ولا تقترحوا من رسولكم { عن أشيآء } قبل ورود الوحي { إن تبد } وتظهر { لكم تسؤكم } وتغمكم، وتورث فيكم حزنا { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } بلا سواء وحزن { عفا الله } عما سلف { عنها } فعليكم أن تحافظوا عليها بعد ورود النهي { والله } المطلع لضمائر عباده { غفور } لهم ما سبق من ذنوبهم قبل ورود الزواجر { حليم } [المائدة: 101] لا يعجل بالعقوبة إلى أن يبوؤوا.
واعلموا أنه { قد سألها } عنها { قوم } مثلكم { من قبلكم } من أنبيائهم { ثم } بعدما ظهر ما اقترحوا { أصبحوا } صاروا { بها } بسبب ظهورها { كافرين } [المائدة: 102] بعدم امتثالهم وانقيادهم بما ظهر.
{ ما جعل الله } أي: ما وضع، وشرع لكم في دينكم ما في الجاهلية { من بحيرة } وهو أنهم كانوا إذا انتجت ناقتهم خمسة أبطن خامسها ذكر بحروا أذنها؛ أي: شقوها وخلوا سبيلها، فلا تركب ولا تحمل ولا تحلب أبدا، فسموها بحيرة { ولا سآئبة } وهي أنهم قالوا: إذا شفيت فناقتي سائبة؛ أي: ممنوعة من الانتفاع كالبحيرة { ولا وصيلة } وهي أنهم إذا ولدت شاتهم أنثى كان لهم، وإذا ولدت ذكرا كان لآلهلتهم، وإذا ولت ذكرا وأنثى في بطن واحد يتبعون الأنثى بالكذور، ويتقربون بها، وسموها وصيلة.
{ ولا حام } وهي أنهم إذا أنتجت من صلب فحل عشرة أبطن، حرم انتفاعه بالكلية، ولم يمنعوها من الماء والكلأ والمرعى، وقالوا: قد حمى ظهره، ويسمونها حام { ولكن الذين كفروا } أعرضوا عن الإيمان والإطاعة { يفترون على الله الكذب } أي: يستوي أمثال هذه المزخرفات الباطلة على الله؛ افتراء { وأكثرهم لا يعقلون } [المائدة: 103] الله، ولا يعلمون حق قدرة ومقتضى حكمته.
{ وإذا قيل لهم } إمحاضا للنصح: { تعالوا } هلموا { إلى } امتثال { مآ أنزل الله } المصلح لحالاتكم { وإلى } متابعة { الرسول } الهادي لكم عما فيكم من الضلال { قالوا } من غاية انهماكهم في الغفلة: { حسبنا } وكافيا { ما وجدنا عليه آباءنآ } وأسلافنا، قل لهم { أ } تقلدونهم، وتقتفون أثرهم { ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا } من أنفسهم { ولا يهتدون } [المائدة: 104] طريقا مستقيما بإهداء الهادي، وإرشاد المرشد مع كونكم عقلاء من أهل التمييز والاختيار، فالعار كل العار، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
[5.105-106]
{ يأيها الذين آمنوا عليكم } أن تحفظوا { أنفسكم } وتلازموها على الطاعات وتداوموها على التوجه نحو الحق في جميع الحالات، وما لكم إلا حفظ نفوسكم { لا يضركم } ضلالة { من ضل } عن طريق الحق { إذا اهتديتم } إليه، واعلموا أيها المؤمنون { إلى الله } المبدئ، المعيد { مرجعكم } وهم { جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } [المائدة: 105] في دينكم من شر وخير، ومعصية وطاعة، ويجازيكم عليه.
{ يآ أيها الذين آمنوا } من جملة الأمور التي يجب عليكم محافظتها: { شهادة بينكم } أي: إشهادكم { إذا حضر أحدكم الموت } أن يشهدوا { حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } أي: من أقاربكم وعشائركم { أو آخران من غيركم } من جانب المسلمين وأهل الذمة { إن أنتم ضربتم } سافرتم { في الأرض } متباعدين عن الأقارب والعشائر { فأصابتكم } فيها { مصيبة الموت تحبسونهما } أي: الآخران من الأجانب، وتقفونهما { من بعد الصلاة } عند الجماعة.
{ فيقسمان بالله } على رءوس الأشهاد { إن ارتبتم } أيها الوارثون في شهادتهما، بأنا { لا نشتري } ولا نرتشي بشهادتنا { به ثمنا } ولا نشهد بالزور { و } خصوصا { لو كان } المقسم له { ذا قربى } صاحب قرابة { و } بأنا { لا نكتم شهادة الله } التي أودعناها، بل نؤديها على وجهها بلا تحريف ولا كتمان، وإن كتمناها وحرفناها؛ ظلما وزورا { إنآ إذا لمن الآثمين } [المائدة: 106] المكستبين لأنفسنا إثما عظيما.
[5.107-109]
{ فإن عثر } أي: أشعر واطلع { على أنهما } أي: الشاهدان { استحقآ إثما } بواسطة تحريفهما وكتمانها { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } أي: من الورثة وهما { الأوليان } الأحقان التحليف من الشاهدين { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق } وأصدق { من شهادتهما وما اعتدينآ } وتجاوزونا في هذه الشهادة عن الحق، وإن اعتدينا { إنا إذا لمن الظالمين } [المائدة: 107] الخارجين عن الاعتدال الإلهي الذي وضعه الحق بين عباده.
{ ذلك } التحليف والتغليظ { أدنى } أقرب إلى الاحتياط { أن يأتوا بالشهادة } ويؤدوها { على وجههآ } أي: على وجه تحملونها من غير تحريف وخيانة فيها { أو يخافوا أن ترد أيمان } على المدعين { بعد أيمانهم } الكاذبة، فيفتضحوا بظهور الخيانة على رءوس الملأ { واتقوا الله } أيها الشهود عن الكتمان والتحريف { واسمعوا } ما يقول المحتضر وأدوه على وجهه { والله } المطلع لضمائر عباده { لا يهدي } إلى توحيده { القوم الفاسقين } [المائدة: 108] الخارجين عن مقتضى أوامره ومنهياته، واذكروا، وتذكروا خطاب الله وعتابه لرسله من أجلكم.
{ يوم يجمع الله الرسل } في يوم العرض الأكبر { فيقول } لهم على وجه التوبيخ: { ماذآ أجبتم } أي: بأي شيء أجبتم لهؤلاء العصاة المتجاوزين عن الحد؟ { قالوا لا علم لنآ } بحالهم، ولا عذر لنا نعتذر عنهم { إنك } بذاتك وأسمائك وأوصافك { أنت } بخصوصيتك؛ إذ لا غير معك { علام الغيوب } [المائدة: 109] التي غابت عن عقولنا وأبصارنا وأسماعنا، فلك الحكم الأمر، نفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد.
[5.110]
اذكر وقت { إذ قال الله يعيسى ابن مريم } امتنانا عليه { اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } وأقم شكرها { إذ أيدتك } قويتك، وخصصتك { بروح القدس } أي: بالنفس القدسية اللاهوتية المطهرة عن شوب القوى الناسوتية، لذلك { تكلم الناس في المهد وكهلا } على السوية؛ أي: جعلت لك جميع كمالاتك بالفعل، في جميع أوقات وجودك بلا تفاوت بين طفوليتك وكهوليتك { وإذ علمتك الكتاب } أي: التدبيرات المتعلقة لظواهر الشرع { والحكمة } المتعقلة لبواطنها { والتوراة } الجامع بينهما { والإنجيل } الغالب فيه ما يتعلق بالباطن.
{ وإذ تخلق } تصور وتقدر { من الطين كهيئة الطير بإذني } أي: بأمري وتعليمي { فتنفخ فيها } من روحي التي أبديتك به { فتكون طيرا بإذني } وتبصر { وتبرىء الأكمه } المكفوف العين { و } تشفي { الأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى } من قبورهم أحياء بإذني { وإذ كففت } ومنعت شر { بني إسرائيل عنك } وقت { إذ جئتهم بالبينات } الواضحات المعجزات الباهرات { فقال الذين كفروا منهم } من حيث باطنهم: { إن هذا إلا سحر مبين } [المائدة: 110] وما هو إلا ساحر عليم.
[5.111-114]
{ وإذ أوحيت } وألهمت { إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } عيسى بن مريم { قالوا } عن صميم فؤادهم: { آمنا } بك وبرسولك { واشهد } يا بنا { بأننا مسلمون } [المائدة: 111] منقادون بدينك ونبيك، نستوعدك هذه الشهادة إلى قوت الحاجة، اذكر { إذ قال الحواريون } لك حين أرادوا الترقي في مرتبة العلم إلى العين: { يعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } اضافوه إليه؛ لتحققه في مرتبة العلم والحق { أن ينزل علينا مآئدة } رزقا معنويا حقيقا { من السمآء } أي: من جانب العلو الذي هو مرتبة العين والحق، فلما سمع منهم ما سمع آيس منهم، وأفظع أمرهم، وأوجس في نفسه خيفة من الله الغيور؛ لأنهم ليسوا في تلك الحالة مستعدين الكشف والشهود، لذلك { قال اتقوا الله } عن أمثال هذه الأسئلة { إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 112] موقنين بكمال قدرته وإرادته واختياره، واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته.
{ قالوا } معتذرين، ملتجئين: { نريد أن نأكل } نذوق ونستفيد { منها وتطمئن قلوبنا } وتتمكن أقدامنا في جادة التوحيد { ونعلم } يقينا عينيا { أن قد صدقتنا } في جميع ما أرشدتنا وأهديتنا { ونكون عليها من الشاهدين } [المائدة: 113] أي: من أهل الشهود والكشف بلا حجاب العلم.
فلما أحس عيسى ابتلاء الله، وفتنته إياهم بادر إلى المناجاة، حيث { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا } فرحا وسرورا { لأولنا } متقدمينا { وآخرنا } متأخيرنا { وآية منك } تنكشف بها بتوحيدك { وارزقنا } من لدنك حظا يخلصنا من ظلام أظلالنا، وغيوم هوياتنا { وأنت خير الرازقين } [المائدة: 114] على من سبقت غايته له.
[5.115-116]
{ قال الله } المطلع لاستعداداتكم { إني منزلها عليكم } وإن لم تكونوا قابلين لها { فمن يكفر بعد } أي: بعد نزولها { منكم فإني } بعزتي وجلالي وقوتي { أعذبه عذابا لا أعذبه } أي: لا أعذب مثله { أحدا من العالمين } [المائدة: 115] فكفروا بعد ذلك فمسخوا عن لوازم الإنسانية بالمرة، وردوا إلى مرتبة الحيوانات وأخبثها، العياذ بالله من غضب الله.
{ و } اذكر { إذ قال الله } حين فشا غلو النصارى في حق عيسى وأمه، ونسبتهما إلى الألوهية، وقولهم بالتثليث والأقانينم والحلول والاتحاد: { يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } واعبدوني مثل عبادته، أم اتخذوك من تلقاء أنفسهم؟ { قال } عيسى منزها لله، مبعدا نفسه إليها عن أمثاله: { سبحانك } أنزهك تنزيها عن أن يكون لك شريك { ما يكون } ما يصح ويليق { لي أن أقول ما } أي: قولا { ليس لي بحق } لائق جائز أن أقوله، سيما بعد لطفك إلي، وفضلك وامتنانك علي { إن كنت قلته فقد علمته } إذ { تعلم } بالعلم الحضوري { ما في نفسي و } أنا { لا أعلم ما في نفسك } وذاتك وشأنك وسلطانك { إنك أنت علام الغيوب } [المائدة: 116].
وإنما خاطبه سبحانه، وعاتبه بما عابته مع أن الأمر معلوم عنده؛ ليوبخ ويقرع على الغالين المتخذين؛ لعلهم ينتهون بسوء صنيعهم، وقبح معاملتهم مع الله المتوحد، المتفرد المنزه بذاته عن الأهل والولد، الصمد المقدس الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4].
[5.117-120]
ثم بسط عيسى الكلام مع ربه؛ تشفيا، فقال: { ما قلت لهم } قولا { إلا مآ أمرتني به } أي: بتبليغه وإيصاله إليهم، وهو { أن اعبدوا الله } الواحد الأحد الذي هو { ربي } أوجدني من العدم، ورباني بأنواع اللطف والكرم { وربكم } أيضا أوجدكم من العدم مثلثي، ورباكم، فتكون نسبة إيجاده وتربيته علي وعليكم على السواء، ما ترى من تفاوت في خلقه { وكنت } بأمرك وإرسالك ووحيك { عليهم شهيدا } أحفظهم بتوفيقكم عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة { ما دمت فيهم فلما توفيتني } ورفعتني بجودك إلى ما رفعتني { كنت } بذاتك وأسمائك وأوصافك { أنت الرقيب } المحافظ { عليهم } المولي لأمورهم، تضلهم وتهديهم، ترشدهم وتغويهم { وأنت } المنزه بذاتك عن جميع الأكوان { على كل شيء } من الأمور الكائنة { شهيد } [المائدة: 117] حاضر غير مغيب.
{ إن تعذبهم } عدلا { فإنهم عبادك } فلك أن تتصرف فيهم على أي وجه تتعلق إرادتكم ومشيئتك { وإن تغفر لهم } فضلا وطولا { فإنك أنت العزيز } الغالب على الإنعام والانتقام { الحكيم } [المائدة: 118] المتقن في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، ومنعه عنه بلا مشاركة ولا مظاهرة. فلما بث وبسط عسى مع الله الكلام، وبالغ في التفويض والرجوع إليه في جميع الأمور، خصوصا أمر قومه { قال الله } سبحانه: يا عيسى { هذا يوم } لا يكتسب فيه الخير، ولا يتسجلب النفع، ولا يدفع الضر، بل { ينفع الصادقين } الذين صدقوا في النشأة الأولى { صدقهم } السابق { لهم } شفي هذه النشأة لهؤلاء الصادقين إلى { جنات } منتزهات المعارف والحقائق { تجري من تحتها الأنهار } مملوءة بمياه المكاشفات والمشاهدات المثمرة للحياة الأبدية والبقاء السرمدي { خالدين فيهآ أبدا } لا يتحولون عنها أصلا { رضي الله عنهم } لتحققهم بمقام الصدق والإخلاص { ورضوا عنه } لإيصالهم إلى غاية ما جبلوا عليه لأجله بلا منتظر { ذلك } الوصول والتحقق هو { الفوز العظيم } [المائدة: 119] والفضل العميم، واللطف الجسيم لأهل العناية الفائزين من عنده بهذه المرتبة العلية.
ولا يستبعد من الله أمثال هذه الكرامات مع أرباب الولاء الباذلين مهجهم في سلوك طريق الفناء؛ إذ { لله ملك السموت والأرض } إظهارا وتصرفا واستقلالا { وما فيهن } من المكونات، فله التصرف فيها كيف يشاء حسب إرادته واختياره { وهو } بذاته { على كل شيء } من عموم مراداته ومقدوراته { قدير } [المائدة: 120] فله أن صول خلص عباده إلى فضاء فنائه بإفنائهم عن هوياتهم الباطلة، وإبقائهم بهويتهم الحقيقية السارية، الظاهرة في الأكوان.
خاتمة السورة.
عليك أيها المحمدي المتوجه لمرتبة الفناء المثمر للبقاء الأبدي شكران سعيك وأوصلك إلى غاية مبتغاك أن تجعل قرينك الرضا في جميع ما جرى عليك من القضاء؛ إذ كل ما يجري في عالم الأكوان والفساد إنما هو على مراد الله، ومقتضى مشيئته حسب تجلياته الجمالية والجلالية، واللطيفة والقهرية، والعارف إذا تحقق بمقام الرضا الذي هو نهاية مراتب العبودية فقد خلص عن الإضافات مطلقا، ومتى ارتفعت الإضافات لا يشوشه السراء والضراء، ولا اللذة ولا الفناء؛ إذ كل ذلك من لوازم الإمكان وأمارات البعد.
فعليك أن تصفي نفسك عن جميع الأمراض الباطنة من العجب والرياء والرعونة والهوى، وتلازم العزلة والإعراض عن أبناء الدنيا، والالتجاء إليهم والمخالطة معهم وتقلل عن حوائجك وحظوظك سوى سد جوعة وكن ولباس كيف اتفق، وعليك أن تروض نفسك في زاوية الخمول، وركن القناعة، ومنزل الفراغة.
وإياك أن تصاحب مع أهل الأهواء وتراجعهم، سيما في الأمور التي تتعلق بالمعاش المستعار، وكن في ورطة الدنيا كأنك غريب ليس لك ألف ومؤانسة مع من فيها وما فيها أو كعابر سبيل يروح فيها ويغدو بلا تمكن وقرار.
وبالجملة: عد نفسك من أصحاب القبور، وافعل مثل ما تشاهد منهم بالنسبة إلى الدنيا، بل موتك الأرادي لا بد أن يكون أعرق في قطع التعلق، وترك المألوف من الموت الصوري؛ لأن أكثر الأموات بالموت الصوري يخرجون من الدنيا متحسرين بحسرة عظيمة، والعارف المتحقق بمرتبة الموت الإرادي له مسرة ولذة، بحيث لو عاد على ما عليه لتغمم، بل هلك خوفا، فذلك أن تشمر ذيلك عنها وعن لذاتها بالمرة وتداوم الاستفادة الاسترشاد من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وملتقطات المشايخ العظام التي ساتنبطوها منها بسعي بليغ - شكر الله مساعيهم - وتصرف عنان عزمك عما سواها من الأباطيل الزائفة، والمنسوبة إلى أصحاب الحجج والاستدلال، الضالين بتغريرات عقولهم القاصرة عن منهج الحق ومحجة اليقين.
جعلنا الله ممن أيد من عنده فتأيد، وأطلق عنان عزمه نحو الحق ولم يتقيد، بمنه وجوده.
[6 - سورة الأنعام]
[6.1-5]
{ الحمد } والثناء المشعر بالإطاعة والانقياد المنبأ عن التعظيم والتبجيل الذاتي الصادر عن ألسنة جميع من يدخل في حيطة الوجود، المعترف بتوحيده سبحانه وتفريده استقلالا ثابتا { لله } المستقل بالألوهية، المتوحد في الربوبية، المستحق في العبودية، وكيف لا يستحق سبحانه مع أنه القادر { الذي خلق } وقدر { السموت والأرض } أي: أظهر علويات الأسماء والصفات وسفليات الطبيعة العدمية القابلة لانعكاس أشعة العلويات { وجعل الظلمت } أي: أنشأ حجب التعينات { والنور } أيك ظل الوجود المنبسط عليها { ثم } بعدما ظهر إشراق نور الوجود، ولمع أضاء شمس الذات { الذين كفروا بربهم } أي: ستروا بهويتهم الباطلة هويته الحقيقة السارة في الآفاق أزلا وأبدا { يعدلون } [الأنعام: 1] يميلون وينحرفون عن طريق الحق جهلا وعنادا.
وكيف تعدلون عن طريق الحق وتسترون هويته مع هوياتكم الباطلة أيها التائهون في تيه الضلال؟! إنه: { هو الذي خلقكم } أي: قدر وجودكم { من طين } جماد قريب من العدم { ثم قضى } وقدر { أجلا } لحياتكم في النشاة الأولى { وأجل مسمى } مقدر { عنده } لفنائكم فيه في النشأة الأخرى { ثم أنتم } بعدما علمتم وتحققتم منشأكم ونشأتكم الأولى { تمترون } [الأنعام: 2] تشكون في النشأة الأخرى.
{ و } كيف تمتمرون وتشكون فيها مع أنه { هو الله } القادر المتوحد المتفرد المتجلي { في السموت وفي الأرض } بالاستقلال والانفراد { يعلم } بعلمه الحضوري { سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } [الأنعام: 3] من خير وشر ونفعوضر في نشأتكم الأولى.
{ و } من أمارات كفرهم وسترهم أنهم { ما تأتيهم من آية } عظيمة دالة على توحيد الحق بلسان رسول من الرسل العظام { من آيت ربهم } المتوحد بالربوبية { إلا كانوا } من غاية كفرهم وجهلهم { عنها معرضين } [الأنعام:4].
ومن غاية إعراضهم وإلحادهم عن طريق الرشاد { فقد كذبوا بالحق } المطابق المواقع الذي هو القرآن الجامع { لما جآءهم } بلسان من هو أعلى مرتبة ومكانة عند الله، وأكمل دينا وأقوم طريقا فكذبوه واستهزءوا به { فسوف يأتيهم } وسيظهر لهم في النشأة الأولى والأخرى { أنباء ما كانوا به يستهزءون } [الأنعام: 5] حين نزول العذاب عليهم في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة والجزية والصغار، وفي الآخرة العذاب والنكال المخلد.
[6.6-8]
{ أ } يشكون في نزول العذاب ويترددون و { لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } من أهل القرون الماضية كعاد وثمود وغيرهما مع أنا { مكنهم في الأرض } أي: قدرناهم فيها قادرين على أمور عظام وآثام جسام { ما لم نمكن لكم } ولم نجعل في وسعكم من السعة وطول الملك والترفه والاستيلاء { و } مع ذلك { أرسلنا السمآء } المطر { عليهم مدرارا } مغزارا كثيرة { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } دائما متجددا، وبالجملة: أمهلناهم زمانا طويلا متنعمين مترفهين { فأهلكنهم } بالمرة { بذنوبهم } التي صدرت عنهم من تكذيب الأنبياء وما جاءوا به، وإفسادهم في الأرض بأنواع الفسادات { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } [الأنعام: 6].
ولا تبال يا أكرم الرسل بتكذيبهم واقتراحاتهم، ولا ترج منهم الإيمنا بلك وبكتابك؛ لأنهم من غاية انهماكهم في الضلال.
{ ولو نزلنا } من مقام جودنا { عليك كتبا } مكتوبا { في قرطاس } ورق { فلمسوه بأيديهم } حين نزوله { لقال الذين كفروا } من خبث باطنهم وجهلهم الجبلي { إن هذآ } أي: ما هذا { إلا سحر مبين } [الأنعام: 7] عظيم ظاهر؛ لأن الورق لا تنزل من جانب السماء إلا بسحر.
{ وقالوا } من غاية شقاقهم ونفاقهم معك: إن كان نبيا { لولا } هلا { أنزل عليه ملك } ويصدقه بنبوته فنصدقه، قل لهم في جوابهم نيابة عنا: { ولو أنزلنا ملكا } على مقتضى سنتنا في الأمم الماضية { لقضي الأمر } أي: لتحقق أمر إهلاكهم البتة { ثم } بعد نزول الملك بل تعذبون كالأمم السالفة { لا ينظرون } [الأنعام: 8] ولا يمهلون ساعة ولينكرون ويعذبون البتة.
[6.9-11]
{ و ملكا } بعد ذلك أيضا { لو جعلنه } أي: الرسول المنزل إليهم { لجعلنه رجلا } أي: على صورته؛ إذ لا يمكن لبشر أن يرى الملك على صورته لمهايته، لذلك ما جاء جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على صورة دحية الكلبي ، وأيضا لم يكنهم الاستفادة منه لعدم الجنسية { و } إن أنزلناه على صورة البشر { للبسنا } أي: لخلطنا { عليهم ما يلبسون } [الأنعام:9] ما يخلطون على أنفسهم من البشر لا يليق بالرسالة فلم يصدقوه أيضا.
{ و } لا تغمم ولا تضطرب يا أكمل الرسل من استهزائهم وستخريتهم معك واصبر على أذاهم فإنه { لقد استهزىء برسل من قبلك } فصبروا على ما كذبوا واستهزئوا { فحاق } وأحاط من الجوانب { بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون } [الأنعام: 10] فأهلكوا واستؤصلوا بما استهزءوا وإن أنكروا قصة هلاكهم.
ف { قل } لهم: { سيروا في الأرض } أي: مستقر الفراعنة والأكاسرة والقياصرة والخواقين معتبرين { ثم انظروا كيف كان عقبة المكذبين } [الأنعام: 11] الذين كذبوا الرسل عتوا وعنادا إلى حيث لم يبق من رسومهم وآثارهم وأظلالهم أصلا مع أنهم كانوا أولي قوة ذوي بأس شديد.
[6.12-14]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما: { لمن ما } ظهر { في السموت والأرض } تصرفا وتملكا إيجادا وإظهارا وإعداما وإفناء { قل } أيضا أنت يا أكمل الرسل بعدما بهتوا وتحيروا في الجواب: { لله } المتوحد المتفرد بالتجلي والظهور والتصرف مطلقا؛ إذ { كتب } أوجب وألزم { على نفسه } أي: ذاته حين كان ولم يكن معه شيء { الرحمة } العامة؛ أي: التجلي باسم الرحمن على عروش ذرائر الأكوان المنعكسة من أوصافه الذاتية، والله { ليجمعنكم } أيها العكوس والأضلال بمقتضى اسم الرحيم { إلى يوم القيمة } التي هي الطامة الكبرى المرتفعة فيها نقوش الغير والسوى مطلقا { لا ريب فيه } أي: في جمعه ورفعه عند أولي البصائر المتأملين في سر الظهور والإظهار، وأما { الذين خسروا أنفسهم } باقتصار النظر في هذه الأضلال والتماثيل الزائفة الزائلة التي لا قرار لها ولا مدار للذاتها وشهواتها { فهم لا يؤمنون } [الأنعام: 12] بالرجوع إلى ما في التوحيد ومقر التجريد والتفريد، أولئك هم الظالمون في تيه الحرمان، الباقون في ظلمة الإمكان.
{ و } كيف ينكرون جمعه وتوحيده مع أنه { له } سبحانه { ما سكن } وبطن { في الليل } أي: مرتبة الباطن والغيب { و } ما ظهر وانكشف في { النهار } أي: مرتبة الظاهر و الشهادة { وهو } بذاته { السميع } لكل ما سمع { العليم } [الأنعام : 13] لكل ما علم وأدرك لا يخفى عليه شيء مما ظهر وبطن.
{ قل } لمن أنكر توحيد الله وأثبت الشريط له، ومع ذلك يرغبك يا أكمل الرسل إلى شركه إلزاما وتبكيتا: { أغير الله } الواحد الأحد الصمد الذي لا شريك له أصلا { أتخذ وليا } موليا وكيلا لأكون مشركا مع كونه سبحانه { فاطر السموت والأرض } أي: موجدهما ومظهرهما من كتم العدم { وهو يطعم } أي: يرزق للمحتاجين { ولا يطعم } لتنزهه عن الأكل والشرب، خص بهذه الصنعة؛ لأنه من أقوى أسباب الإمكان، وأجل أمارات الحدوث وأظهرها، والباقي متفرع عليه { قل } يا أكمل الرسل لكافة البرايا: { إني أمرت } من عند ربي { أن أكون أول من أسلم } أطاع وانقاد، وأظهر التوحيد الذاتي وأدعو الناس إليه { و } أيضا نهيت أنا على وجه المبالغة والتأكيد من عنده سبحانه بقوله: { لا تكونن من المشركين } [الأنعام: 14] المثبتين الوجود لغير الحق من الأظلال وبعدما أمرت مما أمرت.
[6.15-18]
{ قل } لمن تبعك لعلهم ينتبهون: { إني } بعدما تحققت بمقام الكشف والشهود { أخاف إن عصيت ربي } أي: إن خرجت عن مقتضى توحيده { عذاب يوم عظيم } [الأنعام: 15] هو يوم العرض الأكبر الذي تجزى فيه كل منفس بما تسعى.
{ من يصرف } العذاب { عنه يومئذ فقد رحمه } الحق، وحققه بمقام شهوده وكشفه { وذلك } التحقق والانكشاف هو { الفوز المبين } [الأنعام: 16] لأهل العناية والوصول.
{ و } بعدما تحققت يا أكمل الرسل، وتقررت في مقر التوحيد { إن يمسسك الله بضر } بلية وعناء { فلا كاشف له إلا هو } إذ لا شيء غيره { وإن يمسسك بخير } عطية وغنى { فهو } أيضا منه؛ لأنه { على كل شيء } من الخير والشر والنفع والضر { قدير } [الأنعام: 17] تحيط قدرته بجميع المقدروات.
{ و } كيف لايكون قديرا علكى كل ما أراد؛ إذ { هو القاهر } العزيز الغالب { فوق عباده } يتصرف فيهم كيف يشاء { وهو الحكيم } المتقن في تدبيراتهم المخبرية { الخبير } [الأنعام: 18] بحواجبهم يعطيهم ما ينبغي لهم ويمنعهم عما يضرهم بالأرادة والاختيار.
[6.19-21]
وإن جادولك واستشهدوا منك شيهدا على نبوتك ورسالتك { قل } لهم إلزاما وتبكيتا: { أي شيء أكبر } وأتم { شهدة قل الله } لأن المتعين المتعزز بالعظمة والكبرياء هو { شهيد بيني وبينكم و } شهادته على أنه { أوحي إلي هذا القرآن } الجامع للكتب السالفة من عنده { لأنذركم } وأبشركم { به } أيها الموجودون في حين نزوله { و } كذا { من بلغ } له خبر وحيه وحكمه من الأسود والأحمر إذ أرسلت إ لى كافة البرية بشيرا ونذيرا على مقتضى التوحيد الذاتي { أئنكم } أيها المنهمكون في بحر الضلال { لتشهدون } بعد وضوح البرهان { أن مع الله } المتوحد بذاته، المستقل بالألوهية { ءالهة أخرى } مشاركة له في ملكه ووجوده { قل لا أشهد } ما تشهدون ظلما وزورا بل { قل إنما هو إله واحد } متفرد بالألوهية، متوحد بالربوبية، ليس لغيره وجود حتى يشارك معه، بل لا وجود إلا هو، ولا إله سواه { وإنني بريء مما تشركون } [الأنعام: 19] إليه من الأظلال الباطلة والتماثيل العاطلة.
ثم قال سبحانه: { الذين آتيناهم الكتاب } من اليهود والنصارى { يعرفونه } أي: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بحيلته وأوصافه المذكورة في كتبهم { كما يعرفون أبنآءهم } بلا شائبة شك ووهم { الذين خسروا أنفسهم } من أهل الشرك والتحريف { فهم لا يؤمنون } [الأنعام: 20] به وبنوبته ورسالته عنادا ومكابرة.
{ ومن أظلم } عند الله وأوجب للبطش والانتقام { ممن افترى على الله كذبا } وحرف كتابه عنادا { أو كذب بآيته } المنزلة على رسوله المبينة لطريق توحيده مكابرة بلا سند ودليل، ومع ذلك يطلبون ويتوقعون الفوز والفلاح من عنده سبحانه { إنه لا يفلح الظلمون } [الأنعام: 21] الخارجون عن مقتضى العقل والنقل، التاركون متابعة من أيده الحق وأرسله إلى الخلق لإشاعة توحيده وتبليغ أحكامه اللائقة بوحدة ذاته وإزاحة الشرك وإزالته بالمرة.
[6.22-27]
{ و } اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم نحشرهم } وتجمعهم { جميعا ثم نقول للذين أشركوا } استهزاء وتفيضحا لهم على رءوس الملأ: { أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون } [الأنعام: 22] أنهم آهلة مستحقة للعبودية والإيمان، وتعتقدون أنهم يشفعون لكم وينقذونكم من العذاب؟ ادعوهم لينقذوكم.
{ ثم } بعدما سمعوا ما سمعوا { لم تكن فتنتهم } وحيلتهم للخلاص { إلا أن قالوا } معتذرين مقسمين: { والله ربنا } أنت يا مولانا { ما كنا } في أنفسنا { مشركين } [الأنعام: 23] لك غيرك عابدين لسواك.
{ انظر } أيها الرائي { كيف كذبوا على أنفسهم } في مقعد الصدق ومحل اليقين { و } انظر كيف { ضل عنهم ما كانوا يفترون } [الأنعام: 24] من الشركاء الذين يعتقدونهم شفعاء عند الله يخلصونهم من عذاب الله.
{ و } كان { منهم } أي: من هؤلاء المشركين المعتذرين { من يستمع إليك } حين تتلو القرآن ولم يفهموه أنكروه واستهزءا به { و } كيف يفهمونه؛ إذ { جعلنا على قلوبهم أكنة } أغطية وأغشية كراهة { أن يفقهوه وفي ءاذانهم وقرا } يمنع عن استماعه { و } من غاية إنكارهم وعنادهم { إن يروا كل ءاية } دالة على توحيد الحق وتمجيده { لا يؤمنوا بها } عنادا ومكابرة { حتى إذا جآءوك } من إفراط عتوهم { يجدلونك } في آيات الله بما لا يليق بها حيث { يقول الذين كفروا } سترا للحق وترويجا للباطل: { إن هذآ } ما هذا الكلام الذي أتى به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { إلا أسطير الأولين } [الأنعام: 25] يسطرونها لتضليل ضعفاء العوام.
{ وهم } بهذا الطعن والقدح { ينهون عنه } أي: يقصدون إضلال المؤمنين المسلمين عن متابعة الرسول والإيمان به { و } هم في أنفسهم { ينأون عنه } أي: يبعدون عنه عتوا وعنادا { وإن يهلكون } أي: ما يهلكون بهذا التضليل والخداع { إلا أنفسهم وما يشعرون } [الأنعام: 26] أن ضرر إضلالهم وخداعهم لا يتجاوز عنهم؛ لأنهم هم
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشاوة ولهم عذاب عظيم
[البقرة: 7] في الدنيا والآخرة.
{ ولو ترى } أيها الرائي { إذ وقفوا } أي: حين أشرفوا { على النار } وتحققوا الوقوع والإيقاع فيها عنوة وعنفا لرأيت أمرا فظيعا فجيعا { فقالوا } حينئذ من غاية تفزعهم وتفجعهم متمنين: { يليتنا نرد } على أعقابنا التي كنا فيها { ولا نكذب بآيت ربنا } التي جئنا فيها فكذبناها { ونكون من المؤمنين } [الأنعام: 27] المصدقين بمن جاءنا بها.
[6.28-31]
{ بل بدا } وظهر { لهم ما كانوا يخفون من قبل } حقية الرسل والكتب عنادا واستكبارا فتمنوا حين اليأس والبأس ضجرا لا عزما صحيحا؛ حيث لو ردوا لآمنوا البتة بل { و } الله { لو ردوا } أي: لو فرض ردهم إلى الدنيا بعد وقوعهم على أهوال الآخرة { لعادوا } من خباثة طينتهم { لما نهوا عنه } أيضا مكابرة وعنادا { و } بالجملة : { إنهم } في هذا التمني أيضا { لكاذبون } [الأنعام: 28] البتة لكون جبلتهم وأصل فطرتهم على الكذب لا يزول عنهم أصلا.
{ و } كيف لا تكونون مجبولين على الكذب والعناد إذ هم { قالوا } من خبث باطنهم حين دعاهم الرسل - عليهم السلام - إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر: { إن هي } أي: ما الحياة { إلا حياتنا الدنيا } أي: التي كنا عليها فيها { وما نحن بمبعوثين } [الأنعام: 29] كما زعم هؤلاء السفهاء.
{ ولو ترى } أيها الرائي { إذ وقفوا على ربهم } أي: حين وقفوا وصفوا عند ربهم؛ ليحاسبوا بما عملوا لرأيتهم حيارى سكارى مضطرين مضطربين { قال } لهم سبحانه من وراء سرادقات العز والإجلال: { أليس هذا بالحق } أيها الحمقى الكاذبون المكذبون؟ { قالوا } بعدما كوشفوا وعوينوا معتذرين متفجعين مصدقين مقسمين: { بلى وربنا } آمنا وصدقنا { قال } سبحانه: الآن لن ينفعكم الإيمان { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } [الأنعام: 30] وتكذبون به في النشأة الأولى التي هي دار الفتنة والاختبار.
ثم قال سبحانه تقريعا وتوبيخا لهم: { قد خسر } وخاب { الذين كذبوا بلقآء الله } مع نزول الآيات الدالة عليه، وإرشاد الرسل والأنبياء والأولياء لهم { حتى إذا جآءتهم الساعة } المعدة للعرض { بغتة } فجأة { قالوا } بعدما انكشفوا به وتيقنوا له متسحرين خائبين خاسرين: { يحسرتنا } كلمة تحسر وتأسف { على ما فرطنا فيها } أي: في النشاة الأولى من التكذيب وعدم الإيمان { وهم } في تلك الحالة { يحملون } وبال { أوزارهم } وآثامهم { على ظهورهم } خائبين خاسرين محرومين عن مطالعة وجه الله الكريم { ألا سآء ما يزرون } [الأنعام: 31] في الدنيا، ويحرمون بها في العقبى عن لقاء المولى.
[6.32-35]
{ وما الحيوة الدنيآ } التي يحصرون الحياة عليها، ويحرمون من الحياة الحقيقية لأجلها { إلا لعب ولهو } يلعب بهم ويلهيهم ويشغلهم عن الحياة الأبدية والبقاء السرمدي { وللدار الآخرة } وجناتها الحقيقية ولذاتها المعنوية { خير للذين يتقون } عن محارم الله ومنهياته في الحياة الصورية { أفلا تعقلون } [الأنعام: 32] وتميزون أيها العقلاء بين الحياتين، ولا تعلمون أي اللذتين خير لكم.
ثم قال سبحانه: { قد نعلم إنه } الشا، { ليحزنك } ويؤذيك القول { الذي يقولون } في حقك أولئك المعاندون المكابرون من أنك ساحر كاذب مجنون شاعر وغيرها ، ولا تبال بهم وبقولهم { فإنهم } في الحقيقة { لا يكذبونك ولكن الظلمين } الخارجين عن حدود الله، المنصرفين عن مقتضى أحكامه { بآيات الله } المنزلة عليك من عنده لإهداء التائهين من عباده { يجحدون } [الأنعام: 33] ينكرون ويعاندون جحودا وإصرارا، وبالجملة: فاصبر على أذاهم يا أكمل الرسل إلى أن يحل عليهم الغضب من الله المنتقم المقتدر.
{ و } الله يا أكمل الرسل { لقد كذبت رسل من قبلك } مثل ما كذبت { فصبروا } وتحملوا { على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } الذي وعدناهم، فنصرناهم وانتقمنا من عدوهم فكانوا هم الغالبين { و } بالجملة: لا تيأس من نصر الله وتأييده بإمهال الله إياهم، إذ { لا مبدل لكلمات الله } التي سبقت منه سبحاه لنصر أنبيائه ورسله { و } كيف تيأس وتقنط { لقد جآءك من نبإ المرسلين } الأنعام: 34] ما يكفيك عن التردد فيه.
{ وإن كان كبر } وشق { عليك إعراضهم } عن الإيمان والانقياد لك { فإن استطعت } من غاية حرصك لإيمانهم وانقيادهم { أن تبتغي } وتطلب { نفقا } منفذا { في الأرض أو سلما } مرقاة { في السمآء } فافعل { فتأتيهم بآية } دالة على إلجائهم إلى الإيمان، وإلا فاصبر حتى يأتي الله بأمر من عنده وما لك إلا التبليغ { ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجهلين } [الأنعام: 35] بأن الأمور كلها بيد الله واختياره، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا تحصر على إيمانهم وهدايتهم، ولا تجهد فيما لا يسع فيه جهدك وسعيك؛ لأنك لا تهدي من أحببت، هذا تأديب من الله لرسوله وأمثال هذا في القرآن كثيرة.
[6.36-39]
وكيف تطلب إيمانهم وتتوقع هدايتهم أيها الرسول الداعي مع أن الداعي { إنما يستجيب الذين يسمعون } الدعوة عن رضا، ويلقون السمع وقلوبهم حاضرة يفهمها، وهم في أنفسهم طالبون الحياة الحقيقية { و } هؤلاء ليسوا من الطالبين بل هم { الموتى } حقيقة وإن كانوا أحياء صورة { يبعثهم الله } في يوم الحشر ويحييهم بالحياة الحقيقية حتى يطلعوا على ما فاتهم في الحياة الصورية، ولا تنفعنم تلك الحياة والإطلاع إلى الحسرة والندامة على ما فات عنهم في دار العمل والاختبار { ثم } بعدما أحياهم وأطلعهم، { إليه } لا إلى غيره { يرجعون } [الأنعام: 36] يساقون لجزاء ما عملوا في الدنيا من تكذيب الآيات والرسل والاستهزاء معهم والذب عنهم.
{ و } من غاية بغضهم وعنادهم وبغضهم معك يا أكمل الرسل { قالوا } أي: بعضهم لبعض: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا { لولا } هلا { نزل عليه آية من ربه } أي: آية اقترحناها منه وآية تلجئنا إلى الإيمان به أو آية تستأصلنا بالمرة مع أن دعواه أن ربه يقوى ويقدر على جميعها { قل } لهم: { إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { قادر } بالقدرة التامة الكاملة { على أن ينزل آية } من آية اقترحتموها متى تعلقت إرادته ومشيئته { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأنعام: 37] أن الله فعال لما يريد، وأن الله لو أنزلها نزل عقبها عليهم البلاء كما نزل على الأمم الماضية.
{ و } كيف لا يقدر سبحانه على جميع المرادات المقدروات مع أنه { ما من دآبة } تتحرك { في الأرض ولا طائر يطير } في الجو { بجناحيه إلا أمم أمثالكم } محفوظة أحوالها وأرزاقها وآجالها عندنا؛ بحيث لا نهمل شيئا من حوائجهما، بل نكتب ونثبت في لوحنا المحفوظ وكتابنا المبين على الفضيل بحيث { ما فرطنا } وأفرطنا { في الكتب من شيء } من حوائجهم وأحوالهم { ثم } بعدما حفظوا ورزقوا كل منهم { إلى ربهم يحشرون } [الأنعام: 38] يرجعون رجوع الظل إلى ذي الظل.
{ والذين كذبوا بآياتنا } الدالة على قدرتنا الكاملة { صم } عن استماع كلمة الحق من ألسنة الرسل { وبكم } عن التنطق بها مع أنهم تيقنوا بها بل هم مغمورون { في الظلمات } أي: الحجب الناشئة من هوياتهم الباطلة وهياكلهم الفاسدة العاطلة { من يشإ الله } إضلاله بمقتضى اسمه المذل المضل { يضلله } حتما بلا هداية وإرشاد أصلا { ومن يشأ } هدايته { يجعله على صراط مستقيم } [الأنعام: 39] موصل إلى توحيده؛ إذ كل من عنده ميسر موفق لما خلق له.
[6.40-44]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إمحاضا للنصح: { أرءيتكم } أي: أخبروني صريحا { إن أتكم عذاب الله } في يوم الجزاء { أو أتتكم الساعة } التي تحشرون فيها إلى الله تعالى هائمين حائرين { أغير الله } المنقذ من العذاب، والمنجي من الحيرة والهيما { تدعون } أم تدعونه تضرعا وتلجئون نحوه استعاذة؟ بينوا إلي أمركم في حالة اضطراركم { إن كنتم صدقين } [الأنعام: 40] في الأقوال والأخبار.
{ بل إياه تدعون } إذ لا ملجأ ولا ملاذ حينئذ إلا هو { فيكشف } عنكم { ما تدعون إليه } من الضرر والبلاء { إن شآء } أي: إن تعلقت مشيئته وإرادته { وتنسون } حينئذ { ما تشركون } [الأنعام: 41] له من الأظلال الباطلة والتماثيل العاطلة، وقل لهم أيضا: إذ سمعتم مآل أمركم وعاقبة حالكم وشأنكم، فتضرعوا إلى الله في جميع أحوالكم، والتجئوا نحوه، ومع ذلك لم يقبلوا منك قولك ونصحك البتة لخبث باطنهم.
{ و } اعلم أنا { لقد أرسلنآ } رسلا من مقام جودنا ولطفنا { إلى أمم من قبلك } وأيدناههم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة فكذبوهم { فأخذنهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون } [الأنعام: 42] رجاء أن يتضروعوا إلينا ويتلجئوا نحونا فلم يتضرعوا ولم يلتجئوا.
{ فلولا } هلا { إذ جآءهم بأسنا تضرعوا } وما هي من عدم تأثرهم في البأساء والضراء بل يتأثرون منها ويزعجون { ولكن قست قلوبهم وزين } أي: حبب وحسن { لهم الشيطان ما كانوا يعملون } [الأنعام: 43] من عدم المبالاة بآيات الله، وتكذيب رسله، والإعراض عن دينه.
{ فلما نسوا ما ذكروا به } من البأساء والضراء ولم يتعظوا بها { فتحنا عليهم } ابتلاء وفتنة { أبواب كل شيء } نافع وخير وأمهلناهم عليها { حتى إذا فرحوا } أعجبوا { بمآ أوتوا } مترفهين متنعمين بطرين مغرورين بالنعم ناسين المنعم بالمرة { أخذناهم } بانواع البلاء { بغتة } فجأة { فإذا هم مبلسون } [الأنعام: 44] متحسرون آيسون خائبون محرومون.
[6.45-48]
{ فقطع } واستؤصل { دابر القوم الذين ظلموا } بحيث لم يبق من خلفهم من استخلفهم واستدبرهم { والحمد لله رب العالمين } [الأنعام: 45] على هلاكهم واستئصالهم إلى حيث لم يبق من شؤمهم على وجه الأرض.
{ قل } يا أكمل الرسل أيضا للنصح لعلهم ينتهون: { أرأيتم } أخبروني { إن أخذ الله سمعكم } فأصمكم { وأبصاركم } فأعماكم { وختم على قلوبكم } بغطاء الغفلة فلا تحسوا ولا تعلموا ولا تفهموا أصلا { من إله غير الله } الواحد الأحد القادر المتقدر { يأتيكم } ويرجعكم { به } أي: بالمأخوذ { انظر } أيها الرائي { كيف نصرف } نكرر لهم { الآيات } لينتبهوا تارة عقلا، وتارة تذكيرا وعظة، وتارة عبرة واعتبارا { ثم هم يصدفون } [الأنعام: 46] أي: ثم انظر كيف يعرضون عن جميعها من قساوة قلوبهم وخبث طينتهم.
{ قل } لهم أيضا: { أرءيتكم إن أتكم عذاب الله بغتة } فجأة بلا سبق مقدمة وأمارة { أو جهرة } مع سبق المقدمات والأمارات { هل يهلك } أي: من سنته سبحانه ما يهلك بأمثال هذه العاذب الفجائي أو الجهري { إلا القوم الظلمون } [الأنعام: 47] الخارجون عن مقتضى أوامر الله ونواهيه الجارية على ألسنة الرسل المؤدين من عنده.
{ و } كيف لا نهلك الظالمين ولا نعذبهم؛ إذ { ما نرسل المرسلين إلا مبشرين } لمن آمن بنا وامتثل بأوارمنا واجتنب عن نواهينا { ومنذرين } لمن يؤمن ولم يمتثل ولم يجتنب { فمن ءامن } منهم بعدما سمع الدعوة من ألسنة الرسل { وأصلح } بالإيمان والتوبة ما أفسد من قبل { فلا خوف عليهم } حين وصولهم إلينا { ولا هم يحزنون } [الأنعام: 48] من سوء المنقلب والمآب.
[6.49-52]
{ والذين كذبوا بآياتنا } المنزلة على رسلنا، ولم يعملوا بمقتضاها { يمسهم العذاب } الذي يحيطهم من جميع جوانبهم { بما كانوا يفسقون } [الأنعام: 49] أي: بسبب فسقهم وخروجهم عن مقتضى أوامرنا ونواهينا.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة تليينا لقلوبهم: { لا أقول لكم عندي خزآئن الله } أي: جميع مراداته ومقدوراته { ولا } أدعي أني { أعلم الغيب } أي: جميعه؛ إذ هما مما استأثر الله به لا يحوم حوله أحد من خلقه { ولا أقول لكم } أيضا: { إني ملك } إذ أنا بشر من جنسكم بل أقول لكم: { إن أتبع } أي: ما أتبع { إلا ما يوحى إلي } من عنده لأبلغكم به وأخبركم عنه، والهداية والضلال بيد الله يهدي من يشاء ويضل من شاء، وإن أنكروا لياقة البشر لوحي الله وإلهامه { قل } لهم على سبيل الالتزام: { هل يستوي } عندكم البشر { الأعمى } عن مطالعة عجائب مصنوعات الحق وغرائب مختراعاته { والبصير } المشاهد المطالع لها { أ } تشكون فيما بينهما من التفاوت { فلا تتفكرون } [الأنعام: 50] وتتأملون حتى ينكشف ويتميز عندكم الحق الصريح من الباطل الزائل الزائغ.
{ وأنذر به } أي: أنذر بما يوحى إليك يا أكمل الرسل { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } مع كونهم معتقدون أن { ليس لهم من دونه ولي } يولي أمرهم غيره { ولا شفيع } يشفع لهم عنده حتى ينقذهم من عذابه { لعلهم يتقون } [الأنعام: 51] لكي يتقوا ويحسنوا العمل لرضاه.
{ و } بعدما أرسلناك يا أكمل الرسل، لتزويج الحق وتقوية أهله { لا تطرد } لا تبعد عن عندك { الذين يدعون ربهم بالغداة } أي: في جميع أوقات النهار { والعشي } أي: في جميع أوقات الليل، وبالجملة: يستغرقون جميع أوقاتهم بالتوجه نحوه سبحانه إنما { يريدون } بتوجههم غير أن يطالعوا { وجهه } الكريم بسبب ميلك إلى أيمان أهل الأهواء ومصاحبتهم ومجالستهم، مع أنهم ليسوا من أهل الفلاح ولا قابلين له بل { ما عليك من حسابهم } وإيمانهم { من شيء } يعود إليه نفعه { وما من حسابك } وإيمانك { عليهم من شيء } بل كل منك، ومنهم مجزي بما عمل ومسئول عما فعل { فتطردهم } أي: هؤلاء المؤمنين المريدين وجه الكله في جميع أوقاتهم وحالاتهم؛ لأجل أولئك المنهمكين في الضلال { فتكون } بواسطة طردهم وتبعيدهم { من الظالمين } [الأنعام: 52] الخارجين عن مقتضى العقل والشرع والمرءوة.
" روي أن قريشا قالوا: لو طردت يا محمد هؤلاء السلفة - أرادوا عمارا وصهيبا وسلمان وغيرهم - جلسنا إليك وحدثنا معك فقال صلى الله عليه وسلم: " وما أنا بطارد المؤمنين ".
قالوا: فأقمهم من مجلسنا إن جلسنا معك.
قال له عمر رضي الله عنه: لو فعلت حتى تنظر ماذا يصيرون، فقبل صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فاكتب بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت "
[6.53-56]
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } أي: مثلما فتنا بعض الناس ببعض في الأمور المتعلقة بمعاش الدنيا من المال والجاه والرئاسة، فتناهم في أمور دنيهم أيضا { ليقولوا } من غاية استبعادهم واستحقارهم: { أهؤلاء } الضعفاء الفقراء { من الله عليهم من بيننآ } قال سبحانه توبيخا وتقريعا لهم: بل هم أولئك الفقراء الصابرون على بلاء الله، الشاكرون لنعمائه { أليس الله } العالم بضمائر عباده { بأعلم بالشكرين } [الأنعام: 53] الصابرين منهم ومنكم أيها لشرفاء الكافرون لنعمه.
{ وإذا جآءك } يا أكمل الرسل { الذين يؤمنون بآياتنا } ويتمثلون بها بالغداة والعشي وهم يريدون وجهنا { فقل } لهم قبل تسليمهم: { سلم عليكم } أيها المقبولون عند الله الراضون المرضيون وبشرهم بأنه { كتب } أي: قضى وحبب { ربكم } لأجلكم { على نفسه الرحمة } الشفقة والرحمة إلى حيث { أنه من عمل منكم سوءا } به يسيء نفسه عند الله صادرا عنه { بجهلة } لا عند قصد وإصرار { ثم } بعدما علم وخامة عاقبته { تاب من بعده } واستغفر ربه { وأصلح } بالتوبة ما أفسد بالجهالة { فأنه غفور } يستر تلك المعصية عنكم { رحيم } [الأنعام: 54] يقبل توبتكم بسبب إخلاصكم.
{ وكذلك نفصل } ونوضح { الآيات } ليظهر طريق التوحيد { ولتستبين } ويتميز { سبيل المجرمين } [الأنعام: 55] المنحرفين عن منهج الرشاد ومسلك السداد عن طريق أهل الحق.
{ قل } يا أكمل الرسل للمشركين الذي يعبدون آلهة غير الله: { إني نهيت } زجرت وصرفت بالدلائل القاطعة الدالة على توحيد الحق، وبالكشوف والمشاهدات الواردة من عنده سبحانه، الصارفة عن الميل والتوجه إلى الغير والسوى مطلقا { أن أعبد الذين تدعون } وتسمون { من دون الله } آلهة باطلة بأهويتكم الفاسدة { قل لا أتبع أهوآءكم } التي اخترعتموها من تلقاء أنفسكم، وإن ابتعت بمتابعتكم تلك التماثيل العاطلة { قد ضللت إذا و } بعدما ظللت { مآ أنا من المهتدين } [الأنعام: 56] أصلا؛ أي: في شيء من الهداية كمثلكم.
[6.57-59]
{ قل إني على بينة } واضحة { من } معرفة { ربي } وتوحيده { وكذبتم به } وبتوحيده، وأشركتم له غيره واستوجبتم العقوبة العظيمة يشرككم، ومع ذلك استهزأتم باستعجال العذاب { ما عندي ما تستعجلون به } من العذاب والنكال { إن الحكم إلا لله } أي: ما الحكم إلا له باستعجال العذاب { يقص الحق } أي: يقضي فيه ويدمغ الباطل { وهو خير الفصلين } [الأنعام: 57] الحاكمين في الوقائع.
{ قل لو أن عندي } وتحت قدرتي ومكنتي { ما تستعجلون به } من نزول العذاب والعقاب { لقضي الأمر } أي: لأهلككم بالمرة وارتفع النزاع { بيني وبينكم } ولكن ليس لي هذه القدرة والمكنة { والله } المطلع لسرائر عباده { أعلم بالظالمين } [الأنعام: 58] المستوجين للعذاب والنكال بأخذهم بظلمهم تعقلت إرادته.
{ وعنده } وتحت قدرته وإرادته { مفاتح الغيب } ومقاليد السرائر والخفيات { لا يعلمهآ } وأوقات ظهروها من الغيب إلى الشهادة { إلا هو } إذ هو المحيط بجميع ما كان ويكون، لا يعرب عن علمه شيء، ثم لما كانت الأفهام قاصرة عن إدراك الغيب تنزل عن تلك المرتبة إلى ما هو أقرب إلى الأفهام فقال: { ويعلم } بعلمه الحضوري جميع { ما في البر والبحر } من الكائنات والفاسدات، وتنزل منها أيضا فقال: { وما تسقط من ورقة } من أغصان الشجر { إلا يعلمها } كيف ينزل، ومن أين ينزل، وإلى أين { ولا حبة } ساقطة { في ظلمت الأرض } أي: كموناتها ويروزاتها إلى أن تصل إلى مرتبتها الأصلية التي كانت عليها قبل سقوطها { و } بالجملة: { لا رطب ولا يابس } من الكوائن والفواسد { إلا في كتب مبين } [الأنعام: 59] هو علمه الحضوري المتحد بعينه وذاته الظاهرة في نفسه المظهرة لنفسه؛ إذ لا هو إلا هو، ولا شيء سواه.
[6.60-62]
{ و } كيف يخرج عن حيطة علمه شيء من الكائنات والفاسدات؛ ذ { هو الذي يتوفكم } أي: يغيب استعداداتكم { باليل } أي: في مقر البطون والغيب { و } في تلك المرتبة { يعلم } بعلمه الحضوري { ما جرحتم } أي شيء كسبتم واكتسبتم باستعداداتكم { بالنهار } أي: في قضاء الظهور والشهادة من المعارف والحقائق المقتضية للظهور والإظهار لو ظهرتم فيه { ثم يبعثكم } ويظهركم { فيه } أي: في فضاء الظهور والشهادة { ليقضى أجل مسمى } عنده لاكتسابكم ما في استعدادكم { ثم } بعد انقطاع الأجل المسمى { إليه } لا إلى غيره { مرجعكم } رجوع الظل إلى ذير الظل { ثم } بعدما رجعتم إليه { ينبئكم } يخبركم ويحاسبكم { بما كنتم تعملون } [الأنعام: 60] وتكسبون في نشأة ظهوركم وشهادتكم من الأعمال الصالحة للقبول، والفاسدة الموجبة للرد:
{ و } عليكم أيها الأطفال الهالكة ألا تغفلوا عن مقتضيات توحيد الله، ولا تخرجوا عن امتثال أحكامه الجارية على ألسنة رسله؛ إذ { هو القاهر } القادر الغالب { فوق عباده } الرقيب المحافظ لهم يحفظهم عما لا يعنيهم { و } من حفظه أنه { يرسل عليكم حفظة } من الملائكة يكتبون ويحصرون ما صدر عنكم { حتى إذا جآء أحدكم الموت } أي: الوقت الذي قدره الله لانقضاء الأجل المسمى { توفته } أي: وفى عليه حسابه { رسلنا } أي: الموكلون عليكم { وهم } أي: الرسل { لا يفرطون } [الأنعام: 61] ولا يفرطون أصلا فيما صدر عنكم.
{ ثم } بعدما وفى الرسل حسابكم { ردوا } للجزاء { إلى الله } الذي هو { مولاهم الحق } العدل القائم بالقسط، العالم بجميع أحوال عباده؛ ليجازي كلا على مقتضى علمه وخبرته { ألا له الحكم } والأمر والجزاء { وهو أسرع الحاسبين } [الأنعام: 62]؛ إذ لا يغيب عن حفظه شيء من أعمالهم.
[6.63-67]
{ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } أي: شدائدها وأهوالها حين { تدعونه تضرعا } متضرعين معلنين { وخفية } مناجين مسرين قائلين: { لئن أنجانا } الله بلطفه { من هذه } الأهوال والمخاوف { لنكونن } لنعمه الصارفين لها إلى مقتضى ما امره الحق ورضي عنه { من الشاكرين } [الأنعام: 63].
{ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب } هم وغم { ثم } بعدما أنجاكم الله { أنتم } أيها المنهمكون في بحر الضلال { تشركون } [الأنعام: 64] به ما لا وجود له من التماثيل، وتكفرون نعمة العقل المفاض من عنده لتتنبهوا إلى توحيده.
{ قل هو القادر } المقتدر { على أن يبعث عليكم عذابا } نازلا { من فوقكم } مثل الرعد والبرق والصواعق الكائنة في الجو { أو } حادثا { من تحت أرجلكم } مثل الزلزلة والغرق وغير ذلك { أو يلبسكم } ويخلط عليكم أهواءكم ويجعلكم { شيعا } فرقا متخالفة متقابلة { ويذيق بعضكم بأس بعض } بالقتل والسبي والإجلاء { انظر } أيها الرائي { كيف نصرف } نجدد ونكرر لهم { الآيات } أي: دلائل توحيدنا وشواهده { لعلهم يفقهون } الأنعام: 65] رجاء أن يتفطنوا إلى سر توحيدنا وسريان هويتنا في مظاهرنا، ومع ذلك لم ينتبهوا.
{ و } من عدم تفطنهم وتنبههم { كذب به } أي: بما جاء من عندنا إليك من الكتاب الجامع للكتب السالفة { قومك } يعني: قريشا، ونسبوه لا ما لا يليق بجنابنا { و } الحال أنه { هو الحق } المطابق للواقع نزوله منا إليك { قل } لهم في مقابلة تكذيبهم: { لست عليكم بوكيل } [الأنعام: 66] موكل لحفظكم ليحفظكم عما يضركم بل ما علي إلا البلاغ والحفظ والوقاية بيد الله.ط
واعلموا أن { لكل نبإ } خبر وآيات نازلة من الله { مستقر } مقر ومورد { وسوف تعلمون } [الأنعام: 67] حين تقرره ونزوله في مورده في الدنيا والآخرة.
[6.68-70]
{ وإذا رأيت } يا أكمل الرسل { الذين يخوضون في ءاياتنا } يالطعن والتكذيب { فأعرض عنهم } ولا تصاحبهم، وأخرج من بينهم { حتى } لا تكومن سببا لاستهزائهم و { يخوضوا في حديث غيره } أي: غير القدح والطعن في القرآن { وإما ينسينك الشيطن } الخروج بعد وقوفك بأباطيلهم { فلا تقعد بعد الذكرى } والتذكير البتة { مع القوم الظلمين } [الأنعام: 68] الطاعنين على الله بما لا يليق بجانابه.
{ و } أن اتفق مجالسة المؤمنين معهم أحيانا { ما } يلزم ويعود { على الذين يتقون } عن محارم الله { من حسابهم } الذين يحاسبون عليها و معاقبون لأجلها { من شيء } أي: بشيء من الخطر والتزلزل { ولكن } إن أتفق جمعهم لزمهم { ذكرى } والموعظة الحسنة الناشئة عن محض الحكمة { لعلهم يتقون } [الأنعام: 69] ينتهوون عما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب تأثرا واستحياء.
{ و } إن لم يتأثروا ولم يستحوا { ذر الذين اتخذوا دينهم } الذين يدعون الهداية بسببه { لعبا ولهوا } أي: معلبه وملهى ليس منه تأثر أصلا بل يجرونه على طرف اللسان ويلقون على طرف التمام، وكيف يتأثرون منه ولا يلعبون معه { و } إذ { غرتهم الحيوة الدنيا } بحيث عموا وصموا عن الأمور الأخروية بالمرة { و } إن أردت أن تذكر بالقرآن { ذكر به } على من هو على خطر من الله مخافة { أن تبسل نفس } أي: بتسلمه وتوقعه النفس العاصية إلى الهلاك الأبدي والبوار السرمدي { بما كسبت } من العقائد الزائفة والمعاصي العائقة عن إقامة حدود الله؛ إذ { ليس لها } أي: للنفس { من دون الله ولي } يولي أمرها وينقذها من العذاب { ولا شفيع } يشفع لها عند الله لينجو من عذابه { وإن تعدل } وتفد { كل عدل } كل ما يفدى به من أمتعة الدنيا { لا يؤخذ } ولا يقبل { منهآ أولئك } البعداء المطرودون عن روح الله هم { الذين أبسلوا } سلموا نفوسهم إلى الهلاك { بما كسبوا } من شؤم نفوسهم من المعاصي تهيأ { لهم } في الآخرة { شراب من حميم } يحرق بطونهم عن مسرة المؤمنين { وعذاب أليم } مؤلم عن مكانتهم عند الله { بما كانوا يكفرون } [الأنعام: 70] أي: بسبب كفرهم وخورجهم عن حدود الله، وإن ادعى المشركون حقية دينهم ويدعو المسلمين إليه.
[6.71-73]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل تعليما لمن اتبعك: { أندعوا } ونعبد { من دون الله } الخالق الرزاق الفاعل المختار { ما لا } يقدر على جلب ما { ينفعنا ولا } على دفع ما { يضرنا ونرد } بعبادته { على أعقابنا } التي كنا عليه من الشرك والعصيان { بعد إذ هدانا الله } بنور التوحيد والعرفان؟ { كا } الشخص { لذي استهوته } أي: ذهبت به { الشياطين } والأغوال وطرحه { في الأرض } أي: المهاوي والمهامه { حيران } قلقا حائرا تائها، وكان { له أصحاب } ورفقة { يدعونه إلى الهدى } أي: الطريق الواضح المستقيم صائحا عليه قائلا: { ائتنا } حتى تهتدي إلى الطريق، ونحن فيها، لم يسمع كلامهم ولم يقبل قولهم، واقفتى أثر الغول المغوي حتى يضل ويهلك { قل إن هدى الله } الهادي لعباده إلى توحيده الذاتي { هو الهدى } أي: مقصور على الإسلام الموصل إليه { وأمرنا } أيضا من عنده بمقتضى توحيده الذاتي { لنسلم } ونفوض جميع أمورنا { لرب العالمين } [الأنعام: 71] إذ هو مستقل بتربية مظاهره؛ لأنه لا يجزي في ملكه إلا ما يشاء.
{ و } أمرنا أيضا { أن أقيموا الصلاة } وأديموا الميل والتقرب نحوه { واتقوه } من سخطه وغضبه بارتكاب منهياته { و } اعلموا أنه { هو } الموجد المظهر { الذي إليه } لا إلى غيره من العكوس والأظلال { تحشرون } [الأنعام: 72] ترجعون.
كيف لا { وهو الذي خلق السموت والأرض } أي: أوجدهما وأظهرهما ملتبسا { بالحق } على مقتضى الحكمة المتقنة التي ما ترى فيها من فطور وفتور { و } ذلك { يوم } حين { يقول } بعد تعلق إرادته ومشيئته بتكوينهما { كن فيكون } على الفور بلا تراخ ومهلة تنفيذا لسرعة قضائه { قوله } لإعدامها أيضا في الساعة { الحق } المطابق للواقع بلا تخلف { و } كيف يتصور التخلف في قوله؛ إذ { له } لا لغيره { الملك } أي: المظاهر كلها وله التصرف فيها بالاستقلال إيجادا وإعداما { يوم ينفخ في الصور } لإعدام ما في الوجود وإفنائها إظهارا لقدرته؛ إذ هو { علم الغيب } وما يجري فيها { والشهدة } وما يترتب عليها { وهو } بذاته { الحكيم } في إبداء مظاهره من الغيب { الخبير } [الأنعام: 3] بما ترتب عيليها في الشهادة بعد إعادتها.
[6.74-78]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين وقت { إذ قال إبراهيم } حين تيقظ عن منام الغفلة وتنبه عن سنة النسيان { لأبيه } المسمى { آزر } العابد للأصنام { أتتخذ أصناما } تنحتها { آلهة } مستحقة للعبادة قاردة للإيجاد والإعدام { إني } بعدما تنبهت وتفطنت بعدم قابليتها للألوهية بل الإله لا بد أن يكون متصفا بجميع أوصاف الكمال بلا تغيير وزوال وانتقال { أراك } يا أبت { وقومك في ضلال مبين } [الأنعام: 74] بعبادة هذه التماثيل الباطلة واعتقادها معبودات حقه.
{ وكذلك } أي: مثل ما نوقظه من منام الغفلة في أمر الأصنام { نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض } أي: عجائبهما وغرائبهما المودعة فيهما؛ ليتأمل فيها ويتفكر في تدبيراتها وتصريفاتها حتى ينكشف بمبدعها { وليكون من الموقنين } [الأنعام: 75] في أمرها لا من المنتظرين المترددين المتخذين بعضها آلهة كعبدة الكواكب والمجسمة وغيرهما.
{ فلما جن } أظلم { عليه الليل رأى كوكبا } استنار بنوره وانكشف عنه الظلمة بسببه، وظن أنه انكشافه ذاتي مطلق دائم { قال } على مقتضى ظنه به: { هذا ربي } إذ هو نور يتجلى في الظلمة فيستحق الربوبية والعبودية { فلمآ أفل } غاب وانمحق { قال لا أحب الآفلين } [الأنعام: 76] فكيف أعبده وأخص العبادة له؛ إذ الأفول والتغيير من أمارات الحدوث، والحادث لا يستحق العبودية ولا يليق بالألوهية.
{ فلمآ رأى القمر بازغا } مبتدئا في الطلوع منيرا، له إشراق وإضاءة وإنكشاف خليه؛ إذ هو وحصره فيه { قال هذا ربي فلمآ أفل } انمحق وانكسر { قال لئن لم يهدني ربي } ولم يكشف على أمره { لأكونن من القوم الضالين } [الأنعام: 77] باعتقاده إلهية هذا البازغ الآفل.
{ فلما رأى الشمس بازغة } قاهرة لجميع الكواكب مضيئة بنفسها مشرقة بجميع ما ظهر عليها بحيث لا ينمحى انكشافها بسائر الكواكب أصلا { قال هذا ربي } إذ هو أتم انكشافا وأكمل إضاءة وإنارة { هذآ أكبر } من الجميع فهي المستحق بالألوهية والربوبية { فلمآ أفلت } وتغيرات، وانكشف إلى نور لا أفول له ولا تغيير، بل هو
نور على نور يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35].
{ قال يقوم إني } بعدما كوشفت بنور الحق وعوينت بوجهه الكريم، تحققت بتوحيده وتمكنت بمقر تجريده وتفريده { بريء مما } جميع { تشركون } [الأنعام: 78] به من التماثيل الباطلة والأظلال الهالكة الآفلة.
[6.79-81]
{ إني } بعدما اجتهدت في طريق التوحيد، وبذلت جهدي في مسالكه { وجهت وجهي } أي: وجه قلبي الذي هو يلي الحق نحوه بتوفيق منه، وجذب من جانبه وتوجهت { للذي فطر } قدره وأظهره بلا مادة ومدة { السموت والأرض } أي: العالم العلوي والسفلي { حنيفا } مائلا عن جميع الأديان الباطلة والآراء الفاسدة { و } بعدما تحققت بما تحققت { مآ أنا من المشركين } [الأنعام: 79] بإثبات الوجود لغير الحق بل الوجود منحصر به وما سواه أظلال أوصافه وعكوس تجلياته، لا إله إلا هو، وكل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون رجوع الظل إلى ذي الظل.
{ وحآجه قومه } أي: خاصموا في توحيد الله قالوا: أتترك ما يعبد آباؤنا بتسويلات نفسك يا إبراهيم؟ { قال أتحجوني } وتخاصموني { في } حق { الله } وتجادلونني في توحيده وتخوفونني بهذه التماثيل الزائفة.! { و } الحال أنه { قد هدان } بلطفه إلى مقر توحيده { و } بعدما كوشفت بتوحيد الله واستقلاله بالتصرف في مظاهره { لا أخاف ما تشركون به } إذ لا نفع منه ولا ضر { إلا أن يشآء ربي شيئا } مكروها يلحقني من جهتها؛ لأنه من جملة مظاهره إذ { وسع } وأحاط { ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون } [الأنعام: 80] وتتفكرون؛ لتميزوا بين المظهر والظاهر والعاجز والقادر.
{ وكيف أخاف } من { مآ أشركتم } مع أنه لا ضرر يتوقع منه { ولا تخافون } أنتم من غضب الله مع { أنكم أشركتم بالله } المتوحد بالألوهية المنزه في ذاته عن الشريك والنظير { ما لم ينزل } الله { به } بشركته { عليكم سلطنا } حجة وبرهانا { فأي الفريقين } أي: الموحدون والمشركون { أحق بالأمن }؟ بينوا { إن كنتم تعلمون } [الأنعام: 81] أي: من ذوي العلوي والعقول.
[6.82-85]
{ الذين آمنوا } بتوحيد الله { و } بعدما آمنوا { لم يلبسوا } أي: لم يخلطوا ولم يستروا { إيمانهم بظلم } أي: بخروجهم عن مقتضى الإيمان والتوحيد { أولئك } السعداء المقبولون عند الكله { لهم الأمن } في مأمن التوحيد { وهم مهتدون } [الأنعام: 82] مقصرون على الهداية لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{ وتلك } القصة التي سمعت { حجتنآ } ودليل توحيدنا { ءاتينهآ إبرهيم } امتنانا له وإرشادا؛ ليغلب بها { على قومه } ومن سنتنا أنا { نرفع درجت من نشآء } من عبادنا في العلم والحكمة والإيقان والمعرفة { إن ربك } أيها المظهر الجامع { حكيم } في رفع درجات بعض عباده { عليم } [الأنعام: 83] باستعداداتهم وقابلياتهم.
{ و } من رفعنا إياه { وهبنا له } من محض فضلنا وجودنا { إسحاق ويعقوب كلا هدينا } أي: هدينا كلا منهما إلى توحيدنا { و } كذلك { نوحا } هو جد إبراهيم { هدينا من قبل } فيكون إبراهيم وارثا لهداية نوح، ومورثا لهداية إسحاق ويعقوب، وهو من أعظم النعم والهداية { و } كذا { من ذريته } أي: من ذرية إبراهيم { داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك } أي: مثل جزاء هؤلاء { نجزي } جميع { المحسنين } [الأنعام: 84] مع الله المتشوقين بلقائه.
{ و } هدينا أيضا { زكريا ويحيى وعيسى وإلياس } و { كل } منهم { من الصالحين } [الأنعام: 85] لعناية الله وهدايته.
[6.86-90]
{ و } أيضا هدينا من ذرية إبراهيم { إسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا } من هؤلاء المذكورين { فضلنا } بالنبوة والحكمة { على العالمين } [الأنعام: 86] أي: على الناس الموجودين في زمانهم.
{ و } كذلك { من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } ممن لم يبلغ مرتبة النبوة والحكمة فضلنا عليهم بأنواع النعم { واجتبيناهم } وانتخبناهم من بين الناس { وهديناهم إلى صراط مستقيم } [الأنعام: 87] موصل إلى توحيدنا.
{ ذلك } أي: سبب تقرب هؤلاء الكرام { هدى الله } أي: هدايته وعنايته تفضلا عليهم وامتنانا { يهدي به من يشآء من عباده } إرادة واختيارا { ولو أشركوا } بالله، هؤلاء المهديون بأن أثبتوا الوجود لغيره { لحبط } واضمحل وضاع { عنهم } ثواب { ما كانوا يعملون } [الأنعام: 88] من الخيرات والمبرات، وكانوا في حبوط الأعمال كسائر المشركين، نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين.
{ أولئك } السعداء الأمناء { الذين آتيناهم الكتاب } الجامع المبين لهم طريق تهذيب الظاهر والباطن { والحكم } الفارق بين الحق والباطل في والوقائع على مقتضى الحكمة الإلهية { والنبوة } والرسالة المقتضية لأهداء التائهين في بيدان الغفلة والضلال إل طريق التوحيد { فإن يكفر بها هؤلاء } المضلون من طريق الحق يعني قريشا { فقد وكلنا بها } وبمراعاتها { قوما ليسوا بها بكافرين } [الأنعام: 89] من أهل العناية والتوفيق.
{ أولئك } المذكورون من الأنبياء هم { الذين هدى الله } إياهم إلى توحيده تفضلا عليهم { فبهداهم اقتده } إذ مقصد أهل التوحيد واحد، وإن كانت الطريق مختلفة متفاوتة { قل } يا أكمل الرسل لمن بعثت إليهم كلاما صادرا عن محض الحكمة إشفاقا لهم: { لا أسألكم } ولا أطمع منكم { عليه } أي: على تبيين طريق التوحيد وتبليغ أمر الحق ونواهيه { أجرا } جعلا { إن هو } أي: ما الغرض من التبيين والتبليغ { إلا ذكرى } وموعظة { للعالمين } [الأنعام: 90] كي ينتبهوا على مبدئهم ومعادهم وما جبلوا أو خلقوا لأجله.
[6.91-92]
{ و } القوم الذين أنكروا بعثتك وكذبوا موعظتك { ما قدروا الله حق قدره } أي: ما عرفوا ظهوره في الآفاق واستقلاقه بالتصرف فيها { إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شيء قل } لهم تبكيتا وإلزاما: { من أنزل الكتب } أي: التوراة { الذي جآء به موسى } من عند ربه وكان { نورا وهدى للناس } يستنيرون ويستكشفون منه، ويهتدون به إلى توحيد الله مع أنكم { تجعلونه قراطيس } وكانت ألواحا { تبدونها } أي: تظهرون منها ما يصلح لكم ويعين على مدعاكم { وتخفون كثيرا } مما لايصلحكم عنادا ومكابرة { و } كيف تنكرون إنزاله؛ إذ { علمتم } منه { ما لم تعلموا أنتم ولا ءابآؤكم } من الأمور المتعلقة بالظاهر وبالباطن { قل } يا أكمل الرسل في الجواب بعدما بهتوا: { الله } إذ هو المتعين للجواب ولا شيء غيره { ثم ذرهم في خوضهم } أباطيلهم وأراجيفهم { يلعبون } [الأنعام: 91] يترددون فلا عليك بعد التبليغ والتكبيت.
ثم قال سبحانه: { وهذا كتب } جامع لما في الكتب السالفة على أبلغ وجه وآكده مع زيادات شريفة { أنزلنه } إليك يا أكمل الرسل { مبارك } كثير الخير والبركة لك ولمن تبعك { مصدق } للكتاب { الذي } أحكامه { بين يديه } أي: التوراة والإنجيل وجميع الكتف النازلة من عند الله، وإنما أنزلناه { ولتنذر } به { أم القرى } أي: أهل مكة { ومن حولها } أي: جميع أقطار الأرض؛ إذ دحيت الأرض من تحتها على ما قيل لذلك صار قبلة لجميع أهل الأرض، وفرض حجها وطوافها { والذين يؤمنون بالأخرة } من أهل الكتاب { يؤمنون به } أي: بالقرآن { و } سبب إيمانهم أنه { هم على صلاتهم يحافظون } [الأنعام: 92] أي: يراقبون ويداومون على الميل والتوجه نحو الحق بجميع شؤونه وتجلياته، ومن جملتها بل من أجلها: إنزال القرآن البالغ على درجات اليقين في تبيين أحوال النشأة الأولى والأخرى، إذ هو منتخب منهما على وجه يعجز عنه أرباب اللسن من البشر، ومن له أدنى مسكنة من ذوي العقول لا بد أن يؤمن به وبإعجازه إلا من أضله الله وختم على قلبه.
[6.93-94]
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بأن قال: بعثني الله نبيا كمسيلمة والأسود العنسي { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } كعبدالله بن أبي سرح { ومن قال } من كفار قريش: { سأنزل مثل مآ أنزل الله } ولو نشاء لقلنا مثل هذا { ولو ترى } أيها الرائي { إذ الظالمون } المفترون على الله المكذبون لكتبه ورسله { في غمرات الموت } وسكراته وأهواله { والملائكة } قائمون عليهم { باسطوا أيديهم } كالمتقاضي قائلين لهم: { أخرجوا أنفسكم } أيها المفترون الكاذبون بأيديكم حتى تخلصوا عن أيدينا واعلموا أن { اليوم تجزون عذاب الهون } المشتمل على الهوان والمذلة { بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } [الأنعام: 93] عتوا وعنادا.
{ و } الآن { لقد جئتمونا فردى } عارين منفردين عما استكبرتم به من المال والجاه والرئاسة { كما خلقنكم أول مرة } عارية عن جميعها { وتركتم ما خولنكم } ابتليناكم به في النشأة الأولى؛ ليكون سبب خيلائكم وبطركم { وراء ظهوركم و } أيضا { ما نرى معكم شفعآءكم } معبوداتكم { الذين زعمتم أنهم فيكم } أي: في إيجادكم وإظهاركم { شركآء } من الآن { لقد تقطع } وانفصل { بينكم } وبينهم { وضل } أيك غاب وتخفى { عنكم ما كنتم تزعمون } [الأنعام: 94] أنها شفعاؤكم ينقذكم من عذاب الله.
[6.95-98]
قل يا أكمل الرسل للمنكرين البعث والحشر المستبعدين الممتنعين إحياء الأموات من العظام الرفات: { إن الله } القادر على ما أراد وشاء { فالق الحب والنوى } أي: الحبة والنطفة { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت } أي: الحبة والنطفة { من الحي } أي: الحيوان والنبات { ذلكم الله } المحيي المميت الحي القيوم المستحق للألوهية وللعبودية والربوبية { فأنى تؤفكون } [الأنعام: 95] تصرفون عنه إلى غيره من الأظلال الباطلة أيها الحمقى.
وكيف تصرفون عنه وهو { فالق الإصباح } أي: شاق ظلام الليل ينبلج الصبح لتكتسبوا فيه أقواتكم ومعاشكم { وجعل الليل سكنا } لتستريحوا فيه من تعب الكد، وهما من أقوى أسباب حياتكم { و } أيضا جعل لكم ولمعاشكم { الشمس والقمر حسبانا } ذا أدوار وأطوار مختلفة وأوضاع متفاوتة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا تتميما لأرزاقكم وأقواتكم { ذلك تقدير } تدبير وتدوير { العزيز } القادر الغالب على جميع صور التدابير والتداوير { العليم } [الأنهام: 96] بفنع التدوير المخصوص والوضع المتعارف لمعاش عباده.
{ و } كيف تصرفون عنه { هو الذي جعل لكم } لتدبير مصالحكم { النجوم } الزاهرات مرتكزة في السماوات { لتهتدوا بها } وتوصلوا إلى مطالبكم بسببها حين كنتم تائهين ضالين { في ظلمت البر } أي: مفاوزه { والبحر } أي: لججه، وبالجملة: { قد فصلنا الآيت } الدالة على توحيدنا واستقلالنا في التصرفات والتدبيرات الواردة في علام الكون والفساد { لقوم يعلمون } [الأنعام: 97] يستدلون وينتفعون بها وينتبهون إلى وحدة موجودها ومصرفها.
{ و } أيضا كيف يصرفون عنه سبحانه مع أنه { هو } القادر { الذي أنشأكم } وأظهركم بالتجلي الحبي { من نفس وحدة } هي طبيعة العدم { فمستقر ومستودع } أي: فكلكم أطوار مختلفة، وشؤون متفاوتة، لبعض قرار واستقرار، ولبعض استيداع واستتار، تتبدلون وتتحولون من حال إلى حال على مقتضى تطوراتها وتجلياتها { قد فصلنا } وأوضحنا { الآيت } الدالة على ألا وجود لغيرنا من الأظلال، والإقرار ولا مراد لها أصلا { لقوم يفقهون } [الأنعام: 98] يتأملون ويتدبرون لينكشفوا بكيفية سريان الهوية الإلهية في المظاهر الكونية والكيانية.
[6.99-101]
{ وهو الذي أنزل من } جانب { السمآء مآء فأخرجنا به } أي: بالماء - التفت لئلا يتوهم إسناد الإخراج إلى الماء - { نبات كل شيء } نبت كل صنف من أصناف النباتات { فأخرجنا منه } أي: من النبات { خضرا } وهو السارق { نخرج منه } من الخضر { حبا متراكبا } وهو السنبلة { و } أخرجنا { من النخل } طلعها { من طلعها قنوان } عنقود { دانية } متلفة بعضها ببعض { و } أيضا أخرجنا { جنت من أعناب و } كذا أخرجنا { الزيتون والرمان } من أشجارها { مشتبها } بعضها ببعض { وغير متشبه } أي: أنواع مختلفة { انظروا } أيها الناظرون { إلى ثمره } أي: ثمر كل من المذكورات { إذآ أثمر } حين أخرج أولا صغيرا بلا لذة وانتفاع (و) انظر إلى { وينعه } نضجعه وبدو صلاحه ونفعه وكبره قليلا قليلا { إن في ذلكم لأيت لقوم يؤمنون } [الأنعام: 99] دلائل واضحات على وجود الفاعل المختار الحكيم، المتقن في فعله بلا مشاركة أحد وممانعة ضد وند، العليم الخبير بتطوراتها وتبديلاتها من حال إلى حال متدرجا من كمال إلى أكمل، العربي لها في كل مرتبة بما يناسبها ويلائمها على الاعتدال إلى أن يعود إلى ما بدأ.
{ و } مع عجائب صنيعه وغرائب قدرته { جعلوا } من غاية جهلهم ونهاية غفلتهم { لله } التوحد في ذاته، المنزه عن الشريك مطلقا { شركآء } خصوصا { الجن } أي: الشياطين فيعبدنهم كعبادة الله ويمتثلون أوامرهم كأوامر الله { و } الحال أنهم عالمون بأن الله تعالى قد { خلقهم } ومعبوداتهم { و } من جملة شركهم أنهم { خرقوا له } أي: أثبتوا له افتراء ومراء { بنين } كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله { وبنت } كما قالت العرب: الملائكة بنات الله، كل ذلك صار منهم { بغير علم } ومعرفة بذاته المنزه عن الأهل والولد { سبحنه وتعلى عما يصفون } [الأنعام: 100] هؤلاء الظالمون المفرطون؛ إذ هو:
{ بديع السموت والأرض } مبدعهما ومظهرهما من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة وأزواج وأرواج، بل بالتجلي عليها ومد الظل إليها { أنى } أي: من أين { يكون له ولد } وليس غيره أحد { ولم تكن له صحبة } والولد إنما يتصور بين المتجانسين { وخلق } أوجد وأظهر { كل شيء } بأظلال أوصافه الذاتية وعكوس شؤونه وتجليات الحبية { وهو } بذاته { بكل شيء } مما ظهر من تحليات صفاته { عليم } [الأنعام: 101] لا يخفى عليه شيء.
[6.102-105]
{ ذلكم الله } أي: الذات الأحدية الموصوفة بالصفات الأزلية الأبدية السرمدية المتجلي بالتجليات اللطيفة والقهرية { ربكم } ومربيكم أيها الأطفال الهالكة والعكوس الباطلة { لا إله } ولا موجود { إلا هو } وهو { خلق } ومظهر { كل شيء } ظهر من العكوس والأضلال { فاعبدوه } فهو المستحق للعبادة والرجوع ، وفوضوا أمروكم كلها إليه وكيف لا يفوضونها إليه { وهو } بذاته وأوصافه وأسمائه { على كل شيء } من الكوائن والفواسد الحادثة في مظاهره { وكيل } [الأنعام: 102] يوليها ويصرفها كيف يشاء حسب قدرته وإرادته.
وإن كان { لا تدركه } من غاية ظهوره وجلائه { الأبصر } القاصره عن إبصار نوره { و } كيف تدركه الأبصار { هو } بذاته { يدرك } ويبصر { الأبصر } ومبصر الأبصار لا يبصره الأبصار { و } كيف يبصر { هو اللطيف } الرقيق المنزه عن المجازاة والمقابلة والانطباع والمحاكاة { الخبير } [الأنعام: 103] هو كيف يخبر عنه، وبالجملة ما يرى الله إلا الله، وما يخبر عنه إلا هو، كل شيء هالك إلى وجهه له الحكم وإليه ترجعون رجوع الظل إلى ذي الظل.
{ قد جآءكم } وحصل عندكم أيها المجبولون على فطرة التوحيد { بصآئر } شواهر وكواشف { من ربكم } الذي أوجدكم وأظهركم عليها { فمن أبصر } شهد وانكشف بها { فلنفسه } أي: عاد نفعه إليها { ومن عمي } و احتجب { فعليها } أي: وبالها عائد عليها { ومآ أنا عليكم بحفيظ } [الأنعام: 104] رقيب مصرف بل منبه مبلغ، والحفظ بيد الله، والتصرف بقدرته، يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ثم قال سبحانه: { وكذلك } أي: مثل ذلك المذكور { نصرف } ونكرر { الآيات } الدالة على توحيدنا رجاء أن يتنبهوا فلم يتنبهوا { و } غاية أمرهم أنهم { ليقولوا } لك يا أكمل الرسل: { درست } تعلمت هذه الأساطير الكاذبة القديمة من أهل الكتاب { و } مع كونه ما نصرفها ونكررها إلا { لنبينه } ونوضحه إلى التوحيد الذاتي المدلول عليه بتصريف الآيات والدلالة { لقوم يعلمون } [الأنعام: 105] يستدلون بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على وحدة الصانع الحكيم، وانصرفوا عنكم ولم يقبلوا منك ما جئت به من الآيات، اتركهم وحالهم.
[6.106-109]
{ اتبع } أنت { مآ أوحي إليك من } توحيد { ربك } بأن { لا إله } أي: لا موجود { إلا هو وأعرض عن المشركين } [الأنعام: 106] واتركهم وشركهم بعدما تحققت وتمكنت في مقر التوحيد.
{ ولو شآء الله } الهادي لعباده عدم إشراكهم { مآ أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا } مصرفا بل مبلغا منبها { ومآ أنت } أيضا { عليهم بوكيل } [الأنعام: 107] تشفع لهم وتقوم بأمرهم.
{ ولا تسبوا } أي: لا تذكروا بالمساوئ والمقابح أيها المؤمنون الموحدون أصنام { الذين يدعون } ويعبدون، أي: المشركون { من دون الله } إذ هم من جملة المجالي والمظاهر لله مع أنكم إن تسبوهم وآلهتهم { فيسبوا الله } من غاية جهلهم وحميتهم فتكونوا سببا لسب الله { عدوا } تجاوزا عن الحق إلى الباطل { بغير علم } بمآله { كذلك } أي: مثل تزيننا لكم دينكم وإلهكم وعملكم { زينا لكل أمة } من الأمم { عملهم } وإلههم سواء كان حقا أو باطلا؛ إذ { كل حزب بما لديهم فرحون } [المؤمنون: 53] { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } [الأنعام: 108] أي: يجازيهم على مقتضى ما عملوا من خير وشر وإيمان وكفر .
{ و } من غاية نفاقهم واستهزائهم معك يا أكمل الرسل وتهكمهم بما جئت به من الآيات { أقسموا بالله جهد أيمنهم } أي: مغلظين فيها مؤكدين لها تهكما { لئن جآءتهم آية } من مقترحاتهم { ليؤمنن بها } البتة وبك أيضا { قل } لهم كلاما خاليا عن وصمة الكذب: { إنما الآيت } ونزولها وإنزالها { عند الله } وبقبضة قدرته وليس في وسعي وطاقتي شيء منها { وما يشعركم } ويظهر لكم أيها المؤمنون الطالبون لإيمان هؤلاء الكفرة، وأنتم تتفرسون من مظاهر حالهم لو تأملتم في شأنهم { أنهآ إذا جآءت } جميع مقتراحتهم { لا يؤمنون } [الأنعام: 109] بها البتة؛ إذ طبع الله على قلوبهم بالكفر والنفاق.
[6.110-112]
{ و } كيف يؤمنون بها؛ إذ { نقلب أفئدتهم } عن الميل إلى الحق مطلقا { وأبصرهم } عن إحساس شواهده وعلاماته { كما } قلبناهم حيث { لم يؤمنوا به } أي: بما جاء به من الحق { أول مرة } إذ لا تفاوت بين حقية الآيات سواء كانت مقترحة أم لا { ونذرهم } نمهلهم وندعهم { في طغيانهم } أي: ظلالهم المجاوز عن الحد { يعمهون } [الأنعام: 110] يتحيرون ويترددون إلى أن نأخذهم وننتقم منهم.
{ ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة } كما اقترحوا { وكلمهم الموتى } من قبورهم وأوصاهم بالإيمان { وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } كفلا يرشدونهم إلى الإيمان { ما كانوا } ليؤمنوا؛ إذ ختم الله على قلوبهم بالكفر في سابق عمله { ليؤمنوا إلا أن يشآء الله } إيمانهم أيضا في قضائه السابق { ولكن أكثرهم } أي: أكثر النار { يجهلون } [الأنعام: 111] عن قضاء الله ومشيئته فيتمنون إيمانهم.
{ وكذلك } أي: ومثل ما جعلنا لك يا أكمل الرسل عدوا { جعلنا لكل نبي } من الأنبياء { عدوا } يعاديهم { شيطين الإنس والجن } بالمظاهرة والمعاونة؛ إذ { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول } أي: أباطيله وأراجيفه { غرورا } ليقدموا ضعفاء الأنام على مخاصمة الأنبياء ومعاداتهم، ويظهروا عليه بتغرير بعضهم { ولو شآء ربك } إيمانهم { ما فعلوه } أي: هذا الغرور والقول المزخرف المموه، وبالجملة: { فذرهم } وكفرهم { وما يفترون } [الأنعام: 112] ويزخرفون بسبب غرورهم وزخرفتهم.
[6.113-116]
{ ولتصغى } ولتميل { إليه } وتوجه نحوه { أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه } لأنفسهم ما يزخرفون به لكون جبلتهم عليه { وليقترفوا } ويكتسبوا بسببه { ما هم مقترفون } [الأنعام: 113] مكتسبون من العقائد الزائفة والآثام.
قل لهم إن أرادوا أن يتصالحوا ويتحاكموا معك بعدما ظهر لك تنسيبهم وتغريرهم إنكارا عليهم: { أفغير الله } المستقل بالحكومة والتصرف { أبتغي } أطلب { حكما } عادلا يفصل بيني وبينكم أيها المعاندون المكابرون { و } الحال أنة { هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } مبينا موضحا مغنيا عن التحاكم والترافع { والذين آتيناهم الكتاب } أي: علمه إن أنصفوا، ولم يعاندوا ولم يكابروا { يعلمون } يقينا بشهادة كتبهم { أنه } أي: القرآن { منزل من ربك } ملتبسا { بالحق } بلا ميل إلى الباطل أصلا { فلا تكونن } يا أكمل الرسل { من الممترين } [الأنعام: 114] في أنهم عالمون بحقية القرآن وموافقته لكتبهم، إلا أنهم يكابرون في تحريف كتبهم، ويعاندون بادعاء تكذيب القرآن ظلما وعدوانا.
{ وتمت كلمت ربك } أي: انتهت وتناهت، وبلغت الغاية القصوى بيان كلمة التوحيد برسالتك يا أكمل الرسلح إذ ظهرت في تبيينها وكشفها بما لا يظهر به أحد من الأنبياء؛ إذا الأنبياء إنما يظهرون توحيد الصفات والأفعال دون توحيد الذات، وأنت تظهر به حيث ورد في شأنك:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80]، و
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله
[الفتح: 10].
وقلت:
" من رآني فقد رأى الحق ".
وقلت: أيضا:
" رأيت ربي في ليلة المعراج "
، وغير ذلك الآثار والأخبار الدالة على التوحيد الذاتي.
لذلك أتمت مكارم الأقوال والأخلاق { صدقا وعدلا } ومتى تمت وبلغت { لا مبدل } ولا محول { لكلماته } إذ ختم وتم أمر الرسالة والنبوة وسد باب الوحي { و } بعد ذلك ظهر أنه { هو السميع } لأقواله { العليم } [الأنعام: 115] بشؤونه وتجلياته إلى ما شاء الله.
{ و } متى تحققت يا أكمل الرسل بمقام الشهود والمشاهدة { إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } المتوحد بالذات والصفات والأسماء { إن يتبعون } أي: ما يتبعون ويقتفون { إلا الظن } الفاسد والوهم الكاسد، والظن لا يغني عن الحق الصريح شيئا { وإن هم } أي: ما هم في ظنونهم الكاذبة وأوهامهم الباطلة في الاعتقادات والأحكام { إلا يخرصون } [الأنعام: 116] يخلطون ويلبسون على نفسهم حسدا وعنادا.
[6.117-120]
{ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله } من أصحاب التقليد { وهو } أيضا { أعلم بالمهتدين } [الأنعام: 117] من أرباب الشهود والمكاشفة لا يفيد تغريرهم وإضلالهم.
وإذا علمتم أيها المؤمنون أن الهداية والإضلال بيد الله لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا بتحريم المباح وتحليل الحرام { فكلوا } أي: من الأزواج الثمانية وما يشبهها { مما ذكر اسم الله عليه } عند ذبحه مستبيحين محللين على أنفسكم { إن كنتم بآياته مؤمنين } [الأنعام: 118] ويأحكامه مصدقين ممتثلين.
{ وما لكم } وأي شيء عرض لكم ويمنعكم { ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه و } الحال أنه { قد فصل لكم } ربكم { ما حرم عليكم } في قوله:
حرمت عليكم الميتة والدم...
[المائدة: 3].
فعليكم ألا تأكلوا المحرمات { إلا ما اضطررتم إليه } حينئذ يباح لكم منها مقدار سد جرعة { وإن كثيرا } من الناس { ليضلون } في أنفسهم ويضلون غيرهم من الضعفاء بتحليل المحرمات، وتحريم المحللات بلا سند شرعي { بأهوائهم } الباطلة { بغير علم } بما عند الله فلا تتبعوا ولا تقتفوا أثرهم { إن ربك } يا أكمل الرسل { هو أعلم بالمعتدين } [الأنعام: 119] المتجاوزين عن حدوده بمتابعة أهوائهم الفاسدة فيجازيهم على مقتضى علمه.
{ وذروا } أيها المؤمنون { ظهر الإثم } أي: الإقدام عليه والاتصاف به { وباطنه } أي: أخطاره وإجراءه على القلب { إن الذين يكسبون الإثم } ويميون إليه متلذذين { سيجزون } في النشأة الأخرى { بما كانوا يقترفون } [الأنعام: 120] أي: بمقدار ما يتلذذون.
[6.121-123]
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } حين ذبحه { وإنه } أي: أكلكم منه { لفسق } خروج عن حكم الله بمتابعة أهل الأهواء الضالين عن طريق الحق بوسوسة الشياطين، ولا تغفلوا من وسوستهم { وإن الشيطين ليوحون } يلقون ويسوسون { إلى أوليآئهم } من أهل الأهواء { ليجدلوكم } أيها المؤمنون حتى يضلوكم عن طريق الحق سيما في المآكل والمشارب { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [الأنعام: 121] لأنه من أطاع غير الله فقد أشرك به.
{ أو من كان } منكم { ميتا } بالجهل والكفر { فأحيينه } بالمعرفة والإيمان { وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } هدايا منيرا كان { كمن مثله } وصفه وشأنه { في الظلمت } المتراكمة والمتزاحمة وهي ظلمة الجهل والكفر والعصيان، واعتقاده أنه { ليس بخارج منها } لعدم تناهيها فأنقذه الله من ظلمة الضلالة بنور الهداية وهداء إلى صراط مستقيم هو الإسلام { كذلك } أي: مثل تزيين الإيمان للمؤمن { زين للكفرين ما كانوا يعملون } [الأنعام: 122] من الكفر والعصيان.
{ وكذلك } أي: كما جعل في مكبة أكابر وصناديد يجرمون فيها جرائم عظيمة { جعلنا في كل قرية } أي: قدرنا فيها { أكبر } كانوا { مجرميها } ومترفيها { ليمكروا فيها } بأنواع المكر والحيل ليضلوا ضعفاء العوام { وما يمكرون } هؤلاء الماكرون { إلا بأنفسهم } لأن وبال مكرهم يعود عليهم { وما يشعرون } [الأنعام: 123] لقساوة لقولبهم وشدة عمههم.
[6.124-127]
{ و } من غاية جهلهم ونهاية قسوتهم { إذا جآءتهم آية } هادية لهم إلى سبيل الرشاد { قالوا } من غاية بغضهم وعنادهم: { لن نؤمن } بها { حتى نؤتى مثل مآ أوتي } من يدعي أنهم { رسل الله } إذ نحن وهم سواء في البشرية وأولى منهم في الرئاسة والنسب، فكيف يؤتى لهم ولم يؤت إلينا؟ قل لهم يا أكمل الرسل: الوحي والإيتاء بيد الله يؤتي من يشاء ويمنع ممن يشاء؛ إذ { الله أعلم حيث يجعل رسالته } لا يعتبر عنده الرئاسة والنسب بلا تفضلا على من تفضل من عباده بلا التفات إلى نسبه وحسبه يقدر قابليته واستعداده، المقدر له من عنده في سابق علمه،
ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون
[النمل: 70] ويقولون إذ { سيصيب الذين أجرموا } مغرورين على رئاستهم وجهلهم ونسبهم { صغار } مذلة وهوان { عند الله } حين إحضارهم الحساب والجزاء { و } بعدما كشف حالهم وحسابهم لهم { عذاب شديد بما كانوا يمكرون } [الأنعام: 124].
وإذا كان الأمر بيد الله من عنده { فمن يرد الله أن يهديه } إلى توحيده { يشرح صدره } أي: يفسحه ويوسعه { للإسلم } أي: التفويض والاستسلام إلى حيث رضي بجميع ما قضي له، ومتى رضي بالقضاء يسع الحق فيه فيستولي عليه فيغنيه عن هويته ويبقيه ببقائه السرمدي { ومن يرد أن يضله } عن فسحة توحيده { يجعل صدره } الذي من شأنه أن يسع الحق فيه { ضيقا } ضنكا { حرجا } في غاية الضيف باستيلاء لوازم الإمكان عليه، إلى حيث تضيق الأرض عليه فيتمنى الصعود إلى عالم الأسباب { كأنما يصعد في السمآء } أي: يطلب الصعود إلى السماء، ومن غاية احتياجه واضطراره، وهذا مثل يضرب به لمن ضاق عليه طرق معاشه { كذلك } أي: كحال من اضطر إلى الصعود نحو السماء { يجعل الله الرجس } أي: خذلان الإمكان والحرمان في النشأة الأخرى { على } القوم { الذين لا يؤمنون } [الأنعام: 125] بتوحيد الله وسعة لطفه وجوده.
{ وهذا } أي: ما أنزلنا إليك يا أكمل الرسل من القرآن المبين لطريق المعرفة والإيقان { صراط ربك مستقيما } لا عوج فيها أصلا موصلا إلى توحيده { قد فصلنا } وأوضحنا فيما أنزلناه إليك { الآيات } الدالة على توحيدنا { لقوم يذكرون } [الأنعام: 126] يتعظون بها ويتذكرون مبدأهم الذي ينشئون منه ويظهرون عنه وهو الوحدة الذاتية.
{ لهم دار السلم } أي: مقام التفويض والاستسلام { عند ربهم } بعدما تحققوا بتوحيده { وهو } بذاته { وليهم } ومولى أمورهم { بما كانوا يعملون } [الأنعام: 127] أي: بجميع ما كانوا يعملون من الأعمال؛ إذ هو سمعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم وجميع جوارحهم التي صدرت عنها أعمالهم على ما نطق الحديث القدسي صلوات الله وسلامه على قائله.
[6.128-129]
{ و } أذكر يا أكمل الرسل { يوم يحشرهم جميعا } أي: جميع ما يتأتى منه الأطاعة ويتوجه إليه التكليف من الثقلين قابلين عليهم منادين لهم: { يمعشر الجن } أي: الشياطين { قد استكثرتم } أي: استتبعتم بأن أضللتم وأغويتم كثيرا { من الإنس } بإيقاعهم إلى المعاصي والمهالك والخروج عن مقتضى أوامرنا نواهينا، وإغرائهم إلى مستلذات نفوسهم ومتقضيات شهواتهم { و } بعدما سمع الإنس هذا النداء { قال أوليآؤهم } أي: أولياء الجن ومتابعهم { من الإنس } متذللين متحسرين: { ربنا } يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرناك بمتابعة هؤلاء الغواة فإن ظهر الحق واضمحل الباطل نحن نقر بما جرى بيننا وبينهم { استمتع بعضنا ببعض } منهم بإغوائهم وإغرائهم إلى خلاف ما أمرتنا عليه بألسنة رسلك، وبعضهم استمتع ببعضنا بالموالاة والمتابعة { وبلغنآ } الآن { أجلنا الذي أجلت لنا } على ألسنة رسلك فالآن جئناك خائبين خاسرين { قال } سبحانه من وراء سرادقات العز والجلال: الآن انقرض دار الابتلاء ومضى زمان الاهتداء { النار مثوكم } جميعا؛ أي: تابعيكم ومتبوعيكم مؤبدا { خلدين فيهآ } أبدا { إلا ما شآء الله } وقتا ينقذهم منها؛ لئلا يتعودوا بعذابها { إن ربك حكيم } متقن في أفعاله { عليم } [الأنعام: 128] بمقدار جزاء العصاة.
{ وكذلك } أي: مثل قول أولياء الإنس والجن { نولي بعض الظلمين } من الإنس { بعضا } منه ليفتضحوا { بما كانوا يكسبون } [الأنعام: 129] من المظاهر بتغرير بعضهم بعضا.
[6.130-132]
{ يمعشر الجن والإنس } المفتضحين على رءوس الأشهاد { ألم يأتكم رسل منكم } غلب الإنس على الجن؛ إذ ليس يبعث من الجن نبي بل من الإنس إلى الثقلين { يقصون عليكم آياتي } ويدعونكم إلى توحيد ذاتي وأوصافي وأفعالي { وينذرونكم لقآء يومكم هذا } يوم القيامة والجزاء { قالوا } مضطرين معترفين: { شهدنا على أنفسنا } يا ربنا بالجرم والعصيان بعدما ظهر الأمر وانكشف الحجاب، وصرنا مستحقين بالعذاب والنكال { و } ما ذلك إلا أن { غرتهم الحياة الدنيا } بحيث لم يبالوا بما جاءهم من عند ربهم لإهدائهم بل يكذبونه ويستهزئون به { و } أدى عاقبة أمرهم في عتوهم وعنادهم إلى أن { شهدوا } واعترفوا { على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } [الأنعام: 130] مستحقين بأنواع العقوبة والعذاب.
{ ذلك } أي: إرسال الرسل وإنزال الكتب إنما هو ليتنبهوا وينتبهوا؛ أي: العصاة على ما هم عليه والسر في الإرسال { أن } أي: لأن { لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } أي: بسبب ظلم صدر عنه { و } الحال أنه { أهلها غفلون } [الأنعام: 131] عن طريق الحق بلا تنبيه وإرشاد مرشد نبيه، وعليم من تبعك من المؤمنين.
{ و } اعلم يا أكمل الرسل وذكرهم { لكل } من أهل التكليف { درجت } عند الله حاصلة لهم { مما عملوا } عن الصالحات { وما ربك } المطلوب لضمائر عباده { بغفل عما يعملون } [الأنعام: 132] لمقتضى التكاليف التي كلفهم بها.
[6.133-135]
{ و } الحال إن نفعه عائد إليهم؛ إذ { ربك } هو { الغني } بذاته عنهم وعن أعمالهم بالمرة صالحا أو فسادا بل هو { ذو الرحمة } على من عمل بمقتضى التكليف امتنانا عليه وتفضلا بلا احتياج له سبحانه إليهم وإلى عملهم بل { إن يشأ يذهبكم } أيها لاناس الناسون حقوق ألوهيته وتوحيده والتكاليف الواقعة في طريقه { ويستخلف من بعدكم ما يشآء } ممن يعمل على مقتضى تكاليفه { كمآ أنشأكم من ذرية قوم آخرين } [الأنعام: 133] قرنا بعد قرن، بطنا بعد بطن مع أنه يترحم عليكم ويبقيكم تفضلا وامتنانا.
قل لهم يا أكمل الرسل تنبيها عليهم: { إن ما توعدون } أيها المكلفون من الحشر والنشر والجزاء { لآت } كامن ثابت لا محالة، واعلموا على مقتضى ما كلف به { ومآ أنتم بمعجزين } [الأنعام: 134] أي: عاجزين عن الإتيان بالأمور حتى لا تؤاخذوا بترك التكاليف ولا تعذبوا به؛ إذ لا تكلف نفس إلا وسعها.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل على طريق الترحم والتحنن إرخاء العنان مبالغة في التعريض: { يقوم اعملوا } من المعاصي { على مكانتكم } مقدار مكنتكم وطاقتكم { إني عامل } أيضا من الصالحات المأمورة علي بمقتضى مكنتي وطاقتي { فسوف تعلمون } حين انكشف الحجب وارتفع الغشاء { من تكون له عقبة الدار } أي: العاقبة الحسنى التي تترتب على هذه الدار؛ أي: أينا نفوز بها إنا أو أنتم؟ { إنه لا يفلح الظلمون } [الأنعام: 135] الخارجون عن حدوده بمقتضى أهويتهم الفاسدة.
[6.136-137]
{ و } من جملة أهويتهم الباطلة أنهم { جعلوا لله مما ذرأ } برأ وخلق { من الحرث والأنعم نصيبا فقالوا هذا } المعين المفروز { لله بزعمهم وهذا لشركآئنا } أي: آلهتنا وشفعائنا { فما كان } من أموالهم يفرز { لشركآئهم } إن كان جيدا طيبا { فلا يصل إلى الله } ولا يتجاوز عن شركائهم { وما كان لله } إن كان جيدا { فهو يصل إلى شركآئهم } بأن استبدلوها بالردئ الذي كان لشركائهم { سآء ما يحكمون } [الأنعام: 136] هؤلاء الجاهلون؛ لأن فعلهم واختيارهم هذا إنما هو تفضيل المفضول المترذل على الأصل الأفضل.
روي أنهم كانوا يعينون في حرثهم ونتاجهم لله، ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وشيئا منها لآلهتهم وينفقونها إلى سدنة آلهتهم وخدامههم، ويذبحون عندها ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى؛ بدلوه بما لآلهتهم من الردئ، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم، وهذا مما اخترعوه من تلقاء أنفسهم وإن افتروا إلى كتبهم ترويجا وتغريرا.
{ وكذلك } أي: مثل قسمتهم في القربات والصدقات { زين } حبب وحسن { لكثير من المشركين قتل أولدهم شركآؤهم } أي: آلهتهم الذين يعبدونهم من دون الله من الشياطين، وما ذلك التزيين والتحسين إلا { ليردوهم } ليهلكوهم ويضلوهم بالإغواء عن طريق الحق { وليلبسوا } ويخلطوا { عليهم دينهم } الذي وجب عليهم الانقياد والإطاعة ليصلوا إلى طريق التوحيد { ولو شآء الله } الهادي لعباده هدايتهم { ما فعلوه } أي: ما قبلوا ما زينوهم ولبسوا عليهم { فذرهم وما يفترون } [الأنعام: 137] أي: جانب عنهم وعن افترائهم إلى أن نأخذهم وننتقم عنهم.
[6.138-139]
{ و } من جملة ما اخترعوها من تلقاء أنفسهم ونسبوها إلى الله وإلى كتابه ترويجا أنهم { قالوا هذه } المعينة المفروضة { أنعم وحرث حجر } حرام { لا يطعمهآ إلا من نشآء } إطعامه؛ يعنون سدنةن الأوثان وخدمتهم من الرجال دون النساء، فإنها يحل عليهم ويحرم على غيرهم وما هي إلا { بزعمهم } الفاسد بلا حجة نقلية وعقلية { و } أيضا قالوا: هذه { أنعم حرمت ظهورها } وأراد البحائر والسوائب والحوامي، { و } قالوا أيضا: هذه { أنعم } معدة للتجارة والحمل والظعن { لا يذكرون اسم الله عليها } أي: لا يركبونها للحج، كل ذل من مخترعاتهم التي يخترعونها من أهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة ويفترون { افترآء عليه } سبحانه بلا سند لهم نازل من عنده { سيجزيهم } الله ويعذبهم { بما كانوا يفترون } [الأنعام: 138] أي: بسبب بافترائهم عليه.
{ و } من جملة مفترياتهم ومخترعاتهم أنهم { قالوا ما في بطون هذه الأنعم } أي: البحائر والسوائب إن كانت حيا فهي { خالصة لذكورنا } مخصصة مستحلة لهم { ومحرم على أزوجنا } لا نصيب لهن فيه { وإن يكن ميتة } أي: وإن يخرج ميتة { فهم } أي: الذكور والإناث { فيه شركآء } بلا تفاوت وخصوصية { سيجزيهم وصفهم } أي: سيجزيهم الله على وصفهم، وتفصيلهم هذا افتراء عليه { إنه حكيم } في جزاء المفترين { عليم } [الأنعام: 139] بمقدار جزائهم.
[6.140-142]
{ قد خسر } وخاب خيبة مؤبدة الأعراب { الذين قتلوا أولدهم سفها } مخالفة سبي وإملاق { بغير علم } منهم بما يؤول أمرهم عليه، ولا شك أن الرازق لعباده هو الله لا هم { و } أيضا { حرموا } على نفوسهم { ما رزقهم الله } وأباح عليهم ن البحائر والسوائب وغيرها ونسبوا تحريمها { افترآء على الله } هوى وميلا إلى الباطل، وبالجملة: { قد ضلوا } بهذه الجرائم عن طريق الحق { وما كانوا مهتدين } [الأنعام: 140] إلى توحيده وما يرجى منهم الهداية والفلاح أصلا.
{ و } كيف تضلون عن طريق الحق أيها الجاهلون المسرفون مع أنه سبحانه { هو الذي أنشأ } لكم لمعاشكم في النشأة الأولى { جنت } من الكروم { معروشت } مرتفعات من الأرض { وغير معروشت } ملقيات على وجه الأرض { و } أنشأ لكم أيضا { النخل والزرع مختلفا أكله } أي: أكمل كل واحد منهما رطبا ويابسا { والزيتون والرمان متشبها } بعضها ببعض { وغير متشبه } بل مختلف في الشكل والطعم { كلوا من ثمره } أي: ثمر كل واحد من المذكورات حيث شئتم { إذآ أثمر وآتوا حقه } أي: أخرجوا حق الله منه على الوجه المفروض { يوم حصاده } إدراكه وبدو صلاحه { ولا تسرفوا } في الأكل إلى حيث تقسى قلوبكم وبكل إدراككم { إنه لا يحب المسرفين } [الأنعام: 141] أي: لا يرضى: عنهم وعن فعلهم؛ إذ الأكل إنما هو لقوام البدن وتقوية الروح على فعله، وإسرافه يفضي إلى التعطيل والتكليل المخل للحكمة الإلهية.
{ و } إنشاء لكم أيضا { من الأنعم حمولة } تحملون أثقالكم يوم ظعنكم { وفرشا } تفرشون من أصوافها وأشعارها وأوبارها المنسوجة تحتكم يوم إقامتكم { كلوا مما رزقكم الله } وأباحه عليكم منها { ولا تتبعوا } أثر { خطوت الشيطن } ولا تسمعوا وساوسه في تحليل المحرمات وتحريم المباحات؛ يعني: لا تتبعوا أهويتكم التي هي من جنود الشياطين { إنه لكم عدو مبين } [الأنعام: 142] ظاهر العداوة فاجتنبوا من إغوائها.
[6.143-144]
واعلموا أيها المؤمنون أن الله سبحانه أباح لكم من الأنعام { ثمنية أزوج من الضأن اثنين } الكبش والنعجة وما يتولج منهما { ومن المعز اثنين } التيس والعنز أيضا كذلك { قل } يا أكمل الرسل لمن يدعي التحريم في تقدير الجنس إلزاما وتبكيتا: { ءآلذكرين } الكبش والتيس { حرم أم الأنثيين } النعجة والعننز { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } أي: حرم ما في بطن الأنثيين من هذين الجنسين ذكرا كان أو أنثى { نبئوني } أخبروني أيها المدعون تحريم شيء منها { بعلم } أي: بمقدمة معلومة عندكم من نقل ونص دال على أن الله حرم شيئا من ذلك { إن كنتم صدقين } [الأنعام: 143] في دعوى التحريم.
{ و } أيضا أباح لكم ربكم أيها المؤمنون { من الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } يعني: لم يحرم أيضا شيئا منهما ولا ما في بطنهما ذكرا كان أو أنثى { أم } تدعون أيها المدعون أنكم { كنتم شهدآء } حضراء { إذ وصكم الله } أي: حين وصاكم الله { بهذا } التحريم؛ لأنه ما أخبر به نبي وما جاء به كتاب، فبقي أن تدعوا الحضور عنده سبحانه وأنتم أيها المفترون من المردودين المطرودين عن ساحة عز حضوره سبحانه، وما من الأمر تسويلات نفوسكم وتلبيسات شياطين أوهامكم وخيالاتكم تفترونه على الله ظلما وزورا { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس } عن طريق الحق { بغير علم } نص ونقل وارد نازل من عند الله بل من تلقاء نفسه تلبيسا وتخليطا لضعفاء العوام { إن الله } المطلع بمخايل المفسدين { لا يهدي } إلى طريق صراط توحيده { القوم الظلمين } [الأنعام: 144] المفترين عليه بأمثال هذه المفتريات الزائغة.
[6.145-146]
{ قل } يا أكمل الرسل على مقتضى ما أوحينا إليك: { لا أجد في مآ أوحي إلي } أي: في القرآن الجامع لأحكام الكتب السابقة المستحضر لها { محرما } طعاما حرمه الله { على طاعم يطعمه } بل أجد كل ما يطعم حلالا؛ إذ الأصل في الأشياء الحل { إلا أن يكون ميتة } مات حتف أنفسه بلا زكاة { أو دما مسفوحا } سائلا جاريا مفروزا عن اللحم { أو لحم خنزير فإنه رجس } نجس في نفسه لا يقبل الزكاة أصلا { أو } ما يذبح من المحللات { فسقا } خروجا عن مقتضى الشرع بأن { أهل لغير الله به } حين ذبحه من أسماء الأصنام وغيرها، وما سوى هذه المستثنيات المذكورة فهو مباح { فمن اضطر } أيضا إلى تناول تلك المستثنيات حال كونه { غير باغ } خارج على أهل الإسلام ظلما { ولا عاد } مجاوز عن سد الجوعة { فإن ربك غفور } لمن تناولها ضرورة { رحيم } [الأنعام: 145] لا يؤاخذه عليها بل إن لم يتناول في محل الاضطرار، وهلك كان عاصيا البتة؛ لأنه تخريب لبيت الله وإبطال لصنعه بعدما رخص.
{ و } إن سألوك يا أكمل الرسل عن محرمات الأمم الماضية قل لهم نيابة عنا: { على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } وحافر يمكن أن يخرج معها { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت } من الشحوم { ظهورهما } وهي الثروب وشحوم الكلى { أو } حملتها { الحوايآ } أي: الأمعاء { أو ما اختلط } من الشحوم { بعظم } كالألية { ذلك } أي: تحريم هذه الأشياء، وإن كان الأصل في الأشياء الحل والإباحة مطلقة بسبب أنا { جزينهم ببغيهم } بها وظلمهمه وخروجهم عن حدودنا بلا ورود نص منا { وإنا لصدقون } [الأنعام: 146] في جميع ما أوحينا إليك من الأقوال والأخبار والمواعيد والوعيدات.
[6.147-149]
{ فإن كذبوك } وعاندوك فيما تلونا عليك { فقل } لهم إمحاضا للنصح على مقتضى مرتبة النبوة: { ربكم ذو رحمة واسعة } يمهلكم على ما أنتم عليه ويوسع عليكم على مقتضى رحمته وجماله { و } الحال أنه { لا يرد بأسه } وبطشه على مقتضى غيرته وحميته وجلاله { عن القوم المجرمين } [الأنعام: 147] الذين أجرموا على الله بالخروج عن مقتضى أحكامه النازلة على ألسنة رسله.
{ سيقول الذين أشركوا } على سبيل التكذيب والإنكار فيما جئت به: و { لو شآء الله } ما أنت ترويه عنه وتدعيه بالنسبة إلينا { مآ أشركنا } مع أنه القادر على جميع ما أراد { ولا } أشرك { آباؤنا } أيضا { ولا حرمنا من شيء } مما أجزت تحريمه عنه بالنسبة إلينا بل ما هي إلا مفتريات تخترعه من عندك { كذلك } مثل تكذيبهم لك بأمثال هذه الهذيانات الباطلة { كذب الذين } مضوا { من قبلهم } أنبياءهم { حتى ذاقوا بأسنا } الذي أنزلنا عليهم واستأصلناهم بتكذيبهم، وإن أردت إلزامهم وتبكيتهم { قل } لهم مستفهما: { هل } حصل { عندكم من علم } نقل صريح وحجة واضحة موردة من عند الله { فتخرجوه لنآ } وتظهروه حتى نتبعه، ونقبله؟ فإن لم يخرجوا فقل لهم: { إن تتبعون } أي: ما تتبعون { إلا الظن } الذي لا يغني من الحق شيئا { وإن أنتم إلا تخرصون } [الأنعام: 148] تكذبون على الله افتراء ومراء، فأعرض عنهم ودع مجادلتهم ومخاطبتهم.
{ قل } يا أكمل الرسل بدما ألزموا وأفحموا: { فلله الحجة } البينة الواضحة { البالغة } حد الكمال { فلو شآء } هدايتكم { لهداكم أجمعين } [الأنعام: 149] أي: لأوضح حجته عليكم ووفقكم إلى قبوله، ولكن لم تتعلق مشيئته على هدايتكم لذلك أصررتم واستكبرتم، وإذا لم ينتبهوا بعد إلقاء حجة الله عليهم بل أصروا على تقليد أحبارهم.
[6.150-151]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل: { هلم شهدآءكم } أي: أحضروا أحباركم { الذين يشهدون أن الله حرم } في كتابه { هذا } أي: ما ادعيتم تحريمها.
{ فإن شهدوا } بعدما حضروا افتراء على كتاب الله { فلا تشهد } يا أكمل الرسل { معهم } ولا تقبل شهادتهم { ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا } ونسبوا إليها ما هي خالية عنها { و } اعلم يا أكمل الرسل أن { الذين لا يؤمنون بالآخرة } ولا بالمجازاة والكافأة مطلقا، ولا يبالون من أفعال هذه المفتريات الباطلة { وهم } من غاية جهلهم { بربهم } الذي رباهم بأنواع الكرم { يعدلون } [الأنعام: 150] يشركون ويجعلون له عديلا، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة: { تعالوا } أيها التائهون في بيداء الضلال { أتل } وأعد لكم { ما حرم ربكم عليكم } في نشأتكم الدنيا، أولاها وعظماها: { ألا تشركوا به شيئا } من مصنوعاته؛ إذ هو أحد صمد فرد وتر ليس لغيره وجود حتى يشاركه ويماثله { و } أن تفعلوا { بالوالدين } اللذين هما سببان قريبان لظهوركم إلا { إحسانا } لإحسانهما إليكم في حفظكم وحضانتكم { و } أن { لا تقتلوا أولادكم } ظلما ناشئا { من } خوف { إملاق } فقر وقلة؛ إذ { نحن نرزقكم وإياهم } وأن { ولا تقربوا الفواحش } القبيح { ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } كالقود وقتل المرتد ورجم الزاني المحصن وغيرها من المحارم التي رخص الشرع بارتكابها، إذا ارتكابها من جملة المحللات والمأمورات { ذلكم } المذكور مفصلا مما { وصاكم به لعلكم تعقلون } [الأنعام: 151] رجاء أن تسترشدوا لتهتدوا إلى توحيده.
[6.152-153]
{ و } من جملة المحرمات التي حرمها الحق عليكم: أن { لا تقربوا مال اليتيم } ولا تتصرفوا { إلا ب } التصرفات { التي هي أحسن } لليتيم وأحفظ لغبطته من تنمية ماله وحفظه { حتى يبلغ } اليتيم { أشده } أي: يسمع من التصرفات الشرعية شرعا، وحينئذ يسلم إليه بعد تجربته واختباره، { و } من جملتها أيضا: ألا تنقصوا وتخسروا في الكيل والوزن بل { أوفوا الكيل والميزان بالقسط } أي: بالعدل ولا تنقصوا منهما، وإن كان إبقاؤهما في غاية الصعوبة والعسر، فعليكم أن تبذلوا وسعكم وطاقتمك في تعديلها وإيفائهما مهما أمكن لكم، وما ليس في وسعكم { لا نكلف نفسا إلا وسعها } معفو عنكم، { و } من جملتها: ألا تميلوا في الأحكام { إذا قلتم } وحكمتم حال كونكم حاكمين بين الخصمين { فاعدلوا } في الحكومة { ولو كان } المحكوم عليه أو له { ذا قربى } من حميمكم وذوي قرابتكم، وعليكم أيها الحكام ألا تتجاوزوا في الأحكام عما حكم الله به بل { وبعهد الله } الحكيم العليم { أوفوا } وبمقتضى حكمه وحكمه وفوا { ذلكم } المذكور مما { وصكم } الله { به لعلكم تذكرون } [الأنعام: 152] رجاء أن تتذكروا وتتعظوا به أيها المتواجهون إلى توحيده.
{ و } اعلموا أيها المائلون نحو توحيدي { أن هذا } أي: المذكور في هذه السورة من الأوامر والنواهي والمحرمات والمحللات والأحكام والإشارات والآداب المعاملات { صراطي } الموصل إلى توحيدي { مستقيما } سويا بلا ميل واعوجاج { فاتبعوه } حتى تفوزوا إليه { ولا تتبعوا السبل } المتفرقة والطرق المختلفة { فتفرق بكم } وتضلكم { عن سبيله } أي: سبيل توحيده الذاتي { ذلكم } أي: اتباع طرق التوحيد مما { وصاكم } الله { به لعلكم تتقون } [الأنعام: 153] رجاء أن تحذروا بسببه عن سبيل الأهوية الفاسدة والآراء الباطلة المضلة عن طريق الحق وتوحيده.
[6.154-157]
{ ثم } اعملوا أنا { آتينا } من مقام جودنا { موسى الكتاب } تماما؛ أي: التوراة المبين لطريق الحق { تماما على } الوجه { الذي أحسن } بيانه وتوضيحه { و } بينا فيه أيضا { تفصيلا لكل شيء } من الكوائن والفواسد المتعلقة بعالم الفواسد المتعلقة بعالم الملك والشهادة { وهدى } من المعارف والحقائق المتعلقة بعالم الملكوت والغيب { ورحمة } من المكاشفات والمشاهدات المسقطة للإضافات مطلقا المغنية لنفوس الغير والسوى رأسا { لعلهم بلقآء ربهم يؤمنون } [الأنعام: 154] رجاء أن يتحققوا بمرتبة اليقين العلمي ثم العيني ثم الحقي.
{ وهذا } أي: القرآن { كتب أنزلنه } تتميما لمقاصد الكتب السالفة، وترويجا لحكمه وأحكامه { مبارك } كثير الخير والنفع لمن آمن به وصدقه { فاتبعوه } أيها المتوجهون نحو التوحه الذاتي، وامتثلوا جميع أوامره، واجتنبوا عن جميع نواهيه { واتقوا } عن تكذيبه والقدح يه وفيمن أنزل إليه { لعلكم ترحمون } [الأنعام: 155] تكتشفون وتفوزون به إلى فضاء التوحيد.
وإنما أنزلنا القرآن بعد التوراة والإنجيل، وإن كان أكثر أحكام الكتب الإلهية مشتركة كراهة { أن تقولوا } أيها المؤمنون { إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا } أي: اليهود والنصارى، وعلى لسانهم ولغتهم فلا تقبلون الأحكام الإلهية معللين قائلين: { وإن } أي: { كنا عن دراستهم } قراءتهم وتعلمهم لعدم علمنا بوضع لغتهم { لغافلين } [الأنعام: 156].
{ أو } أن { تقولوا } متحسرين متمنين: { لو أنآ أنزل علينا الكتاب } كما أنزل عليهم { لكنآ أهدى منهم } لحدة أذهاننا وصفاء صدرونا، ومتى علم واطلع سبحانه من استعداداتكم هذا { فقد جآءكم } من عنده لإهدائكم وإيصالكم إلى مقر توحيده { بينة } واضحة { من ربكم } الذي رباكم بإضافة استعدادات التوحيد وقابلياته، دالة عليه، مبينة له كاشفة إياه بالنسبة إلى المحجوبين من ذوي العلوم اليقينية { وهدى } يرشدهم إلى مرتبة اليقين العيني { ورحمة } لكم تستر هويتكم عن عيون بصائركم ويغنيكم في هوية الحق.
وبالجملة: لو امتثلتم بمقتضاه لصار علمكم عينا وعينكم حقا { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } بعدما سمع أوصافها وفرائدها من الله { وصدف } صد وأعرض { عنها } عنادا واستكبارا، والله { سنجزي } باسمنا المنتقم { الذين يصدفون عن آياتنا } إباء وتكذيبا { سوء العذاب } أي: عذابا يسوءهم ويشتد عليهم { بما كانوا } أي: بشؤوم ما كانوا { يصدفون } [الأنعام: 157] عنها، ويستنكفون عن قبولها عتوا وعنادا بلا حجة قطعية بل طنية أيضا.
[6.158-160]
{ هل ينظرون } أي: ما ينتظرون ويسوفون أمر الإيمان { إلا أن تأتيهم الملائكة } أي: ملائكة العذاب كما أتوا الأمم الماضية فتلجئهم إلأيه { أو يأتي ربك } أي: يطلبون إيتان ربك عنادا كما طلب اليهود حين قالوا: { أرنا الله جهرة } [النساء: 153] { أو يأتي بعض ءايات ربك } الدالة على انقضاء النشأة الأولى المسمى بأشراط الساعة، وبالجملة: { يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها } لكونها ملجئة إليه حين اضطرارها، ولا عبرة للإيمان حين البأس والإلجاء؛ إذ الإيمان تعبدي برهاني اختياري { لم تكن ءامنت من قبل } أي: نفسا لم تكن آمنت قبل ظهور المجلئ { أو } لم تكن { كسبت } وإن آمنت { في إيمنها خيرا } مقبولا عند الله { قل } للمنتظرين استهزاءا: { انتظروا } إلى ما تخيلتم وتوهمتم { إنا منتظرون } [الأنعام: 158] أيضا إلى حلول الوقت المعلوم ونزول العذاب فيه عليكم بكفركم وشرككم.
ثم قال سبحانه: { إن الذين فرقوا دينهم } الذي يوصلهم إلى التوحيد الإلهي بلا منازعة ومخالفة { وكانوا شيعا } أي: صاروا فرقا مختلفة متحزبة متعصبة ما قال صلى الله عليه وسلم:
" افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى إلى اثنين واسبعين فرقة كلها في الهاوية إلى واحدة وهي الناجية، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلى واحدة ".
{ لست } يا أكمل الرسل { منهم } أي: من شأنهم وإصلاحهم { في شيء } بل { إنمآ أمرهم إلى الله } حين عركضوا وحشروا نحوه { ثم ينبئهم } ويخبرهم { بما كانوا يفعلون } [الأنعام: 159] في النشأة الأولى التي هي دار الابتلاء.
وبالجملة: { من جآء بالحسنة } فيها { فله } على مقتضى الفضل الإلهي { عشر أمثالها } امتنانا عليه وجزاء له { ومن جآء بالسيئة } فيها { فلا يجزى إلا مثلها } على مقتضى العدل الإلهي { وهم } في جزاء السيئة { لا يظلمون } [الأنعام: 160] بالزيادة؛ إذ لا ظلم في ذلك اليوم.
[6.161-165]
{ قل } يا أكمل الرسل المبعوث إلى كافة البرايا: { إنني } مع كوني بشرا مثلكم { هداني ربي } الذي رباني بأنواع اللطف والكرم { إلى صراط مستقيم } موصل إلى توحيده الذاتي، وآتاني من فضله { دينا قيما } قوميا مستقيما { ملة إبراهيم حنيفا } مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة لذلك { وما كان من المشركين } [الأنعام: 161] في وقت من الأوقات.
{ قل } يا أكمل الرسل المظهر للتوحيد الذاتي مفوضا جميع أمورك وما جرى عليك وظهر منك إلى ربك: { إن صلاتي } إي: ميلي بجميع أعضائي وجوارحي { و } سائر { نسكي } وعبادتي التي هي سبب تقريبي وتوسلي نحو الحق { و } بالجملة: لوازم { محياي ومماتي } خالصا { لله } المتوحد المتصرف في ملكه وملوكته بما يشاء بالاستقلال والاختيار لكونه { رب العالمين } [الأنعام: 162].
{ لا شريك له } ينازعه، ولا ضد له يكافئه ويماثله، لا وجود لغيره أصلا { وبذلك } التفويض والإخلاص { أمرت } من عنده لتوحيده { وأنا أول المسلمين } [الأنعام: 163] الموحدين المظهرين الظاهرين بالتوحيد الذاتي.
{ قل } يا أكمل الرسل مستوبخا مستقرعا لمن عاندك في طريق التوحيد، وجادلك بإثبات الشركاء له وتوقع موافقتك لشركه: { أغير الله } المتوحد في ذاته، المتفرد في ألوهيته { أبغي } أتخذ وأطلب { ربا } مربيا موليا { و } الحال أنه { هو } بذاته وأسمائه وأوصافه { رب كل شيء } وخالقه وموجده من كتم العدم { و } إذا قلت لهم من كلمة الحق ما قلت دعمهم وشركهم؛ إذ { لا تكسب كل نفس } من الجرائم والآثام { إلا } تحمل { عليها } أصارها وأثقالها { ولا تزر } تقترف تحمل نفس { وازرة } عاصية كافرة { وزر أخرى } بل كل منها رهينة بما كسبت، إن خيرا فخير وإن شرا فشر { ثم } بعد انقضاء النشأة الأولى { إلى ربكم مرجعكم } رجوع الظل إلى ذي الظل { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } [الأنعام: 164] أي: يميز لكم الحق من الباطل والهداية من الضلال والعناية من الوبال والنكال.
{ و } كيف ينكرون توحيد الحق وترتبيته إياكم مع أنه سبحانه { هو الذي جعلكم خلائف الأرض } أي: خلفاء قابلين لمظهرية جميع أوصافه { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في الاتصاف بأوصافه والتخلق بأخلاقه { ليبلوكم } ويختبركم { في مآ آتاكم } من استعداداتكم وقابليتكم هل تصرفها إلى ما خلقتم لأجله أم لا { إن ربك } يا أكمل الرسل { سريع العقاب } على صنيع استعداده الفطري فيما لا يعنيه { وإنه } أيضا { لغفور } لمن تنبه استغفر { رحيم } [الأنعام: 165] لمن تاب واستهدى.
خاتمة سورة الأنعام
عليك أيها المتوجه نحو الحق القاصد سلوك طريق توحيده، أنجح الله أملك وأوصلك إلى مبتغاك أن تنخلع وتتجرد عن متقضيات القوى النفسانية من لذاتها وشهواتها الحسية والوهمية والخيالية، وتتوجه بما فيك من مبادئ القوى الروحانية إلى مبدئها، مقتفيا في توجهك أثر ما وصل إليك من آثار النبي صلى الله عليه وسلم المختار، الذي استخلفه الحق وأظهره على مقتضى جميع أوصافه وأسمائه، واجتباه من بين جميع رسله وأنبيائه، وأرسله مظهرا للتوحيد الذاتي وأنزل عليه كتابا جامعا محتويا على جميع فوائد الكتب السالفة مع زيادات خلت عنها الجميع، مبينا لطريق التوحيد على الوجه الأتم الأكمل إلى حيث لم يبق بعد بعثته احتياج إلى مبين آخر، لذلك قال سبحانه:
اليوم أكملت لكم دينكم...
[المائدة: 3]. وقال صلى الله عليه وسلم: " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
وبعد بعثته صلى الله عليه وسلم ونزول الكتاب لم يبق للمسترشد المستهدي نحو التوحيد الذاتي إلا الاتصاف والامتثال بما جاء به خاتم الرسالة، لذلك لم يكن الاجتهاد بعد بعثته إلا في جزيئات الأحكام دون المعتقدات الكلية؛ إذ ختم أمر الرسالة والتشريع به صلى الله عليه وسلم. ولا بد لك أن تربط قلبك بمرتبته صلى الله عليه وسلم وتجعلها قبلة مقصدك، وتقتفي أثر ما ورد عليه وجاء به صلى الله عليه وسلم بحيث لا يهمل منها شيء. ولا بد أن يكون في متابعته صلى الله عليه وسلم على وثوق تام واطمئنان كامل، عار عن جميع ما يشوشك من ظلمات الشكوك والأوهام، خال عن جميع الرعونات العارضة من وساوس شياطين الأهواء الفاسدة مثل العجب والرياء والسمعة وغيرها.
وبالجلمة: عليك أن تتوجه نحو التوحيد عن طريق الفناء والموت الأرادي؛ بحيث لا يصدر عنك شيء من أمارات الحياة الضرورية ومقتضيات القوى البشرية، حتى يتيسر لك التحقق بمقام الخلة، والتخلق بأخلاق الله، مع توفيق من قبل الحق وجذب من جانبه؛ إذ كل ميسر لما خلق له. ومتى صفيت سرك وسريرتك عن جميع ما يشغلك عن الله ويضلك عن سبيله، تحققت بمقام التوحيد، وفنيت عن مقتضيات أمارات التخمين والتقليد، وصرت على يقين من ربك وكشف وشهود لا تضمأ منه أصلا ولا تروى أبدا، وحينئذ حق لك أن تقول حقا: { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له } [الأنعام: 162-163].
ربنآ آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا
[الكهف: 10].
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-6]
{ المص } [الأعراف: 1] أيها الإنسان الكامل اللائق لتكميل الخلائق المكرم المؤيد لإهدائهم إلى توحيد الذات والصفات والأفعال، الصادق الصفي في نفسه عن كدورات أهل الزيع والضلال، هذه الآثار والآيات اللطيفة اللائحة اللائقة لأن يسترشد منها ويستكشف عنها أرباب الذوق والكمال، المنزهه عن شوائب الشكوك وظلمات الأوهام الصافية عن تخليطات العقول وتخمينات الأحلام الصالحة لأن يستبصر بها ويستشهد منها إلى توحيد العليم العلام المقدس السلام.
{ كتاب } جامع لجميع فوائد الكتب المنزلة وأحكامها وإشاراتها، ناطق بجميع الأحوال الواقعة في النشأة الأولى والأخرى { أنزل إليك } يا هادي المضلين تقوية لك وترويجا لما أمرت به { فلا يكن في صدرك حرج } ضيق وتعب حاصل { منه } أي: من نشره وتبيلغه مخافة الأعداء بل إنما أنزل إليك { لتنذر به } أي: بإنذاراته وتخوفاته كم ضل عن طريق الحق، وأعرض عنه جهلا وعنادا { و } تذكر بمواعيده وتبشيراته من وفق بتذكر الموطن الأصلي والمنزل الحقيقي؛ إذ هو { ذكرى للمؤمنين } [الأعراف: 2] الموقنين بوحدة الحق المتوجهين نحوه بالعزيمة الصحيحة.
{ اتبعوا } أيها المؤمنون المتوجهون نحو التوحيد { مآ أنزل إليكم من ربكم } على لسان نبيكم { ولا تتبعوا } بعد بعثته ودعته { من دونه } سبحانه { أوليآء } توالونهم وترجعون إليهم في أموركم من الجن الإنس؛ إذ هو خاتم النبوة فعليكم أن تتبعوه، وإن كان منكم { قليلا ما } شرذمة قليلة { تذكرون } [الأعراف: 3] وتتعظون بتذكيره وعظته ليملكم إلى أهوية نفوسكم من الجاه والمال والرئاسة المستلزمة للتفوق على القرآن والأقران.
{ و } عليكم ألا تغتروا بها بل تذكروا { كم } كثير { من } أهل { قرية } ذوي بطر ورفاهية { أهلكناها } بإنزال قهرنا إليها حتى استحقوا الهلاك بسبب كفرهم وظلمهم { فجآءها بأسنا } قهرنا { بياتا } حال كونهم راقدين رقود البطر والغفلة { أو هم قآئلون } [الأعراف: 4] مستريحون وقت الضحوة الكبرى تنعما وحضورا.
{ فما كان دعواهم } أي: دعاؤهم وتضرعهم { إذ جآءهم بأسنآ } أي: حين ظهر عليهم قهريا { إلا أن قالوا } متضرعين مقربين معترفين: { إنا كنا ظالمين } [الأعراف: 5] وبعدما اعترفوا بظلمهم ملجئين لا نبالي باعترافهم وإقرارهم.
{ فلنسألن } لنستكشفن ونظهرن في النشأة الأخرى أحوالهم التي كانوا عليها في النشأة الأولى أولا من { الذين أرسل إليهم } الرسل ما فعلوا بهم حين دعوهم إلى إطاعتنا وانقيادنا { و } بعدما ظهر منهم ما ظهر { لنسألن } ثانيا عن أحوالهم من { المرسلين } [الأعراف: 6] المبلغين لهم أوامرنا ونواهينا عن قبولهم وتكذيبهم وتصديقهم، وبعدما ظهر أيضا منهم ما ظهر.
[7.7-10]
{ فلنقصن عليهم } جميع أحوالهم وأعمالهم التي صدرت عنهم على التفصيل { بعلم } لا يعزب عنه شيء من صنائعهم { و } كيف يخرج عن حيطة علمنا بشيء من أعمالهم؛ إذ { ما كنا غآئبين } [الأعراف: 7] عنهم بل حاضرين معهم شاهدين بجميع أحولهم.
{ والوزن } الموضوع لانتقاد أعمال العباد { يومئذ } أي: وقت كشف السرائر وانكشاف الحجب { الحق } أي: الثابت المحقق؛ لئلا يبقى للعصاة مجادلة مع الله { فمن ثقلت موازينه } بكثرة الطاعات ووفور الخيرات والمبرات { فأولئك } السعداء المبرورون { هم المفلحون } [الأعراف: 8] الفائزون بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا.
{ ومن خفت موازينه } بقلة الطاة وكثرة المعاصي { فأولئك } الأشقياء المردودون هم { الذين خسروا أنفسهم } وما ربحوا لها في دار الابتلاء { بما كانوا } أي: بسبب ما كانوا { بآياتنا } الدالة على توحيدنا { يظلمون } [الأعراف: 9] يكذبونها ظلما وعداونا.
{ و } من غاية جودنا ولطفنا إياكم يا بني إدم إنا { لقد مكناكم في } مستقر { الأرض وجعلنا لكم فيها معايش } من الملائمات كي يعيشوا بها مترفهين متنعمين شاكرين لنعمنا، صارفين إلى ما خلقناها لأجله، ومع ذلك الفضل العظيم واللطف الجسيم { قليلا ما } أي: في غاية القلة منكم { تشكرون } [الأعراف: 10] نعمنا بل تكفرونها وتصرفونها أكثركم إلى مقتضى أهويتكم الفاسدة.
[7.11-18]
{ و } من عموم وجودنا أيضا أنا { لقد خلقناكم } أي: قدرنا تعيناتكم وأظهرنا هوياتكم من كتم العدم { ثم صورناكم } أي: زيناكم بصورنا وخلقناكم بأخلاقنا { ثم قلنا للملائكة } المهيمين المستغرقين بمطالعة جمالنا: { اسجدوا } تذللوا، تواضعوا { لأدم } المصور على صورتنا تعظيما لنا وتكريما له؛ إذ هو مرآة مجلوة تحاكي جميع أوصافنا وأسمائنا، وترشدكم إلى وحدة ذاتنا، وبعدما شهدوا آثار جميع أوصافنا وأسمائنا منه { فسجدوا } جميعا متذللين { إلا إبليس } الذي هو رأس جواسيس النفوس الخبيثة { لم يكن من الساجدين } [الأعراف: 11] مع كونه من زمرتهم حين أرموا، ثم لما امتنع إبليس عن السجود.
{ قال } سبحانه إظهارا لما تحقق في علمه وكمن في غيبه من خبث طينة إبليس: { ما منعك } يا أبليس { ألا تسجد } لخليفتي { إذ أمرتك } مع رفقائك؟ { قال } إبليس في الجواب بمقتضى هويته الباطلة وأهويته الفاسدة: { أنا خير منه } وأفضل { خلقتني من نار } منير { وخلقته من طين } [الأعراف: 12] مظلم كدر، ولا يحسن تذلل الفاضل للمفضول.
لما امتنع عن مقتضى الأمر الوجوبي، ولم يتفطن بسره الذي هو التوحيد الذاتي؛ إذ الأمر سجود المظهر الجامع والظل الكامل، أمر بالتوجه نحو الذات الأحدية والمعبود الحقيقي المتجلي عليه، طرده سبحانه عن ساحة عز حضوره حيث { قال } مبعدا: { فاهبط } أيها المطرود الملعون { منها } أي: من ساحة عز التوحيد المقتضية للتذلل التشخع، ورفض الالفتات إلى الغير والسوى مطلقا { فما يكون } يجوز ويصح { لك أن تتكبر فيها } بادعاء التفضل والتفوق المتقضي للإضافات الناشئة من أنانيتك الباطلة { فاخرج } منها مطرودا مخذولا { إنك } حيث كنتن وأين كنت { من الصاغرين } [الأعراف: 13] الذليلين المحرومين، بل أنت سبب صغار سائر الأذلاء.
ثم لما آيس إبليس عن القوبل وحرم عن ساحة عز الحضور بسبب إبائه عن سجوده آدم، { قال } منتقما من آدم متضرعا إلى ربه: { أنظرني } أي: أمهلني يا ربي فيما بينهم لأضلهم وأغويهم { إلى يوم يبعثون } [الأعراف: 14].
{ قال } سبحانه إظهارا للسر الذي أسلفناه في سورة البقرة: { إنك من المنظرين } [الأعراف: 15] فيما بينهم ليتميز المحق منهم من المبطل والمهدي من الغوي.
{ قال فبمآ أغويتني } أي: فبسبب ما بعدتني وأطردتني لأجلهم { لأقعدن } وألزمن البتة { لهم } لإغوائهم وإضلالهم { صراطك المستقيم } [الأعراف: 16] أي: على دينك وطريقتك الموصل لهم إلى توحيدك، أغويهم وأوسوسهم بأنواع الوسوسة بعضهمب بالفسق والظلم، وبعضهم بالرياء والسمعة، وبعضهم بالمخائل الفاسدة من اللذات الوهمية والخيالية، وبالجملة: أوسوسهم وأخرجهم بأنواع الحيل عن جادة توحيدك.
{ ثم } بعدما أرد وسوستي في نفوسههم { لآتينهم من } جميع جهاتهم { بين أيديهم } أي: يضلهم بالمعاصي الحاصلة من قدامهم { ومن خلفهم } أي: بالمعاصي الحاصلة منه { و } أيضا { عن أيمانهم وعن شمآئلهم و } بالجملة: استسخرهم وأحيط عليهم بإغوائي ووسوستي إلى حيث { لا تجد } يا معز كل ذليل، ومدل كل دليل { أكثرهم شاكرين } [الأعراف: 17] بعد رجوعهم إليك شاكرين، صارفين ما آتيتهم من النعم إلى ما أمرتهم به.
ثم لما طرده الحق وأبعده وأنظره ابتلاء لعباده { قال } سبحانه: { اخرج } أيها المردود المطرود { منها } أي: من عرصة أهل التوحيد { مذءوما } حاملا للمذمة { مدحورا } مطرودا مستوجبا للعنة وافعل بهم ما شئت، والله { لمن تبعك منهم } بعدما أظهرتهم على صورتي، وكرمتهم بكرامتي على جميع خليقتي، ونخفت فيهم من روحي وتجليت عليهم بجميع أسمائي وأوصافي، وأرسلت إليهم أنبيائي ورسولي ، وأنزلت عليهم كتبي لتبيين طريق توحيدي؛ لأطردنهم البتة عن عز حضوري، وأخرجهم عن جنة سروري، واعلموا يا بني آدم { لأملأن جهنم } البعد الخذلان { منكم أجمعين } [الأعراف: 18] إن ابتعتم عدوي وعدوكم، فعليكم أن تجتنبوا عن غوائله.
[7.19-22]
{ و } بعدما طرد سبحانه إبليس حين امتنع عن السجود قال لآدم اختبارا وابتلاء وتوصية لحفظ مرتبته: { يآءادم } المكرم المسجود { اسكن أنت } بمتابعة عقلك الموهوب لك من العقل الكلي { وزوجك } بمتابعة نفسها الفائظة عليها من النفس الكلية { الجنة } التي هي مقر أهل التوحيد، ومنزل أهل الولاء والتجريد من أرباب الوصول الفائزين بشرف القبول { فكلا } منها، واحظاظا من لذاتها الروحانية من حقائقها ومعارفها وشهوداتها وكشوفاتها رغدا { من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة } التي هي من أغذية نفوسكم وأهوية هوياتكم { فتكونا } بتقربها وتناولها { من الظالمين } [الأعراف: 19] الخارجين عن مقتضى أمرنا وحكمنا المستحقين لطردنا ومقتنا.
{ فوسوس لهما الشيطان } أي: أوقعهما في الدغدغة بأمر الشجرة، وإن كان وسوسة أيضا عن مقتضيات الحكمة المتقنة الإلهية، بعدما وصاهما الحق سبحانه ونهاهما عنه، وليس غرضه إلا نزع لباس الصيانة والتقوى عنهما { ليبدي } أي: يظهر { لهما ما ووري } أي: غطي وسرت { عنهما من سوءاتهما } التي هي مقتضيات بشريتهما وهويتهما الباطلة { و } بعدما أشربهما الوسوسة { قال } على وجه الشفقة والنصيحة وإرادة الخير: { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة } المباركة المزكية عنكم لوث بشريتكم { إلا } كراهة { أن تكونا ملكين } بتناولهما { أو تكونا من الخالدين } [الأعراف: 20] فيها.
{ و } بعدما نصحهما وأشفقهما وسمعا منه ما سمعا { قاسمهمآ } أي: بادر إلى القسم تأكيدا وترويجا لقوله إياهما قائلا: { إني لكما لمن الناصحين } [الأعراف: 21] المشفقين المريدين خيركما.
{ فدلاهما } أي: أسقطهما عن معالي العز إلى مهاوي الذل { بغرور } غرهما به على وجه الانتقام { فلما } سمعا قوله وقبلا غروره { ذاقا الشجرة } مطمعين على ما أغراهما إليه من الشرف والخلود، وبعدما ذاقا منها { بدت } ظهرت { لهما سوءاتهما } عوراتهما؛ إذ نزع عنهما لباس التقوى وثياب العصمة { و } بعدما نزع لباسهما ظهر سواءتهما { طفقا } أخذا { يخصفان } يلصقان ويلزقان { عليهما من ورق } أشجار { الجنة } قيل: هي التينة، وقيل: الكرمة { و } بعدما ما بدا منهما ما بدا { ألم أنهكما } موبخا مقرعا: { ناداهما ربهمآ } أيها المعتديان المسرفان { عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين } [الأعراف: 22] ظاهر العداوة، فلم تسمعا قوله، وتتبعا أمره؟ فلما سمعا من ربهما ما سمعا.
[7.23-27]
{ قالا } متضرعين متذللين معترفين على زلتهما: { ربنا } يا من ربانا على الكرامة لمقتضى فضلك وجودك { ظلمنآ أنفسنا } بمتابعة عدوا { وإن لم تغفر لنا } لم تتجاوز عنا { و } لم { ترحمنا } بفضلك { لنكونن من الخاسرين } [الأعراف: 23] خسرانا عظيما.
ثم لما صدر منما ما صدر بوسوسة عدوهما، أمر سبحانه بإخراجهما عن دار السرور إلى دار الابتلاء والغرور؛ حيث { قال اهبطوا } انزلوا وانحطوا أيها المتجاوزون عن حدودنا أصلا وفرعا، تابعا ومتبوعا عن مقر العز ومرتبة الإطلاق والتجريد الخالي عن جميع الإضافات، والتقييد إلى محل الكون والفساد، ومنزل البغي والعناد؛ إذ { بعضكم } في دار الدنيا التي هي نشأة الاختبار والابتلاء { لبعض عدو } أبدا لا يرتفع الخصومة عنكم أصلا { ولكم } أيها المتخاصمون { في الأرض } أي: مرتع الطبيعة { مستقر } موضع قرار { ومتاع } تمتع من لذاتها وشهواتها { إلى حين } [الأعراف: 24] أي: على انقضاء آجالكم وانقطاع مآلكم.
ثم لما تحيروا واضطربوا في أمرهما وفساد حالهما { قال } سبحانه منبها عليهما: { فيها } أي: في أرض الطبيعة { تحيون } بالحياة الطبيعية { و } أيضا { فيها تموتون } بالموت الطبيعي { ومنها } أيضا { تخرجون } [الأعراف: 25] لجزاء ما كسبتم من الخير والشر، والتقرب والخير، والتبعد في حياتكم الطبيعية التي هي دار الابتلاء ومزرعة الأجر والجزاء، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم قال سبحانه مناديا لكم في مقام الامتنان وتعديد النعم والإحسان؛ لتواظبوا شكر نعمه، وتداوموا على انقياده وإطاعته بعدما صدر عنكم الكفر والخروج عن مقتضى أمره ونهيه: { يبني ءادم } المجبولين على فطرة الخلافة والنيابة { قد أنزلنا } من مقام جودنا { عليكم لباسا } عقلا مدبرا { يواري } ويستر بتدبيره { سوءاتكم } مقتضيات بشريتكم وبهيميتكم { و } أيضا وهبنا لكم من غاية لطفنا { ريشا } معارف وحقائق نزينكم ونميزكم بها عن جميع المخلوقات، ونستخلفكم بسببها من بين سائر البريات { ولباس التقوى } عن محارم الله، والاجتناب عن منهياته خير لكم وحقيق لفطرتكم، فعليكم أن تلبسوها وتتحفظوا بها عما لا يليق بمرتبتكم وفطرتكم { ذلك } أي: التقوى { خير } لكم إن أردتم أن تصلوا إلى مرتبة التوحيد التي جبلتم لأجلها { ذلك } أي: المذكور { من آيات الله } الدالة على استقلاله في ألوهيته وربوبيته، إنما أنزلها عليهم { لعلهم يذكرون } [الأعراف: 26] رجاء أن يتذكروا نعمه فيعرفوا المنعم وينكشفوا بتوحيده.
ثم ناداهم وأوصاهم ثانيا بقوله: { يابني ءادم } مقتضى خلافتكم ونيابتكم أن { لا يفتننكم الشيطان } أي: لا يوقعنكم في الغي والضلال بغتة ووسوسة { كمآ أخرج أبويكم } بالفتنة والغرور { من الجنة } هي دال السرور، وأهبطهما بوسوسته إلى الأرض التي هي محل الفساد ومنشأ الشرور حين { ينزع عنهما لباسهما } أي: تسبب للنزع حين تغريرهما وإغرائهما إلى تناول المنهي { ليريهما سوءاتهمآ } انتقاما منهما.
فعليكم أيها الأبناء أن تجتنبوا عن غوائله وتعوذوا إلى الله عن جميع مخايله، وتتخذوه وقاية ووكيلا حتى تتخلصوا عن وسوسة شياطين الأهواء المضلة، وعليكم ألا تغفلوا عنه؛ إذ { إنه } دائما { يراكم } ويراقبكم { هو } إذ الشيطان نفسه { وقبيله } جنوده الأمارة بالسوء رؤية صادرة عن محض العداوة { من حيث لا ترونهم } إذ هم متركزون في نفوسكم التي بين جنبيكم، يضلكم ويغويكم على صورة الهداية والإرشاد، فعليكم أن تخالفوا أهواء نفوسكم وتجانبوا مناها ومشتهياتها، ومع ذلك تضرعوا نحونان وتعوذوا بنا { إنا جعلنا } مقتضى حكتمنا المتقنة { الشياطين أوليآء } مسلطين { للذين لا يؤمنون } [الأعراف: 27] بتوحيدنا واستقلال استيلائنا.
[7.28-31]
{ وإذا فعلوا } أي: هؤلاء الكافرون بوسوسة الشياطين { فاحشة } فعله ذميمة قبيحة متناهية في القبح { قالوا } في الجواب: { وجدنا عليهآ آباءنا } وهم يقولون: { والله أمرنا بها } فيما أنزل علينا على لسان نبينا { قل } يا أكمل الرسل { إن الله } الهادي لعباده { لا يأمر بالفحشآء أتقولون } أيها المفترون { على الله ما لا تعلمون } [الأعراف: 28] لياقته بجنابه.
{ قل أمر ربي } بمقتضى فضله وعدله على من أمر منه خلص عباده { بالقسط } أي: العدل السوي في جميع مأموراته بلا ميل إلى جانبي الإفراط والتفريط { و } عليكم أيها المؤمنون أن { أقيموا } واستقيموام { وجوهكم } التي بها ميلكم وتوجهاتكم نحو الحق بلا ميل إلى ما سواه { عند كل مسجد } ومقام تتذللون فيه وتتوجهون نحوه { و } بالجملة: { ادعوه } وتوجهوا نحوه حال كونكم مستقيمين فيه { مخلصين له الدين } أي: الطاعة والانقياد بلا شوب الغير والسوى مطلقا، واعلموا أيها الأظلال { كما بدأكم } الله أي: أنشأكم وأظهركم من كتم العدم بمد ظله ورش نوره عليكم { تعودون } [الأعراف: 29] إليه بقبض الظل وطيه في نشأتكم الأولى.
{ فريقا } منكم { هدى } بتوفيق الله إلى مبدئه ومعاده { وفريقا } ضل وغوى لذلك { حق } وثبت { عليهم الضلالة } في مكمن القضاء، وكيف لا يحقيهم ويحيط بهم الضلالة { إنهم } من غاية غفلتهم { اتخذوا الشياطين أوليآء } آلهة { من دون الله } المتوحد بذاته { ويحسبون } بسبب هذا الاتخاذ { أنهم مهتدون } [الأعراف: 30] إلى طريق النجاة بل ضالون تائهون.
{ يابني ءادم } المجبولين على زي التقوى ولباس السلامة { خذوا زينتكم } التي زينكم الله بها من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات { عند كل مسجد } ومقام تميلون فيه نحو الحق وجوهكم التي يلي الحق { و } لا تهملوا أمر مراكبكم التي هي نفوسكم وهوياتكم؛ لئلا تبطلوا صنع الله ولا تخربوا بيته، بل { كلوا } مقدار سد الجوعة { واشربوا } قدر دفع العطشة { ولا تسرفوا } فيهما إلى حيث يؤدي إلى تقوية القوى البهيمية { إنه } سبحانه { لا يحب المسرفين } [الأعراف: 31] ولا يرضى عن فعلهم لإخلائهم بإسراف الأكل والشرب على الميل الذي جبلوا لأجله؛ إذ الشبع يميت القلب وينقص الغريزة الإنسانية، ويزيد القوى البهيمية.
[7.32-35]
{ قل } يا أكمل الرسل للمحجوبين من أهل المظاهر المحرومين عن الرزق المعنوي، المحرومين عن التوجه نحو التوحيد في هذه النشأة: { من حرم زينة الله التي أخرج } وأظهر { لعباده } الخلص من ذرائر الكائنات بتجليات الأسماء والصفات { والطيبات من الرزق } المعنوي والمستلذات الروحانية { قل } لهم: { هي } حاصلة { للذين آمنوا } بالتوحيد الإلهي { في الحياة الدنيا } والنشأة الأولى حال كونهم مشوبة بالقوى البشرية والكدورات البهيمية { خالصة } لهم { يوم القيامة } بلا شوب كدورة حين انخلعوا من جلباب الهويات الباطلة والتعيينات العاطلة { كذلك نفصل الآيات } الدالة على توحيدنا { لقوم يعلمون } [الأعراف: 32] يذعنون بالإيمان وتوجهون نحو الكشف والعيان .
{ قل } يا أكمل الرسل المولي لتدبير مصالح العباد: { إنما حرم ربي الفواحش } القبائح الصادرة من أولي الأحلام السخيفة { ما ظهر منها } من الظلم وشهادة الزور ورمي المحصن والغيبة والنميمة، وغيرها من القبائح التي ظهرت من الألسنة والأيدي { وما بطن } من القبائح التي صدرت من الفروج { و } بالجملة: كل ما يوجب { الإثم } المستلزم للانتقام والعقاب { والبغي } أي: الحروب على الولاة وجمهور المسلمين { بغير الحق } بلا رخصة شرعية { و } أعظم المحرمات جرما وأشدها انتقاما { أن تشركوا بالله } المتوحد بذاته { ما } أي: شيئا من مصنوعاته مع أنه { لم ينزل به سلطانا } حجة وبرهانا { وأن تقولوا على الله } افتراء ومراء { ما لا تعلمون } [الأعراف: 33] له، لا عقلا ولا نقلا.
{ و } اعلموا أن { لكل أمة } من الأمم العاصية الضالة { أجل } مقدر من عند الله لمقتهم وهلاكهم { فإذا جآء أجلهم } المقدر المبرم { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [الأعراف: 34] أي: لا يسع لهم فيه طلب التأخير على مقتضى أهويتهم ولا طلب التقديم تخليصا لنفوسهم من الأذى، بل أمرهم حتم نازل في وقته وحينه بلا تخلل تقدم وتأخير؛ لكمال قدرته ومتانة حكمته.
{ يابني ءادم } المستكملين القابلين للإرشاد والتكميل المستعدين لفيضان كمال التوحيد { إما يأتينكم } أي: أن يأتينكم ويرسلن إليكم { رسل منكم } من جنسكم وبني نوعكم؛ إذ هم أدخل لنصحكم وإرشادكم وأنسب لجذب قلوبكم، وأشفق عليكم من الأجانب حال كونهم { يقصون عليكم آياتي } المنزلة من عندي، الدالة على وحدة ذاتي فعليكم أن تصدقوهم ونؤمنوا لهم وبما جاءوا به من عندي من الأوامر والنواهي { فمن اتقى } منكم عن محارم الله بواسطة رسله وآياته { وأصلح } أي: أخلص أعماله لله بلا ترقب على الجزاء { فلا خوف عليهم } لا في النشأة الأولى ولا في الأخرى { ولا هم يحزنون } [الأعراف: 35] عن سوء المنقلب والمثوى.
[7.36-38]
{ والذين كذبوا بآيتنا } المنزلة على رسلنا { واستكبروا عنهآ } وعمن أنزلت عليه عتوا وعنادا { أولئك } المكذبون المستكبرون { أصحب النار } المعدة لجزاء المخذولين من أهل الضلال { هم فيها خلدون } [الأعراف: 36] لا نجاة لهم منها أصلا:.
نعوذ بك من سخطك يا ذا القوة المتين.
وبعدما أرسل الرسل وأنزل الكتب { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي: نسب إليه ما لم يصدر عنه افتراء وكذبا { أو كذب بآياته } الصادرة عنه عنادا ومكابرة { أولئك } المفترون المكذبون { ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي: مما كتب في اللوح وثبت فيه من العذاب والنكال لذوي الجرائم العظام { حتى إذا جآءتهم رسلنا } أي: ملائكتنا الموكلون { يتوفونهم } لتوفية حساب العصاة { قالوا } أي: الملائكة لهم توبيخا وتقريعا: { أين ما كنتم تدعون } وتعبدون { من دون الله } من الآلهة الباطلة وتعتقدونهم شفعاء { قالوا } متضرعين مضطرين { ضلوا عنا } أي: غابوا عنا بعدما أضلونا عن طريق الحق { وشهدوا } واعترفوا { على أنفسهم أنهم كانوا } في مدة حياتهم { كافرين } [الأعراف: 37] ضالين.
{ قال } سبحانه من وراء سرادقات العز والجلال على مقتضى عدله: { ادخلوا } أيها الضالون المكذبون { في } زمرة { أمم } عاصية كافرة { قد خلت } مضت { من قبلكم } على الكفر والضلال أمثالكم { من الجن والإنس في النار } المعدة لجزاء العصاة الغواة الكفرة، وبعد صدرو الأمر الوجوبي منه سبحانه صاروا بحث { كلما دخلت أمة } في نار الخذلان { لعنت أختها } التي أضلتها { حتى إذا اداركوا } وتلاحقوا { فيها جميعا } مجتمعين { قالت أخراهم } أي: مستأخرهم { لأولاهم } أي: لأجل مستقدميهم وفي حقهم، متضرعين إلى ربهم: { ربنا هؤلاء } الضالون المضلون { أضلونا } عن طريقك بوضع سنن الضلال بيننا فاقتيدنا بهم، فضللنا { فآتهم } الآن وأنزل عليهم { عذابا ضعفا من النار } أي: مثل عذابنا؛ لأنهم ضالون مضلون { قال } سبحانه على مقتضى عدله: { لكل } منكم أيها الأتباع ومن متبوعيكم { ضعف } من النار، أما المتبوعون فلضلالهم وإضلالهم، وأما التابعون فلضلالهم وتقليدهم بهؤلاء المضلين لا بالأنبياء { ولكن لا تعلمون } [الأعراف: 38] استحقاقكم واستحقاقهم.
[7.39-41]
{ و } بعدما سمعت الأولى من الأخرى ما سمعت { قالت أولاهم لأخراهم } إنا وأنتم مساوون في الضلال { فما كان لكم علينا من فضل } تستحقون به تخفيف العذاب { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } [الأعراف: 39] كما نذوق بما نكسب.
ثم قال سبحانه: { إن الذين كذبوا بآيتنا } الدالة على توحيدنا { واستكبروا عنها } ولم يؤمنوا لها عتوا وعنادا { لا تفتح لهم أبواب السمآء } أي: الفيوضات والفتوحات من سماء الأسماء والصفات حتى ينكشفوا بوحدة الذات { ولا يدخلون الجنة } أي: مقر التوحيد { حتى يلج الجمل في سم الخياط } أي: دخولهم في مقر التوحيد في الاستحالة كولوج الجمل في سم الخياط بل أشد استحالة، هذا مثل يضرب في الممتنعات والمستحيلات { وكذلك نجزي المجرمين } [الأعراف: 40] المخرجين عن ساحة عز التوحيد بجرائم أهوية هوايتهم الباطلة.
{ لهم من جهنم } الإمكان { مهاد } فراش يحترقون عليه بنيران الأمنية الأهوية الفاسدة { ومن فوقهم غواش } أغطية من سعير الجاه والمال ودعوى الفضل والكمال { وكذلك نجزي الظالمين } [الأعراف: 41] المتجاوزين عن حدود الله بمقتضيات نفوسهم المنغمسة في اللذات الحسية والوهمية والخيالية.
[7.42-43]
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد: { والذين آمنوا } بتوحيد الله { وعملوا الصالحات } المقربة نحوه على مقتضى استعداداتهم وقابليتهم ومقدار وسعهم وطاقتهم؛ إذ { لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك } السعداء الباذلون جهدهم في سلوك طريق الفناء { أصحاب الجنة } المعدة لأرباب الولاء، المتمكنون في مقام الرضا بما جرى عليهم ن القضاء { هم فيها خالدون } [الأعراف: 42] ما شاء الله؛ إذ لا حول ولا قوة فيها إلا بالله.
{ و } بعدما دخلوا جنة التوحيد { نزعنا ما في صدورهم من غل } مشعر بالاثنينية والأنانية؛ إذ { تجري من تحتهم الأنهر } أي: جداول المعارف والحقائق المتشرحة من بحر الوحدة { و } بعدما كوشفوا بفناء تعيناتهم وفازوا بالبقاء السرمي الإلهي { قالوا } بلسان استعداداتهم بإلقاء الله إياهم ليتحققوا بمقام الشكر: { الحمد } والثناء المنبعث من محض التسليم والرضا { لله الذي هدانا لهذا } أي: أوصلنا بمقام الرضا وشرف البقاء واللقاء { وما كنا لنهتدي } بأنفسنا لو بقينا في مجلس هوياتنا ومضيق تعيناتنا { لولا أن هدانا الله } بلطفه وسعة جوده ورحمته، وحين تمكنوا في مقام الكشف والشهود أقسموا بالله { لقد جآءت رسل ربنا } لإرشادنا ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع في جميع ما جاءوا به { و } بعدما تحققوا بمقام الشكر واعترفوا بما اعترفوا { نودوا } من وراء سرادقات العز ولاجلاء: { أن تلكم الجنة } أي: التوحيد الذاتي { أورثتموها } أعطيتم بها ومكنتم فيها { بما كنتم تعملون } [الأعراف: 43] بمقتضى أوامر الله ونواهيه وإرشاد رسله وتذكير كتبه.
[7.44-47]
{ و } بعدما تمكن أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار { نادى أصحاب الجنة أصحاب النار } ليفتضحوا على رءوس الأشهاد: { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا } من المواعيد والتبشيرات على ألسنة الرسل وكتبه { حقا } يقينا بعدما تيقناه علما وعينا فيما مضى { فهل وجدتم } أيها المحبوسون في سجن الإمكان ونار الحرمان { ما وعد ربكم } من الوعيد والإنذارات الشديدة الجارية على ألسنة الرسل والكتب { حقا } مطابقا للواقع { قالوا } متحسرين بحالهم مضطرين عما هم عليهم: { نعم } قد أصبنا ما كذبنا وحققنا ما أبطلنا، وبعدما جرى بينهم ما جرى من المقاولة { فأذن } صوت { مؤذن } هاتف وراء سرادقات الجلال { بينهم أن لعنة الله } أي: طرده ومقته نازل ثابت { على الظالمين } [الأعراف: 44].
{ الذين يصدون } يتصرفون وينحرفون { عن } استقامة { سبيل الله } الموصل إلى توحيده { ويبغونها عوجا } أي: يطلبون منها زيفا وضلالا { وهم بالآخرة كافرون } [الأعراف: 45] مكذبون منكرون.
{ وبينهما } أي: بين الموحدين المتمكنين في نعيم الجنان، المشرفين بشرف لقاء الرحمن، والمشركين المحبوسين في سجين الإمكان، المتحرقين بنيران الخذلان والحرمان { حجاب } لا يدرك كنهه إلا العليم العلام { وعلى الأعراف } أي: البرزخ { رجال } من الأبرار { يعرفون كلا } من الفريقين { بسيماهم } أي: بوجوههم التي يلي الحق والباطل وهم متقربون في البرزخ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء { ونادوا } أهل البرزخ { أصحاب الجنة أن سلام عليكم } هنيئا لكم، ما تتنعمون فيها وتتمتعون بها حال كونهم { لم يدخلوها وهم يطمعون } [الأعراف: 46] دخولها من فضل الله وسعة رحمته وجوده.
{ وإذا صرفت أبصارهم } أي: أبصروا بذلك البرزخ { تلقآء أصحاب النار قالوا } متضرعين متخشعين: { ربنا } وإن صدر عنا من التقصير ما صدر { لا تجعلنا } بلطفك { مع القوم الظالمين } [الأعراف: 47] الخارجين عن حدودك مطلقا عنادا وإصرارا.
[7.48-51]
{ ونادى أصحاب الأعراف } على وجه التوبيخ والتقريع { رجالا } من صناديدهم كانوا { يعرفونهم بسيماهم } بوجوههم الباطلة من المال والجاه والرئاسة والتفوق وغيرها { قالوا } لهم متهكمين: { مآ أغنى عنكم جمعكم } أي: ما أسقط جمعكم المال وجمعيتكم بسببب الجاه شيئا من عذاب الله { وما كنتم تستكبرون } [الأعراف: 48] أي: ما يفيد لكم استكباركم على خلق الله وعن آياته اليوم؟!
انظروا أيها الحمقى { أهؤلاء } المترفهون المتنعمون في مقر العز والتمكن هم { الذين أقسمتم } في النشأة الأولى أنهم { لا ينالهم الله برحمة } في النشأة الأخرى، كيف قبل لهم من قبل الحق تفضلا وامتنانا عليهم: { ادخلوا الجنة } التي هي دار الأمن والأمان { لا خوف عليكم } بعدما دخلتم فيها { ولا أنتم تحزنون } [الأعراف: 49] أصلا من فوت شيء وتعويقه.
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } متمنين منهم متحسرين: { أن أفيضوا } صبوا { علينا } رشحة { من المآء } الذي هو سبب حياتكم الحقيقي وبقائكم السرمدي { أو مما رزقكم الله } من الرزق المعنوي { قالوا } في جوابهم بإلهام الله إياهم: { إن الله } المطلع الاستعدادات عباده { حرمهما على الكافرين } [الأعراف: 50].
{ الذين اتخذوا دينهم } الذي هو سبب الحياة الحقيقية في حياتهم الصورية ونشأتهم الدنيوية { لهوا ولعبا } يلهون ويلعبون به ويكذبون من أرسل إليهم وأنزل عليهم الكتب لتبيينه { و } ما ذلك إلا أن { غرتهم الحيوة الدنيا } بمزخرفاتها من اللذات الجسمانية والشهوات النفسانية، وصاروا بسبب تغريراتها ناسين العهود والمواثيق التي جرت بيننا وبينهم في بدء فطرتهم { فاليوم } أي: حين كشف السرائر وارتفعت الحجب { ننسهم } ولم نلتفت نحوهم { كما نسوا } في النشأة الأولى { لقآء يومهم هذا } في النشاة الأخرى مع ورود الإنذارات التخويفات الجارية على ألسنة الرسل و الكتب { وما } أي: وكما { كانوا بآيتنا } الدالة على أمثال هذه الإنعامات { يجحدون } [الأعراف: 51] ينكرون ويصرون كذلك يخدلون في النار وينسون.
[7.52-53]
{ و } كيف لا يخلدون في النار { لقد جئناهم بكتاب } مبين لجميع أحوال النشأتين { فصلناه } أي: أوضحنا معانيه وبينا ما فيه من العقائد والأحكام مفصلا { على علم } حضوري منا متعلق بتفصيله بحيث لا يشذ عن علمنا شيء أصلا، وإنما فصلناه وأوضحناه وجئنا به؛ ليكن { هدى } هاديا ومرشدا لهم إلى توحيدنا { ورحمة } مخلصة لهم عن سجين الطبيعة { لقوم يؤمنون } [الأعراف: 52] به وبحقيقته.
وبعدما آمنوا به وبما فيه من أحوال النشأة الأولى والأخرى { هل ينظرون } أي: ما ينتظرون هؤلاء المؤمنون { إلا تأويله } أي: ما يؤول إليه ويترتب عليه بعدما حصل لهم الإذعان بالوقوع { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه } ونبذوه وراء ظهورهم { من قبل قد جآءت رسل ربنا } ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع فكذبناهم مكابرة وعنادا { فهل لنا } اليوم { من شفعآء فيشفعوا لنآ } ليخلصونا من نكال ما أجرمنا { أو نرد } بشفاعتهم على أعقابنا { فنعمل غير الذي كنا نعمل } في أيام الغفلة، وهم { قد خسروا أنفسهم } بالكفر والشرك وعبادة الغير { و } مع ذلك { ضل } غاب وخفي { عنهم } لدى الحاجة { ما كانوا يفترون } [الأعراف: 53] لشركائهم من الشفاعة المظاهرة.
[7.54-56]
وكيف لا تتنبهون وتنكشفون أيها المجبولون على فطرة التوحيد ومن الذات المستجلي في الآفاق بالاستقلال { إن ربكم الله الذي خلق } وأظهر وأوجد { السموت والأرض } وما بينهما من كتم العدم بامتداد أظلال أوصافه وأسمائه عليها { في ستة أيام } أوقات ودفعات ليشير إلى إحاطته بالجهات كلها { ثم استوى على العرش } أي: على عروش المظاهر والمكونات الكائنة والأقطار، منزها عن الجهات والاستواء والاستقرار والتمكن مطلقا، ورتب أمور المكونات على حركات الأفلاك بحيث { يغشي اليل النهار } أي: يغطي بالليل وجه النهار مع أن النهار { يطلبه } أي: بعقبه { حثيثا } سريعا { و } جعل { الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } يتحركن حيث أمرها الحق سبحانه { ألا } تنبهوا أيها الأظلال الهالكة والعكوس المستهلكة أن { له } سبحانه وفي قبضة قدرته { الخلق } والإيجاد والإظهار { والأمر } أي: التدبير والتصرف بالاستقلال، وبالجملة: { تبارك الله رب العالمين } [الأعراف: 54] أي: تعاظم في ألوهيته عن أن يدركه العقول والأفهام، وتعالى في ربوبيته عن المظاهرة والمشاركة والأمثال والأشباه.
{ ادعوا } أيها المجبولون على فطرة التوحيد { ربكم } المتفرد بتربيتكم وإظهاركم { تضرعا } متضرعين { وخفية } كاتمين خائفين خاشعين عن ظهر القلب لا مقلقلين على طرف اللسان عادين { إنه لا يحب المعتدين } [الأعراف: 55] المجاوزين المجاهرين الملحين في الدعاء؛ إذ علمه بحالهم يغني عن سؤالهم.
{ و } عليكم أن { لا تفسدوا في الأرض } التي هي محل الكون والفساد { بعد إصلاحها } بإرسال الرسل وإنزال الكتب { وادعوه } سبحانه إن أردتم الالتجاء إليه والمناجاة معه { خوفا وطمعا } أي: خائفين من رده بمقتضى قهره وانتقامه، راجعين قبوله من فضله وإحسانه { إن رحمت الله } المجيب للمضطرين عناية ولطفا { قريب من المحسنين } [الأعراف: 56] الذين يعبدمن الله كأنهم يرونه، ويقومون بين يديه خائفا مستحييا من سطوة سلطته وقهره وجلاله، طامعا راجيا من طوله ونواله.
[7.57-58]
{ و } كيف لا يكون رحمته قريبة من المؤمنين المحسنين { هو الذي يرسل الرياح } أي: يثيرها { بشرا } مبشرات { بين يدي رحمته } قدام روحه ورحمته { حتى إذآ أقلت } حملت وأثقلت وجمعت من البخارات المتراكمة { سحابا } غليظا { ثقالا } بالأجزاء المائية { سقناه } من غاية لطفنا { لبلد ميت } يابس لأجل إحيائه ونضارته { فأنزلنا به } أي: بالبلد الميت { المآء } المحيي { فأخرجنا به } أي: بالماء { من كل الثمرات } أي: أنواعها وأجناسها المختلفة بالألوان والطعوم { كذلك } أي: مثل إخراجنا بالماء الصوري أنواع الثمرات من البلد الميت، نخرج بالماء المعنوي الذي هو العلم اللدني من أراضي القابليات واستعدادات الموتى المحجوبين بالحجاب الظلماني والجهل الجبلي الهيولاني، بإرسال رياح أنفاس الأنبياء والأولياء المستنشقة من النفس الرحماني، مبشرات بالكشوف والمشاهدات حتى إذا اجتمعت صارت سحابا شرعيا ثقيلا بمياه الحكمة والتقوى، سقناه من غاية جودنا إلى بلاد النفوس الميتة اليابسة، فأجرينا فيها أنهار المعارف والحقائق المنتشئة من قلوب الأنبياء والأولياء، فأخرجنا به ثمرات اليقين العلمي والعيني والحقي { نخرج الموتى } في النشأة الأخرى { لعلكم تذكرون } [الأعراف: 57] فتعرفون قدرتنا على جميع مقدوراتنا ومراداتنا.
{ و } بعد سوقنا مياه جودنا إلى أموات { البلد الطيب } الذي هو نجيب المنبت، لطيف الطينة، قابل التربية { يخرج نباته بإذن ربه } أي: بتوفيقه سبحانه وتربيته جيدا نافعا كثيرا على مقتضى استعداده الفطري { و } البلد { الذي خبث } طينته وقل قابليته كالحرة والسبخة { لا يخرج } نباته بد إجراء المياه اللطيفة عليه { إلا نكدا } قليلا غير نافع، بل ضار كالنفوس المنهمكة في الغفلة والضلال إلى حيث لا يؤثر فيها مياه الحكم والمعارف الجارية على ألسنة الرسل؛ لخباثة طينتها وقلة قابليتها { كذلك نصرف } نردد ونكرر { الآيات } الدالة على استقلالنا في ملكنا وملكوتنا { لقوم يشكرون } [الأعراف: 58] نعمتنا ويتفكرون في آلائنا، ويعتبرون بها إلى أن يستغرقوا في مطالعة جمالنا.
[7.59-64]
ثم أشار سبحانه إلى تفاوت الاستعدادات واختلاف القالبليات بتفصيل الأمم الهالكة بموت العناد والجهل لخبث طينتهم، فقال مقسما: والله { لقد أرسلنا } رسولنا { نوحا إلى قومه } بعدما انصروا وانحرفو عن طريق الحق بالميل إلى الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة { فقال } لهم نوح إمحاضا للنصح على وجه الشفقة: { ياقوم اعبدوا } أيها المنهمكون في الغفلة { الله } المتوحد في الألوهية، المتفرد في الربوبية، المستحق للعبودية، واعلموا أنه { ما لكم من إله } معبود بحق { غيره } يقذكم من عذابه، وإن لم تعبدوه وتوحدوه { إني } بعدما أوحي إلي من عنده إهداءكم وتنبيهكم إلى توحيده { أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [الأعراف: 59] هو يوم الطوفان في النشأة الأولى ويوم القيامة في النشأة الأخرى.
وبعدما سمعوا مقالته { قال الملأ } الأشراف { من قومه }: يا نوح { إنا لنراك في ضلال مبين } [الأعراف: 60] ظاهر لائح، تأمرنا بترك عبادة الآلهة المحققة وتدعوناإلى إله واحد موهوم وأبدعته من عند نفسك.
{ قال } أيضا على مقتضى شفقة النبوة لعلهم يتنبهوا: { يقوم ليس بي ضللة } كما تخليتم من جهلكم { ولكني رسول } هاد لكم مرسل { من رب العلمين } [الأعراف: 61] الذي أوجدكم ورباكم بأنواع التربية؛ حتى تعترفوا بربوبيته وتقروا بتوحيده.
وإنما جئت لكم { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } بآياته سبحانه؛ حتى تفوزوا من عنده بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا بإهدائي وإرشادي { و } لا تضعفوني ولا تنسبوني إلى الجهل والسفه، إني { أعلم من الله } بتوفيقه وحيه وجذب من جانبه { ما لا تعلمون } [الأعراف: 62].
{ أو عجبتم } من { أن جآءكم ذكر } موعظة وتذكير لإرشادكم { من ربكم على } لسان { رجل منكم لينذركم } به عن الكفر والمعاصي ووخامة عاقبتهما { ولتتقوا } عن محارم الله بسبب إنذاره وتخويفه { ولعلكم ترحمون } [الأعراف: 63] بإثبات مأموراته وترك منهياته؛ عناية وتفضلا.
{ فكذبوه } بعدما ضعفوه ونسبوه إلى الضلال، فانتقمنا منهم وأخذناهم بالطوفان { فأنجيناه و } المؤمنين { الذين معه } حال كونهم متمكنين { في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ } المنزلة على رسولنا { إنهم كانوا قوما عمين } [الأعراف: 64] غير مستبصرين بآيات الله الدالة على توحيده؛ لعمي قلوبهم وفسادهم وعمههم في الغفلة الضلال.
[7.65-68]
{ و } أرسلنا أيضا { إلى } قوم { عاد } حين خرجوا عن ربقة الإيمان وعرى التقوى { أخاهم هودا } أضافه إليهم بالأخوة؛ لكمال الشفقة ووفور الأعطاف { قال } مناديا لهم مضيفا لهم إلى نفسه؛ ليقبلوا قوله ويمتثلوا بما جاء به من ربه: { ياقوم اعبدوا الله } المظهر الموجد لكم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم، واعتقدوا يقينا أنه { ما لكم من إله } موجد مرب { غيره } فعليكم أن تعبدون إيمانا به وعملا بما جاء عنده لأنبيائه حتى يتحققوا بمقر التوحيد، أتنكرون وحدة الحق وتعبدون غيره من الآلهة الباطلة { أفلا تتقون } [الأعراف: 65] عن بشطه وأخذه؟!
فلما سمعوا منه ما سمعوا { قال } الأشراف { الملأ الذين كفروا من قومه } - إذ بعض الأشراف آمن به كمرثد بن سعد -: { إنا لنراك في سفاهة } عظيمة في دعوة الإرشاد والتكميل { وإنا لنظنك } في ادعاء الرسالة والنبوة { من الكاذبين } [الأعراف: 66].
{ قال يقوم } لا ستفهوني؛ إذ { ليس بي سفاهة ولكني رسول } أرسل إ ليكم لإهدائكم { من رب العلمين } [الأعراف: 67].
جئتكم { أبلغكم رسلت ربي وأنا لكم ناصح أمين } [الأعراف: 68] فعليكم أن تتعظوا بنصحي وتتصفوا بما نصحت لكم بإلهام الله ووحيه لتكونوا من زمرة المؤمنين الموقنين.
[7.69-70]
{ أ } أنكرتم وكذبتم أمري وأهدائي { و عجبتم } من انهماككم في الغي والضلال من { أن جآءكم } لإصلاح حالكم { ذكر } عظمة وتذكير { من ربكم على رجل منكم لينذركم } عما يضلكم ويغويكم تفضلا وامتنانا عليكم؟ { و } لا تستبعدوا من الله أمثال هذا ولا تنكروها، بل { اذكروا } نعمه عليكم { إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح } وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم { وزادكم } بسببها { في الخلق بصطة } تفوقا واستعلاء { فاذكروا } أيها المترفهون بنعم الله { ءالآء الله } الفائضة عليكم واشكروا لها { لعلكم تفلحون } [الأعراف: 69] تفوزون من عنده بشرف الرضا والتسليم.
ثم لما بالغ في نصحهم وإرشادهم وبذل جهده في أداء الرسالة والتبليغ { قالوا } في جوابه من غاية قسوتهم ونهاية حميتهم مستفهما مقرعا: { أجئتنا } أيها الكذاب السفيه { لنعبد الله } الذي ادعيت أنت أنه { وحده } لا شريك له ولا إله سواه { ونذر ما كان يعبد آباؤنا } من الآلهة، فاذهب أنت وإلهك إذ لا نؤمن بك وبه أصلا، وإن شئت { فأتنا بما تعدنآ } من العذاب والنكال { إن كنت من الصادقين } [الأعراف : 70] في دعواك.
[7.71-72]
ثم لما أيس هو من هدايتهم وصلاحهم { قال قد وقع } وجب وحق { عليكم من ربكم رجس } عذاب شديد تضطرون به { وغضب } نازل من عنده بحيث يستأصلكم بالمرة { أتجدلونني } أيها المغضوبون بغضب الله { في أسمآء } أشياء { سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } من تلقاء أنفسكم آلهة تعبدونها كعبادة الله مع أنه { ما نزل الله بها من سلطان } حجة وبرهان تستدلون بها على عبادة هؤلاء التماثيل العاطلة والمفتريات الباطلة وبعدما ظهر الحق فلم تقبلوا أيها المسرفون { فانتظروا } نزول العذاب { إني معكم من المنتظرين } [الأعراف: 71].
روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام: فلما بعث إليهم هود كذبوه وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا التماثيل العاطلة، فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان من عادتهم إذا نزل عليهم البلاء توجهوا نحو البيت الحرام، وتقربوا عندها وطبوا من الله الفرج: فجهزوا إليها قيل بن عنز، ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم، فلبثوا عنده شهرا، ثم قصدوا البيت ليدعوا.
قال مرثد: والله لا يسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله لأسقيتم، فقالوا لمعاوية: احبس منا مرثدا لا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، فحبسه ثم دخلوا مكة.
فقال قيل: الله اسق ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله سحابات ثلاث: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى مناد من جانب السماء: اختر يا قيل لنفسك ولقومك منها، قال: اخترت السوداء؛ لأنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من وادي المغيث، فاستبشروا بها واستعجلوا لنزولها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، بل ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، فجاءتهم ريح عقيم فأهلكتهم.
{ فأنجيناه } أي: هودا { والذين } آمنوا { معه برحمة } نازلة { منا } لإيمانهم وانقيادهم { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } بأن استأصلناهم { و } هم { ما كانوا مؤمنين } [الأعراف: 72] بنبينا وكتابنا، ولا من شأنهم التصديق.
[7.73-74]
{ و } أرسلنا أيضا { إلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة } معجزة ظاهرة الدلالة على صدقي في دعواي نازلة { من ربكم هذه ناقة الله } أظهرها { لكم آية } دالة على صدقي في قولي { فذروها تأكل في أرض الله } حيث شاءت { و } عليكم أن { لا تمسوها بسوء } وإن آذيتموها بسوء { فيأخذكم عذاب أليم } [الأعراف: 73] مؤلم مفظع مستأصل، فعليكم أن تحفظوها حتى لا ينزل عليكم العذاب.
{ واذكروا } أيها المتنعمون نعم الله عليكم، سيما { إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم في الأرض } مكنكم ووطنكم وكثركم في الأرض التي هم فيها حال { تتخذون من سهولها } لبنا وآجرا، وتبنون { قصورا } عاليات تسكنون فيها مترفهين { وتنحتون } تشقون بالمعاول { الجبال } المتحجرة { بيوتا } لحفظ أمتعتكم { فاذكروا آلآء الله } المترادفة المتوالية عليكم، وقوموا بشكرها؛ ليزيد عليكم سبحانه ويديم لكم { ولا تعثوا } أي: لا تظهروا { في الأرض مفسدين } [الأعراف: 74] بغرور الأموال والأولاد والأمتعة.
[7.75-79]
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا { قال الملأ الذين استكبروا } عن الإيمان والاتباع له { من قومه للذين استضعفوا } غياهم واستذلهم { لمن آمن منهم } على سبيل التهكم والاستهزاء { أتعلمون } يقينا أيها الحمقى المصدقون له المؤمنون { أن صالحا مرسل من ربه } الذي ادعى وحدته واستقلاله في الألوهية والربوبية { قالوا } أي: المؤمنون المخلصون من صفاء عقائدهم ونجاة طينتهم على سبيل التأكيد والمبالغة: { إنا بمآ أرسل } أي: بجميع ما أرسل { به } من عند ربه { مؤمنون } [الأعراف: 75] مصدقون موقنون.
{ قال } الملأ { الذين استكبروا } عنادا ومكابرة: { إنا بالذي آمنتم به } بمتابعة صالح { كافرون } [الأعراف: 76] منكرون مكذبون.
ثم لما كفروا وكذبوا مصرين { فعقروا } أي: نحروا { الناقة } التي هي آية الله عليهم ووديعة الله عندهم، قد أوصاهم سبحانه ألا تمسوها بسوء، وهم قد هلكوها عنادا { وعتوا عن أمر ربهم } استكبارا { وقالوا } لنبيه؛ بطرا واستهزاء: { ياصالح } الكذاب المدعي { ائتنا بما تعدنآ } من العذاب { إن كنت } صدقت أنك { من المرسلين } [الأعراف: 77] فلما فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا استحقوا ما وعدوا وأوعدوا.
{ فأخذتهم الرجفة } الصيحة الهائلة { فأصبحوا في دارهم جاثمين } [الأعراف: 78] أي: صار كل منهم جائما جامدا إلى حيث لا يتحرك منهم أحد.
روي أنهم كانوا في منازل عاد يعيشون فيها متنعمين مترفهين إلى أن كثرهم الله وعمرهم أعمارا طوالا، واقتضى طول أملهم أن نحتوا من الجبال بيوتا يخزنون فيها أمتعتهم ويبنون قصورا عاليات في السهول؛ إذ كانوا في خصب وسعة، فقروا على ما هم عليه وأفسدوا في الأرض بأنواع الفسادات، وبالغوا في عبادة الأصنام، فبعث الله إليهم صالحا وهو من أشرافهم فدعاهم إلى الإيمان والتوحيد، فسألوا منه آية فقال: آية آية تريدون؟
قالوا: أخرج معنا إلى عيدنا، فادع إلهك ندعو إلهنا فمن استجيب اتبع، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم يجابوا، ثم اشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها: الكائبة، وقال لصالح: أخرج من هذه الصخرة ناقة جوفاء وبراء، فإن خرجت صدقناك وآمنا بك.
فأخذ صالح عليه السلام عنهم المواثيق إن أخرجت لتؤمنوا له، فعهدوا، فصلى ودعا ربه فمتخضمت الصخرة تمخص النتوج بولدها، فانصدعت عنه ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون، ثم أنتجت ولدا مثلها في الكبر، فآمن له جندع في جماعة ومنع الباقين دوار بن عمرو، والخباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صمغر كاهنهم، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تتفجج فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم ويدخرون، وكانت تصيف في ظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم، وتشتو في بطنه فتهرب أنعامهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم فهموا بقتلها، وزينت لهم قتلها أم غنم وصدقتها بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها.
فرقى ولدها جبلا اسمه قارة، فرغا ثلاثا، فقال صال عليه السلام: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنك العذاب، فلم يقدروا عليه، وانفتحت الصخرة بعد رغائه فدخلها.
فقال صالح عليه السلام: تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ثم يصحبكم العذاب، فلما رأوا العلامات هموا أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين، ولما كانت ضحوة اليوم الرابع وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقعطت قلوبهم، فهلكوا { فتولى } وأعرض صالح عليه السلام { عنهم } بعدما ظهر عليهم أمارات عذاب الله وعلامات الانتقام { وقال } متحسرا متأسفا حين تجانب عنهم: { يقوم } المبالغين في الإعراض عن الحق { لقد أبلغتكم رسالة ربي } وبذلت جهدي في إهدائكم { ونصحت لكم } إشفاقا عليكم حتى لا يلحقكم العذاب الموعود { ولكن } أنتم قوم مستكبرون في أنفسكم، مصرون معاندون { لا تحبون النصحين } [الأعراف: 79] فلحقكم ما أخاف عليكم بالإعراض عما أمرتم به.
[7.80-84]
{ و } أرسلنا { لوطا } اذكروا { إذ قال لقومه } المبالغين في ارتكاب الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة على وجه التوبيخ والتقريع: { أتأتون } وترتكبون { الفاحشة } المتناهية في القباحة والفضاحة مع أنها { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } [الأعراف: 80] بل أنتم اخترعتموها من خباثة نفوسكم ورداءة طباعكم.
{ إنكم } أيها المتجاوزون عن حدود الله ومقتضى حكمته { لتأتون الرجال شهوة } أي: حال كونكم متلذذين مشتهين لإتيانهم { من دون النسآء } مع أن الحكمة تقتضي إتيانهن، وما هو من جهلكم بقبحها وخباثتها { بل أنتم قوم مسرفون } [الأعراف: 81] في الفساد والخروج عن مقتضى الحكمة الإلهية بمتابعة أهويتكم الباطلة.
{ وما كان جواب قومه } حين سمعوا منه ما سمعوا { إلا أن قالوا } مستكبرين مستنكرين منهمكين: { أخرجوهم من قريتكم } أي: لوطا ومن آمن له { إنهم أناس يتطهرون } [الأعراف: 82] يدعون التطهر عن الخبائث ويجتنبون عن الفواحش، فلا يناسبهم الإقامة فينا.
ثم لما لم يمتنعوا بقوله، بل زادوا الإصرار والعداوة، أخذناهم بظلمهم وإسرافهم { فأنجيناه وأهله } أي: من آمن له مما أصابهم { إلا امرأته } لأنها تسر الكفر؛ لذلك { كانت من الغابرين } [الأعراف: 83] الهالكين بقهر الله.
{ و } بعدما أخذناهم { أمطرنا عليهم مطرا } أي: مطرا وحجارة من سجيل فاستأصلناهم به { فانظر } أيها المعتبر الرائي { كيف كان عاقبة المجرمين } [الأعراف: 84] المصرين على الجرائم العظائم مع إرسال الرسل الهادين لهم إلى طريق الجناة، الزاجرين عما هم عليه من القبائح على أبلغ وجه وآكده.
[7.85-86]
{ و } أيضا أرسلنا { إلى } قوم { مدين } وهم قرية شعيب عليه السلام { أخاهم } وابن عمهم { شعيبا } عليه السلام حين أفرطوا في التطفيف والتخسير { قال } لهم مناديا على وجه الشفقة والنصيحة: { ياقوم اعبدوا الله } المتوحد المستقل في الألوهية، واعلموا أنه { ما لكم من إله } يعبد بالحق { غيره } وأنه { قد جآءتكم بينة } عظيمة { من ربكم } الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم دالة على القسط العدالة في المعاملات الصورية؛ ليفوزوا بها إلى الاعتدال المعنوي والقسط الإلهي { فأوفوا الكيل } أي: وفوا حقه { و } أقيموا { الميزان و } بالجملة: { لا تبخسوا الناس أشياءهم } أي: لا تنقصوا من حقوقهم شيئا { و } عليكم أن { لا تفسدوا } مطلقا { في الأرض } التي وضعت للعدالة والصلاح سيما { بعد إصلاحها } أي: بعد إصلاحنا أمرها بإرسال الرسل وإنزال الكتب { ذلكم } أي: العدل والصلاح وامتثال الأوامر { خير لكم إن كنتم مؤمنين } [الأعراف: 85] موقنين بعدل الله وصراطه المستقيم.
وعليكم أن تتوجهوا نحو طريق الحق بالعزيمة الصحيحة { ولا تقعدوا } أي: لا تترصدوا { بكل صراط } طريق ومذهب من الطرق الباطلة حال كونكم { توعدون } وتخوفون الناس عن سلوك طريق الحق { وتصدون عن سبيل الله } ضعفاء { من آمن به } بإلقاء الشبه والرخص في قلوبهم { و } بالجلمة: { تبغونها عوجا } أي: تطلبون أن تنسبوا عوجا وانحرافا إلى سبيل الحق والطريق المستقيم؛ لينصرف الناس عنه، وعليكم ألا تميلوا عن مخالفة أمر الله ونهيه { واذكروا } نعمه عليكم { إذ كنتم قليلا } عددا وعددا { فكثركم } قؤاكم وأظهركم، واشكروا نعمه عليكم؛ ليدوم وزيد ولا تكفروها { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } [الأعراف: 86] المكفرين لنعم الحق من الأمم الهالكة واعتبروا من حالهم ومآلهم.
[7.87-89]
{ وإن كان طآئفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به } من العدالة الصورية والمعنوية { وطآئفة لم يؤمنوا } عنادا واستكبارا { فاصبروا } وانتظروا { حتى يحكم الله } يمقتضى عدله { بيننا } أي: بين الفريقين بالنصر على من آمن والقهر على من كفر واستكبر { وهو } سبحانه في ذاته { خير الحاكمين } [الأعراف: 87] يحكم بمقتضى حكمته المتقنة المتفرعة على العدالة الحقيقية.
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } على وجه المبالغة والتأكيد وعدم المبالاة: { لنخرجنك } البتة { يشعيب والذين آمنوا معك } وصدقوا قولك { من قريتنآ } كرها وإجلا { أو لتعودن } أنت ومن معك { في ملتنا } التي كنتم عليها من قبل { قال } عليه لسلام مستبعدا مستنكرا: { أولو كنا } في الأيام السالفة أيضا { كارهين } [الأعراف: 88] منكرين ملتكم التي أنتم عليها، فتعيدوننا إليها، وكيف نعود؟!
{ قد افترينا } البتة { على الله كذبا إن عدنا } وصرنا { في ملتكم } سيما { بعد إذ نجانا الله } المنجي لعباده عن ظلمة الكفر { منها } وألهمنا بطلان ما أنتم عليه { و } بالجملة: { ما يكون } يجوز ويصح { لنآ أن نعود } ونرجع { فيهآ إلا أن يشآء الله } عودنا ومصيرنا إليه؛ إذ هو { ربنا } يربينا بلطفه بما هو خير لنا، وإن كان فيها خيرا بعيدنا إليها؛ إذ { وسع ربنا كل شيء علما } تحققا وحضورا لذلك { على الله } لا على غيره من الأسباب { توكلنا } في جميع ما جرى علينا، واتخذناه، وكيلا لجميع أمورنا { ربنا } يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم { افتح } واقض على ما جرى عليه حكمك وقضاؤك { بيننا وبين قومنا بالحق } المطابق للواقع والموافق لما ثبت في لوح القضاء { وأنت خير الفاتحين } [الأعراف: 89] الحاكمين بين ذوي الخصومات.
[7.90-93]
ومن حسن محاورة شعيب عليه السلام مع أمته ومجاملته معه لقب بالخطيب بين الأنبياء.
{ و } بعدما سمعوا منه ما سمعوا { قال الملأ الذين كفروا من قومه } لمتابعيهم ترهيبا وتهديدا على وجه المبالغة والتأكيد: والله { لئن اتبعتم شعيبا } عليه السلام وآمنتم له وسمعتم قوله في ترك البخس والتطفيف { إنكم إذا لخاسرون } [الأعراف: 90] في بضاعتكم ومعاملتكم، ثم لما بالغوا في الضلال والإضلال استحقوا الانتقام والنكال.
{ فأخذتهم الرجفة } والزلزلة الشديدة فخر عليهم سقوف بيوتهمه { فأصبحوا في دارهم } التي يستقرون فيها { جاثمين } [الأعراف: 91] جامدين ميتين.
وبالجملة: { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } أي: استؤصلوا وانقرضوا إلى حيث صاروا كأن لم يسكنوا ولم يكونوا في تلك الديار أصلا، بل الحق إن { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين } [الأعراف: 92] المقصورين على الخسران في النشأة الأولى والأخرى.
{ فتولى عنهم } شعيب عليه السلام بعدما شاهد حالتهم واستحقاقهم للعذاب { وقال } متأسفا متحزنا على مقتضى شفقته، مضيفا لهم إلى نفسه: { يقوم } المنهمكين في الغفلة المبالغين في الإصرار والاستكبار { لقد أبلغتكم رسلت ربي } حتى لا يلحق بكم ما لحق { ونصحت لكم } بإذنه سبحانه وبالغت في نصحي، فلم تقبلوا مني نصحي ولم تصدقوا قولي، ثم كذب هواجس نفسه وأنكر عليها؛ خوفا من غضب الله، فقال: { فكيف ءاسى } أتحزن { على قوم } كانوا { كفرين } [الأعراف: 93] لنعم الحق مكذبين لأوامره مستحقين لما نزل عليها بسوء معاملتهم مع الله بعد ورود ما ورد من الوعد والوعيد؟.
[7.94-98]
ثم لما ذكر سبحانه من أحوال الأمم الماضية الهالكة وقبح صنيعهم مع الله وتكذيبهم كتبه ورسله، سجل عليهم بأن ما لحقهم إنما هو من يسوء صنيعهم وشؤم نفوسهم، فقال: { ومآ أرسلنا في قرية } من القرى الهالكة { من نبي } من الأنبياء { إلا أخذنا } أولا { أهلها بالبأسآء والضرآء } إزالة لقساوتهم وتليينا لقلوبهم { لعلهم يضرعون } [الأعراف: 94] رجاء أن يتضرعوا إلينا ويتوجهوا نحونا.
{ ثم } بعدما ضيقنا عليهم كشفنا عنهم بأن { بدلنا مكان السيئة } المضرة المؤلمة { الحسنة } النافعة المسرة { حتى عفوا } إلى أن كثروا وتكاثروا عدادا وعددا { وقالوا } بعدما صاروا مترفهين في سعة ورخاء مكان شكر وإظهار المنة منا: { قد مس } ولحق { آباءنا } كما لحقنا { الضرآء والسرآء } ومن عادة الزمان وديدنة الدهر تعاقب السراء بالضراء والجدب بالرخاء، ومتى ظهر منهم كفكران النعم وعدم الرجوع إلينا بالشكر { فأخذناهم بغتة } فجأة بلا سبق مقدمة وتقديم أمارة { وهم } حينئذ من غاية عمههم وسكرتهم { لا يشعرون } [الأعراف: 95] نزول العذاب والنكال.
{ ولو أن أهل القرى } الهالكة العاصية { ءامنوا } بالله وبأنبيائه المبعوثين إليهم { واتقوا } عن محارم الله بمقتضى أوامره التي جاءت الأنبياء به { لفتحنا } ووسعنا { عليهم بركت } نازلة { من السمآء و } نابتة من { الأرض ولكن } ومن خبث طينتهم ورداءة فطرتهم { كذبوا } بالله وبأنبيائه وكتبه { فأخذنهم } بعدما أظهروا التكذيب والإنكار { بما كانوا يكسبون } [الأعراف: 96] بأيديهم لأنفسهم، وبالجملة: ما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمونز
{ أفأمن أهل القرى } من انتقامنا وبطشنا إياهم ولم يخافوا { أن يأتيهم بأسنا } عذابنا وعقابنا { بيتا } في أثناء الليل ويحيط بهم { وهم نآئمون } [الأعراف: 97] في مضاجعهم.
{ أو أمن أهل القرى } ولم يترقبوا { أن يأتيهم بأسنا ضحى } في كمال إضاءة اليوم { وهم يلعبون } [الأعراف: 98] بأمور دنياهم على مقتضى مخايلهم ومناهم.
[7.99-102]
وبالجملة: { أفأمنوا } أولئك المنهمكمون في الغفلة { مكر الله } المراقب لجميع أحوالهم، ولم يخافوا ولم يحزنوا من أخذه وانتقامه، ولم يتفطنوا أن من أمن عن مكره وأخذه فقد خسر خسرانا مبينا { فلا يأمن مكر الله } المنتقم المقتدر { إلا القوم الخاسرون } [الأعراف: 99] المقصرون على الخسران الأبدي والشقاق السرمدي في أصل فطرتهم وقابلياتهم.
{ أولم يهد } أي: ألم يذكروا ولم يبين الغيور أحوال الأمم الهالكة، وأخذنا إياهم بما صدر عنهم من تكذيب الأنبياء؟ وما جاءوا به من عندنا من الأوامر والنواهي { للذين يرثون الأرض } خلفا { من بعد أهلهآ } الهالكين بالجرائم المذكورة { أن لو نشآء } بمقتضى قهرنا وجلالنا { أصبناهم } أي: الخلفاء أيضا { بذنوبهم } التي صدرت عنهم مثل أسلافهم، بل بأضعاهم وآلافهم { و } من علامات أخذنا وانتقامنا عنهم: أنا { نطبع } ونختم { على قلوبهم } كيلا يفهموا؛ ليعتبروا { فهم لا يسمعون } [الأعراف: 100] بسبب ذلك حتى يتعظوا به.
وبالجملة: { تلك القرى } الهالكة التي { نقص عليك } يا أكمل الرسل في كتابنا هذا { من } بعض { أنبآئها } قصصها وأخبارها وجرائمها مع الله ورسله { و } الله { لقد جآءتهم رسلهم بالبينت } الواضحة والمعجزات القاطعة الساطعة، وهم من خبث طينتهم وشدة شكيمتهمه وضغينتهم { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } أي: قبل إرسال الرسل عليهم، بل أصروا على ما هم عليه ولم يؤمنوا أصلا، ولم يقبلوا من الرسل جميع ما جاءوا به { كذلك يطبع الله } ويختم سبحانه بمقتضى قهره { على قلوب } جميع { الكفرين } [الأعراف: 101] فلا تعجبل يا أكمل الرسل حال أهل مكة وإصرارهم ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق من مكائدهم؛ إذ هي من الديدنة القديمة والخصلة الذميمة المستمرة بين الكفرة.
{ و } من جملة أخلاقهم الذميمة وخصلتهم القبيحة أيضا: نقض العهد والمواثيق لذلك { ما وجدنا } وصادفنا { لأكثرهم من عهد } أيضا على لسان رسلنا موفين له { وإن وجدنآ أكثرهم لفاسقين } [الأعراف: 102] أي: بل ما وجدنا أكثرهم بعدما عهدناهم إلا فاسقين، ناقضين لعهودنا ومواثيقنا.
[7.103-110]
{ ثم بعثنا من بعدهم } أي: بعد انقراض الغواة الطغاة الهالكين بأنواع العذاب والنكال نبينا { موسى } المخوص بتشريف تكليمنا { بآيتنآ } الدالة على توحيدنا مع تأييدنا إياه بالمعجزات الباهرة { إلى فرعون } المبالغ في العتو والاستكبار إلى حيث يدعي الألوهية والربوبية لنفسه { وملإيه } المعاونين له المصدقين لدعواه الكاذب، وبعدما ادعى النبوة وأظهر الآيات { فظلموا بها } أي: أنكروا بالآيات وكذبوا من جاء بها { فانظر } أيها المعتبر الرائي { كيف كان عقبة المفسدين } [الأعراف: 103] في أرض الله، الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل إذ { قال } حين أراد دعوتهم { موسى يفرعون } المستكبر المتجاوز عن حدود الله، المفسد بين عباده بأنواع الفسادات، المفرد المسرف بدعوى الربوبية { إني رسول من رب العالمين } [الأعراف: 104] اختارني الله واصطفاني لرسالته.
وبعد اختياره سبحانه واجتبائه إياي من بين بريته أنا { حقيق } جدير لائق { على أن لا أقول } وأسند { على الله } من الأقوال والأحكام المواعظ { إلا الحق } الذي علمني ربي وبعثني لأجله وتبليغه لعباده، واعلموا أيها البغاة الطغاة أني { قد جئتكم ببينة } واضحة دالة على صدقي في دعواي، صادرة { من ربكم } الذي أظهركم وأوجدكم من كتم العدم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا { فأرسل } أيها الفرعون الطاغي { معي بني إسرائيل } [الأعراف: 105] المقهورين تحت استيلائك، المظلومين بيدك لرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم وفكك رقابهم، وخل سبيلهم بعدما أمر الحق به وإلا قد نزل عليك وعلى قومك ما أوعدك الحق به من أنواع العذاب في العاجل والآجلز
{ قال } فرعون في جوابه مستكبرا مكذبا، بل منهمكا على سبيل الترفع والخيلاء: لا أفك رقابهم ولا أخلي سبيلهم، بل { إن كنت } أيها المدعي الكاذب { جئت بآية } من عند ربك الذي ادعيت رسالته { فأت بهآ إن كنت من الصادقين } [الأعراف: 106] في الدعوى.
ثم لما سمع موسى قوله وشاهد عتوه واستكباره { فألقى } بإلهام الله إياه { عصاه } من يده على الأرض بين أيديهم { فإذا هي ثعبان } بلا معالجة واستعمال أسباب كما يفعل السحرة { مبين } [الأعراف: 107] عظيم ظاهر بأضعاف مقادر العصا.
روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشقر، فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحاه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون: أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصا.
{ و } بعد ذلك { نزع يده } أي: أدخل بيده في جيبه؛ وكان لون بشرة موسى شديدة الأدمة، ثم نزع { فإذا هي بيضآء } مشرقة مشعشعة محيرة { للناظرين } [الأعراف: 108] مفرقة لأبصارهم من غاية إنارتها وضوئها إلى حث غلب ضوءها ضوء الشمس.
ثم لما شاهدوا من معجزاته وآياتن ما شاهدوا { قال الملأ } الأشراف { من قوم فرعون } متعجبين من أمره مشاورين مع فرعون، حائرين مضطربين، خائفين من استيلائه: { إن هذا لساحر عليم } [الأعراف: 109] متناه في هذا العلم إلى أقصى غايته؛ لذلك ادعى الرسالة عجز الغير عن إتيان مثله.
وبالجملة: { يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } [الأعراف: 110] أيها المتأملون المتفكرون في ضبط المملكة وحفظ البلاد في دفع هذا العدو.
[7.111-116]
وبعدما تشاوروا وتأملوا كثيرا في أمر دفعه، استقر رأيهم وأتفق أمرهم إلى أن { قالوا } مخاطلبين لفرعون: { أرجه وأخاه } أي: أخر وسوف قتلهما؛ لئلا يظهر عجزك عنهما ولا يختل أمر ربوبيتك { وأرسل في المدآئن } التي اشتهرت السحر والسحرة فيها شرطاء { حاشرين } [الأعراف: 111] جامعين من فيها من السحرة.
وبعد جمعهم { يأتوك } ويحضروا عندك { بكل ساحر عليم } [الأعراف: 112] ماهر حاذق في هذا العلم؛ ليتمكنوا على مغالبتهما، فأرسلهم فحشروا وانتخبروا من السحرة من انتخبوا.
{ وجآء السحرة } المنتخبة { فرعون } متظاهرين بطرين، جازيمن على غلبتهما لذلك سألوا أولا الجعل حيث { قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } [الأعراف: 113] وهم وإن كانوا جازمين في نفوسهم الغلبة أتوا بأن المفيدة للشك للمبالغة في طلب الأجر.
{ قال } فرعون: { نعم } إن لكم أجرا كثيرا { و } من الأجر الكثير { إنكم لمن المقربين } [الأعراف: 114] عندي، الحضارين في مجلسي، المصاحبين معي دائما، قاله تحريضا وترغيبا.
وبعدما تقرر عندهم وفي نفوسهم الغلبة، وسمعوا منه ما سمعوا من الإنعام والتقرب { قالوا يموسى } نادوه استحقارا له واستهزاء معه، ومسفها كيف أدقم مع ضعفه في مقابلتهم: { إمآ أن تلقي } أولا ما جئت به { وإمآ أن نكون نحن الملقين } [الأعراف: 115] أوامره ، فلك الخيار؛ إذ الأمر عندنا سواء.
{ قال } موسى بإلهام الله إياه: بل { ألقوا } ما جئتم بإلقائه أيها الساحرون المبطلون { فلمآ ألقوا } أي: أرادوا الإلقاء { سحروا أعين الناس } حتى لا يتخيلوا أنها أمور غير مطابقة للواقع، بل اعتقدوا مطابقتها { واسترهبوهم } أي: بني إسرائيل المنتظرين لغلبة موسى؛ ليخلصوا من يد العدو إرهابا شديدا؛ لأنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا صارت الكل حيات متراكمة متراكبة بعضها فوق بعض { و } بالجملة: { جآءوا بسحر عظيم } [الأعراف: 116] متناه في فنه أقضى غاية.
[7.117-125]
{ و } بعدما جاءوا بسحرهم العظيم { أوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك } فألقاها فصارت ثعبانا عظيما { فإذا هي } أخذت { تلقف } تبتلع وتلتقم { ما يأفكون } [الأعراف: 117] أي: ما يزورونه ويلبسونه سحرا وشعبذة.
وبالجملة: { فوقع الحق } وتحقق الإعجاز { وبطل ما كانوا يعملون } [الأعراف: 118] من السحر والشعبذة في مقابلته.
{ فغلبوا } أي: فرعون وملؤه { هنالك } في المجمع { وانقلبوا } أي: رجعوا منه { صاغرين } [الأعراف: 119] ذليلين محزونين بعدما خرجوا متكبرين مستغلبين.
{ و } بعدما شاهد السحرة من أمر موسى ما شاهدوا، وانكشفوا بحقيته وصدقه بحذب رقيق من جانب الحق، وإلهام تام منه سبحانه { ألقي السحرة ساجدين } [الأعراف: 120] متذللين، واضعين جباههم على تراب المذلة.
وحين سجدوا { قالوا } عن ظهر قلوبهم وكمال قبولهم: { آمنا } آيقنا وتحققنا { برب العالمين } [الأعراف: 121].
{ رب موسى وهارون } [الأعراف: 122] أي: الذي ادعى الرسالة منه، ودعوا الناس إلى الإيمان به والإطاعة له والتوجه نحوه.
ثم لما رأى فرعون سجود السحرة وسمع إيمانهم { قال فرعون } مغاضبا بهم مستفهما على سبي الإنكار والتهديد: { آمنتم به } أي: برب موسى وهارون { قبل أن آذن لكم } أي: قبل أن تشاوروا معي وتعترفوا عندي بغلبتهما عليكم، وقبل أن تستأذنوا مني بالإيمان، فظهر من صنعيكم هذا { إن هذا } أي: أمر موسى وهارون وادعاؤهما النبوة والرسالة { لمكر } حيلة وخديعة { مكرتموه } أنتم وموسى { في المدينة } أي: مصر { لتخرجوا منهآ أهلها } يعني القبط، وتستولوا أنتم وبنو إسرائيل على ملك مصر بهذه الخديعة { فسوف تعلمون } [الأعراف: 123] عاقبة أمركم وخداعكم.
{ لأقطعن } اليوم أولا على رءوس الأشهاد { أيديكم وأرجلكم من خلاف } متبادلتين { ثم لأصلبنكم أجمعين } [الأعراف: 124] زمانا كما يصل البغاة الذين خرجوا على أولي الأمر والإطاعة.
وبعدما سمع السحرة تهديده { قالوا } حين كوشفوا بمآل الأمر وشوهدوا بحقيقة الحال، مستطيبين مستنشطين فرحين: { إنآ } بعد خلاصنا من ربقة ناسوتنا وسلسلة إمكاننا { إلى ربنا } حسب حصة لاهوتنا وحظ وجوبنا { منقلبون } [الأعراف: 125] صائرون، راجعون رجوع الظل إلى ذي الظل.
[7.126-129]
{ وما تنقم منآ } أيها الطاغي المتجبر المتكبر وتنكر عليها { إلا أن آمنا } أيقنا وأذعنا { بآيات ربنا } الذي أظهرنا من كتم العدم، وربانا بأنواع اللطف والكرم { لما } أي: حين { جآءتنا } تلك الآيات، وانكشفنا بحقيتها بتوفيق منه وجذب من جانبه، ولو كوشفت أيضا بما انكشفنا، ارتفع غطاء التعامي وغشاوة الغفلة عن بصرك وبصيرتك، فتشهد بما شهدنا إلا أن الحق سبحانه ختم على قبلك وبصرك وسمعك بالغشاوة الغليظة والحجب الكثيفة؛ لذلك استكبرت واستنكرت، وبالجملة:
من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
ثم انصروا نحو الحق واشتغلوا بالمناجاة معه سبحانه، فقالوا متضرعين: { ربنآ } يا من ربانا بلطفك وكرمك إلى أن جعلتنا من زمرة شهدائك الذين بذلوا مهجهم في سبيلك طائعين راغبين { أفرغ } أفض واصبب { علينا صبرا } من عندك متواليا متتابعا حين اشتغل هذا الطاغي على قضاء ما هددنا به بحيث لا يغيب عنا شوقك، ولا يغلب على قلوبنا ألم ناسوتنا اصلآ { و } حين انقطعت أنفاسنا وخرجت أرواحنا { توفنا مسلمين } [الأعراف: 126] مستقرين على الرضا والتسليم، ثابتين على جادة التوحيد والعرفان بلا تزلزل وتمايل.
ثبت أقدامنا على دينك وتوحيدك يا خير الناصرين.
{ و } بعدما فعل فرعون بالسحرة أنار الله براهينهم ما هددهم به { قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه } يعني: بني إسرائيل { ليفسدوا في الأرض } سيما بعدما انتشر في أقطار الأرض غلبتهما عليك، ويغيروا طباع الناس عنك، ويوقعوا الفتن بين رعايا بلادك { و } بالجملة: أدى أمرهم وإيقاعهم إلى أن { يذرك } أي: كل واحد منهم عبادتك { و } عبادة { آلهتك } التي وضعتها لعبادة عبادك من الأصنام والتماثيل لتتخذوها معبودات وتتوجهوا نحوها { قال } فرعون: لا ندعهم بعد اليوم على ما كانوا عليه من قبل، ولا نستأصلهم أيضا؛ لئلا ينسب الظلم والعجز إلينا، بل نستضعفهم على التدرج { سنقتل } بعد اليوم { أبنآءهم } أي: ذكور أولادهم؛ لئلا يتكثروا { ونستحيي نسآءهم } أي: إناث أولادهم حتى نتزوجهن وينزجروا بلحوق العار، وإذا مضى زمان على هذا انقرضوا واستؤصلوا، وكيف لا نفعل بهم ما نقول { وإنا فوقهم قاهرون } [الأعراف: 127] قادرين غالبون.
وبالجملة: لما فعلنا بهم من قبل فيما مضى، هكذا أيضا الآن حتى لا يتوهم أن موسى هو المولود الذي زعم الكهنة والمنجمون أن ذهاب ملكنا على يده.
ثم لما سمع بنو إسرائيل تهديد فرعون تفزعوا منه وتضجروا، وبثوا الشكوى إلى الله متضرعين { قال موسى لقومه } تسلية لهم وإزالة لضجرتهم: { استعينوا بالله } لدفع مضارهم { واصبروا } على أذاهم ولا تقنطوا من نصر الله وعونه واعلموا { إن الأرض لله } إيجادا وتملكا وتصرفا { يورثها من يشآء من عباده و } بالجملة { العاقبة } الحميدة { للمتقين } [الأعراف: 128] الذين يتقون عن محارم الله، ويصبرون على ما ج اءهم من القضاء.
{ قالوا } يعني: بنو إسرائيل: { أوذينا } من أجلك يا موسى { من قبل أن تأتينا } بالرسالة بقتل الأبناء واستحياء النساء { ومن بعد ما جئتنا } أيضا كذلك { قال } موسى: لا تيأسوا من نصرف الله وإنجاز وعده، بل { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } أي: قرب أمر ربكم وإنجاز وعده بإهلاك عدوكم { و } بعد أهلاكهم { يستخلفكم في الأرض } التي هم فيها { فينظر كيف تعملون } [الأعراف: 129] هل تشكرون نعمه أم تكفرونها أو تعلمون من الصالحات أم تفسدون فيها مثلهم؟.
[7.130-133]
ثم أشار سبحانه إلى إهلاك عدوهم وإنجاز وعده على سبيل التدريج حيث قال: { ولقد أخذنآ آل فرعون بالسنين } أي: بعدما تعلق إرادتنا بأخذهم وإهلاكهم أخذناهم أولا بالقحط وقلة الأقوات والغلات { ونقص من الثمرات } التي يتفكهون بها { لعلهم يذكرون } [الأعراف: 130] أي: يتذكرون أيام الرخاء ويتضرعون نحونا لإعادتها ويصدقون نبينا الذي أرسلنا إلأيهم لدعوتهم إلى توحيدنا.
وهم من شدة قسوتهم وعمههم لا يتعظون بأمثال هذا، بل { فإذا جآءتهم الحسنة } الخصب والرخاء وكل ما يسرهم ويفرع نفوسهم { قالوا } مغالبين: { لنا هذه } أي: لأجلنا وسعادة طالعنا، ونحن مستحقون بها { وإن تصبهم } أحيانا { سيئة } مشقة وعناء وما يشوشهم ويملهم { يطيروا } أي: يتطيروا ويتشاءموا { بموسى ومن } آمن { معه } وقالوا: إنما عرض علينا هذا البلاء بشؤم هؤلاء { ألا } أي: تنبهوا أيها المتنبهون المتوجهون نحو الحق في السراء والضراء { إنما طائرهم } أي: ما يتطيرون به ويتشاءمون بسبه { عند الله } وفي قبضة قدرته ومشيئته؛ إذ له التصرف بالاستقلال في ملكه والقبض والبسط من عنده وبيده، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأعراف: 131] فيرون الأسباب والوسائل في البين ويسندون الحوادث الكائنة إليها عنادا ومكابرة.
{ و } من شدة شكيمتهم وغيظهم وكمال قسوتهم وبغضهم { قالوا } مستهزئين منهمكين { مهما تأتنا به من آية } أي: أي شيء تحضرنا به ليغلب علينا من سحرك الذي سميته آية نازلة { لتسحرنا بها } فأت سريعا إن استطعت { فما نحن لك بمؤمنين } [الأعراف: 132] أي: متى استبطأت وتأخرت.
{ فأرسلنا عليهم } إمدادا لموسى وانتقاما لهم { الطوفان } أي: الماء الذي طاف حولهم ودخل بيوتهم ووصل إلى تراقيهم، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل مع أنها متصلة ببيوتهم ولم يتضرروا - أي: بنو إسرئيل - من الماء أصلا، ثم لما تضرروا واضطربوا وكادوا أن يغرقوا، تضرعوا إلى موسى وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن بك، فدعا فكشف عنهم ونبت من الزرع والكلأ ما لم يعهدوا، فنكثوا عهدهم، ونسبوا دعاءه إلى السحر { و } بعد أرسلنا عليهم { الجراد } فأكلت زروعهم وثمارهم، وأخدت تأكل السقوف والأبواب والثياب، فتضرعوا إلى موسى، فدعا وانكشف وخرج إلى الصحراء مشيرا بعصاه نحو الجراد يمنة ويسرة، فتفرقت إلى النواحي والأقطار فنكثوا.
{ و } أرسلنا بعدها { القمل } دودا أصفر من الجراد، قيل: إنها حدثت من الجراد، فأخذت أيضا تأكل ما بقي من الجراد وتقع في الأطعمة وتدخل بين أثوابهم فتمص دماءهم، ففزعوا إليه فكشف عنهم، فقالوا: علمنا الآن إنك ساحر عليم { و } بعد ذلك أرسلنا { الضفادع } بحيث لا يخلو مكان منه، و تبث إلى قدورهم وأوانيهم وأفواههم حين تكلموا، ففزعوا نحوه معاهدين، فخلصوا بدعائه ثم نقصوا { و } بعد ذلك أرسلنا { الدم } حيث صار المياه كلها عليهم دماء حتى كان القبطي والإسرائيلي يجتمعنا على إناء فيصير ما يلي القبطي دما وما يلي السبطي ماء، ويمص القبطي ماء من فم السبطي فيصير دما.
وإنما أرسلت عليهم هذه البليات لتكون { آيات } آي: دلائل وعلامات دالة على كمال قدرتنا { مفصلات } مبينات واضحات مميزات بين الهداية والضلالة والحق والباطل والرشد والغي { فاستكبروا } عنها مع وضوحها وسطوعها وأعرضوا عن مدلولاتها وأصروا على ما هم عليها { وكانوا قوما مجرمين } [الأعراف: 133] مستحقين بالعذاب والعقاب، فلم ينفعهم الآيات والنذر؛ لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم.
[7.134-137]
{ و } كانوا { لما وقع عليهم الرجز } أي: حين وقع ونزل عليهم البلاء والمصيبة { قالوا } متضرعين متفزعين: { يموسى } الداعي للخلق إلى الحق { ادع لنا ربك } الذي رباك بأنواع الكرامات { بما عهد عندك } من إجابة دعواتك وقبول حاجاتك، و الله { لئن كشفت عنا الرجز } بدعائك { لنؤمنن لك } مصدقين رسالتك ونبوتك { ولنرسلن معك بني إسرآئيل } [الأعراف: 134] بلا ممانعة ولا مماطلة.
{ فلما كشفنا عنهم الرجز } بدعائه { إلى أجل هم بالغوه } عينوه لأيمانهم وإرسالهم حتى يتأملوا ويتفكروا فيها { إذا هم ينكثون } [الأعراف: 135] أي: بعدما وصل وقت الوفاء والإيفاء بالعهود والمواثيق، بادروا إلى النقض والنكث.
ثم لما بالغوا في أمر النقض والنكث وخالفوا أمرنا وكذبوا نبينا { فانتقمنا منهم } أي: أردنا انتقامهم وأخذهم { فأغرقناهم في اليم } أي: البحر العميق لانهماكهم في بحر الغفلة والطغيان { بأنهم كذبوا بآياتنا } الدالة الموصلة إلى توحيدنا الذاتي { وكانوا } بسبب استغراقهم في بحر الغفلة والضلا { عنها غافلين } [الأعراف: 136] محجوبين لا يهتدون بأهداء الرسل والإنبياء.
{ و } بعدما أغرقناهم في يك العدم واستأصلناهم عن فضاء الوجود { أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } بالقهر والغلبة بقتل الأبناء واستحياء النساء { مشارق الأرض } المعهود أي: مصر ومشارقها الشام ونواحيها { ومغاربها } الصعيد ونواحيها { التي باركنا فيها } أي: كثرنا فيهم الخير والبركة وسعة الأرزاق وطيب العيش من جميع الجهات { و } بعدما أورثناهم ما أورثناهم { تمت } أي: كملت وحقت { كلمة ربك الحسنى } يا موسى بإنجاز الوعد والنصر والظفر وإيراث الديار والأموال، وغر ذلك { على بني إسرآئيل بما صبروا } أي: بسبب ما صبروا على أذياتهم المتجاوزرة عن الحد { ودمرنا } أي: هدمنا وخربنا { ما كان يصنع فرعون وقومه } من الأبنية الرفيعة والقصور المشيدة { وما كانوا يعرشون } [الأعراف: 137] عليها متفرقين بطرين كمسرفي زماننا هذا، أحسن الله أحوالهم.
[7.138-140]
ثم أشار إلى قبح صنيع بني إسرائيل وخبث طينتهم وجهلهم المركون في جبلتهم وسخافة طبعهم، وركاكة فطنتهم؛ تسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكيرا للمؤمنين ليحترزوا عن أمثال ما أتوا به، فقال: { وجاوزنا ببني إسرآئيل } أي: عبرناهم سالمين غانمين { البحر } الذي أهل عدوهم { فأتوا } أي: مروا في طريقهم { على قوم } من بقية العمالقة { يعكفون } يعبدون ويقيمون { على أصنام } تماثيل كانت معبودات { لهم } من دون الله.
{ قالوا } من قسوة قلوبهم وضعف يقينهم بالله المنزه عن الأشياء والأمثال { يموسى } المبعوث المرسل إلينا من الله الواحد الأحد { اجعل لنآ إلها } مثالا واحدا مشابها لله نبعده ونتقرب نحوه { كما لهم آلهة } يعبدونها ويتقربون نحوها، ونحن كيف نعبد نتقرب إلى إله موهوم لا نراه ولا نشاهده؟ وكيف نتضرع إليه ونتوجه نحوه ونستحي منه ونخاف عنه؟ ثم لما تفرس منهم موسى ما تفرس من الحجاب الكثيف والغشاوة الغليظة { قال إنكم قوم تجهلون } [الأعراف: 138] تستمرون على جهلكم الجبلي، لم يؤثر فيكم الآيات الكبرى والبراهين العظمى، ولم تتفطنوا بالتوحيد الذاتي مع وضوحه في ذاته سيما بعد الإيضاح بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة.
{ إن هؤلاء } العاكفين الضالين { متبر } مهلك معدوم { ما هم فيه } من عبادة التماثيل الباطلة العاطلة الهالكة في أنفسها، لا وجود لها أصلا { وباطل ما كانوا يعملون } [الأعراف: 139] لها ولأجلها من الأطاعة والانقياد؛ إذ هو إشراك بالله الواجب الوجود، المستقل بالألوهية ما لا وجود له أصلا.
ثم: { قال } موسى متأسفا مقرعا: { أغير الله } الواحد الأحد الصمد، الذي ليس كمثله شيء أصلا { أبغيكم } وأطلب لكم أيها الحمقى العمي، الضالون في تيه الغفلة { إلها } من مصنوعاته يعبد له بالحق ويتقرب إليه { و } الحال إنه { هو } سبحانه { فضلكم على العالمين } [الأعراف: 140] إذ لا مظهر له أكمل منكم، فكيف تعبدون المفضول المرذول، وما عرض عليكم أيها الجاهلون لم تعرفوا مرتبتكم الجامعة الكاملة، وعليكم أن تعدوا نعم الله التي أنعمها عليكم لعلكم تنبهون على توحيد المنعم.
[7.141-142]
{ و } اذكروا { إذ أنجيناكم من آل فرعون } حين { يسومونكم سوء العذاب } أي: يعلمونكم به، وذلك إنهم { يقتلون أبنآءكم } حتى لا تستكثروا وتستظهروا بهم { و } أقبح منه أنهم { يستحيون نسآءكم } ليلحق العار عليكم بتزوجهن بلا نكاح { و } لكم { في ذلكم } المذكور من العذاب { بلاء } اختبار وابتلا { من ربكم عظيم } [الأعراف: 141] فأنجيناكم منه؛ لتقيموا بذكرنا وتواظبوا بشكر نعمنا وتتفطنوا بتوحيدنا واستلائنا، ومع ذلك لم تنتبهوا.
{ و } اذكروا؛ إذ { واعدنا موسى } قبل إهلاكنا فرعون بأن أخلص لنا { ثلاثين ليلة } من ذي القعدة بأن صام فيها وصلى بعد هلاك عدوه، ننزل عليه من عندنا كتابا نبين له فيه التدابير المتعلقة لأمور معاش بني إسرائيل ومعادهم، ثم لما أهلكنا العدو فذهب موسى إلى ميقاتنا إنجازا لوعدنا { و } قبل ما تم المدة المذكورة أنكر خلوف فمه فتسوك قالت الملائكة: كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك لذلك { أتممناها } أي: مدة ميقاتها بأن أمر موسى كفارة لما فوت بالسواك { بعشر } أي: بعشرة أيام من ذي الحجة { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } وبعدما أتمها فأنزلنا إنجازا لوعدنا التوراة المبين لهم الأحكام الدنيوية والأخروية، وذلك من أعظم النعم.
{ و } اذكر أيضا؛ إذ { قال موسى لأخيه هارون اخلفني } عني { في قومي } واذكر لهم مما يتعلق بأمور معاشهم ومعادهم نيابة عني { وأصلح } بينهم، واحفظ عن زيغ أهل الضلال { ولا تتبع } أنت ومن معك { سبيل المفسدين } [الأعراف: 142] الذين يفسدون عقائد ضعفاء الأنام بالتمويهات الباطلة، ومع ذلك اتبعتم السامري من خبث طينتكم.
[7.143-145]
{ و } اذكروا { لما } أي: حين { جآء موسى لميقاتنا } المبعوث إليكم لإصلاح حالكم ليناجي معنا { و } من غاية اللطف والجود { كلمه ربه } أي: كلم معه مرتبته التي حصل له وانكشف بها من الله؛ إذ لكل أحد بل لكل ذرة من ذرائر المظاهر مرتبة خاصة وظن مخصوص بالنسبة إلى الله؛ لذلك قال سبحانه:
" أنا عند ظن عبدي بي ".
وأعلى المراتب وأسناها مرتبة النبوة والرسالة على تفاوت طبقاتها ، ثم الأمثل فالأمثل، كما انبسط موسى وانكشف من ربه بما اكشف، حيث سمع كلامه من جميع الجوانب بلا واسطة ووسيلة من ملك وغيرها، بلا تلفظ وتقطيع حروف، اضطرب ووله ومن غاية ولهه وسكره تسارعه إلى انكشاف أجلى منه { قال } بعد سماع كلامه سبحانه: { رب أرني } يا ربي، فإنك تنزهت عن المقابلة والمحاذاة والمماثلة والمحاكاة، كما أسمعتني كلامك المنزه عن الحروف والأصوات وتقطيع الكلمات { أنظر إليك } ببصري كما سمعت كلامك بسمعي.
{ قال } سبحانه: { لن تراني } يا موسى ما دمت في جلباب تعينك وغشاوة هويتك { ولكن } إن أردت أن تعرف استعدادك لرؤيتي { انظر إلى الجبل } حي تجليت عليه بهويتي المسقطة لهوياتها مطلقا { فإن استقر } وثبت عندك { مكانه } بعدما أتجلى عليه بذاتي، وإن بقي على هويته التي هويته هو فيها قبل التجلي { فسوف تراني } أي: فيمكنك أن تراني لهويتك { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } مدكوكا مفتتا متلاشيا كأن لم يكن أصلا حيث اضمحلت جميع تعيناته الباطلة { و } بعدما رأى الكليم ما رأى { خر } أي: سقط { موسى } بعدما نظر نحوه فلم يره { صعقا } جائزا هائما قلقا مغشيا، كأنه انفصل عن لوازم هويته { فلمآ أفاق } موسى عن ولهه وسكره وانكشف من ربه بما انكشف أنه لا يرى الله إلا الله { قال } مستحييا منيبا خائفا مستنزها: { سبحانك } أن يحيط بك أحد من مصنوعاتك { تبت } ورجعت { إليك } يا ربي بما اجترأت من سؤل ما ليس في وسعي وطاقتي { و } بعدما عرفتك الآن عرفانا أكمل وانكشفت منك يا ربي ما لم انكشف لو من قبل { أنا أول المؤمنين } [الأعراف: 143] الموقنين بعظمتك وجلالك؛ إذ لا اعتداد لإيماني من قبل.
ثم لما استحى موسى من الله وندم عن سؤله بلا استئذان منه سبحانه، تغمم ونحزن من اجترائه بما ليس في وسعه، أزال الله سبحانه ما عرض عليه من الندم والخجل حيث { قال } سبحانه مناديا: { يموسى } المستخلف من عندي { إني اصطفيتك } اخترتك { على الناس برسالاتي } أي: بتحميل أحكامي وأمرامري وتذكيري حتى توصلها إلى عبادي نيابة عني { و } خصصتك من بين الرسل { بكلامي } أي: سماعة بلا كيف ولا حرف، وبلا واسطة ملك وسفير { فخذ مآ آتيتك } تفضلا عليك بقدر وسعك واستعدادك، ولا تبادر إلى سؤل ما لا طاقة لك { وكن من الشاكرين } [الأعراف: 144] لنعمه، واصرفها على الوجه الذي أمرناك به من المصارف ووفقناك عليه ولا تكن من الكفارين لنعمنا، المنصرفين عن أوامرنا وأحكامنا؛ لتفوز منا بالرضا الذي هو أحسن أحوال أرباب الكشف والشهود.
{ وكتبنا } من جملة اصطفائنا وإنعامنا إياه إنا كتبنا { له } أي: أثبتنا لأجل تربيته وإرشاده { في الألواح } أي: ألواح التوراة { من كل شيء } يتعلق بتهذيب الظهر والباطن { موعظة } تذكره وتبيانا يتعظ بها هو ومن تبعة { وتفصيلا } توضيحا وتبيينا متعلقا { لكل شيء } أي: لكل حكم من الأحكام المتعلقة بأمور معاشهم { فخذها } أي: فقلنا له: خذها أيها الداعي للخلق إلى الحق { بقوة } عزيمة صادقة وجزم خالص { وأمر قومك } أيضا { يأخذوا بأحسنها } يعني: بعزائمها دون رخصها حتى تستعد نفوسهم لأن يفيض عليها من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات التي هي عبارة ع الجنة المأوى والمرتبة العليا عند العارف، ولا تميلوا عنها وعن أحكامها حتى لا يلحقوا بزمرة الفساق المنحطين عن مرتبة الإنسانية { سأوريكم } في النشأة الأخرى أيها المائلون عن مقتضى الأحكام الإلهية التي هي صراط الله الأقوم { دار الفاسقين } [الأعراف: 145] التي هي جهنم الحرمان وجحيم الخذلان.
[7.146-147]
ثم قال سبحانه: { سأصرف } أي: أميل وأغفل { عن آياتي } الظاهرة في الآفاق والأنفس الدالة على توحيدي واستقلالي في التصرفات الكائنة في الآفاق، القوم { الذين يتكبرون } ويمشون خيلا { في الأرض } ويظلمون فيها { بغير الحق } لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم { و } هم من نهاية جهلهم المركوز في جبلتهم { إن يروا كل آية } دالة على الصدق والصواب { لا يؤمنوا بها } عتوا وعنادا { و } بالجلمة { إن يروا سبيل الرشد } الصدق والصواب { لا يتخذوه سبيلا } لعدم موافقة طباعهم { وإن يروا سبيل الغي } والضلال { يتخذوه سبيلا } لميل نفوسهم نحوه بالطبع، كل { ذلك } أي: الصرف والانحراف والأهواء الباطلة والآراء الفاسدة { بأنهم } من غاية انهماكهم في الضلال { كذبوا بآياتنا } الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا { وكانوا } من غاية جهلهم { عنها } وعن الامتثال بها والعمل بمقتضاها والتدبير في معناها { غافلين } [الأعراف: 146] غفلة لا تيقظ لهم منها أصلا، نبهنا بلطفك عن نومة الغالفين.
{ و } بالجملة: { الذين كذبوا بآياتنا } الظاهرة عن أوصافنا الذاتية في النشأة الأولى { ولقآء الآخرة } أي: كذبوا برجوع الكل إلينا في النشاة الأخرى، أولئك الأشقياء المردودون هم الذين { حبطت أعمالهم } وضاعت وخسروا فيها في الأولى والأخرى { هل يجزون } بإحباط الأعمال { إلا ما كانوا يعملون } [الأعراف: 147] أي: جزاء ما يقترفون ويكتسبون لأنفسهم من تكذيب الآيات والرسل المنبهين لها المبينين لمقتضاها.
[7.148-151]
{ و } من جملة الأسباب الموجبة لإحباط أعمالهم: اتخاذهم العجل إلها، وذلك أنه { اتخذ قوم موسى من بعده } أي: من بعد ذهابه إلى الميقات عنده ربه { من حليهم } التي ورثوها من القبط بتعليم السامري أياهم { عجلا } صورة عجل، وبعدها أذابوا الحلي وصاغوها ألغى السامري عليها ما قبض من تراب حافر فرس جبريل فصارت { جسدا له خوار } صوت كصوت البقر، فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاتخذوها إلها، مع أنهم صاغوها بأيديهم من حليهم، أيأخذون العجل المصنوع إلها أولئك الهالكون في تيه الغفلة والنسيان.
{ ألم يروا } أي: لم يعلموا ولم يتفطنوا { أنه لا يكلمهم } أي: المصوغ المصنوع لا يكلمهم بكلام دال على إصلاح حالهم { ولا يهديهم } ويرشدهم { سبيلا } أي: الخير والصواب حتى يستحق للعبودية، بل { اتخذوه } معبودا ظلما وزورا { وكانوا } في أنفسهم { ظالمين } [الأعراف: 148] خارجين مجاوزين عن مقتضى العقل والنقل.
{ ولما سقط في أيديهم } أي: ظهر ندمهم عن فعلهم، واشتد فيهم تجهيل نفوسهم وتخطئة عقولهم، ولاح عندهم قبح صنيعهم هذا { و } بالجملة: { رأوا } وعلموا { أنهم قد ضلوا } بهذه الغفلة القبيحة عن مقتضى العقل والنقل { قالوا } متضرعين مسترجعين خائفين، خجلين: { لئن لم يرحمنا ربنا } بسعة رحمته وجوده { و } لم { يغفر لنا } ما جئتنا به ولم يتجاوز عنا ما فرطنا فيه { لنكونن من الخاسرين } [الأعراف: 149] خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة.
{ ولما رجع موسى إلى قومه } بعدما وقع فيه ما وقع، وسمع ما سمع صار { غضبن } أي: استولى عليه غضبه حمية وغيرة { أسفا } متأسفا متحزنا؛ لضلال قومه { قال } مغاضبا: { بئسما } أي: بئس شيئا { خلفتموني } أي: أبدعتم خلفي { من بعدي } أي: من بعد ذهابي إلى ربي؛ لأزيد صلاحكم وإصلاحكم أيها المسرفون المفرطون فازددتم الضلال، واستوجتبم النكال { أعجلتم } أيها الحمقى { أمر ربكم } أي: عذابه وعقابه { وألقى } من غضبه { الألواح } التي كانت بيده من التوراة فانكسر منها واضمحل ما يتعلق بتفصيل الاحكام، وبقي المواعظ { وأخذ برأس أخيه } هارون؛ أي: من شعر رأسه؛ من غاية غضبه وغيظه { يجره إليه } أي: إلى نفسه؛ زجرا له وتشددا عليه كيف لا يحفظهم، ولا ينكر عليهم؛ حتى لا يضلوا ولا يكفروا باتخاذ العجل لها؟ { قال } هارون معتذرا متحزنا: { ابن أم } أضافه إلى الأم استعطافا { إن القوم استضعفوني } حين أظهرت الإنكار عليهم، وأردت أن أصرفهم عما هم عليه، وصاروا بأجمعهم أعدائي، بل { وكادوا يقتلونني } لشدة غيظهم علي وعداوتهم معي، وأنت أيضا تغضب علي وتجر رأسي، وهم يفرحون ويضحكون ببغضك علي وزجرك إياي { فلا تشمت } ولا تفرح يا أخي { بي الأعدآء ولا تجعلني } شريكا { مع القوم الظلمين } [الأعراف: 150] الخارجين عن مقتضى العقل والنقل.
ثم لما سمع موسى من هارون ما سمع ندم عن فعله وعن سوء الأدب مع أخيه؛ لأنه أكبر منه سنا، واسترجع إلى الله حيث { قال رب اغفر لي } عما صنعت مع أنه بريء مما نسبت إأليه { و } اغفر أيضا { لأخي } فلم يتقاعد ويتقاصر عن إنكار هؤلاء المضلين المتخذين لك شريكا من أدنى مخلوقاتك { وأدخلنا } بفضلك وجودك { في رحمتك وأنت أرحم الراحمين } [الأعراف: 151].
[7.152-155]
قال سبحانه { إن الذين اتخذوا العجل } المصوغ إلها بمجرد الخوار الذي صدر منه { سينالهم } وينزل عليهم في النشأة الأخرى { غضب من ربهم } يطردهم ويبعدهم عن ساحة عز حضوره { وذلة } صغار وهوان { في الحياة الدنيا وكذلك } في النشأة الأولى والآخرى { نجزي المفترين } [الأعراف: 152] المشركين لنا غيرنا من مخلوقاتنا؛ افتراء ومراء.
ثم قال سبحانه { والذين عملوا السيئات } قصدا وخطأ { ثم تابوا } ورجعوا نحونا نادمين { من بعدها } أي: من بعد توتبهم { و } الحال أنه قد كان توبتهم مقرونة بالإيمان بأن { آمنوا } بالله وملائكته وكتبه، ورسله { إن ربك } يا أكمل الرسل { من بعدها } أي: من بعد ما جاءوا بالتوبة عن ظهر القلب { لغفور } لما صدر عنهم من الذنوب { رحيم } [الأعراف: 153] يقبل توبتهم بعدما وفقتهم بها.
{ ولما سكت } أي: سكن وذهب { عن موسى الغضب } الذي استولى عليه إلى حيث ألقى ألواح التوارة، وأخذ شعر أخيه يجره { أخذ الألواح } المنكسرة المتلاشية وإن انكسر ما فيها تفصيل كل شيء { و } قد بقي منها ما { في نسختها } أي: ما نسخ ورقم عنها سالمة عن الانكسار { هدى } أي: أوامر ونواهي توصلهم إلى توحيد الحق إن امتثلوا به وقبلوا { ورحمة } تنجيهم عن الضلال إن اتصفوا بها، كل ذلك حاصل { للذين هم لربهم يرهبون } [الأعراف: 154] أي: يخافون من الله؛ طلبا لرضاه لا لغرض آخر من الرياء والسمعة، بل من طلب الجنة وخوف العذاب أيضا.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك قصة الكليم حين { اختار موسى قومه } أي: اختار وانتخب موسى ب إذن منا من قومه { سبعين رجلا لميقاتنا } فانتخب من كل سبط من الأسباط الاثني عشر ستة نفر فزاد على المبلغ اثنين، فأمر موسى بتقاعدهما فتخاصموا وتشاجروا في تعيينهما، إلى أن قال موسى: إن أجر من قعد مثل أجر من صعد، بل أكثر فقعد كالب ويوشع، وذهب موسى معهم، فلما دخلوا شعب الجبل وأرادوا الصعود غشيته غمام كثيف مظلم، قد خلوا الغمام وخروا سجدا، فسمعوا يتكلم سبحانه مع موسى يأمره وينهاه، وهو يناجي ربه.
فلما تم الكلام وانكشف الغمام قالوا بعدما سمعوا كلامه سبحانه مستكشفين عن ذاته: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ظاهرة، منكشفة ذاته لأبصارنا، كما انكشف كلامه لأسماعنا، فأخذتهم الرجفة؛ بسبب سؤالهم هذا { فلما أخذتهم الرجفة } الصاعة النازلة من قهر الله وغضبه؛ لطلبهم ما ليس في وسعهم واستعدادهم { قال } موسى مشتكيا إلى الله: { رب لو شئت أهلكتهم } أي: لو تعلقت مشيتئك لإهلاكهم لم لم تهلكهم { من قبل } أي: من قبل إسماعهم كلامك؟ { وإياي } أيضا؛ أي: لم لم تهلكني؛ حتى لاتنسب إلي إهلاكهم عند عوام بني إسرائيل وتشأمهم بي من غاية اضطرابه؟ { أتهلكنا } بالصاعقة الشديدة يا رب { بما فعل } أي: بسبب سؤال سائل { السفهآء منآ } صدر عنهم هفوة بلا علم لهم بعظمتك وجلالك وحق قدرك وعزك.
بل { إن هي } أي: هل هي { إلا فتنتك } اختبارك، ابتلاؤك إياهم، بأن أسمعت لهم كلامك فأوقعتهم بهذه الفتنة؛ إذ أنت { تضل بها } أي: بفتنتك { من تشآء } من عبادك، بأن اجترءوا بعد انكشافك عليهم نوع انكشاف إلى انكشاف أعلى منه وأجلى فضلوا وكفوا بلا علم لهم إلى مقتضى استعدادهم { وتهدي } بها { من تشآء } بأن سكتوا عن السؤال مطلقا، وفوضوا أمورهم كلها إليك ولا يسألون عنك ما لم يستأذنوا منك، والكل بيدك { أنت ولينا } ومولي أمورنا، ومولى نعمنا { فاغفر لنا } ما جرى علينا من المعاصي والآثام { وارحمنا } برحمتك الواسعة تفضلا علينا وامتنانا، واعف عنا بفضلك وجودك { وأنت خير الغافرين } [الأعراف: 155] الساترين ذنوب العصاة المسرفين.
[7.156-157]
{ واكتب لنا } يا ربنا { في هذه الدنيا حسنة } لا توقعنا في فتنتك { وفي الآخرة } أيضا حسنة توصلنا إلى رزق توحيدك { إنا } بعدما تحققنا بعلو شأنك وسمو برهانك { هدنآ } أي: تبنا ورجعنا { إليك } من أن نسأل منك ما ليس لنا علم به، سيما بعدما يتعلق بذاتك { قال } سبحانه منفردا برداء العظمة والكبرياء: { عذابي } ونكالي { أصيب به من أشآء } من عصاة عبادي { ورحمتي وسعت كل شيء } من المطيعين والعاصين وغيرهم { فسأكتبها } وأثبتها حتما { للذين يتقون } عن المحارم مطلقا؛ طلبا لمرضاتي { ويؤتون الزكاة } تطهيرا لنفوسهم عن الشح المطاع، الموجب للقسوة والغفلة { والذين هم بآياتنا } أي: بجميعها { يؤمنون } [الأعراف: 156] يوقونون ويمتثلون بمقتضاها.
وهم: { الذين يتبعون الرسول } المرسل بالتوحيد الذاتي { النبي } المتمم لمكارم الأخلاق { الأمي } المتحقق، المخصوص بالعلم اللدني الملقاة له من ربه بلا واسطة كسب وتعيم من معلم، وهو { الذي يجدونه } أي: جميع أهل الكتاب { مكتوبا } في كتبهم بعثته ودينه، واسمه وحليته وجميع أوصافه ثابتا { عندهم في التوراة والإنجيل } بأنه إذا بعث { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات } التي يحرمونها على نفوسهم { ويحرم عليهم الخبآئث } التي يحللونها.
{ و } أيضا { يضع عنهم إصرهم } أي: ثقلهم الذي يترهبون ويتزهدون فيه فوق طاقتهم كقطع الأعضاء والجوارح التي يخطئون بها، وقطع موضع النجاسة من الثباب وغير ذلك { و } يضع أيضا { الأغلال } أي: التكاليف الشاقة { التي كانت عليهم فالذين آمنوا به } حين ظهوره ودعوته { وعزروه } أي: وقروه حق توقيره وتعظيمة { ونصروه } تقوية لدينه { واتبعوا النور } أي: القرآن { الذي أنزل معه } من عند الله تأييدا له وتصديقا { أولئك } السعداء المقبلون عند الله، الموفقون من عنده باتباعه { هم المفلحون } [الأعراف: 157] المقصرون من عنده على الفلاح والفوز بالنجاح.
[7.158-159]
{ قل } يا أكمل الرسل الهادي للكل، المرسل إلى كافة البرايا: { يأيها الناس } المجبولون على الغفلة، الناسون عهد الله وميثاقه، المحتاجون إلى المرشد الهادي يهديكم إلى طريق الرشاد { إني رسول الله } أرسلني { إليكم جميعا } لأهديكم إلى توحيده الذاتي واعلموا أيها المجبولون على فطرة التوحيد سبحانه، هو العليم القدير { الذي له ملك السموت } وما فيها إيجادا وتصرفا بالاستقلال والاختيار { والأرض } وما عليها كذلك وبالجملة: { لا إله } أي: لا متصرف في الشهود، ولا مالك في الوجود { إلا هو } المتصرف المستقل بالألوهية والوجود { يحيي } ويظهر بلطفه من يشاء من مظاهره { ويميت } بقهره من يشاء، ومتى عرفتم أن الملك كله لله والتصرف بيده { فآمنوا بالله } المتوحد المتفرد بالألوهية { ورسوله } المنزل من عنده؛ ليبين طريق توحيده.
{ النبي } المخبر لأحوال النشأة الأولى والأخرى { الأمي } المكاشف { الذي يؤمن بالله وكلماته } أي: يوقن ويذعن بتوحيد الله، ويصدق بجميع كلماته المفصلة المنزلة من عنده سبحانه من لدن نفسه القدسية بلا مدرس ومرشد، ومعلوم منبه { و } إذا كان شأنه هذا { اتبعوه } أيها الطالبون لطريق الحق، القاصدون نحو توحيده { لعلكم تهتدون } [الأعراف: 158] بمتابعته صلى الله عليه وسلم ما تقصدون إليه من التوحيد الذاتي.
ثم قال سبحانه تنبيها على المؤمنين: { ومن قوم موسى } أي: من بني إسرائيل { أمة } جماعة متقصدة { يهدون } الناس إلى توحيد الحق، ملتبسين { بالحق } الصدق المطابق للواقع؛ لنجابة فطرتهم واستقامة عقيدتهم { وبه يعدلون } [الأعراف: 159] أي: بسبب الحق يقتصدون لا يفرطون، ولا يفرطون في الأحكام أصلآ.
[7.160]
ثم قال سبحانه : { وقطعناهم } أي: جزأناهم وصيرناهم { اثنتي عشرة } أضرابا على عدد أبناء يعقوب { أسباطا } لهم كل حزب سبط لواحد منهم؛ لذلك صاروا { أمما } مختلفة، وإن كان الكل مسمى ببني إسرائيل { و } من جملة نعمنا إياهم: إنا { أوحينآ } من مقام جودنا { إلى موسى إذ استسقاه قومه } أي: حين صاروا تائهين حائرين، عطاشا هائمين { أن اضرب } يا موسى { بعصاك } التي استعنت بها في الأمور { الحجر } الذي بين يديك فضرب { فانبجست } أي: خرجت وجرت على الفور بلا تراخ ومهلة { منه اثنتا عشرة عينا } جارية بضربة واحدة على عدد الأسباط والفرق؛ بحيث { قد علم كل أناس } من كل سبط { مشربهم } المخصوص لهم؛ لئلا يقع الخصومة والنزاع بينهم.
{ و } من جملة نعمنا إياهم: إنا { ظللنا عليهم الغمام } أي: أمرنا بأن يظل عليهم في التيه؛ لئلا يتضرروا من شدة الحر فيستريحوا { و } أيضا { أنزلنا عليهم المن } الترنجبين لشربهم؛ تبريدا لمزاجهم { والسلوى } السماني؛ لغذائهم، وقلنا لهم: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } لتقويم مزاجكم { وما ظلمونا } أولئك الخارجون عن أوارمنا { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [الأعراف: 160] أي: يظلمون أنفسهم بما اقترفوا من المعاصي والآثام ويلقونها بذلك في عذاب الدنيا والآخرة، ومع قبح صنيعهم معنا راعيناهم وأنعمنا عليهم.
[7.161-162]
{ و } من جملة ظلمهم على نفوسهم: إنهم { إذ قيل لهم } وأوصي إليهم إصلاحا لحالهم: { اسكنوا هذه القرية } أي: بيت المقدس { وكلوا منها } أي: من مأكولاتها المتسعة { حيث شئتم } بلا موافقة ومنع { وقولوا } متضرعين إلينا، متوجهين نحونا: { حطة } أي: سؤالنا منك يا مولانا: حط ما صدر عنا من الآثام وجرى علينا من المعاصي { وادخلوا الباب } سجدا؛ أي: باب بيت المقدس { سجدا } متذللين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان؛ تأديبا وتعظيما { نغفر لكم خطيئاتكم } أي: جميعها إن امتثلتهم ما أمرناكم بها؛ بل { سنزيد المحسنين } [الأعراف: 161] منكم بالرضوان الأكبر منا.
{ فبدل الذين ظلموا منهم } أنفسهم بالخروج عما أمرناهم { قولا } صداقا صوابا قلنا لهم؛ لإصلح حالهم { غير الذي قيل لهم } على لسان رسلنا، بل حرفوها لفظا ومعنى، كما مر بيانه في سورة البقرة { فأرسلنا عليهم } بسبب تبديلهم وتحريفهم { رجزا من السمآء } أي: عذابا نازلا من جانب السماء { بما كانوا يظلمون } [الأعراف: 162] أي: بشؤم خروجهم عن مقتضى أوامرنا وأحكامنا.
[7.163-166]
{ و } أيضا من جملة ظلمهم على نفوسهم: حيلهم وخداعهم في نقض العهد، إن شئت أن تعرف { سئلهم عن القرية } أي: سل خداعهم وحيلهم عن أهل القرية { التي كانت حاضرة البحر } قريبة منه، قيل: إيلة، وقيل: طبرية الشام، وقيل: مدين، وقت { إذ يعدون } يتجاوزون عن حدودنا وعهودنا { في السبت } أي: العهد الذي عهدوا معنا ألا يصطادوا، بل أخلصوا لعبادتنا والتوبة نحونا فابتليناهم بمحافظة العهد { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم } المعهود المحرم { شرعا } متابعة متوالية.
{ ويوم لا يسبتون } ولا يعهدون فيه { لا تأتيهم كذلك } أي: مثل سبتهم، فاحتالوا بتعليم شياطينهم حياضا وأخاديد، فأرسلوا الماء عليها في يوم السبت، واجتمعت الحيتان فيها واصطادوها يوم الأحد والإثنين؛ وبسبب خداعهم معنا واختلافهم الحيلة لنقض عهدنا { نبلوهم } ببلاء المسخ { بما كانوا يفسقون } [الأعراف: 163] بسبب فسقهم وخروجهم عن مقتضى العهد.
{ و } اذكروا { إذ قالت أمة منهم } أي: جماعة من صلحائهم، حين قال الصلحاء للمحتالين المناقضين على وجه العظة والتذكير: لم تحتالون وتخادعون مع الله كأنكم لم تخافوا من بطشه وانتقامه { لم تعظون } أيها المذكرون المصلحون { قوما } منهمكين في الغفلة الضلال { الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا } أي: أراد الله إهلاكهم وتعذيبهم بأشد العذاب بشؤم حيلهم وخداعهم هذا { قالوا } أي: المذكرون المصلحون تذكيرنا ونصحنا إياهم: { معذرة } منا { إلى ربكم } الذي أمرنا بنهي المنكر على وجه المبالغة { ولعلهم يتقون } [الأعراف: 164] أي: ونرجو من كرم الله أن ينتهوا بتذكيرنا عما هم عليه من الغفلة.
{ فلما نسوا } واعرضوا عن { ما ذكروا به } أي: من العظة والتذكير { أنجينا الذين ينهون عن السوء } متعظين بما ذكروا به { وأخذنا الذين ظلموا } بالإعراض عنه { بعذاب بئيس } شديد فظيع { بما كانوا يفسقون } [الأعراف: 165] بسبب فسقهم وإعراضهم.
{ فلما عتوا عن ما نهوا عنه } أي: فالحاصل أنهم لما تكبروا عن امتثال أوامرنا واجتناب نواهينا { قلنا لهم } على لسان نبيهم داود: { كونوا } أيها المتكبرون المنهمكون في الغي والضلال { قردة خاسئين } [الأعراف: 166] صاغرين مهانين؛ لاستكباركم عن أوامر الله وتكيلفاته، مع أنكم مجبولون على تحمل التكاليف التي هي من أمارات الإنسان فلما امتنعوا أنفسهم عنها مسخوا لن لوازم الإنسانية بالمرة، ولحقوا بأخس الحيوانات وأرذل الأعاجم.
[7.167-169]
{ و } اتل على من تبعك منهم، واذكر لهم يا أكمل الرسل: ويتنبهوا وقت { إذ تأذن ربك } أي: عزم وكتب على نفسه، كأنه أقسم { ليبعثن } وليسلطن { عليهم إلى يوم القيامة } مستمرا دائما { من يسومهم } يعلمهم { سوء العذاب } لذلك ما ترى يهوديا في أقطار الأرض إلا عليه مذلة وهوان { إن ربك } يا أكمل الرسل { لسريع العقاب } على من أراد عقابه { وإنه } أيضا { لغفور } لمن تاب وأخلص { رحيم } [الأعراف: 167] يقبل توبته ويمحو معيته.
{ و } من غاية إذلالنا إياهم { قطعناهم } أي: فرقناهم { في الأرض أمما } فرقا فرقا { منهم الصالحون } المؤمنون بالله وبملائكته وكتبه ورسله { ومنهم دون ذلك } أي: الطالحون الخارجون عن مقتضى الإيمان { و } بالجملة: { بلوناهم } أي: اختبرناهم وجربناهم { بالحسنات } أي: بالعطاء والإنعام { والسيئات } بالأخذ والانتقام { لعلهم يرجعون } [الأعراف: 168] رجاء أن ينتبهوا بنا فيرجعوا إلينا.
وبعدما بلونهام بما بلوناهم { فخلف } واستخلف { من بعدهم } أي: بعد انقراضهم خلق { خلف } خلفاء منهم يدعون أنهم { ورثوا الكتب } أي: علم التوراة منهم، مع أنهم { يأخذون عرض هذا الأدنى } أي: الدنيا مولعين بجمعها { ويقولون سيغفر لنا } لن يأخذنا الله أبدا بأخذها وجمعها { و } من غاية حرصهم { إن يأتهم عرض مثله } بل أضعافه وآلافه { يأخذوه } بلا مبالاة؛ اتكاء على مغفرة الله مع أنهم لم يستغفروا إيه { ألم يؤخذ عليهم ميثق } الله المنزل في { الكتب } الذي ادعوا علمه ووراثة، بل يؤخذ عليهم الميثاق في كتابهم { أن لا يقولوا على الله } ولا ينسبوا إليه { إلا الحق } الصادق الثابت الذي ورد عليه الأمر من عندهز
{ و } كيف لم يعلموا أخذ الله ميثاقه مع أنهم { درسوا } من معلمهم { ما فيه } من الأحكام والمواعظ، والأوامر والنواهي؛؟ { و } بالجملة: { الدار الآخرة خير للذين يتقون } من حطام الدنيا، ويجتنبون عن آثامها { أفلا تعقلون } [الأعراف: 169] خيريتها، أولئك المنغمسون في قاذورات الدنيا ولذاتها وشهواتها مع أنها لا مدار لها، ولا قرار للذاتها ومشتهياتها.
[7.170-174]
{ والذين يمسكون } أي: يتمسكون منهم { بالكتاب } أي: بما أمرناهم في التوراة ونهينا فيه { و } مع ذلك { أقاموا الصلاة } أي: داوموا وواظبوا على الميل إلينا علىما بيناهم فيها فعلينا أجرهم { إنا لا نضيع } ولا نهمل { أجر المصلحين } [الأعراف: 170] الذين يصلحون ظواهرهم بالشرائع والأحام المنزلة من عندنا، وبواطنهم بالإخلاص والتوحيد المسقط للإضافات مطلقا.
{ و } اذكر وقت { إذ نتقنا } أي: قطعنا { الجبل } من مكانه، ورفعنا { فوقهم } يظل عليهم { كأنه ظلة } يسقف فوق رءوسهم { وظنوا } من قبح صنيعهم { أنه واقع بهم } إلى أن قلنا لهم: { خذوا مآ ءاتينكم } من مأمورات التوراة { بقوة } عزيمة صادقة وعزم خالص في أوامره وأحكامه { واذكروا } أيك اتعظوا وتذكروا { ما فيه } من الموعظة والتذكيرات { لعلكم تتقون } [الأعراف: 171] تنتهون عن قبائح أعمالكم ورذائل أخلاقكم.
{ و } نقض العهود والمواثيق، والإعراف عن التكاليف والمشاق ليس مما يختص هؤلاء المعرضين، بل من الديدنة القديمة لبني آدم وقت { إذ أخذ ربك } يا أكمل الرسل { من بني ءادم } حيث أخرجهم { من ظهورهم } من ظهور آبائهم وأصلابهم على التوليد المتعارف { ذريتهم } أي: أولادهم بطنا بعد بطن { وأشهدهم } أي: أحضرهم وأطلعهم { على أنفسهم } أي: أرواحهم الفائظة لهم، المنفوخة فيهم من روحنا، ثم قلنا لهم بعدما شهدوا منشأهم وعلموا أصلهم: { ألست بربكم } الذي أوجدكم وأظهركم من كتم العدم بنفخ روحي فيكم؟
{ قالوا } بألسنة استعداداتهم: { بلى شهدنآ } بعدما أشهدتنا أنت ربنا، لا رب لنا سواك، ولا مظهر لنا غيرك فأخذ سبحانه منهم الميثاق حينئذ، وإنما أخذ منهم الميثاق على هذا؛ كراهة { أن تقولوا } على سبيل المجادلة والمراء حين أخذهم { يوم القيامة } بجرائمهم الصادرة عنهم، المقتضية لنقض العهد: { إنا كنا عن هذا } أي: عن ربوبيتك واستقلالك فيها { غافلين } [الأعراف: 172] غير عاليمن بها ولا منبهين عليها.
{ أو تقولوا } لو لم يأخذ سبحانه العهد من جميعهم: { إنمآ أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية } ضعافا { من بعدهم } فنقلدهم { أفتهلكنا } وتأخذنا يا ربنا { بما فعل المبطلون } [الأعراف: 173] أي: بفعل آبائنا ا لذين أشركوا بك، مع أنا لم نكن حينئذ من أصحاب الرأي؟! وأخذك بجرائمهم ظلم علينا؛ لذلك أخذ سبحانه الميثاق من جميع بني آدم؛ حتى لا يبقى لهم حجة عليه سبحانه.
{ وكذلك نفصل } نبين ونوضح على وجه الخصوص والعموم { الآيات } الدالة على توحيدنا على اليهود { ولعلهم يرجعون } [الأعراف: 174] رجاء أن يتنبهوا فيرجعوا نحونا، ومع ذلك لم يرجعوا ولم يتنبهوا أصلا.
[7.175-178]
{ و } بعدما بالغوا في الإعراض والإنكار { اتل عليهم } أي: على اليهود يا أكمل الرسل { نبأ } قصة الشخص { الذي ءاتيناه } علم { ءاياتنا } العظام وأسمائنا الكرام حتى قدر وتمكن بسببها على أي شيء أراد، فأعرض عنا بمتابعة الهوى كهؤلاء الغواة { فانسلخ منها } أي: تجرد وعري من شرائف الآيات انسلاخ الحية من جلدها { فأتبعه الشيطان } أي: تابعا { فكان } بمتابعة { من الغاوين } [الأعراف: 175] المنهمكين في الضلال بحيث لا يرجى هدايته أصلا كهؤلاء اليهود.
{ ولو شئنا } أي: تعلق مشيئتنا؛ لإهدائه إلى أقصى غايات التوحيد وأعلى مرابته { لرفعناه بها } أي: بتلك الآيات { ولكنه } لم يتعلق؛ لذلك { أخلد } أي: انخفض ومال { إلى الأرض } الأنزل الأرذل { واتبع هواه } لينزل عليها، ومع ذلك يتمسك بها وأراد أن يتشبث بمقتضاها { فمثله } في هذا التمسك والتشبث { كمثل الكلب إن تحمل عليه } حملا موجبا؛ لإلهائه واندلاع لسانه { يلهث } يخرج لسانه بسببه { أو تتركه } خفيفا ولم تحمل عليها ما يوجب إلهائه { يلهث } أيضا؛ لرسوخ الديدنة القبيحة في ذاته { ذلك } الكل بعينه { مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص } يا أكمل الرسل لليهود { القصص } المذكورة { لعلهم يتفكرون } [الأعراف: 176] ويتأملون فيما هم عليه من الإعراض والإنكار فيتنبهوا على صبح صنعيهم، وسوء فعالهم مع الله.
قيل: ذلك هو بلام بن باعوراء، وقصته مشهورة، وقيل: أمية بن الصلت كان قد قرأ اكتر المنزلة ووجد فيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم، ورجا أن يكون هو، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد وكفر وكان من الغاوين.
{ سآء مثلا القوم } أي: بئس المثل مثل القوم { الذين كذبوا بآياتنا } وأعرضوا عنها منكرين عليها { وأنفسهم كانوا يظلمون } [الأعراف: 177] أي: وما يظلمون بالإعراض والإنكار إلا أنفسهم؛ إذ عاد عليهم وباله ونكاله، ولكن لا يشعرون؛ لفساد قلوبهم وخبث طينتهم.
{ من يهد الله } بأن يوفقه على إسماع كلمة الحق { فهو المهتدي } إلى توحيده { ومن يضلل } بأن يضله عن سبيله بإنكار آياته وتكذيب رسله { فأولئك } البعداء والضالون { هم الخاسرون } [الأعراف: 178] المقصورون على الخسران، لا يرجى ربحهم وهدايتهم أصلا.
[7.179-182]
ثم قال سبحانه: { ولقد ذرأنا } أوجدنا وأظهرنا { لجهنم } البعد والخذلان ونيران الإمكان والحرمان { كثيرا من الجن والإنس } مع أن { لهم قلوب } هي مناط التكاليف ومحال الإيمان والإيقان، وهم { لا يفقهون بها } ليحصل لهم مرتبة اليقين العلمي واللدني { ولهم } أيضا { أعين } هي سبب مشاهدة الآثار والاستدلال منها على الأوصاف الموجدة لها، المرتبة على الذات الإلهي، وهم { لا يبصرون بها } ليحصل لهم مرتبة اليقين العيني.
{ ولهم } أيضا { آذان } وهي آلات السماع كلمة الحق ووسائق إلى اكتساب الفاضائل المنبهة على ما في نفوسهم من الأسرار المكنونة الإلهية، وهم { لا يسمعون بهآ } ليحصل لهم الترقي إلى مرتبة اليقين العيني إلى اليقين الحقي، وبالجملة: { أولئك } الحمقاء الجهلاء، المتصفون بأوصاف العقلاء، العرفاء { كالأنعام } في عدم الشعور والتنبه { بل هم } بسبب تضييع استعدادهم { أضل } من الأنعام بمراتب، وبالجملة: { أولئك هم الغافلون } [الأعراف: 179] المقصرون على الغفلة المؤبدة، المتناهون فيها أقصى الغاية.
{ و } اعلموا أيها الفضلاء العرفاء، الموحدون أن { لله } المتوحد المتفرد في ذاته { الأسمآء الحسنى } التي تترتب عليها الصفات العليا، المترتبة عليها الآثار الحادثة في عالم الكون والفساد، والشهادة والغيب، والنشأة الأولى والأخرى { فادعوه } سبحانه أيها الموحدون { بها } وأسندوا الحوادث الكائنة إليها أولا وبالذات { وذروا } أي: دعوا واتركوا أقوال { الذين يلحدون } يميلون ويشركون { في أسمآئه } بنسبة الحوادث إلى الأسباب أولا وباللذات، واهجروا مذاهبهم، واعتزلوا عنه وعن مجالستهم، واعلموا أن كل أحد { سيجزون } على مقتضى { ما كانوا يعملون } [الأعراف: 180] إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم قال سبحانه كلاما كليا، جمليا شاملا على جميع الملل والأديان، فقال: { وممن خلقنآ } أظهرناهم على صورتنا { أمة } مستخلفة عناهم { يهدون } الناس إلينا، ملتبسين { بالحق } المطابق للواقع { وبه } أي: بالحق لا بغيره؛ إذ لا غير { يعدلون } [الأعراف: 181] يقسطون وينصفون في الأحكام.
{ والذين كذبوا بآيتنا } الدالة على توحيدنا، المنزلة على رسلنا { سنستدرجهم } سنستضلهم ونستزلهم قليلا قليلا إلى أن نهلكهم بالمرة، وندخلهم في جنهم البعد وسعير الإمكان { من حيث لا يعلمون } [الأعراف: 182] ولا يفهمون كيف وقعوا فيها.
[7.183-186]
{ وأملي لهم } أي: أمهلهم في بطرهم وغفلتهم إلى حيث ازدادو على نفوسهم من العتو والفساد الموجب لشدة العذاب؛ مكرا عليهم وكيدا { إن كيدي } أي: مكري وخداعي مع العصاة الغواة، الضالين عن منهج { متين } [الأعراف: 183] محكم حيث لم يحسوا به أصلا إلى أن أخذوا بأسوأ العذاب وأشد النكال.
ثم أشار سبحانه إلى توبيخ المسرفين المسفهين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا ومكابرة فقال: أما تستحيون من الله أولئك المسرفون، المفرطون في نسبته الجنون إلى من فاق على جميع العقلاء بالرشد والهداية؟ { أولم يتفكروا } ويتدبروا أنه { ما بصاحبهم من جنة } خفة عقل موجب للخيط، وما لم يفهموا من كلامه إلى أن صدر عنهم هفوة لا عن قصد، ويسمونه مجنونا لذلك { إن هو } أي: بل ما هو صلى الله عليه وسلم عند التحقيق { إلا نذير } ينذرهم بإذن الله ووحيه، ويخوفهم بما يخوفهم الله به { مبين } [الأعراف: 184] عظيم الشأن، ظاهر في أمر الإنذار.
روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد الصفا يوما فدعاهم فخذا فخذا، يحذرهم عن بأس الله بطشه فقال قائلهم: إن صاحبكم لمجنون، فزلت.
ثم قال سحبانه على سبيل التوبيخ لهؤلاء المسرفين الذين ينسبون ما هو خارج عن مدركات عقولهم إلى الجنون: أينسبون جميع ما يخالف عقولهم إلى الجنون ويدعون استقلال العقل في العلوم المتعلقة في الأشياء كلها { أولم ينظروا } ويتدبروا كيف تقصر وتدهش عقولهم { في ملكوت السموت } وكيفية نظمها وقصدها وتربيتها وتطبيقها، وما فيها من كواكبها وبروجها وحركاتها وأدوارها، وانقلاباتها صيفا وشتاء وربيعا وخريفا.
{ والأرض } وما عليها من تلالها ووهادها، وأنهارها وبحارها، ورياضها وأزهارها، وغرائبها وبدائعها المكنونة والمتكونة فيها، بل { و } في جميع { ما خلق الله } وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا { من شيء } أي: مما يطلق عليه اسم الشيء، تدهق وتتحير في ظهور فحول العقلاء إلى حيث لم يفهموا كيفية ظهور ذرة صغيرة من ذرائر العالم، فيكف لميتها؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم دعائه:
" الله أرنا الأشياء كما هي "
، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم:
" رب زدني تحيرا ".
هذا في الآفاق الخارجة عنهم { و } أما في أنفسهم فلم ينظروا { أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } المقدر المسمى لهم، وهم لا يفهمونه، وإن اجتمع جميع العقلاء في تعيين أجل شخص واحد، ومع قصور نظرهم وسخافة عقلهم ينسبون الجنون إلى المكاشفين المناظرين بنور الله، المطالعين المشاهدين دائما صفاء وجهه الكريم، وهم الذين انخلعوا عن لوازم البشرية مطلقا، وشقوا جلباب الناسوت رأسا، وخرقوا الحجب المسدولة بالكلية وصاروا ما صاروا، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، وبعدما سقط العقل عن درجة الاعتبار، واضمحل مدركاته عن الاعتماد فلا تعويل إلا على الوحي والإلهام الملقى من عند العليم العلام { فبأي حديث } من الأحاديث المهمة والموحى به { بعده } أي: بعد نزول القرآن { يؤمنون } [الأعراف: 185] أي: المؤمنون المصدقون بالوحي والإلهام.
وبالجملة: { من يضلل الله } الهادي إلى سبيل الرشاد { فلا هادي له } يرشده فعليك ألا تجتهد يا أكمل الرسل في إهدائهم، ولا تصغي أيضا إلى أباطيلهم؛ إذ أمرهم مفوض إلى الله { و } كيف تجتهد وتسعى في إيمانهم؛ إذ هم قوم { يذرهم } ويتركهم الله باسمه المضل المذل { في طغيانهم } المتجاوز عن الحد { يعمهون } [الأعراف: 186] يترددون وتحيرون إلى أن يأخذهم بما يأخذهم، دعهم وأباطيلهم فيها يترددون وفي سكراتهم يعمهون.
[7.187-188]
{ يسألونك } يا أ:مل الرسل { عن الساعة } التي تخوفهم منها ومن شدة أهوالها وأفزاعها: { أيان مرسها } أي: في أي آن من الآنات وزمان من الأزمنة قيامها ووقوعها حتى نؤمن لها قبل قيامها؟ { قل } يا أكمل الرسل في جوابهم: { إنما علمها } أي: علم قيامها { عند ربي } مما استأثر بها سبحانه لا يطلع عليها أحد؛ بحيث { لا يجليها } أي: لا يظهرها ولا يكشف أمرها { لوقتهآ } الذي عين { إلا هو } إذ هو من الغيوب الخمسة التي خصصها سبحانه لنفسه في قوله:
عنده علم الساعة وينزل الغيث...
[لقمان: 34] وإنما أخفاها وأبهم وقتها، ولم يطلع أحدا عليها؛ لأن الحكمة تقتضي ذلك؛ لأن سبحانه لو أظهر أمرها على عباده { ثقلت } عظمت وشقت أمرها، واشتدت هولها { في السموت } على أهلها وساكنيها من الملائكة { والأرض } عن من أسكنها وعاش عليها من الثقلينز
ولذلك { لا تأتيكم } الساعة عند إتيانها { إلا بغتة } فجأة وعلى غفلة بحيث لا يسع ترك ما كنتم فيه من الأمور، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الساعة تهيج ب النال، والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه "
، وإنما { يسألونك } عن الساعة وقيامها لظنهم فيك؛ لنجابة طينتك { كأنك حفي عنها } خبير لوقتها، عليم بشانها، مذكر لها دائما، مفتش عن أحوالها وأهوالها مستمرا { قل } لهم: { إنما علمها } وقت ظهورها { عند الله } وفي خزانة قدره ولوح قضائه، وعالم سمائه وغيب ذاته { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [الأعراف: 187] أنه سبحانه مختص بها، لا يطلع أحدا عليها.
{ قل } يا أكمل الرسل لمن ظن بك أنك حفي عليم بسرائر الأمور ومخفياتها، خبير بحقائق الموجودات وماهياته؛ اعترافا بالعبودية وسلبا للاختيار عن نفسك: { لا أملك لنفسي نفعا } أي: جلب نفع { ولا ضرا } أي: دفع ضر { إلا ما شآء الله } إيصاله إلي من النفع والضر، ولا أعلم الغيب إلا ما أوحى الله إلي { ولو كنت أعلم الغيب } يعني: لو تعلق علمي بعواقب أموري { لاستكثرت من الخير و } صرت إلى حيث { ما مسني السوء } أصلا { إن أنا } أي: بل ما أنا { إلا نذير } أنذر بإذن ربي وعلى مقتضى وحيه إياي { وبشير } أيضا أبشر على مقتضى الوحي { لقوم يؤمنون } [الأعراف: 188] بوحي الله وإلهامه.
[7.189-192]
وكيف لا يكون الغيب مما استأثر الله به؛ إذ { هو الذي خلقكم } أي: أوجدكم وأظهركم { من نفس واحدة } هو أبونا آدم، وكان جسدا لا علم له، ثم علمه من الأسماء ما تعلق إرادته به سبحانه بتعليمه إياه، ولم يعلم حقائقها ولميتها؛ إذ هي من المغيبات التي لم يطلع أحدا عليها { و } بعدما أظهر { جعل منها } أي: خلق من جنسها { زوجها } حواء { ليسكن إليها } ويؤنس معها { فلما تغشاها } أوقعها بإلهام الله إياه { حملت } وحبلت { حملا خفيفا } أي: أدركت حملا خفيفا في بطنها { فمرت به } أي: مضت عليها مدة فأدركت ثقلها، وأخبرت زوجها بثقلها فألهم بأنه ولد { فلمآ أثقلت } إلى حيث اشتدت عليها حملها، وظهرت عندها أمارة حياة ما في بطنها { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا } ولدا سالما { صالحا } لمؤانستنا { لنكونن من الشاكرين } [الأعراف: 189] لنعمه دائما.
{ فلمآ آتاهما صالحا } بعد صالح، وطالحا بعد طالح، بطنا بعد بطن { جعلا } موضع الشكر { له شركآء } بإغواء الشيطان إياهما { فيمآ آتاهما } من الأولاد فسمياهم بعبد الحارث وعبد العزى، وعبد المناة، بتعليم الشيطان إياهما { فتعالى الله } المنزه بذاته عن الشريك مطلقا، سيما { عما يشركون } [الأعراف: 190] هما وغيرهما من المشركين.
ثم لما لم يكن شركهما عن قصد واختيار، بل وسوسة الشيطان وإغوائه وبخ سبحانه عليهم؛ لينزجروا، وقال: { أيشركون } جمعه باعتبار أولاده معنا { ما لا يخلق } ويظهر { شيئا } حقيلا قليلا، بل { وهم } أي: الأصنام والشركات في أنفسهم { يخلقون } [الأعراف: 191] مخلوقون كسائر المخلوقات.
{ و } كيف يشركون الأصنام معنا في الألوهية والربوبية، مع أنهم { لا يستطيعون لهم } أي: لعبدتهم { نصرا } يدفع عنهم الأذى؛ لكونهم جمادات { ولآ أنفسهم ينصرون } [الأعراف: 192] أي: لا يقدرون أن يصنروا أنفسهم بدفع ما يؤذيهم، لكونهم جمادات، وبكسرهم، فكيف لغيرهم؟.
[7.193-195]
ثم قال سبحانه: { وإن تدعوهم } أيها المؤمنون، الموحدون المشركين المصريين على الشرك { إلى الهدى } أي: الإسلام الموصل لهم إلى توحيد الحق { لا يتبعوكم } لخبث طينتهم، بل { سوآء عليكم } أيها المؤمنون المريدون إهداء هؤلاء الغواة { أدعوتموهم } أي: دعوتكم إياهم إلى الإسلام { أم أنتم صمتون } [الأعراف: 193] ساكتون عن الدعوة، بل عن الالتفات إليهم مطلقا؛ لشدة قساوتهم وغلظة غشاوتهم.
ثم قال سبحانه تبكيتا للمشركين: { إن الذين تدعون } وتعبدون أيها الضالون المشركون { من دون الله } المتفرد بالألوهية، المتوحد بالربوبية { عباد أمثالكم } أي: هم مخلوقون أمثالكم، بل أسوء حالا منكم؛ لكونهم جمادات لا شعور لها، كيف سميتوها معبودات تعبدونها كعبادة الله، وإن اعتقدتم إلهيتهم وتأثيرهم { فادعوهم } بإنزال العذاب على مخالفيكم { فليستجيبوا لكم } ألبتة؛ لكونكم عبادا لهم { إن كنتم صادقين } [الأعراف: 194] في أنهم آلهة؛ فكيف تعتقدون أيها الحمقى إلهية هؤلاء الجمادات التي تنحتونها بأيديكم من الأحجار والأخشاب، والإله منزه عنها، متعال عن أمثالها، وأيضا كيف تعتقدون تأثير هؤلاء؟!.
{ ألهم أرجل يمشون بهآ } فيؤثرون بسببها { أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم آذان يسمعون بها } والتأثير مسبوق بهذه القوى، كيف وشرط التأثير الحياة؟ ولا حياة لهم أصلا، فكيف يؤثرون؟ وأنتم كيف تثبتون لهم التأثير، أفلا تعقلون؟ { قل } يا أكمل الرل تبكيتا لهم وإلزاما: { ادعوا شركآءكم } الذين تدعون مشاركتهم مع الله واستظهروا منهم { ثم كيدون } وامكروني بمظاهرتهم؛ بحيث لا أطلع بمكركم أصلا { فلا تنظرون } [الأعراف: 195] تمهلون مدة حتى أتأمل فيه وأطلع عليه، وأشتغل لدفعه، وبالجملة: لا أبالي بولاية غير الله ونصره وحفظه إياي بكم وبمكركم، وبمكر شركائكم ومعاونيكم.
[7.196-200]
{ إن وليي } وحافظي، ومولي جميع أموري { الله } القادر القيوم { الذي نزل الكتاب } أي: القرآن؛ لنصري وتأييدي { و } من غاية لطفه { هو } سبحانه بنفسه { يتولى الصالحين } [الأعراف: 196] من عباده ويحفظهم من مكر المكارين، سيما الأنبياء الذين هم في كنف جواره وحوزة حفظه، يحفظهم عن جميع ما يؤذيهم.
{ و } كيف لا يحفظهم سبحانه عن تأثير هؤلاء الأصنام { الذين تدعون } أنتم أيها الضالون { من دونه } سبحانه وتستنصرون منه، وهم { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } [الأعراف: 197] أي: كيف ينصرونكم، وهم لا ينصرون أنفسهم لعدم استعدادهم وقابليتهم.
{ و } من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم { إن تدعوهم } أيها المؤمنون أولئك المشركين الضالين { إلى الهدى } ودين الإسلام { لا يسمعوا } ولا يقبلوا مع ورود هذه الدلائل الواضحة { وترهم } أيها المتبر الرائي { ينظرون إليك } ويسعون ويسمعون منك الأدلة القاطعة { وهم } من خبث طينتهم وجهل جبلتهم { لا يبصرون } [الأعراف: 198] إلى أصنامهم، ولا يتأملون ولا يتفطنون أن ما ينسبون إلى هؤلاء من الشفاعة والشركة وهم زائل وخيال باطل، وخروج عن مقتضى العقل الفطري، بل يصرون على ما هم عليه؛ عتوا وعنادا.
وإذا كان حالهم هذه وإصرارهم بهذه الغاية { خذ العفو } أي: اختر يا أكمل الرسل طريق العفو واللين، واترك الغضب والخشونة على مقتضى شفقة النبوة { وأمر بالعرف } أي: ادع إلى سبيل ربك بالحكملة والموعظة الحسنة القوم الذين تفرست منهم الرشد بنور النبوة والولاية { وأعرض عن الجاهلين } [الأعراف: 199] المصرين، وإن جادلوك جادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك أعلم منهم بمن ظل عن سبيله، وهو أعلم أيضا بالمهتدين منهم.
{ وإما ينزغنك } ينخسنك ويشوشنك { من الشيطن } المثير للقوى الغضبية والحمية الجاهلية { نزغ } وسوسة وإغراء يحملك على الغضب، ويخرجك عن مقتضى ما أمرت به من الحلم والملاينة { فاستعذ بالله } من غوائله، وارجع إليه من وسوسته وتحايله يكفيك سبحانه مؤمنة شروره وإغوائه { إنه } سبحانه بذاته { سميع } لمناجاتك { عليم } [الأعراف: 200] بحاجاتك.
[7.201-203]
ثم قال سبحانه تذكيرا لنبيه وعظة: { إن الذين اتقوا } من عبادنا كانوا { إذا مسهم } واستولى عليهم { طائف } خاطر يطوف حول قلوبهم { من } قبل { الشيطان تذكروا } ما أمروا به ونهوا عنه من عند الله { فإذا هم } بتذكير المأمور والمنهي { مبصرون } [الأعراف: 201] مميزنون مواقع الخطأ فيحترزون منها، ويتعوذون إلى الله عما يغريهم إليه.
{ و } الذين لم يتقوا، بل هم { إخوانهم } أي: إخوان الشياطين، إذا مسهم ما مسهم لا يتأتى بهم التذكر ولم يوفقوا عليه، بل { يمدونهم } أي: الشياطين بالتزيين والتحسين، والوسوسة والإغواء إلى أن يوقعوا بهم { في الغي } والضلا ل { ثم } بعد الإيقاع فيه { لا يقصرون } [الأعراف: 202] بلا يبالغون في إغوائهم وإغرائهم إلى حيث يردونهم بحال لا يرجى لهم الفلاح أصلا.
و { و } من غاية انهماكهم في الغي والضلال، ونهاية غراقتهم فيه { إذا لم تأتهم } يا أكمل الرسل { بآية } اقترحوها منك، عنادا { قالوا } على سبيل التهكم والاستهزاء: { لولا اجتبيتها } أي: هل انتخبتها من الأقوال وأنشأئها كسائر منشآتك، أعجزت فيها؟ فإن أعجزت لم لم تطلبها من ربك على مقتضى دعوانك، كما طلبت غيرها منه؟
{ قل } في جوابهم: ما أنا مختلق، بل رسول مبلغ إنمآ أتبع ما يوحى إلي من ربي { } الذي هو مرسلي ومبلغي، ما لي صنع في نظمه وتأليفه، وبلاغته وفصاحته وإعجازه، بل { هذا } أي: القرآن وما فيه من الرموز والإشارات { بصآئر } للمستبصرين المستكشفين بمقتضى الودائع الفطرية التي أودعها الله في قلوب عباده، ومتى انكشفتهم بودائعكم علمتم أنها { من ربكم وهدى } يوصلكم إلى ما جبلتم لأجله، وهو التوحيد والعرفان { ورحمة } نازلة لكم من الله يوفظكم عن نومه الغفلة والنسيان، كل ذلك { لقوم يؤمنون } [الأعراف: 203] أي: يتحققون بمرتبة اليقين العلمي، ويطلبون الترقي منها إلى العين والحق.
حققنا بلطفك بحقيتك، وخلصنا من هويتنا الباطلة بفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.
[7.204-206]
{ و } بعدما سمعتم من أوصاف القرآن ما سمعتم { إذا قرىء القرآن } عندكم أو قرأتم أنتم { فاستمعوا له } عن صميم قلوبكم، وتأملوا في معناه بقدر وسعكم وطاقتكم { وأنصتوا } أي: اسكتوا وأعرضوا عن مقتضيات سائر قواكم، ولا تلتفتوا إليهاأصلا { لعلكم ترحمون } [الأعراف: 204] تنكشفون وتتحققون بما في نفسوكم من ودائع الله بسببه.
ثم خاطب سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمثال هذه الخطابات لا يسع إلا في وسعه وقابليته، فقال: { واذكر } أي: تذكر وتحقق { ربك } الذي أظهرك على صورته { في نفسك } إذ أنت ظاهره { تضرعا وخيفة } متضرعا متجنبا، خائفا عن غفلة الناسوت { ودون الجهر من القول } إخفاء من المحجوبين الجاهلين برتبتك، وغيرة عليه سبحانه { بالغدو والآصال } أي: بجميع أوقاتك التي جرى عليك على مقتضى بشرتيك { و } بالجملة: { لا تكن من الغافلين } [الأعراف: 205] لتحققك في مقام الشهود.
{ إن الذين } حصلوا وتمكنوا { عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و } لا يلتفتون إلى ما سواه، بل { يسبحونه } أي: ينزهونه ويقدسونه عما يصور لهم ويوهمهم منه سبحانه ناسوتهم { وله يسجدون } [الأعراف: 206] بمقتضى لاهوتهم منسلخين عن هوياتهم الباطلة بلا التفات منه إلى ما خيلتهم ناوستهم أصلا.
ربنا اكشف عنا بفضلك حجب ناسوتنا، وحققنا بفضاء لاهوتك بمقتضى لاهوتهم.
خاتمة السورة
عليك أيها المتوجه نحو القبلة الأحمدية والمقصد الأحدية المحمدية - هداك الله إلى سواء سبيله، وأوصلك إلى مقرك من التوحيد - أن تتوجه إلى فضاء قلبك وتتذكر ما فيه من ودائع ربك على وجه الخيرة والاستبصار، مجتنبا عما يشوشك من غبار الأغيار، معيرا بمعيار العبرة والاعتبار؛ بحث لا يلهبك عنها وسوسة الشيطان المكار، وتعزيرات الدنيا الغرار الغدار، لا يتيسر لك هذا إلا بتذكر ما في كتاب الله من المواعظ والأخبار والآثار وامتثال ما فيه من الأوامر والنواهي والتدبر في سرائرها، واستكشاف حكمها وأسرارها.
عليك أن تتوسل في استرشادك من كتاب الله إلى أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هي مبينة له، كاشفة عن سرائره ومرموزاته، موضحة لما فيه من الغوامض، متكفلة لحفظ عقيدتك عن التزلزل والانحراف عن جادة الهداية، موصلة لك بقدر قابليتك إلى مسالك مسائك التوحيد.
فلك أن تواظب على الاستفادة ناويا في استفادتك استخلاص نفسك عن ربقة التقليد مستقبلا في سلوكك إلى مقر المعرفة والتوحدي، مشمرا ذيلك عن جميع ما يعوقكم ويمنعك من لوازم بشريتك، ملتجئا نحو الحق في جميع حالاتك، مستمدا في سلوكك هذا عن أرباب الولاء الوالهين في مطالعة جمال الله، والواصلين إلى فضاء وحدته وبقائه منخلعين عن جلباب ناسوتهم بالكلية؛ بحيث لا يلتفتون إلى مقتضيات بشريتهم أصلا إلا البدلاء وهم الحائرون الحاضرون الوالهون، الواصلون الفانون الباقون، المتبدلون المتحققون
ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62].
ربنا اجعلنا بفضلك من خدامهم وتراب أقدامهم.
[8 - سورة الأنفال]
[8.1-4]
{ يسألونك } أي: أصحابك لك أيها الرسول، المبعوث على الخق العظيم { عن الأنفال } أي: قسمة الغنائم، عبر سبحانه عنها بالنفل، وهو في اللغة: عطية زائدة اشترطها الإمام لمن اقتحم على محل الخطر زيادة على سهمه؛ لأنها زائدة على سهام الغزاة المجاهدين، المقاتلين في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الحق طلبا لمرضاته، وما يترتب عليه من أموال الدنيا بمنزلة النفل والعطية الزائدة على سهامهم التي هي المثوبة العظمى والمرتبة العليا عند الله.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل: { الأنفال } كلها { لله } ومن مال الله، وقسمتها مفوض إليه سبحانه { و } إلى { الرسول } المستخلف منه، النائب عنه بإذنه { فاتقوا الله } أيها المؤمنون عن مخالفة أمره وأمر رسوله { وأصلحوا ذات بينكم } أي: الحالة والعداوة التي وقعت بينكم بوسوسة الشيطان وإغوائه { وأطيعوا الله ورسوله } أي: انقادوا أمرهما ولا تتجاوزوا عن حكمهما { إن كنتم مؤمنين } [الأنفال: 1] موقنين بتوحيد الله وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم.
{ إنما المؤمنون } الكاملون في الإيمان، المتحققون بمرتبة اليقين والعرفان، المصدقون بالرسل المبين لهم طريق التوحيد، هم { الذين إذا ذكر الله } الواحد الأحد، المتفرد بالألوهية، المتوحد بالربوبية { وجلت } أي: خافت وترهبت، واضطربت { قلوبهم } من سطوة سلطنة عظمته وجلاله { وإذا تليت عليهم ءايته } الدالة على بسطته وكبريائه؛ النازلة على رسله وأنبيائه { زادتهم } تلك الآيات { إيمنا } وتصديقا وإذعانا، ويقينا وعيانا وعرفانا { و } هم من كمال يقينهم وعرفانهم { على ربهم } لا على غيره من الأسباب الناقصة { يتوكلون } [الأنفال: 2] أي: يتوصلون ويستعينون في جميع الأمور لتحققهم وتمكنهم ي مقام التوحيد المسقط للالتفات إلى غير الحق مطلقا.
{ الذين يقيمون الصلاة } أي: يديمون الميل إلى الله في جميع حالاتهم مراقبين لفيضه وجذب من جانبه { ومما رزقناهم } من كد يمينهم { ينفقون } [الأنفال: 3] في سبيله؛ طلبا لمراضاته.
{ أولئك } السعداء المقبولون عند الله { هم المؤمنون } المتحققون بمرتبة الإذعان والإيقان { حقا } ثابتا مستقرا بلا اضطراب وتزلزل { لهم درجات } عظيمة { عند ربهم } من درجات العلم والعين والحق { ومغفرة } ستر لأنانيتهم وتعيناتهم { ورزق كريم } [الأنفال: 4] معنوي بدلها، يرزقون بها فرحين عناية من الله؛ لأن من توجه نحو الحق، ومال إلى جانبه ميلا مسقطا للتوجه إلى الغير مطلقا، وخرج عن لوازم الإمكان إلى حيث ينفق ويبذل جميع ما نسب إليه من أموال الدنيا إعراضا عنها، مخرجا محبتها من قلبها أعطلى له سبحانه بدل إخلاصه من الرزق المعنوي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر عى قلب بشر.
[8.5-8]
{ كمآ } أعطاك يا أكمل الرسل حين { أخرجك ربك من بيتك } حين أخبرك جبريل عليه السلام من إقبال عير مكة من قبل الشام، وفيها أبو سفيان ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع { و } الحال { إن فريقا من المؤمنين لكارهون } [الأنفال: 5] خروجك.
ومن كمال كراهتهم { يجادلونك في الحق } الصريح الذي هو الجهاد، سيما { بعد ما تبين } وظهر لك بوحي الله إياك، ووعده النصر والظفر لك، وهم من غاية رعبهم حين خروجهم { كأنما يساقون إلى الموت } مثل البهائم إلى المسلخ { وهم } حينئذ { ينظرون } [الأنفال: 6] حيارى مرعوبين، ومع أ،هم كتب له الظفر والغنيم، والغلبة من عند ربهم.
" وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام، وفيهم أبو سفيان مع أربعين من الفرسان ومعهم تجارة عظيمة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر به الرسول للمؤمنين فخرجوا مسرعين بلا عدة استقلالا لهم وميلا إلى أموالهم، فلما خرجوا من المدينة بلغ خبر خروجهم إلى العير فانصرفوا إلى الطريق، وأرسلوا خبرهم إلى مكة فاستغاثوا، فخرج أبو جهر مع جمع كثير فمضوا إلى بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي دفران، فنزل جبريل عليه السلام ثانيا يعده إحدى الطائفتين؛ أي: العدو و العير، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وإن كان رأيه إلى المقاتلة مع العدو.
فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال؛ حتى نتأهب له، إنا خرجنا للعير، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن العير مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل " ، فقالوا كارهين مرعوبين خائفين: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك بالعير، ودع العدو فضغب صلى الله عليه وسلم، فقال المقداد بن عمرو: يا رسول الله امض بما أمرك الله، فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب انت وربك فقالات، إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: إذه بأنت وربك فقالا، إنا معمكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - مدينة بأقضى الحبشة - مضينا معك لا تكاسل و مخالفة، فدعا صلى الله عليه وسلم خيرا.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: اجتمعوا علي أيها الناس، يريد الأنصار القائلين حين بايعوه على العقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف ألا يروا نصرته إلا على عدوهم بالمدينة، فقال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: قد آمنا لك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطينا على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت على البحر لخضنا معك بلا تخلف أتحسب أنا إذا لا قينا العدو نتكاسل ونتساهل، ولعل الله يريد منا ما تقر به عينك.
ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشطه ول سعد، ثم قال: " سيروا على بركة الله، وأبشروا فإن الله سبحانه وعدني الآن إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ".
{ و } اذكروا أيها المؤمنين وقت { إذ يعدكم الله } بالوحي على رسوله { إحدى الطآئفتين } مغلوبة مقهورة { أنها لكم و } أنتم حين سمعتم الوحي { تودون } وتحبون { أن غير ذات الشوكة } أي: العير { تكون لكم } لأن أهلها قليل، ومالها كثير لا احتياج لكم إلى المقاتلة معهم؛ لقلتهم وعدم شركتهم { ويريد الله } بمقتضى قهره وقدرته { أن يحق } أي: يثبت ويظهر { الحق } أي: التوحيد المطابق للواقع الذي هو الإسلام { بكلماته } الملقاة من عنده لملائكته حين أمرهم بإمداد حبيبه الذي بعثه؛ لإعلاء كلمة توحيده { ويقطع دابر الكافرين } [الأنفال: 7] أي: يستأصلهم إلى حيث لم يبق منهم من يستخلفهم، كل ذلك فضل من الله وامتنان على رسوله.
{ ليحق الحق } أي: الإسلام المحقق المطابق لما عند الله { ويبطل الباطل } المخالف لدين الإسلام { ولو كره المجرمون } [الأنفال: 8] المصرون على ما هم عليه قبل نزول الإسلام، ما أراد الله من تحقيق الحق وتمكينه، وإبطال الباطل وتخذيله.
[8.9-11]
اذكروا أيها المؤمنون فضل الله عليكم ورحمته { إذ تستغيثون ربكم } حين اقتحم العدو وأنتم عزل قلائل، وهم متكثرون ذو عدد وعدد { فاستجاب لكم } ربكم مغيثا قالا لكم على لسان نبيكم: { أني } بحولي وقوتي { ممدكم } أي: معينكم ومغنيكم { بألف من الملائكة مردفين } [الأنفال: 9] على عددكم، يضربونهم من ورائهم، وأنتم من قدامهم.
{ وما جعله الله } أي: إمدادكم أيها المؤمنون بملائكة السماء { إلا بشرى } لك بفضلكم وكرامتكم عليهم { ولتطمئن به قلوبكم } في جميع ما وعدكم الله به { و } اعلموا أيها المتحققون بمقام التوحيد { ما النصر } والغلبة والظفر { إلا من عند الله } القادر المقتدر على كل ما أراد واختار { إن الله } المتعزز برداء العظمة والجلال { عزيز } غالب على جميع مقدوراته ومراداته { حكيم } الأنفال: 10] متقن في جميع أحكامه ومأموراته يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
اذكروا أيها المؤمنون فضل الله عليكم وامتنانه { إذ يغشيكم } ويغلب عليكم بلطفه { النعاس } أي: النومة؛ إزالة لرعبكم حين كنتم في سهر من خوف العدو؛ لتكون { أمنة } نازلة { منه } لتستريحوا وتطمئن قلوبكم { وينزل عليكم من السمآء مآء } حين كنتم مجنبين بإغواء الشيطان وعدوكم على الماء، والشيطان يعيركم بجنابتكم، ويوسوس عليكم بأنكم تدعون الإمامة والولاية؟ كيف تخرجون غدا تجاه العدو وأنتم مجنبين ودعواكم أن القتال والجهاد من اشرف العبادات؟ وبأمثال هذه الهذايانات يوقع بينك الفتنة؛ لتقعدوا عن القتال، وأنتم أيضا مضطربون بما معكم عليه من الجنابة، أنزل الله عليكم المطر { ليطهركم به } أي: بالماء، أبدانكم عن الجنابة الصورية، كما طهر قلوبكم بماء العلم اللدني ورشحات التوحيد من الجنابة المعنوية التي هي الكفر والنفاق.
{ و } بالجملة: { يذهب عنكم } بإنزال المطر { رجز الشيطان } أي: وسوسته وإيقاعه، ونخويفه من العطش وغيرها { وليربط على قلوبكم } بإنزاله، إنه سبحانه يعين عليكم وينصركم حين اضطراركم؛ ليزداد وثوقكم به وبنصره، وعونه وإنجاز وعده { ويثبت به الأقدام } [الأنقال: 11] أي: بهذا الربط، أقدامكم على جادة التوحيد والتوكيل إلى الله، والتفويض نحوه في جميع الأمور.
[8.12-14]
اذكر يا أكمل الرسل، وذكر من تبعك فضل الله عليك وعلى أصحابك وقت { إذ يوحي ربك إلى الملائكة } المأمورين؛ لعونك وإمدادك حين ازداد رعب أصحابك من اقتحام القتال، قائلا له: { أني } بكمال حولي وقوتي { معكم } حاضر عندكم، شهيد عليكم { فثبتوا الذين آمنوا } في مكانهم تجاه العدو حتى يستدبروا؛ إذ { سألقي } من كما لنصري وعوني للمؤمنين { في قلوب الذين كفروا } أي: قلوب العدو { الرعب } من المؤمنين فاستكثروهم واستدبروا منهم، ومتى استدبر العدو { فاضربوا } أيها المؤمنون { فوق الأعناق } أي: أعاليها { و } إن وضعوا جننهم وأيديهم على أعناقهم؛ حفظا لها { اضربوا منهم كل بنان } [الأنفال: 12] أي: جميع أصابعهم؛ لئلا يبقى لهم استعداد للقتال أصلا؛ حتى لا يكروا عليكم.
{ ذلك } أي انهزامهم وانخذالهم { بأنهم شآقوا الله ورسوله } أي: خاصموا وخالفوا مع الله ورسوله { ومن يشاقق الله } القادر المقتدر على كل ما أراد من القهر والانتقام { و } يخاصم { رسوله } المؤيد من عنده؛ لتبليغ الأحكام استحق انواع العقوبة والنكال من عنده { فإن الله } المتعزز برداء العظمة والجلال { شديد العقاب } [الأنفال: 13] صعب الانتقام سريع الحساب على من خالف أمره وعادى رسوله.
{ ذلكم } أي: أنواع العقوبة والعقاب نازل على من تعدى حدود الله وكذب رسوله { فذوقوه } أيها المخالفون المصرون ما أعد لكم من العذاب { و } اعلموا { أن للكافرين } المصرين المتمردين { عذاب النار } [الأنفال: 14] يخلدون فيها أبد الآباد.
[8.15-18]
ثم قال سبحانه: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: إعلاء كلمة الحق وانتصار دينه، فعلكيم { إذا لقيتم الذين كفروا } أن تقاتلوا معهم، وإن كانوا { زحفا } متكثرين بأضعافكم { فلا تولوهم الأدبار } [الأنفال: 15] أي: لا ترجعوا منهم حين الالتقاء إلى أدباركم خالئفين منهزمين حال كونهم بأضعافكم، فكيف إن كانوا مثلكم أو أقل منكم؟!.
{ ومن يولهم } منكم { يومئذ } إلى يوم ملاقاة العدو { دبره } أي: مدبرا خائفا { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا } أي: قاصدا بالاستدبار التحيز واللحوق { إلى فئة } ثابتة من المؤمنين؛ ليستعين بهم { فقد بآء } أي: رجع ولحق { بغضب } نازل { من الله } لمخالفة أمره وحكمه، وحكمته { ومأواه } في النشأة الأخرى { جهنم } العبد والخذلان { وبئس المصير } [الأنفال: 16] مرجعه ومصيرهز
وعليكم أيها المؤمنون ألا تنسبوا القتل، بل جميع ما صدر منكم إلى نفوسكم مفاخرة ومباهاة، بل إن قتلتموهم صورة { فلم تقتلوهم } حقيقة { ولكن الله قتلهم } لأن جميع الأمور الكائنة في الآفاق صادرة من الله أولا وبالذات، ومن آثار أوصافه وأسمائه { و } بالجملة: { ما رميت إذ رميت } أيها النبي المأمور برمي الحصا حين هجوم الأعداء على أصحابك { ولكن الله رمى } أي: أوجد سبحانه الرمي بيدك التي هي
يد الله فوق أيديهم
[الفتح: 10]؛ لذلك ترتب على رميك انهزامهم الذي يستبعدونه أنتم وهؤلاء أيضا.
{ و } إنما رماهم سبحانه بما رمى { ليبلي } ويجرب { المؤمنين منه بلاء حسنا } أي: بنعمة الغنيمة والظفر، هل يرجعون ويواظبون على شكر نعمه أم لا؟ { إن الله } المصلح لأحوال عباده { سميع } يسمع مناجاتهم الصادرة منهم على وجه الخلوص { عليم } [الأنفال : 17] بحاجاتهم التي يحتاجون إليها في معاشهم ومعادهم.
{ ذلكم } أي: ابتلاء الله بالبلاء الحسن، مختص بالمؤمنين { و } اعلموا أيها المؤمنون { أن الله } المولي لأموركم { موهن } مضعف ومبطل { كيد الكافرين } [الأنفال: 18] ومكرهم وحيلهم التي يقصدون بها إهلاككم وإذلالكم.
[8.19-23]
ثم قال سبحانه على سبيل التهكم للكافرين الذين كانوا إذا أقبل عليهم المؤمنون للقتال يطوفون حول الكعبة مشبثين بأستارها متضرعين مستفتخحين من الله، قائلين: اللهم انصر أعلت الجندين وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين { إن تستفتحوا } أيها ا لهالكون في تيه الضلال؛ لمقاتلة نبينا ومن تبعه من المؤمنين { فقد جآءكم الفتح } بقتلكم وسبيكم؛ أي: غلبة المؤمنين عليكم { وإن تنتهوا } عن مقاتلتهم ومعاداتهم، وعن الاستفتاح لها، بل آمنوا كما آمن هؤلاء لنبينا عن ظهر القلب { فهو خير لكم } في أولاكم وأخراكم { وإن } صالحوا معهم وآمنوا نفاقا، ثم ارتدوا، بأن { تعودوا } إلى مقاتلتهم ومعاداتهم { نعد } إلى نصرهم وتأييدهم إلى أن يستأصلوكم ويخرجوكم من دياركم.
{ و } لا تغتر بكثرة عددكم وعددكم؛ إذ { لن تغني } وترفع { عنكم فئتكم } التي تستظهرون بها { شيئا } من غلبة المؤمنين وظفهرم { ولو كثرت } فئتكم { و } كيف تغني فئتكم شيئا منهم { أن الله } القادر المقتدر بالقدرة الكاملة { مع المؤمنين } [الأنفال: 19] المجاهدين في سبيله؛ لإعلاء كلمة توحيده، ونصر دينه ونبيه ينصرهم ويعين عليهم.
ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين توصية: وتذكروا { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم { أطيعوا الله } إطاعة الله { و } إطاعة { رسوله } المبلغ لكم أحكام الحق وشعائر دينه وتوحيده { و } عليكم أن { لا تولوا } أي: لا تتولوا معرضين { عنه } عن رسوله حتى لا تنحطوا عن رتبة الخلافة، وكيف لا تطيعون رسوله { وأنتم تسمعون } [الأنفال: 20] كلمة الحق منه سمعا وطاعة؟!.
{ ولا تكونوا } في عدم الإطاعة والانقياد له { كالذين قالوا } كفرا ونفاقا: { سمعنا } ما تلوت علينا { وهم } من غاية بغضهم ونفاقهم { لا يسمعون } [الأنفال: 21] سمع إطاعة وتسليم، فكأنهم لم يسمعوا أصلا، بل لا يتأتى منهم السماع لانحطاطهم عن رتبة العقلاء، ولحقوا بالبهائم في عدم الفطنة، بل أسوأ حالا منها.
{ إن شر الدواب عند الله الصم } عن استماع كلمة الحق عن ألسنة الرسل والإطاعة بها { البكم } عن التكلم بها بعدما فهموه، ولاحت عندهم حقيقتها، وبالجملة: هؤلاء هم { الذين لا يعقلون } [الأنفال: 22] أي: ليسوا من زمرة العقلاء وإن ظهروا على صورتهم وشكلهم. { ولو علم الله فيهم } أي: من استعداد هؤلاء السفهاء المنحطين عن مرتبة العقلاء { خيرا لأسمعهم } كلمة الحق سمع طاعة { ولو أسمعهم } مع أنهم ليسوا مستعدين له { لتولوا } وانصرفوا؛ من خبث طينتهم عنها { وهم } في أصل فطرتهم { معرضون } [الأنفال: 23] مجبولون على الأعراض، ولا يرجى منهم الإطاعة أصلا.
[8.24-26]
ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين تذكيرا له وتعليما: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: إجابة الله وإجابة رسوله { استجيبوا لله } بامتثال مأموراته وأحكامه واجتناب نواهيه { وللرسول } سنته وآدابه وأخلاقه { إذا دعاكم } وحده، باعتبار أن دعوة الرسول هي بعينها دعوة الحق { لما يحييكم } من العلوم الدينية والمعارف الحقيقية المثمرة للمكاشفات والمشاهدات التي اضمحلت دنها نفوس السوى والأغيار مطلقا، المورثة للحياة الأزلية والبقاء السرمدي التي لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى التي هي الانخلاع عن لوازم البشرية، ومقتضيات القوى البهيمية، ولا بد أن تكون إجابتكم وقولكم على وجه الخلوص والتسليم.
{ واعلموا أن الله } المطلع لضمائر عباده { يحول } ويحجب { بين المرء } المشخص بالهوية الشخصية، المتعين بالتعين العدلي { وقلبه } الذي يسع فيه الحق المنزه عن الإطلاق والتقييد، المبرئ عن الإحاطة والتحديد بالحجب الكثيرة فمادامت الحجب والأستار مسدولة بين المرء وقلبه لم يشم رائحة المحبة والولاء المؤدي إلى الفناء، المثمر للبقاء.
وانفتاح أبواب المحبة والولاء إنما يحصل بالإخلاص والتسليم والتفويض والتوكل والتبتل، والتوحيد المقسط للإضافات مطلقا { و } بالجلمة: { أنه } أي: الشأن { إليه } سبحانه لا إلى غيره بد رفع الأظلال الهالكة والتعينات الباطلة { تحشرون } [الأنفال: 24] ترجعون رجوع الظل إلى ذي الظل.
{ واتقوا } أيها المؤمنون { فتنة } أي: معصية مسقطة للعدالة، مزيحة للمروءة مورثة للمصيبة الشاملة إثرها لعباد الله مثل الطاعون المترتب على الزنا واللواط، والقحط المترتب على التخسير والتطفيف والاحتكار وغيرها من طرق الربا، مع أن أثرها { لا تصيبن الذين ظلموا } أي: أتوا بها { منكم خآصة } بل يعم الظالمين وغيرهم بشؤمهم؛ لأن غيرهم يداهنون معهم كأنهم راضون بفعلهم { واعلموا أن الله } المتعزز برداء العظمة { شديد العقاب } [الأنفال: 25] ضعب الانتقام، سريع الحساب لعى من خرج من مقتضى أمره ونهيه.
{ واذكروا } أيها المؤمنون نعمنا إياكم، وداموا بشكرها وقت { إذ أنتم قليل مستضعفون } يستضعفكم من { في الأرض } يعني: أرض مكة - شرفها الله - ومن غاية ضعفكم وقلتكم { تخافون أن يتخطفكم } ويلتقطكم { الناس } عن وجه الأرض إلى حيث يستأصلكم بالمرة؛ من غاية ضعفكم وقلتكم { فآواكم } الله بحوله وقوته، وأعادكم إليها بعدما أخرجكم العدو منها ظلما وزورا { وأيدكم بنصره } بأن تغلبوا وتظفروا على عدوكم، وتخرجوهم منها مهانين مغلوبين مستضعفين { و } بعدما أيدكم وأظفركم سبحانه { رزقكم من الطيبات } التي غنمتم منها { لعلكم تشكرون } [الأنفال: 26] رجاء أن تواظبوا شكر هذه النعم الجسام.
[8.27-30]
ثم قال سبحانه على وجه العظة والتذكير تعليما للمؤمنين، مناديا لهم؛ ليقبلوا بما أمروا ونهوا: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: أن { لا تخونوا الله } في امتثال أوامره واجتناب نواهيه { والرسول } في سنته وأخلاقه وآدابه التي وضعها فيما بينكم؛ لإصلاح حالكم { و } بالجملة: { تخونوا أماناتكم } التي ائتمنتم فيها اعتمادا وثقة { و } الحال أنه { أنتم تعلمون } [الأنفال: 27] قبح الخيانة من أنفسكم بلا احتياج إلى إنذار منذر، وإخبار مخبر، والخيانة في الأمانات إنما تنشأ من جلب المنفعة والحرص المفرط، وتكثير الميل إلى المال الصالح للعيال.
{ واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة } اختيار وابتلاء لكم من ربكم يجربكم هل تضطربون في أمر المال والعيال، وتوقعون لأجلها في المهالك وإباحة المحرمات، وارتكاب الخيانات المسقطة للمروءات مطلقا؟ أم تفوضون الأمور كلها إلى الله وترضون بما قضى عليكم، وقدر لكم في سابق علمه ولوح قضائه؟ { و } اعلموا { أن الله } المطلع لجميع حالاتكم { عنده } وفي كنف حفظه وجواره { أجر عظيم } [الأنفال: 28] للمفوضين الذين رضوا بقسمة الله في جميع حالاتهم، ووفوا بما ائتمنوا من الأمانات مجتنبين عن الخيانة فيها.
{ يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله } وتحذروا عن محارمة ومحضوراته مطلقا، وتؤدوا الأمانات التي ائتمنتم بها من الأموال والشهادات بلا خيانة فيها، وتفوضوا أموركم كلها إليه مجتنبين { يجعل لكم } وينزل على قلوبكم تفضلا وامتنانا { فرقانا } ينور به قلوبكم إلى حيث تميزون الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والإلهام الإلهي من إغواء الشيطان وتقريره { ويكفر } به ويمحو به { عنكم سيئاتكم } أي: جرائمكم اللاتي مضت عليكم بالمرة { و } بالجملة: { يغفر لكم } ويستر عنكم ذنوبكم مطلقا؛ تفضلا وامتنانا { و } لا تتعجبوا من أفضاله هذا، ولا تستبعدوا منه سبحانه أمثاله، إن { الله } المراقب لأحوال عباده { ذو الفضل العظيم } [الأنفال: 29] واللطف الجسيم على من توكل عليه، والتجأ نحوه في جميع حالات على وجه الخضوع والخشوع.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل إنجاءنا وخلاصنا إياك وقت { إذ يمكر } ويخدع { بك } إهلاكك ومقتك { الذين كفروا } يعني: قريشا شاوروا لأمرك في دار الندوة { ليثبتوك } ويحبسوك في دار ليس فيها منفذ ولا كوة يلقون منها طعامكم أحيانا { أو يقتلوك } مزدحمين؛ بحيث لم ينسب قتلك إلى معين منهم { أو يخرجوك } من مكة محمولا على عجل؛ ليقتلك القطاع { و } بالجملة: { يمكرون } أولئك الكفرة العصاة الطغاة لمقتك { ويمكر الله } الرقيب عليك؛ لإنجائك وخلاصك من أيديهم قغلب مكره سبحانه على مكره، وأخرجك من بينهم سالما { والله } المطلع لجميع محايلهم { خير الماكرين } [الأنفال: 30] أي: أشدهم وأقواهم تأثيرا وقوة.
وذلك أنهم حين سمعوا إيمان الأنصار تشاوروا على أظهرهم في أمره صلى الله عليه وسلم، وارتفاع شأنه، وسطوع برهانه فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا من نجد، سمعت اجتماعكم فأحضركم؛ لأعلم كيف تدبرون في أمر هذا الشخص الذي لو بقي زمانا على هذا يخاف عليكم من شرءه؟.
فقال أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه غير كوة يلقون إليه طعامه وشرابه حتى يموت، فقال الشيخ النجدي: بئس هذا الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه يخلصونه من أيديكم، فقال هشام بن عمرو: رأيي أن يحملوه على جمل فيخرجوه من أرضكم، ولا يلحقكم ضرر بني هاشم، فقال الشيخ: يفسد قوما آخر ويقاتلكم بهم أما رأيتم طلاقة لسانه وحلاوة كلامه، ووجاهة منظره؟.
فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا، فيضربون دفعة واحدة فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حروب قريش كلهم، فإن طلبوا العقل عقلناه، فقال الشي: صدق هذا التفى، واتفقوا على رأيه.
فأتى جبريل النبي - عليهما السلام - وأخبره الخبر وأمره بالهجرة فبيت صلى الله عليه وسلم عليا - كرم الله وجهه - على مضجعه متسجيا ببرده، وخرج صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه ومضيا إلى الغار وبات المشركون يحرسون عليا - كرم الله وجهه - يحسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ساروا ليقتلوه قرأوا عليا، فقالوا: أين صاحبكم؟ فقال: ما أدري فاتبعوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه، فقالوا: لو دخله ليم يبق لنسج العنكبوت أثر، فمكث فيه صلى الله عليه وسلم ثلاثة ثم خرج نحو المدينة.
[8.31-33]
{ و } من مكرنا أياهم أنا ختمنا على قلوبهم وسمعهم بختم القساوة والغفلة بحيث { إذا تتلى عليهم آياتنا } مع أنهم عارضوا زمانا، ثم عجزوا مع وفوره دواعيهم، فلما عجزوا عن إتيان مثله { قالوا } مكابرة وعنادا: { قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هذا إن هذآ إلا أساطير الأولين } [الأنفال: 31] أي: أكاذيبهم التي سطروها في دواوينهم، لتعزيز السفهاء.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قالوا } من غاية عتوهم وفرط انهماكهم في الغفلة والضلال، وأصرارهم على تكذيب القرآن والرسول: { اللهم إن كان هذا } المفترى { هو الحق } الثابت النازل { من عندك فأمطر علينا } بسبب تكذيبنا إياه { حجارة من } جانب { السمآء } واستأصلنا بها { أو ائتنا بعذاب أليم } [الأنفال: 32] مؤلم مفزع، وما هذا إلا مبالغة في تكذيب القرآن والرسول على سبيل التهكم.
{ وما كان الله ليعذبهم } وإن استحقوا أشد العذاب والنكال والهلاك الكلي؛ بسبب تكذيبك وتكذيب كتابك { وأنت فيهم } يعني: ما دامت فيهم وفي ديارهم ومكانهم، فإن عذبهم الله فقد أصابك مما أصابهم { و } إن أمكن تخليصك وإنقاذك حين تعذيبهم { ما كان الله معذبهم } وما أراد تعذيبهم واستئصالهم { وهم يستغفرون } [الأنفال: 33] أي: يتوقع منهم، من أخلافهم الإيمان والاستغفار في الاستقبال بخلاف الأمم الهالكة من قبلأ.
[8.34-35]
{ وما لهم ألا يعذبهم الله } أي: أي شيء يمنع تعذيب الله إياهم مع أنهم مستحقون للعذاب؟ وكيف لا يعذبون هؤلاء المستكبرون المعاندون { وهم } من شدة عتوهم وعنادهم { يصدون } ويصرفون المؤمنين { عن المسجد الحرام } والطواف نحو البيت مدعين ولايته؟! { و } الحال أنهم { ما كانوا أوليآءه } أي: ليس لهم صلاحية الولاية في بيت الله؛ لخباثة كفرهم وفسقهم، وعدم لياقتهم { إن أوليآؤه إلا المتقون } الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ويتطهرون عن المعاصي والآثام مطلقا { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأنفال: 34] عدم ولايتهم ولياقتهم لها، ومع ذلك يدعونها مكابرة واستكبارا وإن كان بعضهم يعلم ولكن يعاند.
{ و } بعدما لم يصلحوا لولاية البيت { ما كان صلاتهم } ودعاؤهم { عند البيت } المعد للتوجه والتقرب نحو الحق على وجه الخضوع والانكسار، والتذلل والافتقار { إلا مكآء } صفيرا وصداء { وتصدية } تصفيقا وتبخترا، مع أنهم يدعون ولايته ورعاية حرمته، وما ذكل إلا من أمارات الاستهانة والاستخفاف المسلتزم للكفر { فذوقوا العذاب } أيها المنهمكون في الضلال { بما كنتم تكفرون } [الأنفال: 35] في النشاة الأولى والأخرى.
[8.36-37]
ثم قال سبحانه: { إن الذين كفروا } ستروا الحق، وأصروا على الباطل عنادا واستبكارا إلى حيث { ينفقون أموالهم } على وجه الصدقة لمتجيشين { ليصدوا } ويمنعوا أهل الحق { عن سبيل الله } إعلاء للباطل على الحق، وترويجا للضلالة على الهداية، وذلك يوم بدر { فسينفقونها } كثيرا أيضا على هذه النية؛ تتميما لغرضهم الفاسد ورأيهم الكاسد، فلا يصلون إلى مبتغاهم أصلا وإن بالغوا في الإنفاق.
{ ثم } بعدما تنبهوا بعدم إفادتها { تكون } وتصير تلك الصدقة والإنفاق { عليهم حسرة } متمكنة راسخة في قلوبهم، مورثة لحزن طويل؛ لتضييع المال بلا ترتيب فائدة تبغونها { ثم يغلبون } وهذا أعظم { و } بالجلمة: { الذين كفروا } بالله، وأعرضوا عن دينه ونبيه وكتابه { إلى جهنم } البعد والخذلان، وسعير الطرد والحرمان { يحشرون } [الأنفال: 36] يساقون سوق البهائم والمسخ.
وإنما يفعل بهم سبحانه هذا { ليميز الله } الناقد البصير لأعمال عباده { الخبيث } المنغمس في الكفر والضلال { من الطيب } الصافي عن شوب الكدر مطلقا { و } بعد فصله وتمييزه { يجعل الخبيث } جملة واحدة، بأن يضم { بعضه على بعض فيركمه } ويجمعه { جميعا فيجعله } ويطرحه بعد جمعه وتركيمه { في جهنم } الإمكان وجحيم الخذلان، وبالجملة: { أولئك } البعداء المنعمسون في خباثة الكفر والطغيان { هم الخاسرون } [الأنفال: 37] المقصورون على الخسران الأبدي، والمجبولون على الحرمان السرمدي، ليس لهم نصيب من مستلذات الجنان، وحظ من لقاء الرحيم الرحمن الكريم المنان.
[8.38-40]
{ قل } يا أكمل الرسل { للذين كفروا } تبشيرا لهم ووعدا: لا ييأس من روح الله وسعة جوده ورحمته عما هم عليه من الكفر والضلال، بل { إن ينتهوا } ويعرضوا عن الكفر والإلحاد نحو الباطل الزائغ، والميل إلى البدع والأهواء الفاسدة الكاسدة من تكذيب الكتب والرسل بالإيمان الخالص عن ظهر القلب، ورفع المنازعة والمخاصمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تابعه { يغفر لهم } ويعفى عنهم { ما قد سلف } من الجرائم مطلقا { وإن يعودوا } على كفرهم ونزاعهم، ويرتدوا بعد إيمانهم وصلحهم { فقد مضت سنت الأولين } [الأنفال: 38] أي: الأمم الهالكة الذين كفروا بالله، وخرجوا على رسله فأصابهم ما أصابهم، وكذلك يصيبهم مثل ما أصابهم فليتوقعوا.
{ و } بعدما خرجوا من عهدهم ونقضوا ميثاقهم، واتردوا على أدبارهم { قاتلوهم } أيها المؤمنون؛ أي: المرتدين، واستأصلوهم { حتى لا تكون } أي: توحد وتبقى { فتنة } بقية من شركهم مضلة لضعفاء الأنام { و } بعد استئصالهم وانقطاع شركهم وعرقهم { يكون الدين كله لله } الواحد الأحد الذي لا شريك له { فإن انتهوا } بالقتال عن شركهم وكفرهم، وأقروا بالإيمان والإطاعة فخلواسبيلهم { فإن الله } المطلع بضمائرهم { بما يعملون } في بواطنهم من الوفاق والنفاق { بصير } [الأنفال: 39] يجازيهم على مقتضى بصارته وخبرتهز
{ وإن تولوا فاعلموا } أي: لم ينتهوا بالقتال عن كفرهم، بل أصروا عليه وأخذوا أولياء من إخوانهم وشياطينهم، واستعانوا منهم بمقاتلتكم أيها المؤمنون لا تبالوا بهم وبمعاونيهم ومظاهريهم { أن الله } القادر المتقدر على وجوه الانتقام { مولاكم } معينكم ومولي أموركم { نعم المولى } مولاكم { ونعم النصير } [الأنفال: 40] نصيركم وظهيركم.
[8.41-42]
{ و } بعدما انتصرتم وظفرتم عليهم { اعلموا أنما غنمتم } منهم وأخذتم { من شيء } أي: مما يطلق عليه اسم الشيء حتى الخيط { فأن لله خمسه } أي: فاعلموا أن خمسه ثابت لله { و } يصرف من مال الله خمسه { للرسول } المستخلف منه، النائب عنه { و } بعد انقراضه يصرف إلى الولاة المقيمين لحدود الله، وسهم آخر منه { لذي القربى } المنتمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وعبد المطلب.
{ و } آخر حق { اليتامى } الذي لا مال له ولا متعهد { و } آخر حق { المساكين } الذين أسكنهم الفقر والفاقة في زاوية الهوان والمذلة { و } آخر حق { ابن السبيل } المنقطعين عن الأوطان لمصلحة شرعية، فعليكم أيها الحكام أن تحافظوا على هذه القسمة ولا تتجاوزوا عنها { إن كنتم آمنتم بالله } المستوي على العدل القويم.
ثم قال سبحانه: { ومآ أنزلنا } بمقتضى جودنا ولطفنا من النصر والظفر على الأعداء والإمداد بالملائكة { على عبدنا } وحبيبنا { يوم الفرقان } الفارق بين الحق والباطل والمحق والمبطل، وذلك { يوم التقى الجمعان } أي: الصنفان من الطرفين في بدر مع ضعف أهل الحق وقوة الكفار { والله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { على كل شيء } من نصر ضعفاء الأولياء وانهزام الأعداء { قدير } [الأنفال: 41].
اذكروا أيها المؤمنون ضعفكم ورثاثة حالكم وقت { إذ أنتم } مترددون { بالعدوة الدنيا } أي: على شفير الوادي التي هي أقرب إلى المدينة ولا ماء فيها، ورمالها تسوخ أرجلكم وأنتم راحلون { وهم } متمكنون { بالعدوة القصوى } أي: على شفير الوادي الأبعد من المدينة والماء عندهم { والركب } أي: العير التي قصدتم نحوه قد كان بمكان { أسفل } وأبعد { منكم } على ساحل البحر مقدار ثلاثة أميال، وأنتم حيارى بين الإقدام والإحجام.
{ و } بالجملة: { لو تواعدتم } أنتم وهم القتال في وقت معين بلا وحي من الله ووعد من جانبه { لاختلفتم } أنتم ألبتة؛ لضعفكم وقوتهم وهيبتهم { في الميعاد } الذي وعدتم معهم؛ لرعيكم ورهبتكم منهم { ولكن } جمع سبحانه بلطفه شملكم ومكنكم في مكانكم، وأمطر عليكم في ليلتكم { ليقضي الله } المولي لنصركم وغلبتكم { أمرا } حكما مبرما { كان مفعولا } عنده وإن لم يفعل بعد، وإنما فعل سبحانه بكم ما فعل من النصر والظفر بهم من القهر والقمع { ليهلك } من الكفار { من هلك } أي: مات وانخذل غيظا { عن بينة } واضحة شاهدتها { ويحيى } أيضا من المسلمين { من حي } فرحا { عن بينة } واضحة لائحة انكشف بها { و } اعلموا { إن الله } المطلع لضمائر عباده { لسميع } لمناجاة كلا الفريقين { عليم } [الأنفال: 42] بنياتهم، يفعل من كل منهم على مقتضى علمه.
[8.43-44]
اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ يريكهم الله } أي: أعدائك { في منامك قليلا } مما كانوا عليه، تشجيعا لكل ولأصحابك { ولو أراكهم كثيرا } وعلى شوكتهم التي هم فيها { لفشلتم } وخيبتم ألبتة رهبة وهيبة { و } بعدما خيبتم { لتنازعتم في الأمر } أي: أمر القتال بعدما عرفتم كثرتهم وشوكتهم، بل تشرفون على الاستدبار والانهزام { ولكن الله سلم } أي: أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع بإنزال السكينة والوقار على قلوبكم؛ بسبب تلبيس التقليل { إنه عليم بذات الصدور } [الأنفال: 43] بعلم مآل أمركم وعاقبته، لذلك لبس عليكم؛ ليجرئكم على القتال لإعلاء كلمة توحيده ونصر دينه.
{ و } اذكروا أيضا إمداد الله إياكم بتلبيس الأمر عليكم { إذ يريكموهم } أي: أعداءكم { إذ التقيتم } صافين من الطرفين { في أعينكم } كما في منامكم { قليلا } لتستقلوهم وتجترءوا عليهم { و } يلبس أمركم عليهم أيضا تغريرا لهم ومكرا؛ إذ { يقللكم في أعينهم } حتى لا يبالوا بكم ويجمعكم؛ ولذلك قال أبو جهل حين تراءت الفئتان: إن محمدا وأصحابه أكلة جذور، وإنما فعل سبحانه ما فعل من التلبيس على كلا الفريقين { ليقضي الله أمرا كان } عنده { مفعولا } حتما { و } بالجملة: { إلى الله } لا إلى غيره { ترجع الأمور } [الأنفال: 44] كلها؛ إذ منه بدأ وإليع يعود.
[8.45-47]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: الاعتصام بحول الله وقوته عليكم { إذا لقيتم فئة } من الكفار { فاثبتوا } وتمكنوا تجاة العدو ولا تضطربوا، ولا تستدبروا { و } بعد استقراركم وثباتكم { اذكروا الله } ذكرا { كثيرا } واستعينوا منه وتوكلوا عليه { لعلكم تفلحون } [الأنفال: 45] تفوزون بالنصر والظفر، والغلبة والغنيمة إن أخلصتم النية.
{ وأطيعوا الله ورسوله } في جميع حالاتكم، سيما عند المقابلة ومقاتلة العدو { ولا تنازعوا } باختلاف الآراء والأهواء، بل فوضوا أمورككم إلى الله ورسوله، وإن وقع النزاع والمخالفة بينكم { فتفشلوا } وتضعفوا فيفتر عزمكم { وتذهب ريحكم } أي: دولتكم وهيبتكم التي ظهرت عليكم من نور الإسلام { و } بعدما سمعتم ما سمعتم { اصبروا } على مشاق الجهاد، ورابطوا قلوبكم إلى الله ورسوله { إن الله مع الصابرين } [الأنفال: 46] المرابطين المتمكنين، يعين عليهم وينصرهم.
{ ولا تكونوا } أيها المؤمنون القاصدون نحو الجهاد { كالذين } أي: كالكفار الذين { خرجوا من ديارهم } يعني: مكة للقتال { بطرا } مفاخرين مباهين بعددهم وعددهم { و } يقصدون بذلك الخروج { رئآء الناس } ليثنوا بالشجاعة والسماحة { و } هم بمجرد هذا القصد الفاسد والنية الكاسدة { يصدون } أي: ينصرفون ويحرفون { عن سبيل الله } الموضوع على العدل القويم، المسمى بالصراط المستقيم { والله } المطلع بجميع أحوالهم { بما يعملون } ويؤملون من المخايل الفاسدة { محيط } [الأنفال: 47] بعلمه الحضوري، يجازيهم عليها بمقتضى علمه وخبرته.
[8.48-49]
{ و } من جملة ما يعين عليكم ويمد لنصركم: تغرير الشيطان وإغراؤه على أعدائكم إمدادا لكم فيصير وبالا عليهم، اذكروا { إذ زين } أي: حسن وحبب { لهم الشيطان أعمالهم } أي: عداوتهم وقتالهم معكم { وقال } الشيطان تحريضا لهم على القتال ملقيا في روعهم على سبيل الوسوسة، حتى خيلوا أنهم لا يغلبون أصلا اعتمادا على كثرة عددهم وعددهم: { لا غالب لكم اليوم من الناس } فلكم اليد والغلبة { وإني جار لكم } مجير لكم { فلما ترآءت الفئتان } أي: تلافيا وتلاحقا فرأى اللعين من صفوف الملائكة ما رأى { نكص على عقبيه } أي: رجع قهقرى { وقال إني بريء منكم } ومن جواركم { إني أرى } من جنود السماء { ما لا ترون } ينزلون منها؛ لإمداد هؤلاء بإذن الله { إني أخاف الله } من قهره وغضبه { والله } القادر على جميع وجوه الانتقام { شديد العقاب } [الأنفال: 48] أليم العذاب، لا نجاة للعصاة الغواة من عذابه وعقابه.
اذكروا { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } أي: الذين لم يصفوا عن شوب الشبهة، ولم يصلوا إلى مرتبة الاطمئنان في الإيمان، حين خرجتم نحو العدو مجزئين مع قلتكم وكثرة عددكم: { غر هؤلاء دينهم } فألقوا أنفسهم إلى التهلكة بأيديهم بخروج ثلاثمائة عزل بلا عدة إلى زهاء ألف مستعدين، لا تبالوا أيها المطمئنون بالإيمان بهم وبقولهم، لا تفتروا وتضعفوا من هذياناتهم، بل توكلوا على ربكم وفوضوا الأمر إليه { ومن يتوكل على الله } فهو حسبه { فإن الله عزيز } غالب في ذاته، قادر على إعانة من استعان منه { حكيم } [الأنفال: 49] متقن في فعله وأمره، ويأمر ما تستبعده العقول وتدهش فيه الأحلام.
[8.50-53]
{ ولو ترى } أيها الرائي وقت { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } أي: يتوفاهم الملائكة، ويقتلهم يوم بدر حال كونهم { يضربون وجوههم } من يأتي منهم من أمامهم { وأدبارهم } أي: يضربون من خلفهم من يأتي من ورائهم { و } يقولون حين ضربهم وقتلهم تقريعا وتوبيخا: { ذوقوا } أيها المعاندون المعادون مع الله ورسوله { عذاب الحريق } [الأنفال: 50] أي: أنموذج عذاب النار حتى تصلوا إليها، ولو رأيت حالهم حينئذ أيها الرائي لرأيت أمرا فظيعا فجيعا.
{ ذلك } العذاب والنكال في النشأة الأولى والآخرة إنما عرض عليكم أيها المسرفون { بما قدمت أيديكم } أي: بشؤم ما كسبتم لأنفسكم من الكفر والشرك ومعاداة الرسول والمؤمنين، وبمقدار ما اقترفتم بلا ظلم عليكم { و } اعلموا { أن الله } المستوي على العدل القويم { ليس بظلم } أي: ظالم { للعبيد } [الأنفال: 51] الذين يظلمون أنفسهم باقتراف المعاصي والآثام، بل يجازيهم على مقتضى جرائمهم عدلا منه سبحانه.
إذ دأب هؤلاء المصرين المعاندين { كدأب آل فرعون } أي: سنتهم وعملهم كعمل آل فرعون وسنتهم { و } كدأب القوم { الذين } مضوا { من قبلهم } كعاد وثمود { كفروا } أولئك البعداء الخارجون عن طريق الحق { بآيات الله } المنزلة على رسله عتوا وعنادا كهؤلاء المصرين المستكبرين { فأخذهم الله } المنتقم منهم { بذنوبهم } التي كسبوها لنفوسهم كهؤلاء { إن الله } المتعزز برداء العظمة والجلال { قوي } على الانتقام { شديد العقاب } [الأنفال: 52] على من خرج عن مقتضى أمره، بحيث لا يرفع عقابه شيء.
{ ذلك } أي: حلول الغضب والنكال عليهم { بأن الله } المنعم المفضل { لم يك مغيرا } مبدلا محولا { نعمة أنعمها على قوم } تفضلا وامتنانا { حتى يغيروا } ويبلدوا { ما بأنفسهم } من مقتضيات العبودية والانقياد بالخروج عن حدود الله، ونقض عهوده وارتكاب نواهيه ومحظوراته، وتكذيب آياته ورسله كما غيرها قريش { وأن الله } المطلع لأحوال عباده { سميع } لما يقولون على الله وعلى رسوله حين بطرهم وغفلتهم { عليم } [الأنفال: 53] بما يخفون في نفوسهم من الأباطيل.
[8.54-56]
إذ دأب هؤلاء المسرفين المغيرين على ما هم عليه من المظاهرة والوفاق، والأخوة والقرابة { كدأب آل فرعون } خلوا { والذين من قبلهم } على ديدنتهم وسنتهم { كذبوا بآيات ربهم } كهؤلاء المكذبين { فأهلكناهم } وأستأصلناهم { بذنوبهم } أي: بشؤم ذنوبهم بأنواع العذاب بالطوفان والريح، والخسف والكسف { و } لا سيما { أغرقنآ آل فرعون } المسرفين المبالغين في العتو والاستكبار في اليم؛ لاستغراقهم في بحر الغفلة والضلال { وكل } من أولئك الطغاة وهؤلاء الغواة { كانوا ظالمين } [الأنفال: 54] أنفسهم بالخروج عن ربقة العبودية ورق الإطاعة والانقياد؛ لذلك جزيناهم بما جزيناهم وهل نجازي إلا الكفور؟!.
ثم قال سبحانه تسجيلا عليهم بالكفر والضلال: { إن شر الدواب عند الله } الحكيم المظهر المتقن في إظهارها { الذين كفروا } بالله وآياته ورسله، وأصروا عليه بلا تمايل منهم إلى الإيمان؛ لرسوخهم فيه { فهم } من خبث طينتهم { لا يؤمنون } [الأنفال: 55] أي: لا يرجى منهم الإيمان أصلا.
عبر سبحانه عنهم بلفظ الدواب؛ لانخلاعهم عن مقتضى الإنسانية الذي هو الإيمان والمعرفة مطلقا فلحقوا بالبهائم، بل أسوأ حالا منها، لذلك قال سبحانهك
إن شر الدواب
[الأنفال: 22، 55].
وإنما صاروا من شر الدواب؛ لأنهم { الذين عاهدت منهم } يا أكمل الرسل وأخذت مواثيقهم مرارا { ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } وما هي إلا من شدادتهم وخباثة طينتهم، وعدم فطنتهم لحكمة المعاهدة والمواثيق { وهم } من تركب جهلهم { لا يتقون } [الأنفال: 56] ولا يتركون الغدر والنفاق، ولا يوفون بالعهد والميثاق.
[8.57-59]
{ فإما تثقفنهم } وتظفرون عليهم { في الحرب فشرد بهم } وفرق جمعهم، وشتت شملهم بحيث ينقطع منهم { من } يأتي { خلفهم } من مظاهرهم ومعاوينهم { لعلهم } بتشتيتك وتفريقك إياهم { يذكرون } [الأنفال: 57] يتعظون وينتبهون من أمرك وتأييدك فيؤمنوا بك وبما جئت به.
{ وإما تخافن من قوم } عاهدت معهم، وأخذت الميثاق عنهم { خيانة } ونقضا من إمارات لاحت منهم وظهر عليهم { فانبذ } واطرح { إليهم } أولا عهدهم { على سوآء } بلا عذر وخداع، وأظهر العداوة، وارفع المعاهدة على رءوس الملأ، ثم اخرج عليهم بالقتال؛ لئلا يؤدي إلى الخيانة والغدر { إن الله } المتصف بالعدل القويم { لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58] المخادعين الغادرين، سيما من المؤمنين الموحدين.
{ ولا يحسبن } يا أكمل الرسل { الذين كفروا } بالله وبك { سبقوا } مضوا وانقرضوا على { إنهم لا يعجزون } [الأنفال: 59] المؤمنين، ولا يضطرونهم إلى القتال فعليكم جمع العدة والتهيئة.
[8.60-63]
{ وأعدوا } أيها المؤمنون { لهم ما استطعتم من قوة } أي: هيئوا لقتالهم من الآلات والأسباب ما يحتاجون في حرابهم، سيما آلات الرمي { ومن } جملة العدة: { رباط الخيل } أي: شد الفرس وارتياضه ليوم الحرب ما يفعله ويشده الأبطال المتشوقون إلى القتال { ترهبون به } أي: بالأعداد والشد { عدو الله وعدوكم } وهم الذي في حواليكم يقاتلونكم، ويخاصمون معكم جهرة وعلانية؛ يعني: كفار مكة.
{ و } ترهبون به أيضا { آخرين من دونهم } يعني: الذين ينفاقون معكم ويظهرون إطاعتكم وإخاءكم ظاهرا، ويريدون إهلاككم ومقتكم في بواطنهم { لا تعلمونهم } أي: عداوتهم؛ لإخفائهم وإظهارهم صدقاتكم { الله } المطلع لضمائرهم { يعلمهم } ويعلم عداوتهم ونفاقهم، ويجازيهم عليها { وما تنفقوا من شيء } للأعداء والتجهيز { في سبيل الله } ونصر دينه، وإعلاء كلمة توحيده { يوف إليكم } جزاؤه بأضعاف ما تصرفون وآلافه { وأنتم } في إنفاقكم وإعدادكم { لا تظلمون } [الأنفال: 60] أي: لا تنقصون من جزائه ولا تخسرون، بل تربحون وتفوزون بما ترضى به نفوسكم، وبما لا تدركه عقولكم من الكرامة تفضلا وامتنانا.
{ و } بعدما أعددتم عددكم، وهيأتم أسباب الحرب { إن جنحوا للسلم } أي: مال أعداؤكم للمصالحة والمعاهدة { فاجنح لها } أي: مل وأرض أيها الداعي للخلق إلى الحق تليينا لهم وتلطيفا معهم على مقتضى مرتبة النبوة والتكميل { وتوكل على الله } في جميع أمورك وثق به سبحانه، ولا تخف من مكرهم وخداعهم، فإن الله حسبك وظهيرك يحفظك من مكرهم وغدرهم { إنه } بذاته { هو السميع } لأقوالهم { العليم } [الأنفال: 61] بنياتهم وأعمالهم.
{ وإن يريدوا } بعدما صالحوا وعاهدوا { أن يخدعوك } ويمكروا بك وبأصحابك فلا تبالوا بهم وبغدرهم وخداعهم { فإن حسبك } أي: كافيك وظهيرك، ومولى جميع أمورك { الله } الرقيب عليك في جميع حالاتك، كيف لا يرقبك من مكرهم { هو الذي أيدك } وقواك، وأظفرك عليهم { بنصره } بلا أعداء ورباط خيل { و } بعد تأييدك بنصره أيدك أيضا { بالمؤمنين } [الأنفال: 62] بإيمانهم وإطاعتهمن لك، وبذل مالهم ومهجهم لتقويتك وإعلاء دينك.
{ وألف بين قلوبهم } بحيث ارتفع غشاوة الحمية وحجب العصب عن ضمائرهم مطلقا، وصاروا في محبتك ومودتك مستوية الأقدام، متحابين لله، منخلعين عن لوازم البشرية مطلقا ، مع كونهم في جاهليتهم على التغالب والتهالك بمقتضى الحمية الجاهلية والغيرة البشرية بحيث { لو أنفقت } وصرفت { ما في الأرض جميعا } لائتلافهم واجتماعهم { مآ ألفت بين قلوبهم } لشدة بغضهم ونفاقهم { ولكن الله } المحول لأحال عباده { ألف بينهم } بمقتضى لطفه وجماله؛ لينصروك ويقبلوا دينك، ويصلوا إلى مرتبة اليقين والعرفان، ويتحققوا في مقر التوحيد { إنه عزيز } غالب على جميع مراداته ومقدوراته { حكيم } [الأنفال: 63] متقن في جميع أفعاله، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
[8.64-66]
{ يأيها النبي } المؤيد من عند الله بالنصر والظفر على الأعداء { حسبك الله } المولي لأمورك { ومن اتبعك } بإذن الله ومشيئته { من المؤمنين } [الأنفال: 64] الموقنين بتوحيد الله، الموفين بعهوده، الباذلين مهجهم في سبيله.
{ يأيها النبي } المظفر المنصور بنصر الله { حرض } ورغب { المؤمنين } الموحدين { على القتال } في سبيل الله؛ لترويج توحيده، وقل لهم نيابة عنا ووعدا منا: { إن يكن منكم } أيها المؤمنون { عشرون صابرون } مستقرون ثابتون تجاه العدو { يغلبوا مئتين } منهم بتأييد منا وعون { وإن يكن منكم مئة } صابرة راسخة، متمكنة { يغلبوا ألفا من الذين كفروا } بإمدادنا إياكم إلى حيث يقاوم واحد منكم عشرة منهم، ذلك المغلوبية والانهزام إنما عرض عليهم { بأنهم قوم لا يفقهون } [الأنفال: 65] أي: لا يصلون إلى مرتبة العلم اليقيني بالله وكتبه ورسله، حتى يترقوا منه إلى مرتبة العين والحق، بل يبقون على مرتبة الحيوانية مهانين مغلوبين مخذولين.
هذا في بدء الإسلام وضعف المسلمين وقلتهم، وبعدما ارتفع قدره وعلا رتبته وكثر أهله وانتشر في الآفاق قال سبحانه: { الآن } أي: حين كثر عددكم وعددكم، وثقل عليكم ما أمرتم { خفف الله } الميسر لأموركم أثقالكم { عنكم وعلم } بعلمه الحضوري { أن فيكم ضعفا } تستثقلون بتحمل المأمور به، أمركم ثابتا بقوله: { فإن يكن منكم مئة صابرة } ثابتة { يغلبوا مئتين } منهم { وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } ونصره وتأييده { والله } المراقب لأحوال عباده { مع الصابرين } [الأنفال: 66] المتجملين في متاعب أمور الدين.
[8.67-69]
ثم أشار سبحانه إلى سر جواز أخذ الفدية والجزية للرسل والأنبياء، ووقته وسببه فقال: { ما كان } أي: ما صح وجاز { لنبي } من الأنبياء { أن يكون له } وفي يده { أسرى } من الكفار يفديهم على المال، ويخلي سبيلهم { حتى يثخن في الأرض } أي: لا يجوز لهم أخذ الفدية إلى أن يكثر القتل وبذل الكفار، ويعز الدين ويغلب أهله إلى حيث اضطر المخالفون لتخليص نفوسهم إلى الفدية، مع أنه لا يتوقع منهم المنازعة والمخاصمة أصلا، وصاروا مهانين مقهورين، ومتى لم يصلوا إلى هذه المرتبة لم يصح أخذ الفدية، وإذا كان أمر الفدية هكذا، كيف { تريدون } أيها المؤمنون بأخذها { عرض الدنيا } ومتاعها وحطامها { والله } المصلح لأحوالكم، المدبر لأموركم { يريد } لكم { الآخرة } وثوابها بأخذها، وما يترتب عليها من اللذات الروحانية، وأنتم تقصدون أن تستلذوا بحطام الدنيا ومزخرفاتها { والله } المراقب لحالاتكم { عزيز } غالب فيما أراد لأجلكم { حكيم } [الأنفال: 67] ريد لكم ما يليق بحالكم؟!.
{ لولا كتاب } حكم وأمر ثابت نازل { من الله } المنتقم الغيور { سبق } من سابق علمه بألا يأخذ المجتهد المخطئ بخطئه { لمسكم } أصابكم ونزل عليكم { فيمآ أخذتم } وافتديتم من أسارى بدر { عذاب عظيم } [الأنفال: 68] مقدار ما فوتم من حكمة الله وأبطلتم حكمه.
" روي أنه صلى الله عليه وسلم أتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية يقوى بها أصحابك، وقال عمر رضي الله عنه: اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر، فإن الله أغناك من الفداء فمكني من فلان؛ لنسب له، ومكن عليا وحمرمة من أخويهما، فنلضرب أعناقهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام حيث قال: { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ، مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } " فخير أصحابه فأخذوا الفداء، فزلت.
فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني، فإن أجد بكاء بكيت و إلا تباكيت، فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه " لشجرة قريبة عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو نزل العذاب لما برئ منه غير عغمر وسعد بن معاذ ".
ومتى اجتهدتم في أخذ الفدية من الأسرى فأخذتم الفدية، وإن كان اجتهادكم خطأ { فكلوا مما غنمتم } بعد إخراج الخمس وافتديتم من الأسرى؛ إذ هي من جملة الغنيمة { حلالا } مستحلين مستبيحين { طيبا } خاليا عن وصمة الشبهة، لاجتهادكم في أخذها { واتقوا الله } من المبادرة في الأمور، واحتاطوا فيها { إن الله } المدبر لأموركم { غفور } لما صدر عنكم من المبادرة إلى الفدية { رحيم } [الأنفال: 69] أباح لكم ما أخذتم.
[8.70-71]
{ يأيها النبي } المبعوث لتكميل الخلائق { قل } على وجه العظة والتذكير بمقتضى شفقة النبوة والإرشاد { لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله } المطلع لضمائركم واستعداداتكم { في قلوبكم خيرا } إيمانا وإيقانا، واطمئنانا وعرفانا { يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم } من حطام الدنيا، وهي اللذات الروحانية والكشوف والمشاهدات التي لا مقدار للذات الجسمانية دونها { ويغفر لكم } ما صدر عنكم من الكفر والعصيان { والله } الهادي لعباده نحو توحيده { غفور } لذنوبهم بعدما وفقهم للإيمان والإطاعة { رحيم } [الأنفال: 70] يرحمهم بعدما رجعوا نحوه وأنابوا.
" روي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال: صلى الله عليه وسلم: " فأين الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث لي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم " ، وقال العباس: وما يدريك؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أخبرني ربي ".
قال أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، فقال العباس رضي الله عنه: فأبدلني الله خيرا من ذلك إلى الآن عشرين عبدا، إن أدناهم ليضرب عشرين ألفا ، وأعطاني زمزم ما أ؛ب أن لي بها أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربكم "
يعني: الموعود بقوله: { ويغفر لكم والله غفور رحيم } [الأنفال: 70].
{ وإن يريدوا } أولئك الأسارى { خيانتك } بعدما عاهدت معهم وتلفطت بهم فلا تتعجب من خيانته ونقضهم { فقد خانوا الله } بالكفر والشرك، ونقض العهد والخروج عن مقتضى المأمور { من قبل فأمكن } أي: أمكنك ومكنك أولا عليهم حتى انتقمت { منهم } يوم بدر بالقتل والأسر، فإن عادوا ورجعوا بالخيانة أمكنكم ثانيا وثالثا فلا تبال بهم وبخيانتهم فإن الله معينك وناصرك، يعصمك من مكائدهم { والله } المطلع لمخايلهم { عليم } بنياتهم { حكيم } [الأنفال: 71] بمجازاتهم يجازيهم على مقتضى علمه.
[8.72]
ثم قال سبحانه: { إن الذين آمنوا } وأيقنوا بتوحيد الله ووجوب وجوده { وهاجروا } على بقعة الإمكان طالبين الترقي إلى المراتب العلية { وجاهدوا بأموالهم } منفقين لها؛ ليتجردوا عنها ويتطهروا نفوسهم عن الميل والمحبة إليها { وأنفسهم } ممسكين لها عن مقتضياتها ومشتهياتها، باذلين { في سبيل الله } ليتحققوا بمرتبة الفناء فيه، ليفوزوا ببقائه.
{ والذين } تحققوا بمرتبة التوحيد وتمكنوا فيها { ءاووا } أي: مكنوا ووطنوا من يرجع إليهم، ويسترشد منهم من أهل الطلب والإرادة { و } بعد تمكينهم وتوطينهم { نصروا } وأعانوا بالتنبيهات اللائقة إمدادا لهم، وبالواردات الغيبية والإلهامات القلبية والمكاشفات العينية { أولئك } السعداء المقبولون عند الله، الوالهون في بيداء ألوهيته { بعضهم أوليآء بعض } يتناصرون ويتعانون إلى أن يرتفع تعددهم وتضمحل كثرتهم، وسقط الافتراق والاجتماع عنهم، وانقطع السلوط والطلب، وفني السالك والسلوك و المسلك، وبقي ما بقيى، لا إله إلا هو لا شيء سواه، وكل شيء هالك إلا وجهه.
{ والذين آمنوا } بالله { ولم يهاجروا } إلى الفناء فيه { ما لكم } أيها الواصلون { من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } ويتشمروا السلوك مسلك الفناء { و } بعدما دخلوا باب الطلب { إن استنصروكم } و استعانوا منكم { في الدين } أي: في سلوك طريق التفويض والانقياد { فعليكم النصر } أي: لزم عليكم أن تنصروهم وتعينوا عليهم؛ ليغلبوا على جنود القوى البهيمية، والشياطين الشهوية والغضبية { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } من جنود النفس اللوامة المطلعة لغوائل الأمارة الخبيثة ووخمسة عاقبتها { والله } المطلع لجميع حالاتكم { بما تعملون } من النصر والإعاة { بصير } [الأنفال: 72] يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته.
[8.73-75]
{ والذين كفروا } بالله، ولم يتفطنو سر سريان وحدته الذاتية السارية في جميع الأكوان، ولم يتنبهوا للفناء في ذاته، ومع ذلك كذبوا لرسل المنبهين، المبشرين المنذرين إصلاحا لهم وإرشادا، أولئك الأشقياء المردودون { بعضهم أوليآء بعض } يتعاونون ويتعاضدون في كفرهم وجهلهم { إلا تفعلوه } أي: ألا تفعلوا ما أمرتم به من الموالاة والمواصلة، والنصر والمعاونة { تكن فتنة } سارية { في الأرض } أي: طبيعة العدم { و } حدث فيها { فساد كبير } [الأنفال: 73] هو غفلة الأظلال عن الذات، والظل والصور عن ذي الصورة، والعكوس عما انعكس فيها.
{ والذين ءامنوا وهاجروا } أي: سلكوا وسافروا، وبعدما تحققوا باليقين العلمي { وجهدوا } أي: ارتضاوا؛ أي: انخلعوا عن جلباب التعين { في سبيل الله } الذي هو الفناء فيه؛ ليتحققوا باليقين العيني { والذين ءاووا } ووالوا ألوياء الإرادة { ونصروا } أرباب الطلب { أولئك } الواصلون المبرزون { هم المؤمنون } المتحققون، المبثتون في مرتبة اليقين الحقي { حقا } ثابتا بلا دغدغة استكمال وانتظار، متقررا في مقر التوحيد ومقعد المصدق عند مليك مقتدر { لهم } بعد وصولهم إلى مقرهم { مغفرة } ستر لأنانيتهم التي كانوا عليها على مقتضى تعيناتهم { ورزق كريم } [الأنفال: 74] من الكشف والشهود، نزلا ن عند العزيز العليم.
ثم بشر سبحانه بما بشر به من اقتفى أثركم أيها المكاشفون الواصلون، وسلك سبيلكم من أصحاب الإرادة والطلب، فقال: { والذين آمنوا من بعد وهاجروا } كما هاجرتم أيها الفائزون الواصلون { وجاهدوا معكم } في سبيل الله وترويج دينه وسنته بأنفسهم وأموالهم كما جاهدتم أنتم { فأولئك } المجاهدون الباذلون { منكم } أي: من جملتكم وعدادكم، وأجرهم عند الله مثل أجركم، وهم إخوانكم وأرحامكم في الدين { وأولوا الأرحام } وذووا المناسبات والقرابات في الدين والعرفان { بعضهم أولى ببعض } في الولاية والنصر، والمصاحبة والمؤاخاة { في كتاب الله } أي: في حضرة علمه ولوح قضائه { إن الله } المتجلي على ذرائر الآفاق { بكل شيء } من رقائق المناسبات ودقائقها { عليم } [الأنفال: 75] بعلمه الحضوري، لا يعرب عن حضوره شيء.
خاتمة السورة
عليك أيها المتوجه نحو الفناء، المهاجر عن ورطة الغفلة والغرور ، أن تقتفي في سلوكك هذا أثر أهل الهجرة والنصرة المرابطين قلوبهم لتوحيد الجق، الباذلين مهجهم في تقوية من ظهر عليه صلى الله عليه وسلم وترويج دينه سنته، المتخلقين بأخلاقه، المتعطشين بزلال مشربه المستظلين بظل روائه، المستمسكين بعروة ولايته، ولا يحصل لك هذا إلا بالركون والإعراض التام عن متقضيات القوى البشرية ولوازم الطبيعة مطلقا، كهؤلاء الكرام المنخلعين عن جميع ما يشوشهم من لوازم هوياتهم في معاشهم حتى عن الأهل والأوطان.
لذلك انكشف لهم من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات إلى حيث اضمحلت عن عيون بصائرهم ما سوى الحق مطلقا، وصاروا فانين في الله، متحققين بمقام
" وبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش... "
، ولك في عزيمتك هذا التشبث بكتاب الله الذي هو المرشد الحقيقي، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبكلمات المشايخ العظام - قدس الله أرواحهم - ولا سيما ذلك الاستمداد من قلوب البدلاء والوالهين، الحائرين بمطالعة وجه الله الكريم؛ إذ هم لاستغراقهم في بحر الشهود انخعلوا عن لوازم هوياتهم، وما لنا من حالاتهم إلا الحسرة والعبرة إن كنا من أهل الاعتبار والاستبصار.
ربنا اهدنا إليك بأي طريق شئت، إنك بفضلك وجودك تهدي من تشاء من عبادك وإنك على ما تشاء قدير.
[9 - سورة التوبة]
[9.1-3]
ثم لما كان المشركون المصرون على شركهم من أعدى الأعادي، وأشدهم غيظا مع الله ورسوله، وكان عهودهم ومواثيقهم غير معول عليها في علم الله، تبرأ سبحانه منهم وأمر رسوله أيضا بالتبري عنهم وعن عهودهم ومواثيقهم، فقال: { برآءة } المطلع على مخايل أهل الشرك أصالة { و } من { رسوله } لتنبذوا وتطرحوا عهودكم ومواثيقكم { إلى الذين عاهدتم من المشركين } أي: هذه براءة ونقض عهد وإسقاط ذمة، ورفع أمان كان بينكم أيها المؤمنون وبين المشركين، نزلت إليكم { من الله } [التوبة: 1].
وعليكم ألا تبادروا ولا تفاجئوا إلى المقاتلة بعد نبذ العهد، بل أمهلوهم وقولا لهم: { فسيحوا } أي: سيروا أيها المسرفون { في الأرض } أي: في أرضنا هذه آمنين بلا خوف { أربعة أشهر } قيل: هي عشرون من ذي الحجة وتمام المحرم والصفر، وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، واستعدوا في تلك المدة وهيئوا أسباب القتال فيها { واعلموا } أيها المصرون على الشرك يقينا، وإن زعمتم غلبتكم علينا بمظاهرة إخوانكم واستعانة قبائلكم وعشائركم { أنكم غير معجزي الله } أي: لستم غالبين على الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء، المتفرد بالمجد والبهاء { و } اعلموا أيضا { أن الله } المنتقم من عصاة عباده { مخزي الكافرين } [التوبة: 2] أي: مهينهم ومذلهم وإن أمهلهم زمانا بطريق على تجبرهم وتكبرهم.
{ و } هذه أيضا { أذان } إعلام وتشييع، ونداء صدر عنه { من الله ورسوله } بإذنه { إلى الناس } المجتمعين من أقصى البلاد { يوم الحج الأكبر } لأن وقوف يوم عرفة كان يوم الجمعة؛ لذلك سمي به { أن الله } أي: بأن الله المتعزز بالعظمة والكبرياء { بريء من المشركين } أي: من عهودهم ومواثيقهم، لا يؤمنهم بعد عامكم هذا { ورسوله } أيضا مأمور من عنده بالبراءة ونقض العهد وإسقاط الذمة، ويعد اليوم ارتفعت الهدنة وصار الأمر الأمر إما بالسيق وإما الإسلام.
{ فإن تبتم } ورجعتم عما أنتم عليه من الكفر والشرك إلى الإيمان والتوحيد { فهو } أي: إيمانكم ورجوعكم { خير لكم } في أولاكم وأخراكم { وإن توليتم } وأعرضتم عن الإسلام والإيمان، وأصررتم على الشرك والطغيان { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } أي: لستم غالبين على جنوده { و } بالجملة: { بشر } يا أكمل الرسل { الذين كفروا } بالله وأصروا عليه، ولم يرجعوا عنه مع ورود الزواجر والخوارق { بعذاب أليم } [التوبة: 3] في النشأة الاولى بالقتل والسبي والإجلاء، وفي الآخرة بالحرمان عن رتبة الإنسان.
[9.4-5]
ثم لما لم يصدر عن بعض المشركين شيء من أمارات النقض والإتيان وعلامات المخالفة والمخادعة استثناهم الله سبحانه، وأمر المؤمنين بمحافظة عهودهم إلى انقضاء المدة المعلومة، فقال: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم } بعد المعاهدة { لم ينقصوكم شيئا } مما عاهدوا عليه والتزموا حفظه، بل داوموا على حفظها { و } مع ذلك { لم يظاهروا } ولم يعانوا { عليكم أحدا } من أعدائكم حفظا لعهدكم وميثاقكم { فأتموا إليهم عهدهم } أي: أنتم أولى بإيفاء الكعهد وإتمام مدته { إلى } انقضاء { مدتهم } التي عاهدوا عليها { إن الله } المستوي على العدل القويم { يحب المتقين } [التوبة: 4] الذي يواظبون على إيفاء العهود وحفظ المواثيق ؛ حذرا عن تجاوز حدود الله وعهوده.
{ فإذا انسلخ } أي: انقضى ومضى { الأشهر الحرم } المأمورة فيها السياحة والأمن { فاقتلوا المشركين } المصرين على الشرك، الناقضين للعهد والميثاق { حيث وجدتموهم } في حل أو حرم مستأمنين أم لا { وخذوهم } أي: ائسروهم واسترقوهم، واستولوا عليهم { و } إن استحفظوا استحصنوا { احصروهم واقعدوا لهم } لأخذهم وقتلهم { كل مرصد } وممر من شعاب الجبال وشفار الوادي { فإن تابوا } ورجعوا عن الشرك، ومالوا إلى الإيمان { و } بعد إيمانهم { أقاموا الصلوة } التي هي علامة إيمانهم وتصديقهم.
{ وءاتوا الزكوة } التي تطهر قلوبهم عن أمارات النفاق { فخلوا سبيلهم } كسائر المسلمين تتذكروا، وتلتفتوا بما صدر عنهم من المخالفة والمقاتلة والشقاق فيمامضى { إن الله } المصلح لأحوال عباده { غفور } لما صدر عنهم من المعاصي والآثام { رحيم } [التوبة: 5] لهم يوصلهم إلى دار السلام بعدما أخلصوا الإنابة والرجوع.
[9.6-7]
{ وإن أحد من المشركين } المناقضين الذين أممرت بقتلهم وأسرهم { استجارك } وطلب منك جوارك؛ ليأمنه عما يؤذيه { فأجره } أي: فعليك يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة والرسالة أن تجيره وتؤمنه في جوارك { حتى يسمع كلام الله } الهادي لعباده ويفهم سرائر دينك وشعائر شريعتك كأنه يطلع على حققته؛ لأن أصل فطرة كل أحد وجبلته على الإسلام.
{ ثم } بعد حصول ألياس عن الإيمان من إيمانه وتنبهه { أبلغه مأمنه } أي: موضع أمنه ومحل قرانه تتميما للشفقة المروءة { ذلك } الأمن والمواساة والتليين المأمور { بأنهم قوم } في غاية البعد عن الإيمان وما يترتب عليه من المؤاخاة والمواساة، وأنواع الخيرات والمبرات { لا يعلمون } [التوبة: 6] أي: لا يطمعون ولا يتوقعون صدورها من أهل الإيمان، فمتى صدر منكم أمثال هذه عسى أن يتحاببوا ويتقربوا إليكم.
ثم قال سبحانه: { كيف يكون للمشركين } المصرين على الشرك والعناد، المبالغين في العتو والاستكبار { عهد } مقبول { عند الله وعند رسوله } إذ هم من غاية انهماكهم في كفرهم وضلالهم لا يلتفتون إلى الله ورسوله؛ لذلك لا يقبل منهم العهد والميثاق، بل أمرهم إما السيف وإما الإسلام.
{ إلا الذين عاهدتم } معهم { عند المسجد الحرام } فإنهم وإن كانوا أيضا من المشركين المصرين، إلا أن حرمة المسجد الحرام توجب إيفاء عهودهم ما داموا موقنين بها { فما استقاموا } واستحفظوا { لكم } عهدكم { فاستقيموا لهم } بل أنتم أولي لرعاية حرمة المسجد الحرام { إن الله } المصلح لأحوال عباده { يحب المتقين } [التوبة: 7] الذي يحفظون نفوسهم عن سوء الأدب مع الله في جميع أحوالهم، سيما رعاية حرمة بيته الحرام.
[9.8-10]
{ كيف } يكون للمشركين معكم عهد أيها المؤمنون؟ وكيف تعتمدون على ميثاقهم { و } هم من غاية بغضهم وشدة شكيمتهم { إن يظهروا } ويظفروا { عليكم لا يرقبوا فيكم } أي: لا يحافظوا ولا يراعوا في حقكم { إلا } أي: عهدا وميثاقا { ولا ذمة } حقا لازما يلتزمون رعايتها؛ كالحقوق التي جرت بين المتعاهدين، بل حالهم أنهم { يرضونكم } ويعاهدون معكم { بأفواههم } خداعا ومداهنة { وتأبى قلوبهم } عما صدرت على ألسنتهم من المعاهدة، بل { وأكثرهم فاسقون } [التوبة: 8] خارجون متمردون عن العهد مطلقا، لا يتفوهون به أصلا، فكيف أن يعهدوا؟!.
ومن غاية فسهم وتمردهم، ونهاية توغلهم في الضلال { اشتروا } واستبدلوا { بآيات الله } المنزلة على رسوله، الدالة على توحيده مع وضوحها وسطوعها { ثمنا قليلا } أي: بدلا حقيرا، متبذلا مرذولا، وهو اتباع الأهوية الباطلة والآراء الفاسدة التي ابتدعها المبتدعون بتسويلات شياطينهم { فصدوا } أي: أعرضوا وانصرفوا نفوسهم وأتباعهم؛ بسبب تلك الآراء { عن سبيله } أي: عن دين الله الموصل إلى توحيده { إنهم } من غاية ضلالهم وإضلالهم { سآء ما كانوا يعملون } [التوبة: 9] هذا العمل.
ومن سوء عملهم أيضا وقبح صنيعهم أنهم من غاية بغضهم مع المؤمنين { لا يرقبون } ولا يراعون { في } حق { مؤمن } أي: واحد من أهل الإيمان وإن بالغ في ودادهم وإخائهم، ومحافظة عهودهم وذممهم { إلا ولا ذمة } أصلا؛ لشدة شكيمتهم وقوة بغضهم وضغينتهم { و } بالجمة: { أولئك } الأشقياء المردودون المطرودون { هم المعتدون } [التوبة: 10] المقصرون على التجاوز عن حدود الله ومقتضى المروءة اللازمة للمرتبة الإنسانية؛ لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم.
[9.11-13]
{ فإن تابوا } ورجعوا إلى الإيمان بعدما بالغوا في العناد والاستكبار { و } بعد رجوعهم { أقاموا الصلوة } المصفية لبواطنهم عن الميل إلى غير الحق { وءاتوا الزكوة } المطهرة لظواهرهم عما يشغلهم عن الحق { فإخونكم في الدين } أنتم وهم سواء في سلوك طريق الحق والرجوع إليه { و } إنما { نفصل } ونوضح { الأيت } الدالة على توحيدنا { لقوم يعلمون } [التوبة: 11] ويصلون إلى مرتبة اليقين العلمي، ويريدون الترقي منها إلى اليقين العيني والحقي.
{ وإن نكثوا } ونقضوا { أيمانهم } ونبذوا عهودهم { من بعد عهدهم } وراء ظهورهم { و } مع ذلك { طعنوا في دينكم } بتصريح التكذيب والتقبيح في الأحكامن والمعتقدات، والطاعات والعبادات { فقاتلوا } أيها الغزاة المرابطون قلوبكم مع الله ورسوله { أئمة الكفر } أي: صناديدهم ورؤساءهم؛ لأنهم ضالون مضلون، وإن تفوهوا بالعهد والميثاق لا تبالوا بهم وبعهودهم { إنهم لا أيمان لهم } أصلا؛ لتخمير طينتهم على الشرك والشقاق { لعلهم ينتهون } [التوبة: 12] وينتبهون؛ أي: سفلتهم الضالون عما عليه رؤساؤهم المضلون بعد انقراضهم.
ثم قال سبحانه تحريضا للمؤمنين على القتال على وجه المبالغة: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و } بعد نقضهم الأيمان والعهود { هموا } أي: قصدوا واهتموا { بإخراج الرسول } من مكة { و } الحال أنه { هم } قوم { بدءوكم } بالمعاداة والمخاصمة { أول مرة } في بدء الإسلام حين تحدوا مع رسول الله بالمعارضة فأفحموا، والتجأوا إلى المقارعة والمشاجرة { أتخشونهم } منهم أيها المؤمنون في مقاتلتهم أن يحلقكم مكروه من جانبهم أم تداهنون معهم وتضعفون عنهم؟! وإن خشيتم عن لحقوق المكروه وعروض المنكر { فالله أحق أن تخشوه } لأنه قادر على وجوه الانتقامات، فعليكم أن تخشوا من الله ومخالفة أمره وحكمه { إن كنتم مؤمنين } [التوبة: 13] بالله وبأوامره ونواهيه.
[9.14-16]
وبالجملة: { قاتلوهم } حيث وجدتموهم، فإنكم منصورون عليهم { يعذبهم الله بأيديكم } بأنواع العذاب من الأسر والقتل والإجلاء { ويخزهم } أي: بذلهم ويهينهم ما بقي منهم من ذرياتهم { وينصركم } دائما { عليهم ويشف } بقهرهم وإذلالهم { صدور قوم } غرباء { مؤمنين } [التوبة: 14] حيث صارت قلوبهم مرضى من وعيدات أولئك الطغاة الغواة، المتجبرين المستكبرين.
{ ويذهب } بقتل أولئك الكفرة، وقمعهم واستئصالهم { غيظ قلوبهم } أيما حدث وخدش في قلوب هؤلاء الغرباء المؤمنين الذين تركوا أوطانهم؛ لحب دين الإسلام من استيلاء الكفار وكثرة عددهم وعددهم، وجاههم ومالهم { ويتوب الله على من يشآء } أي: يصرف ويرجع من الباطل؛ بسبب قلعهم وقمعهم من في قلوبهم مرض من الأقاصي والأداني { والله } المطلع لضمائر عباده { عليم } بمخايلهم وأمراض قلوبهم { حكيم } [التوبة: 15] في علاجها ودفعها.
ثم قال سبحانه على وجه التشنيع للمؤمنين؛ تحريكا لحمية الإيمان: { أم حسبتم } وظننتم أيها المؤمنون الكارهون للقتال، المتقاعدون عن امتثال الأوامر الواقعة فيه { أن تتركوا } على ما أنتم عليه، ولا تؤمروا بالقتال من بعد { و } زعمتم زعما فاسدا { لما يعلم الله } ولما يفصل ويميز بعلمه الحضوري { الذين جاهدوا منكم } في سبيله مخلصين خالصا لرضاه.
{ و } مع ذلك { لم يتخذوا من دون الله } { ولا } من دون { رسوله } المستخلف منه، النائب عنه { ولا } من دون { المؤمنين } المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله { وليجة } أي: بطانة ومرجعا يوالونهم ويفشون إليهم سرائرهم، بلى إن الله عليم بجميع ما صدر عنكم من علامات الإخلاص وأمارات النفاق { والله } المطلع لجميع أحوالكم { خبير بما تعملون } [التوبة: 16] أي: تتخيلون وتحضرون من التكاسل والتواني والإلجاء إلى الأعداء والرجوع إليهم في خلواتكم وأسراركم.
[9.17-18]
ثم قال سبحانه: { ما كان } أي: ما صح وجاز { للمشركين } المصرين على الشرك والعناد { أن يعمروا مسجد الله } المعدة لأهل الإيمان ليعبدوا فيها حتى يتحققوا بمقام المعرفة والتوحيد حال كونهم { شهدين على أنفسهم بالكفر } والشرك قولا وفعلا وشركهم مناف لتعميرها؛ إذ { أولئك } البعداء الهالكون في تيه الضلال { حبطت } أي: سقطت عن درجة الاعتبار { أعملهم } الصالحة عند الله بحيث لا ينفعهم أصلا؛ لمقارنتها بالشرك بل { و } مآل أمرهم { في النار } المعدة لأهل الشرك والضلال { هم خلدون } [التوبة: 17] لا نجاة لهم أصلا، سواء صدر عنهم الأعمال الصالحة أم لا.
بل { إنما يعمر مسجد الله } المعدة لخلاء العبادة والتوجه نحو الحق والمناجاة معه { من ءامن بالله } وتحقق بمرتبة اليقين العلمي في توحيده { واليوم الآخر } الذي يصير الكل إليه { وأقام الصلوة } أي: أدام الميل والرجوع نحو الحق دائما { وءاتى الزكوة } تخفيفا وتطهيرا لنفسها عن العلائق العائقة عن التوجه الحقيقي الحقي { ولم يخش إلا الله } أي: لم يكن في قلبه خضية من فوات شيء أصلا إلا من عدم قبول الله أعماله، ومن عدم رضاه سبحانه منه { فعسى } وقرب { أولئك } السعداء الأماء، الباذلون جهدهم في طريق التوحيد، المشتاقون إلى فضاء الفناء { أن يكونوا من المهتدين } [التوبة: 18] المتحققين في مقام الرضا والتسليم وإن وفقوا بالإخلاص من عنده.
اصنع بنا ما تحب أنت وترضى يا دليل الحائرين.
[9.19-22]
{ أجعلتم } أي: صيرتم وسويتم أيها المشركون المعاندون المكابرون { سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام } مع كونها صادرتين عنكم، وأنتم على شرككم وضلالكم { كمن آمن بالله } أي: كإيمان من آمن بتوحيد الله { واليوم الآخر } المعد لجزاء الأعمال { وجاهد } بماله ونفسه { في سبيل الله } لإعلاء دينه وكلمة توحيده؟! كلا وحاشا { لا يستوون عند الله } عملة السقاية وعمارة المساجد مع المؤمنين الموقنين بتوحيد الله المجادهين في سبيله لنصرة دينه { والله } الهادي لعباده إلى توحيده { لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة: 19] الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه المنزلة على رسله وأنبيائه.
{ الذين آمنوا } أي: تحققوا بمرتبة اليقين العلمي بتوحيد الله { وهاجروا } عن بقعة الإماكن طالبين مرتبة أعلى منها { وجاهدوا في سبيل الله } وطريق توحيده { بأموالهم } أي: يبذل ما نسب إليهم من أمتعة الدنيا العاتقة عن الوصول إلى فضاء الوحدة { وأنفسهم } بمنعها عن مشتهياتها ومقتضياتها، ظالبين إفناء أنانياتهم وهوياتهم في هوية الحق { أعظم درجة عند الله } وأعلى منزلة ومرتبة ما داموا سالكين سائرين { و } بعد وصولهم وانقطاع سلوكم { أولئك } السعداء الواصلون { هم الفائزون } [التوبة: 20] بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
لذلك { يبشرهم ربهم } أي: باستعدادتهم الكامنة في عالم الأسماء والصفات { برحمة } غير منقطعة، نازلة { منه } سبحانه { ورضوان } كلت الألسن عن تفسيره وانحسرت العقول عن التعبير عنه { وجنات } منتزها متجددات حسب تجددات التجليات الحبي ة { لهم فيها } أي: في تلك الجنات المتجددات { نعيم } أي: إمداد وفواتح { مقيم } [التوبة: 21] دائم غير منقطع.
{ خالدين فيهآ أبدا } مؤبدا لا تأبيد أمد وزمان، وبالجملة: { إن الله } المتجلي على قلوب خلص عباده { عنده أجر عظيم } [التوبة: 22] لهم، بحسب استعداداتهم وقابلياتهم بعدما انكشفوا.
[9.23-24]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: الاجتناب عن أهل الغفلة والغرور؛ حتى لا يسري ضلالهم إليكم، سيما أقرباؤكم النسبية { لا تتخذوا } أيها المهاجرون { آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا } واختاروا { الكفر } والشرك { على الإيمان } والتوحيد { ومن يتولهم منكم } بد ورود النهي { فأولئك } المتخذون المضلون الضالون { هم الظالمون } [التوبة: 23] المتجاوزون عن مقتضى حكم الكله ونهيه.
{ قل } يا أكمل الرسل للمؤمنين الذين يقصدون موالاة أنسابهم: { إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } أي: أقاربكم وذووا أرحامكم { وأموال اقترفتموها } أي: اكتسبتموها بأيدكم { وتجارة تخشون كسادها } لمضي وقت ربحها ونمائها { ومساكن } طيبة { ترضونهآ } أي: ترضى بها نفسوكم، وتطيب بها قلوبكم { أحب إليكم من الله } المحبوب في قلوب أوليائه { ورسوله } الذي هو حبيبه وخليله { و } من { جهاد } هو عبارة عن الاجتهاد { وجهاد في سبيله } لتفوزوا بشرف الوصول والشهود { فتربصوا } أي: فعليكم أن تتربصوا وتنتظروا { حتى يأتي الله } المنتقم من المتخذين لغيرهم أولياء { بأمره } الموجب لعذابه { والله } الهادي لعباده { لا يهدي القوم الفاسقين } [التوبة: 24] الخارجين عن مقتضى ولائه وولايته.
[9.25-27]
اذكروا أيها المؤمنون { لقد نصركم الله } الحفيظ الرقيب عليكم { في مواطن } ومواقع { كثيرة } حين لا ينفعكم أحسابكم وأنسابكم شيئا، لا سيما في حرابكم مع هوازن وثقيف { ويوم حنين } هو وادس بين مكة والطائف { إذ أعجبتكم كثرتكم } أن تكونوا مغلوبين؛ إذ أنتم اثنا عشر ألفا، وعدوكم أربعة آلاف { فلم تغن } حينئذ كثرتكم { عنكم شيئا } من غلبة العدو مع قلتهم { و } صرتم من غاية رعبكم وخوفكم إلى حيث { ضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي: مع وسعتها فلم تجدوا فيها مقرا تمكنون عليها من غاية رهبتكم { ثم } أدى أمركم وخوفكم إلى أن { وليتم } ورجعتم { مدبرين } [التوبة: 25] صائرين ظهركم على العدو.
{ ثم } بعد انهزامكم وإدباركم { أنزل الله } المولي لأموركم { سكينته } أي: رحمته الموجبة للقرار والوقار، والطمأنينة { على } قلب { رسوله وعلى } قلوب { المؤمنين } الذين تمكنوا معه، واستقروا حوله؛ اتكالا على الله وإتفاقا مع رسوله صلى الله عليه وسلم { و } بتثبيت الرسول وتقرير من تبعه { أنزل } سبحانه نصرة لنبيه من الملائكة { جنودا } مجندة { لم تروها } عيونكم { وعذب الذين كفروا } ينزولها عذابا شديدا من القتل والأسر والإذلال في النشأة الأولى والأخرى بأضعافها { وذلك } أي: ما لحقهم من أنواع الإذلال { جزآء الكافرين } [التوبة: 26] المحاربين مع الله ورسوله.
" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بعد فتح مكة، ثم توجه نحو حنين؛ لقتال هوازن وثقيف مع عشرة آلاف من المهاجرين وألفين من الطلقاء، وكان العدو أربعة آلاف فأعجب المسلمين كثرتهم، فلما التقوا، فقالوا: لن نغلب اليوم؛ لأن العدو في غاية القلة فكره الله قولهم وإعجابهم هذا، فاقتتلوا قتالا عظيما فغلب العدو عليهم، فولوا منهزمين فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرذمة قليلة فأراد أن يقتحم على العدو، وذلك عند نزول الملائكة، فقال: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، الآن حمي الوطيس " أي: التنور.
فأمر العباس أن يصيح على الناس المنهزمين فصاح: يا عبد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقا واحدا، فاستقبلوا قائلين: لبيك لبيك فصفوا خلف الملائكة وازدحموا، وهجموا على العدو، والريح من خلفهم ومن أمام عدوهم فانهزم العدو بنصر الله وتأييده "
{ ثم يتوب الله من بعد ذلك } عليهم ويوفق منهم { على من يشآء } إيمانه من أولئك المنهزمين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا فأعطى صلى الله عليه وسلم من سبى منهم بلا فدية { والله } المصلح لأحوال عباده { غفور } يغفر لمن تاب وآمن { رحيم } [التوبة: 27] يقبل توبته، ويرحم عليه إن أخلص.
[9.28-29]
ثم قال سبحانه: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانمكم: أن تذبوا وتدفعوا أهل الشرك عن الحرم { إنما المشركون } المنغمسون في خباثة الشرك والضلال { نجس } يجب أن يطهر بيت الله منهم { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } أي: سنة حجة الوداع { وإن خفتم } أيها المؤمنون؛ بسبب إخراجهم ومنعهم عن الحرم { عيلة } فقرا وقلة زاد ومكتسب { فسوف يغنيكم الله من فضله } وسعة رزقه { إن شآء } ترفهكم واتساعكم { إن الله } المدبر لأمور عباده { عليم } بمصالحهم { حكيم } [التوبة: 28] في إتيانها عند الحاجة ومقدارها.
وبالجملة: { قاتلوا } أيها الغزاة الحماة لدين الله المشركين { الذين لا يؤمنون بالله } وتوحيده { ولا باليوم الآخر } المعد لجزاء الأعمال، وإن تفوهوا بالإيمان مداهنة ونفاقا لا تبالوا بإيمانهم { و } هم ليسوا مراعين مقتضى الإيمان؛ إذ { لا يحرمون } من المحرمات { ما حرم الله ورسوله } بإذنه سبحانه { و } بالجملة: { لا يدينون } ولا ينقادون { دين الحق } المنزل على الحق؛ ليصلوا إلى مقر التوحيد، وإن كانوا يدعون أنهم { من الذين أوتوا الكتاب } أي: يدعون إتيانه إياهم؛ إذ هم ليسوا على مقتضى الكتاب، وإن ادعوا بهم وبادعائهم، بل قاتلوهم إلى أن تذلوهم وتصاغروهم { حتى يعطوا الجزية } هي التي تجزى بها دينهم حماية له { عن يد } أي: حال كون إعطائهم صادرة منهم عن يد قاهرة غالبة عليهم { وهم } في حين الإعطاء { صاغرون } [التوبة: 29] ذليلون مهانون، يؤخذ من لحاهم، ويضرب في لهازمهم.
[9.30-31]
{ و } بالجملة: خذوا الجزية منهم على وجه تضطروهم وتلجئوهم إلى الإيمان وكيف لا يقتل هؤلاء الكفرة المشركون؟! { قالت اليهود } منهم: { عزير ابن الله } المنزه عن التزوج والازدواج، والأبوة والبنوة؛ إذ هي من لوازم البشر { وقالت النصارى } أيضا { المسيح ابن الله } تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا { ذلك } القول المهمل { قولهم } دائما جاريا { بأفواههم } وأن فرض مخالفة اعتقادهم قولهم فلا أقل: إنهم { يضاهئون } ويشابهون قولهم هذا { قول الذين كفروا } وأشركوا { من قبل } بأمثال هذه المهملات، حيث قالوا: الملائكة بنات الله؛ لذلك { قاتلهم الله } وأهلكهم بأمثال هذه المقالات المهملة { أنى يؤفكون } [التوبة: 30] أي: كيف يصرفون أيها الناكبون عن الطريق الحق الصريح إلى الباطل الزائغ الزائل؟!.
وبالجملة: { اتخذوا } من فرط جهلهم وخبث طينتهم { أحبارهم ورهبانهم أربابا } مستقلين في الوجود، ومتأصلين فيه { من دون الله } المنزه عن الشريك مطلقا، المستقل في الوجود، المتفرد فيه بلا وجود لغيره أصلا، يعبدونهم كعبادة الله { و } خصوصا { المسيح ابن مريم و } الحال أنهم { مآ أمروا } في كتبهم التي يدعون بمقتضاها { إلا ليعبدوا إلها واحدا } أحدا صمدا، فردا وترا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا؛ إذ { لا إله } ولا موجود { إلا هو سبحانه عما يشركون } [التوبة: 31] له من مصنوعاته وأضلاله.
[9.32-33]
{ يريدون } بأمثال هذه المفتريات الباطلة { أن يطفئوا } أي: يخمدوا ويستروا { نور الله } المتجلي في الآفاق، المتشعشع في الكائنات { بأفوههم } أي: بشركهم الناشئ من أفواههم بلا سند من عقل أو نقل، أو كشف وشهود { ويأبى } أي: يمنع { الله } المنز عن التعدد مطلقا أن يكون له شريك في الوجود { إلا أن يتم نوره } أي: سوى أن يتجلى بجميع أوصافه وأسمائه على من استخلفه من خلقه، فيتراءى منه جميع آثار أسمائه وأوصافه وأخلاقه، ألا وهو المظهر الكامل، الجامع المحمدي الذي اتحد دون مرتبته صلى الله عليه وسلم قوسا الوجوب والإمكان، ودائرتا الغيب والشهادة.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا أتمم مكارم الأخلاق "
، وقال أيضا:
" أنا سيد ولد آدم "
وقال أيضا:
" أدم ومن دونه تحت لوائي "
، وقال أيضا:
" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن رآني فقد رأى الحق ".
ونزل في شأنه:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة: 3] إلى غير ذلك مما دل وحدة مرتبته وإحاطتها على جميع المراتب؛ لذلك ختم به صلى الله عليه وسلم أمر الرسالة والتشريع { ولو كره الكفرون } [التوبة: 32] الساترون ظهور الحق، المريدون إطفاء نور الوجود في المشكاة المحمدية، وكيف يريدون إطفاء نوره اللائح اللامع من المظهر الجامع المحمدي؟!.
{ هو الذي أرسل رسوله } الهادي { بالهدى } العام الشامل لكافة البرايا { ودين الحق } وهو الإسلام { ليظهره } أي: الرسول ودينه { على الدين كله } أي: على كل الأديان، وينسخ جميعها به؛ لابتناء دينه على التوحيد الصرف، الخالي عن شوب التنويه وشين الكثرة مطلقا { ولو كره المشركون } [التوبة: 33] ظهوره بالهداية العامة، ونسخ دينه جميع الأديان؛ لخبث باطنهم.
[9.34-35]
{ يأيها الذين آمنوا } بالله ورسوله، وتحققوا وتيقنوا { إن كثيرا من الأحبار والرهبان } الموسوسين لضعفاء العوام، الملبسين لهم طريق الحق بالتغديرات المبتدعة من تلقاء نفوسهم، كالشيخوخة التي ظهرت في زماننا هذا، إنما غرضهم ومعظم مأمولهم { ليأكلون } ويأخذون { أموال الناس } المنحطين عن زمرة أهل التحقيق { بالباطل } أي: بتزويج الباطل الزائغ الذي ابتدعوها بلا مستند لهم.
{ ويصدون } أي: يصرفون ويضلون أباطيلهم وتلبساتهم ضعاء الأنام { عن سبيل الله } الذي هو الإسلام تلبيسا عليهم وتغريرا لهم؛ ليأخذوا الرضى منهم ويكنزوها { و } لم يعلموا أن { الذين يكنزون الذهب والفضة } أي: يجعلونها مخزونا محفوظا من أي ملة كانوا { ولا ينفقونها في سبيل الله } طلبا لمرضاته { فبشرهم } يا أكمل الرسل { بعذاب أليم } [التوبة: 34] مؤلم مفزع.
اذكر لهم { يوم يحمى } أي: حين توقدون وتحرقون { عليها } أي: على تلك الذهب والفضة المخزونة المحفوظة نار، مع أنها موضوعة { في نار جهنم } وهذا مبالغة لشدة احمائه، وبعدما حميت إلى أن صارت جذوة نار { فتكوى بها جباههم } ليوسموا بها ويعلموا على رءوس الأشهاد جزاء ما افتخروا بها في النشأة الأولى { وجنوبهم } ليتألموا بها أشد تألم، بدل ما يتلذذون بها أشد تلذذ { وظهورهم } بدل ما يستظهرون بها ويتعاونون بسببها، ويقال حين كيهم وتعذيبهم: { هذا ما كنزتم } وخزنتم { لأنفسكم } لتتنعموا بها وتسروا بجمعها وادخارها { فذوقوا } اليوم وبال { ما كنتم تكنزون } [التوبة: 35] بدل ما تتلذذون بها.
[9.36-37]
ثم قال سبحانه تعليما للمؤمنين على ما ثبت عنده من الأيام والشهور؛ لتتميم مصالحهم ومعاملاتهم: { إن عدة الشهور } على ما ثبت { عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } أي: في حضرة علمه ولوح قضائه { يوم خلق السموت والأرض } أي: حين أظهر سبحانه عالم الكون والفساد المقدر بمكال الأيام والليالي المنقسمتين إلى الشهور والأعوام والأسبوع والساعات؛ إذ في أزل الذات لا صباح ولا مساء، ولا صيف ولا شتاء، ولا الشهور ولا السنون، فسبحان من تنزه عن التبديل والتحويل، وتقدس عن الظهور والبطون.
{ منهآ } من تلك الشهور في كتاب الله { أربعة حرم } هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، سيمت بها؛ لأن الله سبحانه حرم فيها لعباده بعض ما أباح في الشهور الأخر كرامة لها واحترامنا، فعليكم أيها المكلفون أن تواظبوا فيها على الطاعات، وتداموا على الخيرات المبرات، واجتنبوا عن الآثام والجهالات، وأكثروا فيها الأعمال الصالحات وتوجهوا نحو الحق في جميع الحالات، سيما في تكل الشهور المعدة للتوجه من عنده { ذلك } أي: تحريم الشهور الأربعة { الدين القيم } المستقيم الموروث لكم من ملة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } بالخروج عن مقتضى تحريمها وهتك حرمتها؛ حتى لا تستحقوا عذاب الله ونكاله.
{ وقاتلوا المشركين } فيها إن قاتلوكم، ولا تبادروا وتسابقوا إلى قتالهم فيها وفي غيرها، بل إن بادروا على قتالكم قاتلوكم ، واقتلوهم { كآفة } أي: جميعا { كما يقاتلونكم كآفة } بلا ترحم وتوقيت { واعلموا } أيها المؤمنون { أن الله } المستوي على العدل القويم { مع المتقين } [التوبة: 36] الذي يحفظون نفوسهم عن هتك حرمة الله، قد حرمها الله لحكمة ومصلحة لم يطلعكم عليها.
{ إنما النسيء } أي: تأخير حرمة الشهر المحرم إلى شهر آخر بدله من غير المحرمات { زيادة في الكفر } لأن خصوصية هذه الأشهر معتبرة في الحرمة، واستبدالها ازدياد في الكفر؛ لأن هتك الحرمة كفر، وتبديلها كفر آخر { يضل به الذين كفروا } أي: بسبب تبديلهم إضلالا زائدا على ضلالهم الأصلي؛ إذ { يحلونه } أي: النسيء الذي يؤخرونه { عاما } سنة { ويحرمونه عاما } أخر بلا رعاية خصوصية في التحريم، وليس غرضهم من هذا التحليل والتحريم إلا { ليواطئوا } ويوافقوا { عدة ما حرم الله } وهي الأربعة من غير التفات إلى خصوصية { فيحلوا } بفعلهم وتبديلهم { ما حرم الله } بخصوصه، وما ذلك إلا أن { زين } أي: حسن وحبب لهم { لهم سوء أعمالهم } أي: تحليلهم وتبديلهم القبيح { والله } الهادي لعباده إلى صوب جنابه { لا يهدي القوم الكافرين } [التوبة: 37] الخارجين عن مقتضى مأموراته.
[9.38-39]
{ يأيها الذين آمنوا ما } ذا عرض ولحق { لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } لنصرة دينه وإعلاء كلمة توحيده { اثاقلتم } أي: تثاقلتم وتعاللتم وتباطأتم، وصرتم من غاية ثقلكم وتكاسلكم كأنكم تلزقون { إلى الأرض أرضيتم } أيها المستبطئون { بالحياة الدنيا } الدنية الحقيرة ومزخرفاتها الفانية بدلا { من الآخرة } ولذاتها الباقية { فما متاع الحياة الدنيا } والاستمتاع بها، والتلذذ بمستلذاتها ومشتهياتها { في الآخرة } أي: جنب لذاتها ودرجاتها { إلا قليل } [التوبة: 38] مستحقر مسترذل، بل فان مطلقا، لا وجود لها أصلا عند من كحل الله عين بصيرته، وأذهب عمى قلبه.
{ إلا تنفروا } بعدما أمرتم به { يعذبكم } الله المنتقم منكم { عذابا أليما } باستيلاء عدوكم عليكم، واستئصالكم بأفظع الوجوه وأفزعها { و } بعد إهلاكهم { يستبدل } منكم { قوما غيركم } مطيعين لأمره، منقادين لحمه؛ لينفروا في سبيله، كأهل اليمن والفرس { و } اعلموا أنكم بتكاسلكم وتقاعدكم عن القتال المأمور { لا تضروه شيئا } إذ هو منزه عن تقويتكم وإضراركم، وكفركم وإيمانكم { والله } المنتقم على من خرج عن مقتضى أمره { على كل شيء } من صور الانتقام { قدير } [التوبة: 39] لا يخرج عن حيطة قدرته شيء.
[9.40]
{ إلا تنصروه } أي: إن لم تنصروا نبيه المؤيد من عنده { فقد نصره الله } الرقيب عليه، اذكروا نصر الله إياه وقت { إذ أخرجه الذين كفروا } أي: أهل مكة من مكة حال كونه { ثاني اثنين } أي: ليس معه إلا رجل واحد، وهو أبو بكر رضي الله عنه فذهبا نحو الجبل فدخلا الغار، واقتفى العدو أثرهما فوصلوا الغار { إذ هما } خبيئين { في الغار } فتحزن صاحبه من إدراك العدو، اذكروا { إذ يقول } صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة { لصاحبه لا تحزن } عن إدراكهم، ولا تيأس عن نصر الله وحفظه { إن الله } الرقيب علينا حاضر { معنا } يكفينا مؤونة ضررهم.
{ فأنزل الله } سبحانه بقوله صلى الله عليه وسلم { سكينته } أي: اطمئنانه وقراره { عليه } أي: على صاحبه { وأيده بجنود } أي: ملائكة مستحفظين مستحصنين، حارسين له { لم تروها } عيونكم، مثل أولئك الجنود { وجعل } سبحانه بنصره وتأييده إياه صلى الله عليه وسلم { كلمة الذين كفروا } أي: ما يدعون ويخاصمون معه لأجله وترويجه { السفلى } أي: الأدنى الانزل، لا يؤبه ولا يبالي بها أصلا { وكلمة الله } أي: كلمة توحيده التي ظهر بها حبيبه صلى الله عليه وسلم { هي العليا } إذا الحق يعلو ولا يعلى { والله } القادر المقتدر على كل من يشاء { عزيز } غالب في نصر أوليائه على أعدائه { حكيم } [التوبة: 40] في جميع أفعاله وتبدبيراته.
[9.41-43]
{ انفروا } أيها الغزاة المجاهدون في سبيل الله { خفافا } نشطا فرحانا، منبسطين لمرتبة الشهادة { وثقالا } قاصدا لأخذ الغنيمة والأحمال والأثقال من عدوكم، أو مشاة وركبانا { و } بالجملة: { جاهدوا بأموالكم } لتهيئة الأسباب وإعداد السفر { وأنفسكم } بتحمل المشاق والمتاعب { في سبيل الله } لتفوزوا من عنده بالمثوبة العظمى والدرجة العليا التي لا درجة أعلى منها { ذلكم } أي: ما أمرتم به من عند ربكم { خير لكم } في أولاكم وأخراكم { إن كنتم تعلمون } [التوبة: 41] الخير وتميزونه من الشر.
ثم قال سباحنه في حق المستخلفين عن القتال المأمور به، المستأذنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعتذرين له بالعذر الكاذب توبيخا لهم وتقريعا: { لو كان } ما تدعوهم إليه يا أكمل الرسل { عرضا } أي: متاعا دنيويا مما يشتهيه نفوسهم { قريبا } سهل الحصول { و } كان السعي في حصوله { سفرا قاصدا } متوسطا؛ أي: مساويا نفعه لمشقة تحصيله { لاتبعوك } ألبتة طائعين لمصلحة ما يؤملونه من جلب النفع، لا لغرض ديني ونفع أخروي { ولكن بعدت عليهم } المسافة، واشتدت { الشقة } أي: المشقة فيها، مع جزمهم بعدم الفائدة فيها بزعمهم الفاسد واعتقادهم الكاسد.
{ و } مع ذلك { سيحلفون بالله } معتذرين متمنين بلا موافقة قلوبهم بألسنتهم بعدما رجت من غزوة تبوك: { لو استطعنا } بالخروج استطاعة مالية أو بدنية { لخرجنا معكم } ألبتة، مع أنهم قادرون مستطيعون بكلتا الاستطاعتين، وهم لخبث باطنهم { يهلكون أنفسهم } بهذا الحلف الكاذب، ويعرضونها على عذاب الله { والله } والمطلع لمخايل هؤلاء المنافقين { يعلم } بعلمه الحضوري { إنهم لكاذبون } [التوبة: 42] في حلفهم وعذرهم هذا.
{ عفا الله عنك } ما جئت به من ترك الأولى { لم أذنت لهم } استأذنوك بالقعود؛ أي: هؤلاء المنافقين المتخلفين، المعتذرين بالأعذار الكاذبة { حتى يتبين } ويظهر { لك الذين صدقوا } في الاعتذار والاعتدال { وتعلم الكاذبين } [التوبة: 43] فيها على مقتضى نفاقهم الكامنة في نفوسهم.
[9.44-46]
{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر } أي: ليس من عادة المؤمنين الاستئذان منك إلى الخروج نحو القتال مطلقا، بل هم منتظرون دائما، متهيئون دائما أسبابهم، مترصدون إلى { أن يجاهدوا } في سبيل الله { بأموالهم وأنفسهم } وينتهزون الفرصة بالمسابقة حين أمروا، فيكف أن يتأذنوا بالقعود وعدم الخروج، والمعذرون متألمون متحسرون بكون في زاوية الحرمان، محزنون ملهوفون متأسفون؛ لذلك وعد لهم سبحانه من فضله درجة عظيمة { والله } المطلع لضمائر عباده { عليم بالمتقين } [التوبة: 44] الذين يحفظون نفوسهم من مخالفة أمر الله وأمر رسوله بلا عذر شرعي.
بل: { إنما يستأذنك } بالقعود والتخلف { الذين لا يؤمنون بالله } وتوحيده { واليوم الآخر } المعد لجزاء الأعمال { وارتابت قلوبهم } لعدم اطمئنانها ورسوخها بالإيمان والتوحيد { فهم في ريبهم } المركوز في جبلتهم { يترددون } [التوبة: 45] يتحيرون؛ ويتذبذبون لا إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
{ ولو أرادوا الخروج } وقصدوا الوفاق مع المؤمنين كما أظهروا { لأعدوا } وهيأوا { له عدة } أهبة وأسبابا { ولكن } لخبث باطنهم وانهماكهم في الضلال { كره الله } المطلع على قساوة قلوبهم { انبعاثهم } أي: اهتزازهم وتحركهم نحو القتال { فثبطهم } لذلك وحبسهم، وأقعدهم في مكانهم بإلقاء الرعب والكسل في قلوبهم { و } كأنه { قيل } لإسماعهم تضليلا لهم وتغريرا: { اقعدوا } أيها المنهمكون في الغفلة { مع القاعدين } [التوبة: 46] من النساء والصبيان، والمرضى والزمناء.
[9.47-49]
وإنما ثبتطهم سبحانه وكره نهوضهم، لأنه سحبانه علم منهم أنهم { لو خرجوا } معكم، وكانوا { فيكم ما زادوكم إلا خبالا } فسادا بالغيبة والنميمة، وإيقاع الفتنة بينكم { ولأوضعوا } أي: أسرعوا وأدخلوا ركائبهم { خلالكم } ليتخللوا فيكم وليفرقوا جمعكم؛ حتى يشتغلوا بالنميمة، وإذ ازدحم العدو هزموكم بتفريق جمعكم وتشتيت شملكم، وبالجملة: إنما { يبغونكم الفتنة } أي: يطلبون إيقاع الفتنة بينكم بأي وجه كان { و } الحال أن { فيكم } وبينكم { سماعون لهم } أي: ضعفة يسمعون قولهم ويقبلون نصحهم، ويرغبون إليهم ويطيعون أمرهم { والله } المطلع لأحوال عباده { عليم بالظالمين } [التوبة: 47] الخارجين عن مقتضى أوامره سرا وعلانية.
{ لقد ابتغوا الفتنة } أي: ليس هذا أول ابتغائهم وإيقاعهم، بل أوقعوا الفتنة { من قبل } وأرجفوا بهلاكك، وشتتوا شمل أصحابك { وقلبوا لك الأمور حتى جآء الحق } أي: النصر والتأييد الثابت عنده، المقرر دونه سبحانه من نصر دينك وإعلائه، ونسخ الأديان كلها { وظهر أمر الله } وإعلاء كلمته { وهم كارهون } [التوبة: 48] من خبث باطنهم ظهور دينك وارتفاع شأنك، وسمو برهانك.
{ ومنهم } أي: من المستأذنين المتخلفين { من يقول } لك حين استأذنك بالعقود: { ائذن لي } إذ ليس لي قوة الخروج { ولا تفتني } أي: لا توقعني في الفتنة بالخروج؛ إذ إني أخاف على نفسي من الفتنة والعصيان لو خرجت، قل لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا: { ألا في الفتنة سقطوا } أي: وقعوا في فتنة التخلف وظهور النفاق والشقاق باستذانهم وقولهم هذا { و } استحقوا العذاب والنكال { إن جهنم } البعد والخذلان { لمحيطة بالكافرين } [التوبة: 49] في الدنيا والآخرة، ومن شدة شكيمتهم وغيظ قلوبهم معك يا أكمل الرسل.
[9.50-52]
{ إن تصبك } في بعض أسفارك وغزواتك { حسنة } ظفرة وغنيمة { تسؤهم } وتزيد غيظهم ونفاقهم { وإن تصبك } في بعضها { مصيبة } كسر وهزيمة { يقولوا } تصحيحا وتحسينا لرأيهم الفاسد: { قد أخذنا أمرنا } وأصبنا فيه { من قبل } أي: حين تخلفنا { ويتولوا } عن مجمعهم الذي يتشامتون فيه بالمؤمنين تبجحا { وهم } في رجوعهم وتفرقهم { فرحون } [التوبة: 50] مسرورون.
{ قل } يا أكمل الرسل للمتشامتين المنافقين على مقتضى كشفك وشهودك بربك: { لن يصيبنآ } من الحوادث { إلا ما كتب الله } المقدر للآجال والأرزاق، وجميع الأفعال والأحوال، والحوادث الجارية في عالم الغيب والشهادة { لنا } وخصصنا بها في حضرة علمه؛ إذ { هو } بذاته { مولانا } ومولي جميع أمورنا يصنع بنا على مقتضى ما ثبت في حضرة علمه بلا تبديل ولا تغيير { و } ما لنا إلا الرضا بما جرى علينا وسيجري من القضاء؛ لذلك { على الله } لا على غيره من الأسباب والوسائل؛ إذ مرجع الكل إليه، كما أن مبدأه منه أولا بالذات { فليتوكل المؤمنون } [التوبة: 51] بتوحيد الذات، وسريان سر الوحدة على صفائح المكونات.
{ قل } لهم أيضا: { هل تربصون } أي: تترقبون وتنتظرون { بنآ إلا إحدى الحسنيين } أي: العاقبتين الحميدتين اللتين كل منهما محض خير، إما النصرة وإما الشهادة إذ وعدنا الله من فضله بهما { ونحن } أيضا { نتربص بكم } على مقتضى وحي الله وإلهامه { أن يصيبكم الله بعذاب } نازل { من عنده } بلا دخل منا وصنع من كسف أو خسف وزلزلة وغيرها { أو بأيدينا } من القتل والأسر، والإجلاء والإذلال { فتربصوا } وانتظروا لما وعد لنا { إنا معكم متربصون } [التوبة: 52] أيضا لما أوعدتم به؛ حتى ننظر كيف يجري حكم الله ومشيئته؟
[9.53-55]
{ قل } للمنافقين المتخلفين الذين يريدون إعاتنك بالمال بدل الخروج إلى الجهاد: لن ينفعكم إنفاقكم عند الله سواء { أنفقوا طوعا } طائعين { أو كرها } كارهين { لن يتقبل منكم } لأن الإنفاق إنما يقبل من المؤمنين الصالحين المخلصين { إنكم } بسبب كفرهم ونفاقكم مع الله ورسوله { كنتم قوما فاسقين } [التوبة: 53] لا يقبل منكم الصدقات مطلقا؛ لعدم مقارنتها بالإيمان.
{ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم } أي: ليس عدم قبول نفاقهم وصدقاتهم عند الله { إلا أنهم كفروا بالله } المتوحد بذاته، وأشركوا له ما هو من مصنوعاته { وبرسوله } بتكذيبه، وعدم إطاعته وإنقياده { و } علامة كفرهم ونفاقهم : إنهم { لا يأتون الصلاة } الفاصلة الفارقة بين الكفر والإيمان { إلا } يأتونها مداهنة { وهم كسالى } مبطئون مؤخرون بلا انبعاث قلبي وداعية شوقية { و } أيضا { لا ينفقون } ما ينفقون { إلا وهم كارهون } [التوبة: 54] كراهة قلبية؛ لأنهم لا يتوقعون ترتيب الثواب عليها؛ لعدم إيمانهم بيوم الجزاء والثواب والعقاب.
ومتى تحقق كفرهم ونفاقهم { فلا تعجبك أمولهم ولا أولدهم } أي: كثرتها وتفاخرهم بها؛ لأنها من أسباب العذاب والنكال عليهم { إنما يريد الله } المنتقم منهم { ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا } بجمعها وحفظها ونمائها، وارتكاب المحن والشدائد في تحصيلها { و } من كثرة محبتهم لها وحرصهم عليها { تزهق } وتزول { أنفسهم } وقت حلول الأجل { وهم كفرون } [التوبة: 55] محجوبون عن توحيد الله والإيمان.
[9.56-59]
{ و } من جملة نفاقهم: إنهم { يحلفون بالله } بالحلف الكاذب { إنهم لمنكم } أي: من جملتكم وزمرتكم يفرحون بفرحكم وسروركم، ويتغممون بحزنكم ومصيبتكم { و } الحال أنهم { ما هم منكم } لكفرهم وشركهم المركوز في قلوبهم { ولكنهم قوم يفرقون } [التوبة: 56] يخافون أن تفعلوا بهم فعلكم من المشركين، فاضطربوا إلى المداهنة والنفاق فأظهروا الإسلام؛ حفظا لدمائهم وأموالهم، وهم مضطرون على إظهار الإيمان، ومن غاية تذللهم واضطرارهم.
{ لو يجدون ملجئا } منيعا من الحصون والقلاع { أو مغارات } في شعاب الجبال { أو مدخلا } جحرا يمكنه الإنجحار والاستتار فيه { لولوا } وانصرفوا ألبتة { إليه وهم يجمحون } [التوبة: 57] يسرعون، كالفرس الجموح { ومنهم من يلمزك } يعينك وينصرك { في الصدقات } أي: قسمة الغنائم، ويتردد حولك حين القسمة طامعا { فإن أعطوا منها } بينهما أو شيئا يعتد به { رضوا } منك، وأثنوا عليك شكرا لإعطائك { وإن لم يعطوا منها } لعدم استحقاقهم؛ وبسبب تخلفهم ونفاقهم { إذا هم يسخطون } [التوبة: 58] يفاجئون بالغيظ والسخط إظهارا لما في قلوبهم من الأكنة.
{ ولو أنهم } كانوا مؤمنين كما ادعوا { رضوا } في تقاسيم الغنائم وغيرها على { مآ آتاهم الله } وأعطاهم من فضله؛ إذ هو الحكيم في قسمة أرزاق عباده على تفاوت درجاتهم { ورسوله } المستخلف له، الملهم من عنده { وقالوا } من كمال إخلاصهم وتفويضهم كسائر المؤمنين: { حسبنا الله } المدبر الكافي لأمورنا يكفينا علمه بنا { سيؤتينا الله } المكفل لأرزاقنا { من فضله } وسعة لطفه وجوده ما يكيفنا { و } سيعطينا { ورسوله } النائب عنه بإذنه من الغنائم والصدقات ما يشبعنا ويغنينا { إنآ } بعدما آمنا بالله، وتحققنا بتوحيده بإرشاد رسله { إلى الله } الباقي بالبقاء الأزلي السرمدي لا إلى غيره من الأظلال والأموال والمزخرفات الفانية { راغبون } [التوبة: 59] ليرزقنا من فوائد رزقه المعنوي، وفوائد توحيده الذاتي؛ أي: هم لو رضوا كما رضي المؤمنون الموقنون، واعترفوا كما اعترفوا لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وتقريرا في قلوبهم.
[9.60-61]
ثم بين سبحانه مصارف الصدقات فقال: { إنما الصدقات } أي: الزكوات يصرف { للفقرآء } وهم الذين لا مال لهم ولا مكسب لهم من الحرث وغيره، كأنه يكسر فقار ظهرهم الفاقة والاحتياج { والمساكين } الذين لهم مكسب وصنعة، لكن لا تفي لعيالهم كأن الاحتياج أسكنهم في زاوية المسكنة والهوان { والعاملين عليها } أي: الساعين لجمعها وإيصالها إلى مصارفها { والمؤلفة قلوبهم } وهم الذين قرب عهد إسلامهم، يجب على المسلمين مؤانستهم ومواساتهم؛ ليقروا على الإيمان { و } يصرف منها أيضا { في الرقاب } أي: فكها من الرق وتحريرها، وهو من أهم مهمات الإسلام { والغارمين } الذين استغرق أموالهم في ديونهم ولم تف لأدائها، يصرف إليهم منها؛ ليؤديها.
{ و } يصرف منها سهم { في سبيل الله } لتجهيز جيوش أهل الجهاد وتهيئة أسبابهم وعددهم؛ إذ هو من أهم مهمات هذا الدين { وابن السبيل } الذي انقطع عن الأهل والمال لمصلحة شرعية، إنماجرى هذه القسمة لهؤلاء المستحقين { فريضة } صادرة { من الله } مقدرة من عنده؛ ليحافظ المؤمنون عليها { والله } المدبر لأمور عباده { عليم } بمصارف الصدقات { حكيم } [التوبة: 60] في صرفها إياهم تقوية لهم وإمدادا.
{ ومنهم الذين يؤذون النبي } ويسيئون الأدب معه { ويقولون } في حقه افتراء واستهانة: { هو أذن } أي: سمع كله ليس له دربة ودراية وتعمق في المعارف الحقائق، بل يسمع منا ويجري على ما سمع بلا تفتيش وتدبر { قل } لهم يا أكمل الرسل: إنما أذن لكم لا أذن شر وفتنة، بل { أذن خير لكم } إن صدر عنكم ما يتعلق بأمور دينكم، موافقا لما أمر الله به يقبله منكم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم { يؤمن بالله } أي: يقر ويصدق بوحدانيته { ويؤمن } أيضا { للمؤمنين } المخلصين فيما أتوا به من الأعمال والأقوال الصادرة عن الإخلاص { و } كيف لا يكون الرسول أذن خير؛ إذ هو كله { رحمة } أي: شفقة وعطف { للذين آمنوا منكم } وأخلصوا في إيمانهم؟! { و } بالجملة: { الذين يؤذون رسول الله } بأي وجه كان { لهم عذاب أليم } [التوبة: 61] في النشاة الأخرى؛ جزاء لما أتوا به من إيذاء رسوله.
[9.62-66]
ومن جملة نفاق المنافقين وشقاقهم: إنهم { يحلفون بالله لكم } لتسليتكم وتلبيسكم أيها المؤمنون على ما صدر عنهم من التخلف والتقول على سبيل العذر { ليرضوكم } أي: لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم { والله } المطلع لضمائرهم { ورسوله } الملهم من عنده بمخايلهم وأباطيلهم { أحق } وأليق { أن يرضوه } أي: رسوله أحق بالإرضاء والمراضاة، وحد الضمير؛ لأن إرضاء الرسول مستلزم لإرضاء الله، بل هو عين إرضائه سبحانه عند من ارتفع سبيل التعدد عن عينه، وغشاوة الكشرة عن بصره { إن كانوا مؤمنين } [التوبة: 62] بالله وبحقية رسوله.
{ ألم يعلموا } ويفهموا أولئك المتخلفون، المؤذون لله ورسوله { أنه } أي: الشأن { من يحادد } ويشاقق { الله ورسوله } ويتعد حدود الله ويخالف أمر رسوله { فأن له نار جهنم } جزاء لما اقترف من المعاداة، فيكون { خالدا فيها } لا ينجو منها أصلا { ذلك } أي: الخلود في جهنم الحرمان { الخزي العظيم } [التوبة: 63] والهلاك الدائم.
ومن شدة نفاقهم وشقاقهم { يحذر المنافقون } المصرون على الكفر الكامن في قلوبهم، المظهرون للإيمان استهزاء ومداهنة { أن تنزل عليهم } أي: على المؤمنين { سورة } طائفة من الكلام { تنبئهم } وتخبرهم { بما في قلوبهم } من الكفر والنفاق فحينئذ فعلوا ما فعلوا بالمشركين المجاهدين { قل } لهم تهديدا وتقريرا: { استهزءوا } بالمؤمنين، وامضوا على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق { إن الله } المنتقم منكم { مخرج } مظهر { ما } كنتم { تحذرون } [التوبة: 64] منه، وهو إنزال السورة؛ لإفشاء حالكم.
{ و } كيف لا ينتقم الله عنهم { لئن سألتهم ليقولن } أي: لئن سألتهم وأخذتهم حين استهزءا بك وبأصحابك وقت مرورهم عليك في غزوة تبوك قائلين: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات، فألهمت به فدعوتهم، وقلت لهم: قلتم كذا كذا؟ فقالوا: لا والله ما كنا في أمرك وأصحابك في شيء، بل { إنما كنا نخوض ونلعب } بالأراجيف مزاحا؛ ليهون السفر علينا { قل } لهم بمقتضى علمك إياهم، بوحي الله وإلهامه توبيخا وتقريعا: { أبالله } المنزه ذاته عن أن يستهزئوا { وآياته } البريئة عن النقض { ورسوله } المطهر عن شوب الكذب { كنتم تستهزءون } [التوبة: 65].
{ لا تعتذروا } بالأعذار الفاسدة، ولا تحلفوا بالحلف الكاذب، إنكم { قد كفرتم } وأظهرتم بإيذاء الرسول والطعن في دينه { بعد إيمانكم } بعدما أظهرتم الإيمان فارتفع الأمان عنكم بفعلكم هذا فلحقتم بالمشركين، فنفعل بكم ما نفعل بهم { إن نعف عن طآئفة منكم } بعدما تابوا عما صدر عنهم، ورجعوا إلى الله نادمين خاشعين عن ظهر القلب { نعذب } بالقتل والأسر، والإجلاء والإذلال { طآئفة } أخرى منكم { بأنهم كانوا مجرمين } [التوبة: 66] مصرين على ما هم عليه من الكفر والنفاق وإيذاء الرسول والتخلف عن أمره بلا توبة وندامة.
[9.67-69]
فعليكم أيها المؤمنون أن تعبذوهم ذكرا أو أنثى؛ إذ { المنافقون } المصرون على النفاق أصالة { والمنافقات } المصرات عليه تبعا { بعضهم } ناشئ { من بعض } يتظاهرون ويتعاونون في نفاقهم { يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف } على عكس المؤمنين { ويقبضون أيديهم } عن الخيرات والمبرات كلها، وما ذلك إلا أنهم { نسوا الله } المظهر الموجد لهم بالإعراض عن حكمه وإيذاء رسوله المبين لأحكامه { فنسيهم } الله أيضا، ولم ينظر إليهم بنظر الرحمة { إن المنافقين } المصرين على النفاق، المتمردين عن الوفاق { هم الفاسقون } [التوبة: 67] المقصورون على الخروج عن مقتضى أمر الله وحكمه.
لذلك { وعد الله } المنتقم القادر على أنواع الانتقام { المنافقين والمنافقات والكفار } المجاهرين بلا تفاوت { نار جهنم } لا نجاة لهم منها أصلا، بل { خالدين فيها } أبدا { هي } أي: النار { حسبهم } ي: محسبهم وقرينهم { و } مع ذلك { لعنهم الله } أي: طردهم وأبعدهم عن سعة رحمته { ولهم } بسبب طرد الله إياهم ولعنه { عذاب } عظيم فوق عذاب جهنم { مقيم } [التوبة: 68] دائم غير منقطع، يتألمون طرد الله إياهم ويتعذبون، ولا عذاب أعظم من حرمان الوصول إلى جنة الحضور.
وأعوذك بك منك، لا ملجأ لنا غيرك.
وبالجملة: مثلكم أيها المتمردون المنهمكون في الكفر والضلال، المصرون على النفاق والعناد ، المعاندون مع الله ورسوله { كالذين } أي: كمثل الكفرة الذين مضوا { من قبلكم } بطرين مفتخرين بما عندمم من حطام الدنيا ومزخرفاتها، بل هم { كانوا أشد منكم قوة } وقدرة { وأكثر } منكم { أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم } أي: نصيبهم وحظهم مما قدر لهم من لذات الدنيا وشهواتها، واستكبروا على من أرسل عليهم لتكميلهم وإرشادهم.
{ فاستمتعتم } أيضا { بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم } أي: أخذتم وشرعتم في الأباطيل وتكذيب الرسول والمعاداة معه، وقصد إيذائه وقتله وقتل من آمن له { كالذي خاضوا } وشرعوا في حق أنبيائهم ورسلهم، انظروا إلى وخامة عاقبتهم، وكيف استؤصلوا فانتظروا لمثله، بل بأشد منها؟! وبالجملمة: { أولئك } البعداء المردودين عن منهج الرشاد والسداد { حبطت } أي: هلكت واضمحلت، وبطلت { أعمالهم } التي عملوها؛ لتفيدهم وتنفعهم { في الدنيا والآخرة } فلم ينفعهم أصلا لا في الأولى ولا في الأخرى؛ لعدم مقارنتها بالإيمان وتصديق الرسول { وأولئك } الضالون عن طريق الحق { هم الخاسرون } [التوبة: 69] المقصورون على الخسران، المقضيون بالحرمان والخذلان.
وبالجملة: مثلكم أيها المنافقون كمثلهم، بل أنتم أسوأ حالا منه؛ إذ نبيكم الذي كذبتم به أعلى رتبة من جميع الأنبياء.
[9.70-71]
{ أ } يصر المنافقون على النقاق والشقاق و { لم يأتهم نبأ } أي: خبر إهلاك القوم { الذين } مضوا { من قبلهم } كيف يهلكهم الله بظلمهم وذنوبهم مثل { قوم نوح } كيف استؤصلوا بالطوفان { وعاد } بالريح { وثمود } بالرجفة { وقوم إبرهيم } بالبعوض { وأصحب مدين } أي: قوم شعيب أهلكوا بالنار النازلة عليهم من السماء يوم الظلة { والمؤتفكت } قرى قوم لوط هلكوا بالزلزلة وإمطار الأحجار إلى حيث يجعل عاليها سافلها، كل من أولئك الهالكين { أتتهم رسلهم بالبينت } الواضحة الدالة على صدقهم ودعواهم فكذبوهم؛ عنادا ومكابرة، فلحقهم ما لحقهم بشؤم تكذيبهم { فما كان الله } المصلح لأحوال عباده { ليظلمهم } أي: لم تكن من سنته سبحانه الانحراف عن القسط إلى حيث يؤدي إلى الظلم؛ إذ هو سبحانه مستو على العدل القويم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [التوبة: 70] بالخروج عن مقتضى العدل الإلهي الموضوع، فيهم من قبل الحق بنيابة رسله.
ثم لما ذكر سبحانه أحوال المنافقين والمنافقات، ومظاهرتهم ومعاونتهم عقب أحوالهم بأحوال المؤمنين جريا على السنة المستمرة، فقال: { والمؤمنون } الموقنون بتوحيد الله، المصدقون لرسله { والمؤمنات } الملحقات بهم، المتفرعات عليهم { بعضهم } في الأمور الدينية { أوليآء بعض يأمرون بالمعروف } بالمظاهرة والموالاة { وينهون عن المنكر } على مقتضى ما وصل إليه من رسلهم { ويقيمون الصلاة } المفروضة المصفية لبواطنهم على الميل إلى غير الحق { ويؤتون الزكاة } المطهرة لظواهرهم عن الاشتغال بما سواه سبحانه { و } بالجلمة: { يطيعون الله } في جميع حالاتهم إطاعة تفويض وتسليم { و } ينقادون { رسوله } في جميع ما جاء به ودعا إليه { أولئك } السعداء المفوضون أمورهم إلى الله، المنقادون لرسوله { سيرحمهم الله } الرقيب عليهم من فضله ولطفه { إن الله } المدبر لأمور عباده { عزيز } غالب قادر على جميع ما أراد بهم { حكيم } [التوبة: 71] متقن في جزائهم حسب أعمالهم واستعدادهم لذلك.
[9.72-74]
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات } منتزهات من العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والمكاشفات المتجددة حسب تجددات التجليات الإلهية { خالدين فيها } أبدا لا يتحولون عنها أصلا { ومساكن طيبة } أي: مقرا في مقام التوحيد، خاليا عن وصمة الكثرة، طاهرا عن لوث السوى والأغيار مطلقا { في جنات عدن و } بالجملة: { رضوان } وقبول { من الله } المستوي على العدل القويم، بحيث لا يسخط لهم أصلا؛ لتحققهم بمقام التخلق بأخلاقه سبحانه، بحيث لا يبقى لهم شائبة انحراف عن صراطه المستقيم الذي هو صراط الله الأقوم الأعدل { أكبر } من جميع ما ذكر من قبل من المدرجات العلية { ذلك } الرضا من الله، والقبول من جانبه { هو الفوز العظيم } [التوبة: 72] واللطف الجسيم لأرباب الولاء، الواصلين إلى مرتبة الفناء فيه سبحانه والبقاء ببقائه، لذلك وعدوا من عنده بما لا يمكن التعبير عن كنهه إلا كوشف به وشوهد.
{ يأيها النبي } الهادي لعباد الله إلى تلك المرتبة بإذن الله { جاهد الكفار } المتمردين على الإطاعة الانقياد لإرشادك وتكميلك { والمنافقين } الذين يحليون ويخدعون معك في إظهار الإيمان، وهم في سرهم وباطنهم على شركهم وكفرهم الأصلي متقررون ثابتون { و } بعدما أصروا على نفاقهم وشقاقهم { اغلظ عليهم } حسب إصرارهم وإعراضهم { و } لا تبال بهم؛ { مأواهم } ومنقلبهم { جهنم } العبد والخذلان في الدنيا والآخرة { وبئس المصير } [التوبة: 73] مصير أولئك المحرومين المطرودين عن ساحة عز القبول.
ومن جملة نفاقهم وكفرهم: إنهم { يحلفون بالله } كذبا ومينا، إنهم { ما قالوا } من الطعن في كتاب الله وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم { و } الحال أنهم { لقد قالوا كلمة الكفر } أي: كلمة الطعن والتكذيب المستلزم للكفر، فحلفوا على عدم القول كذبا { و } هم في أنفسهم { كفروا } بالحق وأعرضوا عنه { بعد إسلامهم } أي: انقيادهم وتسليمهم؛ أي: اختاروا الكفر بعدما أظهروا الإسلام { و } لا يقتصرون على إظهار الكفر فقط، بل { هموا } وقصدوا { بما لم ينالوا } من قتبل الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتحام عليه بغتة في الليل بلا علم من أصحابه، او هموا بإخراجه ومن معه من أصحابه من المدينة { وما نقموا } وقصدوا إهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخراجه { إلا أن أغناهم الله } أي: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح أبواب الرزق والمكاسب { ورسوله } بإعطاء الغنائم { من فضله } ففي مقام الشكر وإظهار المنة ينكرون له، ويكفرون نعمه وبعدما وقع ما وقع.
{ فإن يتوبوا } عما صدر عنهم توبة صادرة عن محض الندامة والإخلاص { يك خيرا لهم } عند الله، يغفر لهم ويعفوا عن زلتهم { وإن يتولوا } ويعرضوا عن التوبة، ويصروا على ما هم عليه من الكفر والنفاق { يعذبهم الله } المنتقم منهم { عذابا أليما } مؤلما فجيعا { في الدنيا و } بالقتل والسبي والإجلاء والإذلال، وأنواع العقوبات في { الآخرة } بأضعاف ما في الدنيا والآفها؛ لانحطاطهم عن المرتبة الإنسانية، وقبول التكاليفات الإلهية المقتضية لإظهار الحكمة والكرامة المودعة في هياكلهم { و } إن استظهروا واستنصروا من أوليائهم { ما لهم في الأرض } بعد انتشار دين الإسلام في أقطارها { من ولي } يعينهم ويولي أمورهم { ولا نصير } [التوبة: 74] ينصرهم من باس الله وعذابه.
[9.75-80]
{ ومنهم } أي: من المنافقين { من عاهد الله لئن آتانا من فضله } مالا، وأعطانا رزقا كثيرا { لنصدقن } منها للفقراء المستحقين { ولنكونن } بالبذل والإنفاق، أداء الشكر { من الصالحين } [التوبة: 75] الشاكرين المنفقين، طلبا لمراضاة الله.
{ فلمآ آتاهم } الله { من فضله } ما طلبوا منه { بخلوا به } ومنعوا حق الله منه { وتولوا } عن امتثال أمر الله وإطاعة رسوله { وهم } قوم { معرضون } [التوبة: 76] عادتهم الإعراض عن إطاعة الله ورسوله؛ لخبث طينتهم.
{ فأعقبهم } الله بسبب فعلهم هذا { نفاقا } راسخا متمكنا { في قلوبهم } مستمرا { إلى يوم يلقونه } أي: الله سبحانه في يوم الجزاء، فيجازيهم على مقتضى نفاقهم وشقاقهم أسوأ الجزاء؛ ذلك { بمآ أخلفوا الله ما وعدوه } من الصدق والصلاح، والشكر والفلاح، ونقضوا عهده { وبما كانوا يكذبون } [التوبة: 77] أي: ويكذبهم حين العهد والميثاق بلا موافقة من قبلهم.
{ ألم يعلموا } حين هموا إلى القول الكذب مع الله { أن الله } المطلع لضمائرهم { يعلم } بعلمه الحضوري { سرهم } إي: إخلافهم الوعد من حصول المطلوب { ونجواهم } أي: مناجاتهم معه لا عن إخلاص ناشئ من محض المعرفة والإيمان بالله، والإقرار بربوبيته؛ لرسوخ الكفر والشرك في جبلتهم { و } لم يعلموا أيضا { أن الله علام الغيوب } [التوبة: 78] لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فمن آمن بتوحيده وإحاطة علمه وقدرته، كيف خرج عن أمره وإطاعته؟.
ومن المنافقين المصرين على النفاق والشقاق مع المؤمنين، هم { الذين يلمزون } ويتسهزئون { المطوعين } المتطوعين { من المؤمنين في } إعطاء { الصدقات } خصوصا المؤمنين { والذين لا يجدون } من الصدقة { إلا جهدهم } أي: يبذلون مقدار طاقتهم؛ طلبا لمرضاة الله { فيسخرون } أولئك اللامزون المستهزئون { منهم } أي: من الذين بذلوا جهدهم في أمر الصدقة { سخر الله منهم } في الآخرة؛ مجازاة على سخريتهم هذه { ولهم } فيها { عذاب أليم } [التوبة: 79] بدل لذتهم بسخريتهم.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم حث المؤمنين يوما على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار وقال: لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة آلاف، وأمسكت لعيالي أربعة، فقال: صلى الله عليه وسلم:
" بارك الله لك فيما أعطيت، وفيما أمسكت ".
وأتى عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، وجاء عقيل الأنصاري بصاع تتمر، فقال: بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر، وتركت صاعا لعيالي، وأتيت بالآخر، فأمره صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات تبركا، فلمزهم المنافقون، فقالو: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع عقيل، ولكنه أحب أن يعد نفسه مع المتصدقين فنزلت.
{ استغفر لهم } يا أكمل الرسل لهؤلاء اللازمين المستهزئين، المستسخرين من المؤمين بإنقاذهم من العذاب أو تخفيفه { أو لا تستغفر لهم } سواء عند الله في انتقامهم وعذابهم، بل { إن تستغفر لهم } لا مرة ولا مرتين، بل { سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } ألبتة؛ لعظم جرمهم وفسقهم { ذلك } أي: عدم غفرانهم { بأنهم كفروا بالله } وأشركوا معه غيره في الألوهية، مع أنه منزه عن الشريك مطلقا { ورسوله } أي: كذبوا رسوله، وبما جاء به من عند ربه، واستهزءوا بالمؤمنين المصدقين له، المتصفين في سبيل الله { والله } الهادي لعباده { لا يهدي القوم الفاسقين } [التوبة: 80] عن مقتضى أوامر الله ونواهيه المسيئين الأدب مع الله ورسوله والمؤمنين.
[9.81-85]
ثم قال سبحانه: { فرح } المنافقون { المخلفون } عن رسول الله، المتخلفون لأمره، المتمكنون { بمقعدهم } أي: بمكان قعودهم { خلاف رسول الله } حين خرج إلى غزوة تبوك { و } ما ذلك؛ أي: قعودهم واستقرارهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانهم، إلا أنهم { كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } لخبث باطنهم وقسوة قلوبهم { وقالوا } أيضا للمؤمنين تقريرا وتكسيلا: { لا تنفروا في الحر } أي: لا تجاهدوا ولا تقاتلوا في الصيف حتى لا تضعفوا أنتم ومواشيكم { قل } لهم يا أكمل الرسل: { نار جهنم } البعد والخذلان التي استوجبتم بها بتخلفكم وقعودكم عن الجهاد { أشد حرا } وأبلغ إحراقا وإيلاما { لو كانوا يفقهون } [التوبة: 81] ويفهمون ما هي وكيف هي لم يختاروها على حر الدنيا.
{ فليضحكوا } أولئك المتخلفون الهالكون في العذاب المؤبد، والوبال المخلد { قليلا } في الدنيا { وليبكوا كثيرا } لما لحقهم بعد خروجهم منها من أنواع العذاب والنكال { جزآء بما كانوا يكسبون } [التوبة: 82] فيها من الجرائم العظائم والمعاصي، والآثام.
{ فإن رجعك الله } وردك من غزوتك هذه؛ أي: غزوة تبوك { إلى طآئفة منهم } أي: من المستخلفين، المستأذنين الذين قعدوا في المدينة بلا عذر، وبعدما قصدت عزوة أخرى { فاستأذنوك للخروج } تلاقيا لما مضى { فقل } لهم: { لن تخرجوا معي } إلى الجهاد { أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } أصلا { إنكم } قوم { رضيتم بالقعود } والتخلف { أول مرة } بلا عذر بل عن عذر وخديعة { فاقعدوا } دائما { مع الخالفين } [التوبة: 83] المعذورين من النساء والصبيان، والزمنى والمرضى.
{ و } متى ظهر لك حا ل أولئك الغواة، الطغاة الهالكين في البغض والنفاق { لا تصل على } ولا تدع ل { أحد منهم مات أبدا } أي: بعد ورود النهي أصلا { ولا تقم على قبره } لتستغفر له { إنهم } من خبث بواطنهم { كفروا بالله ورسوله } في حال حياتهم { وماتوا } على الكفر أيضا { وهم فاسقون } [التوبة: 84] مجبولون على الفسق في أصل فطرتهم.
{ و } بعدما تحقق عندك، وظهر كفرهم وفسقهم { لا تعجبك أمولهم وأولدهم } التي هي وبال عليهم { إنما يريد الله } المضف المذل لعصاة عباده { أن يعذبهم بها في الدنيا } بأنواع الحوادث والمصيبات { وتزهق أنفسهم } وميلهم ومحبتهم منوطة بها { وهم كفرون } [التوبة: 85] بالله، غير معتبرين معترفين بألوهيته وربوبيته.
[9.86-90]
{ و } من شدة نفاقهم وبغضهم مع الله ورسوله { إذآ أنزلت سورة } من القرآن ناطقة { أن آمنوا } أيها المكلفون { بالله وجاهدوا مع رسوله } في سبيله { استأذنك أولوا الطول } والسعة { منهم } أي: صناديدهم وعظماؤهم؛ خوفا من أموالهم وأنفسهم { وقالوا ذرنا } ودعنا { نكن مع القاعدين } [التوبة: 86] المعذورين الغير القادرين.
وبالجملة: { رضوا } أولئك الغواة مع قوتهم وسعتهم { بأن يكونوا مع الخوالف } أي الضعفاء الفاقدين للقوة والسعة { و } ما ذلك إلا أن { طبع } وختم { على قلوبهم } بالكفر والضلال { فهم لا يفقهون } [التوبة: 87] قبح ما جاءوا به من المخالفة والقعود مع أولئك المعذورين، ولذلك لم يأتوا بالمأمور، ولم يتمثلوا به.
{ لكن الرسول والذين آمنوا معه } امتثلوا لأمر الله، وانقادوا لحكمه سمعا وطاعة، لذلك { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } في سبيل الله؛ ابتغاء لمرضاته وتثبيتا في دينه { وأولئك } المؤمنون المجاهدون { لهم الخيرات } المثوبات العظمى، والدرجات العليا عند الله { وأولئك هم المفلحون } [التوبة: 88] الفائزون من عنده بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وبالجملة: { أعد الله } المجازي لخلص عباده { لهم } أي: لهؤلاء المجاهدين المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله، الباذلين مهجهم في سبيله { جنات } منتزهات علمية وعينية وحقية { تجري من تحتها الأنهار } أنهار الشهود والكشوف والواردات والإلهامات، لا دفعة ولا دفعات، بل { خالدين فيها } أبدا { ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 89] واللطف العميم لهؤلاء المختصين بالعناية الأزلية والسعادة السرمدية.
{ و } متى جاءت ونزلت سورة ناطقة بالقتال والجهاد { جآء المعذرون } بالأعذار الكاذبة ومن في قلوبهم مرض { من الأعراب } الذين لا اطمئنان لهم في الأيمان { ليؤذن لهم } بالقعود وعدم الخروج إلى الجهاد { وقعد } المصرون { الذين كذبوا الله ورسوله } من غير مبالاة بأمر الله وإطاعة رسوله، لا تبال بهم وبمخالفتهم وكذبهم؛ إذ { سيصيب الذين كفروا منهم } بعد افتضاحهم وظهور نفاقهم { عذاب أليم } [التوبة: 90] في الدنيا والآخرة، لا نجاة لهم أصلا.
[9.91-93]
ثم قال سبحانه: { ليس على الضعفآء } الفاقدين استطاعة الحرب، ولو كانوا أصحاء، كالنسوان والصبيان والشيوخ { ولا على المرضى } الفاقدين الاستطاعة بعروض العوارض، كالعمى والعرج والزمانة وغيرها { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } للزاد والسلاح والمركب وغيرها { حرج } أي: إثم ومعصية في قعودهم وتخلفهم { إذا نصحوا لله ورسوله } أي: أخلصوا في الإيمان والإطاعة بالله ورسوله بلا مرض في قلوبهم، ودعوا المجاهدين والغزاة خيرا، وأحسنوا مع أهل بيتهم وأطفالهم وفعلوا معهم خيرا إن استطاعوا { ما على المحسنين } القاعدين المعذورين مع الله ورسوله، والمؤمنين { من سبيل } في المعاتبة والحرج، فضلا عن العقاب الأخروي؛ إذ هم من جملتهم وزمرتهم { والله } المطلع لضمائرهم { غفور } لذنوبهم { رحيم } [التوبة: 91] يجازيهم على قعودهم هذا خيرا؛ لكونهم معذورين فيهز
{ ولا } حرج ولا عقاب أيضا { على } المؤمنين المخلصين { الذين إذا مآ أتوك } حين صمم عزمك إلى الخروج { لتحملهم } على الخفاف المرفوعة، والنعال المخصوفة، كمعقل بن يسار وصخر بن خنساء وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن زيد وعبد الله بن مغفل، وهم البكاؤون، وعبد الله بن كعب الأنصاري وغيرهم، حتى يبلغوا مكان العدو { قلت } لهم: { لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا } وانصرفوا من عند آيسين { وأعينهم } حين توليهم { تفيض } وتسيل { من الدمع حزنا } وأسفا { ألا يجدوا } لئلا يجدوا { ما ينفقون } [التوبة: 92] حتى يبلغوا المعركة ويحضروا الوغى، فهؤلاء أيضا لا عتاب لهم ولا عقاب، بل يرجى لهم الأجر الجزيل من الله؛ لإخلاصهم وأسفهم.
{ إنما السبيل } بالمعاتبة والمعاقبة، وأنواع العذاب { على الذين يستأذنونك } بالقعود معتذرين { و } الحال أنه { هم أغنيآء } مستطيعون قادرون بالجسد والمال، غاية ما في الباب أنهم { رضوا } من خبث باطنهم ومرض قلوبهم { بأن يكونوا مع الخوالف } المعذورين الغير االمستطيعين { و } ما ذلك إلا أن { طبع الله } المذل والمضل لأهل الغفلة والعناد { على قلوبهم } بالجهل والضلال { فهم لا يعلمون } [التوبة: 93] جهلهم وضلالهم حتى يتسببوا لإنزاحتها وإزالتها.
[9.94-96]
ومع ذلك { يعتذرون } أولئك المستأذنون، المستطيعون { إليكم } أيها المؤمنون { إذا رجعتم } من غزوتكم هذه { إليهم } بالأعذار الكاذبة، الغير المطابقة للواقع تسلية لكم وتغريرا؛ تتميما لنفاقهم { قل } يا أكمل الرسل تعليما للمؤمنين في مقابلة أعذارهم: { لا تعتذروا } مراء ومداهنة، إنا { لن نؤمن } ونصدق { لكم } سيما { قد نبأنا الله } المطلع لضمائركم، وما يجري في صدوركم بالوحي على رسوله { من أخباركم } التي تكتمونها في نفوسك من الشر والفساد، وبالنسبة إلينا وإلى نبينا { و } كيف تعتذرون عن جرائمكم وتلبسونها { سيرى الله } الناقد البصير { عملكم ورسوله } فتفضحون على رءوس الأشهاد { ثم تردون } في النشأة الأخرى { إلى عالم الغيب والشهادة } تحاسبون عنده عليها { فينبئكم } ويظهر عليكم مفصلا { بما كنتم تعملون } [التوبة: 94] في النشأة الأولى، فيجازيكم على مقتضى علمه.
ومن جملة نفاقهم وتلبسيهم: إنهم { سيحلفون } يقسمون { بالله لكم إذا انقلبتم } ورجعتم مشتكيا معاتبا { إليهم } عن قعودهم وتخلفهم، إنما عرضهم من الحلف الكاذب تغريركم وتلبيسكم { لتعرضوا عنهم } وعن عتابهم، ولا تسألوا عن مخالفتهم وقعودهم { فأعرضوا عنهم } وعن عتابهم قبل حلفهم وتلبيسهم، ولا تلتفتوا إليهم { إنهم } في أنفسهم { رجس } جبلتهم على الخباثة والنجاسة لا تقبل التطهير بالتأديب أصلا { ومأواهم } أي: مرجعهم ومنقلبهم في النشأة الأخرى { جهنم } الطرد والخذلان { جزآء بما كانوا يكسبون } [التوبة: 95] في النشأة الأولى من الكفر والنفاق، والإصرار على الشرك والشقاق.
وإنما { يحلفون لكم } حين شكواكم وعتابكم { لترضوا عنهم } وتقبلوا إخلاصهم ومودتهم وتكونوا معهم كما كنتم { فإن ترضوا عنهم } بمجرد حلفهم الكاذب، وتغريرهم الفاسد، لا يغني رضاكم عنهم شيئا من سخط الله عليهم { فإن الله } المطلع لما في ضمائرهم من الأكنة والنفاق { لا يرضى عن القوم الفاسقين } [التوبة: 96] الخارجين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة؛ لتطهير النفوس الخبيثة عن أرجاس الطبيعة، وتصفيتها عن أدناس الأخلاق الذميمة، العائقة عن الوصول إلى مقر التوحيد.
[9.97-100]
ثم قال سبحانه: { الأعراب } أي: أهل الوبر المترددون في البوادي، المنهمكون في الغي والضلال والعتو والفساد { أشد كفرا ونفاقا } من أهل المدر المستأنسين مع العقلاء، المستفيدين منهم { و } لشدة شكيمة أولئك الأعراب وجهلهم، وعدم قابليتهم { أجدر } اي: أحق أليق { ألا يعلموا } أي: ألا يعلموا { حدود مآ أنزل الله } المدبر المصلح لأحوال عباده { على رسوله } النائب عنه، المتكلف لإرشاد عباده بإقامة حدوده المنزلة من الأوامر والنواهي المستلزمة؛ لتأديبهم في معاشهم ومعادهم؛ إذ هم في غاية البعد عن الهداية والصلاح وتحمل التكاليف الإلهية { والله } المطلع لسرائر عباده { عليم } باستعداداتهم الكامنة فيهم { حكيم } [التوبة: 97] في إلزام التكليف عليهم.
{ ومن } منافقي { الأعراب من يتخذ } أي: بعد ويحسب { ما ينفق } بأمر الله في سبيله { مغرما } أي: غرامة وخسرانا؛ لعدم إيمانه واعتقاده بترتب الثواب عليه، بل إنما ينفق رياء وتقية { و } من خباثة باطنه { يتربص } أي: يترقب وينتظر { بكم الدوائر } أي: نوائب الزمان الدائرة عليكم؛ لينقلب الأمر ويتحول الحال، ويخلص من الإنفاق بالنفاق، بل يدور { عليهم دآئرة السوء } على عكس مرامهم دائما متجددا، مستمرا { والله } الرقيب عليهم { سميع } لمناجاتهم { عليم } [التوبة: 98] بنياتهم وحاجاتهم تدبر عليهم ما يتربصون بكم من الدوائر.
{ ومن } مخلصي { الأعراب من يؤمن بالله } أي: يوقن ويذعن بتوحيده { واليوم الآخر } أي: يصدق باليوم الآخر المعد لجزاء الأعمال، وترتب المثوبات بالقربات والصدقات { ويتخذ ما ينفق } في سبيل الله { قربات } ونيل مثوبات ورفع درجات { عند الله وصلوات الرسول } أي: بسبب استغفاره ودعائه له { ألا إنها } أي: ما يتصدقون بها أولئك المؤمنون، المخلصون، المتقربون { قربة لهم } وسبب وصولهم إليه { سيدخلهم الله } الموفق له، الرقيب عليهم { في } سعة { رحمته } وجوده بعد انقضاء النشأة الأولى { إن الله } المصلح لأحوالهم { غفور } لما صدر عنه من المعاصي قبل إيمانهم { رحيم } [التوبة: 99] لهم، يقبل منهم بعد إيمانهم وإخلاصهم ما يتقربون به لمرضاته.
{ والسابقون } في الإيمان، المبادرون إلى التصديق وقبول الأحكام { الأولون } الأقدمون بمتابعة الرسول { من المهاجرين } الذين هاجروا من مألوفات نفوسهم ومتشهيات طباعهم إلى الفناء في الله { والأنصار } الأبرار الذين سلكوا نحو الحق بالرياضات المجاهدات الشاقة المزيحة لدرن التعلقات ورين الإضافات، المانعة من التوجه الحقيقي.
{ والذين اتبعوهم } واقتفوا أثرهم من أهل الطلب والإرادة { بإحسان } أي: بلا تمايل إلى الرياء والسمعة والعجب، أولئك المبرورون، المقبولون { رضي الله عنهم } لتحققهم بمرتبة الإخلاص والتسليم { ورضوا عنه } لإصالهم إلى مقر التوحيد وفضاء الفناء المثمر للبقاء الأبدي والحياة السرمدية { وأعد لهم } سبحانه في حوزة حمايته وروضة بقائه { جنات } منتزهات { تجري تحتها الأنهار } من العلوم والمعارف { خالدين فيهآ أبدا } لا يتحولون عنها أصلا { ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 100] واللطف الجسيم لأهل العناية من أرباب الولاية والمحبة، المنخلعين عن جلباب ناسوتهم مطلقا.
[9.101-104]
{ وممن حولكم } أيها المؤمنون { من الأعراب } الساكنين في البوادي قوم، هم { منفقون } معكم، وإن إظهروا المؤدة والإخاء، والإيمان على طرف اللسان، لا تبالوا بإيمانهم، ولا تغفلوا عن خدعهم { ومن أهل المدينة } أيضا قوم { مردوا } أي: رسخوا { على النفاق } ومن شدة نفاقهم وتمرنهم عليه صاروا بحيث { لا تعلمهم } أيها المتصف بالفراسة الكاملة من غاية تلبيسهم وإخفائهم، بل { نحن نعلمهم } ونعلم ما في ضمائرهم من الخيالات الفاسدة { سنعذبهم } في الدنيا { مرتين } مرة بتفضيحهم وإظهار ما في قلوبهم من الأكنة والشقاق، ومرة بقتلهم وسبيهم وإجلائهم { ثم يردون } بعد انقضاء النشأة الأولى { إلى عذاب عظيم } [التوبة: 101] هو حرمانهم وانحطاطهم عن المرتبة الكاملة الإنسانية التي هي مرتبة الخلافة والنيابة الجامعة لجميع المراتب الكونية والكيانية.
{ و } من أهل المدينة قوم { آخرون } ليسوا من المصرين على النفاق، المتمرنين فيه، بل { اعترفوا بذنوبهم } التي صدرت عنهم من المخالفة والبغض والطعن والاستخفاف، والغيبة حين خلوا مع المنافقين المتمرنين، وهم وإن صدر عنهم الإيمان والإخلاص، لكنهم { خلطوا عملا صالحا } من الإخلاص والرضاء، والتسليم { و } عملا { آخر سيئا } وهو اتفاقهم مع المنافقين في خوضهم وطعنهم، بذلك انحطوا عن رتبة المخلصين في جميع حالاتهم { إن الله } أي: يوفقهم على التوبة والندامة، ويقبل منهم توبتهم بعدما أخلصوا فيها { عسى الله أن يتوب عليهم } المصلح لأحوال عباده { غفور } لمن تاب وندم عن ظهر القلب { رحيم } [التوبة: 102] يقبل توبتهم إن أفرطوا.
{ خذ } يا أكمل الرسل { من أموالهم } أي: من أموال هؤلاء المذنبين التائبين، النادمين عما صدر عنهم من المخالفة حين أذنوا لك أن تخرج منها { صدقة تطهرهم } عن أدناس الطبيعة المولعة لحب المال والحرص في جمعها ونمائها { وتزكيهم بها } أي: تصفي بواطنهم عن الشواغل العائقة عن اللذات الروحانية { وصل عليهم } واستغفر لذنوبهم، وادع لهم بالدعاء الخير { إن صلوتك } والتفاتك بحالهم { سكن لهم } أي: سكينة لقلوبهم ووقار وطمأنينة، وسبب لتقررهم وتثبتهم على جادة التوحيد والإيمان { والله } المراقب عليهم في حالاتهم { سميع } لإخلاصهم ومناجاتهم { عليم } [التوبة: 103] بنياتهم وحاجاتهم.
{ ألم يعلموا } أولئك التائبون، النادمون المخلصون، المتضرعون نحو الحق على عفو زلاتهم وتقصيراتهم { أن الله } المصلح لأحوالهم { هو } بلطفه وفضله { يقبل التوبة عن عباده } بعدما وفقتهم عليها، ويتجاوز عن سيئاتهم { ويأخذ الصدقات } من أموالهم؛ أي: يقبلها منهم تطهيرا لقلوبهم عما يشوشهم من رذائل هوياتهم وتعيناتهم؛ ليتشمروا نحو الحق مخفين { و } لم يعلموا { أن الله } المتفضل لعباده { هو التواب } الرجاع لهم عن مقتضيات نفوسهم نحو جنابة { الرحيم } [التوبة: 104] عليهم يوصلهم إلى بابه إن أخلصوا في سلوكهم وتوجههم.
[9.105-108]
{ وقل } يا أكمل الرسل للمخلفين من الأعراب: { اعملوا } ما شئتم من الكفر والنفاق { فسيرى الله } الرقيب عليكم { عملكم ورسوله } بوحيه سبحانه وإلهامه { والمؤمنون } بتبليغه { و } اعلموا أيها الغواة المجرمون { ستردون } للحساب والجزاء { إلى عالم الغيب } أي: السرائر والخفيات التي تسترونها من الكفر والمعاصي { والشهادة } أي: التي تعلنون بها { فينبئكم } سبحانه على التفصيل { بما كنتم تعملون } [التوبة: 105] من طغيان نفوسكم، ويجازيكم عليها.
{ وآخرون } من المتخلفين بعدما تبهوا بقبح صينعهم { مرجون } مؤخرون، منتظرون { لأمر الله } وحكمه، وصاروا مترددين بين الخوف والرجاء فيما فعل الله معهم { إما يعذبهم } أخذا على ما صدر عنهم بمقتضى عدله { وإما يتوب عليهم } ويوفقهم على التوبة يمقتضى فضله وسعة رحمته، وجوده { والله } المطلع لخفيات صدورهم { عليم } بإخلاصهم ونياتهم { حكيم } [التوبة: 106] في فعله بهم بعد علمه بحالهم.
{ و } من أشدهم كفرا ونافقا، وأغلظهم بغضا وشقاقا، هم { الذين اتخذوا } تلبيسا وتغريرا { مسجدا } قاصدين في بنائه { ضرارا } مضرة وسوءا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين { وكفرا } أي: اشتدادا وزيادة فيه؛ لأنهم يقصدون بإنشائه وبنائه قتل رسول الله والمؤمنين فيه { و } قصدوا أيضا { تفريقا } وتشتيتا { بين المؤمنين } المجتمعين في مسجد قباء { و } بالجملة: إنما يبنونه { إرصادا } أي: ترقبا وانتظارا { لمن حارب الله ورسوله } وهو أبو عامر، الراهب الذي حارب مع المؤمنين { من قبل } يوم حنين فانهزم، فهرب إلى الشام؛ ليذهب إلى قيصر، فيأتي بجنوده، وهم منتظرون لمجيئه.
{ و } بعدما ظهر نفاقهم وخداعهم بوحي الله وإلهامه على رسوله { ليحلفن } وليقسمن بالأيمان الغليظة { إن أردنا } أي: ما قصدنا ببنائه { إلا الحسنى } والخير، وهي الصلاة المقربة نحو الحق والذكر والتسبيح والتوسعة على المؤمنين، وازدياد شعائر الإسلام { والله } المطلع لضمائرهم ومحايلهم { يشهد إنهم لكاذبون } [التوبة: 107] في حلفهم.
وإذا عرفت يا أكمل الرسل حالهم، وحلفهم، وسوء قصدهم وفعالهم { لا تقم فيه أبدا } للتوجه والصلاة؛ لكونه مبنيا على الخداع والتزوير { لمسجد أسس } وبني { على التقوى } عن محارم الله وخالصا لرضاه { من أول يوم } بني، وهو مسجد قباء { أحق } أي: أليق وأولى { أن تقوم فيه } للصلاة والميل نحو الحق؛ إذ { فيه رجال } مؤمنون كاملون في الإيمان { يحبون } دائما { أن يتطهروا } عن المعاصي والآثام، ويتوجهوا نحو الحق برفض الشواغل ونقض العوائق العلائق { والله } المطلع بنياتهم { يحب المطهرين } [التوبة: 108] القاصدين تظهير ذواتهم عن التوجه إلى ما سوى الحق المطلق، بل عن هوياتهم وتعيناتهم الباطلة.
[9.109-111]
{ أفمن أسس } ووضع { بنيانه على } قاعدة محكمة وركن شديد، هي { تقوى } أي: تحفظ وتحصن { من الله } أي: غضبه وسخطه { و } طلب { رضوان } ومثوبة عظيمة، ومنزلة رفيعة منه { خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار } أي: على طرف واد جوفه السيول والأمطار فسقط البعض، وأشرف على السقوط والانهدام البعض الآخر، فوضع عليه بناءه { فانهار به } وسقط معه { في نار جهنم } أي: الوادي الغائر، الهائر، المملوءة من نار الحرمان والخذلان { والله } الهادي لخلص عباده { لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة: 109] الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه.
ومن شدة غيظهم وخبث باطنهم { لا يزال بنيانهم الذي بنوا } يورث ويزيد { ريبة } شكا وريبا متزايدا { في قلوبهم } مترشحا فيها { إلا أن تقطع قلوبهم } بنيران الحسرة، وتفتتت وتلاشت بأهوال العذاب إلى حيث لا يتأتى منها الإدراك { والله عليم } بمخايلهم الكامنة في صدورهم { حكيم } [التوبة: 110] في جزائها وانتقامها.
ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله: { إن الله } المتفضل بالفضل العظيم واللطف الجسيم { اشترى } استبدل { من المؤمنين أنفسهم } الفانية في أنفسها، المعدومة المبذولة في سبيله سبحانه في النشأة الأولى { وأموالهم } المصروفة فيه أيضا { بأن لهم الجنة } الباقية واللذة المستمرة الدائمة، بدلها لذلك { يقاتلون في سبيل الله } أولئك المتمثلون بحكم الله، المصدقون لوعده { فيقتلون } أعداءه، فيستحقون المثوبة التي وعد الغزاة المجاهدين { ويقتلون } ويصلون إلى درجة الشهداء الذين هم أحياء عند الله يرزقون من موائد أفضاله، فرحون يوعدون من عنده سبحانه { وعدا عليه } بلا خلف فيه { حقا } ثابتا مثبتا { في التوراة والإنجيل والقرآن } المنزلة من عنده { ومن أوفى بعهده } ووفى العهود استحق { من الله } الوعد الموعود { فاستبشروا } أي: افرحوا واربحوا أيها المؤمنون { ببيعكم الذي بايعتم به } مع ربكم، بأن استبدلتم الفاني الزائل بالباقي المستمر الدائم { وذلك } الموعود لكم { هو الفوز العظيم } [التوبة: 111] المعد لأرباب العناية.
[9.112-115]
وهم { التائبون } النادمون على ما جرى عليهم من المعاصي، المحافظون عليها بلا مراجعة أصلا { العابدون } بالعزائم الصحيحة والإخلاص التام { الحامدون } الشاكرون، الصارفون ما أعطاهم الحق من النعم إلى ما أمرهم من المصارف { السائحون } السائرون، السالكون في سبيل الحق؛ لازدياد المعارف والحقائق { الراكعون } المتوضعون، المنكسرون لجميع مظاهر الحق؛ تعظيما لشأنه { الساجدون } المتذللون، الواضعون جباههم على تراب المذلة؛ خضوعا وانقيادا، ميلا ودعاء { الآمرون بالمعروف } المستحسن عقلا وشرعا واللسان، وجميع الجوارح { والناهون عن المنكر } المستقبح عقلا وشرعا لجميع ما ورد النهي به { و } بالجملة: هم { الحافظون لحدود الله } الموضوعة بين أرباب التكليف القابلين، المستعدين لسلوك طريق التوحيد { وبشر } يا أكمل الرسل { المؤمنين } [التوبة: 112] الموصوفين بهذه الصفات الجميلة باللذات التي لا يمكن وصفها بلسان التعبير من لدن حكيم خبير.
ثم قال سحبانه على طريق النهي عموما: { ما كان } أي: ما صح وجاز { للنبي } الأمي الهاشمي { والذين آمنوا } معه، وأخلصوا فيه { أن يستغفروا } ويشفعوا { للمشركين } بتخفيف العذاب ودخول الجنة { ولو كانوا أولي قربى } من النسب؛ إذ لا عبرة لقرابة النسب، بل القرابة المعتبرة هي قرابة الحسب والإيمان، سيما { من بعد ما تبين لهم } موتهم على الكفر والجاهلية { أنهم أصحاب الجحيم } [التوبة: 113] أي: ملازموها وملاصقوها، لا نجاة لهم منها؛ لإصرارهم على موجبها.
{ و } لا يرد على هذا استغفار إبراهيم لأبيه؛ إذ { ما كان استغفار إبراهيم لأبيه } على سبيل الشفاعة والشفقة، والعطف الموجب لها، بل ما هو { إلا عن موعدة } وعهد { وعدهآ إياه } حين أراد أن يخرجه من الكفر والشرك، بأن يستغفر له ما تقدم من ذنبه إن آمن فاستغفر قبل الإيمان إنجازا لوعده ليلين قلبه { فلما تبين له } ظهر عنده { أنه عدو لله } مصر على كفره، مطبوع على قبله { تبرأ منه } واسترجع إلى الله منيبا؛ لاجترائه واستغفاره في حق أبيه، مع عدم العلم باستعداده وتوفيق الله إياه { إن إبراهيم } مع كونه متحققا بمقام الخلة مع الله { لأواه } كثير التأوه والتحزن عن أمثال هذه الجرأة { حليم } [التوبة: 114] كثير الشفقة والمرحمة على أهل الغفلة؛ لظهوره على مقتضى اللطف والجمال.
{ و } اعلموا أيها المؤمنون { ما كان الله } المصلح لأحوال عباده { ليضل قوما } ويسميهم ضلالا وفساقا { بعد إذ هداهم } للإيمان والإسلام { حتى يبين لهم } وينبه عليهم { ما يتقون } ويحذرون من المحارم والمعاصي؛ لامتناع تكليف الغافل، ثم بعد ارتكاب المحذور به يسميهم ما يسميهم، ويأخذهم منتقما عليه { إن الله } المدبر لأمور عباده { بكل شيء } مما يتعلق بصلاحهم وإصلاحهم { عليم } [التوبة: 115] لا يعزب عن علمه شيء، فعليكم أيها المؤمنون أن تفوضوا أموركم كلها إلى الله.
[9.116-118]
{ إن الله } المستقل بالألوهية والوجود { له ملك السموت } وما فيها من الكواكب والنجوم { والأرض } وما عليها، وكذا ما بينهما { يحيي } ويظهر بلطفه متى تعلق إرادته { ويميت } يعدم ويخفي بقهره متى شاء { وما لكم } أيها المؤمنون الموقنون بتوحيد الله { من دون الله } الواحد، الأحد، الصمد الذي ليس معه شيء، ولا دونه حي { من ولي } يولي أموركم { ولا نصير } [التوبة: 116] ينصركم عليها.
{ لقد تاب الله على النبي } أي: وفقه على التوبة بعدما صار عنه إذن المخالفين، المستأذنين المعتذرين بالأعذار الكاذبة؛ تعزيرا له وتلبيسا عليه، مع عدم علمه بحالهم { و } تاب أيضا على { المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } نحو تبوك حين خرج إليها { في ساعة العسرة } وأيام القحط؛ إذ ليس لهم في تلك السفر زاد ولا راحلة ولا ماء، حيث يتعاقب عشرة على بعير، وقسيم تمر بين اثنين في يوم، وشرب الفظ والفرث من شدة العطش، لذلك تمايل على المخالفة { من بعد ما كاد } وقرب { يزيغ } ويميل عن المتابعة { قلوب فريق منهم } من قلة البصر، وكثرة المقاساة والأحزان { ثم تاب } الله { عليهم } ووفقهم على التوبة مما أخطروا ببالهم، وتخيلوا في خيالهم { إنه } سبحانه { بهم } بعدما علم استعدادهم وقابليتهم { رءوف } عطوف، يعفو عما صدر عنهم وقت الاضطرار { رحيم } [التوبة: 117] يقبل عنهم ما جاءوا به من الإنابة والاستغفار.
{ و } أيضا تاب سبحانه { على الثلاثة الذين خلفوا } عن عزوة تبوك بلا عذر، هو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وصاروا من عدم التفات رسول الله والمؤمنين إليهم بعدما أمرهم الرسول ألا يتكلموا معهم خمسين ليلة { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي: مع وسعتها وفسحتها { و } صاروا من الأعراف إلى أن { ضاقت عليهم أنفسهم } واشتد عليهم الأمر، وانسد أبواب التدابير مطلقا، فاضطروا في أمرهم، والتجأوا نحو الحق مخلصين { وظنوا } بل كوشفوا { أن لا ملجأ } ولا مفر { من الله } أي: غضبه وسخطه { إلا إليه } إذ ليس بغيره وجود حتىى يلجأ إليه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في أمثال هذه المضائق:
" أعوذ بك منك ".
{ ثم } بعدما أخلصوا في الإنابة الرجوع وفوضوا أمروهم إليه سبحانه { تاب } الله { عليهم } أي: أقدرهم ووفقهم على التوبة { ليتوبوا } ويرجعوا إلى الله نادمين على ما صدر عنهم من المخالفة، فيغفر لهم ويعفو عن زلاتهم { إن الله } المصلح الموفق { هو التواب } الرجاع لعباده نحو جنابه حين صدر عنهم المعاصي { الرحيم } [التوبة: 118] لهم يرحمهم، ويقبل توبتهم عند رجوعهم متضرعين مخلصين.
[9.119-121]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم التقوى عن محارم الله { اتقوا الله } عن مخالفة أمره { وكونوا } في السراء والضراء { مع الصادقين } [التوبة: 119] المصدقين لرسوله، المتابعين له في جميع أموره.
واعلموا أنه { ما كان } أي: ما صح وجاز { لأهل المدينة ومن } يسكن { حولهم من الأعراب } المترددين في بواديها { أن يتخلفوا عن رسول الله } حين خرج إلى القتال، واقتحم على الأعداء { ولا } يصح لهم أن { يرغبوا } ويميلوا { بأنفسهم } لحفظها وصيانتها { عن نفسه } بل يجب عليهم أن يفدوا نفوسهم، ويكفلوا في صيانته وحفظه صلى الله عليه وسلم، وحيث اقتحم صلى الله عليه سلم فلهم المبادرة والمسابقة { ذلك } أي: ما وجب عليهم من تحمل المشاق والمتاعب، والإسراع إلى الاقتحام، والإقدام عليها { بأنهم } أي: بسبب أنهم متى خرج صلى الله عليه وسلم { لا يصيبهم ظمأ } أي: عطش { ولا نصب } ألم من أنواع الآلام { ولا مخمصة } أي: مجاعة { في سبيل الله } لإعلاء دينه وكلمة توحيده.
{ و } كذا { لا يطأون موطئا } ولا يدوسون مكانا { يغيظ الكفار } مرورهم عنه { ولا ينالون من عدو نيلا } من القتل والأسر، والغلب والنهب { إلا كتب لهم به } عند الله { عمل صالح } موجب للمثوبة العظمى والدرجة العليا، وبالجملة: { إن الله } المحسن المتفضل لخواص عباده { لا يضيع أجر المحسنين } [التوبة: 120] الذين يحسنون الأدب مع الله، ويعبدونه كأنهم يرونه ومع رسوله، المستخلف منه، النائب عنه.
{ ولا ينفقون } هؤلاء المحسنون { نفقة صغيرة ولا كبيرة } في سبيل الله؛ طلبا لمرضاته { ولا يقطعون واديا } تجاه العدو حين أمرهم الله ورسوله { إلا كتب لهم } في ديوان حسناتهم { ليجزيهم الله } بها جزاء { أحسن ما كانوا يعملون } [التوبة: 121] أي: مثل جزاء أحسن أعمالهم.
[9.122-125]
ثم قال سبحانه: { وما كان المؤمنون } أي: وما استقام لهم وناسب بحالهم { لينفروا } عن أماكنهم وبلادهم { كآفة } بحيث تخلو بلدانهم عن الحفظة والحراس { فلولا } وهلا { نفر من كل فرقة منهم طآئفة } إلى الرسول { ليتفقهوا في الدين } ويتعلموا شعائره وما يتعلق به من الأدب { ولينذروا قومهم } بذلك { إذا رجعوا إليهم } ويقيموا لهم ما يتعلمون من شعائر الإسلام ومناسك الدين القويم { لعلهم يحذرون } [التوبة: 122] عن منهيات الدين، ويتصفون بمأموراته، ويصلحون عقائدهم بها فيؤمنوا ويوقنوا بالله، ويتدينوا بدينه.
ومن معظم شعائر الإسلام: القتال { يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم } ويقرب منكم في حواليكم وحواشيكم { من الكفار } وليضيقوا ويشددوا عليهم { وليجدوا } ويشاهدوا { فيكم غلظة } تشددا وتصبرا على القتال، وجرأة وتهورا عليها فيخافوا منكم، فيتركوا عنادهم، ولا تبالوا بكثرة عددهم وعددهم، واجترئوا عليهم { واعلموا أن الله } القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة { مع المتقين } [التوبة: 123] الذين يحفظون حدود ما أنزل الله عليهم فتوكلوا عليه، وامتثلوا بمأموره إن كنتم موقنين.
{ و } كيف لا تقاتلون ولا تشددون أيها المؤمنون على الغواة المستهزئين الذين { إذا مآ أنزلت سورة } من عندنا مشتملة على تكميل دينكم، وزيادة إيمانكم ويقينكم { فمنهم } أي: من المنافقين { من يقول } لأصحابه ورفقائه له من خبث باطنه وركاكة فطنته؛ استهزاء وسخرية: { أيكم زادته هذه } استحقارا لها { إيمانا فأما الذين آمنوا } بالله وبجميع ما نزل من عنده؛ لإصلاح أحوال عباده { فزادتهم } بعدما تأمنوا فيها، وتدبروا في مرموزاتها { إيمانا } يقينا واطمئنانا { وهم } بعدما أطعلوا على مطالعها { يستبشرون } [التوبة: 124] بنزولها.
{ وأما الذين في قلوبهم مرض } هو التعامي عن آيات الله ومتقضى إشارته، ورموزه { فزادتهم } هذه { رجسا } كفرا وشركا متضمنا { إلى رجسهم } الأصلي وكفرهم الجبلي، وصاروا منعمسين منمكين بالكفر والضلال { وماتوا وهم كافرون } [التوبة: 125] مصرون على كفرهم فلحقوا بشياطينهم الذين مضوا قبلهم، خسر الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين.
[9.126-129]
{ أولا يرون أنهم } من خباثة بواطنهم ورجاسة نفوسهم { يفتنون } يقتلون ويصابون { في كل عام مرة } بلية { أو مرتين } بليتين؛ لتلين قلوبهم بها، ويتنبهوا فيتوبوا { ثم لا يتوبون } إلى الله من كفرهم، ولا يرجعون نحوه بالإيمان؛ ليقبل عنهم { ولا هم يذكرون } [التوبة: 126] بها؛ أي: يتذكرون ويتفطنون بها، بل يصرون ويعاندون.
{ و } من جملة إصرارهم وعنادهم: إنهم { إذا مآ أنزلت سورة } مفضحة لهم، مفصحة بما عليهم من النفاق والشقاق، ونقض العهود والميثاق { نظر بعضهم إلى بعض } يتغامزون بعيونهم، ويقولون استهزاء وتهكما: { هل يراكم من أحد } من هؤلاء المؤمنين { ثم انصرفوا } من عنده مريدين النفاق الشقاق بأضعاف ما كنوا عليه؛ بسبب تفضيحهم بهذه السورة، لذلك { صرف الله } الهادي لعباده { قلوبهم } عن الإيمان وجادة التوحيد { بأنهم } أي: بسبب أنهم { قوم لا يفقهون } [التوبة: 127] أي: لا يفهمون لذة الإيمان، ولا يتخلقون على نشأة التوحيد والعرفان، مثل الموحدين.
لذلك { لقد جآءكم } أيها الأعراب { رسول } بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة، منتشئ { من أنفسكم } وجنسكم، ومن غاية شفقته ومرحمته لكم { عزيز } شاق شديد { عليه } صلى الله عليه وسلم { ما عنتم } أي: عنتكم ولقاءكم المكروه؛ إذ هي من أمارات الكفر والشرك، وعدم الإطاعة والانقياد بأوامر الله ونواهيه، مع أنه { حريص عليكم } أي: على إيمانكم وإسلامكم وإصلاح حالكم؛ إذ هو { بالمؤمنين } الموقنين، الموحدين، المخلصين { رءوف } عطوف، مشفق { رحيم } [التوبة: 128] يرحمهم ويرضى عنهم؛ لخروجهم عن ظلمة الكفر بنور الإيمان.
وكن في نفسك يا أكمل الرسل على الوجه المذكور { فإن تولوا } وأعرضوا، وانصرفوا عنك وعن الإيمان بك وبدينك وكتابك { فقل } في نفسك ملتجئا إلى ربك: { حسبي الله } الرقيب علي، يكفيني مؤنة خصومتهم عني؛ إذ { لا إله } يرجع إليه في الوقائع، ويلجأ نحوه في الخطوب { إلا هو عليه } لا على غيره؛ إذ لا غيره حق في الوجود { توكلت } فلا أرجو ولا أخاف إلا منه { و } كيف لا أتوكل عليه وأرجع إليه؛ إذ { هو } بذاته { رب العرش العظيم } [التوبة: 129] أي: مريبة، والمستوي عليه بالاستقلال والإحاطة، والاستيلاء التام؛ إذ لا شيء في الوجود سواه، وكل شيء هالك إلا وجهه.
خاتمة السورة.
عليك أيها الطالب المشمر لسلوك طريق الفناء، كي تصل إلى فضاء البقاء - شكر الله سعيك وهداك إلى غاية مبتغاك - أن تقتفي في تشمرك هذا أثر من نبهك عليها وهداك إليها، وهو الذي اختاره الله واصطفاه من بين خليقته؛ لتكميل بريته، وأظهره على صورته، وخلقه بجميع أخلاقه، لذلك اتخذه حبيبا وجعله على سائر الأنبياء إماما ونقيبا.
وتشبث بأذيال لطفه فعلا وقولا وشيمة، صارفا عنان عزمك إلى سرائر جميع ما جاء به من عند ربه؛ لإرشاد عباد الله، وما سمح به من تلقاء نفسه - صلوات الله عليه وسلامه - من الرموز والإشارات التي استنبطها من كلامه، وفاضت عليه بوحي الله وإلهامه، لصفاية استعداده الذي صار به مرآة لتجليات الحق وشئونه وتطوراته، وخليفة الله في أرضه وسمائه، وما التقط من كلماته وإشاراته الأولياء الوارثون منه، المقتفون أثره - قدس الله أرواحهم - وما ورد عليهم من تفاوت طبقاتهم في طريق التوحيد من المواجيد والملهمات الغيبية، المنتشئة من النفحات الإلهية والنفسات الرحمانية الناشئة من التجليات الجمالية والجلالية، المتفرعة على الشئون والتطورات الكمالية.
وبالجلمة: لا بدذ لك أن تفرغ هتمك عما سوى الحق مطلقا، ولا يتيسر لك هذا إلا بمتابعة المحققين بمقام الكشف والشهود، الواصلين إلى مقام المراقبة والمشاهدة، والاستفادة منهم ومن ملتقطاتهم ووارداتهم حتى يمكن لك التمكن في مكمن الفناء، والتقرب في مقر البقاء، وحنيذ يصح لك أن تقول بلسان حالك ومقالك: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.
جعلنا الله من عباده المفوضين، المتوكلين الذين يتخذون الله وقاية ووكيلا، ويجدونه وليا وحسيبا.
[10 - سورة يونس]
[10.1-4]
{ الر } أيها الإنسان اللبيب، الرشيد، اللائق للرسالة العامة، والرئاسة الكلية الكاملة الشاملة على كافة البرايا { تلك } الآيات المنزلة في هذه السورة { آيات الكتاب الحكيم } [يونس: 1] أي: بعض آيات الكتاب الإلهي الذي هو حضرة علمه ولوح قضائه، ناطقة بالصدق والصواب على مقتضى الحكمة المتقنة الإلهية، نازلة من عنده، لتصديقك وتأييدك يا أكمل الرسل في تبشيراتك وإنذاراتك، ونبوتك ورسالتك وإرشادك لأهل الغي والضلال.
{ أكان للناس } الناسين بطلان هوياتهم { عجبا أن أوحينآ } ألهمنا من محض فضلنا وجودنا { إلى رجل } ناشئ { منهم } وظهر من جنسهم وبني نوعهم { أن أنذر الناس } المنهمكين في الغي والضلال بمقتضى أهوية هوياتكم الباطلة، وماهياتهم العاطلة، تعجبا ناشئا عن محض الغفلة والنسيان، والإعراض عن الحق، والانحراف عن طريق التوحيد وجادة الإسلام { وبشر } منهم أهل المحبة والولاء؛ يعني: { الذين آمنوا } وأيقنوا برسالتك وإرشادك بوحدة ذات الحق واستقلاله في الوجود، وما يترفع عليه من الأسماء والصفات، والآثار المترتبة عليها، والشئون المتجددة بها { أن لهم } أي: بأن لهم { قدم صدق } أي: إقدام صادق، وقدم راسخ ثابت في جادة التوحيد، وإرادة خالصة.
وصاروا { عند ربهم } من السابقين المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثم لما ظهر أمر الرسالة وعلا قدره، وشاع دينه وكثر أتباعه { قال الكافرون } المصرون على الشرك والفساد من خبث طينتهم، وشدة بغضهم وشكيمتهم بعدما أبصروا منه خوارق عجزوا عنها، سيما القرآن الكامل في الإعجاز البالغ أعلى مراتب البلاغة: { إن هذا } المدعي للنبوة والرسالة { لساحر مبين } [يونس: 2] ظاهر متفرد في فن السحر، وحيد في عصره فيه، ومن قرأ السحر أراد به القرآن المعجز لجمهور البلغاء مع توفر دواعيهم في معارضته، وصاروا من عجزهم بحيث لم يقدروا على إتيان أقصر آية منه.
وكيف يعارضون مع رسوله والكتاب المنزل من عنده سبحانه؟! { إن ربكم } أيها المؤمنون { الله الذي خلق } أي: قدر ببسط عكوس أسمائه، ومد أظلال أوصافه { السماوات } أي: العلويات التي هي الأعيان الثابتات { والأرض } أي: عالم الطبيعة القابلة للانعكاس منها { في ستة أيام } أي: ستة جهات؛ إذ يتوهم الامتداد والأبعاد، والأقطار فيها { ثم استوى } بلا توهم التراخي والزمان والمهلة، على ما يقتضيه لفظه " ثم " ، " بل " بلا أين وكيف وكم؟.
{ على العرش } المعروش المبسوط من انعكاس أسمائه وأوصافه { يدبر الأمر } أي: الحوادث الكائنة بالاستقلال { ما من شفيع } من المظاهر والمصنوعات { إلا من بعد إذنه } وإمضاء مشيئته، وإنفاذ قضائه { ذلكم الله } أي: الموصوف المتفرد، المتوحد في ذاته بالألوهية، المستقل في آثاره وتدبيراته بالربوبية { ربكم } أي: مربيكم وموجودكم { فاعبدوه } حق عبادته حتى تعرفوه حق معرفته { أفلا تذكرون } [يونس: 3] وتتفكرون وحدة ذاته، وعظمة أسمائه وصفاته أيها العقلاء المجبولون على التفكر والتذاكر في آلاء الله ونعمائه؟!.
وكيف لا تتفكرون آلاءه؛ إذ { إليه } لا إلى غيره؛ إذ لا غير معه سبحانه في الوجود { مرجعكم جميعا } كما وعدكم بقوله:
ثم إلينا مرجعكم
[يونس: 23]،
إن إلينآ إيابهم
[الغاشية: 25]،
وإلينا ترجعون
[الأنبياء: 35] إلى غير ذلك من الآيات.
{ وعد الله } الذي لا يخلف ميعاده أصلا { حقا } ثابتا لازما بلا تغيير وتبديل، وكيف لا يكون وعده حقا؛ إذ هو قادر على جميع المقدورات والمرادات، ومن كمال قدرته { إنه يبدؤا الخلق } ويظهره من العدم إظهارا إبداعيا بلا سبق مادة ومدة، ثم يعدمه؛ إظهارا لقدرته أيضا { ثم يعيده } في النشأة الأخرى لإظهار أسرار تكليفاته التي كلف بها عباده في النشأة الأولى { ليجزي الذين آمنوا } بتوحيده، وصدقوا رسله { وعملوا الصالحات } المأمورة من عنده بألسنة كتبه ورسله { بالقسط } والعدل القويم، وتفضل على من تفضل عنايته منه { والذين كفروا } بالله، وأشركوا له شيئا من مظاهر { لهم } في يوم العرض والجزاء، بعدما يحاسبوا { شراب من حميم } بدل ما يتلذذون بالأشربة المحرمة في النشأة الأولى { وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } [يونس: 4] بالله، ويكذبون رسله؛ عنادا وإصرارا، وكيف يكفرون بالله أولئك الحمقى، العمي، الهالكون في تيه الغفلة الضلال، وظلمة الجهل وسوء الفعال؟!.
[10.5-8]
{ هو الذي جعل الشمس ضيآء } ليكون دليلا على كمال ظهوره وإشراقه، وجلائه وانجلائه { والقمر نورا } منيرا في ظلمات الليل؛ ليكون دليلا على إنارته وإضاءته سبحانه في مشكاة التعينات وظلمات الهوايات { وقدره } أي: للقمر { منازل } في السماوات؛ تسهيلا لكم في أموركم { لتعلموا عدد السنين والحساب } التي تحتاجون إليها في معاملاتكم وتجاراتكم وحرثكم، كما قدر منازل نور النبوة والولاية في مشكاة الأنبياء والأولياء الوارثين منهم؛ لتقتبسوا أنوار الإيمان المزيحة لظلم الكفر والعصيان من مصابيح أولئك الأمناء الكرام، وتتوسلوا بهم إلى أن تستضيئوا بضياء الشمس الحقيقي التي لا أقول لها أصلا.
ثم قال سبحانه ترغيبا لعباده، وتنبيها لهم علىأصل فطرتهم: { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } أي: ما أظهر وأوجد سبحانه ما أظهر في عالم الغيب والشهادة؛ حسب أسمائه وأوصافه إلا بالحق الثابت الصريح بلا احتياج إلى الدلائل والشواهد؛ إذ لا شيء أظهر من ذاته سبحانه حتى يجعل دليلا عليه، وإنما { يفصل الآيات } المنبهة عليها { لقوم يعلمون } [يونس: 5] يتحققون بمرتبة اليقين العلمي؛ ليترقوا منها إلى اليقين العيني والحقي، وأما المحجوبون فهم من عداد البهائم والأنعام، لا يرجى منهم الفلاح؛ لخباثة طينتهم ورداءة فطرتهم.
{ إن في اختلاف اليل } وإيلاجه في النهار { والنهار } وإيلاجه في الليل { وما خلق الله في } أوضاع { السموت } من الأمور المقتضية لاختلافهما { والأرض } من المكونات الكائنة فيها على مقتضى تربية العلويات وتدبيراتها { لآيات } دلائل واضحات، وشواه لائحات دالة على قدرة القادر الحكيم المتقن في أمره وفعله { لقوم يتقون } [يونس: 6] عن قهر الله، ويلتجئون إليه سبحانه عن غضبه وسخطه.
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد: { إن الذين لا يرجون لقآءنا } لإنكارهم إعادتنا إياهم في يوم الجزاء؛ لنجزيهم وفق ما عملوا { ورضوا بالحيوة الدنيا } المستعار بلا التفات إلى دار القرار { واطمأنوا بها } أي: أسكنوا ووطنوا نفوسهم بلذاتها وشهواتها { و } بالجملة: { الذين هم } لقساوة قلوبهم وغباوة فطنتهم { عن آياتنا غافلون } [يونس: 7] ذاهلون مع وضوحها وظهورهها.
{ أولئك } البعداء، المعزولون عن مقتضى العقل المستفاد من العقل الكل { مأواهم النار بما كانوا يكسبون } [يونس: 8] من الكفر والعصيان، ومخالفة الفعل المفاوض.
[10.9-12]
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد، وبالعكس: { إن الذين آمنوا } بالله وتوحيده { وعملوا الصالحات } المأمورة من عنده؛ لإصلاح أحوالهم { يهديهم ربهم } إلى فضاء توحيده { بإيمانهم } ويقينهم العلمي { تجري من تحتهم الأنهار } أي: جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر التوحيد، من صبغة باليقين العيني والحقي { في جنات النعيم } [يونس: 9] أي: هم مخلدون في مستلذاتهم الروحانية.
{ دعواهم فيها } ومناجاتهم مع ربهم، بعدما انقطعوا عن السلوك والتكميل: { سبحانك اللهم } أي: اللهم إنا ننزهك تنزيها، ونقدسك تقديسا عن جميع ما يليق بجنات قدسك { وتحيتهم فيها } أي: ترحيب بعض أرباب الدرجات مع بعض على تفاوت مراتبهم { سلام } وتسليم؛ لتحققهم بمقام الرضا ومقعد الصدق { وآخر دعواهم } بعد وصولهم إلى غاية مأمولهم: { أن الحمد } والمنة والثناء { لله } المنعم المفضل { رب العالمين } [يونس: 10] يربيهم بأنواع اللطف والكرام تفضلا منه سبحانه وامتنانا.
ثم قال سبحانه حثا لعباده إلى الرجوع والتوجه نحوه: { ولو يعجل الله } المدبر لأمومر عباده { للناس الشر } حين استعجلوه؛ لغرض من الأغارض { استعجالهم بالخير } أي: كاستعجال الخير لهم حين طلبوا، أو دعوا لأجله { لقضي إليهم أجلهم } يعني: انقرض مدة حياتهم بحلول أجلهم بدعائهم، ولكن أمهلناهم؛ رجاء أن يستغفروا منهم من يستغفر، وبالجملة: { فنذر } وتترك المصرين { الذين لا يرجون لقآءنا } ورضوا بالحياة الدنيا واقتصروا عليها، وأنكروا يوم الجزاء واللقاء { في طغيانهم } المتجاوز عن الحد { يعمهون } [يونس: 11] يترددون؛ إمهالا لهم وتهويلا لعذابهم.
{ و } من شدة عمههم وطغيانهم { إذا مس } وعرض { الإنسان الضر } أي: ما يضره من مرض مؤلم وأمر مفجع مفزع { دعانا } متشكيا إلينا، باثا شكواه عندنا، ملقيا { لجنبه } إن لم يقدر على غيره { أو قاعدا أو قآئما } متضرعا متفجعا مستكشفا { فلما كشفنا عنه ضره } وعجلنا له مراده تجاوز عنا وعن أمرنا، ولم يتلفت إلينا أصلا، وصار من شدة عمهه وغفلته { مر كأن لم يدعنآ إلى } كشف { ضر مسه كذلك } أي: مثل ما سمعت { زين } أي: حبب وحسن { للمسرفين } المنهمكين في الغي والضلال { ما كانوا يعملون } [يونس: 12] من مخالفة أمر الله، ومخاصمة رسوله والمؤمنين المتابعين له، والإصرار على ما هم عليه من العتو والعناد.
[10.13-17]
ثم قال سبحانه مهددا مقسما: { و } الله يا أهل مكة { لقد أهلكنا } بمقتضى قهرنا وجلالنا { القرون } الماضية { من قبلكم لما ظلموا } أي: حين ظلموا مثل ظلمكم، وخرجوا عن إطاعة الله وإقامة حدوده مثل خروجكم { و } هم أيضا أمثالكم، قد { جآءتهم رسلهم بالبينات } بالبراهين القاطعة، والحجج الساطعة الدالة على صدقهم؛ إنما جاءهم ليمتنعوا عما هم عليه من الظلم والفساد { وما كانوا } أي: أولئك الأمم { ليؤمنوا } لهم، ويصدقوهم فيما جاءوا به أمثالكم، بل كذبوهم وأصروا لهم على ما هم عليه، بل زادوا عليها؛ عنادا ومكابرة، فأخذناهم بظلمهم، وأهلكناهم بإصرارهم بعدما نبهنا عليهم فلم ينتبهوا { كذلك نجزي القوم المجرمين } [يونس: 13] المصرين على الجرم مع ورود الزواجر والروادع.
{ ثم } بعد إهلاكهم واستئصالهم { جعلناكم خلائف } أي: استخلفناكم، فهم خلفائه { في الأرض من بعدهم } مختبرين، مبتلين أمثالهم { لننظر كيف تعملون } [يونس: 14] أتعملون الخير فيجازيكم خيرا، أم تعملون الشر فيجازيكم شرا، مثل ما جزيناهم؟.
{ و } هم كانوا من شدة انهماكهم في الغفلة والضلال { إذا تتلى عليهم آياتنا بينات } أي: مع كونها مبينات لأحوال النشأة الأخرى وأهوال عذابها ونكالها { قال } الكافرون: { الذين لا يرجون لقآءنا } بل ينكرون الحشر والنشر، والثواب والعقاب، وجميع ما يترتب على النشأة الأخرى، فكيف لقاءنا فيها { ائت } أيها الداعي من عند ربك { بقرآن غير هذآ } القرآن إن أردت أن نؤمن لك { أو بدله } وغير بعض آياته المشتملة على الإنذارات والتخويفات الشديدة، فإنا لا طاقة لنا بها.
إنما يقصدون بقولهم هذا استهزاء وسخرية برسول الله، واستخفافا بكتاب الله { قل } يا أكمل الرس في جوابهم: { ما يكون } أي: ما يصح ويجوز { لي أن أبدله } وأحرفه { من تلقآء نفسي } على مقتضى أهويتكم الفاسدة { إن أتبع } أي: ما أتبع وانتطر { إلا ما يوحى إلي } وليس في وسعي وطاقتي سوى الاتباع والانتظار، وكيف أتصرف فيه { إني أخاف } بمجرد استماع قولكم هذا العصيان على نفسي، فكيف { إن عصيت } بقصد التبديل والتغير؟ { ربي } استوجبت { عذاب يوم عظيم } [يونس: 15] كما استوجبتم بسوئكم هذا على سبيل الاقتراح والإلحاح.
{ قل } أيضا لهم إلزاما وتبكيتا: { لو شآء الله } أي: لو تعلق مشيئته غير هذا المتلو { ما تلوته } أنا، وما أوحاه علي، وما أجراه على لساني { عليكم ولا أدراكم به } وأعلمكم على لساني، ولكن تعلق بمشيئته بهذا فأوحاه وأجراه { فقد لبثت فيكم عمرا } مدة أربعين سنة { من قبله } أي: قبل وحي القرآن بلا تلاوة وإدراء وإعلام { أفلا تعقلون } [يونس: 16] وتستعملون عقولكم في هذا الأمر، ولا تدبرون وتدربون فيه مع أنكم متدربون بأساليب الكلام، متبالغون فيه أقصى الغاية.
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } ونسب إليه ما لم يصدر عنه؛ افتراء ومراء { أو كذب بآيته } التي صدرت عنه، ونزلت على رسله وأنبيائه؛ لإصلاح أحوال عباده، وإرشادهم مبدأه ومعاده، وبالجملة: { إنه } سبحانه { لا يفلح المجرمون } [يونس: 17] المفترون عليه بالأباطيل الزائفة، المكذبون كلامه المنزل من عنده على رسله.
[10.18-21]
وكيف يفلحون ويفوزون بالفلاح { و } هم من شدة ضلالهم { يعبدون من دون الله } المتوحد بذاته، المستقل بألوهيته { ما لا يضرهم ولا ينفعهم }؟! لأنهم ليسوا من ذوي القدرة والإرادة، بل من جملة الجمادات المعطلة التي لا شعور لها أصلا { ويقولون } من كمال غفلتهم وضلاتهم: { هؤلاء } الأجسام والتماثيل العاطلة { شفعاؤنا عند الله } ينقذوهم من بأس الله وبطشه إن تحقق وقوعه { قل } لهم يا أكمل الرسل تسفيها وتحميقا: { أتنبئون } تخبرون بقولكم هذا { الله } العالم بالسرائر والخفايا { بما لا يعلم } من الأمور الكائنة لا { في السموت ولا في الأرض } من الكوائن فيها، مع أنه سبحانه لا يعزب عن حيطة علمه شيء في الأرض ولا في السماء { سبحانه وتعالى عما يشركون } [يونس: 18] من الأوثان والتماثيل التي لا شعور لها أصلا، مع أنها من أدون المظاهر، وأخس المخلوقات، وبالجملة: ما قدروا الله أولئك الحمقى حق قدره، لذلك نسبوا إليه ما هو منزه عنه، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
{ وما كان الناس } المجبولون على مظهرية الحق، المنعكسون من أظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا { إلا أمة واحدة } ملتجئة إلى الله، مقتبسة من أنوار تجلياته { فاختلفوا } أي: الأظلال الهالكة باختلاف صور الأسماء المتقابلة، والأوصاف المتضادة المتخالفة حسب الشئون والتجليات المتجددة في الكمالات المترتبة عليها { ولولا كلمة سبقت من ربك } يا أكمل الرسل؛ لتسويتهم وتعديلهم في النشاة الأخرى { لقضي بينهم } بالعدالة والقسط { فيما فيه يختلفون } [يونس: 19] في هذه النشأة بلا تأخير إلى أخرى، لكن الحكمة المتقنة الإلهية تقتضي تأخيرها، ولذلك أخرت أمرهم وحسابهم وعذابهم؛ لئلا يبطل سر التكاليف والأوامر والنواهي.
{ ويقولون } بعدما اقترحوا عنه بالآيات ولم تنزل: { لولا } أي: هلا { أنزل عليه آية من ربه } من الآيات المقترحة، مع أنه دعواه أن الله قادر على جميع المقدورات والمرادات، لا يخرج عن حيطة قدرته شيء { فقل } في جوابهمه: بلى، إن الله قادر على جميع المقدورات، ومن جملة مقترحاتكم، إلا أن في عدم إنزالها وإنجائها حكمة غيبية ومصلحة خفية، لا يعلمها إلا هو { إنما الغيب } كله { لله } وفي حيطة حضرة علمه { فانتظروا } بتعليق إرادته بمقترحاتكم { إني معكم } أيضا بلا تفاوت بيني وبينكم في عدم الاطلاع على غيبه { من المنتظرين } [يونس: 20].
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمسرفين: { وإذآ أذقنا الناس رحمة } خلاصا ونجاة { من بعد ضرآء مستهم } واضطرتهم إلى الرجوع والتوجه نحونا { إذا لهم مكر } أي: ما جاءوا بعد نزول الرحمة إلى المكر والخديعة مع نبينا، والطعن { في آياتنا قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { الله } المطلع لضمائركم ومخايلكم { أسرع مكرا } وأشد تدبيرا وانتقاما على مكركم وخداعكم، أعد لكم عذاب مكركم، وأشهد عليكم الملائكة، كما قال: { إن رسلنا } الموكلون عليكم، المراقبون لأحوالكم { يكتبون } في صحائف أعمالكم { ما تمكرون } [يونس: 21] وتحيلون مع الله ورسوله.
[10.22-23]
وكيف لا يراقبكم ويحافظ عليكم { هو الذي يسيركم } أي: يمكنكم على السير والسياحة { في البر والبحر } ليجرب إخلاصكم وتقوالكم، ورسوخكم في الإيمان { حتى إذا كنتم في الفلك } أي: السفن { وجرين } الجواري { بهم } أي: بمن في السفن { بريح طيبة } معتدلة، موافقة لسيرها { وفرحوا بها } ويجريها على مرادهم { جآءتها } بغتة { ريح عاصف } شديدة الهبوب، مزلزلة لها { و } من شدة هبوبها وتحركها البحر { جآءهم الموج } مثل الجبال الرواسي { من كل مكان } أي: جانب وجهة { وظنوا } من غاية ارتفاع الأمواج المتتالية { أنهم أحيط بهم } أسباب الأهلاك لتقع عليهم وتستأصلهم، وحينئذ { دعوا الله } ملتجئين متضرعين { مخلصين له الدين } أي: مقتصرين الإطاعة والانقياد له؛ إذ لا تعارضه حينئذ الأهواء الفاسدة والآراء الباطلة، قائلين: { لئن أنجيتنا } يا ربنا بفضلك وجودك { من هذه } البلية المحيطة بنا { لنكونن من الشاكرين } [يونس: 22] لنعمك المتذكرين دائما لجودك وكرمك.
{ فلمآ أنجاهم } إجابة لدعائهم، وكشفنا لضرهم وبلائهم { إذا هم } يفاجئون إلى الكفران ويسارعون إلى الطغيان، حيث { يبغون } ويطلبون الفساد { في الأرض } المعدة للعبادة والصلاح { بغير الحق } أي: بلا رخصة شرعكية، بل عن بغي وعناد، التفت سبحانه من الخطاب إلى الغيبة؛ تنبيها على بعدهم وطردهم عن ساحة عز الحضور، لذلك أبعدهم بالغيبة بعدما قربهم بالخطاب.
ثم قال سبحانه: { يأيها الناس } الناسين نعمة الإنجاء والخلاص عن ورطة الهلاك { إنما بغيكم } وكفرانكم الذي فاجأتم به، بدل الشكر والإطاعة في النشأة الأولى وبال عائد { على أنفسكم } في النشأة الأخرى؛ إذ { متاع الحياة الدنيا } أي: التمتع بلذاتها وشهواتها، والركون إلى مزخرفاتها قليل حقير ونزر يسير؛ لا ينبغي للعاقل أن يترك الباقي لأجل الفاني، واللذة الروحانية الدائمة المستمرة للذة الجسمانية المتناهية القصيرة { ثم } بعد انقضاء النشأة الأولى { إلينا } لا إلى غيرنا؛ إذ لا غير معنا { مرجعكم } ومصريكم رجوع الأضلال والأضواء والعكوس إلى الشمس { فننبئكم } أي: نخبركم ونعمل بكم { بما كنتم تعملون } [يونس: 23] أي: بمقتضى عملكم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
[10.24-25]
وبالجملة: { إنما مثل الحياة الدنيا } أي: شأنها وحالها العجيبة التي كنتم تعترون بها، وتميلون إليها وتفتخرون بمزخرفاتها ومموهاتها، وأمتعتها وأبنيتها { كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط } واشتبك { به نبات الأرض } أي: ترابها المنبتة للنبات، وحصل من اختلاطها { مما يأكل الناس والأنعام } من أنواع البقول والحشائش { حتى إذآ أخذت الأرض زخرفها } أي: شرعت لتربيتها { وازينت } أي: تزينت بأنوع التزيينات.
{ وظن أهلهآ أنهم قادرون } متمكنون { عليهآ } وعلى جمعها وحصادها، وأخذ غلاتها { أتاهآ } بغتة { أمرنا } بإهلاكها واستئصالها { ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا } قبل صلاحها، بل مقطوعا من أصلها إلى حيث { كأن لم تغن } ولم تنبت فيها منها شيء { بالأمس كذلك نفصل } ونمثل { الآيات لقوم يتفكرون } [يونس: 24] ويستعملون عقولهم بإدراك الممثل والممثل بهن وبعد تعلقهم وتفكرهم يتنبهون أن الدنيا وحياتها ما هي إلا سراب غدار غرار، وبرق بلا قرار، من اغتر بغرورها هلك عطشى الأكباد، ومن استنار بنوهرا ضل عن طريق الرشاد.
{ والله } الهادي لعباده { يدعوا } جميع عباده؛ إذ أصل فطرتهم وجبلتهم على التوحيد ودين الإسلام { إلى دار السلام } أي: مقر التوحيد الذي من تمكن فيه سلم من جميع الآثام، وسلم أمره إلى العليم العلام، القدوس السلام { و } بعد دعوته جميع الأنام { يهدي } ويوفق { من يشآء } من خلص عباده { إلى صراط مستقيم } [يونس: 25] موصل إلى توحيده، وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام تتميما لحكة التكاليف المنزلة من عنده، وتمييزا بين أهل الضلال والهداية من عباده، وأصحاب الجنة والنار بطبقاتهم.
[10.26-30]
لذلك قال سبحانه : { للذين أحسنوا } في هذه النشأة مع الله ورسله، وامتثلوا جميع ما جاء من عنده في كتبه؛ تعبيرا وانقيادا، إيمانا واحتسابا { الحسنى } أي: المثوبة العظمة الدرجة العلا، بدل إحسانهم في الدنيا؛ عدلا من الله { وزيادة } عليها، وهي رضوان الله منهم غاية وتفضلا { و } صاروا من صغاء عقائدهم وإحسانهم مع الله { لا يرهق } ويلحق { وجوههم قتر } غيار الغفلة والندامة { ولا ذلة } صغار وهوان من التواني والتكاسل في احتمال التكاليف الإلهية { أولئك } السعداء، المقبولون عند الله { أصحاب الجنة } المعدة لأرباب الفضل والعنابة { هم فيها خالدون } [يونس: 26] جزاء بما كانوا يعملون من الخيرات والمبرات.
{ والذين كسبوا السيئات } من طغيان نفوسهم، ولم يلتفتوا إلى ما أمرهم الحق، وهداهم إليه رسله، يجيزون على مقتضى ما افترقوا { جزآء سيئة بمثلها } عدلا منه سبحانه { وترهقهم ذلة } أي: تغطاهم غبار المذلة والخذلان، بدل ما اكتسبوا من البغي والعدوان { ما لهم } حينئذ { من الله } أي: من عذابه وعقابه { من عاصم } حافظ يحفظهم، أو شفيع يشفع لهم ويخفف عنهم، بل صاروا من ظلمة كفرهم وفسقهم { كأنما أغشيت } سترت وأحيطت { وجوههم قطعا من الليل مظلما } في غاية الظلمة لعدم استنارتهم بنور الإيمان والعمل الصالح { أولئك } الأشقياء، الهالكون في تيه الغي والضلال { أصحاب النار } المعدة لأهل الغفلة والأهواء { هم فيها خالدون } [يونس: 27] جزاء بما كانوا يكسبون من الكفر والمعاصي.
{ و } اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم نحشرهم } أي: كلا الفريقين { جميعا } في يوم العرض والجزاء { ثم نقول للذين أشركوا } بنا غيرنا من التماثيل والأصنام: الزموا { مكانكم } واستقروا عليها { أنتم وشركآؤكم } حتى تسألوا عما أجرمتم { فزيلنا } فرقنا وفصلنا { بينهم } أي: رفعنا رابطة العابدية والمعبودية التي بها وصلتهم وارتباطهم { وقال شركآؤهم } مخاطبين إياه مشافهة؛ برءة لنفوسهم: { ما كنتم } أيها الضالون، المنهمكون في الغي والضلال { إيانا تعبدون } [يونس: 28] بعلمنا وأمرنا؛ إذ لسنا من ذوي العلم وأولي الأمر، بل تعبدون أنتم أهواءكم وشياطينكم الكامنة في نفوسكم قد افتريتم علينا ونسبتم بنا؛ عنادا ومكابرة.
{ فكفى بالله } اليوم وفيما مضى { شهيدا } على ما جرى { بيننا وبينكم } هو أعلم بعلمه القديم { إن كنا } أي: إنا كنا { عن عبادتكم } أي: توجهكم ورجوعكم إلينا { لغافلين } [يونس: 29] إذ لم نخلق من ذوي الشعور والإدراك في نشأة الاختبار حتى نضلكم ونستعبدكم.
وبالجملة: { هنالك } أي: حين أحضروا للسؤال والجواب، والجزاء والحساب { تبلوا } أي: تختبر وتتفطن { كل نفس } جزاء { مآ أسلفت } وكسبت فيما سبقت { و } بعد تفطنهم وتنبههم { ردوا } جميعا { إلى الله } المتوحد المتفرد للجزاء؛ إذ هو { مولاهم } ومولى أمورهم { الحق } وما سواه من الآلهة الكاذبة الباطلة، ومع بطلانها { وضل عنهم } أي: غاب عنهم وضاع عنهم { ما كانوا يفترون } [يونس: 30] ظلما وزورا، وسموهم آلهة وشفعاء، ولم يبق إلا الله الواحد القهار، ولو كوشفوا بوحدة الحق في جميع الأحيان والأحياز لتحققوا بتوحيده دائما بلا توقف إلى يوم القيامة، إلا أنهم لا نهماكهم في الغفلة والضلال لم ينتبهوا في النشأة الأولى.
[10.31-35]
{ قل } يا أكمل الرسل لمن أنكر توحيد الحق، واستقلاله في الآثار والتدبيرات الواقعة في الأقطار إلزاما لهم وتبكيتا: { من يرزقكم من السمآء } بإمطار الأمطار، وتصعيد البخار { والأرض } بالإنبات والإخراج { أمن يملك } ويستطيع أن يخلق { السمع والأبصار } اللتين هما من أعظم أسباب حفظكم وحضانتكم { ومن يخرج الحي } الحيوان السوي { من الميت } أي: النطفة { ويخرج الميت من الحي } أي: النطفة الجامدة من الحيوان { و } بالجملة: { من يدبر الأمر } في عالم الأسباب والمسببات { فسيقولون } اضطرارا لغاية ظهوره ووضوحه، لا يمكنهم أن يكابروا: { الله } المدبر لجميع الأمور الكائنة في الآفاق والأنفس؛ إذ من غاية ظهوره لا يعاندون، ولا يكابرون { فقل } لهم بعدما اعترفوا بالله المدبر لجميع الكوائن والفواسد؛ توبيخا وتقريعا: { أفلا تتقون } [يونس: 31] وتحذرون من بطشه وانتقامه، تشركون له ما لايسمع ولا يضر، ولا يغني من الحق شيئا.
{ فذلكم } الذي اعترفتم به، هو { الله } المتوحد، المستحق للألوهية والمعبودية؛ إذ هو { ربكم } أي: مربيكم ومدبر أمركم؛ لأنه { الحق } الثابت، الحقيق بالحقية { فماذا بعد } وحدة { الحق } مما اتخذتم آلهة ظلما وزورا { إلا الضلال } الباطل { فأنى تصرفون } [يونس: 32] أي: فكيف تصرفون وترجعون إلى غيره من الأضلال الهالكة، وتنسبونها إلى الألوهية والربوبية.
{ كذلك } أي: كما ثبت الربوبية والألوهية للحق سباحنه { حقت كلمت ربك } أي: ثبتت وتمت صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته { على الذين فسقوا } أي: خرجوا من عبادة الله ظلما وعدوانا { أنهم لا يؤمنون } [يونس: 33] أي: لا يوقنون بالله، ولا يصلون إلى مرتبة التوحيد أصلا، لا علما ولا عينا.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { هل من شركآئكم } أي: في وسعه وقدرتهم { من يبدؤا الخلق } أي: يوجده ثم يعدمه { ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده } كما هو شأن الإله، المنفرد بالألوهية { فأنى تؤفكون } [يونس: 34] أي: كيف تشكون وتصرفون عن جادة التوحيد بالميل إلى هؤلاء التماثيل الزائفة، العاطلة المعطلة.
{ قل } لهم أيضا تبكيتا وإلزاما: { هل من شركآئكم من يهدي إلى } طريق { الحق } وصراط مستقيم، موصل إلى توحيده، فإن بهتوا { قل الله } الهادي لعباده { يهدي للحق } وطريق توحيده من يشاء من عباده، ويوصله إلى مرتبة حق اليقين { أفمن يهدي إلى الحق } أي: اليقين الحقي { أحق } أي: أليق وأحرى { أن يتبع } أي: يطاع ويقاد له { أمن لا يهدي } بنفقسه إلى شيء أصلا { إلا أن يهدى } فاهتدا إن كان من أهل الاستهداء كبعض آلهتكم، مث عزير وعيسى { فما } عرض ولحق { لكم } أيها العقلاء، والمعزولون عن مقتضى العقل { كيف تحكمون } [يونس: 35] بألوهيتهم وشركتهم، مع أن بديهة العقل يأبى عن ذلك.
[10.36-41]
{ و } بالجملة: { ما يتبع أكثرهم } أي: أكثر المشركين في إشراك هؤلاء المنحطين عن درجة الاعتبار مع الله المنزه عن الشريك مطلقا { إلا ظنا } وتخمينا ناشئا من تخيلات فسادة، وتوهمات كاسدة من إنشاء الآثار إلى ظواهر الأسباب، مع الغفلة عن المسبب الموجد لها، و { إن الظن } والتخمين الذي تشبثوا وتمسكوا به { لا يغني } ولا يفيد { من الحق } الصريح الذي هو مناط الإيمان والاعتقاد { شيئا } من الإغناء { إن الله } المطلع لجميع مخايلهم { عليم } خبير بصير { بما يفعلون } [يونس: 36] على مقتضى ظنونهم وخيالاتهم وأوهامهم، فيجازيهم على مقتضى علمه وخبرته.
وبعدما نبه سبحانه على بطلان اعتقاداتهم وظنونهم وجهالاتهم، أراد أن ينبه أن مستند أهل الإيمان الذي هو القرآن الموضح لهم طريق التوحيد والعرفان ليس كذلك، فقال: { وما كان هذا القرآن } المنزل على خير الأنام، المبين لهم قواعد دين الإسلام { أن يفترى } ويخيل أنه صدر { من دون الله } العليم الحكيم، وكيف يصدر هذا من غير الله؛ إذ هو في أعلى مراتب البلاغة، ونهاية درجات الإعجاز؛! لصدوره عن الحكمة المتقنة الإلهية التي كلت الأفهام دونها، وعجزت المدارك والآلات عن دركها، فلا يتوهم صدوره عن غير الله أصلا { ولكن تصديق الذي بين يديه } مطابقا، كما نزل من عنده في الكتب السالفة، بل هو أعلى حكمة، وأتم به فائدة منها { وتفصيل الكتاب } الذي من عمله ولوحه قضائه، وبالجملة: { لا ريب فيه } أنه نازل { من رب العالمين } [يونس: 37] ليس في وسع بشر أن يأتي بمثله.
أيشكون نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم { أم يقولون افتراه } واخترعه من عنده، ونسبه إلى الله ترويجا وتعظيما؟ { قل } لهم يا أكمل الرسل: بعدما شككتم أنه من عند الله، بل جزمتم بأه من عند غيره { فأتوا بسورة } قصيرة { مثله } في الفصاحة ورعاي المقتضيات والحكم والمطابقات، ووجوه الدلالات والتمثيلات، والتشبيهات والمجازات والكنايات { و } إن عجزتم أنتم { ادعوا } واستظهروا { من استطعتم } واستوثقتهم به { من دون الله إن كنتم صادقين } [يونس: 38] في دعواكم أنه من كلام البشر مفترى على الله.
ثم لما أفحموا على الإتيان، وعجزوا عن المعارضة، ومع ذلك لم ينصفوا، أو لم يقروا بأنه معجز ليس من كلام البشر { بل كذبوا } بادروا إلى الرد والتكذيب { بما } أي: بشيء { لم يحيطوا بعلمه } ولم يعلموا ويفهموا ما فيه من قرائحهم { ولما يأتهم تأويله } من معلم وملهم، بل كابروا في تكذيبه بلا سند عقلي ونقلي { كذلك } أي: مثل تكذيبهم هذا { كذب الذين } مضوا { من قبلهم } أنبياءهم وكتبهم التي جاءوا به { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } [يونس: 39] الخارجين عن مقتضى الأوامر، المبادرين إلى تكذيب الله وتكذيب كتبه ورسله، وما جرى عليهم من المصيبات الهائلة، فانتظر يا أكمل الرسل لهؤلاء المكذبين، المكابرين أمثالها.
{ ومنهم } أي: من المكذبين المكابرين { من يؤمن به } أي: بالقرآن، ويصدق بإعجازه في نفسه ويصر على التكذيب؛ عنادا ومكابرة { ومنهم من لا يؤمن به } لغلط غشاوته، وشدة قساوته وشكيمته { و } بالجملة: { ربك } يا أكمل الرسل { أعلم بالمفسدين } [يونس: 40] المكذبين المعاندين الذين يفسدون في الأرض بأنواع الفسادات.
{ وإن كذبوك } وأصروا على تكذيبك، مع وضوح دلائل صدقك { فقل } تبريا وتنزيها: { لي عملي } أنا أجزى بما أعلم { ولكم عملكم } تجزون أنتم أيضا بما تعملون { أنتم بريئون ممآ أعمل } منكرون له { وأنا } أيضا { بريء مما تعملون } [يونس: 41] بأضعاف براءتكم، فانتظروا بجزاء أعمالكم، وأنا أيضا أنتظر بجزاء عملي حتى يأتي وقت الجزاء.
[10.42-46]
{ ومنهم من يستمعون إليك } استهزاء، وأنت تلتفت إلى أسماعهم، وتبالغوا فيه؛ ليتعظوا، وهم لا يسمعون ولا يفقهون؛ لأكنة قلوبهم وصمم أسماعهم { أفأنت تسمع الصم } وتجتهد في إصغائهم وإسماعهم { ولو كانوا لا يعقلون } [يونس: 42] لجهلهم المركوز في جبلتهم { ومنهم من ينظر إليك } ويعاين دلائل نبوتك ويشاهد أماراتها، ومع ذكل ينكر بك وبنبوتك { أفأنت تهدي العمي } وتقدر على أسماعه { ولو كانوا } مجبولين بأنهم { لا يبصرون } [يونس: 43] لتعامي بصائرهم وأبصارهم، وقساوة قلوبهم.
{ إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { لا يظلم الناس } المستوجبين للعذاب والنكال { شيئا } مما لحقهم منه { ولكن الناس } الناسين صرف ما أنعم الله لهم إلى ما خلق لأجله { أنفسهم يظلمون } [يونس: 44] بصرفها إلى خلاف ما حكم الله وأظهره له، لذلك استحقوا المقت والانتقام.
{ و } اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يحشرهم } أي: أهواله المتطاولة وشدائده المترادفة المتتالية إلى حيث يصور عندهم مدة حياتهم في الدنيا { كأن لم يلبثوا } فيها { إلا ساعة من النهار } لطول ذلك اليوم وشدة أهواله { يتعارفون بينهم } أي: وهم يعرف بعضهم بعضا هذا في أول النشر، ثم يشتد عليهم الأمر ويرتفع التعارف والالتفات، ويصير كل منهم رهينة ما كسبت، وبالجملة: { قد خسر } وخاب خيبة عظيمة { الذين كذبوا بلقآء الله } في الآخرة، وأصروا على ما هم عليه من اقتراف المعاصي، ولم يلتفتوا إلى الأنبياء والذي جاءوا به من عند الله؛ لإصلاح أحوالهم في مبدئهم ومعادهم { وما كانوا } أيضا { مهتدين } [يونس: 45] بطريق الصلاح والصواب من تلقاء نفوسهم بلا إرشاد مرشد.
{ و } لقصورهم عن الرشد والهداية بلا مرشد مهدي { إما نرينك } يا أكمل الرسل { بعض الذي نعدهم } بالهداية والإرشاد، والسلوك في سبيل الصواب والسداد { أو نتوفينك } قبل وصولهم إلى فنائك؛ ليسترشدوا منك، ويستهدوا من زلال هدايتك، ويسترشحوا من رشحات فيضك وجودك ليصفوا من كدر هوياتهم ورين أنانياتهم { فإلينا مرجعهم } جميعا، ضالا وهاديا، رجوع الأظلال إلى الشمس { ثم } بعد رجوعهم { الله } المظهر لهم من كتم العدم؛ لحكمية العبودية والعرفان { شهيد } مطلع حاضر بعلمه الحضوري { على ما يفعلون } [يونس: 46] من المعرفة والضلال، والإيمان والطغيان يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته.
[10.47-53]
{ و } اعلموا أن { لكل أمة } أي: فرقة وطائفة { رسول } مرسل من عند الله على مقتضى حكمته وحكمه؛ ليهديهم إلى توحيده { فإذا جآء رسولهم قضي بينهم بالقسط } والعدل الموضوع من عند الله لإصلاح أحوال عباده { وهم لا يظلمون } [يونس: 47] في يوم الجزاء، ولا ينقصون من أجور أعمالهم بل يجازون مقدار ما يقترفون من المعاصي.
{ و } من خبث بواطنهم { يقولون } لك مستنكرا عليك، مستهزئا معك يا أكمل الرسل: { متى هذا الوعد } الذي ادعيت إتيان العذاب فيه عين وقته { إن كنتم } أيها المؤمنون { صادقين } [يونس: 48] ي هذه الدعوة، مصدقين لمن يدعي الصدق فيهز
{ قل } يا أكمل الرسل: { لا أملك لنفسي } ولا أقدر أن أكتسب عليها ولها { ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله } وقدره في سباق قضائه، ومتى لم أقدر على أحوال نفسي، فكيف لي قدرة على استعجال ما في مشيئة الله في غيبه وتعيين وقته؟ مع أنه لم يأذن لي، ولم يوح إلي من عنده سوى أن { لكل أمة } من الأمم سواء كانوا محقين أو مبطلين { أجل } معين، ووقت مقدر، مقرر في علم الله { إذا جآء أجلهم } الذي عينه الحق؛ لإهلاكهم فيه لا يمكن التخلف فيه إذن لا استعجال ولا استئجار { فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [يونس: 49] أي: لا يمكنهم طلب التأخير لمحة وطرفة؛ إذ الساعة مصروفة إلى مطلق الزمان؛ ليدفعوا الضر، ولا يمكنهم أيضا طلب التقديم؛ ليجلبوا النفنع، بل الأمر حتم في وقته، لا يتجاوز عنه أصلا، فانتظروا فسيجيء أجلكم ووقتكم، وينجز وعدكم.
ومتى كان الأجل مبهما، ولم يمكن لأحد أن يعين وقته { قل } لهم توبيخا وتقريعا: { أرأيتم } أي: أخبروني أيها المجرمون المستعجلون للعذاب والنكال { إن أتاكم عذابه بياتا } أي: حال كونكم بائتين في الليل { أو نهارا } حال كونكم مترددين فيها، وعلى أي شأن وكل حال يصعب عليك أمره؛ إذ هو يفزعكم ويفجعكم، وإذ اكان حالكم عند نزوله وحلوله هذا { ماذا يستعجل منه } سبحاه من طوله؛ إذ كله مكروه { المجرمون } [يونس: 50] المستحقون لأنواع العقوبة والعذاب، أتنكرون وتكذبون له وتصرون على ما أنتم عليه من الكفر والشرك إلى وقت حلول العذاب؟!.
{ أثم إذا ما وقع } ونزيل { آمنتم به } ولم ينفعكم الإيمان حينئذ؛ إذ قيل لكم حينئذ من وراء سرادقات العز والجلال: { الآن } أيها الضالون المكذبون آمنتم { و } الحال أنه { قد كنتم } من شدة إنكاركم وإصراركم { به تستعجلون } [يونس: 51] استهزاء وسخرية.
{ ثم قيل للذين ظلموا } بالله بالخروج عن مقتضى أوامره وتكذيب رسله: { ذوقوا } بدل ذوقكم واستلذاذكم بتكذيب الرسل، الاستهزاء بهم { عذاب الخلد } المستمر الدائم الذي لا ينقطع أبد الآباد { هل تجزون } به { إلا بما كنتم تكسبون } [يونس: 52] في النشأة الأولى من الجرائم العظام والمعاصي والآثام.
{ و } بعد تبليغك إليهم مآل أمرهم وعاقبة حالهم، أنهم { يستنبئونك } ويستخبرونك على مقتضى أكنتهم المستكنة في قلوبهم: { أحق هو } أي: ما أخبرت به من الوعيدات الهائلة؛ يعني: أجد هو أم هزل وتخويف؟ { قل } مبالغا في تحقيقه وتقريره: { إي وربي } أقسم بربي { إنه لحق } ثابت محقق عندي بوحي الله والهامه، لا شبهة في وقوعه وثبوته { ومآ أنتم } بأمثال هذه الشبهات الواهية الظنون والجهالات { بمعجزين } [يونس: 53] مسقطين العذاب النازل عليكم.
[10.54-58]
{ و } كيف تسقطون عذاب الله عنكم لو فرض { لو أن لكل نفس ظلمت } وخرجت عن مقتضى أوامر الله ونواهيه { ما في الأرض } أي: خزائن ما فيها جميعا { لافتدت به } بل أضعافه وآلافه لو فرض قبول الفدية منها { و } بعد افتدائهم هذه { أسروا الندامة لما رأوا العذاب } أي: بهتوا حين عاينوا العذاب وأهوالها، وندموا عما افتدوا بمقابلته، وآيسوا عنها مطلقا { و } لم ينفعهم الفدية أصلا بل { قضي بينهم بالقسط } الإلهي ومقتضى حكومته وحكمته { وهم لا يظلمون } [يونس: 54] في جزاء ظلمهم وكفرهم، وكيف يتصور الظلم من الله؛ إذ الكل من أظلال أوصافه وأسمائه.
{ ألا إن لله } وحيطة قدرته وعلمه { ما } ظهر { في السماوات و } ما ظهر في { الأرض } من الكائنات والفسادات يعذب به من يشاء عدلا منه، ويرحم على من يشاء فضلا { ألا إن وعد الله } الذي وعد لعباده من الثواب والعقاب { حق } محقق ثابت لا محالة؛ إذ لا يجري الخلف في وعده أصلا { ولكن أكثرهم } لقصور فهمهم، وقلة تدبرهم في أحكامه المبرمة وحكمته المتقنة { لا يعلمون } [يونس: 55] حقية وعده، ولا يؤمنون بها جهلا وعنادا.
وكيف يشكون ويرددون أولئك المصرون المعاندون في سعة قدرته، وتستبعدون منه إنجاز ما وعده؛ إذ { هو يحيي } أي: يظهر، ويوجد بالتجلي الحبي أولا هياكلهم وأشباحهم مع أنهم لم يكونوا شيئا مذكورا { و } بعد إظهارهم وإحيائهم { يميت } ويعدم بالتجلي القهري على ما هم عليه من العدم { و } كيف لا يقدر على إعادتهم أحياء للجزاء والحساب بعد إماتتهم؛ إذ هم بجميع أمورهم وأحوالهم { إليه } لا إلى غيره؛ إذ لا غير في الوجود سواه { ترجعون } [يونس: 56] رجوع الأضواء والأظلال إلى الشمس.
{ يأيها الناس } الناسين المنشأ الأصلي والوطن الحقيقي { قد جآءتكم } لإيقاظكم وانتباهكم { موعظة } وتذكير { من ربكم وشفآء لما في الصدور } أي: تشفيه لغليلكم وأكنتكم المستكنة في صدوركم { وهدى } هاديا لأرباب الغاية والوصول إلى مقر التوحيد { ورحمة } عامة شاملة { للمؤمنين } [يونس: 57] من أصحاب البر والتقوى فعليكم أن تتعظوا وتتذكروا بأحكامه، وتتأملوا في رموزه وإشاراته، وتدبروا في مفاتحه ومطعاله، حتى تنكشفوا منه بقدر وسعكم وطاقتكم ما تنكشفوا، والله الهادي إلى جنابه من يشاء من عباده وهو العزيز الحكيم.
{ قل } يا أكمل الرسل لمن تبعك إرشادا لهم وتذكيرا: { بفضل الله } وحسن قبوله وشرف عزه وحضوره { وبرحمته } الواسعة المتسعة لجميع مظاهره فليتشرفوا ولينكشفوا { فبذلك } التلذذ والحضور الحقيقي { فليفرحوا } بدل ما لم يتلذذوا ولم يفرحوا بالمستلذات الجسمانية الفانية المتناهية { هو } أي: فرحكم وسروركم الروحاني { خير مما يجمعون } [يونس: 58] من أهوية نفوسكم ومقتضيات هوياتكم إن كنتم موقنني مخلصين.
[10.59-61]
{ قل أرأيتم } أي: أخبروني كيف كفرتم في { مآ أنزل الله لكم } لمعاشكم وتقوية مزاجكم { من رزق } مسوق إليكم محصل بأسباب سماوي مباح لكم { فجعلتم } من تلقاء أنفسكم { منه حراما وحلالا } أي: حرمتم بعضه وحللتم بعضا آخر بلا ورود شرع { قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتقريعا: { ءآلله أذن لكم } بهذه التفرقة والقسمة { أم على الله تفترون } [يونس: 59] بنسبتها إليه.
{ وما ظن } أي: أي شيء ظن أولئك المفترون { الذين يفترون على الله الكذب } بأنهم لم يجاوزوا ولم يؤاخذوا { يوم القيامة } على افترائهم على الله ما لم يصدر عنه، بل إنهم مؤاخذون على جرأتهم على الله وافترائهم به، سيما بعد ورود الزواجر والروادع من الآيات الدالة على امتناعهم عنها فلم يمتنعوا { إن الله } المصلح لأحوال عباده { لذو فضل } عظيم { على الناس } بإنزال الكتب وإرسال الرسل المنبهين على ما هو الأصلح لهم وأليق بحالهم { ولكن أكثرهم } بجهلهم وخبث باطنهم { لا يشكرون } [يونس: 60] نعمه بل ينكرون ويكفرون بها عنادا ومكابرة.
{ و } كيف ينكرون رسالتك ووحيك من الله وتأييدك من عنده سبحانه؛ إذ { ما تكون في شأن } وأمر من ادعاء الرسالة من الله والتشريع من جانبه بلا إذن منه { وما تتلوا منه من قرآن } مدعيا نزوله من عنده بلا وحيه وإنزاله { ولا تعملون } أنتم أضا { من عمل } صالح أو طالح، خير أو شر { إلا كنا } بذاتنا وأوصافنا وأسمائنا { عليكم شهودا } حضراء رقباء، مطلعين على جميع ما جئتم به وقت { إذ تفيضون } أي: تخوضون وتقصدون الشروع { فيه } أول الذب عنه { و } كيف لا نطلع عليها ولا يحيط علمنا بها وشهودنا إياها؛ إذ { ما يعزب } أي: لا يغيب ويبعد { عن ربك } ومربيكم أيها المظهر الجامع لجميع المراتب الكونية والكيانية والمتخلق بجميع الأخلاق الإلهية { من مثقال ذرة } كائنة { في } أقطار { الأرض ولا } كائنة { في السمآء } وفضائها { و } كيف يعزب ويغيب عن حيطة علمه شيء؛ إذ { لا أصغر من ذلك } المقدار { ولا أكبر إلا في كتاب مبين } [يونس: 61] ظاهر الإبانة والظهور بالنسبة إلى أرباب الولاء، الباذلين أرواحهم في طريق الفناء، المستغرقين في بحر الوحدة، الفانين عن هوياتهم بالمرة.
[10.62-66]
{ ألا إن أوليآء الله } المنخلعين عن لوازم البشرية بالكلية المنسلخين عن مقتضيات أهوية نفوسهم رأسا { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [يونس: 62] إذ الخوف والحزن إنما هي من لوازم الطبيعة ومن ارتكاب مقتضياتها.
وبعدما انسلخوا عنها وتجردوا عن لوازمها وفانوا في هوية الحق وصاروا ما صاروا، لم يبق فيهم مبدأ الخوف والحزن والأمن والسرور؛ إلا لا يتصف الفاني بأمثال هذه الأضداد، وهم { الذين آمنوا } بالله في بداية سلوكهم؛ أي: تحققوا بمقام اليقين العلمي { و } بعد تمكنهم وتقررهم فيه { كانوا يتقون } [يونس: 63] ويحذرون من سطوة سلطنة صفاته الجلالية لانغماسهم بشواغل أهوية الهويات وانهماكهم بعلائق التعينات.
ثم لما استخلصوا منها بالإخلاص والإخبات الصاق { لهم البشرى } عند الله بالفوز العظيم { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } إذ هم تحققوا بمقام العبودية وتقرروا في مقر التوحيد، ووصلوا إلى ما أظهر الحق لأجله وهو المعرفة والشهود { لا تبديل لكلمات الله } التامات الناطقة بالكرامة والبشرى { ذلك } التبشير الشامل للنشائين { هو الفوز العظيم } [يونس: 64] واللطف الجسيم لأهل العناية من أرباب القبول.
{ و } بعدما تحققت يا أكمل الرسل بولاية الله واتصفت بولائه وفزت بما فزت { لا يحزنك قولهم } الباطل بالكفر والإشراك بالله وتكذيب كتابه، ومنه أنزل إليه، ولا تغتم بتهديدهم إياك ولا تبال مفاخرتهم وخيلاءهم بالمال والجاه عليك { إن العزة } المعتبرة العظيمة { لله } المتعزز برداء العظمة والجلال، المتوحد بنعوت الكمال والجمال { جميعا } لا يعتد بعزة هؤلاء الغواة والعصاة، وسيخذلهم الله عن قريب بالقهر والانتقام، وبنصرك عليهم بالغلبة والاستيلاء؛ إذ { هو السميع } لأقوالهم الكاذبة الباطلة { العليم } [يونس: 65] بنياتهم الفاسدة يجازيهم على مقتضى علمه، وينتقم عنهم وفق خبرته.
قل يا أيها النبي الهادي لمن يدعي ربوبية الأظلال الهالكة وألوهية التماثيل الباطلة تنبيها لهم وإيقاضا عن غفلتهم: كيف تدعون أيها الحمقى شركة المصنوع المفضول مع الصانع القديم الحكيم؟! { ألا إن لله } أي: تنبهوا أيها المسرفون الجاهلون بقدر الله المتوحد المتفرد بذاته، المتجلي في الآفاق بأسمائه وصفاته، مظاهر { من في السموت } من الملائكة { ومن في الأرض } من الثقلين، وهم من فضلهم وشرفهم وعلو شأنهم لا يستحقون الألوهية والربوبية { و } كيف يستحق أولئك الجمادات الساقطة عن درجة الاعتبار لذلك { ما يتبع } المشركون { الذين يدعون من دون الله شركآء } في ألوهيته مستحقين للعبادة كعبادته إلا الزور الباطل والزائع الزائل بل { إن يتبعون } أي: ما يتعبون هؤلاء الضالون المشركون { إلا الظن } والتخمين الناشئ من جهلهم وغفلتهم عن سر هوية الحق في المظاهر كلها؛ لذلك حقروها في مظهر دون مظهر { وإن هم إلا يخرصون } [يونس: 66] أي: ما هم في ادعائهم وحصرهم هذا إلا كاذبون آفكون إفكا عظيما، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[10.67-70]
كيف تغفلون عن الله أيها الجاهلون، وكيف تشركون معه غيره أيها المحجوبون { هو الذي جعل لكم اليل } بكمال قدرته وحكمته لباسا { لتسكنوا فيه } وتستريحوا من المتاعب { و } جعل لكم { النهار مبصرا } لتهتدوا إلى مطالبكم في أمور معاشكم { إن في ذلك } الجعل والتقدير { لآيات } عظام ودلائل جسام على كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته وتوحده في ألوهيته، وتفرده في ربوبيته واستقلاله في التصرف بلا مظاهرة أحد ومشاركة ضد وند { لقوم يسمعون } [يونس: 67] سمع تدبر وتدرب واستكشاف تام بعزيمة صادقة صافية عن شوب الغفلة والذهول.
ومن كثافة حجبهم وغشاوة قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ما قدروا الله حق قدره؛ لذلك نسبوا إليه ما هو منزه عنه سبحانه؛ حيث { قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه } وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، كيف يكون له ولد { هو الغني } بذاته عن التعدد مطلقا، ليس لغيره وجود أصلا، بل { له } مظاهر { ما في السموت وما في الأرض } ظهر عليها سبحانه حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا على مقتضى التجلي الحبي اللطفي بلا انصباغ لها بالكون والتحقق بالانعكاس؟ { إن عندكم } أي: ما عندكم أيها المجاهلون بمعرفة الله وحق قدره { من سلطان } حجة وبرهان { بهذآ } الادعاء الكاذب والقول الباطل، بل تتكلمون به افتراء ومراء { أتقولون } وتفترون أيها المفترون { على الله ما لا تعلمون } [يونس: 68] ولا تدركون لياقته لجنابه.
{ قل } يا أكمل الرسل نيابة عنا للمكذبين المفترين كلاما ناشئا عن محض الحكمة: { إن الذين يفترون } وينسبون { على الله الكذب لا يفلحون } [يونس: 69] ولا يفوزون في النشأة الأخرى بمرتبة التوحيد التي هي معراج أهل الكمال، بل يحصل لهم بافترائهم هذا { متاع } أي: تمتع قليل { في الدنيا } من الرئاسة والجاه { ثم } بعد انقضاء النشأة الأولى { إلينا مرجعهم } في النشأة الأخرى { ثم } بعد تيقنهم وكشفهم فيها { نذيقهم العذاب الشديد } بدل ما يتلذذون في النشأة الأولى { بما كانوا يكفرون } [يونس: 70] أي: بسبب كفرهم وشركهم.
[10.71-73]
{ واتل } يا أكمل الرسل { عليهم } تذكيرا وتعريضا { نبأ نوح } أي: قصته مع قومه وقت { إذ قال لقومه } حين استعظموا أمره وقصدوا إهلاكه عنادا ومكابرة: { يقوم } أضافهم إلى نفسه على مقتضى شفقة النبوة { إن كان كبر } أي: شق وعظم { عليكم مقامي } فيكم، وحياتي بينكم { وتذكيري } إياكم { بآيات الله } الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته { فعلى الله } لا على غيره؛ إذ لا غير معه لا شيء سواه { توكلت } أي: وثقت به وفوضت أمري إليه { فأجمعوا } أي: فعليكم أن تجمعوا { أمركم } وتدابيركم في قتلي وإهلاكي { و } مع ذلك اجعوا { شركآءكم } مستظهرين لهم في دفعي { ثم } بعد تدبيركم واستظهاركم بهم أظهورا علي بحيث { لا يكن أمركم } أي: لم يبق فيه { عليكم غمة } سترة تغتمو بها وتحزنون بسببها، بل رتبوا أمركم على ما تقتضيه نفوسكم وترتضيه عقولكم { ثم اقضوا إلي } واصرفوا نحوي ما هيأتم ودبرتم من الأسباب الموجبة لإهلاكي { ولا تنظرون } [يونس: 71] أي: لا تمهلوني طرفة بل امضوا على ما أنتم عليه من قتلي وإهلاكي، فإني لا أبالي بكم وبتدابيركم وظهرائكم؛ إذ الله حسبي وعليه توكلي وبه اعتمادي واعتصامي، أذكر لكم بإذنه وأعظكم بوحيه.
{ فإن توليتم } وانصرفتم عن تذكيري { فما سألتكم من أجر } أي: ليس بسبب توليكم وإعراضكم سؤالي منكم الجعل حتى يشق عليك إعطاؤه فانصرفتم وأعرضتم، بل { إن أجري } أي: ما أجري وجعلي { إلا على الله } الذي أمرني به { وأمرت } من عنده { أن أكون من المسلمين } [يونس: 72] المسلمين الأمور كلها إليه، المنقادين لحكمه وقضائه؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود.
ومع ذلك النصح والشفقة والتليين التام المنبعث عن محض الحكمة، والحجج والبراهين الدالة على صدقه في دعواه { فكذبوه } عنادا ومكابرة، وأصروا على تكذيبه عتوا واستكباراص، فأخناهم بالطوفان؛ لانهماكهم في الغي والطغيان { فنجيناه ومن } آمن { معه } من الغرق محفوظين { في الفلك } التي نحتها بيده بوحي الله إياه وتعليمه، وهم قد استهزؤوا معه حين اشتغل بتربيتها { وجعلناهم } أي: أصحاب الفلك { خلائف } من الهالكين، وهم ثمانون مؤمنون بالله مصدقون لرسوله { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر } أيها المعتبر الرائي { كيف كان عاقبة المنذرين } [يونس: 73] المكذبين لنذيرهم؟ وإلى أين أدى إنكارهم واستكبارهم؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار.
[10.74-78]
{ ثم } لما ازداد الخلفاء الناجون، وتشعبوا أمما وأحزابا ودار عليم الأدوار فصاروا منصرفين عن طريق الحق، مائلين عن سبيل الرشاد { بعثنا } لإصلاح أحوالهم { من بعده } أي: بعد نوح { رسلا } منهم كل واحد من الرسل { إلى قومهم فجآءوهم بالبينت } الواضحة والمعجزات الساطعة القاطعة المثبتة لدعواهم { فما كانوا ليؤمنوا } أي: فما تيسر لهم وضح عندهم وثبت لديهم أن يؤمنوا ويصدقوا { بما كذبوا به من قبل } أي: قبل بعثة الرسل، بل أصروا على ما هوم عليه، واعتادوا له بلا تغيير وتبديل لتركيب جهلهم المركوز في جبلتهم وخباثة طينتهم { كذلك نطبع } ونخختم بختام الغفلة والنسيان { على قلوب المعتدين } [يونس: 74] المجاوزين عن حدود الله، الراسخين على التجاوز والعدوان.
{ ثم } لما عتوا منهم من عتوا وأخذنا منهم من أخذنا { بعثنا من بعدهم } أي: بعد أولئك الرسل الماضين { موسى وهرون } الذي هو أخوه وظهيره { إلى فرعون } المبالغ في العتو والعناد إلى حيث ادعى الربوبية لنفسه بقوله: أنا ربكم الأعلى { وملإيه } المؤمنين له المعاونين لشأنه { بآيتنا } الدالة على استقلالنا في الآثار وتفردنا في الألوهية والربوبية وعلى صدق رسولنا في جميع ما جاء به من عندنا { فاستكبروا } عن الانقياد، واستقبلوا بالتكذيب والعناد { و } هم في سابق علمنا: { كانوا قوما مجرمين } [يونس: 75] بأعظم الجرائم مستحقين بأشد العذاب ؛ لذلك أظهروا ما في استعداداهم وقابليتهم.
{ فلما جآءهم الحق } الحقيق بالاتباع والانقياد { من عندنا } بعدما عارضوا معه وقابلوا بمعجزاته ما قابلوا { قالوا } من فرط عتوهم وعنادهم بدل ما صدقوه وآمنوا به بعد ظهور أمره وشأنه: { إن هذا } الذي جاء به هذا الساحر الكذاب { لسحر مبين } [يونس: 76] عظيم ظاهر فائق على سحر جميع السحرة.
{ قال موسى } بعدما سمع قولهم هذا يسأل عن إيمانهم، متحسرا متحزنا على متقضى شفقهة النبوة، موبخا لهم على وجه الفطنة والتذكير: { أتقولون } أيها الحمقى { للحق } الصريح الثابت الصحيح { لما جآءكم } لإصلاح حالكم ليورث في قلوبكم تصديقا لوحدانية ربكم: إنه سحر باطل { أ } ما تستحيون من الله ولا تنصفون وتقولون: { سحر هذا و } الحال أنه { لا يفلح } ولا يفوز بالخير { الساحرون } [يونس: 77] وهذا خير كله عاجلا وآجلا، وفرز بالفلاح والنجاح.
{ قالوا } على سبيل المكابرة بعدما سمعوا من موسى قوله ونصحه: { أجئتنا } أيها الساحر الكذاب { لتلفتنا } وتصرفنا { عما وجدنا عليه آباءنا } وأسلافنا { و } اشتهيت أن { تكون لكما الكبريآء } والعظمة { في الأرض } التي كنا عليها مستقرين { و } اذهبا إلى حيث شئتما { ما نحن لكما بمؤمنين } [يونس: 78] مصدقين منقادين.
[10.79-86]
{ و } بعدما أفحموا عنه براهينهما وحججهما، وعجزوا عن معجزاتهما صمموا العزم لمعارضتهما؛ حيث { قال فرعون } آمرا لأعوانه وأنصاره: { ائتوني بكل ساحر عليم } [يونس: 79] ما هر كامل فيه، فأرسلوا شرطا لجميع أهل السحر، فأجمعوا واجتمعوا وجاءوا على فناء فرعون مجتمعين، ثم عينوا الوقت والموعد، فخرجوا إلأيه ليعارضوا معهما.
{ فلما جآء السحرة } الميقات والموعد، قالوا لموسى تحقيرا له وتهوينا لأمره: ألق ما جئت به من السحر { قال لهم موسى } مستعينا بالله من عنده متوكلا عليه: { ألقوا } أيها المغترون المكذبون { مآ أنتم ملقون } [يونس: 80].
{ فلمآ ألقوا } ما جاءوا به من السحر واستحسنوا من فرعون واستأملوا منه الجعل الكثير وجزموا الغلبة { قال موسى } بعدما رأى ما ألقوا: { ما جئتم به } أيها المفسدون المعاندون { السحر إن الله } المطلع لجميع مخايلكم { سيبطله } عن قريب، ثم ألقى موسى عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فانقلبوا هنالك صاغرين { إن الله } المصلح لأحوال عباده { لا يصلح عمل المفسدين } [يونس: 81] منهم؛ لانهماكهم في الإفساد والإسراف، المصرين على العتو والعناد.
{ و } بالجملة: { يحق الله الحق } الثابت من عنده ويقرره في مكانه { بكلماته } أي: بأوامره ونواهيه وآياته ومعجزاته { ولو كره المجرمون } [يونس: 82] المحرمون عننور الإيمان والتوحيد ذلك التثبيت والتقرير.
ثم لما ظهر أمر موسى وشاع غلبته وفاق معجزاته على ما جاءوا به من السحر والشعبذة { فمآ آمن لموسى } منهم بعد ظهور صدقه بين أظهرهم { إلا ذرية من } شبان { قومه } أي: بني إسرائيل، وسبب توقفهم بعد الدعوة أنهم { على خوف } وخطر عظيم { من فرعون وملئهم } الذين يجتمعون حولهم من القبط { أن يفتنهم } ويصول عليهم ليقتلهم { و } وكيف لا يخافون أولئك المظلومون؟! { إن فرعون } المتناهي في العتو والاستكبار { لعال في الأرض } غالب قاهر على جميع من فيها { وإنه لمن المسرفين } [يونس: 83] بالاستيلاء والبسطة والكبرياء إلى حيث تفوه من غاية كبره ب: أنا ربكم الأعلى.
{ و } بعدما رأى موسى توقف قومه في أمر الإيمان بعد وضوح البرهان { قال موسى } على وجه العظة والتذكر، وتعليم التوكل والتفويض الذي هو أقوى شعائر الإيمان، مناديا لهم ليقبلوه عن ظهر القلب: { يقوم } أراد به بني إسرائيل { إن كنتم آمنتم بالله } الرقيب الحسيب لعباده { فعليه توكلوا } في جميع أموركم وحالاتكم { إن كنتم مسلمين } [يونس: 84] مسلمين أموركم إليه، منقادين لحكمه، وما جرى عليكم من قضائه.
ثم لما سمعوا مقالة موسى تأثروا منها وتذكروا { فقالوا على الله } المتولي لأمورنا { توكلنا ربنا } يا من ربانا بلطفك وهدانا إلى توحيده { لا تجعلنا } بحولك وقوتك { فتنة } أي: محل فتنة ومصيبة { للقوم الظالمين } [يونس: 85] الذي قصدوا أن يتسلطوا علينا ويفتنوا بنا.
{ ونجنا برحمتك } التي وسعت كل شيء { من القوم الكافرين } [يونس: 86] القاصدين ستر الحق بأباطيلهم الزائغة، الكائدين المكارين مع من توجه نحوك ورجع إليك.
[10.87-89]
{ و } بعدما أخلصوا في تضرعهم وتوجههم إلينا { أوحينآ إلى موسى } أصالة { وأخيه } تبعا { أن تبوءا } أي: خذا مباءة؛ أي: مسكنا ومبيتا { لقومكما بمصر } وأمر لهم أن يبنوا { بيوتا } فيها { و } بعدما بنيتم بيوتا { اجعلوا } أي: كل واحد منكما ومنهم { بيوتكم قبلة } ومسجدا توجهون فيها إلى الله وتتقربون نحوه { وأقيموا الصلاة } فيها أي: أديموا الميل والتوجه نحو الحق مخبتين خاشعين مخلصين { و } بعدما واضبوا على ما أمروا واستقاموا عليه مخلصين { بشر } يا موسى الداعي لهم إلى الحق { المؤمنين } [يونس: 87] المتوجهين نحوه بالنصرة على الأعداء في الدنيا، والكرامة العظيمةم في النشاة الأخرى، والفوز بالوصول إلى فناء المولى.
{ وقال موسى } بعدما تفرس القبول والإجابة للدعاء، داعيا على الأعداء { ربنآ إنك } بفضلك وجودك { آتيت فرعون وملأه زينة } يتزينون { وأموالا } يميلون إليها ويفتخرون بها { في الحياة الدنيا } ولم يشكروا لنعمك بكل يكفروا بها يا { ربنا } وإنما افتخروا وباهوا بحطامهم { ليضلوا عن سبيلك } ضعفاء المؤمنين المتلونين الذين لم يتمكنوا في مقر اليقين ولم يتوطنو في موطن التمكين { ربنا اطمس على أموالهم } أي: امحها واتلفها؛ لئلا يتمكنوا على تضليل عبادك بها { واشدد } ختمك وطبعك { على قلوبهم فلا يؤمنوا } لا ينكشفوا بالإذعان والقبول { حتى يروا العذاب } المعد لهم لكفرهم وإصرارهم { الأليم } [يونس: 88] المؤلم في غاية الإيلام حين رأوا المؤمنين في سرور دائم ولذة مستمرة وجنة نعيم.
{ قال } سبحانه مبشرا لموسى: { قد أجيبت دعوتكما } ووقع مناجاتكما في محل القبول، ثنى الضمير؛ لأن هارون يؤمن حين دعا { فاستقيما } على ما أتنما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تفتروا في أمركما هذا، والزما الصبر؛ إذ الأمور مرهونة بأوقاتها { ولا تتبعآن } في الاستعجال والاستسراع { سبيل الذين لا يعلمون } [يونس: 89] الأدب مع الله في إلحاحهم واقترحاتهم في طلبه الحاجات.
[10.90-95]
{ و } بعدما تمرنوا بالصبر واستقاموا على ما أمروا مختبئين، فازوا بما ناجوا وطلبوا مؤملين حين { جاوزنا ببني إسرائيل البحر } أي: عبرناهم من البحر سالمين، وذلك حين هم فرعون وملأه أن يكبوا على بني إسرائيل ويستأصلوهم بالمرة، فأوحينا إلى مومسى أن أسر بعبادي ليلا فأسرى بهم، فأخبروا فخرجوا على الفور، فأدركوهم على شاطئ البحر فأوحينا إلى موسى بضرب العصا فضرب، فانفلق وافترق فرقا، فعيروا سالمين، فلما أبصروا انفلاق البحر وعبورهم سالمين { فأتبعهم فرعون وجنوده } فاقتحموا في البحر بلا مبالاة وتأمل { بغيا وعدوا } ظلما وزورا، علوا واستكبارا، فاجتمع البحر وعاد على ما كان فغرقوا { حتى إذآ أدركه } أي: فرعون { الغرق } وآيس من حياته وجزم ألان نجاة له أصلا { قال } في حالة الاضطرار، مصرخا صائحا باكيا، راجيا الخلاص بمجرد الإقرار: { آمنت } واعترفت { أنه } أي: بأنه { لا إله } يعبد بالحق { إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين } [يونس: 90] المنقادين لما جاء به رسوله.
وحين تفوه بها، هتف هاتف من وراء سرادقات العز والجلال قائلا: { آلآن } أيها الطاغي الغاوي الباغي آمنت حين انقرض وقت الإيمان وانقضى زمانه { وقد } أخذت على ما { عصيت قبل } في مدة حياتك { وكنت } في زمان طغيانك وعصيانك الذي هو زمان الإيمان والعرفان { من المفسدين } [يونس: 91] بأنواع الفسادات لا من المؤمنين؟!.
{ فاليوم } لا ينفعك إيمانك { ننجيك } نخرجك من البحر { ببدنك } بلا روح ونسقطك على الساحل عريانا { لتكون لمن خلفك } من المتجبرين المتكبرين { آية } زاجرة وعبرة رادعة عن العتو والعناد، صارفة عن الجور والفساد { وإن كثيرا من الناس } الناسين عهودنا وميثاقنا الذي عهدنا معهم في لوح قضائنا { عن آياتنا } الدالة على أخذنا وانتقامنا { لغافلون } [يونس: 92] مثلك أيها الطاغي.
{ و } بعددما أهلكنا فرعون وملأه { لقد بوأنا } أي: مكنا وأسكنا { بني إسرائيل مبوأ صدق } أي: مقعد صدق وموضع ثبوت واستقرار وتمكين على ما تقتضيه نفوسهم وترتضيه عقولهم { و } بعد تمكينهم وتوطينهم { رزقناهم من الطيبات } أي: أطياب الأغذية والفواكه ولذائذها { فما اختلفوا } في أمر دينهم قبل نزول الكتاب، بل هم متفقون مجتمعون على ما بلغهم رسولهم وهداهم إليه { حتى جآءهم العلم } وأنزل عليهم الكتاب، فاختلفوا فيه وتفرقوا فرقا تحزبوا أحزابا، وانحرفوا عن طريق الحق وحرفوا الكتاب، سيما نعتك وحليتك وأوصافك يا أكمل الرسل { إن ربك يقضي بينهم } ويحكم عليهم { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [يونس: 93] أي: يفصل بينهم، ويميز محقهم من مبطلهم بالإثابة والعقاب.
{ فإن كنت } يا أكمل الرسل { في شك } وريب { ممآ أنزلنآ إليك } في كتابك من قصصهم وأخبارهم { فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } وارجع إليهم لإزالة شكك وحل شبتهك، وتفحص عنهم حتى تنكشف لك ويتحقق عندك { لقد جآءك الحق من } عند { ربك } الصريح المطابق للواقع { فلا تكونن } فيه { من الممترين } [يونس: 94] إذ ليس هذا محلا للشك والارتياب؛ إذ
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
[فصلت: 42] لأنه تنزيل من حكيم عليم.
وبعدما سمعت ما سمعت { ولا تكونن } ألبتة { من } المسرفين { الذين كذبوا بآيات الله } الدالة على كمال قدرته ومتانة علمه وحكمته { فتكون من الخاسرين } [يونس: 95] الساقطين عن مرتبة الخلافة، النازلين عن درجة أهل المعرفة والتوحيد.
وأمثال هذه الخطابات والعتابات من الله العليم الحيكم لحبيبه الذي ظهر على الخلق العظيم، وتمكن على الصراط المستقيم، إنما هو حث وترغيب للمؤمنين على ملازمة كتاب الله ومحافظة أوامره ونواهيه، وتثبيت لهم في إيماهم وتصديقهم.
[10.96-100]
{ إن الذين حقت } أي: ثبتت وجرت { عليهم كلمت ربك } يا أكمل الرسل في سابق علمه ولوح قضائه في كفرهم وشركهم { لا يؤمنون } [يونس: 96] بدعوتك وتبليغك إليهم الآيات الرادعة الزاجرة والبراهين الساطعة القاطعة.
بل { ولو جآءتهم كل آية } اقترحوها لم يؤمنوا؛ لشدة شكيمتهم وكثافة غشاوتهم { حتى يروا العذاب الأليم } [يونس: 97] المعد لهم من عند العزيز العليم، فاعرض عنهم يا أكمل الرسل ودعهم وأمرهم، فإنا ننتقم منهم.
{ فلولا } أي: فهلا { كانت قرية } من القرى التي أهلكوا بظلمهم { آمنت } حين حلول العذاب عليهم، وظهر أماراته كما آمن فرعون حين غشية اليم { فنفعهآ } في تلك الحالة { إيمانها } ونحي به عن العذاب { إلا قوم يونس لمآ آمنوا } حين ظهر عليهم أمارات العذاب ولاح علامات الغضب الإلهي، وأخلصوا لله مخبتين خاضعين { كشفنا عنهم عذاب الخزي } الذي يفتضحون به { في الحياة الدنيا } لو لم نكشف { و } بعدما كشفنا العذاب عنهم { متعناهم } بأنواع التمتع مترفهين { إلى حين } [يونس: 98] أي: حين حلول الأجل.
وذلك أنه لما بعث يونس إلى " نينوى " قرية من قرى الموصل، كذبوه واستهزءوا به فوعدهم العذاب بعد ثلاث أو أربعين، فلما قرب الموعد خرج من الأفق سحاب غليظ وغيم أسود ودخان شديد، فغشي قريتهم، فهابوا هيبة عظيمة، فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه وهموا إلى الإنابة والتضرع، فلبسوا المسوح وخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها، وحن بعضها إلى بعض فصرخوا، وتضرعوا إلى حيث علت الأصوات والضجيج، وأظهروا الندامة وأخلصوا التوبة، فرحمهم الله وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء، يوم الجمعة.
{ و } لا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذه الألطاف من الله الغفور الرحيم { لو شآء ربك } وتعلق إرادته بالإيمان من على الأرض { لآمن من في الأرض كلهم } بحيث لم يبق على وجه الأرض كافر أصلا بل يؤمنهم { جميعا } مجتمعين بلا اختلاف وتفرقة، لكن قضية الحكمة تقتضي الاختلاف والافتراق، والكفر والإيمان، والحق والباطل، والهداية والضلال؛ ليظهر سر التكليفات والتحميلات الواردة من الله على ألسنة رسله وسر المجازاة في النشأةالأخرى، وحكمة خلق الجنة والنار وجميع الأمور الأخروية ومتى جرت حكمة الله على هذا { أفأنت } يا أكمل الرسل من كمال حرصك على تكثير المؤمنين { تكره الناس } وتلجئهم إلى الإيمان { حتى يكونوا مؤمنين } [يونس: 99] جميعا، مع أن بعضهم مجبولون على الكفر، ولم يتعلق إرادة الله ومشيئته بإيمانهم.
{ و } بالجملة: { ما كان لنفس } أي: ما تيسر ووسع في وسعها وطاقتها { أن تؤمن } بالله باختبارها { إلا بإذن الله } وتوفيقه وإقداره، فعليك يا أكمل الرسل ألا تجهد نفسك في إهداء من أراد الله إضلاله؛ لأنك
لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص: 56] وهو العزيز الحكيم { و } من حكمته أنه { يجعل الرجس } أي: الخذلان والحرمان { على } الكافرين { الذين لا يعقلون } [يونس: 100] أي: لا يستعملون عقولهم التي هي مناط التكاليف إلى ما خلق لأجله، ولا يتفكرون ويتأملون في الآثار الصادرة من القادر المختار حتى ينكشفوا بتوحيده.
[10.101-105]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل على مقتضى مرتبة النبوة؛ تهييجا لهم وتحريكا على استعدادهم وقابليتهم: { انظروا } أيها المجبولون على النظر والتأمل { ماذا } أي: أي شيء وذات ظهر بجسب أسمائه وصفاته { في السموت والأرض } أي: العلويات والسفليات والغيوب والشهادات { و } إن كان { ما تغني } وتكفي { الآيات } الدالة على وحدة الذات المتجلي في جميع الكوائن والجهات { والنذر } المبين للآيات، المنبهين على مدلولاتها { عن قوم لا يؤمنون } [يونس: 101] أي: لم يتعلق إرادة الله بإيماهم وتوحيدهم وعرفانهم.
{ فهل ينتظرون } أي: ما ينتظرون أولئك المتمردون على الإيمان { إلا مثل } ما وقع على أمثالهم من الخسف والكسف والغرق وغير ذلك من المعايب التي وقعت في { أيام } المشركين { الذين خلوا } ومضوا { من قبلهم } فإن عارضوا معك بمثل ما عارضت معهم مثل ما سلف من أسلافهم مع أنبيائهم ورسلهم { قل } لهم تبكيتا وإلزاما: { فانتظروا } لمقتي وهلاكي { إني معكم من المنتظرين } [يونس: 102] لكن لمقتكم وهلاككم، فالأمر بيد الله وقبضة قدرته ومشيئته.
{ ثم } بعدما أهلكنا الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل وإصرارهم على الكفر والشرك { ننجي } مما أصابهم { رسلنا } الذين أرسلناهم إليهم { و } ننجي أيضا { الذين آمنوا } بنا وصدقوا رسلنا وانقادوا بما جاءوا به { كذلك } أي: مثل إنجائنا إياهم { حقا علينا } تفضلا منا وامتنانا على عبادنا { ننج } جميع { المؤمنين } [يونس: 103] المنقادين لرسلنا المتدينين بديننا، على ذلك جرت سنتنا.
{ قل } يا أكمل الرسل للمتردين في أمرك ودينك المتمردين عن إطاعتك وانقيادك: { يأيها الناس } المجبولون على الغفلة والنسيان { إن كنتم في شك } وريب { من ديني } الذي هو أسد الأديان وأصحها وأشملها وأشرف الملل وأكملها؛ إذ هو مرجع كل الأديان كما هو مبدؤه؛ لابتنائه على توحيد الذات التي اضمحلت دونها جميع الكثرات، ومع ظهور فضله وكماله ووضوح حجته وبرهانه وعلو شأنه أنتم تشكون فيه فأنا أحق أن أشك فيما أنتم عليه وعبدتم إليه { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } لقصورهم عن المعبودية وعدم استحقاقهم للألوهية والربوبية { ولكن أعبد الله } الواحد الأحد الصمد { الذي يتوفاكم } أي: أعدمكم ومعبوداتكم بعدما أظهركم وإياهم من العدم { وأمرت } من عنده { أن أكون من المؤمنين } [يونس: 104] الموقنين لتوحيده المناقدين لحكمه.
{ و } أيضا أمرت من عنده { أن أقم } واستقم { وجهك } أي: بوجهك الذي هو يلي الحق { للدين } الذي أنزل إليك لإصلاح حالك حال كونك { حنيفا } مائلا على جميع الأديان الباطلة والآراء الفاسدة { و } بالجملة: { لا تكونن } بعدما ظهر عليك حقية دينك { من المشركين } [يونس: 105] الذين يدعون الوجود لغير الله ويشركون معه سبحانه وتعالى عنادا ومكابرة.
[10.106-109]
{ و } متى عرفت حقيقة الحال وظهر عندك حلية المقال { لا تدع من دون الله } الواجب وجوده { ما لا ينفعك } من الموجودات الباطلة والأضلال الزائلة { ولا يضرك } أيضا؛ إذ لا أثر لها من ذاتها ولا وجود لها من نفسها { فإن فعلت } وادعيت وجود غير الحق { فإنك إذا من الظالمين } [يونس: 106] الذين يظلمون على الله بادعاء الوجود والأثر لغيره.
{ و } كيف تدعي وتثبت لغيره وجودا وأثرا { إن يمسسك الله } الرقيب عليك ويصيبك { بضر } يسوءك ويحزنك { فلا كاشف له } ولا يدفع عنك ضرره { إلا هو } إذ لا شيء سواه ولا إله إلا هو { وإن يردك بخير } يسرك تفضلا عليك وامتنانا لك { فلا رآد } ولا دافع { لفضله } عنك { يصيب به } أي: بالفضل والحسنى { من يشآء من عباده و } ولا يمنع فضله جرائمهم وعصيانهم؛ إذ { هو الغفور } لذنوبهم بعد استغفارهم ورجوعهم { الرحيم } [يونس: 107] عليهم يقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم.
{ قل } يا من بعث لكافة البرايا وأرسل إليهم بالتوحيد الذاتي الذي ختم به أمر التشريع والإرسال والإنزال، بلغ إليهم ما جئت به من ربك، مناديا عليهم ليقبل بقبوله: { يأيها الناس } المكلفون بالعبادة والعرفان { قد جآءكم الحق } الصريح { من ربكم } وهو الإسلام المبين لشعائر المعرفة والتوحيد { فمن اهتدى } بالإسلام إلى التوحيد { فإنما يهتدي لنفسه } ويكتسب الهداية لها ونال ثوابها إليها { ومن ضل } ولم يهتد بنور الإسلام { فإنما يضل عليها } ويقترف الضلالة لنفسها، فعاد وبالها عليها، قل لهم أيضا: { ومآ أنا عليكم بوكيل } [يونس: 108] حفيظ، كفيل لأموركم ضمين لها، بل ما أنا إلا بشير ونذير أبلغكم ما أرسلت به، فلكم الخيار وعليكم الاختيار.
{ واتبع } يا أكمل الرسل { ما يوحى إليك } من ربك وامض عليه، وبلغ الناس { و } لا تبالي بإعراضهم وتكذيبهم، بل { اصبر } على أذاهم وتحمل مكروهاتهم، ولا تفتر عن دعوتك إياهم { حتى يحكم الله } المتولي لأمورك بنصرك وغلبتك عليهم بالقتال وبنسخ دينك جميع الأديان وينشره في جميع الأقطار { وهو خير الحاكمين } [يونس: 109] إذ هو مطلع على سرائر الأمور وخفاياها، قادر على جميع الانتقام لمن أراد مقتك وأعرض عنك.
رب احكم بالخير والحسنى ووفقنا على متابعة سيد الورى.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لتحقيق الحق، العازم على طريق التوحيد والعرفان، المستكشف عن رموز أهل الكشف وأرباب المحبة والولاء - أنجح الله آمالك، ويسر الله مآلك ويصونك عما عليك - أن تحافظ على شعائر دين الإسلام الذي هو الحق الصريح المنزل على خير الأنام بالعزيمة الصحيحة الخالصة عن شوب الرياء والسمعة، الصافية على قدر الغفلة والهوى، وتلازم الاستفادة والاسترشاد من كتاب الله وأحاديث رسوله - صلوات الله عليه وسلام - وما سمحت به أكابر الصحابة، سيما الحضرة الرضوية المرتضوية وأولاده الكرام - سلام الله عليهم وكرم الله وجوههم - والتابعين لهم بإحسان - رضوان الله عليهم أجمعين - وما جاد به المشايخ العظام والأماجد الكرام، أنار الله براهنيهم، وقدس أسرارهم.
وكن في عزمك هذا متوجها إلى قبلة التوحيد وكعبة الذات مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة، مصفيا قلبك عن إمارات الكثرة والتعدد إلى حيث ارتفع عنك الالتفات إلى نفسك وشأنك حتى يحل عليك الحيرة المغنية لهويتك في هوية الحق المسقطة لتعينك رأسا، ولا يتيسر لك هذا إلا بالركون عن لوازم الطبيعة والخروج عنها وعما يترتب عليها من اللذات الوهمية والمشتهيات البهيمية التي هي مقتضيات التعينات العدمية واشخصيات الهيولانية.
ومتى صفت سرك وسيرتك عن أمثال هذه المزخرفات العائقة عن الاستغراق في بحر الذات، فزت بما فزت، وصرت بما صرت، وحكم الله عليك بالخير والحسنى وأسكنك عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، وليس وراء الله مرمى، لا حول ولا قوةإلا بالله، هو يقول الحق، وهوي يهدي السبيل.
[11 - سورة هود]
[11.1-6]
{ الر } أيها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء الواء لوازم الألوهية وارتفاع رايات رموز أسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا { كتاب } أنزل إليك لتأييدك في أمرك، مصدق لما في الكتب السالفة جامع لأحكامها { أحكمت } ونظمت { آياته } أشد تنظيم وأبلغ إحكام وإتقان بحيث لا يعرضه خلل واختلال لا في معناه ولا في لفظه؛ لذلك عجزت عن معارضته جميع أرباب اللسن والفصاحة مع وفور وعيهم { ثم } بعد إحكامه لفظا ومعنى { فصلت } وأوضحت فيه من المعارف والحقائق والأحكام المتعلقة بالعقائد والعلوم اليقينية، والقصص المشيرة إلى العبر والمواعظ والأمثال المشعرة إلى الرموز والإشارات { من لدن حكيم } متقن في أفعاله { خبير } [هود: 1] يصدر عنه الأفعال على وجه الخبرة والاعتبار.
وحكم فيه { ألا تعبدوا } أيها المجبولون على العبادة في الفطرة الأصلية { إلا الله } الواحد الأحد الصمد، الذي أوجدكم من كتم العدم باستقلاله إيجادا إبداعيا، وقل لهم يا أكمل الرسل تبشيرا وتنبيها { إنني } مع كوني من جملتكم { لكم منه } أي: من الله المتوحد بذاته بأمره ووحيه { نذير } أنذركم عما يبعدكم عن الحق، حتى لا تستحقوا عذابه وعقابه { وبشير } [هود: 2] أبشركم ما يقربكم إلى جنابه، حتى تستحقوا الفوز العظيم من عنده.
{ و } حكم فيه أيضا { أن استغفروا } واسترجعوا في فرطاتكم { ربكم } الذي أوجدكم على فطرة المعرفة والتوحيد { ثم توبوا إليه } وتوصلوا به بعد رفع حجب الأنانية عن البين، وكشف سدل التعينات الوهمية عن العين { يمتعكم } بعد اضمحلال رسومكم وتلاشي هوياتكم في هويته بالرزق المعنوي والغذاء الحقيقي من عنده { متاعا حسنا } على مقتضى نشأته وأوصافه وأسمائه وتطورات تجلياته الجمالية والجلالية { إلى أجل مسمى } هو الطامة الكبرى التي انقهرت دونها توهمات الأظلال وتخيلات السوى والأغيار.
{ و } بعد تسييركم وتنزيلكم من عالم الغيب متنازلين إلى عالم الشهادة لاقتراف الحقائق والمعارف، وترجيعكم منها إليها متصادعين إظهارا لقدرته وبسطته { يؤت كل ذي فضل } أي: لؤت ويعط كلا من ذوي العناية الموفقين على الهداية التي جبلوا لأجلها { فضله } أي: حقه وجزاءه، أي: قبل منهم ما اكتسبوا من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات وأقرهم في النهاية على مقر نزولا منه في الهداية { و } قل لهم يا أكمل الرسل إمحاضا للنصح: { إن تولوا } وتعرضوا وتنصرفوا أيها المجبولون على التكليف عن مقتضى إنذاري وتبشيري { فإني } في غاية إشفاقي لكم وتحنني نحوكم { أخاف عليكم عذاب يوم كبير } [هود: 4] أي: نزول العذاب يوم العرض الأكبر الذي أشرقت فيه شمس الذات إلى حيث اضمحلت الأظلال والعكوس مطلقا، ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بلا تزاحكم الأظلال والأغيار:
لمن الملك اليوم
واجبا أيضا من ورائها:
لله الواحد القهار
[غافر: 16].
واعلموا أيها الأظلال المقهورة { إلى الله } الواحد الأحد الصمد، المتجلي في الآفاق بالاستقلال والاستحقاق { مرجعكم } ورجوعكم رجوع الظل إلى ذي الظل والعكوس إلى ما انعكس منها { وهو } سبحانه في ذاته قاهر فوق عباده { على كل شيء } من صور العذاب والانتقام { قدير } [هود: 4] لا يخرج عن حيطة قدرته شيء، ولا يعزب عن علمه معلوم، مما جرى عليهم من الأحوال.
{ ألا إنهم } أي: المحجوبون الغافلون من غاية جهلهم وغفلتهم عن الله { يثنون } أي: يقطعون وينحرفون { صدورهم } عن الميل إلى الحق والتوجه نحوه طالبين { ليستخفوا منه } أي: يستروا ويخفوا من الله ما تمكن صدورهم من الإعراض عن الحق بأوامره ورسله { ألا } إنهم لم يعلموا ولم يتفطنوا أن الله المطلع بجميع ما جرى في ملكه يعلم منهم ما جرى عليهم وظهر منه { حين يستغشون ثيابهم } أي: يطلبون التدثر والتغطي وقت رقودهم في مضاجعهم، بل { يعلم } منهم { ما يسرون } في ضمائرهم { وما يعلنون } بأفواههم ومشاعرهم، وكيف لا يعلم سبحانه { إنه } بذاته وأوصافه وأسمائه { عليم } بعلمه الحضوري { بذات الصدور } [هود: 5] وبما هو مكنون فيها من السرائر والضمائر.
{ و } كيف يستبعد أمثال هذا من حيطة حضرة علمه؛ إذ { ما من دآبة } تترك { في الأرض } مثلا { إلا على الله } المتكفل لأرزاق مظاهره ومصنوعاته { رزقها } أي: ما تعيش وتتقوم به { و } مع ذلك { يعلم } منشأها ومصدرها في عالم الغيب، ويعلم أيضا { مستقرها } أي: محل قرارها وبقائها في عالم الشهادة، ومدقار ثباتها واستقرارها فيها { و } يعلم أيضا { مستودعها } ومرجعها في عالم الغيب بعد انقضاء النشأة الأولى، وبالجملة: { كل } من الأحوال والأطوار والنشأة الطارئة عليها بحيث لا يشذ شيء منها محفوظ مثبت { في كتاب مبين } [هود: 6] هوحضرة علمه ولوح قضائه، فكيف تنكرون أيها المنكرون إحاطة علمه، وتستخفون منه شيئا من مخايلكم؟!.
[11.7-11]
{ و } أنى يعزب ويغيب عن عمله شيء؟! { هو الذي خلق } أي: أظهر وأبدع { السموت والأرض } أي: العلويات والسفليات اللتين هما بمثابتة الآباء والأمهات والفواعل والقوابل لنشأتكم وظهوركم { في ستة أيام } ليحيط بالجهات كلها { وكان عرشه } أي: مجلاه ومحل بروزه على الماء، وتشعشع تجلياته قبل ظهور هذه المظاهر والمكونات { على المآء } أي: على الحياة الحقيقية الخالية من التغرات والانقالابات المتوهمة من التعينات العدمية والتشخيصات الهيولانية، وإنما أظهرها على هذا التمثال وأوجدهها على هذا المنوال { ليبلوكم } ويختبركم أيها الأظلال والعكوس { أيكم أحسن عملا } وقبولا، وأتم توجها ورجوعا، وأكمل تحققا ووصولا في يوم الجزاء.
{ و } بعدما نبههم الحق على ما هو الحق، وأوجدهم على فطرة الفطنة و الذكاء بمبدئهم ونشأتهم الأصلية { لئن قلت } يا أكمل الرسل تذكيرا له وإصلاحا لحالهم: { إنكم مبعوثون من بعد الموت } للحساب والجزاء وتنفيذ الأعمال، فعليكم أن تتهيأوا لها وتدخروا لأجلها حتى لا تؤاخذوا و لاتعاقبوا { ليقولن الذين كفروا } منهم من كمال غفلتهم وقسوتهم بعدما سمعوا منك قولك هذا: { إن هذآ } أي: ما الذي تقول به هذا الرجل إن وقع وتحقق { إلا سحر مبين } [هود: 7] عظيم؛ إذ إحياء الموتى من العظام الرفات لا يتصور إلا بالسحر الخارق للعادات، فإن وقع فهو في غاية العظمة ونهاية الغرابة.
{ و } بعدما استوجبوا لأسوأ العذاب واستحقوا الأليم العقاب بكفرهم وإنكارهم { لئن أخرنا عنهم العذاب } المعد لهم؛ أي: إتيانه { إلى أمة } أي: جماعة من الأيام والأوقات { معدودة } قلائل { ليقولن } مستهزئين مستسخرين من غاية جهلهم وإنكارهم: { ما يحبسه } أي: يمنعه عن إتيان ما يدعيه من العذاب ووقوع ما يعد به من الأخذ والبطش { ألا } تنبهوا أيها المؤمنون وتذكروا { يوم يأتيهم } العذاب، واعلموا يقينا أن العذاب { ليس مصروفا عنهم } حينئذ، ساقطا عن ذمتهم، بل نزل عليهم { وحاق } وأحاط { بهم } حتما { ما كانوا به يستهزءون } [هود: 8] من العذاب الموعود وقت إنذار الرسول.
{ و } من غاية لطفنا وجودنا إلى الإنسان، ونهاية إحساننا معه وتفقدنا لحاله { لئن أذقنا الإنسان } المجبول على النسيان والكفران وأعطيناه { منا رحمة } ونعمة تسره وتفرج همه { ثم نزعناها منه } ومنعناها عنه؛ إظهارا لقدرتنا وكمال بسطتنا { إنه } من قلة تصبره وغاية ضعفه وتكسره { ليئوس } قنوط من فضلنا ورحمتنا { كفور } [هود: 9] لما وصل إلي من نعمتنا.
{ ولئن أذقناه } وأنعمنا عليه { نعمآء بعد ضرآء مسته } أي: أعجزته وأزعجته { ليقولن } متفخرا مباهيا بطرا { ذهب السيئات } المؤلمة المحزنة { عني إنه } من غاية غفلته عن المنعم { لفرح } بطر فرحان { فخور } [هود: 10] مغرور مفتخر بما في يده من النعم، مشغل بها عن شكرها وأداء حقها.
{ إلا الذين صبروا } على ما أصابهم من السيئات المملة المؤلمة، واسترجعوا إلى الله لكشفها { وعملوا الصالحات } وواظبوا على الخيرات والحسنات وداوموا على الإيثار والصدقات؛ شكرا لما أنعمنا عليها { أولئك } السعداء الصابرون عن البلاء، الشاكرون على النعماء عليهم { لهم مغفرة } أي: ستر ومحو لذنوبهم التي مضت عليهم { وأجر كبير } [هود: 11] هو الرضاء منهم تفضلا عليهم وامتنانا.
[11.12-16]
{ فلعلك } يا أكمل الرسل من غاية ودادك إيمانهم ومحبتك متابعتهم { تارك بعض ما يوحى إليك } من عندنا، مشتملا على توبيخهم وتقريعهم وزجرهم وتشنيعهم، كراهة أن يركنوا عنك ونصرفوا عن متابعتك { وضآئق } أي: بسبب وما يوحى إليك { به صدرك } مخافة { أن يقولوا } حين أظهرت عليهم بما أوحيت به: { لولا } أي: هلا { أنزل عليه كنز } بدل هذه التوبيخات والتقريعات من عند ربه ليتابع الناس له { أو جآء معه ملك } مصدق لنوبته ورسالته ليطيعوا ويؤمنوا له طوعا بلا كلفة، لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبقولهم { إنمآ أنت نذير } بلغ ما أنزل إليك من إنذارهم وتخويفهم، ولا تلتفت إلى ردهم وقبولهم، وتوكل على دينك وثق به، فإنه يكفي عنك مؤمنة شرورهم وضررهم { والله على كل شيء } صدر عنهم { وكيل } [هود: 12] عليهم يعلم منهم ما هو مستوجب العقوبة والعذاب، وما هو قوي للنوال والثواب، يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته، أو لم يكف بتصديقك القرآن المعجز لأرباب اللسن والبيا في تشددهم في المعارضة والمقاتلة.
{ أم يقولون } مكابرة وعنادا: { افتراه } واختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الوحي { قل } لهم يا أ:مل الرسل حين نسبوك إلى الافتراء والاختلاق: { فأتوا } أيها المكابرون المعاندون { بعشر سور مثله } أي: مثل أقصر سورة من سور القرآن { مفتريت } مختلفات على ما زعمتم مع أنكم أحق باختلافها؛ لكثرة تمرنكم وتزاولكم في أمر الإنشاد والإنشاء، وتتبع كلام البغاء والتعود بممارسة القصص والقصائد، وإن عجزتم عن اختلاقها بأنفسكم، فاستظهروا بإخوانكم ومعاونيكم { وادعوا من استطعتم من دون الله } واتفقوا معهم في اختلافها { إن كنتم صادقين } [هود: 13] في ظنكم هذا.
{ فإلم يستجيبوا لكم } أيها المؤمنون ولم يأتوا بماتحديتم لهم { فاعلموا } أيها المؤمنون واطمأنوا وتيقنوا { أنمآ أنزل بعلم الله } وبكمال قدرته وإرادته، لا يمكن لأحد من مظاهره ومصنوعاته أن يأتي بمثله ويعارض معه، وكيف لا يعراض معه؛ إذ لا شيء سواه { وأن لا إله } في الوجود { إلا هو فهل أنتم مسلمون } [هود: 14] مناقدون لحكمه مسلمون أموركم كلها إليه، مخلصون مطمئنون، متمكنون في جادة التوحيد، بل أنتم أيها الموحدون المحمديون هكذا.
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير: { من كان } بارتكاب الأعمال واحتمال شدائدها ومتاعبها { يريد الحياة الدنيا وزينتها } المزخرفة التي تترتب عليها من الأموال والأود { نوف إليهم أعمالهم فيها } لأجلها { وهم فيها لا يبخسون } [هود: 15] أي: لا ينقص شيء من أجور أعمالهم في النشأة الأولى إن كن غرضهم مقصورا عليها، محصورا بها.
وأما في النشأة الأخرى { أولئك } القاصرون المقصرون هم { الذين ليس لهم في الآخرة } أي: لم يبق لهم مما يترتب على أعمالهم فيها { إلا النار } إذ حسناتهم تفوى إليهم في النشأة الأولى ولم يبق لهم إلا توفية السيئات، وليس توفية السيئات إلا بالنار وما يترتب عليها من العذاب والآلام { و } بالجملة: { حبط } وضاع واضمحل { ما صنعوا فيها } أي: في النشأة الأولى من الخيرات والمبرات بإرادتهم الأمور الدنيوية لأجلها { و } صار بعدم إصلاحهم وعكس مرادهم { باطل } فساد مقتضى { ما كانوا يعملون } [هود: 16] من الصالحات فيها، وإن ظهر على صورة الصالحات.
[11.17-19]
{ أفمن كان على بينة من ربه } أي: تظنون وتحسبون أن من انكشف له برهان واضح وكشف صريح وشهود محقق من قبل ربه، وتحقق بمقام التوحيد، وبسريان وحدة الذات في جميع الكائنات والفاسدات { و } مع ذلك ش { يتلوه } يطرأ عليه ويجري على لسانه { شاهد } ناطق بتصديقه نازل { منه } أي: من عند ربه؛ امتنانا له وتفضلا عليه، يريد ويقصد من أفعاله وأعماله الصادرة عنه ظاهرا مثل ما أراد أولئك المحجوبون المستورون عن الحق، وإحاطته وشموله واستقلاله في الآثار الظاهرة في الآفاق كلا وحاشا
هل يستوي الذين يعلمون
[الزمر: 9] وما يتذكر إلا أولوا الألباب.
{ و } كيف ينكرون شهادة القرآن على تصديق خير الأنام؛ إذ { من قبله } أي: من قبل القرآن جاء { كتاب موسى } من قبل مصدقا له في دعواه وصار من عموم حكمه { إماما } أي: قدروة لقاطبة الأنام { ورحمة } شاملة للخواص والعوام؛ لإهدائهم إلى دار السلام { أولئك } أي: أهل التوراة، وهم الذين يؤمنون بها ويمتثلون بما فيها { يؤمنون به } أي: بحقية القرآن لكونه مذكورا في التوراة المنزل عليه { ومن يكفر به } أي: القرآن وبحقيته { من الأحزاب } المتحزبين مع المحرفين للتوراة، المنحرفين عن جادة الإيمان { فالنار موعده } لا بد أن يرد عليها على مقتضى العدل الإلهي { فلا تك } يا أكمل الرسل { في مرية } شك وارتياب { منه } أي: من ورودهم عليها إنجازا لوعده { إنه الحق } النازل { من ربك } لا بد أن يتحقق وقوعه { ولكن أكثر الناس } لانهماكهم في الغفلة وغلظ حجابهم عن الله { لا يؤمنون } [هود: 17] بحقيته وحقية وعده وإنجازه الموعود؛ لذلك حرفوا ما جاء من عنده في كتابه، وزادوا عليه ما لم يجيء منه.
{ ومن أظلم } على الله { ممن افترى على الله كذبا } عمدا، وحرف كتابه بتنقيص شيء منه أو زيادة عليه { أولئك } المحرفون المجترئون على الله بتبديل آياته { يعرضون } في يوم العرض الأكبر { على ربهم } ويسألون عما فعلوا بكتاب الله، فينكرون ويستنزهون أنفسهم عنه { ويقول الأشهاد } من أعضائهم وجوارحهم إلزاما لهم: { هؤلاء } المسرفون المعاندون { الذين كذبوا على ربهم } وحرفوا كتابه افتراء ومراء، ظلما وعدوانا، وبعد إشهاد هؤلاء الأشهاد، نودي من وراء سرادقات العز والجلال، تفضيحا لهم وتخذيلا على رءوس الأشهاد: { ألا لعنة الله } وطرده وإبعاده من سعة رحمته { على الظالمين } [هود: 18] المجاوزين عن مقتضى حكمه وحكمته عنادا ومكابرة.
وهم { الذين يصدون } ويصرفون عباد الله { عن سبيل الله } الذي هو الشرع المنزل من عنده على أنبيائه ورسله بالعدالة والتقويم { ويبغونها عوجا } أي: يريدون أن يحدثوا فيها عوجا وانحرافا؛ ليصرفوا ويرتدوا منها أهلها بعد إيمانهم بها وانقيادهم إليها فاستحقوا العذاب والنكال الأخروي { و } الحال أنه { هم بالآخرة } المعدة للجزاء والانتقام { هم كافرون } [هود: 19] منكرون لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم.
[11.20-24]
{ أولئك } البعداء المسرفون المتفرون على الله، المفرطون في تحريف كتابه { لم يكونوا } من أهل الإعجاز حتى صاروا { معجزين في الأرض } كل من تحدى معهم ويعارضهم { وما كان لهم من دون الله من أوليآء } حتى ينصروهم ويحفظوهم عن عذا الله إياهم إن تعلق إرادته بتعذيبهم في الدنيا، وإنما أمهلهم وأخر عذابهم إلى يوم الجزاء؛ ليقترفوا من موجباته وأسبابه أكثر مما كانوا عليه، وحتى يدوم وبالها لأجلهم، بل { يضاعف لهم العذاب } لأنهم بسبب أعراضهم عن الحق { ما كانوا يستطيعون السمع } لأن في آذانهم وقرا عن استماعه { وما كانوا يبصرون } [هود: 20] لتعاميهم عن أبصار آثاره ودلائله.
وبالجملة: { أولئك } المعزولون عن استماع كلمة الحق وإبصار علاماته هم { الذين خسروا أنفسهم } بالافتراء على الله بما لا يليق بجنابه بإشراك مصنوعاته معه في استحقاق العبادة { و } مع ذلك { ضل } وغاب { عنهم ما كانوا يفترون } [هود: 21] من الآلهة الباطلة، ولم يبق لهم سوى الندامة والخسران.
لذلك { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } [هود: 22] المقصرون على الخسران والحرمان، ألا ذلك هو الخسران المبين!.
{ إن الذين آمنوا } بالله وفوضوا أمورهم كلها إليه { وعملوا الصالحات } المقربة لهم إلى جنابه { وأخبتوا إلى ربهم } أي: تضرعوا له مطمئنين خاشعين { أولئك } السعداء المقبولون الصالحون، المصالحون الخاشعون المخبتون { أصحاب الجنة } التي هي دار السعداء { هم فيها خالدون } [هود: 23] دائمون مطمئنون متمكنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{ مثل الفريقين } أي: المؤمن والكافر في السعادة والشقاوة والهداية والضلال { كالأعمى والأصم والبصير والسميع } كل مع نقيضتها { هل يستويان } كل من النقيضين { مثلا } أيها العقلاء { أفلا تذكرون } [هود: 24] التفاوت والتفاضل حتى تتنبهوا وتتفطنوا.
[11.25-28]
{ و } من عدم تذكر الإنسان وتوغله في الغفلة والنسيان { لقد أرسلنا نوحا } الناجي عما سوى الحق، المنجي للهالكين في تيه الضلال { إلى قومه } حين ظهر عليهم أمارات الكفر والعصيان، ولاح فيهم علامات الظلم والطغيان قائلا لهم على وجه العظة والنصيحة: { إني } من غاية إشفاقي وعطفي { لكم نذير } أنذركم من طول العذاب ونزول غضبه بسبب ظلمكم وكفركم { مبين } [هود: 25] مظهر مبين لكم ما يوجب تعذيبكم من أفعالكم وأعمالكم الدالة على كفركم وشرككم.
فعليكم أيها المسرفون المفرطون { أن لا تعبدوا } ولا تتوجهوا { إلا الله } الواحد الأحد الصمد، الذي لا شريك له ولا شيء سواه، ولا تشركوا به غيره { إني أخاف عليكم } لو أشركتم بالله وكفرتم به { عذاب يوم أليم } [هود: 26] مؤلم مفزع، كأن ألم العذاب يسري في زمانه لفظاعته وشدته.
ثم لما سمعوا قوله وفهموا مراده استكبروا عليه واستبعدوا أمره { فقال الملأ } أي: الأشراف { الذين كفروا من قومه } مستكبرين عليه مستهزئين له: { ما نراك } يا نوح { إلا بشرا مثلنا } كيف تدعي الرسالة والنيابة عن الله والوحي من جانبه { و } مع ذلك لا شوكة ولا استيلاء لك ولا قوة بسبب المكر والأعوان والأنصار حتى تدعي الرئاسة علينا؛ إذ { ما نراك اتبعك } منا { إلا الذين هم أراذلنا } أي: أدنانا وأسافلنا عقلا وجاها وسعة ومالا { بادي الرأي } يظهر رذالتهم للناظرين في أو الفكر والنظر بلا احتياج إلى تعميق وتدبر { و } بالجملة: { ما نرى لكم } أيها السفلة والأرذال تابعا ومتبوعا { علينا من فضل } زيادة في العقل والمال والجاه والرئاسة حتى نتبعكم ونقبل قولكم { بل نظنكم } ونعتقدكم { كاذبين } [هود: 27] في دعواكم، مفترين فيه، طالبين الرئاسة بسببه بلا إظهار معجزة وبينة واضحة.
{ قال } نوح متحسرا آيسا منهم، قنوطا عن إيمانهم بعدما سمع منهم ما سمع: { يقوم } أضافهم إلى نفسه بعد يأسه على مقتضى شفقة النبوة { أرأيتم } أي: أخبروني { إن كنت } جئت لكم { على بينة } واضحة دالة على صدقي في دعواي نازلة { من ربي } لتأييدي وتصديقي { و } مع ذلك { آتاني رحمة من عنده } تفضلا وامتنانا، مشعرة بنجاتتي وطهارتي وصدقي في قولي تذكيري { فعميت } أي: خفيت واشتبهت { عليكم } الدلائل والشواهد مع وضوحها وسطوعها { أنلزمكموها } بها { و } الحال أنه { أنتم لها كارهون } [هود: 28] منكرون غير ملتفتين إليها، ولا متأملين فيها وفي إشاراتها ورموزها.
[11.29-32]
{ ويقوم لا أسألكم عليه } أي: على تبليغي وإرشادي إياكم وإهدائي لكم { مالا } جعلا وأجرا { إن أجري } أي: ما أجري { إلا على الله } الذي أمرني به وبعثني لتبليغه { و } إن أردتم أن أطرد من معي من المؤمنين فاعلموا أني { مآ أنا بطارد الذين آمنوا } وليس في وسعي طردهم وكيف أطردهم { إنهم } من غاية سعادتهم وصلاحهم { ملاقوا ربهم } الذي وفقهم على الإيمان والهداية، فيخاصمون مع طاردهم وينتقمون عنه { ولكني أراكم } من خبث باطنكم { قوما تجهلون } [هود: 29] تنكرون لقاء الله وحوله وقوته وإعانته للمظلوم وانتقامه للظالم الطارد.
{ ويقوم } المكابرين المعاندين في طلب طرد المؤمنين الموقنين { من ينصرني } ويدفع عني { من } عذاب { الله } وبطشه وانتقامه { إن طردتهم } اتبغاء لمرضاتهم ومواساة لكم بلا إذن وارد من قبل الحق، ووحي نازل من عنده { أفلا تذكرون } [هود: 30] أيها المجبولون على العقل المفاض، المستلزم للتوحيد والعرفان لينكشف الأمر عنكم، وتعرفوا وخامة عاقبة التماسكم طرد المؤمنين وتوفيقكم الإيمان عليه.
{ ولا أقول لكم } مدعيا بعدم طرد المؤمنين الفاقدين حطام الدنيا { عندي خزآئن الله } فأغنيهم بها، لذلك لم أطردهم { ولا أعلم الغيب } أي: لا أدعي الاطع على غيوب أحوالهم في مآلهم حتى يكون سبب ودادي لهم { ولا أقول } لكم مباهاة ومفاخرة: { إني ملك } حتى تقولوا: ما أنت إلا بشر مثلنا { ولا أقول } أيضا { للذين } أي: للمؤمنين الذين { تزدري أعينكم } أي: استرذلتموهم، وتقولون في حقهم: ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي: { لن يؤتيهم } ويعطيهم { الله خيرا } في الدنيا والأخرة؛ إذ حالهم ومآلهم من الغيوب التي استأثر الله بها ولم يطلعني عليها؛ إذ { الله أعلم بما في أنفسهم } من الإخلاص والرضا، وما لي علم بحالهم إلا بوحي الله وإلهامه، ولم يوخ إلي شيء من أحوالهم، وإن تفوهت عنهم وعن أحوالهم بلا وحي { إني إذا لمن الظلمين } [هود: 31] المجترئين على الله في ادعاء الاطلاع على غيبه رجما به.
وبعدما سمعوا من نوح عليه السلام ما سمعوا { قالوا } من فرط عتوهم وعنادهم: { ينوح } نادوه استهانة واسحتقارا { قد جادلتنا } وخاصمتنا بالمقدمات الكاذبة الوهمية { فأكثرت } علينا { جدالنا } وبالغت فيها وتماديت { فأتنا } أيها المكثر المفرط { بما تعدنآ } من العذاب، فإنا لن نؤمن بك { إن كنت من الصادقين } [هود: 32] في دعواك.
[11.33-37]
{ قال } نوح متأسفا متحزنا، آيسا من إيمانهم: يا قوم لست بآت بموعد حتى تعجزوني وتضطروني وتستهزئوا بي، بل { إنما يأتيكم به } أي: بالعذاب الموعود { الله } المنتقم منكم { إن شآء } انتقامكم وتعلق إرادته لهلاككم { ومآ أنتم } حين غضبه سبحانه عليكم { بمعجزين } [هود: 33] الله في فعله وأخذه؛ إذ هو القاهر فوق عباده، بل أنتم حينئذ عاجزون ومضطرون مقهورون.
{ ولا ينفعكم } اليوم { نصحي } لئلا يلحقكم ما سيلحقكم حين حلول العذاب { إن أردت } وأحببت { أن أنصح لكم } لأحفظكم { إن كان الله يريد أن يغويكم } أي: لا ينفعكم نصحي اليوم إن تعلق إرادة الله ومشيئته في سابق علمه لإغوائكم، بل { هو ربكم } ومولي أموركم { وإليه } لا إلى غيره من الأظلال { ترجعون } [هود: 34] في جميع أموركم وحلااتكم.
أتريد يا نوح نصحهم وإشفاقهم، وهم لا يقبلون منك { أم } بل { يقولون افتراه } أي: اختلقه من عنده ونسبه إلى الوحي ترويجا { قل } لهم حين قالوا لك هذه مجاراة عليهم ومماراة: { إن افتريته } واختلفت ما جئت به { فعلي إجرامي } أي: وبال أمري ونكاله { و } الحال أنه { أنا بريء مما تجرمون } [هود: 35] وتنسبون إلي من الجرائم.
{ و } بعدما بالغوا في العتو والفساد والإصرار على ماهم عليه من الجور والفساد { أوحي } وألهم { إلى نوح } حين ظهر عليهم أمارات الإنكار، ولاح علامات الاستخفاف والاستكبار { أنه لن يؤمن } لك أبدا بعد هذا { من قومك إلا من قد آمن } لك قبل هذا، فاقنط عن إيمانهم، ولا تجتهد في نصحهم وإهدائهم { فلا تبتئس } ولا تغتم من إهلاكهم ونزول العذاب عليهم إنهم مهلكون { بما كانوا يفعلون } [هود: 36] من الإعراض والإنكار والعتو والاستكبار.
{ و } بعدما حصل لك اليأس والقنوط من إيمانهم { اصنع الفلك } لحفظك ولمن آمن معك من الغرق { بأعيننا } أي: بكنفنا وجوارنا وحفظنا وحصاننا { ووحينا } لك كيف تصنعها وتشيدها { و } بعدما صنعت { لا تخاطبني } ولا تناج معي { في } إنجاء القوم { الذين ظلموا } أنفسهم بالمكابرة والعناد ونبذوا وراء ظهورهم ما جئت به من الهداية والرشاد { إنهم } بسبب انهماكهم في الغفلة والغرور { مغرقون } [هود: 37] مهلكون حتما، لانجاة لهم أصلا.
[11.38-43]
{ و } بدما أوصاه الحق وأمره، شرع { يصنع الفلك } بتعليم جبرائيل عليه السلام إياه بإذن الله { و } كان { كلما مر عليه ملأ } طائف { من قومه } حين اشتغل بالفلك { سخروا منه } واسهزءوا به؛ لكونه في بادية لا ماء فيها، وقالوا على سبيل التهكم: صرت نجارا بعدما كنت نبيا { قال } لهم نوح المكشوف عنده مآل ما أمر الحق له: { إن تسخروا منا } الآن لجهلكم بسر صنيعنا { } فإنا نسخر منكم حين كنا على الفكل وأنتم غرقى { كما تسخرون } [هود: 38] اليوم منا.
{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم } [هود: 39] وتدركون وبال ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية.
{ حتى إذا جآء أمرنا } وجان أجلنا الذي أجلنا لمقتهم وهلاكهم { وفار } أي: نبع حينئذ { التنور } المعهود في حضرة علمنا، نبع ماء الطوفان، وبعد فوران التنور وغليانه وأطلعت عليه امرأته فأخبرته إياه { قلنا } له تفضيلا عليه وامتنانا: { احمل فيها } أي: في السفينة { من كل زوجين } أي: من جنس ما يعيش في الهواء { اثنين } ذكرا وأنثى { و } احمل أيضا عليها { أهلك } أي: جميع أهل بيتك { إلا من سبق عليه القول } منا في سابق قضائنا بأنه كان من الكفارين المغرقين { و } احمل أيضا عليها { من آمن } لك من قومك { و } الحال أنه { مآ آمن معه } من قومه { إلا قليل } [هود: 40] قيل: كانوا تسعة وسبعين وزوجته السملمة وبنوه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلا من غيرهم.
روي أنه عليه لسلام أتم السفينة وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في أسفلها الدواب والوحوش، وفي أوسطها الإنس، وفي أعلاها الطير.
{ و } بعدما نبع التنور وانتشر الماء وانبسط على الأرض { قال } نوح بوحي الله إياه: { اركبوا فيها } أي: صيروا في جوفها متمكنين، واستقروا عليها قائلين متيمنين: { بسم الله } إذ هو سبحانه بحوله وقوته { مجريها ومرساها } حيث أراد إجراءها وإرساءها { إن ربي } الذي رباني بلطفه وأوصاني بصنعها { لغفور } لمن استغفر له { رحيم } [هود: 41] يقبل توبته ويمحو زلته ومنجو عن عذابه، فركبوا مسمين متيمنين.
{ وهي } أي: السفينة { تجري بهم في } خلال { موج } وهو ما ارتفع من الماء من شدة الريح عال { كالجبال } الشامخ { و } حينئذ { نادى نوح ابنه } المسمى بكنعان { وكان في معزل } من آبيه؛ أي: اعتزل عنه وانصرف عن دينه، فرآه بين الماء، فتحرك عطف الأبوة فصاح عليه: { يبني } صغره للشفقة والترحم { اركب معنا } لتنجو من الغرق { ولا تكن مع الكافرين } [هود: 42] حتلا لا نغرق.
{ قال } ابنه مستنكرا عليه: { سآوي } والتجئ { إلى جبل } عال { يعصمني من } إغراق { المآء } بشموخه وعلوه { قال }: يا بني { لا عاصم } ولا ينجي { اليوم من أمر الله } المبرم وحكمه المحكم { إلا من رحم } الله وأنجاه؛ إذ لا عاصم غيره { و } حينئذ { حال بينهما } أي: بين نوح وابنه { الموج } العظيم { فكان من المغرقين } [هود: 43] أي: صار ابنه من الغرقى الهالكين.
[11.44-49]
{ و } بعدما انبسط الماء على وجه الأرض، وعلا على أعالي الجبال وأقلال الرواسي وهلك من عليها { قيل } من وراء سرادقات العز والجلال مناديا آمرا على الأرض والسماء مثل النداء على ذوي العقول المكلفين المبادرين إلى امتثال الأوامر: { يأرض } النابعة للماء المخرجة له { ابلعي مآءك } أي: انشقي ما نبع عنك من الماء { ويسمآء } الماطرة الهامرة { أقلعي } وأمسكي ماءكم ولا تمطري؛ إذ يمطر لماء مثلما نبع من الأرض { و } بعد ورود الأمر الإلهي { غيض المآء } ونقص بنشف الأرض وإمساك السماء { وقضي الأمر } الموعود الذي هو إهلاك الكفار وإنجاء المؤمنين { و } بعد انقضاء المأمور وإنجاز الموعود { استوت } السفينة واستقرت { على الجودي } جبل بالموصل، وقيل: بالشام، وقيل: أو آمل.
روي أنه عليه السلام ركب السفينة عاشر رجب، ونزل عليها عاشر المحرم، فصام ذلك اليوم، فصار سنة له على من بعده، وهو يوم عاشوراء { و } بعد إهلاك ألئك العصاة الغواة الكفرة { قيل } من قبل الحق: { بعدا } أي: مقتا وهلاكا { للقوم الظالمين } [هود: 44] الخارجين عن مقتضى الوحي الإلهي، المكذبين لرسله، وطردا لهم عن ساحة الحضور بحيث لا يرجى قربهم أصلا.
{ و } بعدما وقع ما وقع { نادى } وناجى { نوح ربه } باثا له شكواه في حق ابنه { فقال رب إن ابني } أيضا { من أهلي } وأنتم بفضلك وعدتني بإنجاء أهلي { وإن وعدك } الذي به { الحق } الصدق لا خلف فيه { وأنت أحكم الحاكمين } [هود: 45] أي: أقسطهم وأعدلهم بأحكام جميع الحكام راجع إليك.
{ قال } سبحانه مجيبا له مزيلا لشكواه: { ينوح إنه } بسبب اعتزاله عنك ون دينك { ليس من أهلك } إذ لا قرابة ولا ألفة بين المؤمن والكافر، وكيف يكون من أهلك { إنه } من غابة فسقه وفساده { عمل غير صالح } كأنه مغمور فيه مجسم منه لا يرجى صلاحه أصلا { فلا تسئلن } متعرضا معترضا على { ما ليس لك به علم } لوروده علي { إني أعظك } وأذكر لك { أن تكون من الجاهلين } [هود: 46] أي: كونك بذهولك عما نبهت عليك بالاستثناء السابق؛ يعني
إلا من سبق عليه القول
[هود: 40].
{ قال } نوح معتذرا إلى ربه، مستحييا منه: { رب إني } بعد ظهور خطئي وذلتي { أعوذ بك أن أسألك } بعد هذا { ما ليس لي به علم } أي: { وإلا تغفر لي } زلتي وسوء أدبي { و } لم { ترحمني } بفضلك وجودك { أكن من الخاسرين } [هود: 47] خسرانا مبينا.
{ قيل } من بل الله بعدما غاض الماء واستوت السفينة وانكشفت الأرض ويبست: { ينوح اهبط } انزل من السفينة أنت ومن معك وما معك مقرونا { بسلام } أي: سلامة ونجاة وأمن ناشئ { منا } عليك تفضلا وامتنانا { وبركات } أي: خيرات ومبرات كثيرة نازلة منا { عليك } أصالة { وعلى أمم ممن معك } تبعا، سماهم أمما باعتبار المآل { و } من ذرية من معك { أمم سنمتعهم } ونربيهم في النشأة الأولى بأنواع النعم { ثم يمسهم منا } في النشأة الأخرى بسبب كفرهم وفسقهم { عذاب أليم } [هود: 48] مؤلم بدل ما يتلذذون بنعم الدنيا، ويكفرون بها.
{ تلك } أي: قصة نوح عليه السلام { من أنبآء الغيب } أي: بعض أخباره { نوحيهآ إليك } يا أكمل الرسل؛ تعليما لك وتذكيرا لأمتك { ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك } بالدراسة والتعليم { من قبل هذا } الوحي والإنزال، وإن طعن المشركون لك ونسبوك إلى الكذب والافتراء { فاصبر } على أذياتهم، وكن في تبليغك على عزيمة صحيحة { إن العاقبة } الحميدة والآخر الجزيل في النشأة الأخرى { للمتقين } [هود: 49] الذين يحفظون نفوسهم عن الميل إلى البدع والأهواء، ويصبرون على المكاره والأذى، حتى يتحققوا بمقام الرضا ويفوزوا بشرف اللقاء.
[11.50-53]
{ و } بعدما تناسل قوم نوح وتكاثرت أمم منهم، فاستكبروا عن طريق التوحيد واتخذوا الأصنام والأوثان آلهة، أرسلنا { إلى عاد } العادين عن طريق الحق، المتجاوزين عن صراط التوحيد ظلما وعدوانا { أخاهم هودا } ليهديهم إلى طريق الحق وصراط مستقيم { قال } بعدما أوحينا إليه آذنا له بتذكير قومه: { يقوم } أضافهم إلى هفسه تحننا و إشفاقا على ما هو مقتضى الإرشاد { اعبدوا الله } الواحد الأحد الصمد الذي لا إله إل هو واعتقدوا { ما لكم من إله } يعبد بالحق ويرجع إليه ما في الأمور { غيره } إذ لا موجود سواه ولا إله إلا هو { إن أنتم } أي: ما أنتم بعدما ظهر الحق باتخاذ الأوثان آلهة غيره { إلا مفترون } [هود: 50] مبطلون في اتخاذها افتراء ومراء.
{ يقوم } اسمعوا قولي واتعظوا به وامضوا بمقتضاه واقبلوا نصحي؛ إذ { لا أسألكم عليه أجرا } ولا أطلب منكم عوضا، بل أنا مأمور بالتبليغ والتذكير من عند العليم الخبير { إن أجري إلا على الذي فطرني } أي: بعثني بالإرشاد والإهداء، أتشكون في أمري وتترددون في شأني وتذكيري ونصحي؟ { أفلا تعقلون } [هود: 51] وتستعملون عقولكم في أفعالكم القبيحة وأعمالكم الفاسدة الناكبة عن طريق الاعتدال الذي هو صراط الله الأقوم الأعدل؟!.
{ و } بعدما ازدادوا الإصرار والاستكبار، أخذهم الله بعقم الأرحام والأمطار فاضطروا، قال هود عليه السلام: { يقوم استغفروا ربكم } من فرطاتكم وهفواتكم، واطلبوا المغفرة والنجاة منه { ثم توبوا } واسترجعوا { إليه } نادمين مخلصين { يرسل السمآء عليكم } بأمر الله تفضلا وامتنانا { مدرارا } أمطارا كثيرة على سبيل التتابع والإدرار { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أي: يضاعف أولادكم التي هو قوة ظهوركم { و } عليكم أن { لا تتولوا } على الله حال كونكم { مجرمين } [هود: 52] معرضين وعن رسله مصرين على ما أنتم عليه.
{ قالوا } بعما سمعوا منه ما سمعوا: { يهود } نادوه استحقارا له واستكبارا عليه { ما جئتنا ببينة } واضحة مثبتة لدعواك حتى نقبل منك قولك { و } بعدما لم تجيء إلينا بالبينة الملجئة ما كان نعتقدك صادقا صدوقا ثقة حتى نقبل قولك بلا بينة، اترك ما أنت عليه من الدعوة الفاسدة؛ إذ { ما نحن بتاركي آلهتنا } التي وجدنا آباءنا لها عاكفين { عن قولك } أي: عن مجرد دعواك لا بينة ودليل { و } بالجملة: { ما نحن لك بمؤمنين } [هود: 53] مصدقين لك بلا شاهد وبينة.
[11.54-58]
بل { إن نقول } أي: ما تقول في حقك { إلا اعتراك } أي: سوى هذا القو وهو أنك أصابك ورماك { بعض آلهتنا بسوء } جنون وخفة عقل واختال حال، وكنت أنت تسيء الأدب معهم، وتذكرهم وتهيجهم بما لا يليق بجنابهم، ولذلك أصابوك واستخفوا عقلك، وبعدما سمع هود ما سمع، آيس من إيمانهم وهدايتهم { قال } مبرئا أولا لنفسه من الشرك، إمحاضا للنصح: { إني أشهد الله } العالم بسري وإعلاني وخفيات إسراري { واشهدوا } أنتم أيضا أيها الهالكون في تيه الغفلة والغرور علي { أني بريء مما تشركون } [هود: 54] الله الواحد الأحد الصمد الذي ليس له شريك في الوجود أصلا من الأظلال الهالكة والتماثيل الباطلة المتخذة { من دونه } آلهة سواه { فكيدوني } أي: فعليكم أيها الحمقى المنحطين عن زمرة الغقلاء بعدما سمعتم قولي وحققتم براءتي أن تمكروني وتصيبوني أنتم وشركاؤكم { جميعا ثم } بعد اليوم { لا تنظرون } [هود: 55] أي: لا تمهلون في أمري ولا في مكري.
{ إني } بعدما { توكلت على الله ربي وربكم } لا أبالي بكم وبشركائكم، ولا تحزن لمكرهم ومكركم بعدما أتمكن مقر التوحيد؛ إذ { ما من دآبة } يتحرك على الأرض { إلا هو } سبحانه بذاته { آخذ بناصيتهآ } أي: وجودها التي تلي الحق يقودها ويتصرف بها كيف يشاء حسب إرادته اختيارا { إن ربي } في جميع شئونه وتطوراته { على صراط مستقيم } [هود: 56] لا عوج له أصلا.
{ فإن تولوا } أي: تتولوا وتعرضوا عما جئت به من ربي { فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم } واجتهدت في تبليغه وبذلت وسعي فيه، فاعلموا أنه لا يبالي الله في إعراضكم وإصراركم، بل إن شاء يستأصلكم { ويستخلف ربي قوما غيركم } ليتعظوا ويعتبروا منكم { و } أنتم بإعراضكم عنه سبحانه { لا تضرونه شيئا } من الأضرار، لا بالله ولا بي { إن ربي } من كمال جوده وسعة رحمته { على كل شيء } كائن في حيطة جوده ووجوده { حفيظ } [هود: 57] رقيب قريب.
{ ولما } تمادوا في الغفلة والإعراض، وبالغوا في الإصرار والاستكبار { جآء أمرنا } بالريح، فعصفت عليهم السموم، وكانت تدخل من أنوفهم وأفواههم فقطعت أمعاءهم فهلكوا، ولما أخذناهم بما أخذناهم { نجينا } من مقام جودنا { هودا } الداعي لهم إلى سبيل الحق { و } نجينا أيضا { الذين آمنوا } منهم { معه برحمة منا } تفضلا عليهم وامتنانا { و } ما اقتصرنا على إنجائهم، بل { نجيناهم } كرامة منا إياهم { من عذاب غليظ } [هود: 58] معد لأولئك الكفرة في النشأة الأخرى.
[11.59-62]
{ وتلك } العصاة الغواة المقهورون بقهر الله وغضبه { عاد } المبالغون في العتو والعناد { جحدوا } من غاية غفلتهم وغرورهم { بآيات ربهم } المنزلة على ألسنة رسله { وعصوا رسله } بالتكذيب والاستحقار لاستلزام الواحد تكذيب الجميع { واتبعوا } من غاية جهلهم ونهاية بغضهم مع الله ورسله { أمر كل جبار } مبالغ في التجبر والتكبر { عنيد } [هود: 59] متناه في المكابرة والعناد، فتركوا متابعة الداعي لهم إلى سبيل الرشا.
{ و } لذلك { أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة } أي: صاروا متبوعين للطرد والتخذيل في النشأة الأولى والأخرى { ألا } تنبهوا يا أولي الأبصار والاعتبار { إن عادا } المعاندين { كفروا ربهم } نعمه وجحدوا توحيده { ألا بعدا } طرد وتخذيلا وتبعيدا عن ساحة عز احضور { لعاد قوم هود } [هود: 60] أردفه بعطف البيان للتمييز عن عاد إرم.
{ و } بعدما انقرضوا وانقهروا بما انقهروا أرسلنا { إلى ثمود } حين ظهروا بالكفر والشقاق والانصراف عن منهج الرشاد باتخاذ الأوثان آلهة { أخاهم صالحا } لأنه أولى وأليق لإرشادهم وإهدائهم { قال يقوم اعبدوا الله } الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي { لم يكن له كفوا أحد } [الإخلاص: 4] ولا تشركوا به شيئا؛ إذ { ما لكم من إله } موجد مظهر لكم من كتم العدم { غيره } بل { هو } بذاته وأسمائه وأوصافه الذاتية والفعلية { أنشأكم } وأظهركم { من الأرض } بامتداد أظلال أسمائه ورش نوره { و } بعدما أظهرمك منها { استعمركم } واستبقاكم { فيها } ورباكم بأنواع اللطف والكرم عليها { فاستغفروه } واسترجعوا إليه على ما فرطتم في حقه { ثم توبوا إليه } مخلصين نادمين عسى أن يقبل منكم ويعفو عن زلاتكم { إن ربي قريب } لكم يعلم توبتكم وإخلاصكم فيها { مجيب } [هود: 61] يجيب دعوتكم ويعفو زلتكم.
{ قالوا } بعدما سمعوا دعوته وتذكيره: { يصالح قد كنت فينا مرجوا } أي: مستشارا ومؤتمنا، واعتقدناك سيدا ذا رشد { قبل هذا } الزمان فالآن صرت أخرق { أتنهانآ أن نعبد ما يعبد آباؤنا } أي: نهيتنا عن عبادة معبودات آبائنا { و } الحال أنه { إننا لفي شك } وتردد عظيم { مما تدعونآ إليه } من توحيد الإله المعبود بالحق وإبطال آلهتنا التي وجدنا آباءنا لها عابدين، { مريب } [هود: 62] ذي ريبة منتهية إلى كمال الارتياب، مع أنك لم تأت ببينة معجزة تلجئنا إلى تصديقك.
[11.63-68]
{ قال يقوم أرأيتم } أي: أخبروني { إن كنت } جئت لكم ملتبسا { على بينة } واضحة دالة على صدق ما ادعيت نازلة { من } عند { ربي } لتصديقي وتأييدي { و } الحال أني قد { آتاني منه رحمة } نبوة ورسالة تامة، مؤيدة بأنواع المعجزات { فمن ينصرني } ويمنعني { من } عذاب { الله إن عصيته } في تبليغ رسالته وإظهار ما أمرني بظهوره وأوصاني بنشره { فما تزيدونني } حين ابتلائي وأخذ الله إياي بعصياني { غير تخسير } [هود: 63] على تخسير وتخذيل على تخذيل.
{ و } بعدما آيس عن إيمانهم قال: { يقوم هذه ناقة الله لكم آية } دالة على صدقي في دعواي وتأييد الله إياي { فذروها تأكل في أرض الله } مسلمة بلا منع وإباء { ولا تمسوها بسوء } لأجل الماء والكلأ { فيأخذكم } ويلحقكم بعدما أصبتموها بسوء { عذاب قريب } [هود: 64] أجله وحلولهن، وبعدما ظهرت الناقة بين أظهرهم وأكلت كلأهم وشربت ماءهم فتضروا منها وشاوروا في أمرها وتقرر رأيهم إلى قتلها { فعقروها } وهلوكها ظلما وزورا { فقال } صالح بعدما وقع الواقعة الهائلة: { تمتعوا في داركم } أي: عيشوا فيها بعدما خالقتم حكم الله وآتيتم بما نهيتم { ثلاثة أيام } الأربعاء والخميس والجمة، فوادعوا فيها وتوادعوا، واعلموا أن { ذلك وعد } أوحي إلى من ربي { غير مكذوب } [هود : 65] أي: غير منسوب إلى الكذب، بل مصدق متيقن فلا تشكوا.
{ فلما جآء أمرنا } بالعذاب المهلك بعد انقضاء الأيام الثلاثة التي ظهرت فيها علاماته من اصفرار في وجوههم في اليوم الأول، واحمرارها في الثاني، واسودادها في الثالث { نجينا } من فضلنا وجودنا { صالحا } الذي صلح نفسه وأصلح نفوسهم، فمل يقبلوا إصلاحه، بل أفسدوها بأنفهسم { و } نجينا أيضا منهم { الذين آمنوا معه } وصلحوا بإصلاحه { برحمة } نازلة { منا } على قلوبهم؛ ليوفقوا بها على قبول دعوته والإيمان به، وبسبب إيمانهم نجوا من خزي النشاة الأخرى { ومن خزي يومئذ } أيضا { إن ربك } يا أكمل الرسل الموفق لهم على الإيمان والإذعان { هو القوي } المحصور على القوة والقدرة؛ إذ لا حول ولا وقة إلا به { العزيز } [هود: 66] الغالب على إمضائه وإنفاذه حيث أراد وشاء.
{ و } بعدما أنجاهم الله بلطفه { أخذ الذين ظلموا } أنفسهم بالعتو والفساد { الصيحة } الهائلة التي وعدها الله لإهلاكهم { فأصبحوا } بعدما سمعوا الصيحة في أثناء الليل { في ديارهم } التي صاروا متمتعين فيها { جاثمين } [هود: 67] جامدين ميتين.
{ كأن لم يغنوا } ولم يسكنوا { فيهآ } أصلا، ونادى عند وقوع الواقعة الهائلة أصحاب الاعتبار والاستبصار: { ألا إن ثمود كفروا ربهم } بكفران نعمه وتكذيب رسله { ألا بعدا لثمود } [هود: 68] ع سعة رحمة الحق في النشأة الأولى والأخرى.
وبعدما انقرض أولئك الهالكون حدث بعدهم قوة لوط المبالغون في الغفلة القبيحة غقلا ونقلا، المصرون عليها إلى أن أخذناهم بما أخذناهم.
[11.69-76]
{ و } حين أردنا أخذهم { لقد جآءت رسلنآ } أي: الملائكة المأمورون لإهلاك قوم لوط { إبراهيم بالبشرى } والبشارة بالولد بعدما آيس هو وزوجته عن التوالد والتناسل { قالوا } له حين لاقوه: { سلاما } أي: نسلم سلاما عليكم ترحيبا منا عليك { قال سلام } عليكم دائما مستمرا أيها المستحقون للتحية والترحيب { فما لبث } وسكن بعد نزولهم إلى { أن جآء بعجل حنيذ } [هود: 69] مشوي؛ ضيافة لهم ونزلا لقدومهم ووضع بين أيديهم، فانصرفوا عنه ولم يمدوا أيديهم نحوه.
{ فلما رأى } إبراهيم { أيديهم لا تصل إليه } ولا يتناولون منه كما هو عادة المسافرين { نكرهم } أي: أنكر منهم عدم أكلهم؛ لأن الامتناع من الطعام دليل على قصد المكروه لصاحبه { وأوجس } أي: أضمر { منهم خيفة } خوفا ورعبا حتى أحسوا منه الخوف وعلامات الرعب { قالوا } تسلية وتسكينا: { لا تخف } منا { إنا } وإن كنا من أهل الإنذار والإهلاك { أرسلنا إلى } إهلاك { قوم لوط } [هود: 70] ما لنا معك شغل.
{ و } حين قالوا له ما قالوا { امرأته } أي: سرة حاضرة { قآئمة } لخدمة الأضياف { فضحكت } بعدما سمعت قولهم فرحا وسرورا؛ لأنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطا، فإني أعلم أن البلاء ينزل على هؤلاء المسرفين { فبشرناها } أي: سارة تفضلا وامتنانا { بإسحاق ومن ورآء إسحاق } ولده { يعقوب } [هود: 71] أبا الأنبياء.
{ قالت } بعدما سمعت التبشير مستحية مستغربة: { يويلتى } أي: يا هلكتي وفضيحتي { ءألد وأنا عجوز } قد مضت علي تسع وتسعون سنة { وهذا بعلي شيخا } فانيا ابن مائة وعشرين سنة { إن هذا } أي: التوالد بيننا { لشيء عجيب } [هود: 72] غريب خارق للعادة إن وقع.
{ قالوا } إزالة لشكها وتعجبها: { أتعجبين } أي: تستبعدين { من أمر الله } القادر المقتدر بالقدرة الكاملة أمثال هذا؛ أي: التوالد بين الهرمين تفضلا وامتنانا مع أنها { رحمت الله } أي: أنواع فضله وجوده { وبركاته } أي: خبراته الكثيرة النالزة { عليكم } يا { أهل البيت } يا أهل بيت الخلة والنبوة { إنه } سبحانه في ذاته { حميد } يفعل ما يوجب الحمد له { مجيد } [هود: 73] محسن كثير الإحسان والإنعام المستجلب لأنواع المحامد والأثنية.
{ فلما ذهب عن إبراهيم الروع } أي: الخوف والرعب بستيلة الرسل إياه { وجآءته البشرى } بما لا ترقب له فيه أخذ { يجادلنا } أي: يجادل مع رسلنا ويناجي معنا { في } حق { قوم لوط } [لوط: 74] وأخذنا إياهم.؟
وما حمله على المجادلة والمناجاة في حقهم إلا فرط إشافقه ورقة قلبه { إن إبراهيم } في نفسه { لحليم } غير عجول على الانتقام، كظيم الغيظ والغضب { أواه } كثير التأوه والتأسف من الذنب الصادر عنه { منيب } [هود: 75] رجاع إلى الله في جميع حالاته، فقاس حالهم على نفسه، فأخذ يجادل في حقهم؟
قال الرسل بوحي الله إياهم: { يإبرهيم } المتحقق بمقام الخلة { أعرض عن هذآ } الجدال، وانصرف عن مدافعة كلام الله المبرم { إنه قد جآء أمر ربك } وثبت منه سبحانه الحكم بهلاكهم حتما مبرما، ولا تنفعهم مجادلتك وممانعتك { وإنهم آتيهم } عن قريب { عذاب } حتم { غير مردود } [هود: 76] بتقويتك وحمايتك.
[11.77-83]
{ و } أذكر يا أكمل الرسل { لما جآءت رسلنا لوطا } على أشكال مرد ملاح صباح متناسبة الإعضاء، وهم لا يرون أمثالهم في الصباحة واللطافة وكمال الرشاقة { سيء بهم } أي: ساء مجيئهم على هذه الأشكال لوطا ومن آمن معه { وضاق } جيئتهم على هذه الصورة البديعة { بهم ذرعا } أي: شق على لوط والمؤمنين أمر حفظهم وحضانتهم؛ لأنهم علموا قبح صنيع قومهم لو علموا جيئتهم قصدورا لهم مكروها، واشتد عليهم أيضا مدافعتهم وإخراجهم؛ لأنهم نزلوا ضيافا، فاضطر لوط في أمرهم وشأنهم وتحير { وقال } متأوها متأسفا متضجرا: { هذا يوم عصيب } [هود: 77] شديد مظلم في غاية الشدة والظلمة.
{ و } بعدما أخبر القوم بنزولهم { جآءه قومه } متجسسين { يهرعون إليه } أي: يطوفون حول بيته سريعا، ويطلبون فرصة الدخول عليهم، ويحتالون لدفع لوط والمؤمنين وهم قوم خقبي { ومن قبل كانوا } من نهاية خباثتهم { يعملون السيئات } الخارجة عن مقتضى العقل والنقل والمروءة، وحين اضطر لوط من ترددهم وتبخترهم، ولم ير في نفسه مدافعتهم ومقاوتهم { قال يقوم } لهم من غاية غيرته وحميته في حق أضيافه: { هؤلاء } الإناث { بناتي هن أطهر لكم } إن أردتم الوقاع { فاتقوا الله } المنتقم الغيور عن تفضيحي { ولا تخزون في ضيفي } ولا تخجلوني في ضيفي { أليس منكم } أيها لمجبولون على فطرة الإدراك { رجل رشيد } [هود: 78] ذو مروءة وعقل كامل.
{ قالوا } في جوابه مبالغين مقسمين: والله { لقد علمت } يقينا { ما لنا في بناتك من حق } أي: ميل وحظ، بل إنما عرضت بناتك علينا لتترك أضيافك { وإنك } أيضا { لتعلم ما نريد } [هود: 79].
ولما اضطر لوط مسارعتهم ومماراتم { قال } مشتكيا إلى الله: { لو أن لي بكم قوة } أدفع بها حزني وخزي أضيافي لأدفعكم بتوفيق الله { أو آوي } وأرجع حين ظهور عدم مقاومتي ومدافعتي معكم { إلى ركن شديد } [هود: 80] هو حفظ الله وكنف جواره وحصن حضانته.
ثم لما رأى الرسل اضطرار لوط واضطرابه؛ إذ هو يغل على أضيافه باب بيته فيجاجل مع قومه، يتكلم معهم، وبعدما امتدت مجادلته معهم، قصدوا أن يثقبوا الجدار فاشتغلوا بالثقب والنقب { قالوا } أي: الرسل بعدما بلغ ألم لوط غايته: { يلوط } لا تغتم ولا تضطرب في أمرنا ولا تهلك نفسك غيرة وغيضا { إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } أبدا؛ أي: لن ينالوا بإضرارنا حتى اضطررت من أجلنا، ذرنا معهم، واخرج من بيننا وبينهم، وخرج لوط مفتحا باب بيته، فدخلوا على الرسل بالفور، فضرب جبرائيل عليه السلام بجناحه فأعماهم، فانقبلوا صائحين صارخيه: النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة.
وبعدما خرجوا فاقدين أبصارهم، قال الرسل أمرا للوط: { فأسر } أي: سر ليلا { بأهلك } أي: بمن آمن معك { بقطع } أي: بعد مضي طائفة { من الليل و } بعدما خرجتم { لا يلتفت } ولا ينظر { منكم } أيها الخارجون { أحد } خلفه حين سمع حنينهم وأنينهم وتشدد العذاب عليهم { إلا امرأتك } فإنها تلتفت حين سمعت الصيحة، فخرجوا على الوجه المأمور، فنزل عليهم العذاب بعد خروجهم بالفور، فصاحوا صيحة عظيمة، ولم يلتفت أحد من الخارجين إلا امرأته، فلما سمعت التفتت، وصاحت: واقوماه! فأصيبت بلا تراخ ومهلة { إنه } أي: الشأن والأمر في علمنا أنها { مصيبها مآ أصابهم } فلما سمع لوط ما سمع، استسرع إلى مقتهم من كمال ضجرته منهم، قالوا له: { إن موعدهم الصبح } أي: موعد هلاكهم صبح هذا الليلة { أليس الصبح } أيها المستعجل { بقريب } [هود: 81].
{ فلما جآء أمرنا } على رسلنا بأهلاكهم { جعلنا } أي: جعل الرسل بإقدارنا وتمكيننا إياهم قريتهم { عاليها سافلها } أي: يقلبون عليهم بيوتهم { و } مع ذلك { أمطرنا } من جانب السماء { عليها } أي: على أماكنهم وقراهم { حجارة } تنحجر { من سجيل } وهو معرب من سنك كل { منضود } [هود: 82] ممتزج منضد بعضها على بعض { مسومة } معلمة مقدرة { عند ربك } وفي حضرة علمه ولوح قضائه لأمثال هذه البغاة الغواة الهالكين في تيه الغفلة والغرور.
{ وما هي } أي: أمثال هذه البليات والمعيبات { من الظالمين } الخارجين عن مقتضى حدود الله وأوامره ونواهيه { ببعيد } [هود: 83] غريب حتى يستغرب في حقهم.
[11.84-87]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين من ذوي الاستبصار والاعتبار وقت؛ إذ أرسلنا { إلى مدين } حين بالغوا التطفيف والتخسير في المكيلات والموزونات { أخاهم } ومن شعيتهم { شعيبا } المتشغب منهم، ليكون أدخل في نصحهم وأجهد في إهدائهم وإرشادهم { قال يقوم } موصيا له، متحننا على وجه الشفقة والنصيحة { اعبدوا الله } الواحد الأحد الصمد الذي ليس له شريك في الوجود والألوهية والربوبية وتيقنوا أنه { ما لكم من إله } مظهر لكم ولجميع ما ظهر وبطن غيبا وشهادة { غيره } بل الألوهية محصورة إليه، مقصورة له؛ إذ لا شيء سواه، ولا يستحق للعبادة إلا هو { و } عليكم أيها المأمورون من عنده بالاعتدال والاقتصاد في جميع الأخلاق والأفعال والأحوال أن { لا تنقصوا المكيال والميزان } لبني نوعكم { إني أراكم بخير } أي: سعة ورفاهية غاية لكم وتفضلا عليكم، فعليكم أن تزويدها وتديموها بالشكر والإنصاف والانتصاف على مقتضى ما أمرتم به من عند ربكم، وإن لم تعلموا مني ونصحي ولم تقبلوا قولي { وإني أخاف عليكم } من غيرة الله وكمنال قهره وسطوته { عذاب يوم محيط } [هود: 84] فيه عذابه على جميع أهل الزيغ والضلال، المنحرفين عن جادة الاعتدال.
{ و } بعدما قدم عليهم المنهي للعناية والاهتمام بشأنه، أردفه بالمأمور؛ للتأكيد والمبالغة وزيادة التقرير والإحكام، كأنه استدل عليه لمزيد إشفاقه وكمال مرحمته، فقال: { يقوم } إن أردتم خير الدارين ونفع النشأتين { أوفوا المكيال والميزان } على عباد الله؛ أي: لا تزيدا عليها ولا تنقصوا منها؛ إذ الطرفان كلاهما مذمومان، بل أوفوهما { بالقسط } والعدل { و } عليكم أن { لا تبخسوا } ولا تنقضوا { الناس أشيآءهم } في حال من الأحوال { و } بالجملة: { لا تعثوا في الأرض مفسدين } [هود: 85] أي: لا تظهروا عليها بالخداع والحيف والبخس والتطفيف.
{ بقيت الله } التي قدرها في سابق حضرة علمه { خير لكم } ومزيد مما لكم من تطفيفكم وتنقيصكم { إن كنتم مؤمنين } بالله وبتدبيراته وتقديراته { و } اعلموا يا قوم إني { مآ أنا عليكم بحفيظ } [هود: 86] يحفظكم عن جميع ما لا يعينكم، بل أنا مبلغ ما أرسلت به إليكم، فلكم الامتثال والتوفيق من الله الكبير المتعال.
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا { قالوا } مستهزئين متهكيمن { يشعيب } المدعي دعوة الخلق إلى الحق { أصلوتك } الكثيرة التي تصليها في خلواتك { تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ } من الأصنام والأوثان { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } أي: تأمرك صلواتك أن نترك أفعالنا الت كنا كعلمنا بها في ازدياد أموالنا حسب إراداتنا واختيارنا { إنك } أيها الداعي للخلق إلى الحق { لأنت الحليم } ذو الحلم والكرم، ولا تعجل في الانتقام { الرشيد } [هود: 87] العاقل، لا تتكدر بمثل هذه الأوهام، قالوا له هذا استهزاء وسخرية.
[11.88-91]
{ قال } شعيب بعدما تفرش بنور النبوة باستهزائهم: { يقوم } الساعين للباطل المصرين عليه { أرأيتم } أخبروني { إن كنت } جئت لكم { على بينة } مصدقة نائشة { من } قبل { ربي } معجزة لجميع ما يقابلني ويعارضني { و } مع ذلك { رزقني منه } أي: من عنده سبحانه { رزقا حسنا } معنويا وصوريا وروحانيا وجسمانيا، فهل يليق بمثلي أن يفترى عليه، وينسب ~إليه مراء ما لم يوح من عنده كذبا وبهتانا { و } اعلموا أيضا أني { مآ أريد } بنهيي لكم عن التطفيف والتبخيس { أن أخالفكم } فيما أنتم عليه وأرجع بنفسي { إلى مآ أنهاكم عنه } لأستبد وأتخصص به، وهو إفساد وميل عن جادة الله لاحق وصراط الله ألأقوم، فكيف يميل الموحد المؤيد إلى أمثال هذا، بل { إن أريد } أي: ما أريد { إلا الإصلاح } مقدار { ما استطعت و } ما أنا متكفل للصلاح أيضا ومدع الاستقلال به { ما توفيقي } أي: إقداري وتمكيني وحولي وقوتي { إلا بالله } إذ لا حول ولا قوة بالأصالة إلا بالله لذلك { عليه توكلت } أي: وثقت والتجأت { وإليه أنيب } [هود: 88] وأتوجه في جميع ما رجوت؛ إذ هو مولاي ومولي أموري وعليه اعتمادي واعتضادي.
{ و } بعدما تفرس منهم المصيبة والمراء المفرط، قال على مقتضى الحبة والشفقة وإرخاء العنان: { يقوم لا يجرمنكم شقاقي } أي: لا يحملنكم بغضي وعداوتي على الجرائم المستجلبة لأنواع العذاب والنكال، إني أخاف عليكم { أن يصيبكم } بسبب جرائمكم وعصيانكم { مثل مآ أصاب قوم نوح أو } مثل ما أصاب { قوم هود أو } مثل ما أصاب { قوم صالح } وباجملة: { وما قوم لوط } وقصة استئصالهم وإهلاكهم وتقليب أماكنهم عليهم { منكم ببعيد } [هود: 89] متماد في البعد إلى حيث يحصل لكم الذهول عنه لقرب عهدهم.
{ و } يا قوم { استغفروا ربكم } الذي أظهركم من العدم من جميع فرطاتكم { ثم توبوا إليه } أي: اخلصوا في إنابتكم ورجوعكم، ولا تغتموا بعد إخلاص التوبة بما جرى عليكم من الجرائم { إن ربي رحيم } يقبل توبتكم ويعفو عن زلاتكم { ودود } [هود: 90] يحبكم ويرحمكم ويتفضل عليكم.
وبعدما بالغ في نصحهم وإرشادهم { قالوا } تسفيها عليه وتخويفا: { يشعيب } نادوه على سبيل الاستهزاء والاستحقار { ما نفقه } ونفهم ونعقل { كثيرا مما تقول } أي: بعض هذياناتك التي تكلمت بها { وإنا } أي: وإن لم نفهم بعض كلماتك لابتنائها على الخبل والخرق { لنراك } في بادي الرأي { فينا ضعيفا } في غاية الضعف والحقارة { و } بالجملة: { لولا رهطك } أي: عشائرك وأقوامك { لرجمناك } بالحجارة ألبتة بسبب هذاياناتك وذكرك آلهتنا بالسوء، ودخلك على أفعالنا مع أموالنا { و } أعلم يقينا إنك بنفسك { مآ أنت علينا بعزيز } [هود: 91] بل عزتك عندنا بسبب رهطك لكونهم إخواننا في الدين، فلا نريد أذاهم بقتلك، وإلا فلا نبال بك وبرحمتك.
[11.92-95]
وبعدما آيس شعيب عليه السلام من إيمانهم { قال يقوم } أضافهم إلى نفسه هنا تهكما بخلاف ما مضى؛ إذ قد آيس عن صلاحهم بالمرة { أرهطي } وأقوالي { أعز عليكم من الله } الذي أوجدكم من كتم العدم، فعزرتموهم وراعيتم جانبهم { واتخذتموه } أي: الله سبحانه وأوامره ونواهيه وإطاعة رسوله { ورآءكم ظهريا } أي: منبوذا وراء ظهوركم، بل رجحتم جانب المصنوع على جانب الصانع { إن ربي بما تعملون } من المفاسد { محيط } [هود: 92] بعلمه إحاطة حضور لا يغيب عنه شيء، فيفصلها علكيم ويجازيكم بها.
{ ويقوم } الناكبين عن طريق الحق المصرين على الباطل { اعملوا على مكانتكم } وعلى مقتضى مرتبتكم ونشأتكم أي عمل شتئم { إني } أيضا { عمل } على شأني { سوف تعلمون } أنتم وأنا أيضا { من يأتيه عذاب يخزيه } ويريده { ومن هو كذب } منا بالله وبسر ربوبيته وتوحيده { وارتقبوا } أي: انتظروا وترقبوا بالعذاب والنكال { إني معكم رقيب } [هود: 93] منتظر.
{ ولما جآء } ونفذ { أمرنا } بأهلاكهم { نجينا } وأخرجنا أولا من بينهم { شعيبا } الناجي { والذين آمنوا معه } وامتثلوا بما أمروا به من عندنا { برحمة } نازلة { منا } إياهم تفضلا { وأخذت الذين ظلموا } أنفسهم حين صاروا في فراشهم بائتين { الصيحة } الهائلة { فأصبحوا في ديارهم } التي كانوا مترفهين فيها { جاثمين } [هود: 94] جامدين وأجسادهم بلا روح.
وصاروا { كأن لم يغنوا } ولم يسكنوا { فيهآ } فصاح عليهم من صاح من أرباب الفطنة والعبرة: { ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود } [هود: 95].
[11.96-101]
وبعدما انقرض أولئك الطغاة الغواة المنهمكين في الغي والضلال، المفسدين في الأرض بأنواع الإفساد والإضلال { ولقد أرسلنا } حين حدث على الأرض أمثال أولئك الهالكين بل أسوأهم حالا وأقبحهم شيمة وخصالا وأشدهم بغضا وشيكمة على الحق وأهله، عبدنا { موسى } المخصص من عندنا بتكليمنا { بآياتنا } الدالة على توحيدنا واستقلالنا في ملكنا وملكوتنا { وسلطان } أي: أبدناه من عندنا بحجة واضحة وبرهان { مبين } [هود: 96] ظاهر الدلالة على صدقه في دعواه عند من له أدنى مسكة.
{ إلى فرعون } الذي هو رأس أهل الضلال ورئيسهم إلى حيث تبعوه بالألوهية من غاية عتوه واستكباره { وملئه } المعاونين له في أمره وشأنه، ثم لما أملهنا زمانا على غروره ورفعنا قدره في هذه الدنيا مسرورا؛ تغريرا عليه { فاتبعوا } من على الأرض { أمر فرعون } وامتثلوا بمقتضاه { و } الحال أنه { مآ أمر فرعون برشيد } [هود: 97] هاد إلى الحق، موصل إلى مقصد التوحيد، بل هو غار موصل إلى نار الخذلان وسعير الحرمان.
إذ هو بنفسه { يقدم قومه } أي: يتقدم عليهم { يوم القيامة } التي انكشفت فيها السرائر واضمحلت الأوهام { فأوردهم النار } مثل إبراهيم على ماء نيل في دار الدنيا، شبه حالهم في النشاة الأخرى بحالهم في النشأة الأولى، لذلك عبر عنه بالإيراد { وبئس الورد المورود } [هود: 98] ونار الخذلان وجحيم الحرمان.
{ و } هم من غاية خبثهم وفسادهم { أتبعوا في هذه } النشاة { لعنة } دائمة مستمرة { و } يلعنون أيضا { يوم القيامة } بأضعاف هذه اللعنة، وبالجملة: { بئس الرفد } أي: العون والعطاء { المرفود } [هود: 99] أي: المعان والمعطى رفدهم التي هي طردهم في الدارين ولعنهم في النشأتين.
{ ذلك } المذكور { من أنبآء القرى } وأخبارهم وما جرى عليهم { نقصه عليك } بالوحي يا أكمل الرسل ليكون عبرة لك ولمن تبعك مشاهدة وتذكيرا { منها } أي: من تلك القرى { قآئم } جدرانها بلا سقوف { و } منها ما هو { حصيد } [هود: 100] مدروس مندك، كالزرع المحصود، عفت آثاره واندرست أطلاله.
{ و } بالجملة: { ما ظلمناهم } بإهلاكهم وتخريب ديارهم { ولكن } هم { ظلموا أنفسهم } باتخاذ مصنوعاتنا آلهة أمثالنا مستحقة للعابدة، ظنا منهم أن آلهتهم تنفعهم لدى الحاجة وتشفعهم وقت الشفاعة { فما أغنت عنهم } أي: كفت ودفعت عنهم { آلهتهم التي يدعون من دون الله } ظلما وزروا { من شيء } أي: شيئا قليلا من القضاء { لما جآء } أي: حين جاء { أمر ربك } يا أكمل الرسل، وحين نزل عذابه وحل عقابه إياه، بل { وما زادوهم } آلهتهم حين حلول العذاب عليهم { غير تتبيب } [هود: 101] أي: هلاك وتخسير؛ لأنهم بسبب عبادة هؤلاء صاروا مطرودين عن سعة رحمة الله وجوده.
[11.102-109]
{ وكذلك } أي: مثل ما سمعت يا أكمل الرسل { أخذ ربك } أي: انتقامه وبطشه { إذا أخذ القرى } أي: حين أخذ أهلها بظلمهم وعصيانهم { وهي ظالمة } خارجة عن مقتضى الأمر والإلهي ونهيه، وبالجملة: { إن أخذه } للمسرفين الخارجين عن حيطة حدوده { أليم } مؤلم { شديد } [هود: 102] في غاية الشدة؛ لكونهم مبالغين في الإصرار والاستكبار.
{ إن في ذلك } المذكور من قصص الأمم الهالكة { لآية } عظة وعبرة { لمن خاف عذاب الآخرة } وحساب الله إياه فيها على رءوس الأشهاد { ذلك } اليوم { يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } [هود: 103] شهد فيه الجميع للجميع بل الأعضاء والجوارح على صاحبها.
{ وما نؤخره } أي: اليوم الموعود { إلا لأجل معدود } [هود: 104] أي: لانقضاء مدة قصيرة.
اذكر يا أكمل الرسل عظة وتذكيرا لمن تبعك { يوم يأت } ذلك اليوم الموعود الهائل { لا تكلم } فيه { نفس } ولا يشفع شافع؛ لشدة هوله وفزعه { إلا بإذنه } أي: بإذن الله وإقداره إياها { فمنهم } أي: بعض الناس من الموقوفين في المحشر { شقي } خرج من الدنيا على الشقاوة ووخامة العاقبة { و } منهم { سعيد } [هود: 105] خرج منها على السعادة وحسن العاقبة.
{ فأما الذين شقوا } في الدنيا وخرجوا منها على الشقاوة { ففي النار } أي: هم في النشأة الأخرى داخلون في النار ومضطربون فيها؛ إذ { لهم فيها زفير وشهيق } [هود: 106] أي: أخراج النفس من شدة الحرارة، وشيهق؛ أي: رده؛ يعني: حالهم فيها كحال من استلوت عليه الحرارة على قلبه وضيق الأمر عليه، فيردد نفسه كما في سكرة الموت، وذلك من شدة كربهم وآلمهم ولكونهم متناهين في الشاقوة في دار الدنيا، لا ينقطع عذابهم فيها أصلا.
{ خالدين فيها ما دامت السموت والأرض } أي: ما تحقق الجهتان الحقيقيتان؛ أي: الفوق والتحت { إلا ما شآء ربك } أي: تعلق إرادته ومشيئته لأخراج بعض منها كفساق المؤمنين { إن ربك فعال لما يريد } [هود: 107] أي: له الاختيار التام في جميع مراداته ومقدوراته، ومن جملتها: إخراج بعض العصاة من النار.
{ وأما الذين سعدوا } في الدنيا، وخرجوا على السعادة منها { ففي الجنة } أي: هم في النشأة الأخرى في الجنة التي هي منازل السعداء الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون { خالدين فيها ما دامت السموت والأرض } متنعمين فيها مترفهين بأنواع النعم الجسام { إلا ما شآء ربك } وتعلق إرادته بإعلاامها، وهو الانكشاف الذاتي والتجلي الشهودي، وذلك لمن يعطى { عطآء غير مجذوذ } [هود: 108] أي: غير مقطوع؛ إذ لا انقطاع للتجليات الذاتية ولا للذاتها المرتبة عليها بالنسبة إلى الفائزين بها، جعلنا الله من خدامهم.
وبعدما تبين حال السعداء المقبولين والأشقياء المردودين { فلا تك في مرية } شك وتردد { مما يعبد هؤلاء } المشركون، ألا يستجلب عليهم العذاب والنكال كما استجلب على أسلافهم؛ إذ هم { ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم } وأسلافهم { من قبل } فسيلحقهم مثل ما لحقهم؛ لأن اشتراك الأسباب يوجب اشتراك المسببات { وإنا } وإن أمهلناهم زمانا في الدنيا { لموفوهم نصيبهم } وحظهم من العذاب في الآخرة مثلهم { غير منقوص } [هود: 109] من عذابهم.
[11.110-115]
{ و } كيف لا نوفي العذاب على المشركين { لقد آتينا } من عظيم جودنا { موسى الكتاب } أي: التوراة حين فشا الجدال والمراء والكفر والفسوق بين بني إسرائيل واضمحلت العدالة الإلهية بالكلية { فاختلف فيه } مثل اختلافهم في كتابك الذي هو أفضل الكتب علما وإحاطة، وأجمعهم حكما، وأشملهم معرفة، وأكملهم حقيقة وكشفا { ولولا كلمة سبقت من ربك } في أنظار هؤلاء الكفرة وإمهالهم إلى يوم القيامة { لقضي } أي: حكم ورفرق { بينهم } الآن، بحيث يتميز المحق من المبطل، فليلحق المبطلين وبال ما صنعوا، فهلكوا كما هلكوا { وإنهم } أي: كفار قوموك، من غاية انهماكهم في الغفلة وتماديهم في العناد والاستكبار { لفي شك } أي: من أمر القرآن مع أنهم عارضوا معه مرارا فأفحموا { منه مريب } [هود: 110] موقع المريب الشك للخرفاء المنحطين عن التأمل في مرمزاته والتدريب في إشارته.
{ وإن كلا } أي: كلا من المؤمنين المحقين والمبطلين الكافرين، والله { لما ليوفينهم } ويوفون عليهم بلا زيادة وتنقيص؛ إظهارا للقدرة الكاملة والعدالة التامة الشاملة { ربك } الذي أظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة { أعمالهم } أي: أجورها وجزاءها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر { إنه } سبحانه بذاته وأوصافه وأسمائه { بما يعملون } من الخير والشر والصلاح والفساد والعبادة وتركها { خبير } [هود: 111] على وجه الحضور، لا تغ يب عنه غائبة ولا تخفى عنه خافية.
ومتى تلطفت يا أكمل الرسل بخبرة الحق وحضوره، وتنبهت تنبيها وجدانيا حضوريا وانكشفت بها انكشافا عينيا شهوديا { فاستقم } أي: فاعتدل في أوصافك و أفعالك وأقوالك { كمآ أمرت } من ربك بوحيه عليك وإلهامه إليك، وأمر أيضا بالعدالة والاستقامة { ومن تاب معك } وآمن لك واتخذ طريقط مسلكا إلى الحق { و } بالجملة: { لا تطغوا } أي: لا تميلوا ولا تخرجوا أيها المتحققون بحقية التوحيد واستقامة صراطه ولا تنحرفوا عن سبيل السلامة التي هي جادة الشريعة والمصطفوية أصلا { إنه } سبحانه بذاته { بما تعملون } من جميع الأعمال الموجبة للعدالة والانحراف { بصير } [هود: 112] لا يخفى عليه شيء.
ولصعوبة الامتثال بهذه الآية الكريمة قال صلى الله عليه وسلم:
" شيبتني سورة هود ".
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: " هذه الآية قصمت ظهور أنبياء الله وأوليائه ".
{ ولا تركنوا } أي: لا تميلوا ميلة ولا تلفتوا التفاتا قليلا أيها المستوون على صراط الله، المستقيمون لجادة عرفانه { إلى الذين ظلموا } أي: خرجوا عن حدود الله الموضوعة لإصلاح أحوال عباده { فتمسكم النار } بأدنى الميل والالتفات { وما لكم من دون الله من أوليآء } ينقذونكم من النار لو توالونهم أو تداومون الميل إليهم { ثم } اعلموا أنكم لو اخترتم موالاة الظلمة واتخذتموهم إخوانا كسائر المؤمنين { لا تنصرون } [هود: 113] ولا نقذون من النار، فعليكم ألا تتخذوا الكافر أولياء من دون المؤمنين.
{ وأقم الصلاة } أي: أدم الميل والركمون إلى الله بجميع الأعضاء والجوارح في جميع الأوقات والحالات، سيما { طرفي النهار } أي: قبل الطلوع وقبل الغروب، فإنهما وقتان محفوظان عن وسوسة الأوهام، حاليان غالبا عن الشواغل { و } عليكم أن تختلس لتوجهيك { زلفا } أي: ساعات { من } آخر { اليل } قريبة بالنهار، فإن إقدامك عليها وإقامتك لها حسنات، خصوصا في تلك الساعات الخالية عن وساوس الخيالات { إن الحسنات } الخالية عن الرياء والرعونات { يذهبن السيئات } وتصفي صاحبها عن كدر الغفلات { ذلك } أي: الامر بالاستقامة على المتعظين، الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويتعظون بجميع ما ج رى عليهم من الخصب والرخاء، إنما هو { ذكرى } وعظة وتذكرة شافية { للذاكرين } [هود: 114] الله في عموم أحوالهم وحالاتهم.
وبالجملة: { واصبر } على أذاهم واكظم غيظك، فإن الصبر على الأذى من أعظم الحسنات { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [هود: 115] سيما على من أساء عليه.
[11.116-119]
{ فلولا } أي: فهلا { كان من القرون } اللات خلون { من قبلكم } وفيها { أولوا بقية } أي: ذوو رأي ونهية وفضل وتدبير { ينهون } برأيهم وتدبيرهم { عن الفساد } الواقع { في الأرض } ولكنا ما أبقينا عليها منهم { إلا قليلا ممن أنجينا منهم } أي: من عقلائهم، ليتبع لهم العوام فينجوا من الآثام { و } مع ذلك لم يتبعوا حتى ينجوا، بل { اتبع الذين ظلموا } أنفسهم بالعرض على عذا ب الله والخروج عن مقتضى حدوده ب { مآ أترفوا فيه } أي: المترفهة المتنعمة من ذوي اللذات والشهوات، فاهتموا بتحصيل أسبابها { وكانوا } بميلهم إلى الهوى واللذات { مجرمين } [هود: 116] مستحقين لأنواع العقوبات.
{ وما كان ربك } أي: ليس من سنته وجري عادته { ليهلك القرى بظلم } بشرك وكفر صدر عنهم { وأهلها مصلحون } [هود: 117] أي: والحال أن أهلها مصلحون على الأرض لا مفسدون فيها؛ يعني: لا يأخذهم سبحانه بمجرد حق الله بلا انضمام حقوق العباد إليه، بل إنما أخذهم الله حين فشا الفسوق والمراء، وظهر الفساد والجدال بين العباد.
كيف { ولو شآء ربك } من غاية لطفه لعباده { لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين } [هود: 118] متفقة على التوحيد بلا مخالفة منهم.
{ إلا من رحم ربك } وجعل فطرته على صرافة التوحيد { ولذلك } التوحيد والعرفان { خلقهم } وجبلهم { و } بالجملة: { تمت كلمة ربك } بوضع الاختلاف بين استعدادات عباده حسب تجلياته وشئونه على مقتضى أوصافه وأسمائه المتقابلة بحسب الكمال { لأملأن جهنم } التي أعدت للأشقياء المردودين المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية والقسط الحقيقي { من الجنة } أي: الشياطين { والناس } التابعين لهم والمقتفين أثرهم { أجمعين } [هود: 119] أي: منهما جميعا.
[11.120-123]
{ وكلا } أي: كل قصة { نقص عليك } يا أكمل الرسل { من أنباء الرسل } العظام من جملة { ما نثبت به } ونقرر على التوحيد { فؤادك } إذ بكل قصة من القصص المذكورة ينشرح صدرك للتوحيد { وجآءك في هذه الحق } أي: الشهود والانكشاف التام خاصة { وموعظة وذكرى للمؤمنين } [هود: 120] الذين يصدقونك ويقتفون أثرك.
{ وقل للذين لا يؤمنون } بك وبدينك ويكتابك مماراة لهم ومباهلة { اعملوا على مكانتكم } أي عمل شئتم { إنا عاملون } [هود: 121] على مكانتنا وشأننا بتوفيق اللهز
{ وانتظروا } بأي شيء انتظرتم { إنا منتظرون } [هود: 122] العلم عند الله.
إذ { ولله } لا لغيره { غيب السموت والأرض } أي: الإطلاع عليهما وعلى مكنوناتهما { وإليه } لا إلى غيره { يرجع الأمر كله } إذ لا شيء ولا أمر إلا هو { فاعبده } حق عبادته { وتوكل عليه } حق التوكل والتفويض { وما ربك } يا أكمل الرسل المحيط علمه بجميع ذرائر الأكوان إحاطة حضور { بغافل عما تعملون } [هود: 123] من الإخلاص في العبادة والتبتل والتوكيل والتفويض والرضاء ةالتسليم.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المأمور بتهذيب الأخلاق من الرذائل، والأوصاف من الذمائم، والأوصاف والأفعال من القبائح، والأقوال من الكواذب، والأطوار من المخالفة المنافية لصرافة التوحيد أن تستقيم بعزائمك هذه على الوجه المأمور لنبيك الذي هو قبلة لجميع مقاصدك بقوله تعالى: { فاستقم كمآ أمرت } [هود: 112] أي: فاعتدل بجميع ما صدر عنك، فلك أن تقتفي أثره صلى الله عليه وسلم في جميع حالاتك من امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتهذيب الأخلاق؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم زبدة أرباب التوحيد الواصلين بمقعد الصدق ومنزل التفريد، والسابقون واللاحقون كلهم يقتبسون من مشكاة أنواره صلى الله عليه وسلم.
فعليك أيها المستعد المستشرد من الكلام المجيد أن تضبط جميع أحوالك على الاستقامة والاعتدال، وتجتنب عن كلا طرفي الإفراط والتفريط، وتستعيذ بالله عن مداخلة الرياء والسمعة المنافقيين للإخلاص.
واعلم أن خير فرينك في طريقك هذا الرضا والتسليم والتفويض إلى العزيز العليم، ولك العزلة عن الخلطة والانخراط في سلك أهل الثروة والغفلة، والقناعة بالكفاف والعزوبة بالعفاف.
وعليك ألا تفرق خاطرك وهمك في أمور دنياك ولو لحظة حتى لا تورثك هما كثيرا وحزنا طويلا؛ ذ المسافر في منزله لا يتصرف إلا مقدار مقيله، أما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: " كن في الدنيا كأنك غريب "؟.
أو: " اشدد حيازيمك للموت والرحيل كأنك عابر سبيل ".
وبالجملة: لا تغتر بحياتك في دار الغرور، وعد نفسك من أصحاب القبور، فإنه دأب أهل السرور، ديدنة أرباب الحضور.
[12 - سورة يوسف]
[12.1-6]
{ الر } أيها الإنسان الكامل اللائق، الرشيد لرفع لواء سرائر الربوبية ورموز التوحيد، وتمييز أجل لباب الرؤيا والروايات الواردة لتبيينه عن قشورها { تلك } العبر والأمثال والقصص والآثار المذكورة لك فيمايتلى عليك يا أكمل الرسل لتأييدك وارتفاع شأنك { آيات الكتاب المبين } [يوسف: 1] الذي هو حضرة علمنا المشتمل على جميع مراداتنا ومقدوراتنا.
{ إنآ } من مقام جودنا ولطفنا { أنزلناه قرآنا } منظما على صور الألفاظ والعبارات، مترجما عما عليه الأمر في حضرة علمنا الحضوري { عربيا } أسلوبه عاناية منا إليكم { لعلكم تعقلون } [يوسف: 2] معناها وتطلعون على مرموزاتها وإشاراتها وتطرحون عقولكم الموهوبة لكم لكشف سرائرها وخفياتها.
{ نحن } من كمال لطفنا معك { نقص عليك } يا أكمل الرسل، تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك { أحسن القصص } استماعا وأكملها انتفاعا وأشملها عبرة وأتمها فائدة وأعمها عائدة؛ إذ الفطن اللبيب استفاد منها من العبر والتذكيرات والرموز والإشارات ما يكفي مؤونة سلوكه في أمر دينه لو كا من ذوي الرشد وأهل الخبرة والبصيرة، وإنما علمناه لك ونبهناه عليك ملتبسا { بمآ أوحينآ } أي: بأيحائنا وإنزالنا { إليك هذا القرآن } المخبر عن المغيبات المكنونة في حضرة علمنا { وإن كنت } في نفسك { من قبله } أي: قبل وحينا وألهامنا إياك { لمن الغافلين } [يوسف: 3].
اذكر يا أكم الرسل { إذ قال يوسف لأبيه } حين بلغ الحلم وترقى من الطفولية: { يأبت } ناداه تحننا إليه { إني رأيت } في المنام { أحد عشر كوكبا } من الكواكب العظام { والشمس والقمر } أيضا معهن { رأيتهم لي ساجدين } [يوسف: 4] واضعين جباههم على تراب المذلة عندي تعظيم وترحيبا - جمعها جمع العقلاء باعتبار ما يؤول إليه ويؤول به - ثم لما تفرس أبوه من الرؤيا ما تفرس، بادر إلى نهيه عن الإفشاء والانتشار لإخوته حيث { قال } له قبل أن يشتغل بتأويلها وتعبيرها: { يبني } صغره؛ تلطفا له وإشفاقا عليه وتخوفا من كبد إخوته { لا تقصص } ولا تذكر { رؤياك } التي رأيتها { على إخوتك } لئلا يحسجوا لك من ارتفاع شأنك { فيكيدوا لك كيدا } بإغواء الشيطان إياهم ويختالوا لمقتك وهلاكك، حسدا لك ولعلو شأنك { إن الشيطان } المغوي المضل { للإنسان عدو مبين } [يوسف: 5] ظاهر العداوة، محيل عظيم، يعاديهم في لباب الصدقة ويفسدهم في سورة الإصلاح.
ثم لما سارع يعقوب عليه السلام بالهي عن الانتشار والإفشاء تحذيرا وتخويفا له من كيد إخوته، اشتغل بتأويل رؤيته، فقال: { وكذلك } أي: مثل إراءتك هذه الرؤيا وتخصيصك بها { يجتبيك ربك } أي: ينتخبك من بين الناس ويخصك بالرئاسة العظمى والمرتبة العليا، وهي النبوة والنيابة الإلهية { و } بعدما يجتبيك ويصطفيك { يعلمك من تأويل الأحاديث } أي: يخصصك بعلم الرؤيا وتعبيرها إلى حيث انكشف لك حضرة الخيال انكشافا تاما { و } بالجملة: { يتم نعمته عليك و } بواسطتك { على ءال يعقوب } أي: بنيه وأحفاده ومن ينتمي إليه وإن سفل { كمآ أتمهآ على أبويك } أي: جديك { من قبل } في سالف الزمان؛ يعني { إبراهيم وإسحاق } أعطاهما من الإنعام والأفضال ما لم يعط أحدا من الخلة والإنجاء والإنقاذ والفدية والخلاص، وغير ذلك من النعم الجسام { إن ربك } الذي رباك بأنواع اللطف والكرم { عليم } بعلمه الحضوري لاستعدادات عباده على مقتضى ما ثبت في لوح قضائه إجمالا { حكيم } [يوسف: 6] في صورة تفضيه على وفق إجماله، لا يشذ عن حيطة علمه شيء.
[12.7-12]
واعلم يا أكمل الرسل أنه { لقد كان في } قصة { يوسف وإخوته } وما جرى بينهم من الحيل والمخادعات وإسقاط المروءة والخيانات، والإنابة والرجوع منها إلى الله في الخلويات، وإظهار العدم والاستحياء من الله، ومنه يوسف وأبيه { آيات } دلائل واضحات، وشواهد مفصحات عن أسرار التوحيد { للسائلين } [يوسف: 7] لو تأملوا في رموزها وإشاراتها واعتبروا منها.
اذكر لهم يا أكمل الرسل: { إذ قالوا } أي: إخوة يوسف حين بثوا الشكوى من أبيهم في خلواتهم، حاسدين على يوسف أخيهم: { ليوسف وأخوه } بنيامين، أضافره لكونه من أمه { أحب إلى أبينا منا } يؤانس معهما ويتحنن إليهما { ونحن عصبة } فرقة ذوو قوة وكفاية تستحق وتليق أن يحبنا ويلتفت إليها، وبالجملة: { إن أبانا } في تفضيل المفضول وترجيح المرجوح { لفي ضلال مبين } [يوسف: 8] ظاهر المخالفة للعقل والعرف.
فعليكم أيها الإخوان أن تتأملوا في أمر أبيكم، وتتشاوروا لمقت يوسف وهلاكه حتى لا يحلق العار عليكم { اقتلوا يوسف } حتى ييأتس أبوكم منه ويقبل إليكم بالكلية { أو اطرحوه أرضا } بعيدة عن العمران غاية البعد حتى ينساه أبوه، وحينئذ { يخل لكم وجه أبيكم } أي: يخص ويخلص لكم مواجهة أبيكم خاليا عن أغياركم، ويقتصر حينئذ التفاته وتحننه نحوكم { وتكونوا من بعده } أي: بعد فقد يوسف عن نظر أبيكم وغيبته من عنه { قوما صالحين } [يوسف: 9] لخدمته وصحبته ومؤانسته، أو المعنى بأن تتوبوا بعدما صدر عنكم هذه الجريمة، ولتكونوا من بعده قوما صالحين تائبين.
وبعدما تشاوروا في مقت يوسف وطرحه وطرده { قال قآئل منهم } وهو يهوذا وكان أ؛سنهم رأيا " { لا تقتلوا يوسف } إذ نحن من عترة الأنبياء، لا يليق بنا قتله بلا رخصة شرعية { و } إن أردتم أن تدفعوه من عند أبيكم { ألقوه في غيبت الجب } الذي على متن الطريق { يلتقطه } أي: يأخذه ويذهب { بعض السيارة } أي: بعض السائرين في أقطر الأرض، الواردين على الماء، فلا طريق لكم لطرده وطرحه سوى هذا { إن كنتم فاعلين } [يوسف: 10] قاصدين جازمين أن تفعلوا معه ما يبعده عن وجه أبيه.
وبعدما سمعوا من يهوذا ما سمعوا واستقرار رأيهم على رأيه ، فأخذوه يحتالون ويمكرون لينالوا ما قصدوا، فاجتمعوا يوما عند أبيهم تحننا عليه وتواضعا { قالوا } له على سبيل الشكوى وإظهار الحزن: { يأبانا } نحن بنوك وخادموك، ويوسف أخونا وقرة عيننا وقوة ظهرنا { ما لك } أي شيء من السوء منا عرض لك ووصل إليك { لا تأمنا } أي: لا تجعلنا أمناء مشفقين { على يوسف وإنا } في أنفسنا { له لناصحون } [يوسف: 11] مشفقون حافظون مريدون الخير له.
ثم لما تفرسوا بأن أثر كلامهم في أبيهم، ولاح منه أمارات الرضا والتسليم، أخذوا في المكر حيث قالوا متضرعين إليه متحنين نحوه: { أرسله معنا غدا } نخرج إلى الصحراء مستنشقين { يرتع } ويتفكه من أنواع الفواكه { ويلعب } بأنواع اللعب من الاستباق والانتضال؛ تفريجا له وتفريحا للقلب { و } لا تخف من أن يلحقه مكروه { إنا له لحافظون } [يوسف: 12] يجمعنا من المكروهات.
[12.13-18]
ثم لما بغالوا وألحوا { قال } أبوهم: { إني } من شدة محبتي وشوقي إليه، وتحنني وعطفي نحوه { ليحزنني } مفارقته { أن تذهبوا به } مع ذلك { وأخاف أن يأكله الذئب } لأن ارضنا مذئبة { وأنتم } لشدة شغلكم على الرتع واللعب { عنه غافلون } [يوسف: 13] حينئذ، ذاهلون من حضانته وحفظه.
{ قالوا } على سبيل الاستبعاد والاستنكار مقسمين؛ تعزيرا عليه وتأكيدا لمكرهم وخداعهم: والله { لئن أكله الذئب ونحن عصبة } أي: جماعة أقوياء ذوو عة وعدة وقدرة وقوة { إنآ إذا لخاسرون } [يوسف: 14] ضعفاء ذليلون مغبونون، قالوا ذلك على سبيل التشدد وإظهار الجرأة والشجاعة، كأهم يستدلون على عدم وقوع المحذر به.
{ فلما } احتالوا وبالغوا في الحيلة والمكر إلى أن { ذهبوا به } أي: بيوسف إلى الصحراء، فاشتغلوا بضربه وشتمه والقهر عليه وأنواع العذاب والعقاب، وكادوا أن يقتلوه ظلما وزورا، قال لهم يهوذا: أنتم عهدتم ألا تقتلوه، فما هذه المبالغة ةالاشتداد، أما تستحيون من الله؟ { و } بعدما قال لهم يهوذا هذا { أجمعوا } واتفقوا { أن يجعلوه } ويطرحوه { في غيبت الجب } وهو جب معروف مشهور بجب يوسف، على ثلاثة أميال من صفد يعقوب، قريب من جسر يقال له: جسر يعقوب بفرسخ تقريبا، فقربوه على الجب وعزموا إلقاءه فيها، فتعلق وسف بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا عنه قميصه؛ ليطلخوه بالدم لكذب، فألقوه مربوطة يديه على الماء وكان فيها صخرة عظيمة جلس عليها عريانا قلقا، حائرا، حزنا، مصطربا، مستوحشا { و } بعدما ألقوه وقضوا الطر أزلنا عنه وحشته وكربه بأن { أوحينآ } من مقام لطفنا وجودنا { إليه }: لا تغتم أيها الصديق من صنيع هؤلاء الغواة الهالكين في تيه الحسد والعناد، إنا بمقتضى كرمنا وأحساننا لنفضلك عليه ونمكنك على انتقامهم إلى حيث { لتنبئنهم } وتحدثنهم معاتبا عليه، منتقما منهم { بأمرهم هذا } معك وحيلتهم ومكرهم مع أبيك { وهم } في تلك الحالة { لا يشعرون } [يوسف: 15] أنك يوسف؛ لعلو شأنك وارتفاع قدرك وسلطانك، اصبر أيها الصديق على أذاهم في الحال، فإن لك السلطنة والسطوة عليهم في المآل.
{ و } بعدما فعلوا بيوسف ما فعلوا { جآءوا أباهم } ملتبسين محتالين { عشآء } في آخر اليوم { يبكون } [يوسف: 16] صاحئين، صارفين، فزعين؛ تغريرا على أبيهم.
فلما سمع يعقوب صياحهم اضطرب فقال: ما لكم؟ وأين يوسف؟ { قالوا يأبانآ إنا ذهبنا نستبق } أي: نتسابق بالعدو والرمي واستمر تسابقنا ومالنا { و } قد { تركنا يوسف عند متاعنا } لحفظها، فغفلنا عنه بغرور السباق { فأكله الذئب } وكنت نظرت من أول الأمر فوقع { و } نحن نعلم { مآ أنت } يا أبانا { بمؤمن } أي: مصدق { لنا ولو كنا صادقين } [يوسف: 17] فيما أخبرنا لك؛ لسوء ظنك بنا وفرط محبتك بيوسف.
{ و } بعدما تفرسوا منه الإنكار والاستبعاد { جآءوا على قميصه } معه { بدم كذب } يعني: جاءوا مثبتين لدعواهم بدم كذب ملطخ على قميصه، مفترين على الذئب بأنه أكله، وبعدما جاءوا بالقميص الملطخ، طلب منهم ابوهم، فألقاه على وجهه فبكى بكاء فظيعا فجيعا، وتمادى في البكاء زمانا طويلا حتى احمر وجهه من الدم الملطوخ به، ثم كشف القميص فرآه لم يمزق، فقال: ما رأيت ذئبا أحلم من هذا الذئب، أكل ابني ولم يمزق قيمصه! ثم { قال } متوجها إليهم: ما جئتم به معتذرين علي ليس بمطابق للواقع { بل سولت } سهلت ويسرت { لكم أنفسكم أمرا } بإلقاء الشيطان وتعيلمه إياكم لتعتذروا به علي { فصبر جميل } أجمل علي فيما ابتليت { والله المستعان على } احتال { ما تصفون } [يوسف: 18] بألسنتكم أيها المسرفون؛ إذ لا طاقة في تحمله إلا بعون الله وإقداره.
[12.19-22]
{ و } بعدما مضى ثلاثة أيام على الإلقاء { جاءت سيارة } رفقة وقفل عظيم يسيرون من مدين إلى مصر، فنزلوا قريب الجب { فأرسلوا واردهم } الذي كان يرد السماء للاستسقاء، وهو مالك بن ذعر الخزاعي { فأدلى دلوه } أي: ألقاها لإخراج الماء، فتدلى بها يوسف، فأخرجها فرآه { قال } مستبشرا فرحانا: { يبشرى } تعالى فهذا أوانك؛ إذ { هذا } الذي خرج بالدلوا بدل الماء { غلام } صبيح مليح في غاية الصباحة والملاحة { و } بعدما أخرجوه ومن معه من رفقائه { أسروه } وأخفوا أمره من البعض الآخر ليكون { بضاعة } لهم وقت وصولهم إلى مصر، ليشروه ويقسموا ثمنه { والله } المطلع لمخايل عباده { عليم بما يعملون } [يوسف: 19] أي: يقصدون عمله ويسرون في نفوسهم.
وبعدما اطلع أخوة وسف على قدوم السيارة ونزولهم على الجب تسارعوا نحوهم ليبيعوه لهم حتى يخلصوا منه بالكلية، فوصلوا الجب ولم يجدوه وبادروا إلى القفل فتجسسوه، فوجدوه عندهم، فقالوا لهم: هذا عبدنا قد أبق منا، إن اشتريتم نشرته على ما رضيتم، وأقر يوسف على الرقية ولم ينكر عليهم؛ خوفا من القتل { وشروه } بعدما اعترف بالرقية وباعوه { بثمن بخس } بمخوس منقوص { دراهم } لا دنانير { معدودة } أي: قليلة { و } إنما شروه بها؛ لأنهم { كانوا فيه من الزاهدين } [يوسف: 20] الراغبين المعرضين عنه، لذلئك باعوه بها.
ولما اشتراه مالك بن ذعر من إخوته بما اشتراه، ذهب به إلى مصر بضاعة، فلما وصلوا إلى مصر وأراد أن يبيعه، فسلمه إلى النخاص فباعه { وقال الذي اشتراه من مصر } وهو العزيز الذي كان على خزائن ملك مصر، واسمه: قطفير أو أطفير، حين ذهب به إلى بيته { لامرأته } زليخا أو راعيل: { أكرمي مثواه } وأحسني حاله ومعاشه، وتلطفي معه بانواع اللطف، والشفقة، إني أتفرص منه الرشد والنجابة { عسى أن ينفعنآ } بعقله ورشده وكفايته وتدبيره { أو نتخذه ولدا } يستخلف منا؛ لأنه كان عقيما فأراد أن يتبناه { وكذلك } أي: مثل ما عطفنا عليه العزيز بعد قهر إخوته وفرقة أبيه وأخيه وغربته من وطنه، ووحشته في غيابة الجب وذل رقبته { مكنا ليوسف في الأرض } أي: جعلناه متصرفا ذا قدرة واختيار في ارض مصر، ليتصرف فيها بالرشد التام والقدر الكاملة { ولنعلمه } وننبه عليه { من تأويل الأحاديث } الواقعة في عالم الكون والفساد طريق الرشد والعدالة؛ ليصل بها إلى الاعتدال الحقيقي { والله } المدبر لأمور عباده { غالب على أمره } المراد له، المتعلق بمصالح بعض عباده { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [يوسف: 21] غلبته واستقلاله في أمره وتصرفه في ملكه، لذلك اشتغلوا بخلاف مراده والسعي في إبطاله كإخوة يوسف، فلم صلوا إلى ما قصدوا.
{ ولما بلغ } يوسف { أشده } أي: كما عقله وقوته وأوانه ما بين الثلاثين والأربعين { آتيناه } إنجازا لما وعدنا عليه في سابق علمنا وقضائنا { حكما } أي: حكومة بين الناس مقارنة بين العدل والقسط { وعلما } بسرائر الأمور ورقائق المناسبات ومن جملتها تعبير الرؤيا { وكذلك } أي: مثل إيتائنا إياه من الفضائل والفواضل المقدرة له في لوح القضاء { نجزي المحسنين } [يوسف: 22] الذين يحسنون الأدب معنا في جميع حالاتهم اتقاء منا وتوجيها إلينا.
[12.23-25]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل اتقاء يوسف الصديق من الله وقت اشتعال نار الشهوة في عنفوان الشباب، حين { راودته } أي: خادعته وألحت عليه بالوقاع { التي } أي: الأمرأة التي { هو } اي: يوسف { في بيتها } وهي سيدته له حاكمة عليه، وهي زليخا امرأة العزيز واحتالت عليه أن يخرجه { عن } نزاهة { نفسه } ونجابة فطرته، وهي العصمة والعفاف إلى ما تهوى نفسها وهو الوقاع والسفاح { و } بالغتت في ذلك المكر والاحتيال إلى أن { غلقت الأبواب } السبعة يوما عليه وخلت معه في بيته { وقالت } متحننة عليه معرضة نفسها إليه: { هيت لك } أي: بادر يا يوسف إلى التعانق والجمع معي { قال } يوسف على مقتضى نجابة النبوة وطهارة الفطرة بإلهام الله إياه مع سورة شهوته ووفور أمن ميله؛ اتقاء من محارم الله ورعاية لحق من أحسن إليه: { معاذ الله } أي: أعوذ بالله معاذا وألوذ نحوه أن يعصمني عن أمثال هذه الغفلة الذميمة والديدنة القبيحة سيما مع من يربيني { إنه } أي: زوجك سيدي { ربي } يربيني بأنواع اللطف والكرم، سيما { أحسن مثواي } وأوصى لك بإحساني، فكيف أسيء في مقابلة إحسان محسني، ومولي أمري ومولي نعمي { إنه لا يفلح } ويفوز { الظالمون } [يوسف: 23] بالخير والحسنى، لو خرجوا من مقتضى الأمر الإلهي، سيما بالإساءة في معاملة الإحسان.
{ و } بعدما رد يوسف عليها أمرها { لقد همت به } أي: قصدت زليخا وتعلقت به إرادة واختيارا لتصل إلى مرادها منه { وهم } يوسف أيضا { بها } على مقتضى بشريته مع أنه لا إرادة له لمرادها ولا اختيار؛ إذا الكف عن المنهي لا بد وأن يكون عند القدرة عليه وإلا لم يكن ممدوحا ولا مستوجبا للمثوبة والقربة { لولا أن } أي: أنه { رأى برهان ربه } أي: دليله الواضح الدال على قبح الزنا وإساءة المسحن بإقاء الله إياه وإلهامه في قلبه، لهلك بنيران طغيان القوة الشهوية، لكن رآه بإراءة الله إياه، فأبى وامتنع { كذلك } فعلنا معه وألهمنا إليه { لنصرف عنه السوء والفحشآء } في مقابلة الإحسان والفحشاء بدل العصمة والعفاف { إنه } إي: يوسف الصديق { من عبادنا المخلصين } [يوسف: 24] الخالصين عن رين البشرية وشين شهوتها وغضبيتها، المنزهين عن مقتضيات القوى مطلقا.
وبعدما غلب على يوسف الاتقاء عن محارم الله على مقتضى البرهان الذي رأه بإراءة الله إياه، بادر إلى الفرار منها، وقصد أن يخرج وقصدت أيضا أن تمنعه عن الخروج { واستبقا الباب } أي: تسابقا نحوه يسبقها يوسف فأخذت ذيل قيمصه { وقدت قميصه } أي: شقت ذيله { من دبر } لأنها في عقبه، ففتح يوسف الباب، فخرجا متعاقبين مضطرين { وألفيا سيدها } أي: صادفا زوجها { لدى الباب } وعنده { قالت } مسرعة باكية على سبيل الشكاية: { ما جزآء } أي: أي شيء مكافأة { من أراد بأهلك سوءا } أي: قصد الزنا معها مكرها { إلا أن يسجن } أي: غير أن يقيد ويدخل في السجن { أو عذاب أليم } [يوسف: 25] مؤلم أشد من السجن.
وإنما فعلتها وبادرت إلى الشكوى متباكية؛ لتظهر براءتها وعصمتها عند زوجها وتحمل الخطأ على يوسف؛ لتنتقم عنه أو تلينه وتضطره على نجاح مرادها، مع أنها قد شغفها حبا ولم تصبر عنه لحظة.
[12.26-29]
{ قال } يوسف مستحييا من ربه: يا سيدي ما لي في ذلك خطأ { هي } بنفسها { راودتني } أي: خادعتني { عن نفسي } وبعما تعارضا عند السيد { وشهد شاهد } هو صبي في المهد أبهم في الشهادة وأجمل؛ لأنه كان { من أهلهآ } وابن عمها أو ابن خالها فقال الشاهد: { إن كان قميصه } أي: قميص يوسف { قد من قبل } أي: شق من قدامه { فصدقت } زليخا { وهو } أي: يوسف { من الكاذبين } [يوسف: 26] في دعوى البراءة والتنزيه { وإن كان قميصه قد من دبر } أي: خلف { فكذبت } هي في دعوى العصمة والعفة { وهو من الصادقين } [يوسف: 27] فما ادعى من العفة والبراءة.
{ فلما رأى } السيد { قميصه قد من دبر } تفرس إلى برءاته وطهارة ذيله مع أن الشاهد أيضا ليس من أرباب الولاية؛ إذ هو صبي رضيع في المهد لم يتكلم إلا بهذا فكوشف من نجابته وعفته ما كوشف، فتوجه نحو زوجته { قال } مقرعا عليها معرضا: { إنه } أي: ما وقع { من كيدكن } وحيلتكن أيتها المحتالات { إن كيدكن } ومكركن أيتها الماكرات المفسدات { عظيم } [يوسف: 28] من كيد الشيطان ومكره؛ لأن الشيطان يستعين ويستمد منكن وقت اضطراره.
ثم لما انكشف الامر من عند العزيز، وجزم ذيل يوسف ونجابة طينته، بادر إلى ستره وإخفائه؛ خوفا من الفضيحة، فقال مناديا ليوسف أولا لصدقه وطهارته: { يوسف } أي: يوسف { أعرض عن هذا } التكلم واكتمه في سرك، فقد ظهر عندي صدقك وبراءتك { واستغفري } يا راعيل أو زليخا { لذنبك } في هذا الأمر { إنك كنت من الخاطئين } [يوسف: 29] المتعمدين القاصدين على الجريمة القبيحة الدنيئة الشنيعة: جمعه جمع الذكور للتعذيب.
[12.30-32]
{ و } بعدما شاع أمرهما وانتشر قصتهما بين الأنام { قال نسوة } جماعة من النساء من صناديدهن { في المدينة } على جه التشنيع والتقريع: { امرأة العزيز تراود } تخادع وتحتال { فتاها عن نفسه } طلبا لمواقعته إياها ومجامعته معها؛ لأنها { قد شغفها حبا } أي: دخل عن جميع شغاف قلبها وشقوقه، فصار قلبها ممتلئا بمحبته وعشقه؛ لذلك راودته فامتنع عنها وافضحها { إنا لنراها } بقبح فعلها وسوء صنيعها { في ضلال مبين } [يوسف: 30] من لحوق العار وفشو الفضيحة، سيما مع الرقيق وكسر عرض العزيز بن الأنام.
{ فلما سمعت } راعيل { بمكرهن } وغيبتهن وتخطئتهن خفية { أرسلت إليهن } قواصد؛ ليدعوهن على سبيل الضيافة { وأعتدت لهن } اي: هيأت لكل واحدة منهم في بيتها { متكئا } على حدة ليتكئن عليها على ما هو عادة بلدتهم، ووضعت عند كل متكأ طبقا من الفواكة مثل الكمثرى والتفاح وغيرهما { وآتت كل واحدة منهن } أي: على عدد رءوسهن { سكينا } في غاية الحدة والمضاء، وبعد تهيئة أماكنهن على الوجه المذكور جئن وجلسن عليها واشتغلن بأكل الفواكه وتنقية قشورها بالسكين { و } بعد ذلك { قالت } راعيل ليوسف: { اخرج عليهن } فخرج { فلما رأينه أكبرنه } أي: كبرن الله برؤية جماله وحسنه البديع وبهائه؛ إذ يتشعشع ويلمع ضوء وجهه على الجدار مثل الشمس والقمر.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" رأيت يوسف الصديق عليه السلام للة المعراج كالقمر ليلة البدر ".
ومن كمال حيرتهن على حسنه وجماله بهتن بأجمعهن { وقطعن أيديهن } بالسكاكين أي: كل بسكينها { و } بعدما أفقن { قلن } مستبعدات مستغربات { حاش لله } أي: تنزه ذاته أن يعجز عن خلق مثله، غير أنه { ما هذا } الهيكل المرأي { بشرا } إذ لا نرى بشرا على هذه الصورة { إن هذآ } أي: بل ما هذا المشاهد المحسوس { إلا ملك كريم } [يوسف: 31] نجيب مجسم من الروح لا من الطين.
وبعدما تفرست راعيل منهن ما تفرست من كمال الحيرة والحسرة والوله والهيمان برؤيته { قالت فذلكن } أي: فهذا ذلك العبد الكنعاني { الذي لمتنني فيه } أي: في مراودته والافتتان به وبمحبته { و } لما رأت راعيل ما رأت من نفسها بل أشد منها، أقرب عندهن ما فعلت معه؛ لتستعين منهن ويحلتن في تليين قلبه، فقالت منحسرة: { لقد راودته عن نفسه } مرارا كثيرة { فاستعصم } وأبى عن القبول من كمال عفته وعصمته { و } الله { لئن لم يفعل مآ آمره } أي: ما أنا آمر به من المواقعة والمجامعة، ولمي يقبل قولي ولم يقضي حاجتي { ليسجنن } أيك ليسجننه { وليكونا من الصاغرين } [يوسف: 32] الذليلين المهانين، الباقين ي السجن مدة مديدة.
فلما قالت راعيل ما قالت وأقسمت، التفتن بأجمعهن على إعانتها وإنجاح مرادها منه وألحن، واقترحن على يوسف بقبول قولها والإتيان بمطلوبها إلحاحا بليغا، بل أضمرن في أنفسهن كل منهن إتيانه عليهن بمقتضى النساء.
[12.33-37]
وحين رأى يوسف اتفاقهن واجتماعهن على منكر، ناجى ربه من شرهن وتعوذ نحوه من فتنتهن حيث: { قال رب } يا من رباني بأنواع اللطف و الكرم والعصمة والعفاف { السجن } الذي أوعدتني به هذه المرأة { أحب إلي } وآثر عندي { مما يدعونني إليه } هؤلاء البغيات { وإلا تصرف } أي: وإن لم تصرف بفضلك وعصمتك { عني كيدهن } ولم تحفظني من مكرهن، بإلقاء البرهان الفعلي والكشفي في سري { أصب } أي: أمل وأتحنن نحوهن على مقتضى الوقى البهيمية { إليهن وأكن } حينئذ { من الجاهلين } [يوسف: 33] المتابعين لشيطان الشهوة، الخارجين عن مقتضى العقل المفاض من المبدأ الفياض.
وبعدما أخلص في مناجاته وأبر في رجوعه وعرض حاجاته { فاستجاب له ربه } ما ناجاه { فصرف عنه كيدهن } وحفظ عن مكرهن { إنه } بذاته وأوصافه وأسمائه { هو السميع } لمناجاة عباده { العليم } [يوسف: 34] بحاجاتهم منها.
{ ثم بدا } أي: ظهر ولاح { لهم } للعزيز وأصحابه { من بعد ما رأوا الآيات } أي: بعد رؤيتهم علامات الصدق وأمارات العصمة والعفاف، سيما شهادة الطف الذي شهد بطهارته وصدقه، مع أنه لم يعهد من أمثال هذا، فتشاوروا في أمره وتأملوا في شأنه، فاستقر رأيهم { ليسجننه حتى حين } [يوسف: 35] لئلا يلحق العار عليهم ولا ينتشر بين الأنام صدقه وعصمته وقبح صنيعها وفاحشة فعلها، بل يحسبون أنه مجرم وراعيل متهمة؛ لذلك حملوا الجرم عليه، ورموه افتراء، فأدخلوه السجن انتقاما وجزاء؟
{ ودخل معه } أي: يوسف { السجن } في تلك المدة { فتيان } من أعوان الملك شرابيه وخباره بتهمة اتهما بها، فلما رأيا منه الرشد والنجابة وصفاء الصورة والمعنى { قال أحدهمآ } وهو الشرابي مستعيرا عنه حاكيا عما مضى " { إني أراني } في المنام { أعصر } ماء العنب ليصير { خمرا وقال الآخر } وهو الخباز: { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا } على طبق { تأكل } وتنهش { الطير منه نبئنا بتأويله } أي: أخبرنا بما يؤول إليه ويعبر به رؤيانا { إنا نراك } في بادئ الرأي { من المحسنين } [يوسف: 36] المصلحين لمفاسد الأنام وتحمل ما يشكل عليهم، ومن جملتها تعبير الرؤيا.
ثم لما تفرس منهم الإخلاص وحسن الظن بالنسبة إليه، بادر قبل الاشتغال بالتعبير إلى تمهيد مقدمة دالة على التوحيد والإيمان والمعرفة والإيقان، منبهة على استقلال الحق الحقيق بالحقية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وجميع آثاره الحادثة في الكائنات والفاسدات، حيث { قال } أولا { لا يأتيكما } في المستقبل { طعام ترزقانه } لسد الجوعة وتقويم المزاج { إلا نبأتكما } وأخبرتكما { بتأويله } وتبيين ماهيته وكيفية تأثيره وتوليده من الأخلاط وتقويته للمزاج { قبل أن يأتيكما } بمدة { ذلكما } أي: تعبير رؤياكما وتأويل طعامكما { مما علمني ربي } أي: من جملة الأمور التي علمني ربي من لدنه بأن أطلعني على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات، والازدواجات الواقعة بين أجراء العالم وجزئياتها على التفصيل المشروح، المثبت في الأعيان الثابتة وعالم الأسماء والصفات المنبسطة على ظواهر الأكوان { إني } بعدما انكشفت الغطاء عن بصري وارتفع الحجب عن بصيرتي { تركت } بتوفيق الله وإلهامه { ملة قوم } ذوي حجب { لا يؤمنون بالله } وتوحيده واستقلاله في الوجود { و } مع ذلك { هم بالآخرة } أي: في النشأة المعدة لجزاء ما جرى عليهم في هذه النشأة { هم كافرون } [يوسف: 37] منكرون.
[12.38-41]
{ واتبعت } في سلوكي طريق التوحيد { ملة آبآئي } وأجدادي { إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ } أي: ما صح وجاز لنا معاشر الأنبياء { أن نشرك بالله } المتوحد بذاته وأوصافه وأسمائه، المستقل في وجوده وحقيته { من شيء } لا وجود له أصلا سوى العكسية والظلية { ذلك } الشهود والانكشاف { من فضل الله علينا وعلى الناس } الذين أرسلنا إليهم وبعثنا بينهم { ولكن أكثر الناس } الناسين حقوقهم نعم الله { لا يشكرون } [يوسف: 38] نعمة الإرسال وبعثة الرسل، ولا يواظبون على أداء شكرها.
ثم لما مهد يوسف لصاحبه طريق التوحيد ونبه عليهما السلوك عليه، أشار إلى دعوتهما إليه على سبيل التدريج كما هو دأب الأنبياء، فقال مناديا لهما ليقبلا على بول قوله: { يصاحبي السجن } الساكنين فيه، المصاحبين معي { ءأرباب متفرقون } متكثرون في العدد متماثلون في عدم القدرة والاختيار { خير } عندكم وأحق لعبادتكم وانقيادكم { أم الله الواحد } المتوحد في ذاته، المستقل في ألوهيته وربوبيته، المستغني في ذاته عن المظاهر مطلقا { القهار } [يوسف: 39] الغالب على جميع السوى والأغيار.
وأعلما أيها الأخوان { ما تعبدون } أنتما ومن على دينكما في مصر من عبدة الآلهة الباطلة { من دونه } أي: من دون الله الواحد الأحد الصمد، الذي لا شريك له في الوجود أصلا { إلا أسمآء } مطلقة على الأظلال معدومة، وعكوسا موهومة { سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } من تلقاء نفوسكم آلهة ومعبودات، مع أنه { مآ أنزل الله } المنزل للكتب والمرسل للرسل { بها من سلطان } أي: بشأن آلهتكم من حجة وبرهان عقلي ونقلي تى تكون تمسكا لكم في اتخاذكم هؤلاء التماثيل آلهة مستحقة للعبادة والإطاعة { إن الحكم } أي: ما الحكم المطلق والاستحقاق التام للإطاعة والانقياد وعبادة العباد { إلا لله } المتردي برداء العظمة والكبرياء، المتفرد باجللال والبقاء، المتوحد في البسطة والاستيلاء؛ إذ هو المستحق بالعبادة، المستقبل بالربوبية؛ لأنه في ذاته هو ولا شيء ساه، ولا إله إلا هو مع { أمر } فيما أنزل من الكتب على أنبيائه ورسله { ألا تعبدوا } ولا ترجعوا أيها الأظلال الهالكة والعكوس الباطلة { إلا إياه } إذ به وبامتداد أظلال أوصافه وأسمائه ظهرت أشباحكم، ولاحت تماثيلكم وأرواحكم، فلا رجوع لكم إلا { ذلك } أي: طريق التوحيد، هو { الدين القيم } أي: الأقوم والأعدل، الذي لا عوج فيه أصلا { ولكن أكثر الناس } لكثافة حجتهم وغلظ غيظتهم وأغشيتهم { لا يعلمون } [يوسف: 40] ولا يفهمون سر سريان الوحدة في الكثرة، فحجبوا بالمظاهر المتكثرة عن الوحدة الظاهرة فانصرفوا عن طريق الحق إلى الباطل
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
ثم لما دعاهما إلى الإيمان والتوحيد، ونبه عليهما طريقه، اشتغل بتعبير رؤياهما، فقال مناديا لهما أيضا: { يصاحبي السجن أمآ أحدكما } وهو الشرابي { فيسقي ربه } أي: سيده وملكه { خمرا } على ما كان عليه بلا احتياج إلى تأويل { وأما الآخر } وهو الخبار { فيصلب فتأكل الطير من رأسه } هذا ما ظهر لي في تأويل رؤياه بتوفيق الله إياي: وبعدما سمعا منه التأويل قالا: كذبنا فيما قلنا لك واستعبرنا منك، قال يوسف عليه السلام: { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } [يوسف: 41] أي: حكم حكما مبرما على الوجه الذي ذكر في حضرة علم الله ولوح قضائه؛ لأن الأمر الذي جرى على لسان الأنبياء لا بد أن يقع؛ إذ لا جريان للكذب وعدم المطابقة في ألسنة الأنبياء والرسل.
[12.42-44]
{ وقال } يوسف { للذي ظن أنه ناج منهما } وهو الشرابي: { اذكرني عند ربك } أي: اذكر حالي لملك عند ملاقاتك، وقل له أن رجلا سجن بلا جرم صدر عنه، وأوصاه به على طمع أن يستخلصه ويستكشف عن أمره، ولم يستثن مع أن المناسب بحاله ورتبته العلية الاتكال على الله، والتبتل نحوه بلا التفات إلى الغير أصلا، والرضا بما جرى عليه من القضاء، والتصبر على هجوم البلاء وتزاحم المكروهات، فضلا عن أن يستعد بلا استثناء، وذلك قبل الوحي { فأنساه الشيطان } للناجي { ذكر ربه } أي: ذكر حال يوسف عند الملك حين جلس في مجلسه وسقى له خمرا { فلبث } وبقيى يوسف بسبب ترك الاستثناء والاستخلاص من المصنوع الأرذل الأنزل والاستعانة منه { في السجن } بعد لبثه خمسا { بضع سنين } [يوسف: 42] أي: سبع بعد الخمس؛ مجاراة عله وانتقاما عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس ".
{ و } بعدما لبث في السجن بضعا هيأ سبحانه سببا بأن { قال الملك } وهو ريان بن الوليد لأصحابه يوما: { إني أرى } في المنام { سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و } أرى أيضا { سبع سنبلات خضر و } سبعا { أخر يابسات } قد التففن على السبع الخضر فغلبن عليها، من في ملكه من أهل التنجيم والتكهن وجميع العلماء والصلحاء وعرضها عليهم وقال: { يأيها الملأ أفتوني } في رؤياي؛ أي: عبروها وأولوها { في رؤياي إن كنتم للرءيا تعبرون } [يوسف: 43] إي: إن كنتم من أهل التعبير والصور والعبرة والاعتبار.
فلما سمعوا قوله وتأملوا في رؤياه { قالوا } بأجمعهم متفقين: هذه { أضغاث أحلام } أي: أباطيل صورتها المتخلية وخالطتها تخليطا إلى حيث لا يقبل التعبير والتأويل أصلا { وما نحن بتأويل الأحلام } الباطلة { بعالمين } [يوسف: 44] معبرين.
[12.45-49]
{ و } بعدما عجز الملأ عن تعبير رؤيا الملك، واجتمعوا على أنها أضغاث أحلام { قال الذي نجا منهما } أي: من صاحبي السجن، وهو الشرابي الموصى له بالذكر فنسي { وادكر } بهذا التقريب ما أوصى أنه يوسف { بعد أمة } أي: بعد مديدة { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } [يوسف: 45] فأرسله الملك ودخل عليه، فقال: يا { يوسف أيها الصديق } الصدوق في تأويل الرؤيا { أفتنا } وعبر لنا { في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر } ملتفتة إلى سبع أخر { وأخر يابسات } عبر لي هذه الرؤيا { لعلي أرجع } بتأويلها { إلى الناس } الذين عجزوا عن تعبيره وصيروه من الأباطيل والتخليطات الساقطة عن درجة التغيير والتأويل { لعلهم يعلمون } [يوسف: 46] تأويله ويفحمون عما يقولون؛ إذ الرؤيا للملك، وهم جعلوها من قبيل الأضغاث، وأنت إذا عيرتها أرجو أن تتخلص من هذا السجن.
{ قال } يوسف مؤولا للرؤيا مدبرا فيه طريق المعاش؛ لئلا يضطروا في تدبيره: { تزرعون سبع سنين دأبا } على ما هو دأبكم وعادتككم { فما حصدتم فذروه } واتركوه { في سنبله } أي: فعليكم أن تدخروا ما حصدتم في سني الخصب بأن تتركوه في سنبله ولا تفرقوه منه ولا يدوسوه؛ لئلا يقع فيه السوس { إلا قليلا مما تأكلون } [يوسف: 47] في تلك المدة.
{ ثم يأتي من بعد ذلك } أي: بعد انقضاء سني الخصب والرخاء { سبع شداد } ذوي جدب وعناء، لا ينبت فيها الزرع وفي تلك المدة { يأكلن } أي: أهلها جميع { ما قدمتم لهن } وادخرتم لهن في سني الخصب { إلا قليلا مما تحصنون } [يوسف: 48] أي: تحرزونه وتحفظونه للبذر.
{ ثم يأتي من بعد ذلك } أي: بعد انقضاء السبع الشداد { عام } ذو بركة ورخاء { فيه يغاث } ويمطر { الناس } بعدما منعوا القطر مدة مديدة { و } صار الناس من كمال الخصب { فيه يعصرون } [يوسف: 49] الأدم من العنب والخرنوب وأنواع الحبوب.
كل ما جاء به يوسف عليه السلام من التأويل والتدبير مستند إلى الوحي والإلهام والعلم بدقائق المناسبات الواقعة بين ذرائر الأكوان.
[12.50-53]
{ و } لما سمع الشرابي من يوسف ما سمع، تسارع إلى الملك وأخبره ما سمع من التعبير { قال الملك ائتوني به } فأرسل من يحضره { فلما جآءه الرسول } ليخرجه من السجن { قال } يوسف: لا أخرج من السجن ما لم يظهر براءتي وعصمتي وطهار ذيلي وكمال عفتي مما يرمونني ويسجنونني بسببه { ارجع } أيها الرسول { إلى ربك } وسيدك { فاسأله } أن يكشف عن أمره وما جرى علي من ظلم أولئك المفترين، سيما ليسأل: { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } وما شأنهن معي { إن ربي } الذي رباني بكمال العصمة والعفة { بكيدهن } ومكرهن الذي قصدن معي { عليم } [يوسف: 50] على التفصيل الذي يخفون في نفوسهن، يجازيهن في يوم الجزاء على مقتضى علمه.
ثم لما رجع الرسول إلى الملك وأخبر عن حاله ومقاله، بادر الملك إلى إحضار أولئك النسوان فحضرن { قال } الملك منتقما عنهن، مفتشا عما جرى بينهن وبين يوسف: { ما خطبكن } وشأنكن أيتها الماكرات المحتالات { إذ راودتن } وخادعتن بأنواع الحيلة والخداع { يوسف عن نفسه } وأي شيء ظهر منه من أمارات الفساد وعلامات الفسوق حتى تجترئن بمراودته؟! { قلن } بأجمعهن بعدما سمعن كلام الملك واستفساره على وجه الانتقام: { حاش لله ما علمنا عليه من سوء } أي: فعلة ذميمة وديدنة قبيحة باعثة لنا إلى مراودته، سوى أنا رأيناه على صورة عجيبة وحسن بديع، ملنا إلأيه وأردنا مخالطته فاستعصم من كمال عفته ونجابة طينته، ثم { قالت امرأت العزيز } عند الملك بعدما بدأ ما أخفت وفشا ما سترت، مقرة مقررة لطهارة ذيله: { الآن حصحص } أي: لاح وظهر { الحق } وارتفع عنه الحجب انكشف الأستار { أنا راودته عن نفسه } بعدما شغفني حبه وأزعجني ميله { وإنه } في ذاته وأقواله وأفعاله { لمن الصادقين } [يوسف: 51] المبرين المنزهين عما افترينا عليه ورمينا به.
ثم لما انشكف أمره عند الملك وثبت براءته، أرسل الرسول إليه ثانيا ليخرجه من السجن، قال يوسف على مقتضى الحكمة الصادرة من ألسنة الأنبياء؛ توطينا لنفس ال عزيز تسلية له، ليجزم أنه ما أساء الأدب معه في السر والعلانية { ذلك } الكشف والتفتيش إنما هو { ليعلم } العزيز يقينا { أني لم أخنه بالغيب } حين انغلاق الأبواب السبعة، وأنا مع زوجته فكيف في غيرها { و } ليعلم العزيز أيضا { أن الله } المطبع لجميع ما جرى على عباده { لا يهدي كيد الخائنين } [يوسف : 52] أي: لا يوصل أهل الخيانة إلى ما يقصدون إليه بكيدهم وحيلتهم، بل يفضحونهم بها على رءوس الأشهاد في الأولى والأخرى.
ثم قال: { ومآ أبرىء } وأنزه { نفسي } عن الفرطات والغفلات والخواطر القبيحة والديدنة الشنيعة على مقتضى القوى الشهوية واللذة البهيمية، وكيف ابرئ وأنزه { إن النفس } المركوزة في الجبلة الإنسانية { لأمارة } مائلة بالطبع { بالسوء } والفساد متوجهة نحوه إذا خلى وطبعها { إلا ما رحم ربي } أي: حفظها الله من كمال رحمته وشفقته من طغيانها ووسوسة الشيطان إليها { إن ربي } الذي رباني بالعصمة والعفاف { غفور } لما صدر عني من الخواطر النفسانية { رحيم } [يوسف: 53] يرحمني بفضله ويعصمني بلطفه عما يبعدني من كنفه وجواره.
[12.54-57]
{ و } بعدما فتش الملك عن أحواله وما جرى عليه، ثبت عنده أمانته وديانته ورعاية حقوق سيده ورشده في الأمور، سيما في التعبيرات والتأويلات، وصدقه في جيمع الأقوال الصادرة عنه { قال الملك } متحننا عليه متشوقا للقياه: { ائتوني به } سريعا { أستخلصه } أي: أجعله خالصا { لنفسي } ليكون أنيسي وجليسي ومولي أمري وظهيري في تدابير الأمور، فحضوره عنده وسلم على الملك ترحيبا وتعظيما { فلما كلمه } وأخذه بحمد الملك وثنائه ودعائه على اللغة العبرية، قال الملك: ما هذا اللسان؟
قال: هذا لسان آبائي وأجدادي وكان الملك يتكلم على سبعين لغة، فكلم معه بجميعها، فأجاب جميعها وأحسن فيها، فتعجب الملك منه وقال: أريد أن أسمع تأويل رؤياي منك مشافهة، فحكاه وبين وجوه المناسبات بين التعبيرات والسنوات المجدبة والمخصبة وكيفية الانتقالات والتعبيرات على مقدار فهم الملك وتأويلات السنابل الخضر واليابس على الوجه الذي ألهم وأوحي، فازداد الملك محبة ومودة لذلك { قال إنك اليوم لدينا مكين } ذو مكانة ومرتبة علية ومنزلة رفيعة { أمين } [يوسف: 54] مؤتمن على جميع أمورنا، فلك التصريف في ملكنا كيف تشاء.
وبعدما رأى يوسف عليه السلام ألا محيص له عنه، ولا بد له من ارتكاب أمر من أمور الملك { قال اجعلني على خزآئن الأرض } أي: أرض مصر { إني } بإقامة هذا الأمر { حفيظ } بوجوه محافظة أي جنس من الأجناس { عليم } [يوسف: 55] بطرق تدابيرها والتصرف فيها.
قيلك اتفق وفات قطفير - هو سيد يوسف - في تلك الليالي، وكان هذا المنصب له لذلك طلبه، وتزوج زليخا زوجته التي قد شغفها حبا، فوجدها عذراء وولد يوسف منها أفرايم وميشا.
{ وكذلك } أي: مثل ما سمعت من القصة { مكنا } قدرنا { ليوسف في الأرض } أي: أرض مصر بعدما أدخلناه رقيقا مهانا وصيرناه مسجونا مدة متطاولة ورفعناه مكانته فيها إلى حيث { يتبوأ } أي: يتنعم ويترفه { منها } أي: من نواحيها وبلادها { حيث يشآء } تهوى نفسه ويميل إليها طبعه؛ إذ من سنتنا أنا { نصيب } ونوفي { برحمتنا } التي وسعت كل كل شيء { من نشآء } من خلص عبادنا المجبولين على فطرة توحدينا السالكين سبيل الإنابة والرجوع إلى فضاء فنائنا { و } بالجملة: إنا { لا نضيع } أي: لا نهمل ولا ننقص { أجر المحسنين } [يوسف: 56] الذين يحسنون الأدب مع الله في جميع حالاتهم وشئونهم ولا يغفلون منه طرفة ولا يلتفتون إلى غيره لمحة، ولا يخطرون ببالهم سواء خطرة، هذا حالهم في النشأة الأولى.
{ و } لله { لأجر } النشأة { الآخرة } المعدة لهم فيها { خير } منها بالأضعاف والآلاف { للذين آمنوا } بتوحيد الله عن ظهر القلب وصميم الفؤاد { وكانوا يتقون } [يوسف: 57] عن محارم الله طلبا لمرضاته وقياما بحسن آدابه، رجاء من ثوابه وخوفا من عقابه.
[12.58-62]
{ و } حين استوزر الملك يوسف عليه السلام وأقامه في ضبط الممالك وقيام أمور الناس من التدبيرات المتعلقة بأمور معاشهم من تكثير الغلات والزراعات حتى دخلت السنون المجدبة، وكانت البيونات والمغلات مملوءة بأنواع الحبوبات، ثم لما أحاط الجدب جميع بلاد المصر والشام وعم البلوى في جميع الأماكن والجهات، اضطر الناس إلى أن يلتجئوا إلى باب العزيز؛ ليستغلوا منه ويسدوا رمقهم؛ لذلك { جآء إخوة يوسف } من الكنعان ليستغلوا { فدخلوا عليه } بأجمعهم { فعرفهم } بالفور، وسألهم عن الوطن والمصلحة، فقالوا: نحن أولاد يعقوب جدبنا الآن، واضطررنا إلى أن جئنا نستقوت من جاه العزيز ولا يحصل من الغير مطلقا.
ثم قال هم يوسف: أنتم بأجمعكم أبناء رجل واحد؟ قالوا: نعم إن لأبينا اثني عشر ابنا، عشرة من زوجة وأثنان من زوجة أخرى، ونحن تلك العشرة وواحد من الاثنين، قد هلك في الصحراء، والآخر عند أبينا يؤانس معه ويدفع به وحشة أبنه؛ إذ هو محبوب له مرغوب عنده { وهم } مع طول صحبتهم معه ومجالسته عنده { له منكرون } [يوسف: 58] لا يتفقهون ولا ينتبهون فكيف يعرفونه.
{ ولما جهزهم } الخدام بإذن العزيز { بجهازهم } وهيأوا أرحالهم فأرادوا أن يشدوا، دخلوا على العزيز للتوديع { قال } لهم العزيز: { ائتوني بأخ لكم من أبيكم } ليدل على صدقكم ونجابة أصلكم { ألا ترون أني أوفي الكيل } وأتمه لكم { وأنا خير المنزلين } [يوسف: 59] أحسن ضيافتكم مثل ما أحسنت.
{ فإن لم تأتوني به } أي: بأخيكم بنيامين { فلا كيل لكم عندي } أي: فاعلموا ألا كيل لكم عندي بعد اليوم { ولا تقربون } [يوسف: 60] ولا تدخلوا داري، إذ أنتم حنيئذ قوم كاذبون.
وبعدما سمعوا منه كلاما موحشا، وتفرسوا أنهم لو لم يأتوا بأخيهم لما اكتال لهم العزيز ولم ينزلهم، فكيف أن يحسن معهم ويضيفهم؟ { قالوا } له معتذرين: إن له أبا شيخا كبيرا، محزونا، آسفا يتسلى به { سنراود } ونجتهد مقدار طاقتنا { عنه أباه } ونخدع به بأنواع الخدع حتى نأتي { وإنا لفاعلون } [يوسف: 61] ألبتة وجوها من الخداع لإتيانه.
{ و } بعدما هيأا للسفر وأرادوا أن يرحلوا { قال } يوسف { لفتيانه } أي: خدامه وأعوانه: { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } التي أتوا بها وهي الأدم والنعال في رحالهم على وجه لا يشعرونها { لعلهم يعرفونهآ } وقت { إذا انقلبوا } ورجعوا { إلى أهلهم } وبعد رؤيتهم البضاعة آيسوا { لعلهم } بعد ذلك { يرجعون } [يوسف: 62] بأخيهم لو رجعوا.
[12.63-66]
{ فلما رجعوا } من مصر { إلى أبيهم } حكوا ما جرى بينهم وبين العزيز من الحكايات التي مضت، ثم طلبه منهم ما يصدقهم ويشهد لهم واضطرارهم من الشاهد وأمرهم العزيز بإحضار أخيهم بنيامين؛ ليكون مصدقا لهم، ثم بعدما بسطوا الكلام عند أبيهم { قالوا يأبانا منع منا الكيل } بعد اليوم لو لم ترسل معنا بنيامين { فأرسل معنآ أخانا } ليكون مصدقا لنا عند العزيز وبعد تصديقه إيانا { نكتل } لجميعنا { و } لم لم ترسله معنا { إنا له لحافظون } [يوسف: 63] من طريق المكروه عليه؛ إذ نحن عصبة ذوو قدرة وقوة؟!.
{ قال } لهم أبوهم متأسفا متحزنا: { هل آمنكم عليه } وأجعلكم وقاية له { إلا كمآ أمنتكم على أخيه } يوسف { من قبل فالله } الرقيب على عباده في جميع حالاتهم { خير } لهم { حافظا } أي: من جهة الحضانة والحفظ { وهو } في ذته { أرحم الراحمين } [يوسف: 64] إذ رحم الكل يرجع إليه؛ لأن الرحيم بالذات، ورحم غيره إنما يتشعب من رحمه.
وبعدما ألحوا مع أبيهم واقترحوا له بإرسال أخيهم بنيامين، وتفرسوا منه أنه لم رض بإرساله، خرجوا من عنده محزونين { ولما فتحوا متاعهم } التي جاءوا بها { وجدوا بضاعتهم } التي اشتروا بها الكيل { ردت إليهم } ندموا وتحزنوا، ثم رجعوا إلى أبيهم شاكين مشتكين { قالوا يأبانا } إنا نجزم بمنع الكيل لو نكرر { ما نبغي } أي: شيء نفعل وندبر { هذه بضاعتنا ردت إلينا } على وجه لا نطلع عليها إلا الآن، فجزمنا ألا كيل لنا إن عدنا إليه مرة أخرى بلا إتيان أخينا، ونكون عند العزيز من الكاذبين الصاغرين ونسأل منك يا أبانا من كمال كرمك وجاهك أن ترسل معنا أخانا؛ ليصدقنا عند العزيز { و } بعد تصديقه أبانا { نمير } ونحمل العطايا من عنده { أهلنا } أي: لأجلهم { ونحفظ } في الذهاب والإياب { أخانا ونزداد } بسببه { كيل بعير } أي: حمله؛ إذ من سنة العزيز أن يحمل لكل منا بعيرا! { ذلك } الكيل الذي جئنا به { كيل يسير } [يوسف: 65] قليل لا يفي لمعاشنا إلى قت الخصب ما لم نزد.؟
ثم لما بالغوا في سؤالهم واقترحوا الإسعاف ماطلبوا { قال } لهم أبوهم معاتبا عليهم: { لن أرسله } أي: بنيامين { معكم حتى تؤتون موثقا من الله } أي: يمينا وسما أثق به وأعتمد عليه { لتأتنني به } ألبتة لا خلف { إلا أن يحاط بكم } نوع من البلاؤ من إلمام العدو وغيره { فلمآ } اضطروا إلى ما طلبه أبوهم منهم { آتوه موثقهم } فرضي بإرسال بنيامين معهم ضرورة ثم { قال } أبوهم تأكيدا وتغليظا وتفويضا لأمره إلى ربه: { الله } المطلع لجميع حالات عباده { على ما نقول } ويجري بيننا { وكيل } [يوسف: 66] أي: رقيب حفيظ، بفعل بنا على مقتضى علمه وخبرته.
ثم لما رضي يعقوب عليه السلام بإرسال ابنه بنيامين، فشدوا وخرجوا من عنده، وصى لبنيه أن يتفرقوا عند الدخول إلى مصر، ولا تدخلوا كوكبة واحدة؛ خوفا منهم أن يعانوا؛ إذ هم ذوو جمال وبهاء، كان الناس يتعجبون منهم حين انصرفوا مجتمعين.
[12.67-69]
{ وقال يبني لا تدخلوا } على البلدة { من باب واحد } مجتمعين { وادخلوا من أبواب متفرقة } فرادى، حتى لا تتضرروا من العيون اللامة { و } اعلموا أني { مآ أغني } وأدفع بقولي لكم هذا { عنكم من } قضاء { الله من شيء إن الحكم } أي: ما الحكم والأمر { إلا لله عليه } لا على غيره من الأظلال { توكلت وعليه } في كل الامور { فليتوكل المتوكلون } [يوسف: 67] إذ لا رجوع للكل إلا إليه.
{ ولما دخلوا } مصر { من حيث أمرهم أبوهم } متفرقين من أبواب متعدد { ما كان يغني عنهم } ويدفع تدبير أبيهم { من } قضاء { الله } الذي قدر لهم { من شيء } إذ الأمر والقضاء لله ولا معقب لحكمه { إلا } يعني: سوى ما كان { حاجة } تختلج { في نفس يعقوب قضاها } بالوصية لأبنائه تفاؤلا وتفريجا { وإنه } أي: يعقوب عليه السلام { لذو علم } كامل مفاض له من لدنا، متعلق بما لا مرد لقضائنا، لذلك قال: وما أغني عنكم من الله من شيء، { لما علمناه } بطريق الوحي والإلهام إياه { ولكن أكثر الناس } المجبولين على الجهل والنسيان { لا يعلمون } [يوسف: 68] أن قضاءنا لا يرد، وأن الحذر لا يغني عن القدر؛ لذلك أصاب بهم ما خفوا عنه.
{ ولما دخلوا على يوسف } مع بنيامين، أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على سماط، فبقي بنيامين وحيدا، فبكى وتأوى متحسرا، وقال: ألو كان أخي يوسف حيا لما بقيت وحيدا، ولما رأى يوسف حنينه وبكاءه { آوى إليه أخاه } ورجع نحوه وضم نفسه إلى نفسه، وأجسله على سماطه، ثم أمر يوسف أن ينزولهم كل أثنين بمنزل احد، فبقي بنيامين لا ثاني له، فاغتم حينئذ أشد اغتمام، فذهب به يوسف إلى منزله، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: فمن يجد مثلك أخا، غير أنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل.
ثم لما رأى يوسف زيادة همه وحزنه وكثرة تأسفه وغمه { قال } لا تحزن ولا تغتم { إني } بشخصي { أنا أخوك } يوسف بن يعقوب وراحيل، قد احتال علي اخوتك وخادعوني بأنواع الحيل والخداع إلى أن فرقوا بيني وبينك وبين أبي مدة مديدة حسدا، فأنقذني الله عن مكرهم وكيدهم، وخلصني عن قيد الرقية والسجن وأنواع المحن ورفع قدري ومكانتي وشرفني برؤيتك، وأعطاني من المكرمات ما لا يحصى { فلا تبتئس } ولا تحزن يا أخي { بما كانوا يعملون } [يوسف: 59] معي ومعك من أنواع الصغار والهوان وأصناف الأذيات.
ثم لما قرت عينا بنيامين بوجه يوسف وسر قلبه لقياه بعدما آيس وقنط، قال: يا أخي لا أفارقك أبدا، قال يوسف؛ لا يتيسر هذا إلا بعد أن أتهمك بتهمة، فأخذك لأجلها إن رضيت، قال: رضيت بأي تهمة اتهمتني بها.
[12.70-76]
{ فلما جهزهم بجهازهم } على الوجه المعهود وشدوا رحالهم { جعل السقاية } أي: أمر يوسف للخدمة أن يجعلوا السقاية التي بها يكال، وهي من الفضة، وقيل: من الذهب { في رحل أخيه } بنيامين، وبعدما شدوا الرحال ودعوا مع العزيز جميعا، فخرجوا عقبها { ثم } بعدما خرجوا من البلدة { أذن مؤذن } أي: صاح عليهم صائح من قبل العزيز: { أيتها العير } أي: القفل إلى أين تمشون؟ { إنكم لسارقون } [يوسف: 70] مدبرين.
{ قالوا وأقبلوا عليهم } أي: على الصائحين، مضطربين خائفين: { ماذا تفقدون } [يوسف: 71] أيها الفاقدون المتفقدون؟
{ قالوا نفقد صواع الملك } أي: الآنية التي يصاع ويكال بها { و } بالجملة: { لمن جآء به حمل بعير } من المكيل { وأنا به زعيم } [يوسف: 72] ضمين أتكفل أن أتفحص من رحله.
{ قالوا } مضطربين، مقسيمن، مستبعدين: { تالله لقد علمتم } أيتها الخدمة والعزيز { ما جئنا } عندكم وفي أرضكم { لنفسد في الأرض } سيما السرقة، فإنها من أعظلم الفسادات { وما كنا سارقين } [يوسف: 73] أصلا؛ إذ نحن أولاد الأنبياء ولا يليق بنا أمثال هذا.
{ قالوا } أي: الشرطة الخدام: { فما جزآؤه } أي: أي شيء جزاء السارق منكم { إن كنتم كاذبين } [يوسف: 74] في دعوى البراءة والنزاهة؟
{ قالوا } أي: إخوة يوسف: { جزآؤه } أي: جزاء السارق { من وجد في رحله فهو } نفسه وشخصه { جزاؤه } أي: جزاء سرقته بأن يسترق سنة، وكان جزاء الساءق في دين يعقوب استرقاق سنة { كذلك } أي: مثل ما قلنا { نجزي الظالمين } [يوسف: 75] السارقين في دين أبناء يعقوب عليه السلام.
ثم لما أفتوا بما أفتوا أخذوا بالتفيش والكشف { فبدأ } الزاعم { بأوعيتهم } أي: بتفتيشها وتفحصها { قبل وعآء أخيه } بنيامين { ثم } بعدما استقصى الكل واستقرأها تفشيا { استخرجها } أي: السقاية { من وعآء أخيه } لئلا يظن أنهم يدسونها في رحله { كذلك } أي: مثل كيد يوسف لأخذ أخيه بنيامين { كدنا ليوسف } في أخذه من يد إخوته وخلاصه من الرق والسجن، وكدنا له أيضا في أخذ أخيه من إخوته بفتواهم أيضا؛ إذ { ما كان } أي: ما صح وجاز له { ليأخذ أخاه } بجرم السرقة { في دين الملك } أي: ملك مصر؛ إذ في دينه اضرب وأخذ ضعف ما سرق { إلا أن يشآء الله } هذا الحكم المخصوص في دين الملك، وألهمه ليوسف بنفاذه أو بحكم في هذه المسألة على دين آبائه، أو كان الملك أسلم بيده، ودخل بيدن آبائه على ما نقل { نرفع } ونعلو { درجات } أي: مراتب ومنازل { من نشآء } من عبادنا، بزيادة الفضائل والكمالات والحقائق والمعارف { و } لا يبعد منا أمثال هذا؛ إذ { فوق كل ذي علم عليم } [يوسف: 76] أعلى منه لا إلى نهاية؛ إذ لا انقطاع لتجددات التجليات أصلآ، لذلك قال سبحانه:
" ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي "
أي: شوقي وتجلياتي.
[12.77-80]
ثم لما شاهدوا استخراج الوعاء من رجل بنيامين اضطبروا اضطرابا شديدا وتحزنوا حزنا غيظا { قالوا } مغاضبين عليه مريدين مقته: { إن يسرق } هذا اللئيم، فلا تعجبوا منه؛ إذ هي من ديدنة أخيه سربت عليه { فقد سرق } مثله { أخ له } أكبر منه { من قبل } من أوان طفوليته يريدون يوسف.
قيل: ورثت عمة يوسف من أبيها منطقة إبرايهم، وكانت تحضن يوسف وتحبه، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها، فلم ترض العمة، فشدت المنطقة على وسطه ثم أظهرت ضياعها، فتفحص عنها فوجدتها مشدودة في وسطه، فتحاكموا فصارت أحق به في دينهم.
فلما سمع يوسف منهم ما سمع { فأسرها } وكتمها { يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } ولم يظهر الإنكار عليهم بل أضمر حيث { قال } في نفسه وسره: { أنتم } أيها المسرفون { شر مكانا } أي: خصلة ومنزلة وشأنا { والله } المطلع لأحوال عباده { أعلم } منكم { بما تصفون } [يوسف: 77] وتشرحون بألسنتكم افتراء ومراء.
ثم لما جزم العزيم بأخذ أخيه على جريمة السرقة واسترقاقه إلى سنة { قالوا } متضرعين متذللين منادين له على وجه الخضوع راجين من قبوله: { يأيها العزيز } أدام الله عزك { إن له } أي: لهذا المفسد السارق { أبا شيخا كبيرا } في السن والمرتبة؛ إذ هو نبي من الأنبياء، ضرير من فراق ابنه الهالك، يتسلى قلبه ويزول وحشته لمؤانسته هذا المسرف مع أنا حلفنا معه وآتيناه موثقا عظيما أن نرجع فيه { فخذ } من جاهك وإحسانك { أحدنا مكانه } أي: بدله بواحد منا لنخدم في بابك، وأطلقه لنذهب به غلى أبيه الضرير الضعيف؛ لئلا يستوجش ولا نحنث في حلفنا { إنا نراك من المحسنين } [يوسف: 78] المتعودين للإحسان، المتمرنين فيه، فتعم علينا وعلى الشيخ الضعيف إحسانك وامتنانك.
{ قال } يوسف: { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } يعني: نعوذ بالله أن نأخذ غير السارق بدله ظلما لمصلحتكم { إنآ } وإن فعلنا مثل ما التمستم من كنا { إذا لظالمون } [يوسف: 79] خارجون عن حدود الله بلا إذن شرعي.
{ فلما استيأسوا منه } ومن تبديدله { خلصوا } وخرجوا من عنده { نجيا } متناجين في نفوسهم بأن ما عليه العزيم هو الحق؛ لأ أخذ البريء بدل المجرم ظلم صريح، ثم لما صمموا العزم إلى الرجوع وآيسوا من بنيامين { قال كبيرهم } رأيا وسنا، وهو روبيل أو شمعون: { ألم تعلموا } أيها المسرفون { أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا } عظيما وعهدا وثيقا { من الله } القادر المقتدر على أنواع الغضب والانتقام أن ترجعوا به { و } أيضا لم تستحيوا من الله ولم تتذكروا { من قبل } في سالف الزمان { ما فرطتم في } حق { يوسف } من الإذلال والزجر التام والألم المفرط والإلقاء في الجب وبيعه رقيقا، وغير ذلك من أنوا الأذبات معه، وأنتم ما استحييتم من الله، تدعون وراثة الأنبياء وتنسبون أنفسكم إليهم وبعد اللتيا والتي فعلتم بأخيه أيضا هذا { فلن أبرح الأرض } أي: لا أزول عن أرض مصر { حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي } بالخروج منها { وهو خير الحاكمين } [يوسف: 80].
[12.81-86]
{ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ } بسرقته { إلا بما علمنا } أيقنا أنه سارق، وما علمنا إلا بالمشاهدة والإحساس بأن استخرج صاع الملك من رحله، وإنا { و } إن كنا حفيظا له رقيبا عليه عما يعرضه ويشينه لكن { ما كنا للغيب } المستور عنا { حافظين } [يوسف: 81] إذ لا اطلاع لنا على سره.
{ و } إن لم تقبل يا أبانا قولنا { سئل القرية } أي: أهلها { التي كنا فيها } لدى الحوامل وتهيئة الأسباب { و } أسهل من ذلك اسأل { العير } أي: القفل { التي أقبلنا فيها } إذ هم رفقاؤنا معنا حين سرق ابنك وأخذوه، مع أنا اجتهدنا كثيرا أن يؤخذ منا واحد بدله لم يقبلوا منا، وقالوا: ما نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، وإن مضينا على مقتضى مقترحكم نكون من الظالمين بأخذ البريء بدل الجاني، مع أن يهودذا أو روبيل قد تخلف عنا خوفا من الحدث واستحياء منك { و } الله يا أبانا { إنا لصادقون } [يوسف: 82] فيما حينا لك عما جرى علينا مما تم.
ثم لما سمع تعقوب ما سمع تأسف وتأوه وبكى كثيرا { قال } من أين يعرف العزيز أن السارق يؤخذ لسرقته { بل سولت } أي: زينت حسنت { لكم أنفسكم أمرا } أن تفرقوا أبني عني ظلما وزورا كما فرقتم أخاه فيما مضى { فصبر جميل } أي: أمري صبر جميل؛ إذ الصبر أجمل مني فيما فرطتم في ابني أيها المسرفون المفسدون { عسى الله } المطالع بحالي وحزني بمقتضى لطفه وسعة جوده ورحمته { أن يأتيني بهم } أي: يوسف وأخيه وكبيركم المتخلف عنكم { جميعا } مجتمعين { إنه } سبحانه ذاته { هو العليم } بمناجاة عباده ونيلهم إلى حاجاتم { الحكيم } [يوسف: 83] في أفعاله على مقتضى مصالح عباده.
{ و } بعدما سمع منهم أبوهم { تولى } وانصرف وأعرض { عنهم } مغاضبا عليهم مشتكيا إلى ربه من أفعالهم { وقال } من شدة حزنه وكآبته وهاية ضجرته على مفارقة ابنيه: { يأسفى } أي: يا حزني وشدة بلائي ويا حسرتي وحرقة قلبي وكبدي، وبالجملة: يا هلكتي تعالي؛ إذ لم يبق بيني وبينك ما يبعدني عنك ويبعدك عني { على يوسف } خصه بالذكر لأنه عمدة محبته وزبدة مودته، مع أنه يتردد في حياته ويجزم بحياة الآخرين { و } لما تمادى ألمه تطاول حزنه وأسفه { ابيضت عيناه من } كثرة { الحزن } قبل فقدان هذين الابنين وبعد فقدانهما { فهو } نفسه { كظيم } [يوسف: 84] مملوء من الحزن والبلاء كأنه مجسم منها، متجرع الغصص والألم من بنيه.
ثم لما رأى الناس ما رأوا منه من قلة الأكل والشرب وذوبان الجسم ونقصان القوى البشرية والسهر المفرط واستمرار الأسف والحزن { قالوا } متعجبين من حاله مقسمين على هلاكه: { تالله تفتؤا } أي: لا تزال { تذكر يوسف } على هذا المنوال { حتى تكون حرضا } مريضا مهزولا مدقوقا مشرفا على الهلاك { أو تكون من الهالكين } [يوسف: 85].
ثم لما بالغوا في منعه عما عليه من الكآبة والحزن والتأوه والبكاء { قال } في جوابهم مستنكرا عليهم: { إنمآ أشكو بثي } أي: ما أبث وأنشر شكواي { وحزني } المفرط الخارج عن التصبر { إلى الله } المطلع لما في قلبي من الحرقة والألم؛ رجاء أن يزيل عني ما يؤذيني ويوصلني بلفطه وجوده إلى ما يسرني ويفرج عني { و } اعلوا أيها اللائممون المبالغون في منعي أنهي بإلهام الله ووحيه إلي { أعلم من } كرم { الله } وسعة جوده وفضله { ما لا تعلمون } [يوسف: 86] أنت أيها اللائمون، بل إنما حملني الله وأزعجني على بث الشكوى ونشر النجوى معه وإظهار التذلل والخشوع والتضرع والخضوع نحوه، حتى لا أقنطه عن ملاقاة يوسف ولا أترك المناجاة مع الله لأجله وإن تطاولت المدة.
[12.87-90]
ثم لما استروح يعقوب من روح الله واستنشق من نسمات رحمته، نادى بنيه نداء مرحمة وإشفا؛ ليقبلو إليه بعدما آيسوا عنه وعن عطفه؛ إذ بالغوا في سوء الأدب معه وإيقاعه بانواع المحن والشدائد، فقال: { يبني اذهبوا } إلى مصر مرة أخرى { فتحسسوا } أي: تفحصوا وتطلبوا أصالة { من يوسف وأخيه } بنيامين تبعا { ولا تيأسوا } أي: لا تقنطوا يا بني { من روح الله } وتنفيسه تفريجا لهم؛ إذ نحن معاشر الأنبياء لا يليق بنا اليأس والقنوط عن كرم الله وجوده في حال من الأحوال { إنه لا ييأس } أي: لا يقنط { من روح الله } وكمال قدرته وسعة جوده { إلا القوم الكافرون } [يوسف: 87] الساترون بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق السارية المتجلية في الآفاق الفائضة عليهم سجال الفضل والكرم على مقدار قابلياتهم واستعدادتهم.
فعليكم ألا تقنطوا من الله في حال من الأحوال، بل اعتقدوا أن له التصرف والقدرة التامة والإرادة الكاملة على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم لما صمموا العم بالخروج إلى مصر كرة أخرى بإذن أبيهم وخرجوا من عنده وساروا إلى أن وصلوا مصر { فلما دخلوا عليه } أي: على يوسف { قالوا } أولا: { يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } أي: الجدب وشدة الجوع { وجئنا ببضاعة مزجاة } قليلة رديئة { فأوف لنا الكيل } وتممه لنا من جاهك وإحسانك { و } قالوا ثانيا: { تصدق علينآ } برد أخينا لنرده إلى أبيه المحزون، فإنه قد أشرف على الهلاك من شدة الحزن والأسف { إن الله } المجازي عن أعمال عباده { يجزي المتصدقين } [يوسف: 88] المؤمنين منهم جزاء حسنا، لا جزاء أحسن منه.
ثم لما سمع يوسف من أسف أبيه وشدة كربه وكآبته وأبيضاض في عينيه وهزال جمسه وإشرافه على الانهدام والانخرام، شرع يظهر أمره عليهم حيث { قال } تفضيحا لهم وتقريعا: { هل علمتم } أيها المفسدون قبح { ما فعلتم بيوسف وأخيه } من الزجر والإذلال والضرب والشتم وأنواع المكروهات والمذمومات، سيما ما شريتموه بثمن بخس دراهم معدودة لتبعدوه عن وجه أبيه، وتطردوه عن ساحة عز حضوره { إذ أنتم } قوم { جاهلون } [يوسف: 89] بألا مرد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه، بعفل ما يشاء ويحكم ما يريد، فاجتهدتم لهدم بناء الله وتغيير مراده ورد قضائه مبارزة عليه وخروجا بين يديه.ط
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا { قالوا } مخبتين خاضعين متذليين بعدما عرفوه مستفهمين على سبيل التقرير والتثبيت: { أءنك لأنت يوسف } أيها العزيز { قال أنا يوسف } بن يعقوب الذي فعلتم به ما فعلتم { وهذا أخي } بنيامين من أبي وأمي { قد من الله علينآ } بأنواع الكرم والإحسان، ووقانا عما قصدتم علينا من السوء والإذلال وأنواع الوبال والنكال { إنه من يتق } عن محارم الله وعما لا يرضى به الله { ويصبر } على ما جرى عليه من القضاء { فإن الله } الرقيب المطلع لأحوال عباده { لا يضيع } أي: لا يهمل ولا ينقص { أجر المحسنين } [يوسف: 90] الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه.
[12.91-95]
ثم لما ظهر عليهم ما ظهر من الفضيحة والشناعة وأنواع الندامة والكآبة { قالوا } متضرعين، مستحيين، متذللين، مقسمين على سبيل التثبيت والتقرير { تالله } يا أخانا { لقد آثرك الله } واصطفاك { علينا } وأراك في المنام ما أراك من سجود الشمس والقمر والكواكب المعتبرة، وكفاك هذا دليلا على نجابتك واختيارك علينا، مع أن أبانا قد علم منك ما علم من الرشد وكمال العلم والفضل؛ لذلك آثرك علينا محبة وعطفا { و } بالجملة: { إن كنا } أي: إن كنا { لخاطئين } [يوسف: 91] إذلالك وإرادة إهلاكك وضربك وإيذائك، وفي إبطال إرادة الله ومشيئته وكما حكمته وقدرته، وفي إيذاء أبينا بمفارقتك عنه وإيقاعه بأنواع البليات والنكبات إلى حيث ابيضت كريمتاه من فراقك، فالآن ألأمر بيدك وإنا مجرمون، معترفون بأنواع الجرائم، فلك الاختيار، وعلينا الحسرة والندامة وأنواع الكآبة والسآمة.
ثم لما رأى يوسف منهم ما رأى من الندامة المفرطة والخجل والخذلان وأنواع الخيبة والخسران { قال } لهم؛ تسلية عليهم وتزكية لنفسه بمقتضى نجابة طينته: { لا تثريب } أي: لا تقريع ولا توبيخ { عليكم } مني في حال من الأحوال سيما { اليوم } الذي أنتم تعتذرون فيه وتستغفرون عني، فاعلموا أني عفوت لكم ما لي من الحقوق عليكم، وأبرأت ذمتكم عنها، بل { يغفر الله لكم } بعدما استغفرتم إليه مخصلين { وهو } سبحانه في ذاته { أرحم الراحمين } [يوسف: 92] لأن رحم جميع الرحماء من ظل رحمته التي وسعت كل شيء.
وبعد تسليمهم وعفوهم وإخزاء الرعب عن خواطرهم، أمرهم بالذهاب إلى أبيهم المحزون؛ ليخلص عما عليه من الحزن المفرط، فقال: { اذهبوا } يا إخوتي { بقميصي هذا } - وهو عليه - فأخرجه ولفه بلا تنقية وغسل { فألقوه على وجه أبي يأت } أي: يرجع ويصير { بصيرا } بعدما كان فاقد العينين { و } بعد أن يصير بصيرا صحيحا سويا { أتوني بأهلكم } أي: جميع ما يسنب إليكم من النسوان والذراري والخدم والحشم { أجمعين } [يوسف: 93].
{ ولما فصلت العير } أي: القافلة من عمران مصر { قال أبوهم } لمن في صحبته من المؤمنين له: { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } [يوسف: 94] وتسفهوني أيها الحضار، وتنسبوني إل نقصان العقل والخرف لصدقتموني.
{ قالوا } أي: الحضارون: { تالله إنك } بتذكير يوسف وكثرة تحضيره ببالك { لفي ضلالك القديم } [يوسف: 95] أي: ضلالك الذي كنت عليه زمانا مستمرا، وهو وإن سفهه الناس تزايد وجدانه، ويترقى ساعة فساعة.
[12.96-100]
{ فلمآ أن جآء البشير } وهو يهوذا مع القميص { ألقاه على وجهه } على الوجه المأمور { فارتد } أي: عاد ورد فجأة { بصيرا } كما كان في سالف الزمان، فشكر الله وحمده، وسجد له سجدة خضوع وخشوع وتذلل تام، ثم رفع رأسه من سجوده { قال } لبنيه ولحضار مجلسه: { ألم أقل لكم } حين لمتوني بالأسف والحزن وكثرة المناجاة مع الله لملاقاة يوسف { إني أعلم من } كرم { الله } وسعة جوده ورحمته { ما لا تعلمون } [يوسف: 96] أنتم أيها اللائمون.
ثم لما سر يعقوب عليه السلام وخلص من الشدائد والمحن وقر عيناه { قالوا } أي: بنوه منادين له متضرعين إليه: { يأبانا استغفر لنا ذنوبنآ } التي كنا نعمل معك ومع من أحببته واخترته علينا { إنا كنا } فعلنا من الجرائم العظام والمعاصي والآثام { خاطئين } [يوسف: 97] جاهلين عن عواقبها وما يؤول إليها؛ إذ هو من قضاء الله إيانا ولا مرد لقضائه.
ثم لما تفرس يعقوب عليه السلام منهم الإخلاص والإنابة التامة والرجوع عن ظهر القلب { قال سوف أستغفر لكم ربي } في ذاته { إنه هو الغفور } لذنوب عباده بعدما أخلصوا { الرحيم } [يوسف: 98] لهم يقبل توبتهم.
سوف أمر استغفارهم إلى ملاقاة يوسف والمشورة معه، يدل عليه ما روي أن يعقوب استقبل القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبري عليه السلام، فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في حق أبنائك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة.
ثم لما صمموا عز الرحيل إلى مصر شدوا ركابهم، وساروا حتى وصلوا إلى قربها، سمع يوسف بقدومهم، وخرج إلى استقبالهم مع الملك وجنوده وجميع أهل مصر { فلما دخلوا على يوسف } ووصلوا إليه { آوى إليه } أي: اعتنق وضم يوسف { أبويه } إلى نفسه وواسا معهما { وقال ادخلوا مصر إن شآء الله آمنين } [يوسف: 99] عن نكبات الجدب والقحط وآذيات الرحيل.
{ و } بعدما دخلوا على بيته { رفع أبويه } تعظيما لهما وتوقيرا { على العرش } الذي يجلس هو عليه، وهو يقوم بين يديهما { و } بعدما تمكن أبوأه على عرشه { خروا } أي: هما وبنوهما { له سجدا } أي: خرجوا لشكر لقياه وشرف حضوره لله سجود شكر وخضوع.
ولما رأى يوسف سجودهم تذكر ما رأى في المناقم في أوان الصبا { وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل } في سالف الزمان { قد جعلها ربي حقا } صدقا محققا مطابقا للواقع { وقد أحسن بي } ربي بأنواع الإحسانات { إذ أخرجني من السجن } بعدما كانت فيه مدة مديدة { و } أعظم منه أنه { جآء بكم من البدو } أي: البادية البعيدة { من بعد أن نزغ } وأوقع { الشيطان بيني وبين إخوتي } بأنواع الإيقاعات والوساوس { إن ربي } الذي رباني بأنواع اللطف والكرم { لطيف } مدبر كامل وموفق كافل { لما يشآء } من الأمور ويريد إصلاحه { إنه } بذاته { هو العليم } بعلمه الحضوري لمصالح عباده { الحكيم } [يوسف: 100] المتقن في أفعاله على مقتضى ما تعلق بعلمه وإرادته.
[12.101-104]
ثم دعا يوسف عليه السلام لنفسه وناجى مع ربه مناجاة صاردة عن محض الحكمة والذكاء والفطنة بقوله: { رب } يا من رباني بلطفك وفضلك بأنواع التربية والنعم إلى حيث { قد آتيتني } وأعطيتني { من الملك } الظاهر أي: الحكومة المتعلقة بعالم الشهادة { وعلمتني من تأويل الأحاديث } أي: العبور من الحوادث الكائنة في عالم الشهادة إلى ما في عالم الغيب من الصور المقتضية إياها { فاطر السموت والأرض } أي: عالم الأسماء التي انعكست منها هذه الأظلال الهالكة الشهادية { أنت } بذاتك بعدما تحققت بتوحيدك وانكشفت به، ورفعت الحجب بيني وبينه { وليي } ومولى أمورري وحامل أسراري { في الدنيا والآخرة } أي: في النشأة الأولى والأخرى { توفنى } اقبضني { مسلما } مسلما مفوضا جميع أموري إليك { وألحقني } بلطفك { بالصالحين } [يوسف : 101] الذين أصلحوا نفوسهم في النشأة الأولى والأخرى حتى يفوزوا من عندك بشرف اللقيا.
{ ذلك } المذكور من قصة يوسف وما جرى بينه وبين إخوته وبين امرأة العزيز وغير ذلك من الوقائع الهائلة، الواقعة على يوسف وعلى أبيه وأخيه من حسد إخوتهما { من أنبآء الغيب } أي: من الإخبارات التي سترت عنك يا أكمل الرسل { نوحيه إليك } إي: نعلمك بالوحي والإلهام، ومحقق مسلم عند ذوي العقول { وما كنت لديهم } وعندهم وفي جمعهم وقت { إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } [يوسف: 102] أي: يقصدون المكر والخداع مع يوسف وأبيه، بعدما شاوروا كثيرا من إهلاك يوسف وإبعاده من عند أبيه واستقرار رأيهم بد تكرر المشاورة على ما فعلوا به واتفقوا عليه، وما أنت أيضا من أهل الإملاء والنسخ أن تضبط قصصهم من التواريخ، ولا من أهل التعلم المستفيد من الغير، بل ما هو إلا وحي يوحى إليك من عندنا.
{ ومآ أكثر الناس } الذين يترددون بين يديك { ولو حرصت } بإيمانهم وإذعانهم { بمؤمنين } [يوسف: 103] لك مصدقين لما جئت به من عند ربك.
{ و } ما عرض لهم ولحق لنفوسهم من الغفلة لم يقبلوا ما قلت لهم؛ إذ { ما تسألهم عليه } أي: على تبليغ ما جئت به من عند الله { من أجر } جعل ومال من حطام الدنيا كما يفعله حملة الأخبار ومتفقهة الزمان والمتشيخة من أهل التلبيس، بل { إن هو } أي: ما هذا القرآن وما فيه من العبر والأحكام والقصص المستلزمة لأنواع المواعظ والتذكيرات { إلا ذكر } عام، وفائدة جليلة شاملة { للعالمين } [يوسف: 104].
[12.105-108]
{ وكأين } أي: كثير { من آية } دالة على وجود الصانع وتوحيده واستقلا له في التصرف في الآثار كائنة { في السماوات والأرض } أي: العلويات والسفليات، أو عالم الأسماء والصفات وعالم الطبيعة المنعكسة منها { يمرون عليها } مرور غفلة وذهول { وهم عنها معرضون } [يوسف: 105] لا يعتبرون منها ولا يتأملون فيها وفي رموزها وإشاراتها، وذلك من كمال توغلهم في الكثافة والحجب الظلمانية، ونهاية تدنسهم بأدناس الطبيعة الهيولانية.
{ و } لذلك { ما يؤمن } ويوقن { أكثرهم بالله } المستغني في ذته عن جميع المظاهر، المستقل بوجوده بحيث لا وجود لغيره أصلا { إلا وهم مشركون } [يوسف: 106] مشتركون من مصنوعاته في استحقاق العبادة ما لا وجود له في نفسه أصلا.
أيغفلون أولئك المسرفون عن مكر الله؟! { أفأمنوا } عن كمال قدرته على الانتقام ولم يخافوا { أن تأتيهم } وترسل عليهم { غاشية } أي: عقوبة هائلة نازلة { من عذاب الله } في هذه النشأة تغشيهم وتحيط بهم { أو تأتيهم الساعة } الموعودة { بغتة } فجأة { وهم لا يشعرون } [يوسف: 107] أماراتها وعلاماتها؟!.
وإن أصروا على كفرهم وإشراكهم باللهو، عدم الالتفات بك وبقولك { قل } لهم يا أكمل الرسل مجاراة عليهم: { هذه سبيلي } أي: الدعوة إلى التوحيد وإعداد الزاد ليوم المعاد طريقي، وأنا بعثت لأجلها { أدعو إلى الله } أي: إلى توحيد كافة عباده { على بصيرة } تامة فائضة علي من عنده سبحانه { أنا } أي: أدعو أنا لمقتضى الوحي والإلهام { ومن اتبعني } من خيار أمني بوسيلة إرشادي وإهدائي إليهم { وسبحان الله } أي: أنزهه تنزيها تاما عن معتقدات أهل الزيغ والضلال في حقه سبحانه { ومآ أنا من المشركين } [يوسف: 108] أي: أبرئ نفسي عما هم عليه من الشرك المنافي للتوحيد.
[12.109-111]
ثم قال سبحانه: { ومآ أرسلنا من قبلك } أيها المبعوث للكل { إلا رجالا } مثلك من جنس البشر { نوحي إليهم } أي: نخصهم بالوحي والإلهام؛ لنجابة طينتهم في أصل خلقتهم مع أنهم { من أهل القرى } أي: من جملة ما يسكنون فيها { أ } يصرون هؤلاء المعاندون على تكذيبك، معللين بقولهم الباطل: ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين } كذبوا الرسل المبعوثين لهم مضوا { من قبلهم } مثل تكذيبهم إياك حتى يعتبروا منها { و } الله { لدار الآخرة } المعدة للفوز والفلاح { خير للذين اتقوا } أي: للمؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عما حذرهم الله منها { أفلا تعقلون } [يوسف: 109] أيها المسرفون المكابرون.
وإن تمادوا في الغفلة والإصرار على التكذيب مدة مديدة { حتى إذا استيأس } وقنط { الرسل } المبعوثون إليهم بل { وظنوا } من طول الإمهال وعدم الأخذ والبطش { أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا } يقينا، وصاروا كأنهم قد أخلف عنهم الوعد الذي وعدوا به من جانب الحق، وبعدما أزداد بأسهم وقنوطهم، وقد جاءهم نصرنا الذي وعدناهم وعذابنا الذي قد أوعدنا به أممهم، وبعدما جاء أخذنا إياهم { فنجي } ونخلص { من نشآء } إيمانه بنا وبرسلنا وانقياده إياهم { و } بالجملة: { لا يرد بأسنا } الذي قد وعدنا به { عن القوم المجرمين } [يوسف: 110] الذين أجرموا علينا بتكذيب رسلنا وكتبنا، وإن طالت مدة الإمهال.
بثم قال سبحانه تنبيها وحثا لعباده على ما في كتابه من الإشارات { لقد كان في قصصهم } أي: قصص الأنبياء المذكورين في القرآن سيما قصة يوسف عليه السلام { عبرة } اعتبار واستبصار { لأولي الألباب } الذين يتأملون ويتعمقون في لب الكلام، ويعرضون عن قشوره؛ { ما كان } القرآن ما ذكر فيه من القصص والأحكام { حديثا } مختلفا { يفترى } به إلى الله افتراء ومراء { ولكن } وحي نزل من عند الله ليكون { تصديق الذي بين يديه } من الكتب الإلهية، أي: مصدقا أحكامها وآثارها { وتفصيل كل شيء } احتيج إليه في الدين من الأمور المتعلقة؛ لتهذيب الظاهر والباطن { وهدى } من تمسك به وعمل بما فيه أمن من اضلال { ورحمة لقوم يؤمنون } [يوسف: 111] أي: يعلمونه ويصدقون بمقتضاه.
خاتمة السورة
عليك أيها المستبصر، الخبير المسترشد، البصير - بصرك الله بعيوب نفسك، وجنبك عن غوائلها - أن تعتبر من القصة التي ذكرت في هذه السورة، وتحترز عن المكائد المذكورة فيها والمخادعات المصرحة بها والمرموزة إليها، وتصفي أمارة نفسك عن مبادئها وتبرئها حسب طاقتك وقدر وسعد وطاقتك وقوتك عما يؤول إليها ويؤدي نحوها، وتشمر ذيل همتك لتهذيب ظاهرك وباطنك عما يعوقك عن سلوك طريق التوحيد المفضي إلى اضمحلال الرسوم وانقهار التعينات العدمية الأظلال الهالكة، المؤدية إلى الكثرة والتنويه، الحاجبة عن صرافة الوحدة الذاتية بالنسبة إلى ذوي الحجب الكثيفة والغشاوة الغليظة.
وعليك أن تتوجه بوجه قلبك إلى إفناء لوازم تعيناتك الباطلة، وهوياتك العاطلة التي هي شياطين طريقك نحو الحق المنزه عن التغيير والتبديل، المقدس عن الانقلاب والتحويل؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولا يفتره كر الدهور ومر الزمان، بل
كل يوم هو في شأن
[الرحمن: 29]، و
كل من عليها فان
[الرحمن: 26].
وبالجملة: بعدما فنيت عن وجوه تعيناتك رأسا ، يبقى وجه ربك الذي لا انقلاب له أصلا ذو الجلال الذاتي والأزلي، والإكرامم الأبدي السرمدي.
جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق الفناء، ووفقهم لإفناء ما يعقوهم عن شرف اللقاء، إنه سميع مجيب.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-3]
{ المر } أيها الإنسان الكامل اللبيب اللائق لملا حظه رموز آثار التوحيد اللائح عن غرته الغراء مقتضيات لوامع الرشد والرضا عما جرى عليه القضاء { تلك } السورة المنزلة إليك { آيات الكتاب } الجامع للكتب المنزلة أي: من جملة آياته { و } أيضا { الذي أنزل إليك } قبل نزولها { من ربك } من الآيات النازلة كلها { الحق } المطابق للواقع، النازل من عند الحكيم العليم { ولكن أكثر الناس } لانهماكهم في الغفلة والنسيان { لا يؤمنون } [الرعد: 1] أي: لا يصدقون ولا يعتقدون بحقيته وحقية منزله.
وكيف لا يعتقدون حقيته أولئك الحمقى المعاندون؛ إذ هو { الله } المبدئ المبدع الرفعي البديع { الذي رفع السماوات } أي: العلويات معلقا { بغير عمد } واسطين يعتمدون عليها ظاهرا كما { ترونها } في بادئ النظر؛ لتكون أسبابا ووسائل للسفليات { ثم } لما رفعها وصور بها على أبلغ النظام وأبدعها { استوى } باسمه الرحمن { على العرش } أي: على عروش جميع الكائنات بالإظهار والإبرار وأنواع التدبيرات والمتعلقة لحفظها وبقاء نظامها { وسخر } من بينها { الشمس والقمر } لتتميم التدبير { كل } منها { يجري لأجل مسمى } أي: يدور دورة معينة شتاء وصيفا، ربيعا وخريفا، لإصلاح ما يتعلق بمعاشهم وحفظهم، وبالجملة: { يدبر الأمر } على ما ينبغي ويليق بلا فتور وقصور { يفصل } لكم { الآيات } ويوضح لكم الدلائل والشواهد الدالة على توحيده { لعلكم بلقآء ربكم توقنون } [الرعد: 2] أي: رجاء أن تتفطنوا وتتيقنوا بموجودكم ومربيكم.
{ و } كيف لا تتفطنون أيها المجبولون على فطرة الفنطنة والذكاء { هو الذي مد الأرض } وفرشها مبسوطة { وجعل فيها رواسى } وجبالا شامخات؛ لتكون أوتادا لها { وأنهارا } منتشئة منها، جارية على وجه الأرض؛ لإثبات ما تقتاتون وتتقوتون بها { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } لتكون سببا لدوامها وبقائها ولإنضاجها وإصلاحها { يغشى اليل النهار } أي: يلبس الليل بالنهار لتسكين البرودة، والنهار بالليل؛ لتسكين الحرارة؛ ليحصل الاعتدال في طبيعة الهواء المنضج { إن في ذلك } الحكم والتدابير { لآيات } دلائل واضحات وشواهد لائحات { لقوم يتفكرون } [الرعد: 3] ويتأملون في حكم الصانع الحكيم والمدبر العليم.
[13.4-6]
{ و } أيضا من بدائع قدرته وغرائب حكمته أنه حصل { في الأرض قطع متجاورات } متماثلة في الطبيعة والمزاج { و } حصلت في بعضها { جنات } وبساتين { من أعناب و } في بعضها { زرع و } في البعض { نخيل } مختلفة أنواعها بعضها { صنوان } أي: نخلات متكثرة، أصلها واحد { وغير صنوان } أي: مترفقات الأصولا مع أنها كلها { يسقى بمآء واحد و } مع وحدة طبيعة الأرض والماء { نفضل بعضها } أي: بعض الثمرات { على بعض في الأكل } لأن بعضها ضار وبعضها نافع، وبعضها حلو وبعضها حامض، إلى غير ذلك من التفاوت والاختلافات { إن في ذلك } الاختلاف مع وحدة طبيعة القابل { لآيات } عظام ودلائل جسام على حكمة الصانع الحكيم ومتانة فعله { لقوم يعقلون } [ارعد: 4] ويستعملون عقولهم في التفكير يمصنوعات الحق والتدبير بمبدعاته ومخترعاته.
{ وإن تعجب } يا أكمل الرسل إنكار الكفار حشر الأجساد مع وضوح دلائله وسطوع براهنيه { فعجب قولهم } أي: فعليك أن تتعجب من قولهم - هذا حال كونهم مستفهمين مستبعدين على سبيل التعجب - أننا { أإذا كنا ترابا } وعظاما رفاتا { أإنا لفي خلق جديد } كلا وحاشا أن نعود أجساما إنسانا بعدما صرنا كذلك { أولئك } البعداء المعزولون عن منهج الرشاد هم { الذين كفروا بربهم } الذين أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة، ورباهم بأنواع التربية مع أن إعادتهم أيسر من إبدائهم وإبداعهم { وأولئك } الضالون المقيدون بسلاسل الطبيعة في النشأة الأولى صار { الأغلال في أعناقهم } في النشأة الأخرى، دائما مستمرا { و } بالجملة: { أولئك } الأشقياء المردودون { أصحاب النار هم فيها خالدون } [الرعد: 5] أبد الآباد.
{ و } من قبح صنيعهمه ونهاية غفلتهم عن الله انتقامه وغيرته { يستعجلونك بالسيئة } المهددة بها والموعودة عليها، أي: يطلبون منك يا أكمل الرسل استعجال إتيانها استهزاء واستنكارا { قبل الحسنة } الموعودة لهم على تقدير إيمانهم { و } الحال أنه { قد خلت } ومضت { من قبلهم } على أمثالهم من الأمم الهالكة { المثلات } أي: القصاصات والعقوبات التي صاتر أمثالا يضرب بها، وحالهم يحفي مؤنة استعجالهم واستهزائهم لو تأملوا { و } هم من غاية إصرارهم وكفرهم وإن استحقوا ما يستعجلونه على أقبح الوجوه، لكن أمهلهم الله الحكيم العليم زمانا بمقتضى جوده { إن ربك } الحليم الرحيم { لذو مغفرة } ستر وعفو { للناس } المنهمكين في الغفلة والنسيان { على ظلمهم } أي: مع ظمهم على أنفسهم باستجلاب عذاب الله إياها { وإن ربك } أيضا على مقتضى عدله وقهره { لشديد العقاب } [الرعد: 6] وسريع الحساب على من خرج من ربقة إطاعته استكبارا واستنكافا.
[13.7-11]
{ و } من شدة شيكمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل { يقول الذين كفروا } بك وبدينك وبكتابك { لولا } أي: هلا { أنزل عليه آية } اقترحناه بها { من ربه } إن كان نبيا مثل الأنبياء الماضين، لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبكفرهم وقولهم هذا { إنمآ أنت منذر } مخبر بما جئت به من عند ربك، لا مهد مصلح، وإنما عليك البلاغ { ولكل قوم هاد } [الرعد: 7] وهو الله سبحانه، وإن تعلق إرادته بهدايتهم يهديهم؛ إذ هو عالم بسرائرهم وضمائرهم، وما جرى عليهم وما يؤول أمرهم إليه.
{ الله يعلم } بعلمه الحضوري { ما تحمل كل أنثى } من النطفة المصبوبة { وما تغيض الأرحام } أي: تنقصها منها وفقا لفضلائها { وما تزداد } عليها لتنميتها وتصويرها { وكل شيء عنده بمقدار } [الرعد: 8] أي: حصول كل كائن عنده إنما هو بمقدار مخصوص من مادة معينة ومدة مقررة، لا ينقص منها ولا يزيد عليها.
والإطلاع عليها وعلى كيفيتها وكمياتها مما استأثر الله به في غيبه؛ إذ هو بذاته سبحانه { عالم الغيب } أي: الذي غاب عنا أنيته ولميته { والشهادة } أي: التي خفي علينا لميته، وكيف لا يعلم الغيب والشهادة؛ إذ هو { الكبير } بذاته { المتعال } [الرعد: 9] أي: المنزه في صفاته عن الاتصاف بصفات كلا العالمين ولوازمهما.
وإن كان كل منها من أظلال أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى { سوآء } عنده سبحانه في حيطة حضرة علمه المتعلق بأحوال المكونات { منكم من أسر القول } وأخفاء وأضمره في نفسه { ومن جهر به } وأظهره { ومن هو مستخف } أي: مستتر متغط { باليل } ومن هو { وسارب } بارز ظاهر { بالنهار } [الرعد: 10] أي: لا يشغله سبحانه شأن عن شأن، ولا يحجب عليه الأستار والسدول، ولا يعين عليه البروز والظهور؛ إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
إذ { له } سبحانه بالنسبة إلى كل شيء من الأشياء حتى الذرة والخطرة والطرفة واللمحة { معقبات } من الأوصاف الإلهية مسميات بالملائكة يعقبن عليها متواليات متتاليات محيطات { من بين يديه ومن خلفه يحفظونه } عملا لا يعنيه وينافره ويؤذيه، وما هو إلا { من أمر الله } إياهم وتعلق إرادته ومشيئته لحصانته وحفظه على مقتضى لطفه وجماله { إن الله } المدبر لأمور عباده، المصلح لأحوالهم { لا يغير } ولا يبدل { ما بقوم } من النعمة والعافية والرفاهية والفرح والسرور { حتى يغيروا } ويبدلوا { ما بأنفسهم } من محاسن الأخلاق ومحامد الأوصاف إلى المعالج والمذائم بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه { و } بالجملة: { إذا أراد الله } المطلع لسرائر عباده واستعداداتهم { بقوم سوءا } ناشئا من خباثة طينتهم { فلا مرد له } أي: لا يمكن لأحد من خلقه رد إرادته { و } كيف يرد مراده سبحانه؛ إذ { ما لهم من دونه من وال } [الرعد: 11] يولي أمورهم ويرجعون إليه في الوقائع والخطوب.
[13.12-15]
كيف يرجعون إلى غير الله ويستردون مراده سبحانه مع أنه { هو الذي يريكم البرق } بغتة ويورث منه فيكم { خوفا } من أن تصابوا به { وطمعا } بما هو مستتبع له من المطر { و } أيضا { ينشىء } من الأبخرة المتصاعدة { السحاب } المتراكم من الأبخرة { الثقال } [الرعد: 12] بالمياه المتكثرة.
{ و } حين إراءة البروق وإنشاء السحب { يسبح الرعد } المتكون من اصطكاك الأبخرة والأدخنة المحتبسة بين السحب المتراكمة { بحمده } أي: بحمد الله، بإلقاء الملائكة الموكلين عليه، المعاقبين الممدين له { والملائكة } أيضا يسبحون بحمده { من خيفته } أي: من خوف الله وسطوة جلاله وقهره { و } أيضا { يرسل الصواعق } الكائنة من الأبخرة والأدخنة المحترقة بالأجزاء النارية { فيصيب بها من يشآء } إهلاكه وقتله زجرا له وانتقاما عليه { وهم } من غاية ضعفهم وعدم قدرتهم وقوتهم { يجدلون } ويكابرون { في } توحيد { الله } وفيما جاءت به رسله من عنده من الأوامر والنواهي المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى { و } الحال أن لكمال قدرته وبسطته وسلطنته القاهرة وجلاله { هو شديد المحال } [الرعد: 13] صعب المكابدة والانتقام لن جادل معه وكذب رسله بالباطل.
لكن { له دعوة الحق } أي: قبولها وإجابتها وإنجاحها لمن دعا بها، مخلصا في دعائه وتوجهه نحو الحق { و } المشركون { الذين يدعون من دونه } أي: من دون الله من الأصنام والأوثان { لا يستجيبون لهم بشيء } قليل مما يطلبونه، بل ما مثلهم في دعوة الأصنام ودعائهم إياهم { إلا كباسط كفيه إلى المآء } أي: كمثل عطشان بسط كفيه إلى الله يدعوه { ليبلغ فاه } ويرويه { و } الحال إنه غائر عميق { ما هو ببالغه } وبسبب ذلك زاد عطشه وحرقة قلبه وزفره صدره، كذلك المشركون يدعون إلى أصنامهم؛ ليشفعوا لهم ويصلوا إلى مرامهم، وهم جماد لا يقدرون على الاتصال والقبول أصلا { و } بالجملة: { ما دعآء الكافرين } الساترين بأباطيلهم وأوثانهم نور الحق الحقيق بالحقية، الوحيد في الألوهية، الفريد بالعبودية { إلا في ضلال } [الرعد: 14] خسران وحرمان وخذلان وبطلان.
{ و } كيف يتوجه ويدعي لغير الحق، مع أنه لا إله إلا الله، هو ولا شيء سواه؛ إذ { لله } المتأصل في الوجود، المتصف بالقيومية، لا لغيره من الأظلال الهالكة في أنفسها { يسجد } أي: يتذلل ويتضرع { من في السماوات } أي: عالم الأسماء والصفات المسمى بالأعيان الثابتة { و } من في { الأرض } أي: عالم الطبيعة من الصور والهياكل المنعكسة من الأسماء والصفات { طوعا } أي: طائعين راغبين عن خبرة واستبصار { وكرها } كارهين عن حيرة وضلال { و } أيضا يسجد له { ظلالهم } أي: لوازم هوياتهم وما يترتب علياه ملتبسين { بالغدو } أي: أول الظهور والبروز { والآصال } [الرعد: 15] أي: وقت الانمحاء والانقضاء.
[13.16-17]
{ قل } يا أكمل الرسل لمن عند الحق وجادل مع أهله مكابرة، مستفما على سبيل التبكيت والإسكات: { من رب السموت والأرض } أي: موجدهما ومظهرهما من كتم العدم ومربيهما بأنواع التربية والكرم؟ { قل } أيضا أ،ت في جواب سؤالك؛ إذ هم معزولون عن التنطق بكلمة الحق؛ إذ ختم الله على قلوبهم وأفواههم: { الله } أي: الموجد والمربي، هوالله المستقل بالألوهية والربوبية، ثم بعدما ظهر الحق { قل } لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: { أفاتخذتم } أيها الجاهلون بالله وحق قدره { من دونه أوليآء } معبودات من جنس مصنوعاته، سيما أدونها وهي الجمادات التي { لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا } فضلا لغيرهم.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا: أيها الجاهلون المعزولون عن مقتضى العقل الفطري { هل يستوي الأعمى } الفاقد للبصر { والبصير } الواجد لها؟ { أم هل تستوي الظلمات } أي: الأعدام الهالكة في نفسها { والنور } الوجود المتشعشع في ذاته؟ { أم جعلوا } أولئك الحمقى العمي الهالكون في تيه الغفلة والضلال { لله } المنزه عن المثل والمثال { شركآء } مثله { خلقوا كخلقه } وأوجدوا لخقه وإيجاده { فتشابه الخلق عليهم } أي: حتى اشتبه عليه وتشابه خلقهم لخلقه، سبحاه عما يقول الظالمون علوا كبيرا { قل } يا أكمل الرسل إرشاد وتكميلا: { الله } المستجمع لصفات الكمال بأسرها والمربي لجميع الكائنات برمتها { خالق كل شيء } أي: مظهرها وموجدها بالاستقلال بلا مظاهرة ومشاركة { وهو } بذاته { الواحد } المستقل في الوجود { القهار } [الرعد: 16] للأإيار الهالكة في أنفسها، المنعكسة من أظلال أسمائه وأوصافه، الباقية في صرافة عدميتها الأصيلة.
ومن إشفاقه ومرحمته على عباده أن { أنزل من السمآء } أي: من العالم الروحاني { مآء } أي: ماء الإيمان والعرفان { فسالت أودية بقدرها } أي: امتلئت النفوس القابلة بقدر ما يسع في استعداداتها منها، فسالت بعدما امتلئت { فاحتمل السيل زبدا رابيا } أي: ارتفع على مياه المعارف والحقائق زيد التقليدات الحاصلة من رسوب القوى البشرية، وغش الطبيعة تسقطها على الأطراف وتصفيها عن الكدورة مطلقا { و } مثل ذلك الزبد الباطل يحصل { مما يوقدون عليه في النار } من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها حين أرادوا ذوبانها { ابتغآء حلية } أي: طلب اتخاذها منها { أو متاع } آخر من الأواني وآلات الحرب { زبد } فساد باطل في نفسه { مثله } الزبد الأول.
{ كذلك يضرب الله } المصلح لأحوال عباده { الحق والباطل } لهم؛ لكي يتنبهوا ويتفطنوا فيتبعوا الحق ويجتنبوا عن الباطل، ثم بين لهم سبحانه مآلهم توضيحا وتقريرا بقوله: { فأما الزبد } المرتفع على الماء { فيذهب جفآء } أي: يضمحل ويتلاشى بالجفاف كما أن زبد التقليدات يسقط ويضمحل بإشراق نور اليقين { وأما ما ينفع الناس } من مياه المعارف والحقائق { فيمكث } ويستقر { في الأرض } أي: الطبيعة القابلة لانعكاس أشعة الأسماء والصفات الإلهية لينبت فيها شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء { كذلك يضرب الله الأمثال } [الرعد: 17].
[13.18-22]
{ للذين استجابوا لربهم } فطلبوا منه { الحسنى } أي: المثوبة العظمى والمرتبة العليا معتقدين إفاضتها وإعطاءها إياهم { والذين لم يستجيبوا له } مثل ماس استجاب أهل الحق ولم يعتقدوا مثل ما اعتقد أولئك المحقون لم ينالوا نصيبهم وحظهم { لو أن لهم } ملك { ما في الأرض } من الزخارف والأموال { جميعا ومثله معه } بل أضعافه وأمثاله { لافتدوا به } لنيبل ما نالوا لكن لم ينالوا، بل { أولئك } الأشقياء المردودون عن عز القبول { لهم سوء الحساب } يحاسبون على جميع ما صدر عنهم من النقير والقمطرير ويؤاخذون عليها { و } بالجملة: { مأواهم جهنم } الخذلان والطرد والحرمان { وبئس المهاد } [الرعد: 18] مهد أولئك الضالين عن منهج الرشاد.
أينكر المشرك المتمرد عن متابعتك وقبول دينك؟ { أفمن يعلم } ويصدق { أنمآ أنزل إليك من ربك } لتأييدك من الكتاب الجامع لما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي و الأمثال والرموز والإشارات هو { الحق } المطابق للواقع بلا شك وارتياب فيه { كمن هو أعمى } عن إبصار ما يرى في الآفاق من المبصرات، بل أشد عمى منه؛ لأنه فاقد البصيرة؛ إذ لا يمكن إدراك الأمور الدينية والمعارف اليقينية إلا بها { إنما يتذكر } ويتفطن بسرائر كتاب الله { أولوا الألباب } [الرعد: 19] المستكشفون عن لب الأمور، المعرضون عن قشوره.
ولا يحصل ذلك إلا بالبصيرة وهم { الذين يوفون بعهد الله } الذي عهدوا معه حين رش رشحات نور الوجود علىأراضي استعداداتهم { ولا ينقضون الميثاق } [الرعد: 20] الوثيق، بل يحفظونه ويواظبون على حفظه دائما.
{ والذين يصلون } ويتصفون بعموم { مآ أمر الله به } من المأمورات والمرضيات والمعارف والحقائق والخصائل الجميلة والأخلاق الحميدة { أن يوصل ويخشون } عن ارتكاب المنهيات والمحظورات والذمائم من الأطوار والأخلاق { ربهم ويخافون } من الله وعن مخالفة أمره ومقتضى نهيه { سوء الحساب } [الرعد: 21] ورداءة المنقلب والمآب.
{ والذين صبروا } إذا أصابتهم مصيبة وأحاطتهم بلية { ابتغاء وجه ربهم } وطلب مرضاته، مسترجعين إليه سبحانه، متضرعين نحوه { وأقاموا الصلاة } أي: أداموا الميل والتوجه إليه في جميع الأحوال والأزمان { وأنفقوا } للفقراء المستحقين { مما رزقناهم } ووفقناهم وأقدرناهم لكسبها وجمعها { سرا } أي: على وجه لا يشعر الفقير منفعة؛ لئلا يتأذى بالمن والأذى { وعلانية } على وجه يعشر به؛ لكي يبالغ المنفق في التذلل والانكسار بحيث لا يتوهم المنة أصلا { و } أيضا الذين { يدرءون } أي: يدفعون ويسقطون { بالحسنة } أي: بالخصلة الحميدة والخلق المرضي { السيئة } أي: الذميمة من الخصائل والأخلاق { أولئك } السعداء الأولياء، ذوو العهد والوفاء والخوف والرجاء، الصابرون على البلاء، الراضون بما جرى عليهم من سوء القضاء، المتوجهون إلى المولى في السراء والضراء، المنفقون لرضاه من عندهم للفقراء، حصل { لهم } حين كانوا في النشأة الأولى { عقبى الدار } [الرعد: 22] الأخرى، أي: ما يحصل فيها من اللذات والمثوبات ورفع الدرجات ونيل المرادات.
[13.23-28]
ومن جملتها: { جنات عدن } أي: دار إقامة وخلود { يدخلونها } هم أصالة واستحقاقا { و } يدخل أيضا بشفاعتهم وتبعيتهم { من صلح } لصحبتهم ورفاقهم { من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } ومن ينتمي إليهم { و } حين استقروا وتمكنوا فيها يزورهم { الملائكة } ترحيبا وتعظيما { يدخلون عليهم من كل باب } [الرعد: 23] من أبواب الجنة.
قائلين: { سلام عليكم } أيها الفائزون بالفلاح والنجاح { بما صبرتم } في دار الابتلاء لأنواع المحن والبلاء { فنعم عقبى الدار } [الرعد: 24] أي: منزلكم ومنقلبكم في دار القرار وعواقب أموركم فيها من الفرح الدائم والسرور المستمر.
ثم بين سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب عواقب حسن الأبرار بقبح أحوال الأسرار عواقبهم بقوله: { والذين ينقضون عهد الله } الذي عهدوا معه في بدء الوجود وأصل الفطرة { من بعد ميثاقه } مع وثاقته وأحكامه { و } مع ذلك { يقطعون } ويتركون { مآ أمر الله به أن يوصل } ويحافظ عليها { ويفسدون في الأرض } بأنواع الفسادات من الظلم والزور والافتراء والمراء والمكابرة مع الأنبياء والأولياء، وسوء الظن مع أرباب المحبة والولاء { أولئك } المعزولون عن ساحة عن القبول { لهم اللعنة } أي: الطرد والحرمان والرد والخذلان في النشاة الأولى { ولهم سوء الدار } [الرعد: 25] ورداءة المرجع والمآب في النشأة الأخرى.
ثم لما افتخر أهل مكة بما عندهم من الأمتعة والزخارف وبأهوائها، واستحقوا فقراء المؤمنين وشنعوا عليهم، رد عليهم بكلام ناشئ عن محض الحكمة فقال: { الله } المطلع لاستعدادات عباده { يبسط } أي: يكثر ويوسع { الرزق لمن يشآء } من عباده في النشأة الأولى { ويقدر } أي: يقبض وينقص على من يشاء إرادة واختبار؛ حمكة منه وتدبيرا { و } هم بمفاخرهم ومباهاتهم بحطام الدنيا قد { فرحوا بالحياة الدنيا } المستعارة التي لا قرار لها ولا ثبات بل { وما الحياة الدنيا } وما يترتر عليها من اللذات الفانية والمشتهيات الغير الباقية { في } جانب حياة { الآخرة } وما يترتب عليها من اللذات الدائمة والمئويات الباقية { إلا متاع } [الرعد: 26] قليل حقير، لائق به ولا يلتفت إليه.
{ و } من خبث طينتهم ورداءة فطرتهم { يقول الذين كفروا } بك وبكتابك وبدينك: { لولا } أي: هلا { أنزل عليه آية } ملجئة لإيماننا { من ربه } مع أنه يدعي التأييد منه، ومع شغفه لإيماننا { قل } لهم: ما علي إلا البلاغ { إن الله } المطلع لضمائر عباده { يضل من يشآء } على مقتضى علمه وعدله لمن اراد إضلاله وانتقامه { ويهدي إليه } على مقتضى جوده { من أناب } [الرعد: 27] إليه من ظهر القلب؛ إذ كلي ميسر لما خلق له.
{ الذين آمنوا } بتوحيد { وتطمئن قلوبهم } أي: تسكن وتستقر من دغدغة التقليد الباطل والتلوين المضمحل الزائل { بذكر الله } الواحد الأحد، المستقل في الوجود بلا اضطراب وتعدد وتردد، فقد اضمحلت وتلاشت عن صحائف خواطرهم نقوش الاعتبار والسوى مطلقا { ألا } أيها الطالبون إلى مرتبة الكشف و الشهود { بذكر الله } المسقط للإضافات { تطمئن القلوب } [الرعد: 28] وتتمكن في مقام الحضور وتستريح عن تشاويش الأوهام.
[13.29-31]
{ الذين آمنوا } في أوائل سلوكهم وطلبهم { وعملوا الصالحات } المقربة لهم إلى مطلوبهم { طوبى لهم } الفوز بالفلاح والنجاح { وحسن مآب } [الرعد: 29] وهو التحقق بمقام الكشف والشهود.
{ كذلك } أي: مثل إرسالنا الرسل على الأمم الماضية على مقتضى سنتنا القديمة { أرسلناك } يا أكمل الرسل { في أمة } منحرفة عن طريق الحق، وليس إرسالك عليهم ببدع { قد خلت } ومضت { من قبلهآ أمم } أمثالهم مائلون عن طريق الحق وسواء السبيل، وإنما أرسلناك { لتتلوا عليهم } وتبلغهم { الذي أوحينآ إليك } من المعارف والحقائق والآداب والأخلاق المرضية المقبولة في جنابنا، المودعة في استعدادات عبادنا؛ ليفوزوا بها سعة رحمتنا وجودنا { وهم } لانهماكهم في الغفلات والشهوات { يكفرون } وينكرون { بالرحمن } الذي وسع كل شيء رحمة وعلما { قل } يا أكمل الرسل للمنكرين الغافلين تنبيها عليهم وتبليغا، وإن كانوا من الحمقى الهالكين في تيه الغفلة والنسيان { هو ربي } وربكم ومولى أمري وأموركم { لا إله } في الوجود يعبد له ويرجع إليه في الوقائع { إلا هو } الواحد الأحد، الصمد الفرد، الذي لا شريك له { عليه } لا على غيره من الأظلال { توكلت } في جميع أموري { وإليه } لا إلى غيره من الأسباب والوسائق { متاب } [الرعد: 30] أي: مرجعي ومعادي.
{ و } بالجملة: { لو أن قرآنا } بمثابة لو قرأت { سيرت } وتحركت { به الجبال } عن مكانها الأصلي وأندكت { أو قطعت } أي: انصدعت وانشقت { به الأرض أو كلم به الموتى } عند قراءته عليهم واستماعهم له { بل لله الأمر } أي: القدرة الكاملة والحول التام والقوة الغالبة في الأمور المذكورة { جميعا } له سبحانه، إن تعلق إرادته ومشيئته لكان ألبتة مع ذكر ما ذكر من الأمور، لم يؤمنوا به ولم يقلبوه منك؛ لشدة شكيمتهم وكمال قسوتههم { أفلم ييأس } ولم يقنط { الذين آمنوا } عن إيمان أولئك المدبرين المعاندين، مع ظهور أمارات الكفر عليهم وعلامات الإكار عنهم، سيما بعدما سمعوا في حقهم من الله ما سمعوا، ولم يعلم هؤلاء المؤمنون { أن لو يشآء الله } وتعلق إرادته بهداية الكل { لهدى الناس جميعا } فلم يهدهم لعدم تعلق إرادته بهدايته البعض { و } لا تقنطوا أيها المؤمنون عن نصر الله إياكم على أعدائكم ولا تيأسوا عن روحه؛ إذ { لا يزال الذين كفروا } وأصروا على الكفر عنادا واستكبارا { تصيبهم } وتدور عليهم { بما صنعوا } أي: بصنيهم هذا وإصرارهم عليه { قارعة } داهية هائلة تقرع أسماعهم، وتضطربهم اضطرابا شديدا { أو تحل } وتنزل الداهية العظيمة في أحوالهم { قريبا من دارهم } ومساكنهم لتدور عليهم { حتى يأتي وعد الله } الذي وعده لنبيه بأن ينتقم عنهم ويعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالفتح والظفر عليهم، وفي الآخرة بأنواع العقاب والنكال { إن الله } المؤيد لأنبيائه، المنجز لما وعدهم من إهلاك أعدائهم { لا يخلف الميعاد } [الرعد: 31].
[13.32-35]
ثم لا تحزن يا أكمل الرسل من استهزائهم وسخريتهم معك، ولا تبال بعمههم وسكرتهم وبطرهم واستهتارهم بمالهم وجاههم { و } الله { لقد استهزئ برسل من قبلك } أشد من اسهتزاء هؤلاء معك { فأمليت } وأملهت { للذين كفروا } أي: المستهزئين الذين كفروا حتى انهمكوا في الغفلة وتوغلوا فيها بطرين فرحين { ثم أخذتهم } فجأة واستأصلتهم بغتة { فكيف كان عقاب } [الرعد: 32] مع أولئك؟ ومع هؤلاء أشد من ذلك.
ثم قال سبحانه: { أ } ينسى الحساب وتيرك العقاب { فمن هو قآئم } أي: مطلع محاسب ورقيب حافظ { على كل نفس } من النفوس الخيرة والشريرة ليحيط { بما كسبت } إن خيرا فخير وإن شرا فشر { و } لا سيما الشر الذب { جعلوا لله } الأحد المنزه عن الشريك والولد { شركآء } فوق واحدة من أظلاله ومصنوعاته، مع أنه سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا { قل } لهم تبكيتا عليهم وإلزاما لهم: { سموهم } أي: تلك الشركاء باسماء، وصفوهم بصفات يستحقون بها الألوهية والربوبية { أم تنبئونه } وتخبرونه { بما لا يعلم في الأرض } أي: بأسماء وصفات لا يعلمها في الأرض، بل لا يعلمها في السماء { أم } سموهم { بظاهر من القول } مجازا بلا اعتبار المعنى الحقيقي فيهم، وبالجملة: هم عاجزون عن الكل ساكتون عنها { بل } إنما { زين } وحسن { للذين كفروا } وأشركوا { مكرهم } أي: تمويههم وتلبيسهم مع علمهم ببطلانها { و } مع ذلك { صدوا عن السبيل } أي: قصدوا إعراض ضعفاء المؤمنين عن طريق الحق، ما هو إلا من غيهم وضلالهم في أصل فطرتهم { ومن يضلل الله } وأراد إضلاله { فما له من هاد } [الرعد: 33] يهديهم ويوفقهم إلى سبيل الرشاد.
بل { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بغفلتهم عن معرفة الله واللذات الروحانية مع عدم شعورهم بها { و } الله { لعذاب الآخرة } حين انكشف الحال وارتفع الحجب { أشق } وأصعب { و } كيف لا يكون عذاب الآخرة أشق؛ إذ { ما لهم } فيها { من الله } أي: عذابه وانتقامه { من واق } [الرعد: 34] أي: حافظ شفيع يشفعهم ليخفف عنهم ويحفظهم من عذابه.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد: { مثل الجنة التي وعد المتقون } المتحفظون نفوسهم عن ارتكاب المعاصي والآثام، المتمثلون بما أمروا من العقائد والأحكام { تجري من تحتها الأنهار } لإجرائهم أ،هار المعارف والحقائق على أراضي استعداداتهم؛ لإنبات ثمرات الكشوف والشهود { أكلها } من الرزق المعنوي والأغذية الروحانية { دآئم } غير منقطع { و } كذا { ظلها } الذي تستريحون فيه دائم غير زائل، لا انقطاع لها أصلا كأظلال الدنيا { تلك } الجنة التي وصفت بما وصفت { عقبى الذين اتقوا } أي: عاقبة أمر المؤمنين الذين اتقوا عن محارم الله { وعقبى الكافرين } المصرين على ارتكاب الم عاصي والشهوات البهيمية { النار } [الرعد: 35] المعدة لهم بدل لذاتهم وشهواتهم السيئة.
[13.36-39]
ثم قال سبحانه: { والذين آتيناهم الكتاب } وابتعناهم النبي، المبين لهم ما فيه من الأوامر والنواهي { يفرحون بمآ أنزل إليك } أي: في كتابهم الجامع لما في كتبهم؛ لأنهم يجدونه موافقا مطابقا لكتبهم { ومن الأحزاب } من هؤلاء المتحزبين في أمر القرآن { من ينكر بعضه } أ ي: الآيات الناسخة لبعضها أحكام كتبهم، قل لهم: إنما نسخ ما نسخ من الأحكام الجزئية على مقتضى سنة الله في نسخ بعض الأحكام الجزئية الثابتة في الكتب السابقة بأحكام الكتب اللاحقة، وليس هذا ببدع، وأما العقائد الكلية المصونة عن طريان النسخ والتبديل، فيهي المتفق عليها بين جماهير الأنبياء؛ لذلك { قل إنمآ أمرت أن أعبد الله } الواحد الأحد، الصمد، الحقيق بالحقية، المستقل في الألوهية والربوبية { ولا أشرك به } من أظلاله ومصنوعاته وبمقتضى أمره { إليه } لا إ لى غيره من الأظلال الهالكة في إشراق شمس ذاته { أدعو } دعاء مؤمل متضرع خاشع خاضع { و } كيف لا أدعو؛ إذ { إليه مآب } [الرعد: 36] أ ي: منقلبي ومرجعي، رجوع الظل إلى ذي الظل.
{ وكذلك } أي: مثل إنزالنا للأمم الماضية كتابا بعد كتاب ناسخا لبعض ما فيها على مقتضى الأزمان والأقوام كذلك { أنزلناه } أي: القرآن، إليك يا أكمل الرسل { حكما } مبينا للقضايا على مقتضى الحكمة المتقنة { عربيا } مناسبا بلسانك ولسان قومك يسهل لهم الاسترشاد والاستهداء به، ناسخا لبعض ما في الكتب السالفة { و } الله { لئن اتبعت } انت بنفسك { أهواءهم } أي: أهواء أهل الكتاب وإن كانت قبيل النسخ هدى سيما { بعد ما جآءك } في كتابك { من العلم } بنسخها وبصيرورتها هوى { ما لك من الله } من غضبه وانتقامه { من ولي } يولي أمرك بالاستخلاص والاستشفاع { ولا واق } [الرعد: 37] يحفظك ويمنعك من مقته.
ثم قال سبحانه: { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك } مثلك { وجعلنا لهم أزواجا وذرية } مثل أزواجك وأولادك، فلا يقدح في نبوتهم أزواجهم وأولادهم، فكيف يقدح في نبوتك مع أنك أفضل منهم { و } أيضا أرسلنا رسلا من قبلك { ما كان } أي: ما صح وجاز { لرسول } منهم { أن يأتي بآية } مقترحة { إلا بإذن الله } ووحيه { لكل أجل } ووقت يسع فيه أمر من الأمور الكائنة والفسادة { كتاب } [الرعد: 38] نازل من عنده ناطق بوقوع ما كان ويكون فيه.
{ يمحوا الله ما يشآء } وبنسخه على مقتضى حكمته وإرادته { ويثبت } ما أراد إثباته { وعنده أم الكتاب } [الرعد: 39] أي: لوح القضاء والقدر المتوالية، المتتالية على مقتضى الأوصاف الذاتية الإلهية والتجليات اللطيفة والقهرية والجلالية والجمالية.
[13.40-43]
{ و } بالجملة: لا تفرح يا أكمل الرسل { إن ما نرينك } أي: إن تحقق إراءتنا لك { بعض الذي نعدهم } من الإهلاك والإجلاء والقهر والغلبة { أو نتوفينك } أي: لا تغتم أيضا أن تحقق توفينا لك قبل رؤيتك بما نعدهم من العذاب والنكال بل { فإنما عليك } أي: ليس في وسعك وطاقتك { البلاغ } بما أمرت بتبليغه { وعلينا الحساب } [الرعد: 40] والجزاء بمقتضاه عاجلا وآجلا.
{ أ } ينكرون حسابنا إياهم وانتقامنا عنهم { ولم يروا أنا نأتي الأرض } التي شاعتب فيها كفرهم { ننقصها من أطرافها } وأرجائها حتى ضاقت عليهم بإظهار دين الإسلام وإكثار أهله { والله } المدبر على مقتضى الحكمة { يحكم } بحكم مبرم { لا معقب لحكمه } أصلا ليبدله ويغيره { وهو سريع الحساب } [الرعد: 41] صعب الانتقام على من أراد تغيير حكمه وتبديله.
{ وقد مكر الذين من قبلهم } مع أنبيائهم المبعوثين إليهم مثل مكر هؤلاء المكارين معك يا أكمل الرسل، فلحقهم ما لحقهم وهم غافلون عن مكر الله { فلله } المطلع لعواقب الأمور { المكر } المعتد به { جميعا } إذ { يعلم } بعلمه الحضوري { ما تكسب كل نفس } من خير وشر ونفع وضر، فينتقم هو عنها على مقتضى علمه { و } هم وإن غفلوا من مكر الله وما يترتب عليه من الوبال { سيعلم الكفار } المصرون على الكفر والضلال { لمن } من الفريقين { عقبى الدار } [الرعد: 42] أي: العاقبة الحميدة في النشأة الأخرى.
{ و } من شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل { يقول الذين كفروا } بدينك وكتابك؛ أي: رؤساؤهم وصناديدهم: { لست مرسلا } من عند الله مثل سائر الرسل؛ لذلك ما نتبعك ونؤمن بك وبكتابك { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } أي: كفى الله بى شاهد لإثبات رسالتي وادعائي النبوة؛ إذ أيدني بالمعجزات القاطعة والبراهين الساطعة { ومن عنده علم الكتاب } [الرعد: 43] من أصحاب اللسن والفصاحة وأرباب الفطنة والذكاء، المتأملين في مرموزات الكتاب، المتنعمين في استكشاف سرائره، لو تأملوا فيه حق تأمل وتدبر، لم يبق لهم شائبة شك وتردد في أنه ما هو من جنس كلام البشر، بل ما هو إ لا وحي يوحى
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب القاصد لاستكشاف سرائر المرتبة الجامعة المحمدية التي اتحد عندها قوسا الوجوب والإمكان، واتصل دوننها الغيب والشهادة أن تتأمل في القرآن المنزل عليه من عند ربه على مقتضى نشأته وكمال استعداده وعزة شأنه، وتتدبر حق التدبر في مرموزاته بقدر وسعك وطاقتك، وإن كان الاطلاع على غوره من المستحيلات سيما بالنسبة إلى ذوي الاستعدادات الضعيفة حتى يشهد لك ذوقك ووجدانك برسالته وبنوبته وهدايته إلى توحيد ربه وإرشاده إلى سبيل الحق، ولا يتيسر لك هذا إلا بعد تصفية ظاهرك عن الشواغل الحسية والعلائق الدنياوية مطلقا، وباطنك عن التقليدات والتخمينات الموروثة لدرن الجهالات ورين الخيالات الموقعة لأنواع الشبهات والترردات.
وبالجملة: لا يحصل لك هذا إلا بعد تحققك في مرتبة الموت الأرادي وخروجك عن مقتضى هويتك مطلقا.
جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق توحيده، ووفقه إلى سواء سبيله بمنه وجوده.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1-4]
{ الر } أيها الإنسان الكامل الأحق الأليق للوامع لوائح رموزات رقائق الربوبيية بأن تنزل على قلبك بطريق الوحي والإلهام، فتذيعه بين الأنام على سبيل الإرشاد والتكميل هذا { كتاب } جامع لجميع لوامع رقائق الربوبية ودقائق لوائح الألوهية ، مناسب مطابق لمرتبتك الجامعة { أنزلناه إليك } تأييدا لك في أمرك { لتخرج الناس } الناسين المقام الأصلي والمنزل الحقيقي { من الظلمات } الإمكانية الطبيعية الهيولانية { إلى النور } البحت الخالص عن شوب المادة والمدة، وليس إخراجك إياهم إلا { بإذن ربهم } الذي رباهم في أصل استعداداتهم وفطرتهم بأنواع اللطف والكرم، ووفقهم على قبول ما جئت به من عند ربهم ليوصلهم { إلى صراط العزيز } الغالب في أمره على مقتضى قدرته وإرادته على الوجه الأقوم الأعدل { الحميد } [إبراهيم: 1] في فعله؛ لخلوه عن كلا طرفي الإفراط والتفريط.
وكيف لا يكون صراطه مستقيما وأفعاله معتدلا مقتصدا؛ إذ هو { الله } المستجمع لجميع الكمالات { الذي له } تكوين { ما في السموت } من الكواكب السيارات والثوابت على النمط البديع والتركيب العجيب { وما في الأرض } من العناصر والمركبات على أقوم الأزمجة وأعدله { وويل } أي: طرد وتبعيد عن مرتبة التوحيد { للكافرين } الساترين شمس الحق الظاهر بالعدالة التامة والاستحقاق بغيوم الأظلال الباطلة والعكوس العاطلة { من عذاب شديد } [إبراهيم: 2] هو مسخهم وتبديلهم عن كما مظهرية الحق وخلافته إلى مرتبة الحيواناا العجم، بل إلى مربتة الجمادات التي هي أنزل المراتب
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف: 179].
وهم { الذين يستحبون الحياة الدنيا } المستعارة التي لا مداد لها ولا قرار؛ إذ هي أظلال في ظلمة عكوس عاطلة { على الآخرة } أي: على الحياة الأخروية التي هي بقاء سرمدي وحياة أزلية لا انقضاء لها أصلا { و } هم مع اختيارهم وترجيحهم الحياة الفانية على الباقية { يصدون } ويصرفون الناس { عن سبيل الله } الذي هو الإيمان بالله وبرسوله وكتابه { ويبغونها عوجا } أي: يطلبون أن يحدثوا فيها مع استقامتها انحرافا { أولئك } الأشقياء المردودون عن طريق الحق، الساعو في الباطل مكبارة وعنادا { في ضلال بعيد } [إبراهيم: 3] عن الهداية بمراحل بحيث لا يرجى هدياتهم أصلا؛ لأنهم مجبولون على الضلالة الغواية في أصل فطرتهم.
{ ومآ أرسلنا من رسول } من الرسل على أمة من الأمم { إلا بلسان قومه } أي: ما أرسلنا إلا للغة موافقة بلغة قومه؛ ليفقهوا حديثه ويفهموا لسانه { ليبين لهم } طريق التوحيد، وبجنبهم عن خلافه وما عليه، وفي وسعه إلا البلاغ { فيضل الله } المضل المذل لعباده { من يشآء } إضلاله وإذلاله على مقتضى قهره وجلاله { ويهدي من يشآء } هدايته على مقتضى لطفه وجماله { وهو } في ذاته { العزيز } الغالب على ما أراد وشاء إرادة واختيار { الحكيم } [إبراهيم: 4] المتقن في فعله على مقتضى إرادته.
[14.5-7]
ثم ذكر سبحانه قصة إرسال موسى إلى قومه حيث فشا الجدال والمراء بينهم وانحرفوا عن طريق الحق؛ ليتعط به المؤمنون ويعتبروا، فقال: { ولقد أرسلنا } من مقام فضلنا وجودنا { موسى } المؤيد { بآياتنآ } الباهرة مثل: العصا واليد البيضاء وسائر المعجزات الظاهرة على يده، وقلنا له { أن أخرج قومك } الضالين عن سواء السبيل بمتابعة الأهوية الفاسدة { من } أنواع { الظلمات } الطارئة عليهم من الكفر والفسوق والعصيان والتقليدات والتخمينات الناشئة من الأوهام والخيالات، المنبعثة عن الكثرة المستدعية للأنانية التي هي الظلمة الحقيقية { إلى النور } الحقيقي الذي هو صرافة التوحيد والوحدة الذاتية المسقطة لجميع الإضافات والكثرات { وذكرهم } أيضا { بأيام الله } التي مضت على الأمم الهالكة من أمثال هذه الأفعال المورثة لأنواع الظلمات؛ لعلهم يعتبروا عن سماعها وينصرفوا عما هم عليه من القبائح والذمائم { إن في ذلك } أي: في ذكر تلك الوقائع الهائلة والبليات العظيمة { لآيات } أي: دلائل واحضات وعبر { لكل } مؤمن معتبر من أمثاله خائف من بطش الله { صبار } على ما جرى عليه من قضائه { شكور } [إبراهيم: 5] مبالغ في الشكر على ما وصل إليه من آلائه ونعمائه.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { إذ قال موسى لقومه } حين أراد تعديد نعم الله عليهم وإحسانه إليهم؛ ليستحيوا عن مخالفة أمره وترك طاعته وعبادته { اذكروا } أيها المغمورون بنعم الله { نعمة الله عليكم } وقوموا لشكرها؛ أداء لحق شيء منها سيما { إذ أنجاكم من آل فرعون } حين { يسومونكم } ويقصدون لكم { سوء العذاب } أي: أفضحة وأقبحة { و } هو أنه { يذبحون أبنآءكم } قمعا وقلعا لعرقكم { ويستحيون نسآءكم } توبيخا وتقريعا عليكم { وفي ذلكم بلاء } نازل { من ربكم } إذ هو بإقدار الله إياهم { عظيم } [إبراهيم: 6] لا بلاء أعظم منه.
والإنجاء عن أمثال هذا البلاء من أعظم النعماء، فعليكم أن تواظبوا لشكره { و } اذكروا أيضا { إذ تأذن ربكم } أي: أعلمكم إعلاما بليغا، وأوصاكم وصية عظيمة تتميما لتربيتكم { لئن شكرتم } على ما أعطيتم من النعم العظام وقمتم لأداء حقها { لأزيدنكم } وأضاعفنكم بأمثالها وأضعافها { ولئن كفرتم } في مقابلة الإحسان والعطاء، فلا يلحق على أثر كفرانكم، بل { إن عذابي } ونكالي على من صرف عن أمري وخرج عن إطاعتي وانقيادي { لشديد } [إبراهيم: 7] مبرم محكم لا يندفع أصلا، فعليكم أن تلازموا الشكر وتجانبوا عن الكفران.
[14.8-10]
{ و } بعدما فرغ عن التعديد والتذكير { قال } لهم { موسى } قولا ناشئا عن محض الحكمة والرزانة على مقتضى نور النبوة والولاية: { إن تكفروا } أيها الغافلون عن كمال استغناء الله وعلو شأنه وسمو سلطانه { أنتم } بأجمعكم، بل { ومن في الأرض جميعا } لا يزن في جنب استغنائه سبحانه مقدار جناح بعوضة { فإن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { لغني } في ذاته عما سواه من أظلاله مطلقا { حميد } [إبراهيم: 8] بمقتضيات أوصافه وأسمائه وأسمائه.
{ ألم يأتكم } أيها التائهون في تيه الغفلة والغرور { نبأ الذين } مضو { من قبلكم } لمثل { قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم } من الأمم الهالكة { لا يعلمهم إلا الله } المطلع لجميع ما كان ويكون، لا يعزب عن حيطة حضرة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء حين { جآءتهم رسلهم } المبعوثون إليهم { بالبينت } الواضحات، والمعجزات الباهرات المثبتة لرسالاتهم، فدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وأمروهم بالمعروفات ونهوهم عن المنكرات { فردوا أيديهم في أفوههم } مشيرين إليها من غاية إنكارهم واستهزائهم { وقالوا إنا كفرنا } أي: اعترفنا بالكفر بأفواهنا، كأنهم أخبروا عن كفرهم بالجملة الماضية تحقيقا وتقريرا لما هم عليه من الكفر والطغيان { بمآ أرسلتم به } من عند ربكم وكيف نؤمن لكم { وإنا لفي شك } عظيم { مما تدعوننآ إليه } من الإله الواحد، الأحد الصمد المتصف بجميع صفات الكمال، الموجد المظهر للكائنات { مريب } [إبراهيم: 9] موقع للريب المؤدي إلى الإنكار؛ إذ المتصف بهذه الصفات لا بد أن يكون أظهر من الشمس، مع أنه أخفى من كل شيء، بل لا وجود له أصلا.
{ قالت } لهم { رسلهم } على سبيل التوبيخ والتقريع: { أفي الله } الظاهر المتجلي في الآفاق بالاستقلال والاستحقاق { شك } وتردد مع كونه { فاطر السموت والأرض } أي: موجدهما ومظهرهما من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة، إنما { يدعوكم } إلى توحيده بإرسال الرسل وإنزال الكتب { ليغفر لكم } بعضا { من ذنوبكم } وهو ما بينكم وبينه سبحانه؛ إذ حق الغير لم يسقط ما لم يعف صاحب الحق عنه { و } بعد دعوتكم { يؤخركم إلى أجل مسمى } هو يوم الجزاء؛ ليهيئ كل منكم زاد يومه هذا على الوجه المأمور المبين في الكتب المنزلة على الرسل، وبعدما سمعوا من الرسل ما سمعوا { قالوا } مستنكرين عليه، مستهزئين لهم: { إن أنتم } أي: ما أنتم { إلا بشر مثلنا } تأكلون وتشربون وتفعلون جميع ما نفعل { تريدون } بأمثال هذه الحيل والتزويرات الباطلة { أن تصدونا عما كان يعبد آبآؤنا } وأسلافنا من الآلهة والأصنام، وإن صدقتم في دعواكم { فأتونا بسلطان مبين } [إبراهيم: 10] أي: بحجة واضحة لائحة نقترحها منكم.
[14.11-12]
{ قالت لهم رسلهم } مسلمين منهم المشاركة في الجنس: { إن نحن إلا بشر مثلكم } نشارك لكم في جميع أحوال البشر وأوصافه { ولكن الله } المنعم المفضل { يمن على من يشآء من عباده } بمقتضى جوده وأحسانه بفضائل مخصوصة وكرائم غير شاملة على تفاوت مراتبهم واستعدادتهم المثبتة في علم الله { و } أما أمر مقترحاتكم فإنه { ما كان } أي: صح وجاز { لنآ أن نأتيكم بسلطان } تقترحون { إلا بإذن الله } أي: بتوفيقه ووحيه وإقداره إن تعلق إرادته بصدورها منا { وعلى الله } لا على غيره من الأسباب والوسائل العداية { فليتوكل المؤمنون } [إبراهيم: 11] الموحدون المفوضون أمورهم كلها إلى الله أولا وبالذات، ولا يعتقدون الحول والقوة إلا بالله المستقل في ذاته وأوصافه وأفعاله.
{ و } بعدما آيسوا عنهم وعن صلاحهم اشتغلوا إلى تزكية نفوسهم { ما لنآ } أي: أي عذر عرض لنا { ألا نتوكل على الله } المصلح لأحوالنا، فلم لم نتخذه وكيلنا وكفيلنا؟ { و } الحال أنه سبحانه بمقتضى لطفه وجماله { قد هدانا } وأوضح لنا { سبلنا } التي نسلك بها نحو توحيده وعرفانه، وإن ما جرى علينا من المنافع والمضار إنما هو من عنده وبمقتضى مشيئته وإرادته { و } الله بعدما تحققنا بمقام التوحيد ، وتمكنا في مقر التجريد والتفريد { لنصبرن } على جميع { على مآ آذيتمونا } بالرد والإنكار وغير ذلك من الاستهزاء وسوء الأدب، وكيف لا نصبر؛ إذ الكل بيده سبحانه وبحيطة حضرة قدرته وإرادته، إنما وصل إلينا ابتلاء منه سبحاه إيانا واختبارا { و } بعدما تحقق وبين أن الكل من عنده { على الله } المستقل في جميع التصرفات والأفعال في كل الأمور والأحوال { فليتوكل المتوكلون } [إبراهيم: 12] الموحدون، المفوضون أمورهم كلها إليه؛ لذلك بذلوا مهجهم في طريق التوحيد وإعلاء كلمته.
[14.13-17]
{ و } بالجملة: أدى أمر استكبارهم واستنكارهم وتكذيبهم إلى أن { قال الذين كفروا لرسلهم } حين بالغوا في دعوتهم وإهدائهم { لنخرجنكم } أيها المزورون الملبسون { من أرضنآ } إجلاء وإخراجا على وجه الإهانة والإذلال { أو لتعودن } منصفين ملجئين { في ملتنا } التي هي ملة آبائكم وأسلافكم { فأوحى إليهم ربهم } حين اشتد الأمر إليهم واضطروا من ظلمهم وطغيانهم، قائلا لهم على سبيل الوعد والتبشير: لا تبالوا أيها الرسل المبلغون كلمة الحق إليهم من تهديداتهم وتشنيعاتهم، ولا تخافوا من شوكتهم وصولتهم نحن أقوى منهم { لنهلكن } بمقتضى قهرنا وجلالنا ونستأصلن { الظالمين } [إبراهيم: 13] الخارجين عن ربقة إطاعتكم وانقيادكم.
{ ولنسكننكم } ونقررنكم { الأرض } التي هم يريدون إخراجكم منها مهانين صاغرين { من بعدهم } أي: أهلاكهم واستئصالهم { ذلك } أي: إهلاك العدو وإيراث الأرض والديار { لمن خاف مقامي } أي: للمؤمنين الموعدين الخائفين عن قيامي وحفظي واطلاعي لجميع أحوال عبادي، وبسبب خوفهم هذا لا يخرجون عن متقضى نهيي وأمري { و } مع ذلك الخوف { خاف وعيد } [إبراهيم: 14] أي: عن وعيدي في يوم الجزاء بأنواع العذاب والنكال.
ومن غاية خوفهم ورعبهم عن الوعيدات الأخروية استعدوا لها، وهيأوا أسباب النجاة منها، جعلنا الله ممن هيأ أسباب أخراه في أولاه { و } كيف لا ينصرهم الحق ولا يهلك عدوهم؛ إذ هم { استفتحوا } واستنصروا من الله، وطلبوا الفتح والنصرة على أعدائهم، مفوضين أمورهم كلها، مسلمين نفوسهم وأرواجهم على قضائه؛ لذلك فتح سبحاه عليهم ونصرهم على عدوهم { وخاب } خيبة أبدية وخسر خسرانا سرمديا { كل جبار } متكبر متجبر عكلى ا لله وعلى عباده { عنيد } [إبراهيم: 15] مبالغ في العتو والعناد مع أنبيائه ورسله.
ومع ذلك لا يقتصر عليهم بالعذاب العاجل، بل { من ورآئه } أي: وراء العذاب الدنيوي { جهنم } العبد والخذلان والطرد والحرمان { ويسقى } فيها حين اشتد زفرتهم { من مآء } أي: مائع كالماء { صديد } [إبراهيم: 16] أي: قيح سائل من جراحات أجساد أهل النار.
{ يتجرعه } بتكلف واضطراب { ولا يكاد يسيغه } أي: لا يقارب أن يجري على حلقه؛ للزوجته وحرارته والتصاقه { و } لعدم إساغته وجوازه { يأتيه الموت من كل مكان } أي: يأتيه ويتوجه نحوه أسباب الموت من كل عضو من أعضائه؛ لوصول أثر اشتداده ورداءته وبشاعته كل جزء من أجزاء بدنه حتى أصول شعره، فتقشعر من هوله كما يشاهد عند شرب الأدوية الرديئة الكريهة الرائحة واللذة مثل: السقمونياء والحنظل وغير ذلك { و } مع إتيان أسباب الموت من جميع الأعضاء { ما هو بميت } حتى يخلص من العذاب، بل { ومن ورآئه } أي: عقيب سقيه على هذا الوجه { عذاب غليظ } [إبراهيم: 17] من أنواع العذاب.
[14.18-21]
ثم قال سبحانه كلاما جمليا شاملا لجميع أصحاب الضلال: { مثل الذين كفروا بربهم } الذي رباهم بأنواع النعم، فيكفرون النعم والمنعم جميعا متى لم يصلوا إلى مرتبة توحيده وعرفانه، ولم يؤمنوا به حتى يصلوا بالسلوك والمجاهدة إليه، شأنهم العجيب وحالهم الغريبة فيما يتلى عليكم أنه { أعمالهم } الحسنة من الصدقة والعتق والصلة وغير ذلك من الأعمال المقربة إلى الحق إن كانت غير مقروننة بالإيمان والمعرفة { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } ذو رياح شديدة عاصفة فطار بها الرماد إلى حيثن لم يبق في مكانه أثر منه، أي: مثلهم وشأنهم في كون أعمالهم محبطة يوم القيامة كمثل ذلك الرماد بحيث { لا يقدرون } لدى الحاجة { مما كسبوا } من الأعمال المنجية المخلصة { على شيء } قليل حقير، فكيف بالكثير العظيم منها؟! { ذلك } الإحباط والهباء وعدم النفع { هو الضلال البعيد } [إبراهيم: 18] بمراحل عن الهداية والفوز بالفلاح، وما ذلك إلا لعدم مقارنتها بالإيمان والعرفان، ولتكذيب الرسل المبينين لهم طريق التوحيد والإيقان.
{ ألم تر } أيها الرائي المستبعد لإحباط أعمال أولئك الكفرة المعاندين مع الله ورسله { أن الله } القادر، المقتدر بالقدرة التامة الكاملة بحيث لا ينتهي قدرته أصلآ { خلق السموت والأرض } أي: أظهرهما وأوجدهما من كتم العدم على وجه الإبداع والاختراع { بالحق } الثابت المطابق للحكمة البالغة الكاملة بحيث ما ترى فيها من فطور وفتور، يشاهد أهل البصائر والاعتبار هذا النمط البديع والنظام العجيب فينكشفوا منها إلى مبدئها ومنشئها، ومع ذلك { إن يشأ } سبحانه { يذهبكم } أيها المائلون عن طريق لاحق الناكبون عن مقتضى حكمته بمتابعة أهوية نفوسكم ومقتيضات هوياتكم الباطلة { ويأت } بدلكم { بخلق } آخر { جديد } [إبراهيم: 19] مستبدع مستحدث؛ ليواظبوا على طاعته ويداوموا على مقتضيات حكمته.
{ و } لا تستبعدوا من الله أمثال ذلك؛ إذ { ما ذلك } وأمثاله { على الله } المتعزز بالمجد والبهاء والعظمة والكبرياس والبسطة والاستيلاء { بعزيز } [إبراهيم: 20] متعذر أو متعسر؛ إذ لا يتعسر على قدرته المقدور، ولا يتعذر عليه شيء من الأمور.
{ و } كيف يتعسر أو يتعذر عليه شيء من الأشياء؛ إذ الكل { برزوا } أي: ظهروا ورجعوا في النشأة الآخرة { لله } المظهر المبرز لهم من كتم العدم { جميعا } مجتمعين؛ إذ لا يخرج عن حيطته شيء { فقال الضعفاء } من ذوي الاستعدادات الضعيفة حين أخذوا بجرائمهم { للذين استكبروا } عليهم في النشأة الأولى بالرئاسة والعقل والتام، وإدعاء الفضل والكمال إلى حيث جعلوا نوفسهم مبتدعين لهم حيث قالوا: { إنا كنا لكم تبعا } في دار الدنيا، وأنتم ناصحون لنا، آمرون بتكذيب الرسل وأنواع الفواحش والقبائح الممنوعة بألسنة الرسل { فهل أنتم } اليوم حي أخذنا على ما أمرتمونا { مغنون عنا } أي: دافعون مانعون { من عذاب الله } المنتقم منا { من شيء } أي: بعض من عذابنا ونكالنا؟! { قالوا } أي: المستكبرون بعدما عاتبهم الضعفاء: { لو هدانا الله } الهادي لعباده { لهديناكم } ولكن أضلنا باسمه المضل، فأضللناهم، فالآن نحن وأنتم ضالون ضالمون مؤاخذون { سوآء علينآ } وعليكم { أجزعنآ } عن شدة العذاب والنكال { أم صبرنا } على مقاساته وأحزانه { ما لنا من محيص } [إبراهيم: 21] أي: مخلص ومناص.
[14.22-23]
{ وقال الشيطان } أي: الأهوية الفاسدة المفسدة لهم في شأنهم الأولى مصورة على صورة الشيطان المغوي { لما قضي الأمر } أي: بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار: { إن الله } المصلح المدبر لأحوال عباده { وعدكم وعد الحق } هذا اليوم الذي به تؤاخذون فيه { ووعدتكم } ضلالا وإغراء لكم بخلافه { فأخلفتكم } ما وعد به ربكم مع أن إنجازه مقطوع به لا شك فيه أصلا، وابتعتم قولي مع أنه غرور وإضلال لا يرجى إنجازه مني أصلا وأنتم جازمون به { و } الحال أنه { ما كان لي عليكم من سلطان } حجة مرجحة وأدلة ملجئة { إلا أن دعوتكم } أي: سوى أن دعوتكم على مقتضى أهويتكم وأمنيتكم التي تقتضيها هويتكم وماهيتكم، ومع ذلك { فاستجبتم لي } وصدقتم قولي بلا تردد ومماطلة طوعا ورغبة.
{ فلا تلوموني } اليوم { ولوموا أنفسكم } الباعثة الداعية على متابعتي مع جزمكم بمكري وعداوتي { مآ أنا } اليوم { بمصرخكم } أي: مغيثكم ومعينكم، وإن ادعيت فيمامضى تغريرا وتلبيسا { ومآ أنتم } أيضا { بمصرخي } إذا انكشف الحال وانقطعت علاقة المحبة بيننا، وصارت كل نفس رهينة بما كسبت { إني } اليوم بعد انكشاف السرائر والضمائر { كفرت } أي: تبرأت وأنكرت { بمآ أشركتمون } أي: بإشراككم معي في إشراك الله الواحد الأحد الصمد، الذي لا شريك له أصلا { من قبل } في دار التلبيس والتزوير والإغواء والتغرير { إن الظالمين } الخارجين عن مقتضيات أوامر الله ونواهيه عداونا وزورا { لهم } اليوم { عذاب أليم } [إبراهيم: 22] مؤلم أشد الإيلام.
ثم بين سبحانه على مقتضى سنته المستمرة بعدما بين أحوال الهالكين المنهمكين في تيه العتو والعناد، وفظاعة أمرهم في يوم الجزاء مآل المؤمنين الناجين عن تغريرات الدنيا الدنية وتسويلات الشياطين الغوية فيها.
فقال: { وأدخل الذين آمنوا } بتوحيد الله وتصديق كتبه ورسله { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } التي هي نتائج الإيمان { جنات } متنزهات من العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } لتنبت في أراضي استعداداتهم وقابلياتهم ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من المكاشفات والمشاهدات الخارجة عن طريق البشر، ومع ذلك { خالدين فيها بإذن ربهم } أي: برضاه وتوفيقه وتيسيره { تحيتهم } من قبل الحق بلسان الملائكة حتن ملاقاتهم { فيها سلام } [إبراهيم: 23] لأنهم مسلمون منقادون مسلمون أمورهم كلها إلى الله.
[14.24-27]
{ ألم تر } أيها الرائي المعتبر الخبير البصير { كيف ضرب الله } الهادي لعباده إلى توحيده { مثلا } لينتبهوا منه بأن شبه { كلمة طيبة } هي كلمة التوحيد القائلة المفصحة بألا وجود لسوى الحق { كشجرة طيبة } هي النخلة التي { أصلها } وعروقها { ثابت } في الأرض بحيث لا يقلعها ولا يشوشها الرياح أصلا { وفرعها } أي: أفنانها وأغصانها مرتفعة { في } جانب { السمآء } [إبراهيم: 24].
{ تؤتي أكلها } أي: ثمارها { كل حين } من الأحيان المعينة للإثمار { بإذن ربها } أي: بإرادته ومشيئته؛ يعني: كما أن النخلة تنمو وتثمر بسبب أصلها الثابت في الأرض وفرعها المرتفع نحو السمااء، ويحصل منها الثمر وقت حصولها، كذلك الكلمة الطيبة التوحيدية المستقرة، أصلها في أراضي الاستعدادات الطفرية المرتفعة أغصانها وأفنانها نحو سماء العالم الروحاني، المثمرة لثمرات المكاشفات والمشاهدات، القالعة القامعة لأشواك الكثرات، الناشئة من الإضافات العدمية { و } لا حاجة لأولي البصائر والألباب، المنكشفين بصرافة الوحدة الذاتية إلى أمثال هذه التنبيهات، بل { يضرب الله } المطلع لسرائر استعدادات عباده { الأمثال } المذكورة { للناس } الناسين عهودهم ومواثيقم مع الله بحجب تعيناتهم المستتبعة للإضافات والكثرات { لعلهم يتذكرون } [إبراهيم: 25] رجاء أن يتذكروا ما نسوا من أمثال هذه الأمثال.
{ و } أيضا { مثل كلمة خبيثة } هي كلمة الكفر المستتبعة لأنواع الفسوق والعصيان، المخالفة لجادة التوحيد { كشجرة خبيثة } هي الحنظلة التي { اجتثت } أي: أخذت تنمو جثتها { من فوق الأرض } بلا استحكام عرقها في الأرض وتعمقها؛ لذلك { ما لها من قرار } [إبراهيم: 26] إذ أدنى الرياض يقلبها كيف يشاء؛ يعني: كما أن الشجرة الخبيثة الغير المستقرة بقلبها الرياح كيف يشاء كذلك اعتقادات الكفرة والفسقة المقلدة يقلبها أدنى رياح الشكوك والشبهات، وتوقعهم في مهاوي الأوهام والخيالات.
وبالجملة: { يثبت الله } المصلح لأحوال عباده { الذين آمنوا بالقول الثابت } أي: بالإقرار المطابق للاعتقاد { في الحياة الدنيا } أي: حيث بذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الحق و ينصرفون عنها { وفي الآخرة } أيضا بحيث لا يتلعثمون ولا يضطربون يوم العرض الأكبر، بل في البرزخ أيضا عند سؤال المنكر والنكير { و } كما يثبت المؤمنين بالإيمان كذلك { يضل الله } المذل المضل { الظالمين } الذين خرجوا عن ربقة العبودية عنادا واستكبارا؛ أي: يثبتهم على الضلال إيى حيث لا يفوزون بالفلاح أصلا، بل صاروا خالدين في النار أبد الآباد { و } بالجملة: { يفعل الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { ما يشآء } [إبراهيم: 27] من الإهداء والإضلال، والإعزاز والإذلال.
[14.28-34]
{ ألم تر } أيها الرائي إلى الظالمين المسرفين { إلى الذين بدلوا نعمت الله } الفائضة عليهم من محض فعله و عطائه؛ ليشكروا له ويواظبوا على أداء حقه { كفرا } أي: يصرفونها كفرانا لها إلى البغي والطغيان على الله وعلى خلص عباده، مع أن المناسب صرفها إلى إعلاء كلمة الله ونصر دينه ونبيه { و } لذلك { أحلوا } وأدخلوا نفوسهم { قومهم } التابعين لهم المعاندين لكفرهم { دار البوار } [إبراهيم: 28] أي: الهلاك والخسار.
يعني: { جهنم } التي { يصلونها } أي: يدخلون فيها أذلاء مهانين مقهورين، لا نجاة لهم منها أصلا { وبئس القرار } [إبراهيم: 29] والمقر مقرهم الذي هو جهنم الطرد والخذلان.
ومن خبث بواطنهم { و } شدة شكيمتهم { جعلوا لله } المتوحد في ذاته { أندادا } شركاء من أضلاله ومصنوعاته { ليضلوا } ضعفاء الأنام { عن سبيله } الذي هو دين الإسلام الموصل إلى توحيد الله { قل } لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع: { تمتعوا } أيها المسرفون بما أنتم عليه من الكفر والعناد { فإن مصيركم } ومآل أمركم { إلى النار } [إبراهيم: 30] المعدة لتخذيلكم وجزائكم.
{ قل } يا أكمل الرسل { لعبادي الذين آمنوا } بجميع ما جئت به إليهم من أمور الدين سيما الصلاة المصفية لبواطنهم والزكاة المزكية لظواهرهم كذلك: { يقيموا الصلاة } أي: يديموها في الأوقات المفروضة فيها { وينفقوا مما رزقناهم } على المستحقين { سرا } بلا سبق سؤال { وعلانية } بعد السؤال، استعدوا أيها الطالبون للنجاة لأخراكم في أولاكم، وأعدوا زاد عقباكم { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } ليتدارك المقصر بالإنفاق والصدقة بعض تقصيراته { ولا } يقبل فيه { خلال } [إبراهيم: 31] أي: شفاعة من خليل حميم يشفع للجرائم والتقصيرات.
وكيف لا تستعدون بعدما أمركم الله بإعداده ووفق أسبابه عليكم؛ إذ { الله } الموفق لعباده أسباب معادهم هو المدبر المصلح { الذي خلق السموت } أي: العلويات المعدة للإحاطة { والأرض } أي: السفليات القابلة للفيض { وأنزل } أي: أفاض { من } جانب { السمآء مآء فأخرج به من } أنواع { الثمرات } لتكون { رزقا لكم } مقوما لمزاجكم، مبقيا لحياتكم؛ لتواظبوا على طاعة الله وإعداد زاد يوم المعاد { و } مع ذلك { سخر لكم الفلك } أي: السفن الجارية { لتجري في البحر بأمره } أي: بمشيئته وإرادته؛ لتسيروا معها إلى حيث شئتم وتتجروا بها وتربحوا { وسخر لكم } أيضا { الأنهار } [إبراهيم: 32] الجارية على بسيط الأرض؛ ليسهل لكم إخراج الجداول منها للحراثة والزراعة.
{ وسخر لكم } أيضا { الشمس والقمر دآئبين } مختلفين في سيرهما شتاء وصيفا خريفا وربيعا؛ لإنضاج ما تحرثونه وتزرعونه { وسخر لكم اليل والنهار } [إبراهيم: 33] لسباتكم ومعاشكم.
{ و } بالجملة: { آتاكم من كل ما سألتموه } بلسان استعداداتكم وقابلياتكم من متممات نفوسكم ومكملاات إدراككم { و } بلغ إنعامه سبحانه إياكم في الكثرة إلى حيث { إن تعدوا } وتحصوا { نعمت الله } الفائضة عليكم لتربيتكم { لا تحصوها } أي: لا يسع لكم إحصاؤها من مال كثرتها ووفورها، فلكم أن تواظبوا على شكرها وأداء حق شيء منها، وإن كانت القوة لا تفي بأدائها، لكن قليلا منكم يشكرون نعمه { إن الإنسان } المجبول على الغفلة والنسيان في أصل فطرته باعتبار قوى بشريته وبهيميته { لظلوم } أي: مظلوم محزون عند الشدة وهجوم البلاء { كفار } [إبراهيم: 34] مبالغ في الكفران والنسيان وقت الفرح والسرور.
[14.35-39]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قال } جدك { إبراهيم } حين ناجى مع الله بعدما عمر مكة: { رب اجعل هذا البلد } التي تأمرني بتعميرها؛ يعني: مكة { ءامنا } ذا أمن وأمان من تخريب العدو وتغييرها { واجنبني } أي: بعدتي { وبني أن نعبد الأصنام } [إبراهيم: 35] بتسويلات الأهوية الفاسدة والشياطين المضلة.
{ رب إنهن } أي: الأوثان والأصنام بإظهارك بعض الخوارق عليها { أضللن } وصرفن { كثيرا من الناس } عن جادة توحيدك { فمن تبعني } بعدما دعوتهم إلى توحيدك { فإنه مني } وعلى ملتي وديني { ومن عصاني } ولم يقبل قولي وأصر على ما هو عليه { فإنك } بمقتضى جودك وفضلك { غفور } قادر على العفو والمغفرة عن جميع المعاصي { رحيم } [إبراهيم: 36] ترحمهم بمقتضى سعة رحمتك وحلمك.
{ ربنآ إني أسكنت من ذريتي } إذ هي حجرية لا زرع فيها ولا حرث { عند بيتك المحرم } سمي به؛ إذ حرمت فيه المقاتلة والصيد والتعرض والتهاون مطلقا حفظا فيه ؛ لذلك لا يزال معظما مكرما يهابه الجبابرة، وإنما أسكنتهم عنده؛ ليكنسوا بيتك من الأقذار، ويصفوه من الأكدار { ربنا } إنما أسكنت ذريتي عند بيتك { ليقيموا } ويديموا { الصلاة } المقربة نحو جنابك وفناء بابك { فاجعل } بمقتضى فضلك وجودك { أفئدة } أي: وفدا كثيرا وقفلا { من الناس تهوى } أي: تميل وتتوجه { إليهم } أي: بعضا منها وهو إسماعيل وبنوه { بواد غير ذي زرع } من الجوانب { وارزقهم من } أنواع { الثمرات } المهداة إليهم من البلاد البعيدة، ياي بها الزوار والتجار { لعلهم يشكرون } [إبراهيم: 37] نعمتك ويواظبون على طاعتك وخدمة بيتك عن فراغ القلب.
{ ربنآ } يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم { إنك تعلم ما نخفي } من حوائجنا { وما نعلن } أي: ما لنا علم به؛ إذ أنت أعلم بحوائجنا منا؛ إذ علمك بنا وبجميع مظاهرك حضوري ذاتي، ولا علم لنا بذاتنا كذلك، بل نحن عاجزون عن إدراك أنفسنا كعجزنا عن إدراك ذاتك يا مولانا، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" من عرف نفسه فقد عرف به "
{ و } كيف يخفى عليك حوائجنا؛ إذ { ما يخفى } ويستر { على الله } المحيط بكل الأشياء { من شيء } لذلك ظاهر { في الأرض ولا في السمآء } [إبراهيم: 38] وكيف خفي عليه شيء؛ إذ هو عالم بها، مظهر لها لا يعرزب عنه شيء منها.
{ الحمد } والمنة { لله الذي وهب لي } من يخلفني ويحيي اسمي حين آيست؛ إذ بلغ سني { على } كمال { الكبر } والهرم { إسماعيل وإسحاق } روي أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة، وإسحاق لمائة واثتني عشر سنة { إن ربي } الذي رباني بأنواع الكرم وشرفني بخلعة الخلة والحلم { لسميع الدعآء } [إبراهيم: 39] الذي صدر عن لسان استعدادي ومجيبه بطلب من يخلفني ويقوم مقامي.
[14.40-43]
{ رب اجعلني مقيم الصلاة } على وجه الخضوع والخشوع والتبتل والأخلاص { و } اجعل { من ذريتي } أيضا من يقيمها على الوجه المذكور { ربنا } استجب مني { وتقبل دعآء } [إبراهيم: 40] في حقي وحق أولادي.
{ ربنا اغفر لي } بفضلك؛ إلا لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا { ولوالدي وللمؤمنين } جميعا، واعف بمقتضى جودلك من زلتي ولازتهم { يوم يقوم الحساب } [إبراهيم: 41] وبنشر الديوان، ويحاسب كل على ما كسب من العصيانز
{ ولا تحسبن } يا أكمل الرسل { الله } المطلع على سرائر الأمور وخفياته { غافلا } ناسيا ذاهلا { عما يعمل الظالمون } الخارجون عن حدود الله بإمهالهم زمانا، بل { إنما يؤخرهم } ويسوف عذابهم { ليوم تشخص } وتتحير { فيه الأبصار } [إبراهيم: 42] وصاروا من شدة الهول والمهابة لا يقدرون على أن يطرفوا عيونهم، بل تبقى مفتوحة حائرة كيعون الموتى، كأنهم قد انقطعت أرواحهم عن أجسادهم.
وهم مع هذه الحيرة والدهشة { مهطعين } مسرعين نحو المحشر، حيارى سكارى { مقنعي رءوسهم } أي: رافعيها نحو السماء، مترقبين لنزول البلاء، مدهوشين هائمين بحيث { لا يرتد إليهم طرفهم } شدة ولههم وهيمانهم { و } في تلك الحالة { أفئدتهم } وقلوبهم التي هي محل الأمان والخيالات { هوآء } [إبراهيم: 43] أي: خالية، لا يخطر ببالهم شيء ملطقا وإن كانت لا تخلو عن الأخطار أبدا.
[14.44-46]
{ و } متى سمعت يا أكمل الرسل أهوال يوم القيامة وأحوال الأنام فيها { أنذر الناس } الناسين عهود الحق ومواثيقه التي عهدوا معه في بدء فطرتهم أي بشيء يفعلون { يوم يأتيهم العذاب } في اليوم الموعود، وحينئذ انقطعت أسباب النجاة وتدبيرات الخلاص ولا يسع لهم التدارك أصلا { فيقول الذين ظلموا } أنفسهم بتكذيب الله وتكذيب رسله حين رأوا العذاب، مناجين متضرعين متمنين: { ربنآ أخرنآ } أي: أعدنا وأرجعنا إلى الدنيا وأمهلنا فيها { إلى أجل قريب } أي: أيام قلائل { نجب دعوتك } وتقبلها عن ألسنة رسلك { ونتبع الرسل } ونصدقهم بجميع ما جاءوا به من عندك فيقال لهم على سبيل التهكم والتقريع: { أولم تكونوا } أيها الظالمون المسرفون { أقسمتم من قبل } في دار الدنيا بطرين مغرورين { ما لكم من زوال } [إبراهيم: 44] أي: ما لنا وبال ولأموالنا زوال، وما لنا عن أماكننا ارتحال وانتقال.
{ و } مع قولكم هذا ويمينكم عليه { سكنتم } وتمكنتم أيها المسرفون المفرطون { في مسكن الذين ظلموا أنفسهم } قبلكم أمثالكم مثل: عاد وثمود وهم أيضا، مقسمين بما أقسمتم { وتبين لكم } وظهر عندكم الآن { كيف فعلنا بهم } وكيف انتقمنا عنهم وأستأصلناهم { و } صار أمر إهلاكهم من الفضاحة إلى أن { ضربنا لكم الأمثال } [إبراهيم: 45] لتعتبروا عن حالهم وتتركوا أفعالهم؛ لئلا تنتقموا أمثالهم، ومع ذلك لم تعتبروا ولم تتركوا، فالآن تصابون وتؤاخذون بأشد مما أصيبوا وأخذوا.
{ و } لا يفيدكم اليوم المكر والحيلة كما لا يفيد لهم مكرهم حين أخذهم؛ إذ { قد مكروا مكرهم } الذي خيلوه دلائل قاطعة وظنوه براهين ساطعة { وعند الله مكرهم } إي: لم يفهموا أن عند الله سبحانه ما يزيل مكرهم وحيلهم { وإن كان مكرهم } في المتانة والقوة { لتزول منه الجبال } [إبراهيم: 46] إذ لا يعارض فعله ولا ينازع حكمه، بل له الغلبة والاستيلاء والتعزز والكبرياء.
[14.47-52]
وإذا كان الأمر كذلك: { فلا تحسبن الله } القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء { مخلف } إنجاز { وعده } الذي وعد به { رسله } من إهلاك عدوهم وتعذيبهم بأشد العذاب { إن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { عزيز } غالب قادر على جميع مراداته ومقدوراته { ذو انتقام } [إبراهيم: 47] شديد على من أراد انتقامه وبطشه من أعدائه نصرة على أوليائه.
قله لهم يا أكمل الرسل: لا تغتروا عن إمهال الله إياكم أيها المسرفون في دنياكم؛ إذ ينتقم عنكم { يوم تبدل الأرض } وتغير تغييرا كليا، بأن دكت الجبال دكا وصارت مسوى لا عوج لها ولا أمتا، وصارت { غير الأرض } التي كانت قبل هذا { و } طويت { السموت } المحسوسة، وانتثرت الكواكب، وكورت الشمس، فصارت أيضا غير تلك السماوات، وبالجملة: تضعفت أركان العالم وتغيرت أوضاعها وأشكالها واضمحلت آثارها وتلاشت أجزاؤها، وتداخلت أرجاؤها وأقطارها { وبرزوا } أي: ظهروا وخرجوا أي: الأموات من أجداث أجسادهم بعد خلع تعيناتهم وجلباب هوياتهم { لله } المظهر لهم الظاهر فيهم { الواحد } في ذاته وصفاته وأحواله وجميع شئونه وتجلياته، المستقل في وجوده { القهار } [إبراهيم: 48] للأغيار والسوى مطلقا.
{ وترى } حينئذ { المجرمين يومئذ } الذين أجرموا بالله بإثبات الوجود لغيره وإسناد الحوادث إلى أسبابها العادية { مقرنين } مقيدين { في الأصفاد } [إبراهيم: 49] أي: سلاسل التقليدات والتقييدات وأغلال التعينات والتخمينات.
{ سرابيلهم } أي: قمائص تعيناتهم وتشخصاتهم { من قطران } أي: من غرابيب الظلمة العدمية، وهو في اللغة: دهن الأبهل والعرر، كالزفت أسود في غاية السواد، منتن نتنه في غاية الكراهة { وتغشى } أي: تستر { وجوههم } التي تلي الحق { النار } [إبراهيم: 50] أي: نار البعد والحرمان وسعير الخذلان والخسران.
وما ذلك؛ أي: انتقامهم وأخذهم إلا { ليجزى الله } الحكيم العليم المتقن في أفعاله ومأموراته ومنهياته وجميع تدبيراته { كل نفس } متعينة بتعين مخصوص { ما كسبت } وامتثلت ما أمرت به ونهيت عنه أو أعرضت { إن الله } الرقيب على عباده، المطلع لجميع أفعالهم { سريع الحساب } [إبراهيم: 51] يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه عدلا منه.
{ هذا } أي: ما ذكر من أوصاف يوم القيامة وأهوالها وأفزاعها { بلاغ } أي: تذكرة كافية وموعظة وافية { للناس } الذين نسوا طريق التوحيد وأعرضوا عنها بعروض الغفلة لهم، فليتعظوا { ولينذروا به } عن المعاصي والإجرام حتى لا يؤخذوا عليها، وليجتنبوا عن الشرك ولا يركنوا إليه { وليعلموا } عموم العباد إيمانا وإذعانا { أنما هو إله واحد } يعبد بالحق ويرجع إليه إلى أن ينكشفوا بالحقيقة الحقية { وليذكر } خصوصا { أولوا الألباب } [إبراهيم: 52] الناظرين بنور الله، الفانين به، الباقين ببقائه.
جعلنا الله ممن ذكر له فتذكر، وتحقق في مقر التوحيد وتقرر.
خاتمة السورة.
عليك أيها اللبيب المتذكر لمرتبة الأحدية التي هي ينبوع بحر الوجود أن تتذكر وتتعظ بمواعظ الكتاب الإلهي من مواعيده، وإنذاراته وحكمه وأسراره؛ لتتفطن بتطوراته وتجلياته، وشئونه في مراتب تنزلاته؛ حتى يسهل لك التقيظ من المنامات العارضة والغفلات الطارئة عليك من الإضافات الحاصلة بين الشئون والتجليات المبعدة عن صرافة الوحدة الذاتية، ويتيسر لك الوصول إلى منع جميع الأسماء والصفات، المستتبعة لأنواع الكثرات، ومرجع جميع الكائنات والفاسدات المترتبة عليها.
فاعلم أيها الطالب القاصد لسلوك طريق الهداية الموصلة إلى صفاء التوحيد الذاتي أن التوجه إليها والوقوف على أماراتها لا يتيسر إلا بعد تنبيه منبه نبيه، وإرشاد مرشد كامل خبير بصير.
لذلك جرت عادة الله، واستمرت سنته السنية على إرسال الرسل والأنبياء المؤدين بالكتب والصحف؛ لتمكن لهم إرشاد الناقصين المنحطين عن درجة التدبر والتدرب في غوامض طرق العرفان ومغالق مسالك التوحيد، ومع ذلك لا يتيسر لهم إلا البلاغ من التبليغ والتوفيق، إنما هو من عند العزيز العليم.
وأكمل الرسل نبينا صلى الله الله عليه وسلم، وأفضل الكتب القرآن الجامع المنزل عليه، الناسخ لجميع ما نزل قبله من الكتب؛ لذلك قال سبحانه على سبيل العموم: { هذا } [إبراهيم: 52] أي: القرآن { بلاغ للناس } [إبراهيم: 52] أي: كامل من التبليغ والإرشاد لقاطبة الأنام إلى توحيد الملك العلام، فلك أن تتأمل يه وتتذكر به على الوجه المأمور؛ لتتمكن من قعد الصدق عند الملك الغفور.
[15 - سورة الحجر]
[15.1-12]
{ الر } أيها الإنسان الأفضل الأكمل، الأليق لأن يفيض عليه سبحانه لطائف رموزات أسرار الربوبية، ولوائح رقائق سرائر الألوهية اللامعة اللائحة من مقر الرحمة العامة، والكرامة الكاملة الشاملة { تلك } الآيات المذكورة في هذه السورة { آيات الكتاب } أي: بعض آيات الكتاب الجامع الناسخ للكتب السالفة { و } آيات { قرآن } فرقان فارق بين الهداية والضلالة، والرشد والغي { مبين } [الحجر: 1] ظاهر البيان لأولي البصائر المتأملين في حكم إيجاد الموجودات، سيما الإنسان الكامل المميز الممتاز بأنواع الفضائل والكرامات، سيما العقل المفاض له من العقل الكلي ليتوجه به نحو موجدهن ويتدبر به أمر مبدئه ومعاده، ومن لم يصرفه إلى ما خلق لأجله، وجبل لمصلحته فقد كفر وضل ضلالا بعيدا بمراحل عن مرتبة الإنسانية؛ وذلك من غاية اتهمامكم في الغفلة، وعمههم وسركتهم بمزخرفات الدنيا الدنية.
وحين فاقوا عن سكرتهم أحيانا { ربما يود } أي: قلما يحب ويستحسن على وجه التمني { الذين كفروا } أي: ستروا الحق، ولم يصرفوا عقولهم إلى كشفه { لو كانوا مسلمين } [الحجر: 2] مصرفين عقولهم إلى معرفة الله، ومفوضين أمورهم كلها إليه، ومتوكلين على الله في جميع حالاتهم، لكن من شدة طغيانهم، ونهاية غوايتهم وخسرانهم لم يقبلوا دعوتك، ولم يؤمنوا بك وبكتابه يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا؛ حتى ينجومن خذلان الدنيا وخسران الآخرة.
{ ذرهم } يا أكمل الرسل وشغلهم في دنياهم { يأكلوا } من مأكولاتها المورثة لأنواع المرض في قلوبهم { ويتمتعوا } بمزخرفاتها الفانية ولذاتها الوهمية { ويلههم الأمل } ويشغلهم عن الاشتغال بالطاعات، ويحرمهم عن اللذات الأخروية مطلقا { فسوف يعلمون } [الحجر: 3] قبح صنيعهم، وسوء فعالهم حين انكشف الأمر وتبلى السرائر، فحينئذ يتنبهون بما فوتوا لأنفسهم من اللذات الروحانية باعراضهم عن الله وكتابه ونبيه.
{ و } من سنتنا القديمة: إنا { مآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [الحجر : 4] أي: ما أردنا إهلاك قرية من القرى الهالكة إلا وكتبنا أولا في لوحنا المحفوظ، وعلمنا القديم لإهلاكها أجلا معلوما ووقتا معينا.
بحيث { ما تسبق } وما تتقدم { من أمة أجلها } الذي عين لإهلاكها { وما يستأخرون } [الحجر: 5] عنه، بل متى وصلوا إليه هلكوا حتما، بحيث لا يسع له التقديم والتأخير أصلا.
{ و } كيف لا نهلكهم ونعذبهم بأشد العذاب ولا ننتقم عنهم؛ إذ هم { قالوا } حين دعوتك إياهم وإلقائك إليهم شعائر الإيمان والإسلام منادين لك، مستهزئين معك متهكمين: { يأيها } النبي { الذي نزل عليه } من عند ربه { الذكر } أي: الكتاب المبين له أمثال هذه الكلمات التي نسمع منك { إنك } في دعوتك وادعائك النبوة والكتاب { لمجنون } الحجر:6] مخبط مختل العقل، يخبطك الجن، ويعلمك أمثال هذه الكلمات والحكايات، تخليت أنهم ملائكة ينزلون إليك بها، وإن اطلعت على الملائكة وصاحبت معهم، مع أنك بشر مثلنا؟!.
{ لو ما } أي: هلا { تأتينا بالملائكة } المنزلين إليك { إن كنت من الصادقين } [الحجر: 7] في دعواك حتى نراهم ونسمع قولهم، مثل رؤيتك إياهم.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { ما ننزل الملائكة } لكل واحد من البشر، بل لمن نؤتى الحكمة منه له في أصل فطرته واستعداده، وهم الأنبياء والرسل المأمورون بالإرشاد والتكميل، وماننزلهم { إلا } تأيددا لهم ملتبسا { بالحق } أي: بالدين الثابت المطابق للواقع؛ ليتدين بدينهم من يتبعهم، ويؤمن لهم إطاعة وانقيادا، ولو اطلع الكل على نزولهم، ورأوا صورهم لبطل حكمة الإطاعة والإرسال والتكميل؛ إذ الكل في الرشد والهداية على السواء حنيئذ { و } أيضا { ما كانوا إذا منظرين } [الحجر: 8] منتظرين إلى يوم الجزاء، إذ الكل ناجون مهديون في النشأة الأولى.
{ إنا نحن } بمقتضى حكمتنا { نزلنا الذكر } أي: الكتب على الأنبياء والرسل على وجه يعجز البشر عن إتيان مثله؛ لكون ألفاضه ومعلوماته، ونظمه واتساقه خارجة عن مقتضيات مداركهم وقولهم؛ لذلك ينسبون أكثر الأنبياء والرسل إلى الجنون والخبط { و } مع ذلك { إنا له لحافظون } [الحجر: 9] عن تحريف أهل الزيغ والضلال المنحرفين عن جادة التوحيد.
{ و } لا تحزن يا أكمل الرسل من استهزائهم معك وتكذيبهم، فإنهم من الديدنة القديمة بين أهل الضلال، فإنا { لقد أرسلنا من قبلك } رسلا حين شاع أنواع الفسوف والعصيان { في شيع الأولين } [الحجر: 10] أي: فئتهم وفرقهمز
{ و } هم من خمبث طينتهم، وشدة شكيمتهم وضغينتهم { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } [الحجر: 11] بأنواع الاستهزاء من نسبة الكذب والجنون، وأنواع العيوب.
{ كذلك نسلكه } وندخله { في قلوب المجرمين } [الحجر: 12] الذين تعلقت إرادتنا ومشيئتنا بإهلاكهم وتعذيبهم على مقتضى أوصافنا القهرية والجلالية.
[15.13-25]
لذلك { لا يؤمنون به } أي: بالرسول المنزل إليهم { و } كيف يؤمن بك يا أكمل الرسل هؤلاء الكفرة؛ إذ { قد خلت } مضت { سنة الأولين } [الحجر: 13] أي: سنة الله في الكفرة الماضين، أو سنة كل فرقة من أسلافهم، وهم أيضا على أثرهم وطبقهم تقليدا لهم؟!.
{ و } من خبث طينتهم، وفسوقهم وغفلتهم { لو فتحنا عليهم } أي: على هؤلاء المستهزئين المنهمكين في الغي والضلال { بابا من السماء } على خلاف العادة ليؤمنوا بك وبدينك وكتابك { فظلوا فيه } وصاروا { يعرجون } [الحجر: 14] يصعدون منه نحو السماء، ويستوضحون ما فيها.
{ لقالوا } من شدة غيهم وضلالهم: { إنما سكرت } وحيرت { أبصارنا } بسحر محمد وتلبيسه، وإنما فعل بنا هذا؛ لنؤمن له، ونصدق قوله وكتابه، ونقبل دينه { بل } أمرنا كذلك بلا شك وتردد؛ إذ { نحن } بمشاهدة هذا الفتح والعروج { قوم مسحورون } [الحجر: 15] مغبوطون مخبوطون، لبس علينا الأمر هذا الشخص بالسحر والشعبذة.
ثم قال سبحانه امتنانا لعباده بتهيئة أسباب معاشهم: { ولقد جعلنا } وقدرنا { في السماء بروجا } اثني عشر تدور وتتبدل فيها الشمس في كل سنة شتاء وصيفا، ربيعا وخريفا، والقمر في كل شهر تتميما لأسباب معاشكم، وتنضيجا لأقواتكم وأثماركم { وزيناها } أي: حسنا نظمها وترتيبها، وهيئاتها وأشكالها { للناظرين } [الحجر: 16] المتأملين في كيفية حركاها ودوراتها وانقلاباتها؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعهخا، ومتانة أمر صانعها ومخترعها إلى أن ينكشفوا بوحدة المظهر ورجوع الكل إليه.
{ و } مع ذلك { حفظناها من } اطلاع { كل شيطان رجيم } [الحجر: 17] على ما فيها من السرائر والحكم المودعة.
{ إلا من استرق } واختلس من الشياطين { السمع } والاستطلاع من سكان السماوات، وتكلف في الصعود والرقي نحوها { فأتبعه } من كمال قهر الله إياه { شهاب } جذوة نار على مثال كوكب { مبين } [الحجر: 18] ظاهر عند أولي الأبصار زجرا له، ومنعا عن الاستطلاع بالسرائر.
{ والأرض } أيضا { مددناها } أي: مهدناها وبسطناها { وألقينا فيها رواسي } شامخات لتقررها وتثبيتها؛ ولتكون مقرا للمياه والعيون، ومعدنا للجواهر { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } [الحجر: 19] مطبوع ملائم، تستحسنها الطباع وتستلذ به.
{ و } إنما { جعلنا } وخلقنا كل ذلك؛ أي: العلويات والسلفليات؛ ليحصل { لكم فيها معايش } تعيشون بها، وتقومون مزاجكم منها؛ لتتمكنوا وتقدروا على سلوك طريق التوحيد والعرفان الذي هو سبب إيجادكم، والباعث على إظهاركم؛ إذ ما خلقتم وجبلتم إلا لأجله { و } كذا معايش { من لستم له برازقين } [الحجر: 20] من أخلاقكم وأولادكم، وإن كنتم تظنون أنكم رازقون لهم ظنا كاذبا، بل رزقكم وزقهم ورزق جميع من في حيطة الوجود علينا.
{ و } كيف لا يكون رزق الكل علينا { إن من شيء } أي: ما من رطب ولا يابس مما يطلق عليه اسم الشيء { إلا عندنا } أي: في حيطة قدرتنا ومشيئتنا { خزائنه } أي: مخزننات كل شيء عندنا لا ينتهي قدرتنا دون مقدور، بل لنا القدرة الكاملة بإيجاد الخزائن من كل شيء { و } لكن اقتضت حكتمنا أنا { ما ننزله } ونظهره { إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21] عندنا، وفي حيطة علمنا، وأجل مقدر لدينا لا اطلاع لأحد عليه؟!.
{ و } من بدائع حكمتنا، وعجائب صنعتنا { أرسلنا } من مقام فضلنا وجودنا { الرياح } الهابة ي فصل الربيع { لواقح } أي: ملقحات تجعل الأشجار حوامل بالأثمار { فأنزلنا } بعد صيرورتها حوامل { من } جانب { السمآء ماء } لتربيتها وتنميتها { فأسقيناكموه } أي: وقت الصلاح والحصاد { ومآ أنتم له } أي: للماء { بخازنين } [الحجر: 22] حافظين؛ أي: ليس في وسعكم وطاقتكم حفظه في الحياض والغدائر، كذا إلقاح الأشجار وإنباتها وسقيها وإصلاحها، وجميع ما يحتاج إليها؛ إذ ليس عندكم خزائن كل شيء.
{ و } أيضا من غرائب مبدعاتنا { إنا لنحن نحيي } ونظهر على مقتضى أوصافنا اللطيفة البسيطة { ونميت } ونعدم على مقتضى أوصافنا القهرية القبضية { ونحن الوارثون } [الحجر: 23] الباقون بعد انتهاء المظاهر وفنائها بعد الطامة الكبرى.
{ و } من كمال علمنا وخبرتنا أنا { لقد علمنا المستقدمين } المتقدمين في الوجود { منكم } أي: من أسلافكم، بل من شئونكم ونشأتكم التي في أصلابل آباءكم وأرحام أمهاتكم، بل استعداداتكم في ذرائر العناصر، بل حصصكم من الروح الأعظم { ولقد علمنا المستأخرين } [الحجر: 24] المتأخيرين منكم في الوجود على الوجه المذكور.
{ و } بالجملة: { إن ربك } يا أكمل الرسل { هو } المطلع بسرائر الماضي والحال المستقبل { يحشرهم } في المحشر وموعد القيامة، والحساب والجزاء، وكيف لا { إنه } في اذته وأوصافه وأفعاله { حكيم } متقن الفعل، متين الصنع { عليم } [الحجر: 25] لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء؟!.
[15.26-41]
ثم قال سبحانه امتنانا لكم، وتنبيها عن دناءة منشأكم، ثم على شرف مكانتكم وعلو شأنكم: أيها المكلفون من الثقلين، القابلون للإيمان والمعارف { ولقد خلقنا الإنسان } أي: أظهرنا جنسه، وقدرنا جسمه { من صلصال } أي: طين يابس مصوت من غاية يبسه وبقائه على حر الشمس، متخذ { من حمإ مسنون } [الحجر: 26] أي: من طين أسود منتن كريه الرائحة، يستكره ريحه جميع الحيوانات.
{ والجآن } أي: جنسه أيضا { خلقناه من قبل } أي: من قبل إيجاد الإنسان من مادة أدنى أيضا؛ إذ هو متخذ { من نار السموم } [الحجر: 27] أي: شديد الحر متناه فيه.
انظروا أيها المعتبرون إلى نشأتكم ومادتكم { و } اذكروا تشريف ربكم إياكم وقت { إذ قال ربك } يا أكمل الرسل، خصه سبحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخطاب؛ للياقته وكمال استحقاقه أن يكون مخطابا معه، كأنه لجمعية مرتبته عموم مراتب بني نوعه، عبارة عن جميعهم { للملآئكة } على سبيل الإخبار والتعليم: { إني } لمطالعة جمالي وجلالي، وجميع أوصاف كمالي على التفصيل { خالق } ومقدر { بشرا } أي: تمثالا متخذا { من صلصال } متخذة { من حمإ مسنون } [الحجر: 28] بعيد بمراحل عن مقاربتي؛ إذ هو أخس الأشياء وأدونها.
{ فإذا سويته } أي: عدلته وكملت هيكله وشكله { ونفخت فيه من روحي } ورشئت عليه من رشحات نور وجودي ليكون حيا بحياتي، ومرآة لي أطالع فيها جميع أسمائي وأوصافي { فقعوا له ساجدين } [الحجر: 29] فعليكم أن تضعوا جباهكم على تراب المذلة عنده تعظيما له وتكريما.
ولما سمعوا الأمر الوجوبي القطعي { فسجد الملائكة } بلا طلب مرجح ودليل { كلهم } بلا خروج واحد منهم { أجمعون } [الحجر: 30] مجتمعون معا بلا تقدم وتأخر، وتردد وتسويف.
{ إلا إبليس } الذي هو منهم تبعا لأصالته { أبى } عن السجود، وامتنع { أن يكون مع الساجدين } [الحجر: 31].
ثم لما تخلف إبليس، وركن عن أمر الله { قال } سبحانه توبيخا وتقريعا: { يإبليس ما لك } أي: أي: شيء عرض لك يا إبليس { ألا تكون مع الساجدين } [الحجر: 32] الخاضعين الواضعين جباههم على تراب المذلة امتثالا للأمر الوجوبي؟!.
{ قال } إبليس محتجا على الله، طالبا للرجحان والمزية على سبيل الإنكار والتعريض: { لم أكن } أي: لم يصح مني، ولم يستحسن عني، ولم يلق لمرتبتي { لأسجد لبشر } جسماني ظلماني كثيف { خلقته من صلصال } أكشف وأظلم منه، وأخذت الصلصال { من حمإ مسنون } [الحجر: 33] لا شيء أظلم منه وأبعد عن ساحة عز القبول، والتمثال المشتمل على هذه الظلمات المتراكمة لا يليق أن يخضع ويسجد له الروحاني النوراني.
قال سبحانه طردا له وتبعيدا: إذا تخلفت يا أبليس عن أمري، وخرجت عن مقتضى حكمي { قال } أيها المردود { فاخرج } أي: من بين الملائكة، ولا تعد نفسك من زمرتهم، فإنهم مقبولون مطيعون، وأنت مردود ومطرود { منها } بتخلفك عن مقتضى أمرنا { فإنك رجيم } [الحجر: 34] بعيد عن رحمتنا وكرامتنا.
{ وإن عليك اللعنة } والطرد والتخذيل، نازلة مستمرة { إلى يوم الدين } [الحجر: 35] مقرك ومقيلك النار المعدة لك، ولمن تبعك من عصاة العباد.
ثم لما أيس إبليس عن القبول، وقنط عن رحمة الله { قال } مشتكيا متحسرا متأوها: { رب } يا من رباني بأنواع الكرم والنعم، فكفرت نعمك بمخالفة أمرك { فأنظرني } وأمهلني { إلى يوم يبعثون } [الحجر: 36] ويحشرون؛ لأغوي بني آدم، وأنتقم عنهم.
{ قال } سبحانه: { فإنك من المنظرين } [الحجر: 37] لتكون عبرة للعالمين.
{ إلى يوم الوقت المعلوم } [الحجر: 38] أي: إلى وقت لا يمكن فيه تلاقي التقصير، وكسب الزاد للمعاد، وتهيئة الأسباب ليوم المعياد.
قيل: هي النخفة الأولى لحشر الأجساد.
{ قال } إبليس مقسما مبالغا: { رب بمآ أغويتني } أي: بحق قدرتك التي أغويتني وأضللتني بها، وأحطتني عن رفعة منزلتي، وأخرجتني من بين أحبتي وأخوتي { لأزينن لهم } أعمالهم الفاسدة، وأحسن عليهم الأفعال القبيحة { في الأرض } وإغريتهم إلى ارتكاب أنواع المفاسد والمقابح عليها، وأصناف الجرائم والآثام المائلة إليها نفوسهم طبعا { و } بالجملة: { لأغوينهم } وأضلنهم { أجمعين } [الحجر: 39] بحيث لا يشذ عنهم أحد من ذوي النفوس الأمارة.
{ إلا عبادك منهم المخلصين } [الحجر: 40] المخلصين رقابهم عن ربقة الأمارة، المطمئنين المتمكنين في مقام الرضا والتسليم.
{ قال } سبحانه على مقتضى إشفاقه ورحمته: { هذا } أي: إخلاص المخلصين المطمئنين، الراضين بما جرى عليم من قضائي { صراط علي } وطريق موصل إلى توحيدي، ووحدة ذاتي واستقلالي في آثار أوصافي وأسمائي { مستقيم } [الحجر: 41] لا عوج فيه أصلا، من توجه إلي عن هذا الطريق فاز ونجا، بحيث لا يعرضه الضلال والانحراف أصلا، وكيف يعرضه؛ ذ هو من خلص عبادي؟!.
[15.42-58]
{ إن عبادي } الذين هم تحت قبابي { ليس لك } أيها المضل المغوي { عليهم سلطان } أي: استيلاء وغلبة { إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 42] الضالين بإغوائك عن منهج اليقين، وهم وإن كانوا من جنسهم صورة ليسوا منهم حقيقة.
{ وإن جهنم } البعد والخذلان { لموعدهم أجمعين } [الحجر: 43] أي: تابعا ومتوبعا.
{ لها سبعة أبواب } على عدد مداخلها من الشهوات السبعة المقتضية إياها، المذكورة في كريمة
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين
[آل عمران: 14].
{ لكل باب } من الأبواب السبعة الجهنمية { منهم جزء مقسوم } [الحجر: 44] أي: طائفة مفروزة منهم بالدخول من كل باب، وإن كان الكل شريكا في الكل.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إن المتقين } المخلصين نفوسهم عن وسوسة الشياطين { في جنات } منتزهات من العلم والعين والحق { وعيون } [الحجر: 45] جاريات من زلال الحقائق والمعارف، صافيات عن كدر الرياء ودرن التقليدات.
ويقول لهم الملائكة حين وجدانهم متصفين بحيلة التقوى: { ادخلوها بسلام } أي: سالمين عن شدائد الحساب وصعوبته { آمنين } [الحجر: 46] عن خوف العذاب والعقاب.
{ و } كيف لا يكونون سالمين آمنين؛ إذ { نزعنا } وأخرجنا بنور الإيمان والتوحيد { ما في صدورهم } وضمائرهم { من غل } أي: حقد وحسد متمكن في نفوسهم، متعلق لبني نوعهم حتى صاروا { إخونا } أصدقاء متكئين { على سرر } متساوية من الصداقة { متقبلين } [الحجر: 47] متناظرين مطالعين كل منهم في مرآة أخيه محامد أخلاقه، ومحاسن شيمه.
{ لا يمسهم فيها نصب } [الحجر: 48] حتى يخافوا منه، بل هم فيها خالدون مخلدون، مستمرون ما شاء الله.
ثم قال سبحانه تسلية لعموم عباده، وتبشيرا لهم بسعة فضله ورحمته: { نبىء } أي: أخبر وأعلم يا أكمل الرسل المبعوث على كافة الأمم عموم { عبادي } مؤمنهم وكافرهم، مطيعهم وعاصيهم { أني } من كمال بري ومرحمتي إياهم { أنا الغفور } المبالغ في الستر والعفو لمن استرجع إلي، واستغفر عن ظهر القلب، وأناب عن محض الندم { الرحيم } [الحجر: 49] لهم، أرحمهم وأقبل منهم توبتهم، وأعفو عنهم زلتهم.
{ و } أي: محنة وعناء حتى يشوشوا بها { وما هم منها بمخرجين } نبئهم أيضا { أن عذابي } وانتقامي وبطشي على من أصر على عنادي، واستمر على ترك طاعتي وانقيادي { هو العذاب الأليم } [الحجر: 50] المؤلم المستمر الذي لا نجاة لأحد فيه.
{ و } إن أنكروا على إنعامي وانتقامي { نبئهم عن ضيف إبراهيم } [الحجر: 51] تبيينا وتوضيحا لهم.
وقت { إذ دخلوا عليه } جرد مرد، صباح ملاح { فقالوا } ترحيبا وتكريما: { سلاما } أي: نسلم عليك سلاما، ثم لما تفرس إبراهيم بنور النبوة أنهم ملائكة جاءوا بأمر خطير { قال } على سبيل المخالفة: { إنا منكم وجلون } [الحجر: 52] أي: خائفون؛ لأنهم جاءوا هفوة، ودخلوا عليه بغتة بلا إذن واستئذان على عادة المسافرين، ولا يظهر عليه أثر السفر.
{ قالوا } آمنا له، وتسكينا لخوفه واضطرابه: { لا توجل } منا { إنا نبشرك } من عند ربك { بغلام عليم } [الحجر: 53] قابل للنبوة والرسالة، والحكمة الكاملة.
{ قال } إبراهيم عليه السلام متأوها آيسا، مستفهما على سبيل الاستبعاد: { أبشرتموني } أيها المبشرون في زمان قد انقطع الرجاء فيه عادة { على أن مسني الكبر فبم تبشرون } [الحجر: 54] المانع من الاستيلاء والاستنماء العادي؛ إذ هو في سن قد انقطعت الشهوة عنه، وعن زوجته أيضا؛ إذ هما في سن الهرم والكهولة.
{ قالوا بشرناك } ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع بإذن الحق، وعلى مقتدى قدرته الكاملة بإيجاد شيء بلا سبق السبب العادي له { فلا تكن } أيها النبي المتمكن في مقام الرضا والتسليم، المسند المفوض جميع الحوادث الكائنة في علام الكون والفساد إلى الفاعدل المختار بلا اعتبار الوسائل والأسباب { من القانطين } [الحجر: 55] الجازمين بفقدان الشيء عند فقدان أسبابه العادية.
{ قال } مستبعدا مستوحشا: { ومن يقنط } وييأس { من رحمة ربه } التي وسعت كل شيء على مقتضى جوده تفضلا بلا سبق استحقاق واستعداد أسباب { إلا الضآلون } [الحجر: 56] المقيدون بسلاسل الأسباب الطبيعية، وأغلال الوسائق الهيولانية، ونحن معاشر الأنبياء لا نقول بأمثال هذه الأباطيل الزائغة.
ثم لما جرى بينهم ما جرى { قال } ابراهيم عليه السلام على مقتضى نفوسه منهم: { فما خطبكم } أي: أمركم العظيم الذي جئتم لأجله { أيها المرسلون } [الحجر: 57] المهيبون؟.
{ قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين } [الحجر: 58] خارجين عن مقتضى العقل والشرع والطبع؛ إذ فعلتهم الفاحشة الشنيعة مما يستقبحه ويستكرهه العقول والطباع مطلقا، فكيف الشرع، فنلهكهم اليوم بالمرة على مقتضى أمر الله وقدره.
[15.59-73]
{ إلا آل لوط } أي: أهل بيته، ومن آمن له { إنا لمنجوهم أجمعين } [الحجر: 59] لكونهم معصومين مطيعين.
{ إلا امرأته } المجرمة العاصية { قدرنآ } بإعلام الله وإذنه إياه علينا { إنها لمن الغابرين } [الحجر: 60] الباقين مع الكفرة الهالكين؛ لكونها باقية على اعتقادهم وعنادهم.
{ فلما جآء } ودخل على طريق الضيفان { آل لوط المرسلون } [الحجر: 61] المرد الصباح الملاح.
{ قال } لوط: { إنكم } أيها الضيفان { قوم منكرون } [الحجر: 62] أخاف عليكم من قومي وسوء فعالهم، وقبح ديدنتهم وعادتهم، مع أني أخاف من جئتكم أيضا على هذا الوجه، بحيث لا أرى عليكم أمارات البشر.
{ قالوا } أي: المرسلون له: لا تخف لا علينا ولا منا؛ إذ ما جئتنا لتخويفك وتوحيشك { بل جئناك } لنسرك ونؤيدك، وننصرك على أعدائك { بما كانوا فيه يمترون } [الحجر: 63] أي: بإثبات ما يشكون فيه ويترددون، بل يكذبونك فيه مراء، وهو العذاب الذي توعدت لهم، وادعيت نزوله عليهم، وهم يشكون فيه.
{ وآتيناك بالحق } المطابق للواقع { وإنا لصادقون } [الحجر: 64] فيما قلنا لك.
والآن وقت إنجاز ما وعد الله لك من إنزال العذاب عليهم { فأسر بأهلك } أي: سر واذهب معهم { بقطع من اليل } أي: في طائفة من آنات الليل وساعاته، فقدمهم أمامك { واتبع أدبارهم } وأثرهم، والعذاب منزل عليهم عقيب خروجك بلا تراخ، وإذا كانوا خلفك أصابتهم منه { و } بعدما خرجتم إليهم من بينهم { لا يلتفت منكم أحد } خلفه، ولا ينظر إلى ما وراءه حتى لا يصيبه ما أصابهم، ولا بهوله ولا بفزعه { وامضوا } أيها المأمورون { حيث تؤمرون } [الحجر: 65].
{ وقضينآ إليه } أي: حكمنا على لوط بالوحي إليه { ذلك الأمر } الفظيع الهائل، وهو { أن دابر هؤلآء مقطوع } يعني: إن عواقب هؤلاء المسرفين المفرطين مقطوعة مستأصلة بالمرة، حال كونهم { مصبحين } [الحجر: 66] أي: حين دخول الصباح عليهم.
{ و } بعدما بلغ الرسل إلى لوط ما جاءوا به من قبل الحق { جآء أهل المدينة يستبشرون } [الحجر: 67] وهي سدوم، بأضياف لوط، ويستحسنوهم طامعين وقاعهم مسرعين حول بيته.
{ قال } لهم لوط على مقتضى شفقة النبوة، وإن كان الأمر عنده مقضيا محتما بلا تردد: { إن هؤلآء } المسافرين { ضيفي } نزلوا في بيتي { فلا تفضحون } [الحجر: 68] بإساءتهم؛ لأن إساءتهم وتفضيحهم عين إساءتي وتفضيحي.
{ واتقوا الله } عن ارتكاب محظوراته، والركون إلى محرماته { ولا تخزون } [الحجر: 69] ولا تخجلوني منهم؛ إذ فعتلكم هذه معهم مسقطة للمروءة بالمرة.
{ قالوا } في جوابه: أتنهانا اليوم عنهم كما نهيتنا عن أمثالهم فيما مضى { أو لم ننهك } من قبل ألا تمنعنا { عن العالمين } [الحجر: 70] وكن في نفسك زكيا ظاهرا مهذبا، ما لك معنا وخبيثنا؟!.
ثم بالغوا في الإصرار والعناد { قال } لهم لوط: { هؤلآء } النسوان { بناتي إن كنتم فاعلين } [الحجر: 71] فهو أولى بكم، وأظهر لقضاء وطركم.
{ لعمرك } يا أكمل الرسل { إنهم لفي سكرتهم } المنبعثة من شهوتهم المفرطة، المحيرة المدهشة لعقولهم { يعمهون } [الحجر: 72] ويهيمون إلى حيث لا يسمعون نصحه، فكيف يقبلونه ويفهمون؟!.
ولما لم ي تركوا الفضيحة، ولم يقبلوا النصيحة { فأخذتهم الصيحة } الهائلة المهلكة وقت الصبيحة، حال كونهم { مشرقين } [الحجر: 73] داخلين وقت شروق الشمس.
[15.74-88]
{ فجعلنا } بالزلزلة { عاليها } أي: عالي المدينة { سافلها } وسافلها عليها؛ يعني: قد قلبنا دورهم عليهم { و } مع ذلك { أمطرنا عليهم حجارة } منعقدة منضمة مركبة { من سجيل } [الحجر: 74] وهو معرب سنك وكل.
{ إن في ذلك } الإهلاك والتقليب والإمطار { لآيات } وعبر { للمتوسمين } [الحجر: 75] المتأملين المتفرسين، المتعمقين في أنية الأشياء ولميتها حتى ينكشف عليهم أمرها وسمتها، ولا تترددوا ولا تشكوا أيها السامعون المعتبرون في انقلاب تلك المدينة وتخريبها.
{ وإنها } أي: المدينة المذكورة { لبسبيل مقيم } [الحجر: 76] أي: جادة ثابتة يطرقها الناس، ويرون آثارها وأطلالها.
{ إن في ذلك } المذكور من قصة إهلاك أولئك الطغاة البغاة، الهالكين في تيه الغفلة والشهوات { لآية للمؤمنين } [الحجر: 77] الخاشعين الخائفين من قهر الله وغضبه، الراجين من عفوه ورحمته.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين أيضا قصة قوم شعيب عليه السلام { إن كان } أي: إنه كان { أصحاب الأيكة } أي: الغيضة؛ إذ هم يسكنون فيها { لظالمين } [الحجر: 78] خارجين عن حدود الله الموضوعة للعدالة بين عباده، المتعلقة ببخس المكيال والميزان ونقصهما.
وبعدما بالغوا فيها بعثنا إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه، واستهزءوا معه، وأرادوا مقته { فانتقمنا منهم } مثلما انتقمنا من قوم لوط { وإنهما } أي: أصحاب سدوم والأيكة { لبإمام مبين } [الحجر: 79] أي: ملتبسين ملتصقين بسبيل واضح، وطريق مستقيم مستبين ظاهر لائح، جاء به كل نبي منهم، فكذبوه عتوا وعنادا، فأخذوا بما أخذوا.
{ ولقد كذب } أيضا مثل تكذيبهما { أصحاب الحجر } وهو واد بين المدينة والشام يسكن فيها ثمود { المرسلين } [الحجر: 80] يعني: صالحا القائم مقام جميع الأنبياء باعتبار اتحاد المرسل به، وهو الدعوة إلى توحيد الحق، وذلك حين بعثنا إليهم بعدما خرجوا عن حدود الله، وانحرفوا عن جادة توحيده.
{ و } أيدنا أمره بأن { آتيناهم } معه { آياتنا } الدالة على توحيدنا { فكانوا } من نهاية عتوهم وعنادهم { عنها معرضين } [الحجر: 81] بحيث لا يقبلونها أصلا.
{ و } من عاتهم المستمرة بينهم أنهم { كانوا ينحتون من الجبال بيوتا } يسكنون فيها { آمنين } [الحجر: 82] من اللصوص، وأنواع المؤذيات والحشرات.
ولما لم يبالوا بالآيات والرسول، وتمادوا على غيهم وضلالهم الذي كانوا عليه انتقمنا منهم { فأخذتهم الصيحة } الشديدة الهائلة، وهم حينئذ { مصبحين } [الحجر: 83] داخلين في الصباح، كقوم لوط، فأهلكوا بالمرة.
{ فمآ أغنى } ودفع { عنهم ما كانوا يكسبون } [الحجر: 84] من الأموال والأمتعة، والعدد الكثيرة، والحصون المنيعة، والأبنية الوثيقة المشيدة شيئا من عذاب الله ونكاله.
ثم قال سبحانه قولا دالا على كمال قدرته ومشيئته، ولطفه وقهره، وإنعامه وانتقامه تنبيها على ذوي البصائر الاعتبار المتفكرين في خلق الله، وإيجاده وإعدامه، واستقلال تصرفاته في ملكه وملكوته: { وما خلقنا } وقدرنا { السموت } وما فيها من الآثار والمؤثرات العلوية { والأرض } وما عليها من المتأثرات السفلية { وما بينهمآ } من الكائنات والفاسدات الحادثة في الجو باطلا عبثا لا عبرة لها ولا اعتبار لإظهارها وظهورها، بل ما خلقنا ما خلقنا { إلا } ملتبسا { بالحق } المثبت لأصحاب الدلائل والبراهين، وتوحيد الحق الثابت المحقق لأرباب الكشف واليقين.
{ و } اعلموام أيها العقلاء والمكلفون المعتبرون { إن الساعة } الموعودة لانقهار التعينات، واضمحلال التشكلات { لآتية } جزما بلا تردد وشبهة فيجازي فيها كل على مقتضى ماكسبت في عالم التعينات والتطورات، وإذا كان الكل مجازون بأعمالهم، مسئولون عنها { فاصفح } يا أكمل الرسل، وأعرض عن انتقام من يؤذيك ويريدك { الصفح الجميل } [الحجر: 85] أي: الإعراض المستحسن عند الطباع، واحلم معهم، والطف عليهم.
{ إن ربك } الذي رباك بأنواع اللطف والكرم، واصطفاك من بينهم بأصناف الفضائل والكمالات { هو الخلاق } لهم ولأعمالهم { العليم } [الحجر: 86] المميز المبالغ في التمييز بين صالحها وفاسدها، يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته.
{ و } لا تبال يا أكمل الرسل بهم، وبما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية، ولا تحزن على أذاهم، فإنا من مقام جودنا وفضلنا { لقد آتيناك } وأعطيناك تتميما لتكريمك وتعظيمك { سبعا } أي: سبع آيات { من المثاني } أي: الفاتحة التي تثني نزولها تارة بمكة، وتارة بالمدينة على عدد الصفات السبع الإلهية؛ ليكون لك حظ من جيمعها، والسبع الطباق الفلكية والكواكب السبعة، والأقاليم السبعة الأرضية، والمشتهيات السبعة الدنيوية المذكورة في كريمة:
زين للناس حب الشهوات
[آل عمران: 14] لتكون عوضا عنها، والأدوية السبعة الجهنمية؛ لتكون منجية منها، فتكون الفاتحة أعظم وأولى من الدنيا وما فيها.
{ و } مع ذلك لا تقتصر عليها، بل آتيناك { القرآن العظيم } [الحجر: 87] الجامع لفوائد ما في الكتب السالفة، الناسخ لها، المعجز لجميع من أتى بمعارضته ومقابلته.
فعليك بعدما اصطفيناك يا أكمل الرسل من بين سائر الأنبياء بأمثال هذه الكرامات أن { لا تمدن عينيك } نحوهم، ولا تنظر نظر متحسر راغب، بل نظر معتبر كاره { إلى ما متعنا به } من الزخارف { أزواجا منهم } أي: أصنافا من الأمتعة معطاه منها للكفرة ابتلاء لهم، بحيث صاروا بها مفتخرين، بطرين بين الناس { ولا تحزن عليهم } بعد اتباعهم لك وإيمانهم بك؛ إذ هذه المزخرفات الدنية تحجبهم عن الإيمان، وتعوقهم عن العرفان؛ لأنهم مفتونون بها { واخفض جناحك } وابسطها كل البسط { للمؤمنين } [الحجر: 8] الذين يتبعونك عن خلال القلب، وصفاء القريحة بلا شوب الرياس والسمعة، وشين الأهوية الفاسدة.
[15.89-99]
{ وقل } للمعاندين المنكرين: { إني } بإذن ربي ووحيه إلي { أنا النذير المبين } [الحجر: 89] والمنذر المبين، أنذركم ببيان واضح، وبرهان لائح، نازل علي من ربي أن العقاب والعذاب سينزل على من لم يؤمن بالله، وبوحدة ذاته، وصفات كماله.
{ كمآ أنزلنا } أي: مثل العذاب الذي أنزلناه من قبل { على المقتسمين } [الحجر: 90] وهم الرهط الذي تقاسموا أن يبيتوا صالحا.
والمقتسمون اليوم هم { الذين جعلوا القرآن } المعجز لفظا ومعنى، نصا ولادلة، اقتضاء ومطلعا { عضين } [الحجر: 91] أي: ذي أجزاء مختلفة، بعضها حق، لأنه مطابق للكتب السالفة، وبعضها باطل؛ لأنه مخالف لها، وبعضها شعر، وبعضها كهانة، مع أن الكل هداية لا ضلال فيها أصلا، تعالى شأنه وكتابه عما يقولون علوا كبيرا.
{ فوربك } يا أكمل الرسل وعزته وجلاله { لنسألنهم أجمعين } [الحجر: 92] أي: عن جميعهم على التفضيل.
{ عما كانوا يعملون } [الحجر: 93] أي: يقدحون في القرآن، وينسبون إليه من المفتريات التي هو بريء منها، بعيد عنها بمراحل.
وإذا كان نزول القرآن للهداية العامة، والإرشاد الشامل { فاصدع بما تؤمر } واجهر به يا أكمل الرسل، وافرق بين الحق والباطل على الوجه المأمور فيه، وبين الهداية والضلال { وأعرض عن المشركين } [الحجر: 94] واتركهم وأنفسهم، ولا تلتفت إليهم، ولا تتعرض لدفعهم ومنعهم إن استهزئوا بك.
{ إنا كفيناك } أذى { المستهزئين } [الحجر: 95] عنك، وانتقمنا لأجلك منهم بأضعاف ما قصدوا بك من الاستهزاء والسخرية.
وكيف لا ننتقم منهم؛ إذ هم المشركون المسرفون { الذين يجعلون مع الله } المتوحد في ذاته وأوصافه وأفعاله { إلها آخر } مستحقا للعبادة { فسوف يعلمون } [الحجر: 96] عند انكشاف الحجر والأستار، قبح ما يفترون، وينسبون إلى الله افتراء ومراء.
{ ولقد نعلم } منك يا أكمل الرسل { أنك يضيق صدرك } من كظم غيظك، ويقل صبرك على تحمل أذاهم { بما يقولون } [الحجر: 97] مما لا يليق بجنابك من القدح في كلامنا، وإثبات الشركاء لنا مع وحدة ذاتنا، ومن استهزائهم بك، وبمن تبعك من المؤمنين، فعليك ألا تلتفت إليهم، ولا تسمع هذياناتهم، وإنما عليك العبرة منهم، وتنزيهنا وتقدسينا عن مقالاتهم.
{ فسبح بحمد ربك } إذا تسبيحك وتحميدك إيانا خير لك من استماع ما تفوهوا به مراء { وكن } في نفسك في جميع أوقاتك وحالاتك { من الساجدين } [الحجر: 98] الواضعين جباههم على تراب المذلة على قصد تعظيمنا وتبجلينا.
{ واعبد ربك } واجتهد في سلوك طريق المعرفة { حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 99] ويحصل لك الكشف والشهود، ويرتفع عنك حجب الأنانية والوجود.
جعلنا الله من الموقنين المنكشفين بمنه وجوده.
خاتمة السورة
علك أيها السالك القاصد لسلوك طريق التوحيد - أنجح الله آمالك - أن تبتدئ أولا بعدما هذبت ظاهرك بالشرائع، وباطنك بالجلاء عن الموانع، بذكر الله الواحد الأحد الصمد، المتصف بجميع أوصاف الكمال إلى أن يؤدي ذكرك إلى الفكر المورث للمجاهدة والانزعاج، والشوق والابتهاج أحيانا، وواظب عليها إلى أن يستوعب جميع أوقاتك وحالاتك، وحينئذ ظهرت ولاحت على قلبك مقدمات المحبة والمودة، والعشف المزعج المفني، وصرت عليها زمانا إلى أن اشتاق وتعطش قلبك إلى فنائك وانقهارك في محبوبك.
وفي تلك الحالة عرضت عليك الحيرة والحسرة، والوحشة والقلق والاضطراب، والخوف والرجاء، واللذة والألم، وصرت بين بين، وأين أين، وكيف كيف.
وبالجملة: كنت في تلوين وتكوين، وإطلاق وتقييد، وما هي سكراتك عند موتك الإرادي، واضطراباتك دونها، وحينئذ لا يسع لك إلا الرضا والتسليم، والتوكل والتفويض، إلى أن جذبك الحق، ووفقك بالتمكين والتسكين، وأطلقك عن التقييد والتعيين، وأفناك عنك، وأبقاك بذاته، وفزت بما فزت، وتكون حينئذ { من الساجدين } [الحجر: 98] قد أتاك اليقين والتمكين، وأخلصك عن التردد والتلوين.
[16 - سورة النحل]
[16.1-8]
لذلك أخبر سبحانه عن إتيانه ووقوعه بالجلمة الماضوية تنبيها على تحقق وقوعه، فقال: { أتى أمر الله } أي: يومه الموعود الذي انكشفت فيه السدول، ولاحت الأسرار، واترتفعت حجب التعينات والأستار، واضمحلت السوى والأغيار، ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بعد انقهار الكل:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16]؟ وأيجب أيضا من ورائها:
لله الواحد القهار
[غافر: 16]، { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } أي: لا تستعجلوا وقوعه أيها المترددون الشاكون في أمره { سبحانه وتعالى عما يشركون } [النحل: 1] له من الآلهة الباطلة، ويدعون شفاعتها لهم عند الله لدى الحاجة.
بل هو الله الاحد الأحد، الصمد الذي { ينزل الملائكة } المقربين عنده { بالروح } أي: بالوحي الناشئ { من أمره } توفيقا وتأييدا { على من يشآء من } خلص { عباده } وهم الأنبياء والمرسلون المأمورون { أن أنذروا } أي: بأن خوفوا عباد الله المنحرفين عن استقامة صراطه، وجادة توحيده من بطشه وانتقامه إياهم، وقولوا لهم نيابة عن الله: { أنه لا إله } يعبد بالحق { إلا أنا فاتقون } [النحل: 2] عن مخالفة أمري وحكمي.
وكيف تشركون أيها المشركون ما لا يقدر على خلق أحقر الأشياء وأضعفها للقادر الحكيم الذي { خلق السموت } مع كمال عظمتها وفعتها { والأرض } بكمال بسطتها، وإنماخلق ما خلق، وأظهر ما أظهر ملتبسا { بالحق } أي: بانبساط نور الوجود الكائن الثابت في نفسه، وامتداد أظلال أوصافه وأسمائه عليهما، مع أنه على صرافة وحدته، وهما على عدميتهما الأصلية { تعالى } وتقدس { عما يشركون } [النحل: 3] له شيئا لا وجود له، ولا تحقق سوى الظلية والعكسية.
ولا سيما كيف يشركون أولئك الحمقى الضالون للقادر الذي { خلق الإنسان } وأوجده على أحسن صورة، وأعدل تقويم { من نطفة } دينة مهينة، لا تمييز لها أصلا ولا شعور، ورباها إلى أن صار ذا رشد وتمييز وكمال، وإدراك ودارية { فإذا هو خصيم } مجادل مبالغ في امتياز الحق من الباطل، والهداية من الضلال { مبين } [النحل: 4] ظاهر البيان بإقامة الدلائل البراهين القاطعة، وما هي إلا من تربية مبدعها وخالقها القادر المقتدر بالإرادة والاختيار؟!.
{ والأنعام } أيضا { خلقها } وأوجدها طفيلا للإنسان؛ ليكون { لكم } أيها المجبولون على الكرامة الفطرية { فيها دفء } تستدفئون به من الألبسة والأغطية المتخذة من أصوافها وأشعارها وأوبارها لدفع الحر والبرد { ومنافع } غير ذلك من الخباء والقباء وغيرهما { ومنها تأكلون } [النحل: 5] لتقويم مزاجكم وتعديلها من لحومها وشحومها وألبانها.
{ و } أيضا { لكم فيها جمال } وزينة وجاء بين أظهركم { حين تريحون } وتجمعونها إلى المراح من المرعى وقت الرواح مملوءة الضروع والبطون { وحين تسرحون } [النحل: 6] وترسلونها إلى المرعى وقت الصباح.
{ و } من أعظم فوائدها أنها { تحمل أثقالكم } أي: أحمالكم التي تستثقلونها { إلى بلد } بعيد { لم تكونوا بالغيه } أي: لم يحصل لكم بلوغها إليها لولاها { إلا بشق الأنفس } أي: بالمشقة التامة، والعسر المفرط، فخلقها سبحانه تيسيرا لكم وتسهيلا، تتميما لتكرمكم { إن ربكم } الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم { لرؤوف } عطوف مشفق لكم، يسهل عليكم كل عسير { رحيم } [النحل: 7] لكم، يوفقكم ويهيئ أسبابكم؛ لتواظبوا على أداء ما أفترض عليكم من كسب المعارف والحقائق الرافعة لكم إلى أرفع المنازل، وأعلى المراتب.
ثم أشار سبحانه أيضا إلى ما يضركم، ويدفع أذاكم، ويرفع جاهكم تتميما لتعظيمكم وتربيتكم، فقال: { والخيل والبغال والحمير } إنما خلقها وأظهرها سبحانه { لتركبوها و } تجعلوها { زينة } لأنفسكم بين بني نوعكم { و } بالجملة: { يخلق } لكم ربكم على مقتضى عمله بحوائجكم ومزيناتكم { ما لا تعلمون } [النحل: 8] وتأملون أنتم لأنفسهم مما يعنيكم ويعينكم في النشأة والأخرى.
[16.9-15]
{ و } كما يدبر سبحانه أمور معاش عباده على الوجه الأليق الأحسن بحالهم، كذلك له أن يدبر أمور معادكم، بل هي أولى للتبدير؛ لذلك { على الله } المصلح لأحوال عباده { قصد السبيل } أي: إرشادهم وهدياتهم إلى طريق مستقيم موصل إلى توحيده؛ ليصلوا إليه، ويفوزوا بما وعدوا عنده { و } كيف لا يرشدهم سبحانه إلى سواء السبيل { منها } أي: من السبيل { جآئر } مائل منصرف عن الحق وتوحيده على مقتضى أوصافه الجلالية المذلة المضلة تتميما للقدرة الكاملة، والسلطنة العامة الشاملة لكلا طرفي اللطف والقهر، والجمال والجلال { ولو شآء } وأراد سبحانه هدايتكم { لهداكم أجمعين } [النحل: 9] على مقضى تجليات الأوصاف اللطيفة الجمالية، المثمرة للذة الدائمة، والسرور المستمر الغير المنقطعة، لكن اقتضى حكمته البالغة أن يكون جنابه رفيعا متعاليا عن أن يطلع عله واحد بعد واحد؛ لذلك تجلى على بعض المظاهر بالأوصاف القهرية الجلالية المورثة للحزن الدائم، والألم المخلد.
وكيف لا يدبر سبحانه أمور عباده { هو الذي أنزل } وأفاض { من السماء مآء } محييا لموات الأرض، مثل إحياء الروح الأراضي الأجساد؛ ليحصل { لكم منه شراب } تشربون منه، أو تعصرونه من القصب والفواكه { و } يحل { منه شجر } أي: أنواع النباتات المستخرجة من الأرض لرعي مواشيكم؛ { فيه تسيمون } [النحل: 10] وتسرحون دوابكم للرعي إلى أن يسمن فيؤكل.
وأيضا { ينبت لكم } أي: لقوتكم المقوم لقوتكم المقوم لمزاجكم { به الزرع } بأنواعها؛ لتتخذوا منها أخبارا { والزيتون } للإدام { والنخيل والأعناب } للتفكه والتقوت أيضا { و } بالجملة: يخرج لكم به { من كل الثمرات } تتميما لأمور معاشكم، وتقويما لمزاجكم؛ لتفكروا في آلائه ونعمائه، وتتذكروا ذاته؛ كي تفوزوا بمعرفته وتوحيده { إن في ذلك } أي: إنعام هه النعم العظام المذكورة { لآية } عظيمة، وبينة واضحة لائحة { لقوم يتفكرون } [النحل: 11] أي: يستعملون عقولهم في تفكر آلاء الله ونعمائه؛ ليواظبوا على أداء شكرها.
{ و } من آياته سبحانه المتعلقة لتدبير أحوالكم: إنه { سخر لكم اليل } لستكنوا فيه وتستريحوا { والنهار } لتعيشوا فيه وتكتسبوا { و } أيضا { الشمس والقمر } لإنضاج ما تتقون، إصلاح ما تتفكهون { و } سخر { النجوم } أيضا؛ لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، حل كون كل منها { مسخرات بأمره } تابعات لحكمه وتقديره على تقدير النصب، أو مع أن الكل مسخرات في قبضة قضائه، يصرفها حسب إرادته ومشيئته على تقدير الرفع { إن في ذلك } أي: التسخير المذكور { لآيات } أي: في كل منها دليل واضح، وبرهان لائح { لقوم يعقلون } [النحل: 12] ويستدلون من الآثار إلى المؤثر، ومن المصنوعات إلى الصانع الحكيم.
{ و } سخر لكم أيضا { ما ذرأ } وخلق { لكم في الأرض مختلفا ألوانه } أشكاله وطبعه على مقتضى أهويتكم وأمزجتكم من الحوائج المتعلقة لحظوظكم وترفهكم { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } [انحل: 13] ويتفطنون منها إلى كرامة الإنسان من بين سائر الأكوان، وإلى خلافته ونيابته عن الله.
{ وهو الذي سخر } لكم { البحر } من كمال لطفه وتكريمه إياكم { لتأكلوا منه لحما طريا } وهو السمك { وتستخرجوا منه حلية } وزينة من الجواهر النفيسة { تلبسونها } وتتزينون بها ترفها وتنعما { وترى } أيها الرائي { الفلك } أي: السفن { مواخر فيه } أي: جواري مشققات للبحر، مسيرات لمن فيها على الماء { و } ما ذلك إلا { لتبتغوا } وتطلبوا { من فضله } وجوده ما يعينكم، ويليق بكم من الحوائج والأرباح وغير ذلك { و } إنما سخر سبحاه ما سخر عليكم من البرح والبحر { لعلكم تشكرون } [النحل: 14] رجاء أن تواظبوا وتداوموا على شكر نعمه، وتصرفوها طلبا لمرضاته.
{ و } من رحمته ولطفه أيضا { ألقى في الأرض } التي هي مستقركم ومشؤكم { رواسي } مخافة { أن تميد } وتتحرك { بكم } ولا يمكن استقراركم علهيا لاضطرابها وتزلزلها؛ إذ هي في طبعها كرة حقيقية، ملقاة على الماء، مغمورة فيه، فلما ألقاها سبحانه عناية منه رواسي ثقالا، صارت متفارقة الأطراف في الثقل، فاستقرت وتثبتت { و } أيضا جرى لكم { أنهارا } عليها؛ كي يمكنكم الاستقساء منها لدى الحاجة { و } عين لكم بين الجبال الراسيات { سبلا } نافذات { لعلكم تهتدون } [النحل: 15] إلى ما تقصدون من البلدان البعيدة.
[16.16-26]
{ و } نصب لكم { علامات } دالة على مقاصدكم في البوادي والبراري بالتلال والوهاد { و } في البحار { بالنجم } أي: بالنجوم المتعارفة عند البحارين؛ إذ { هم يهتدون } [النحل: 16] بها حين وقوعهم في لجج البحار، كل ذلك من الدلائل الدالة على وحدة الفاعل المختار، المتصف بجميع أوصاف الكمال، المنزه عن مشاركة الأضداد والأمثال، مبدع المخلوقات من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان، ومخترع الكائنات بلا علل وأعراض على سبيل الفضل والإحسان.
{ أ } تشركون مع الله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لا شيء في الوجود سواه، ولا إله إلا هو، يخلق ما يشاء على مقتضى جوده ورحمته، من لا يخلق شيئا، بل هو من أدون المخلوقات { فمن يخلق } أيها الحمقى { كمن لا يخلق } في الرتبة واستحقاق العبادة، لوم يتفطنوا بالفرق بينهما مع جلائه وظهوره، مع أنكم من زمرة العقلاء { أفلا تذكرون } [النحل: 17] فطرتكم المجبولة على العلم والتمييز؟!.
{ و } كيف تشركون مع الله المنعم المفضل، مع أنكم { إن تعدوا نعمة الله } الفائضة عليكم، وآلاءه الواصلة إليكم { لا تحصوهآ } لكثرتها ووفورها، ومع ذلك أشركتم معه غيره، وكفرتم بنعمه، مع أن المناسب لكم الرجوع إليه، والإنابة نحوه { إن الله } المطلع لضمائر عباده { لغفور } لمن تاب وآمن، وعمل صالحا { رحيم } [النحل: 18] يقبل توبتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم لو أخلصوا.
{ والله } المصلح لأحوال عباده { يعلم } منهم { ما تسرون } في قلوبكم بلا موافقة ألسنتكم { وما تعلنون } [الحل: 19] بألسنتكم بلا مطابقة قلوبكم، فعليكم أيها المؤمنون المنيبون أن تنيبوا نحو الحق سرا وعلانية حتى لا تكونوا من المنفاقين المخادعين مع اللهز
{ و } اعلموا أيها المشركون المكابرون أن { الذين يدعون من دون الله } المعبود بالحق آلهة، وتعبدونها إفكا كعبادته سبحانه، مع أنهم لا يستحقون الألوهية؛ إذ { لا يخلقون شيئا } حقيرا، وكيف بالعظيم، بل { وهم يخلقون } [النحل: 20] مخلوقون.
بل هم من أدون المخلوقات؛ لأنهم { أموات } أي: جمادات لا شعور لها أصلا؛ لأنهم { غير أحيآء } أي: غير ذي حس وحركة إرادية { و } كذلك { ما يشعرون } شعور الحيوانات { أيان يبعثون } [النحل: 21] أي: إلى أن يحشرون ويساقون من المرعى، فهم في أنفسهم أدى وأخص من الحيوانات العجم، فيكف تتأتى منهم الألوهية المستلزمة للاطلاع على جميع المغيبات الجارية في العوالم كلها اطلاع حضر وشهود؟!.
بل { إلهكم } الذي أوجدكم من كتم العدم، وأظهركم في فضاء الوجود { إله واحد } أحد صمد، لم يكن له كف، ولا شريك
ليس كمثله شيء
[الشورى: 11]، إنما يظهر وينكشف توحيده سبحانه لأولي العزائم والنهي، من أرباب المحبة والولاء في النشأة الأولى والأخرى { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } المعدة لشرف اللقاء { قلوبهم منكرة } بلقاء الله فيها { وهم } من شدة شكيمتهم، وكثافة حجبهم مع إنزال الكتب المبينة لأحوالها وأهوالها، والرسل المنبهين لهم عليها { مستكبرون } [النحل: 22] مترددون عتوا وعنادا.
لذلك { لا جرم } أي: حقا على الله يعذبهم، مع { أن الله } المطلع لسرائرهم وضمائرهم { يعلم } بعلمه الحضوري { ما يسرون وما يعلنون } من الكفر والضلال، فيجازيهم على مقتضى علمه بحالهم، ولا يحسن إليهم سبحانه بدل إستاءتهم؛ لأنهم مستكبرون { إنه } سبحانه { لا يحب المستكبرين } [النحل: 23] لاشتراكهم معه سبحانه في أخص أوصافه؛ إذ الكبرياء مخصوص به، لا يسع لأحد أن يشارك معه فيه.
{ و } من غاية عتوهم واستكبارهم { إذا قيل لهم } على سبيل الاستفسار: { ماذآ أنزل ربكم } على نبيكم { قالوا } على سبيل التهكم والاستهزاء: ما أنزل ربه إلا { أساطير الأولين } [النحل: 24] أي: الأكاذيب والأرجفة التي سطرها الألولون فيما مضى من تلقاء نفوسهم.
وإنما قالوا ذلك وشاعوا به بين الأنامه { ليحملوا أوزارهم } وآثامهم { كاملة } بلا تخفيف شيء منها ولا نقصان؛ ليؤاخذوا عليها { يوم القيامة و } يحملوا أيضا { من أوزار الذين يضلونهم } من ضعفاء الناس بقولهم هذا إياهم، مع أنهم خالية الأذهان { بغير علم } يتعلق منهم بالقبرآن وإعجازه، ومع ذلك لا يعذرون؛ لعدم التفاتهم إلى التأمل والتدبر حتى يظهر عليهم حقيته وبطلان قولهم { ألا سآء ما يزرون } [انحل: 25] المضلون بضلالهم، والضالون بضلالهم، وعدم تأملهم وتدبرهم، مع أنهم مجبولون على التأمل والتدبر.
هذا التكذيب والإضلال، والتهكم والاستهزاء من الأمور الحادثة بين أولئك الهالكين في تيه الشرك والطغيان، بل من ديدنهم القديمة، وعادتهم المستمرة؛ إذ { قد مكر الذين } مضوا { من قبلهم } واحتالوا لإضلال العوام، وبنوا أبنية رفيعة للصعود إلى السماء، والمقاتلة مع سكانها وإلهها، ثم لما تم بنيانهم وقصورهم { فأتى الله بنيانهم } أي: أتى أمره سبحانه بإهلاكهم وتعذيبهم بهدم بنائهم { من القواعد } والأعمدة والأساس التي بنيت عليها البناء، فتضعضعت وتحركت الدعائم { فخر عليهم السقف من فوقهم } وهم تحته متمكنون مترفهون، فهلكوا { و } بالجملة: { أتاهم العذاب } بغتة { من حيث لا يشعرون } [النحل: 26] أماراتها قبل نزوله.
[16.27-33]
{ ثم } بعد تعذيبهم في النشأة الأولى { يوم القيامة يخزيهم } أي: يخذلهم الله، ويرديهم بتكذيب كلام الله ورسوله { ويقول } لهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع: { أين شركآئي الذين كنتم } أيها الضالون المضلون، والمنهمكون في الغي والضلال { تشاقون } وتعادون { فيهم } أي: في حقهم وشأنهم المؤمنين، وتعارضون معهم بادعاء الألوهية لأولئك التماثيل العاطلة الباطلة، ادعوهم حتى ينجوكم ويخصلوكم من عذابي وبطشي { قال الذين أوتوا العلم } من الأنبياء ةالرسل، وخلفائهم الذين دعوهم إلى الإيمان فلم يؤمنوا، بل يكذبونهم وينكرون عليهم، وعلى دينهم ونبيهم حين أبصروا أخذ الله إياهم شامتين لهم، متهكمين عليهم: { إن الخزي } أي: الذلة والصغار { اليوم والسوء } المفرط المجاور عن الحد نازل { على الكافرين } [النحل: 27] المستكبرين الذين كذبوا الرسل، وأنكروا الكتب، واستهزءوا معهم.
وهم { الذين تتوفاهم الملائكة } الموكلون عليهم حين معارضتهم بالقرآن وتكذيبهم إياه وبمن أنزل إليه، مع كونهم { ظالمي أنفسهم } ومعارضيها على العذاب الأبدي، ثم لما عيانوا في النشأة الآخرة بحقيته وصدقه، ومطابقته للواقع { فألقوا السلم } أي: الانقياد والتسليم، مبرئين نفوسهم عن التكمذيب والإساءة مع القرآن، قائلين: { ما كنا } في النشأة الأولى { نعمل من سوء } أي: ما نريد ونعتقد الإساءة في حقه، فيقول الملائكة لهم على سبيل التهكم: { بلى } أنتم لا تسيئون الأدب مع الرسول والقرآن { إن الله } المطلع بجميع ما كان ويكون { عليم بما كنتم تعملون } [النحل: 28] من الرد والإكار والتكذيب، فيجازيكم على مقتضى علمهز
ثم قيل لهم زجرا وقهرا: { فادخلوا } أيها المشركون المستكبرون، المعاندون مع الله ورسوله { أبواب جهنم } كل فرقة منكم من باب منها، على تفاوت طبقاتكم في موجباتها، وادخلوا أنواع عذابها ونكالها، حال كونكم { خالدين فيها } مخلدين مؤيدين { فلبئس مثوى المتكبرين } [النحل: 29] جنهم البعد والخذلان التي هي منزل الطرد والحرمان.
{ وقيل للذين اتقوا } عن محارم الله، وحفظوا نفوسهم عن العرض على المهالك الموجبة لسخط الله وعضبه: { ماذا أنزل ربكم } على نبيكم لتربية دينكم، وتصفية مشربكم عن أكدار التقليدات والتخمينات { قالوا } أنزل { خيرا } محضا في النشأة الأولى والأخرى، أما في الأولى: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا } وعملوا الصالحات المقربة إلى الله { حسنة } كاملة من العلوم والمعارف المثمرة للمكاشفات والمشاهدات { و } أما في الآخرة: فا { لدار الآخرة } المعدة للفوز بشرف اللقاء، والوصول إلى سدرة المنتهى { خير } من جميع الكاملات الأقصى، والدرجات العليا { ولنعم دار المتقين } [النحل: 30] المتحفظين نفوسهم عن الالتفات إلى ما سوى الحق.
دار الآخرة التي هي { جنات عدن } مصونة عن أمارات الكثرة المشعرة للاثنينية { يدخلونها } مجردة عن جلباب التعينات العدمية { تجري من تحتها الأنهار } المنتشئة عن التجليات المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية { لهم فيها ما يشآؤون } من مقتضيات الأوصاف اللطفية الحبية الجمالية { كذلك يجزي الله المتقين } [النحل: 31] المائلين عن غير الله مطلقا، الباذلين مهجهم في سبيله طوعا المنخلعين عن مقتضيات أوصاف بشريتهم إرادة واختيارا، الصابرين على ما جرى عليهم من القضاء تسليما ورضا.
وهم { الذين تتوفاهم الملائكة } الموكلون عليهم في نشأتهم، حال كونهم { طيبين } طاهرين عن خبائث الإمكان، ورذائل الخذلان والخسران، الناشئة من ظلمات الطبائع والأركان { يقولون } أي: الملائكة المأمورين لقبض أرواحهم عند قبضها: { سلام عليكم } أيها الصابرون في البلوى، السائرون إلى المولى { ادخلوا الجنة } التي هي خير المنقلب والمثوى، وفوزوا بشرف اللقيا { بما كنتم تعملون } [النحل: 32] في النشأة الأولى من الإعراض عن مقتضيات الهوى، ومن الرضا بالقضاء، ومن الصبر على العناء، والشوق إلى الفناء.
ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على المشركين: { هل ينظرون } أي: ما ينتظرون أولئك التائهون في تيه الغفلة والغرور { إلا أن تأتيهم الملائكة } المأمورون لقبض أرواحهم الخبيثة { أو يأتي أمر ربك } يا أكمل الرسل؛ أي: يوم القيامة المعدة لتعذيبهم وانتقامهم { كذلك } أي: مثل إمهال هؤلاء الهالكين وإهمالهم في أمر الإيمان { فعل الذين } مضوا { من قبلهم } في زمن الأنبياء الماضين { و } بالجملة: { ما ظلمهم الله } المجازي لهم على مقتضى إساءتهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [النحل: 33] أي: يظلمون هم أنفسهم بعرضها على المهالك الموجبة أنواع العذاب والعقاب من تذكيب الرسل، وإنكار الكتب، وترك المأمورات، وإرتكاب المنهيات.
[16.34-39]
{ فأصابهم سيئات ما عملوا } عتوا وعنادا { وحاق } وأحاط { بهم } جزاء { ما كانوا به يستهزئون } [النحل: 34] استكبارا واستنكارا.
{ وقال الذين أشركوا } من غاية انهماكهم في الغي والضلال، وشدة إنكارهم وشكيمتهم، متهكمين على وجه الاحتجاج: { لو شآء الله } الواحد الأحد، المستقل في الأفعال بالإرادة والاختيار، على زعمكم عدم عبادتنا لآلهتنا وأصنامنا { ما عبدنا } ألبتة { من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا } إذ مراده مقضي حتما { و } أيضا { لا حرمنا } نحن ولا آباؤنا من البحائر وغيرها { من دونه } أي: بدون إذنه وإرادته ومشيئته { من شيء } إذ لا يعارض فعله هذا صورة احتجاجهم واستدلالهم.
{ كذلك } أي: مثل استدلال هؤلاء الطغاة الغواة، الهالكين في تيه الغفلة والعناد { فعل الذين } خلوا { من قبلهم } فأرسل عليهم رسلا، فكذبوهم وأنكروا عليهم، فأخذهم الله بذنوبهم، فأهكلهم بأنواع العذاب والعقاب؛ لأن إرادة الله لم تتعلق بإيمانهم وهدايتهم { فهل على الرسل } أي: ما على الرسل { إلا البلاغ } أي: تبليغ ما أرسلوا به { المبين } [النحل: 35] أي: على وجه التوضيح والتبيين؛ لئلا يبقى لهم شك وتردد في سماعه، وأما قبولهم وانصافهم بها وهدايتهم، فأمر استأثروا الله به، ليس لهم أن يخوضوا فيه؛ لأنه خارج عن وسعهم وطاقتهم.
ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله: { ولقد بعثنا في كل أمة } من الأمم الهالكة السالفة حين اختل أمور دينهم { رسولا } منهم، قائلا لهم: { أن اعبدوا الله } المنصف بالوحدانية والفردانية، المستقل بالوجود والآثار المترتبة عليه، المنزه عن الشريك والأمثال { واجتنبوا الطاغوت } أي: الآلهة المضلة التي أنتم تتخذونها من تلقاء أنفسكم ظلما وزورا، ثم لما بلغهم الرسول جميع ما جاء به من عندنا { فمنهم من هدى الله } بأن أراد هدايته فهداه { ومنهم من حقت } أي: استمرت وثبتت { عليه الضلالة } وتمرنت بقلبه؛ لتعلق مشيئة الله بضلاله، وإن ترددتم فيه { فسيروا } أيها الشاكون المترددون { في الأرض } التي هي مساكنهم ومنازلهم { فانظروا } واعتبروا من آثارهم وأطلالهم { كيف كان عاقبة المكذبين } [النحل: 36] المستهزئين للرسل والكتب.
{ إن تحرص } يا أكمل الرسل { على هداهم } وتريد هدايتهم، إنك لا تهدي من أحببت { فإن الله } الحكيم الهادي لعباده على مقتضى علمه باستعدادتهم { لا يهدي من يضل } أي: لا يريد هداية من أراد ضلاله في ساب علمه، ولوح وفضائه { وما لهم } بعدما أراد الله إظلالهم { من ناصرين } [النحل: 37] ينصرهم على الهداية، ويشفع فهم حتى ينقذهم على الضلال.
{ و } من خبث طينتهم، وشدة بغضهم وضغينتهم { قسموا بالله جهد أيمانهم } أي: أغلظوا فيها وأكدوا، قائلين { لا يبعث اللأه } ولا يحيى مرة أخرى { من يموت } بأن زال الروح الحيواني عنه، ثم قال سبحانه رادا لهم، وتخطئة على أبلغ وجه وآكده أيضا: { بلى } يبعثون؛ إذ وعد الله البعث والحشر { وعدا } صدقا { عليه } سبحانه إنجاز ما وعد { حقا } حتما وفاء لوعده، وإيفاء لحكمه، مع أنه القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على كل ما دخل تحت حيطة إرادته ومشيئته { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [النحل: 38] حق قدرته، وقدر قدرته وسطوته وسطوته وبسطته.
وإنما ينجز الوعد الموعود { ليبين } ويوضح { لهم الذي يختلفون فيه } بل يستعبدونه ويستحيلونه { وليعلم الذين كفروا } له، وأنكروا عليه عنادا ومكبارة { أنهم كانوا كاذبين } [النحل: 39] في إصرار عدم وقوعه وتكذيبه.
[16.40-46]
وكيف تستبعدون أيها المنكرون أمثال هذا عن كمال قدرتنا وعلمنا وإرادتنا { إنما قولنا } وحكمنا حين تعلق إرادتنا { لشيء } أي: الإظهار شيء من الأشياء المثبتة في لوح قضائنا، وحضرة علمنا، أي: شيء كان عظيما أو حقيرا { إذآ أردناه } أن يوجد ويتحقق في عالم الشهادة { أن نقول له } على مقتضى صفتنا القديمة التي هي الكلام، فارضين وجوده وتحققه؛ إذ هو عدم صرف، ولا شيء محض: { كن } كالمكونات الأخر { فيكون } [النحل: 40] بلا تراخ ومهلة وامتداد ساعة ولحظة، بل التلفظ بحرف التعقيب بين الأمر الوجودي الإلهي، وحصول المأمور المراد له سبحانه، إنما هو من ضيق العطف وضرورة التعبير، وإلا فلا ترتب بينهما إلا وهما؛ إذ الترتب إنما يحصل من توهم الزمان والآن، وعنده سبحانه لا زمان ولا مكان، بل له شأن لا يسع في زمان ومكان.
ثم أشار سبحانه إلى علو درجة المؤمنين، وارتفاع شأنهم، ورفعة قدرهم مكانهم، فقال: { والذين هاجروا } عن بقعة الإمكان، حال كونهم سائرين { في } سبيل { الله } بعدما حصل لهم مرتبة التمكن والاطمئنان { من بعد ما ظلموا } بتسلط الأمارة عليهم زمانا { لنبوئنهم } ونمكنهم { في الدنيا } أي: في نشاهم الأولى { حسنة } أي: حصة كاملة، وحظا وافرا من المعارف والحقائق إلى حيث انخلعوا عن اللوازم البشرية بالمرة، وماتوا عن أوصاف البهيمية إرادة واختيارا { و } مع ذلك { لأجر الآخرة } المعدة لرفع الحجب، وكشف الغطاء واسدل { أكبر } قدرا، وأعظم شأنا، وأعمل لذة { لو كانوا يعلمون } [النحل: 41] ويفهمون لذته بالذوق لمالوا إليه زيادة ميل، واجتهدوا نحوه زيادة اجتهاد، رزقنا الله الوصول إليه، والحصول دونه، وأذاقنا لذاته.
وأيضا { الذين صبروا } على ما أصابهم من المصيبات والبليات، مسترجعين إلى الله في جميع الحالات { وعلى ربهم } أي: لا على غيره من الوسائل والأسباب { يتوكلون } [النحل: 42] في جميع شئونهم وتطوراتهم.
{ و } كيف يستبعدون رسالتك يا أكمل الرسل أولئك المشركون المعاندون؛ إذ { مآ أرسلنا } للرسالة العامة رسلا { من قبلك } مبشرين ومنذرين { إلا رجالا } أمثالك { نوحي إليهم } شعائر الدين والإيمان، وننزل عليهم الكتب المبينة لأحكامها، فإن لم يقبلوا منك، ولم يعتقدوا صدقك، فقل لهم: { فاسألوا } أيها المكابرون المعاندون، الجاهلون بحال من مضي من الأنبياء { أهل الذكر } والعلم منكم، وهم الأحبار والقسيسون { إن كنتم لا تعلمون } [النحل: 43] صدقه ومطابقته للواقع.
وكما أيدنا الرسل والأنبياء الماضين { بالبينات } الواضحة { والزبر } اللائحة ترويجا لما جاءوا به، وأرسلوا معه؛ ليبينوا ويوضحوا بها أحكام أديانهم { و } كذلك أيضا { أنزلنا إليك } يا أكمل الرسل { الذكر } أي: الكتاب المعجز المشتمل على شعائر الإسلام وأحكامه { لتبين للناس } المتوغلين في الغفلة والنسيان { ما نزل إليهم } من عند ربهم على مقتضى إزمانهم وأطوارهم من الأوامر والنواهي، والآداب والأخلاق { ولعلهم } بعد تبليغك إياهم، وتبيينك لهم { يتفكرون } [النحل: 44] في آياته وأحكامه، ويتأملون في حكمه ومرموزاته؛ كي يتفطنوا إلى معارفه وحقائقه، وكشوفاته وشهوداته الموعودة فيه.
ثم قال سبحانه تهديدا على أهل الزيغ الضلال، المنحرفين عن طريق الحق عتوا وعنادا: { أفأمن الذين مكروا السيئات } واحتلوا لهلاك الأنبياء، سيما معك يا أكمل الرسل، ولم يخافوا { أن يخسف الله } القادر الغالب على الانتقام { بهم الأرض } كما خسفنا على قارون { أو يأتيهم العذاب } بغتة، حال كونهم بائتين في مراقدهم { من حيث } هم { لا يشعرون } [النحل: 45] أماراتها ومقدماتها.
{ أو يأخذهم } العذاب وهم { في تقلبهم } وتحركهم دائرين مترددين { فما هم } حين أخذه { بمعجزين } [النحل: 46] مقاومين قادرين على دفع قهر الله وعذابه.
[16.47-55]
{ أو يأخذهم } العذاب { على تخوف } وتنقص من أموالهم وأولادهم على سبيل التدريج إلى أن يستأصلهم بالمرة { فإن ربكم } أيها المجترئون على الله ورسوله، المسيئون الأدب معهما { لرؤوف } عطوف مشفق، لا يعاجلكم بالعذاب { رحيم } [النحل: 47] يمهلكم ويؤخر انتقامكم رجاء أن تتذكروا وتتعظوا.
{ أ } يصرون ويستمرون أولئك المشركون المسرفون على الشرك والنفاق { ولم يروا } وينظروا نظر العبرة والاستصبار { إلى } انقياد جميع { ما خلق الله } وأوجده وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا لحكمه وأمره { من شيء } من الأشياء التي { يتفيؤا } أي: يميل وينقلب { ظلاله } بانقلاب الشمس وحركتها { عن اليمين } مرة { والشمآئل } أخرى، على مقتضى اختلاف أوضاع الشمس، حال كونهم { سجدا } ساجدين متذللين خاضعين، واضعين جباهم على تراب المذلة إطاعة وانقيادا { لله } الواحد الأحد، المستقل في الألوهية والربوبية { وهم } في جميع حالاتهم وتقلباتهم { داخرون } [النحل: 48] ضاغرون ذليلون، خائفون من جلال الله وكبريائه، مستوحشون على سطوة قهره، وصولة استيلائه.
{ و } كيف يستكبرون أولئك المشركون المنكرون عن انقياد الله وإطاعته؛ إذ { لله } لا لغيره من الأظلال الهالكة، والتماثيل الباطلة { يسجد } ويتذلل طوعا وطبعا جميع { ما في السموت و } كذا جميع { ما في الأرض من دآبة } تتحرك تخرج من العدم نحو الوجود بامتدااد أظلال الأوصاف الإلهية، ورش رشحات زلال وجوده عليها { و } خصوصا { الملائكة } المهيمون المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله { وهم } من غاية قربهم، وتنزههم عن العلائق المبعدة عن الله، وتجردهم عن أوصاف الإمكان مطلقا { لا يستكبرون } [النحل: 49] عن عبادة الله، والتذلل نحوه، فكي أنتم أيها الهلكي الغرقى، المنغمسون في بحر الغفلة والضلال.
وإنما يسجد أولئك الساجدون المتذللون؛ لأنهم { يخافون ربهم } القادر على الإنعام والانتقام أن يرسل عليهم عذابا { من فوقهم } لأنهم مقهورون تحت قبضة قدرته { و } لذلك { يفعلون ما يؤمرون } [النحل: 50] ويجتنبون عما ينهون.
{ و } كيف لا تمنعون عن إثبات الشركاء لله الواحد الأحد الصمد أيها المشركون المعاندون بعدما { قال الله } عز شأنه، وجل بركاته: { لا تتخذوا } أيها المكلفون بالإيمان والعرفان { إلهين اثنين } مستحقين للعبادة والانقياد، فيكف الزيادة { إنما هو إله واحد } يعبد بالحق، يرجع نحوه في الوقائع، ويفوض إليه الأمور كلها، وما هو إلا أنا { فإياي } لا إلى غيري من مخلوقاتي ومصنوعاتي { فارهبون } [النحل: 51] أي: خصوني بالخوف والرجاء، وارجعوا إلي عند هجوم البلاء، ونزول القضاء؛ إذ لا راد لقضائي إلا فضلي وعطائي.
{ و } كيف لا يرجع إليه، ويستغاث منه، مع أن { له } ومنه { ما } ظهر { في السموت } أي: عالم الأسماء والصفات التي هي الفواعل والمفيضات المؤثرات { و } ما ظهر في { الأرض } أي: عالم الطبيعة من الاستعدادات التي هي القوابل المتأثرات من العلويات { وله } لا لغيره من الأسباب والوسائل العادية { الدين } أي: الإطاعة والانقياد، والتوجه والرجوع { واصبا } دائما حتما لازما { أفغير الله } المحيط للكل إحاطة شهود وحضور { تتقون } [النحل: 52] وتحذرون أيها الجاهلون بحق قدره، مع أنه لا ضار سواه، ولا نافع غيره؟!.
{ و } واعلموا ايها المجبولون على التكليف أن { ما بكم من نعمة } واصلة لكم، نافعة لنفوسكم، مسرة لقلوبكم { فمن الله } المصلح لأحوالكم، وصلت إليكم امتنانا عليكم وتفضلا؛ إذ لا نافع إلا هو { ثم إذا مسكم الضر } المشوش لنفوسكم، القاسي لقلوبكم { فإليه تجأرون } [النحل: 53] تتضرعون وتستغيثون ليدفع عنكم أذاكم؛ إذ لا ضار أيضا إلا هو.
{ ثم إذا كشف الضر عنكم } بعد استغاثتكم ورجوعكم نحوه؛ إذ لا كاشف سواه { إذا فريق } أي: فجاء طائفة { منكم بربهم } الذي يدفع أذاهم، ويكشف ضربهم { يشركون } [النحل: 54] له غيره من الأصنام والتماثيل العاطلة التي لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فكيف لغيرهم؟!.
وإنما فعلوا ذلك وأشركوا { ليكفروا بمآ آتيناهم } من النعم، ولم يقوموا بشكرها عنادا ومكابرة، بل أسندوها إلى ما لا شعور لها أصلا ظلما وزورا { فتمتعوا } أيها المشركون بنا، الكافرون لنعمنا { فسوف تعلمون } [النحل: 55] ما تكسبون لنفوسكم من العذاب المخلد، والعقاب المؤبد.
[16.56-64]
والعجب كل العجب ينكرن بنا، مع أنا متصفون بجميع أوصاف الكمال، منعمون لهم بالنعم الجليلة الجزيلة { ويجعلون } ويعينون { لما لا يعلمون } أي: لآلهتهم التي لا يعلمون ولا يفهمون منهم حصول الفائدة لهم، وجلب النفع إليهم أصلا؛ إذ هي جمادات نحتوها بأيديهم { نصيبا } أي: حظا كاملا { مما رزقناهم } وسقنا نحوهم جهلا وعنادا، ومع ذلك خيلوا أنهم لا يسألون عنها، ولا يؤاخذون عليها، بل يثابون بها على زعمهم الفاسد، ورأيهم الكاسد { تالله لتسألن } أيها المسرفون { عما كنتم تفترون } [النحل: 56] علينا بإثبات الشركاء، وإسناد نعمنا إليهم افتراء ومراء.
{ و } من جملة متفرياتهم بالله المنزه عن الأشياء والأولاد: إنهم { يجعلون } ويثبتون { لله البنات } حيث يقولون: الملائكة بنات الله، مع أنهم يكرهونها لأنفسهم { سبحانه } وتعالى عما يقولون علوا كبيرا { ولهم } أي: يثبتون لأنفسهم { ما يشتهون } [النحل: 57] من البنين.
{ و } الحال أنهم { إذا بشر أحدهم بالأنثى } أي: بولادتها { ظل وجهه مسودا } أي: صار وجهه أسود من غاية الحزن والكراهة { وهو } حينئذ { كظيم } [النحل: 58] ممتلئ من الغيظ والبغض على الزوجة والوليدة.
وصار من شدة الغم والهم إلى حيث { يتوارى } ويستتر { من القوم } استحياء { من سوء ما بشر به } أي: الوليدة المبشرة بها، وتردد في أمرها { أيمسكه على هون } أي: هوان ومذلة { أم يدسه } ويخفيه { في التراب } غيرة وحمية { ألا سآء ما يحكمون } [النحل: 59] لأنفسهم ما يشتهون، والله المنزه عن الولد ما يكرهون.
ثم قال سبحانه: { للذين لا يؤمنون بالآخرة } المعدة لعرض الأعمال على الله والجزاء منه على مقتضاها { مثل السوء } في حق الله المنزه عن الأهل والولد، سيما نسبتهم إليه ما يستقبحه نفوسهم من إثبات البنات له، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا { ولله المثل الأعلى } هو الغني عن العالم ما فيها، فكيف الزواج الإيلاد، واللذين هما من أقوى أسباب الإمكان النافي للوجوب الذاتي الذي هو من لوازم الألوهية والربوبية { وهو العزيز } الغالب المتفرد، المنيع ساحة عزته عن الاحتياج إلى غيره مطلقا، فكيف إلى الزجة والولد { الحكيم } [النحل: 60] المتصف بكمال الحكمة المتقنة، كيف يختار لذاته ما لا يخلو عن وصمة النقصان؟!.
ثم قال سبحانه: { ولو يؤاخذ الله } الحكيم المتقن في أفعاله { الناس } الناسين عهود العبودية على مقتضى عدله وانتقامه { بظلمهم } ومعاصبهم الصادرة عنهم دائما { ما ترك عليها } أي: على وجه الأرض { من دآبة } أي: ذي حركة تتحرك عليها؛ إذ ما من متحرك إلا وينحرف عن جادة العدالة كثيرا { ولكن يؤخرهم } ويمهلهم على مقتضى فضل وحكمته ولطفه { إلى أجل مسمى } أي: سماه الله وعينه في علمه لموتهم { فإذا جآء أجلهم } المسمى المبرم المقضى به { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [النحل: 61] أي: لا يسع لهم الاستئخار والاستقدام، بل لا بد أن يموتوا فيه حتما مقضيا.
{ و } من خبث باطنهم { يجعلون } وينسبون { لله } المنزه عن الأنداد والأولاد { ما يكرهون } مايستقبحون لنفوسهم، وهو إثبات البنات له سبحانه { و } مع ذلك { تصف } وتقول { ألسنتهم الكذب } تصريحا وتنصيصا { أن لهم الحسنى } أي: بأن لهم المثوبة العظمى، والدرجة العليا عند الله، بل { لا جرم } أي: حقا عله وحتما { أن لهم النار } أي: جزاؤه مقصور على النار، مخلدون فيها { وأنهم مفرطون } [النحل: 62] ي العذاب، مقدمون على جميع العصاة والطغاة الداخلين في النار، المجزين بها؛ لاستكبارهم على الله ورسله.
{ تالله } يا أكمل الرسل { لقد أرسلنآ } رسلا { إلى أمم } مضوا { من قبلك } حين فشا الجدال والمراد بينهم، فانحرفوا عن جادة الاعتدال، وأيدنا الرسل بالكتب المبينة لطريق العدالة والاستقامة، فبينوا لهم على أبلغ وجه { فزين } وحسن { لهم الشيطان } المغوي المضل { أعمالهم } التي كانوا عليها، فأصروا على أعمالهم، فلم يقبلوا قول الأنبياء؛ لذلك نزل عليهم من العذاب ما نزل في الدنيا، وسينزل في الآخرة بأضعافه وآلافه { فهو } أي: الشيطان { وليهم } أي: متولي أمور هؤلاء عنهم { اليوم } لذلك لم يقبلوا قولك، ولم يسمعوا بيانك، بل أصروا على ما عليه أسلافهم من الغواية والضلالة { ولهم } أيضا مثل أسلافهم، بل أشد منهم { عذاب } في النشأة الأولى والأخرى { أليم } [النحل: 63] مؤلم أشد إيلام؛ لأن بيانك وتبليغك أكمل من بيان سائر الأنبياء.
{ ومآ أنزلنا } من مقام جودنا وفضلنا { عليك } يا أكمل الرسل { الكتاب } الجامع لما في الكتب السالفة مع زيادات خلت عنهم تلك الكتب { إلا لتبين } وتوضح { لهم } أي: للناس الأمر { الذي اختلفوا فيه } أي: التوحيد الذاتي وأحوال النشأة الأخرى، والمكاشفات والمشاهدات الواقعة فيها { و } أنزلناه أيضا { هدى } أي: هاديا، يهديهم إلى التوحيد ببيان براهنيه وحججه الموصلة إليه بالنسبة إلى أرباب المعاملات والمجاهدات، من الأبرار السائرين إلى الله بارتكاب الرياضات القالعة لدرن الإمكان، ورين التعلقات.
{ ورحمة } أي: كشفا وشهودا بالنسبة إلى المجذوبين المنجذبين نحو الحق، المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بغتة، بلا صنع صدر عنهم، وأمر ظهر منهم، بل جذبهم الحق عن بشريتهم، وبدلهم تبديلا، كل ذلك { لقوم يؤمنون } [النحل: 64] ويوقنون بتوحيد الله وصفاته الذاتية، ويتأملون في آثار مصنوعاته تأملا صادقا، ويعتبرون منها اعتبارا حقا إلى أن ينكشفوا ويفوزوا بما فازوا، وينالوا بما نالوا، وليس وراء الله مرمى ولا منتهى.
[16.65-71]
{ والله } الهادي لعباده إلى زلال توحيده { أنزل من السمآء } أي: الطبيعة الهيولانية { مآء } أي: معارف وحقائق وعلوما لدنية { فأحيا به الأرض } أي: الطبيعة الهيلاونية { بعد موتهآ } أي: بعدما كانت عدما صرفا، فاتصفت بالعلوم الإدراكات الجزئية، وترقت منها متدرجا إلى أن وصلت إلى مرتبة التوحيد المسقط للإضافات مطلقا { إن في ذلك } التبيين والتذكير { لآية } دلائل وشواهد دالة على توحيد الحق { لقوم يسمعون } [النحل: 65] سمع قبول وتأمل وتدبر.
{ وإن لكم } أيضا أيها المتأملون المتدبرون { في الأنعام لعبرة } لو تعتبرون بها، وتتفكرون فيها حق التفكر والتدبر لانكشفتم بعجائب صنعنا، وكمال قدرتنا، ومتانة حكمتنا، وحيطة علمنا وإرادتنا؛ إذ { نسقيكم } ونشربكم { مما في بطونه } أي: مما في بطون بعض الأنعام مستخرجا { من بين فرث } أي: أخلاط وفضلات مستقرة في كرشها { ودم } نجس سائل، سار في العروق والشرايين { لبنا } طاهرا { خالصا } صافيا عن كدورات كلا الطرفين، بحيث لا يشوبه شيء منهما، لا من لون الدم، ولا من ريح الفرث { سآئغا } سهل المرور والانحدار، هنيئا مرئيا { للشاربين } [النحل: 66] بلا تسعر لهم في شربه ولا كلفة.
{ ومن } نسقيكم أيضا أيها المعتبرون { ثمرات النخيل والأعناب } بحيث { تتخذون منه } أي: من عصير كل منهما { سكرا } خمرا، يترتب على شرب السكر المسكر، وهو وإن كان حراما شرعا، إلا أنه يدل على عجائب صنع الله، وبدائع حكمته، وغرائب إبداعه واختراعه { و } تتخذون من كل منها { رزقا حسنا } كالتمر والزبيب، والدبس والخل، وأنواع الأدم { إن في ذلك } الاتخاذ { لآية } دالة على كما قدرة الله وحكمته { لقوم يعقلون } [المحل: 67] أي: يستعملون عقولهم بالنظر والتفكر في آلاء الله ونعمائه؛ كي يتفطنوا إلى وحدة ذاته.
{ و } من عجائب المبدعات، وغرائب المخترعات التي يجب العبرة الاعتبار عنها: { أوحى } وألهم { ربك } يا أكمل الرسل { إلى النحل } الضعيف المنحول المستحقر إظهارا لكمال قدرته وحكمته { أن اتخذي } أي: بأن اتخذي - أنثها باعتبار المعنى، وإن كان لفظ النحل مذكرا - { من } شقوق { الجبال بيوتا } تأوين إليها { و } كذا { من } شقوق { الشجر } في الآجام { و } كذا { مما يعرشون } [النحل: 68] ويبنون لك من الأبنية والأماكن، واصنعي فيها بالهام الله إياك بيوتات من الشمعة المتخذة من أنواع الأزهار والنباتات التي لا علم لنا بتعيينها وإحصائها كلها مسدسات، متساويات الأضلاع والزوايا، بحيث لا تفاوت بين أضلاعها وزواياها أصلا، بحيث عجز عن تصويرها حذاق المهندسين، فيكف عن تحقيقها وكنهها، تاهت في بيداء ألوهيته أنظار العقل وآراؤه.
{ ثم } بعدما تم بناؤك { كلي من كل الثمرات } التي ألهمناك أكلها { فاسلكي } في اتخاذ العسل منها { سبل ربك } أي: السبل التي ألهمك ربك بسلوكها على وجهها بلا انحراف واعوجاج { ذللا } مسخرة في حكمه بلا تصرف صدرت عنك.
ثم لما عملت على مقتضى ما أوحيت وألهمت { يخرج } لكم أيها المكلفون بالإيمان والمعارف { من بطونها } أي: بطون البيونات { شراب مختلف ألوانه } أبيض وأسود، وأخضر وأصفر { فيه شفآء للناس } عن الأمراض البلغمية بالأصالة، وعن غيرها بالتبعية { إن في ذلك } الإلهام والوحي والخطاب على الزنبور الضعيفة بأوامر عجز عنه فحول العقلاء، الكاملين في القوة النظرية والعلمية، وامتثالها وصنعها على الوجه الأمور بلا فوت شيء منها { لآية } أي: دليلا واضحا، وبرهانا قاطعا لائحا على قدرة القادر العليم، والصانع الحكيم الذي ألهمها وأوصاها ما أوصاها { لقوم يتفكرون } [النحل: 69] ويتدبرون في الأمور، ويتعمقون فيها متدبرين في أنيتها؛ كي يصلوا إلى لميتها.
ثم قال سبحانه: { والله } القادر المتقدر للإحياء والإماتة { خلقكم } وأظهركم من كتم العدم إظهارا إبداعيا، وإيحاء اختراعيا مقدرا مدة معينة لبقائكم في النشأة الأولى { ثم } بعد انقضاء المدة المقدرة { يتوفاكم } أي: يميتكم ويفنيكم { ومنكم من } يقدر لبقائه في هذه النشأة مدة متطاولة، بحيث { يرد إلى أرذل العمر } وأخسه وأسوئه، وإنما يرد بعض التاس إليه { لكي لا يعلم } ويفهم { بعد } تعلق { علم } منه بمعلوم مخصوص { شيئا } من أحوال ذلك المعلوم؛ يعني: يرجع إلى مرتبة الطفولية بعد كمال العقل، وإنما رده سبحاه إظهارا للقدرة الكاملة، وتذكيرا وعبرة للناس؛ لئلا يطلبوا من الله طول الأعمار، وبعد الآجال { إن الله } المدبر لأمور عباده { عليم } بمصالحهم ومفاسدهم { قدير } [النحل: 70] مقدر مقتدر للأصلح لهم تفضلا وامتنانا.
{ والله } المقدر لمصالحكم أيضا { فضل بعضكم على بعض في الرزق } بأن قدر للبعض غنى، وللبعض فقرا، وللبعض كفاية، على حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم في علم الله، ولوح قضائه، وقدر البعث مالكا للبعض، والبعض مملوكا له { فما الذين فضلوا } بسعة الرزق والبسطة من الموالي والملاك { برآدي رزقهم } أي: بعض ما رزقهم الله { على ما ملكت أيمانهم } من المماليك بأن يقدر للماليك في قسمة الله رزق، بل { فهم } أي: المماليك والموالي { فيه } أي: في تقدير الرزق وقسمته { سوآء } أي: كما قدر للملاك قدر للماليك أيضا، غاية ما في الباب: إن الرزق المقدر للمماليك إنما يصل إليهم من يد المولي { أفبنعمة الله يجحدون } [النحل: 71] ينكرون ويكفرون بإسناد أرزاق المماليك إلى الموالي، لا إلى الله الرزاق لجميع العباد.
[16.72-77]
{ والله } المدبر المصلح لأحوال عباده { جعل لكم } تفضلا عليكم { من أنفسكم } أي: من جنسكم، وبني نوعكم { أزواجا } نساءا، تستأذنون بهن، وتستنسلون منهم { وجعل لكم من أزواجكم بنين } ليخلفوا فيكم، ويحيوا أسماءكم { و } جعل لكم من أبنائكم وبناتكم { حفدة } يسرعون إلى خدمتكم وطاعتكم { و } بالجملة: { رزقكم } الله تفضلا عليكم وامتنانا { من الطيبات } العقوبة المقومة لأمزجتكم وبنيتكم؛ لتواظبوا على طاعة الله، وتداوموا الميل إلى جنابه، وتلازموا شكر: نعمه { أ } تتركون متابعة الحق الحقيق بالنعمة، وهو القرآن المعجز، والرسول المبين له { فبالباطل } الذي هو الأصنام والأوثان { يؤمنون } يصدقون ويعبدون { و } بالجملة: { بنعمت الله } النعم المكرم بأنواع الكرم { هم يكفرون } [النحل: 72] حيث صرفوها إلى خلاف ما أمروا يصرفها؛ إذ إعطاء النعم إياهم إنما هو لتقوية طاعة الله، وكسب معارفه وحقائقه، لا لعبادة الأصنام والأوثان الباطلة.
{ و } من خبث باطنهم، وثمرة كفرانهم نعم الله أنهم { يعبدون من دون الله } المالك لأزمة الأمور الجارية في خلال الزمان والدهور { ما لا يملك لهم رزقا } معنويا روحانيا فائضا { من السموت } أي: عالم الأسماء، والصفات على مقتضى الجود الإلهي { و } لا رزقا صوريا جسمانيا معنويا؛ لاكتساب المعارف الروحانية، مستخرجة من { الأرض } أي: معالم الهيولي والطبيعة { شيئا و } هم أيضا { لا يستطيعون } [النحل: 73] لأنفسهم، فكيف لغيرهم؟!.
{ فلا تضربوا } ولا تثبتوا أيها الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه { لله } المنزه عن الأنداد والأشباه { الأمثال } إذ لا مثل ولا شبه ولا كفء، فكيف يشاركون له دونه { إن الله } المطلع لجميع الكوائن والفواسد { يعلم } بعلمه الحضوري جميع أحوالكم، وأحوال معبوداتكم، وما حرى عليكم وعليهم { وأنتم } أيها الغافلون الجاهلون بحق قدره { لا تعلمون } [النحل: 74] منه شيئا، فكيف تضربون له مثلا؟!.
بل { ضرب الله } العالم بجيمع السرائر والخفايا { مثلا } لنفسه، ولمن آثبت المشركون له سبحانه شريكا من الأصنام والأوثان مثل سبحانه شركاءهم { عبدا مملوكا } رقيقا لا مكاتبا { لا يقدر على شيء } من التصرف في مكاسبه بغير إذن مولاه { و } مثل سبحانه نفسه { من رزقناه منا } يعني: من أحرارنا لأرقائهم تفضلا وإحسانا { رزقا حسنا } حلالا وافرا { فهو ينفق } ويتصرف { منه } أي: من رزقه وكسبه { سرا } بحيث لا يطلع على إنفاقه أحد، حتى الفقراء المستحقون { وجهرا } وعلانية على رءوس الملأ.
{ هل يستوون } الأحرار المتصرفون أموالهم بالاستقلال والاختيار، وأولئك العبيد المعزولون عن التصرف رأسا { الحمد لله } على ما أعطانا عقلا نجزم به عدم المساواة بين الفريقين، ونميز به الحق عن الباطل، والهداية عن الضلال { بل أكثرهم لا يعلمون } [النحل: 75] الفرق بين كلا الفريقين؛ لعدم صرفهم نعمه العقل إلى ما خلق لأجله، وهو الامتياز المذكور.
{ وضرب الله } وهو أيضا { مثلا } لنفسه، ولتك المعبودات الباطلة، فقال: مثلنا ومثلهم مثل { رجلين أحدهمآ أبكم } أي: أخرس وأصم { لا يقدر على شيء } من التفهم والتفيهم { و } كيف يقدر على النفع للغير؛ إذ { هو } في نفسه { كل } ثقل { على مولاه } أي: حافظه ومولي أموره { أينما يوجهه } ويصرفه لطلب المهام { لا يأت بخير } نجح ونيل، وهو مثل الأصنام العاطلة الكليلة التي لا خير فيها أصلا { هل يستوي } أيها العقلاء المميزون { هو } أي: هذا الموصوف بالأوصاف المذكورة { ومن } هو ذو منطق فصيح معرب { يأمر بالعدل } وينال بالخير والحسنى أينما توجهه بنفسه { وهو على صراط مستقيم } [النحل: 76] معتدل مائل عن كلا طرفي الافراط والتفريط المذمومين، وهو مثل لله الواحد الأحد الصمد، المتصرف المستقل في ملكه بالإرادة والاختيار.
ثم أشار سبحانه إلة علو شأنه، وسمو برهانه، وتخصصه باطلاع المغيبات التي لا اطلاع لأحد عليها، فقال: { ولله } خاصة واستقلالا { غيب السموت } أي: ما فيها من جنود الله ومخلوقاته { و } غيب { الأرض } أي: ما عليها أيضا من جنوده، لا اطلاع لأحد منا عليها { ومآ أمر الساعة } الموعودة، وقصة وقوعها وقيامها بالنسبة إلى قبضة قدرته { إلا كلمح البصر } أي: كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها في القرب والدنو { أو هو أقرب } أي: بل هو أقرب من رجع الطرف؛ إذ الآن فيه متحقق في سرعة نفوذ فضاء الله بعد تعلق إرادته، الآن موهوم مخيل؛ إلا تراخي بين الأمر الألهي ووقوع المأمور المراد له إلا وهما على ما مر في تفسير قوله سبحانه: { كن فيكون } [البقرة: 117]، ولا يستبعد عن الله سبحانه أمثال هذا { إن الله } المتصف بجميع أوصاف الكمال { على كل شيء } داخل في حيطة حضرة علمه وقدرته { قدير } [النحل: 77] لا ينتهي قدرته دون مقدور أصلا.
[16.78-85]
{ و } كيف ينتهي قدرته؛ إذ { الله أخرجكم من بطون أمهاتكم } وأنتم خاوون عن العلوم كلها، بحيث { لا تعلمون شيئا } من المعلومات أصلا { وجعل لكم } أسبابا وأدوات تعلمون بها أنواعا من العلوم، هيأ لكم { السمع } لإدراك المسموعات الجزئية { والأبصار } لإدراك المبصرات الجزئية { والأفئدة } لإدراك الكليات والجزئيات، والمناسبات والمباينات الواقعة بين العلوم والإدراكات، كل ذلك بقدرة الله وإرادته، وفضله وجوده { لعلكم تشكرون } [النحل: 78] يعني: رجاء أن تعدوا نعم منعمكم عليكم في شئونكم وتطوراتكم، وتواظبوا على شكرها؛ كي تعرفوا ذاته، وتصلوا إليه.
{ ألم يروا } ولم ينظروا { إلى } جنس { الطير } كيف صارت { مسخرت } مذللات للطيران والسيران بريشت واضحة { في جو السمآء } أي: في الهواء المتباعد عن الأرض { ما يمسكهن } بلا علاقة ودعامة { إلا الله } المتفرد بالقدرة التامة الكاملة على أمثال هذه المقدورات { إن في ذلك } الشئون والتطورات المختلفة، والتسخيرات والتذليلات للطير { لأيت } دلال قاطعات على كما علم الله وقدرته وإرادته { لقوم يؤمنون } [النحل: 79] بتوحيد الله، ويعتقدون اتصافه بجميع أوصاف الكمال.
{ والله جعل لكم } أي: من جملة مقدرواته المتعلقة بأمور معاشكم: إنه جعل لكم { من بيوتكم } التي بنيتم بأيديكم بإقدار الله وتمكينه وتعليمه إياكم { سكنا } أي: مسكنا تسكنون فيها، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر، والآجر والخشب { وجعل لكم } أيضا { من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها } أي: تحملونها وتنقلونها { يوم ظعنكم } وترحالكم من مكان إلى مكان { و } كذا { يوم إقامتكم } وحضركم { و } جعل لكم أيضا { من أصوافها } هي للضائنة والغنم { وأوبارها } هي للإبل { وأشعارهآ } هي للمعز { أثاثا } أي: ما يلبس ويفرش { و } وصار { متاعا } لكم، تتمتعون بها { إلى حين } [النحل: 80] أي: إلى مدة متطاولة من الزمان.
{ والله جعل لكم } أيضا { مما خلق } من الأبنية والشجر والجبال وغيرها { ظلالا } تتفيئون وتستظلون به من حر الشمس { وجعل لكم } أيضا { من الجبال أكنانا } أي: كونا، تسكنون بها لدفع البرد { وجعل لكم } أيضا { سرابيل } أي: أثوابا وأكسية وأغطية متخذة من الصوف والقطن، والكتان والحرير وغيرها { تقيكم الحر } أي: تحفظكم من شدة الحر { وسرابيل } أي: الدروع والجواشن والسربالاتت { تقيكم بأسكم } عند الحراب والقتال { كذلك } أي: مثل ما ذكر من أنواع النعم { يتم نعمته } الفائضة { عليكم لعلكم تسلمون } [النحل: 81] أي: تناقدون وتطيعون، وسلمون أموركم كلها، وتتخذونه وكيلا.
{ فإن تولوا } وأعرضوا عن حكم الله بعدما تلوت عليهم يا أكمل الرسل ما تلوت من أوامره وأحكامه، ولم يقبلوا مك الحق، لا تبال بهم وبإعراضهم { فإنما عليك البلاغ المبين } [النحل: 82] الموضح، وقد بلغت، وعلينا الحساب والجزاء بالعذاب والعقاب.
وكيف لا يحاسبون ولا يعاقبون أولئك المشركون، إنهم { يعرفون نعمت الله } التي عدها وهيأها لهم { ثم ينكرونها } من خبث بواطنهم بإسنادها إلى شركائهم وشفعائهم { وأكثرهم } أي: عرفائهم وعقلائهم الذين يعرفون النعمة والمنعم، ثم ينكرون إنعامه، وأتباعهم؛ أي: ضعفاؤهم في العقل والتمييز كلهم هم { الكافرون } [النحل: 83] الجاحدون لله وإنعامه، يجازون على مقتضى جحودهم وإنكارهم.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { يوم نبعث من كل أمة شهيدا } وهو نبيهم القائم بأمرهم، المشرف الناظر بحالهم من قبل الحق، يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر، ويوم العرض والجزاء { ثم لا يؤذن للذين كفروا } لا يمهلون للاعتذار، ولا يقبل منهم إن اعتذروا { ولا هم يستعتبون } [النحل: 84] ويسترضون من العتبى، وهي الرضا.
{ وإذا رأى الذين ظلموا } أنفسهم بالعرض على المهالك، بالخروج عن حدود الله الموضوعة فيهم { العذاب } الموعو لهم بألسنة الرسل والكتب { فلا يخفف عنهم } أي: يتيقنوا أو يتحققوا ألا مخلص لهم منه، ولا تخفيف عنهم بشفاعه أحد { ولا هم ينظرون } [النحل: 85] يمهلون؛ ليتداركوا ما فوتوا من الإيمان والأطاعة.
[16.86-91]
{ و } الله { إذا رأى الذين أشركوا شركآءهم } حين يأسوا وقنطوا من شفاعتهم ومعاونتهم، وعاينوهم أنهم هكلى أمثالهم { قالوا } متضرعين إلى الله نادمين: { ربنا } يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم، فكفرنا نعمك و بك، وبأوامرك ونواهيك الجارية على ألسنة رسلك { هؤلآء } الهلكى الغاوون { شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك } عنادا ومكابرة، وبواسطة هؤلاء الضلال رددنا قول أنبيائك ورسلك وكتبك، ثم لما سمع شركاؤهم منهم قولهم هذا { فألقوا } وأجابوا { إليهم القول }: ما تدعون وما تعبدون إيها الضالون الظالمون إلا أهويتكم وأمانيكم { إنكم لكاذبون } [النحل: 86] مقصورون على الكذب والزور في دعوى إطاعتنا وعبادتنا.
{ و } حين اضطر أولئك المشركون الضالون { ألقوا إلى الله يومئذ السلم } أي: الاستسلام والانقياد بعدما تعنتوا واستكبروا في النشأة الأولى، وما ينفعهم حينئذ انقيادهم وتسليمهم { وضل عنهم } اي: خفي عليهم، وضاع عنهم { ما كانوا يفترون } [النحل: 87] على شركائهم من الشفاعة لدى الحاجة، حتى تبرأوا منهم و كذبوهم.
ثم قال سبحانه: { الذين كفروا } وأعرضوا عن الحق بأنفسهم { و } مع ذلك { صدوا } ومنعا ضعفاء الأنام { عن سبيل الله } الموصل إلى توحيده، وهو اشرع الشريف المصطفوي { زدناهم } في النشأة الأخرى بسبب ضلالهم وإضلالهم { عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } [النحل: 88] الغير عن متابعتك يا أكمل الرسل، ويفسدون في أنفسهم.
{ و } اذكر لهم { يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } وهو نبيهم ورسولهم { وجئنا بك } أي أكمل الرسل { شهيدا على هؤلآء } الغواة البغاة، المنهمكين في بحر الإعراض الإضلال { و } الحال: أنا قد { نزلنا عليك الكتاب } المشتمل لفوائد جميع الأديان والكتب، وجعلناه { تبيانا } موضحا مفصلا { لكل شيء } يحتاج إليه من أمور الدين من الشعائر والأحكام والأركان، والآداب والأخلاق، واملندوبات والمحظورات، والمواعظ والتذكيرات، والقصص التي عتبر منها المعتبرون المسترشدون بالنسبة إلى عوام المؤمنين { وهدى } إلى معارف وحقائق، يهديهم إلى طريق التوحيد المنجي عن غياهب التقليدات والتخمينات بالنسبة إلى خواصهم.
{ ورحمة } أي: كشفا وشهودا مترتبة على الجذبة الخطفة، والخطوة بالنسبة إلى خواص الخواص { و } بالجملة: ما هو إلا { بشرى للمسلمين } [النحل: 89] المنقادين لله بسرائرهم وظواهرهم، مفوضين أمورهم كلها إليه بلا تلعثهم وتذبذب.
وكيف لا يسلمون ويفوضون { إن الله } المدبر لمصالح عباده { يأمر } أولا عباده { بالعدل } أي: القسط والاعتدال في جميع الأفعال والأقوال، والشئون والأطوار { والإحسان } ثانيا؛ لأنهم ما لم يعتدلوا ولم يستقيموا لم يتأت لهم التخلق بأخلاق الله التي هي كمال الإحسان والعرفان { وإيتآء ذي القربى } ثالثا؛ أي: إيصال ما حصل لهم من الم عارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات إلى مستحقهم من ذوي القربى من جهة الدين، المتوجهين نحو الحق عن ظهر القلب، الراغبين إليه عن محض المحبة والوداد، المتعطشين إلى زلال توحيده؛ لأنهم ما لم يتمكنوا ويتقرروا في مرتبة الإحسان، لم يتأت منهم الاستكمال والاسترشاد.
وكما يرغب سبحانه عباده بموجبات الإيمان والتوحيد، ومعظمات أصوله وأركانه، ينفرهم أيضا عن غوائله ومهلكاتهم ومغوياتهم، فقال: { وينهى } أولا { عن الفحشاء } أي: إفراط القوة الشهوية الموجبة لرذالة النفس، وسقوطها عن المروءة والعدالة المقتضية للتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية، وخروجها عن الحدود الشرعية الموضوعة لحفظه حكمة الزواج والتناسل بمتابعة القوى البهيمية الناشئة عن طغيان الطبيعة الهيولانية الناسوتية، المناقية لصفاء القوى الروحانية اللاهوتية.
{ و } عن { المنكر } ثانيا؛ إذ كل من ركب على جموح القوة الغضبية، وأخذ سيق الهذيانات المثيرة لأنواع الفتن والبليات، وعمل بمقتضاها، ونبذ الحلم والرحمة وراء ظهره، فهو بمراحل عن مرتبة الإحسان، بل لا يرجى منه إلا الخذلان والخسران { و } عن { البغي } ثالثا؛ لأن من تمكن وتمادى على مقتضى كلتا القوتين الشهوية والغضبية فقط، سقط عن المروءة والعدالة اللتين هما من أقوى أسباب الكمال المستلزم للإرشاد والتكميل، ومتى سقطتا عنه فقد استكبر على خلق الله، وتجبر ويقى وظلم، ألا لعنة الله على الظلمين ، إنما { يعظكم } الله المصلح لأحوالكم بما يعظكم { لعلكم تذكرون } [النحل: 90] رجاء أن تتعظوا وتتمثلوا بما أمروا، وتجنبوا عما نهوا؛ كي تصلوا إلى صفاء توحيده المسقط للمنافرات رأسا.
{ و } من علامة اتعاظكم وتذكركم الوفاء بالعهود والمواثيق { أوفوا } أيها الطالبون لمرتبة العدالة { بعهد الله } وميثاقه الذي عهدتم مع الله بألسنة استعداداتكم في بدء فطرتكم، وكذا بجميع العهود والمواثيق { إذا عاهدتم } مع إخوانكم، وبني نوعكم { و } أيضا { لا تنقضوا الأيمان } سيما { بعد توكيدها } وتغليظها { و } كيف تنقضونها؛ إذ { قد جعلتم الله } الرقيب { عليكم كفيلا } وكيلا لتلك البيعة { إن الله } المطلع لضمائرهم ومخائلهم { يعلم } بعلمه الحضوري { ما تفعلون } [النحل: 91] من نقض الأيمان وأمراتها.
[16.92-97]
{ و } بعدما علم الله منكم ما فعلتم ونقضتم من الأيمان { لا تكونوا } في نقضها وعدم وثوقها { كالتي } أي: كالمرأة التي { نقضت } ونفقيت { غزلها من بعد قوة } أي: بعدما غزلتها وفتلتها قوية محكمة نقضتها { أنكاثا } بلا غرض يترتب على نقضها سوى الجنون والجزن، فأنتم كذلك في نقضكم أيمانكم الوثيقة بذكر الله وعلمه بلا غرض منكم يتعلق بنقضها سوى أنكم { تتخذون أيمانكم } أي: نقضها { دخلا } أي: خديعة ومكيدة واقعة { بينكم } محفوظة إلى { أن تكون } وتقع { أمة } قوية { هي أربى } أيك أقوى وأزيد عددا وعددا { من أمة } أنتم تحلفون معهم، فتنقضون حلف الأمة الضعيفة، وتتبعون القوية بعد نقض العهود واليمين، وما هذا إلا مكر وخديعة مع الله، ومع عباده { إنما يبلوكم } ويختبركم { الله به } أي: بازدياد القوية؛ لكي يظهر أتمسكون إيمانكم أم تنقضون { وليبينن } ويوضح { لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } [النحل: 92] فيثيبكم بالوفاء، ويفضحكم ويعاقبكم بالنقض.
{ ولو شآء الله } القادر على جميع المقدورات هدايتكم جميعا { لجعلكم } وخلقكم { أمة واحدة } منفقة على الهداية والإسلام { ولكن } حكمته تقتضي خلاف ذلك، ولذلك { يضل من يشآء } على مقتضى قهره وجلاله { ويهدي من يشآء } على مقتضى لطفه وجماله { ولتسألن } وتحاسبن كل منكم في يوم الجزاء { عما كنتم تعملون } [النحل: 93] إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وبعدما أشار سبحانه إلى قبح المكر والخديعة باليمين والحلف ترويجا لما في نفوسهم من الظلم والعدوان صرح بالنهي تأكيدا ومبالغة؛ ليحترز المؤمنون على أمثاله، فقال: { ولا تتخذوا } أيها المؤمنون { أيمانكم } ومواثقيكم { دخلا } أي: مفسدة مبطنة مخفيفة { بينكم } ترويجا لكذبكم { فتزل قدم } أي: قدم كل منكم عن شعائر الإيمان { بعد ثبوتها } واستقرارها فيها { وتذوقوا السوء } العذاب في النشأة الأولى { بما صددتم عن سبيل الله } أي: بسبب ميلكم وانحرافكم عن طريق الحق الذي هو الوفاء بالعهود والمواثيق { ولكم } بارتكاب المنهي { عذاب عظيم } [النحل: 94] في النشأة الأخرى بأضعاف ما في الأولى.
{ و } أيضا { لا تشتروا } ولا تستبدلوا وتأخذوا أيها المؤمنون { بعهد الله } أي: بنقض عهده، والارتداد عن دينه { ثمنا قليلا } أي: حطاما دنيويا { إنما عند الله } لوفائكم بعهده، وثباتكم على دينه أجر عظيم أخروي { هو خير لكم } لبقائه وعدم زواله ودوام لذته { إن كنتم تعلمون } [النحل: 95] خيريته لاخترتم ألبتة.
وكيف لا يكون ما عند الله خيرا؛ إذ { ما عندكم } من حطام الدنيا ومزخرفاتها { ينفد } أي: يزول ويضمحل { وما عند الله } من اللذات الأخروية، والمعارف اليقينية { باق } بقاء أبديا سمرديا إلى ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال سبحانه: { ولنجزين الذين صبروا } على ما فوتوا من الأعراض الدنيوية؛ بسبب ثباتهم وتقررهم على الأمور الأخروية، ولم ينقضوا العهود والمواثيق المتعلقة بالدين، ولم يتسبدلوا الأعلى الباقي بالأدنى الفاني، ولحقهم بذلك ما لحقهم من المحن والشدائد القاحلة، وضاع عنهم ما ضاع من لذاتها وشهواتها، فصبروا على جميع ما أعطيناهم { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 96] أي: لنجزينهم ونثيبنهم بجزاء أحسن من مقتضى عملهم؛ لوفائهم على عهودنا ومواثيقنا، وجريهم على مقتضى أمرنا ونهينا.
{ من عمل } منكم عملا { صالحا } لقبولنا، ناشئا { من ذكر } منك { أو أنثى و } الحال أنه { هو } في حين العمل { مؤمن } موحد بالله، مصدق لرسل والكتب المنزلة إليهم، ممتثل بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، طالب للترقي من العلم إلى العين، ثم إلى الحق { فلنحيينه } بعد فنائه عن لوازم بشريته وموته، وانخلاعه عن مقتضيات أوصاف بهيميته بإرادته واختياره { حياة طيبة } معنوية خالصة عن وصمة الموت والفوت مطلقا، خالية من شوب الزوال والانقضاء، صافية عن الكدورات المتعلقة للحياة الصورية { و } بالجملة: { لنجزينهم أجرهم } أي : أجر عملهم وصبرهم عن مقتضيات القوى البشرية، والحياة الصورية { بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 97] أي: أحسن وأوفر من جزاء عملهم الذي جاءوا به حين كانوا سائرين إلينا، طالبين الوصول إلى صفاء توحيدنا.
[16.98-106]
ومن جملة الأعمال الصالحة المثمرة للحياة الطيبة المعنوية، بل من أجلها: قراءة القرآن المشتمل على المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات المترتبة على سلوك طريق التوحيد والعرفان { فإذا قرأت القرآن } أي: قصدت قراءته أيها القارئ الطالب لاستكشاف غوامض مرمزاته، ومعضلات إشاراته { فاستعذ } والتجأ أولا { بالله } المتجلي بصفة الكلام المعجز لقاطبة الأنام، الحفيظ لخلص عباده من جميع ما لا يعنيهم من المعاصي والآثام { من } وساوس { الشيطان الرجيم } [النحل: 98] المطرود والمعبد عن ساحة عز الحضور برجوم آثار الأوصاف القهرية الإلهية، ومن غوائله وتسويلاته التي هي جنود الهوى والغفلة، والتخيلات الباطلة، والتوهمات المثيرة لأنواع الأماني والشهوات.
{ إنه ليس له سلطان } أي: استيلاء وغلبة { على الذين آمنوا } بتوحيد الله، وأيقنوا بحقية كتبه ورسله، وباليوم الموعود وما فيه من العرض والجزاء { و } مع ذلك { على ربهم } ومربيهم لا على غيره من الأسباب الوسائل العادية { يتوكلون } [النحل: 99] ويسلمون ويسندون جميع أمورهم إليه أصالة.
وكيف يكون للشيطان استيلاء على المؤمنين الموقنين؛ إذ هم يعادونه عداوة شديدة، ويخاصمون معه مخاصمة مستمرة { إنما سلطانه } واستيلاؤه { على الذين يتولونه } ويحبونه ويقبلون قوله، ويسمعون غوايته، ويطيعون أمره { والذين هم به } أي: بسبب إغوائه وإغرائه ووسوسته { مشركون } [النحل: 100] بالله الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد.
ثم قال سبحانه: { و } من كمال قدرتنا، ووفور حكمتنا: نسخ بعض الآيات وتبديلها بالنسبة إلى بعض الأعصار والأزمان، فإنا { إذا بدلنآ آية } ناسخة { مكان آية } منسوخة لحكمة ظهرت علينا، ومصلحة لاحت لدينا، فلا بد ألا نسأل عن نسخنا وتبديلنا، بل عن جميع أفعالنا مطلقا، ولا يسند فعلنا إلى غيرنا مطلقا { و } كيف يسند فعله سبحانه لغيره؛ إذ { الله } المطلع لجميع ما كان ويكون اطلاع حضور وشهود { أعلم بما ينزل } بحسب الأوقات والأزمان، فله نسخ ما ثبت، وإثبات ما نسخ { قالوا } أي: المشركون المعاندون حين ظهر في القرآن نسخ بعض الآيات المثبتة، وإثبات بعض المنسوخات القديمة متهكمين طاعنين: { إنمآ أنت مفتر } أي: ما أنت أيها المدعي للرسالة والوحي إلا مفتر كذاب، قلت بقول من تلقاء نفسك، ثم ظهر لك ما فيه، بلدت بأخرى على مقتضى أهوائك وأمانيك، ونسبته إلى ربك افتراء ومرا، مع أنك أخبرت أن ربك يقول:
ما يبدل القول لدي
[ق: 29]، كل ذلك؛ أي: النسخ والتبديل، والإنزال من عندنا لحكمة ظهرت علينا { بل أكثرهم لا يعلمون } [النحل: 101] حكمة النسخ والتبديل في الأحكام، فينكرونها.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل، ما أنا مفتر في هذا النسخ والتبديل، بل { نزله } أي: القرآن { روح القدس } أي: جبرائيل عليه السلام علي هكذا، وهو منزه عن جميع النقائض، فكيف عن الافتراء، وأوصاني أنه منزل { من ربك } الذي رباك بأنواع التربية، وأيدك بهذا الكلام المعجز ملتبسا { بالحق } والصدق المطابق للواقع بلا شائبة شك وتردد، وإنما أنزله { ليثبت } ويقرر { الذين آمنوا } تثبيتا وتقريرا في مرتبة اليقين العلمي { وهدى } أي: هداية ورشدا للعارفين المتحققين في مرتبة اليقين العيني { وبشرى } أي: بشارة وتمكينا لأهل الكشف والشهود في مرتبة اليقين الحقي، كل ذلك { للمسلمين } [النحل: 102] المسلمين أمورهم كلها إلى الله طوعا ورغبة.
ثم أخبر سبحانه عن مطاعن المشركين بالقرآن والرسول، فقال: { ولقد نعلم أنهم } لا يسلمون نزول القرآن منا وحيا وإلهاما، ويكذبونك يا أكمل الرسل في نسبتك إنزاله إلينا، بل { يقولون } ما هو إلا مفتر { إنما يعلمه } هذا { بشر } أي: عبد رومي، أو رجل من العجم، أو رجال أخر على ما قالوا، وكيف يقولون وينسبون أولئك المكابرون المعاندون هذا إلى القرآن؛ إذ { لسان الذي يلحدون } أي: يميلون وينسبون { إليه } عنادا { أعجمي } معلق غير بين، وأنت عربي لا تفهم لغتهم { وهذا لسان عربي } فصيح { مبين } [النحل: 103] واضح بليغ في أعلى مراتب البلاغة، بحيث عجزت عن معارضته مصاقع الخطباء مع كمال تحديهم، ومع ظهور إعجازه واعتراف الكل بأنه معجز، لم يقبلوا حقيته، ولم يصدقوا أنه كلام الله.
{ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } الدالة على وحدة ذاته، وكمال أوصافه وأسمائه، طبع الله على قلوبهم وختمها، بحيث { لا يهديهم الله } المضل المذل إلى حقية كتابه ورسوله الذي أنزل إليه، بل { ولهم عذاب أليم } [النحل: 104] في النشأة الأولى والأخرى، ثم قلب سبحانه ما فتروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاده عليه، فقال: { إنما يفتري الكذب } على الله بنسبة كلامه إلى غيره { الذين لا يؤمنون } ولا يصدقون { بآيات الله } الدالة على كمال توحيده { وأولئك } المفترون المسرفون { هم الكاذبون } [النحل: 105] المقصورون على الكذب والافتراء والمراء من شدة قسوتهم، وخبث باطنهم.
{ من كفر بالله } المستحق للإيمان والعبودية، سيما ارتد { من بعد إيمانه } أي: بعدما آمن له - العياذ بالله - فقد استحق غضب الله وقهره { إلا من أكره } على الكفر، وهدد بالقتل وأنواع العقوبات حين العجز، فأجرى كلمة الكفر على لسانه { وقلبه مطمئن بالإيمان } متمكن فيه، راسخ غير متزلزل، بلا مطابقة وموافقة بلسانه، فهو باق على إيمانه، ولا غضب عليه، بل له الأجر الجزيل؛ لأن العبرة في الإيمان والكفر بالقلب، لأنهما فعلان له أصالة { ولكن } من المغضوبين { من شرح } وملأ { بالكفر صدرا } اعتقادا أو رضاء مستحسنا له، مستطيبا إياه { فعليهم غضب } وقهر نازل { من الله } المنتقم الغيور { ولهم } في النشأة الأخرى { عذاب عظيم } [النحل: 106] لعظم جرمهم الذي هو الارتداد، العياذ بالله.
[16.107-114]
وما { ذلك } أي: تحسينهم الكفر، واستطابتهم به إلا { بأنهم استحبوا } واستطابوا { الحياة الدنيا } أي: الحياة الصورية المستعارة الزائلة { على } حياة { الآخرة } التي هي الحياة المعنوية الحقيقية السرمدية التي لا زوال لها أصلا { و } أيضا بسبب { أن الله } المطلع على استعدادات عباده { لا يهدي } إلى الإيمان والتحيد { القوم الكافرين } [النحل: 107] المجبولين على الكفر والعناد بحسب أصل فطرتهم واستعداداتهم.
{ أولئك } المجبولون على الكفر هم { الذين طبع الله } وختم { على قلوبهم } إلى حيث لا يفهمون، ولا يتفطنون بسرائر الإيمان والتوحيد أصلا، ولا يتلذذون بلذاتها؛ لغلظ حجبهم وكثافتها { و } على { سمعهم } إلى حيث لا يسمعون، ولا يبلون دلائل التوحيد وأماراتها من أرباب الكشف واليقين { و } على { أبصارهم } إلى حيث لا ينظرون نظر عبرة وبصارة إلى المظاهر والآثار المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية { و } بالجملة: { أولئك } البعداء المطرودون عن عز الحضور { هم الغافلون } [النحل: 108] المقصورون على الغفلة والنسيان، التائهون في تيه الضلال والطغيان.
{ لا جرم أنهم } بسبب طردهم وخذلانهم { في الآخرة هم الخاسرون } [النحل: 109] المقصورون على الخسران والنقصانز
{ ثم } بعدما سمعت أحوال أولئك المقهورين المطرودين { إن ربك } الذي رباك بأنواع الكرامات، وأوصلك إلى أعلى المقامات يجزي خير الجزاء تفضلا وإحسانا { للذين هاجروا } عن بقعة الإمكان حين كوشفوا بما فيها من الخذلان والخسران، وأنواع الرذائل والنقصان، وذلك { من بعد ما فتنوا } بأنواع الفتن والمحن باستيلاء جنود الأمارة بالسوء عليهم { ثم جاهدوا } معها بترك مألوفاتها، وقطع تعلقاتها، وصرفها عن مشتهياتها ومستلذاتها { وصبروا } على متاعب الرياضات، ومشاق المجاهدات إلى أن صارت أماراتهم مطمئنة راضية مرضية، ثم بعدما قطعوا مسالك السلوك، ومنازل التلوين والتزلزل { إن ربك } المفضل المحسن إليك يا أكمل الرسل، وإلى من تبعك من خيار المؤمنين { من بعدها } أي: بعد المجاهدات والرياضيات { لغفور } يستر أنانيتهم، ويغنيهم عن هوياتهم مطلقا { رحيم } [النحل: 110] لهم، يمكنهم في مقام الرضا والتسليم مطمئنين مرضيين.
هب لنا من لدنك رحمة با ذا القوة المتين.
واذكر يا أكمل الرسل المبعوث إلى كافة الأنام { يوم تأتي كل نفس } عاصية أو مطيعة { تجادل عن نفسها } أي: ذاتها، وتهتم لشأنها بلا التفات منها إلى شفاعة غيرها؛ إذ هي رهينة ما كسبت من خير وشر { وتوفى كل نفس } جزاء { ما عملت } طاعة ومعصية { وهم لا يظلمون } [النحل: 111] في جزائهم وأجورهم لا زيادة ولا نقصانا على مقتضى العدل الإلهي.
{ و } بعدما أراد سبحانه أن ينبه على أهل النعمة، وأرباب الرخاء والرفاهية، ألا يبطروا، ولا يباهوا بما في أيديهم من النعم، ويداموا على شكرها، وأداء حقها خوفا من زوالها وفنائها، وانقلابها شدة ونقمة { ضرب الله } المدبر لأمورهم { مثلا } تعتبرون منها وتتعظون { قرية } هي مكة أو أيلة { كانت } نفوس أهلها { آمنة } عن الخوف من العدو والجوع من نقصان الغلات والأثمار { مطمئنة } بما عندهم من الحوائج بلا تردد ومشقة؛ إذ { يأتيها رزقها } على الترادف والتوالي { رغدا } واسعا وافرا { من كل مكان } من البلاد التي في حواليها ونواحيها.
وصاروا مترفهين متنعمين إلى أن باهوا وبطروا { فكفرت } أهلها { بأنعم الله } الواصلة إليهم، وأسندوها إلى غير الله عنادا ومكابرة، وخرجوا على رسول الله، وطعنوا في كتاب الله { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } بعد خلع خلع الأمن والاطمئنان؛ أي: مسار الجوع والخوف في سائر أعضائهم وجوارحهم سريان أثر العذوقات، ونفورها إلى حيث لا ينجو عن أثرهما جزء من أجزاء البدن، كل ذلك { بما كانوا يصنعون } [النحل: 112] من الكفران والتكذيب والطعن، والعناد والاستكبار.
{ و } كيف لا يأخذهم، ولا يذيقهم { لقد جآءهم رسول منهم } أفضل وأكمل من جميع الرسل مع كتاب أكمل وأشمل من سائر الكتب { فكذبوه } أشد تكذيب، وأنكروه أقبح إنكار { فأخذهم العذاب } العاجل، وهو الجدب الواقع بينهم، أو وقعة بدر { و } الحال أنهم في تلك الحالة { هم ظالمون } [النحل: 113] خارجون على الله، وعلى رسوله، والعذاب الآجل سيأخذهم في النشأة الأخرى بأضعاف ما في النشأة الأولى.
وإذا سمعتم أيها المؤمنون المعتبرون من أحوال أولئك الأشقياء، المغمورين في بحر الغفلة والغرور، البطرين بما عندهم من اللذة والسرور، وسمعتم أيضا أحوالهم وأهوالهم { فكلوا مما رزقكم الله حللا } مباحا بحسب الشرع { طيبا } مما كسبتم بيمينكم على مقتضى سنة الله من خلق الأيدي والأرجل للمكاسب، أو مما اتجرتم وربحتم، وهو من الكسب أيضا { واشكروا نعمت الله } الذي أقدركم ومكنكم على الكسب { إن كنتم إياه تعبدون } [النحل: 114] أي: تطيعون وتقصدون عبادته برفع الوسائل والأسباب العادية عن البين.
[16.115-122]
{ إنما حرم عليكم الميتة } أي: اعلموا ما حرم عليكم ربكم في دينكم إلا الميتة المائتة حتف أنفه بلا تزكية وتسمية { والدم } المسفوح السائل من الحيوانات المباحة { ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به } وسمي عليه من أسماء الأصنام { فمن اضطر } منكم أيها المؤمنون إلى أكل هذه المحرمات، حال كونه { غير باغ } خارج على السلطان العادل، المقيم للشرائع والأحكام { ولا عاد } مجاوز عن الحدود الشرعية لغرض فاسد من أنواع المعاصي، وقطع الطريق والإباق { فإن الله } المطلع على سرائر عباده وضمائرهم { غفور } يستر زلتهم الاضطرارية { رحيم } [النحل: 115] يقبل توبتهم عنها.
ثم نهاهم سبحانه عن التقويل بالأقوال الفاسدة من تلقاء أنفسهم، ومقتضى أهوائهم، كما يقول المشركون المسرفون، فقال: { ولا تقولوا } أيها المتدينون بدين الإسلام المنزل على خير الأنام { لما تصف ألسنتكم الكذب } أي: شيء نصف ومراء، بأن تقولوا: { هذا حلال وهذا حرام } وتنسبوه إلى الله { لتفتروا على الله الكذب } تزيننا لقولكم الباطل، وترويجا له، كما قالوا:
ما في بطون هذه الأنعم خالصة لذكورنا ومحرم على أزوجنا
[الأنعام: 139]، { إن الذين يفترون } وينسبون { على الله } المنزه عن مطلق الأباطيل { الكذب } ظلما وزورا { لا يفلحون } [النحل: 116] ولا يفوزون بخير الدارينز
إذ نفعهم فيما يفترون ويكذبون { متاع قليل } ومنفعة صغيرة لا اعتداد بها { ولهم } بسبب ذلك في النشأة الأخرى { عذاب أليم } [النحل: 117] مؤلم مؤيد لا نجاة لهم منه أصلا.
{ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } في سورة الأنعام، حيث قلنا:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر
[النعام: 146] { وما ظلمناهم } في تحريم ما حرمنا عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [النحل: 118] أي: هم يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي والمناهي، وترك المأمورات والمندوبات؛ لذلك عوقبوا وأخذوا بما أخذوا.
{ ثم } بشر سبحانه على عموم أصحاب المعاصي والآثام بالعفو والمغفرة، والشفقة عليهم بعدما تابوا وندموا عما هم عليهم مخلصين، فقال لحبيبه: { إن ربك } الذي يعثك يا أكمل الرسل إلى كافة البرايا بشيرا ونذيرا، يحسن ويرحم { للذين عملوا السوء } أي: الفعلة القبيحة، والديدنة الشنيعة المذمومة في الشرع، مع كونهم في حين ارتكابها ملتبسين { بجهالة } ناشئة من عدم التدبر والتأمل بوخامة عواقبها شرعا مع تدينهم، وقبولهم بأحكام الشريعة، وكانوا ممن لا يؤمن، ولا يقبل ما رود به الشرع { ثم تابوا } وندموا { من بعد } ارتكاب { ذلك } السوء { وأصلحوا } بالتوبة والاستغفار ما أفسدوا على نفوسهم بالفساد والإصرار { إن ربك } المحسن المفضل على التائب المخلص { من بعدها } أ ي: بعد التوبة والندم { لغفور } يستر ذلتهم { رحيم } [النحل: 119] يقبل توبتهم.
ثم أشار سبحانه إلى فضائل خليله - صلوات الرحمن عليه وسلامه - وكمال كرامته، نجابة فطرته ، وطهارة أصله وطينته، وعلو شأ،ه ورتبته، وارتفاع قدره ومنزلته - فقال: { إن } جدك يا أكمل الرسل { إبراهيم } الذي اختاره الله لخلته، واصطفاه لرسالته { كان أمة } أي: إماما مقتدى، لائقا للقدوة بالأمور الدينية؛ لأنه كان { قانتا } مطيعا { لله } راغبا إلى امتثال مأموراته، واجتناب منهياته { حنيفا } مائلا عن الأديان الباطلة، والآراء الفاسدة { ولم يك من المشركين } [النحل: 120] في حال من الأحوال.
بل هو رأس الموحدينن، ورئيس التحقق واليقين { شاكرا لأنعمه } أي: صارفا لنعم الله إلى ما خلقه سبحانه لأجله على الوجه الأعدل الأقوم بلا تبذير وتقتير، طالبا فيه رضاء الله بلا شائبة من الرياء والسمعة؛ لذلك { اجتباه } واختاره للرسالة العامة { وهداه إلى صراط مستقيم } [النحل: 121] موصل إلى توحيده بلا عوج وانحراف.
{ وآتيناه في الدنيا } من لدنا تفضلا عليه وإحسانا { حسنة } صورية إلى حيث لا تنقطع آثار إنفاقه وجوده إلى يوم القيامة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [النحل: 122] لقبولنا، الواصلين إلى صفاء توحيدنا.
[16.123-128]
{ ثم } بعدما أشرنا إليك يا أكمل الرسل كما استحقاقه، ولياقته للاقتدار والمتابعة { أوحينآ إليك } تكريما لك وله { أن اتبع } في إيصال الدعوة، وتبليغ الرسالة، وإظهار الدين والأحكام، والرق والتليين مع الأنام، والحكم والتواضع معهم على أبلغ وجه وأكمل نظام { ملة إبراهيم } أي: خصلة جدك - عليك و عليه الصلاة والسلام - إذ كان { حنيفا } مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في جميع الأطوار والأخلاق، والأفعال والأقوال { وما كان من المشركين } [النحل: 123] المستكبرين في خلق من الأخلاق، ووصف من الأوصاف، بل كان على مقتضى صرافة التوحيد، وعدالة اليقين والتحقيق؛ لذلك صار إماما للموحدين إلى قيام الساة.
ثم قال سبحانه تعييرا على المشركين، وتقريعا لهم: { إنما جعل السبت } أي: قدر وفرض لحوق وبال يوم السبت، وأنواع العقوبات والمسخ { على } المشركين { الذين اختلفوا فيه } وجادلوا مع نبيهم في تعيينه واختياره؛ إذ أمرهم موسى عليه السلام بتعظيم يوم الجمعة واتخاذها عيدا، فأبوا معللين: إن الله قد فرغ من خلق السماوات والأرض في السبت، فنحن نوافقه، ونتخذه عيدا، فألزمهم الله تعظيم السبت، وتحريم الصيد فيه، فاحتالوا فيه ، فاصطادوا بالمكر، فمسخهم الله، ولحقهم من الوبال ما لحقهم { وإن ربك } يا أكمل الرسل { ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [النحل: 124] ويجادلون مع الرسل، فيجازيهم ويعاقبهم على مقتضى ما صدر عنهم.
ثم أشار سبحانه إلى تتميم تكريم حبيبه صلى الله عليه وسلم، وتعظيم رتبته، وتهذيب أخلاقه، وتكميل حكمته ورسالته، وتعميم رأفته ورحمته إلى جميع البرية، وكافة الخليقة؛ إذ هو مبعوث على الكل بالرحمة العامة، وهو خاتم الرسالة والنبوة، ومكمل أمر التشريع والتكميل؛ إذ العلة الغائبة في مطلق التشريع والإنزال والإرسال إنما هي ظهور مرتبته ومكانته التي هي الدعوة إلى التوحيد الذاتي، ومتى ظهرت فقد كملت وتمت؛ لذلك نزل في شأنه:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة: 3].
وهي آخر أية نزلت من القرآن، وقال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
فقال مخاطبا له خطاب تمكين وتكريم: { ادع } يا أكمل الرسل { إلى سبيل ربك } أي: إلى طريق توحيد مربيك الذي أرشدك إلى معارج عنايته، وهداك إلى كمال كرامته كافة البرايا، وعامة العباد { بالحكمة } البالغة المكيفة لقلبهم عن صلابة التقليدات الراسخة الموروثة لهم عن أسلافهم، المصفية نفوسهم عن الحمية الجاهلية المتمكنة فيها، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة فيها، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة على البشرية، المزيلة لأنواع الشبه والتخيلات الناشئة من الأسباب والوسائل العادية المقنعة، ملائمة للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها رجاء أن يتفطنوا، ويتنبهوا بمقتضى جبلتهم وفطرتهم.
{ والموعظة الحسنة } الموروثة لهم يقظانا من سنة الغفلة، ونوم النيسان، المحصلة لهم شوقا وسرورا إلى مبدئهم ومنشئهم، الموغبة لهم إلى اللذات الروحانية الدائمة الباقية المستمرة بلا ورود زوال وانقطاع، المنفرة عما هم عليه من العوائق، والعلائق العائقة من اللذات الوهمية المنقضية المنقطعة المورثة لأنواع المحن والأحزان.
{ و } إن احتجت يا أكمل الرسل في دعوتهم إلى المجادلة معهم والمكالمة { جدلهم بالتي } أي: بالطريق التي { هي أحسن } الطرق وأسلمها، وأعدلها من المقدمات المعتدلة الدالة على المساواة من كلا الجنابين برفق وتليين ومسكنة، وإرخاء عنان خال عن السطوة والتهور، والغضب والتجبر، وعن التمسخر والضحك والاستهزاء، والتجهيل والتسفيه، والتشنيع الشنيع، كما يفعله عوام العلماء في محاوراتهم ومنظاراتهم؛ إذ هي بعيدة عن الحكمة بمراحل، مثيرة لأنواع الفتن والخصومات، فلك ألا تبالغ في إهدائهم وإيمانهم، ولا تتشوش وتتحزن عن ضلالهم وطغيانهم؛ إذ ما عليك إلا تبليغ ما أرسلت به.
وأما حصول الهداية والضلالة فيهم فأمر خارج عن وسعك وطاقتك { إن ربك } المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم { هو أعلم بمن ضل عن سبيله } الموصل إلى توحيده { وهو } أيضا { أعلم بالمهتدين } [النحل: 125] إذ قدر في سابق قضائه هدايتهم وضلالهم، وكذا جميع ما جرى عليهم في شئونهم وتطوراتهم على التفصيل، بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء منها.
وبعدما أمر سبحانه حبيبه بما أمر من آداب الدعوة، وأخلاق الرسالة والنبوة، ومراعاة حقوق الأنام، والمداراة معهم، أشار إلى المجازاة والمحاذاة، والقصاص والعقوبات الواقعة في أمر الرسالة، ووضع التشريع والتبليغ، إذ هي مبنية على الأمر بترك المألوفات، وترك العادات والاعتقادات، وترك التخمينات والتقليدات؛ لذلك لا يخلو عن المنازعات والمخاصمات المؤدية إلى أنواع الجنايات.
فقال سبحانه مخاطبا له ولمن تبعه من المؤمين، { وإن عاقبتم } أيها المؤمنون منتقمين عنهم { فعاقبوا } أي: فعليكم أن تعاقبوا { بمثل ما عوقبتم به } لا أزيد منه؛ إذ الزيادة منافية لاعتدال الإيمان والتوحيد { ولئن صبرتم } أيها المؤمنون على ما أصابكم من العقوبات، وأعرضتم عن الانتقام صفحا، وكظمتم الغيظ كظما { لهو } أي: العفو والكظم { خير للصابرين } [النحل: 126] الذين صبروا على ما أصابهم من المكروهات، مسترجعين إلى الله، منزلين إنزاله إليه سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين، بل يعدون العناء عطاء، والترح فرحا، والنقمة نعمة، والمحنة منحة؛ لصدورها من الله.
وبعدما خاطب وأوصى سبحانه للمؤمنين بالصبر والعفو على وجه العموم، وترك الانتقام، خص رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب؛ لكونه أحق وأولى بامتثال أمثاله؛ إذ هو جامع جميع مرابت الكمال بالاستحقاق والاستقلا ل، فقال: { واصبر } أيها المتحقق المتمكن في مقر التوحيد، المسقط لجميع الإضافات على ما جرى عليك من الأذيات المترتبة على بشريتك وناسوتك { وما صبرك } وكظمك بعد فنائك عن بشريتك { إلا بالله } المتجلي عليك بالإطلاق إلى أن انخلعت عنك لوازم ناسوتك، وما بقيت لك إلا لوازم لاهوتك، وظاهر أنه لا يجري فيها المكروه والمنكر { ولا تحزن عليهم } أي: على المؤمنين بما لحقهم من المنافرات والمشوشات { ولا تك } بعد انشراح صدرك بالتوحيد الذاتي { في ضيق } ضيق صدر، وحزن وكآبة { مما يمكرون } [النحل: 127] أولئك الماكرون المعاندون المكابرون.
{ إن الله } المختبر لأنبيائه وأوليائه، وخواص عباده بأنواع الأذى والمحن الجسمانية { مع } الصابرين { الذين اتقوا } وأخذوا عن الانتقام وقت الغدوة طلبا لمرضاة الله وجريا على مقتضى توحيده { والذين هم محسنون } [النحل: 128] على من أساء إليهم رفقا له، وتلطيفا إيام ابتغاء لمرضاة الله، وتثبيتا في طريق وتوحيده.
أذقنا حلاوة توحيدك، وأصبرنا على ما جرى علينا من المحن، والعطاء والعناء طلبا لمرضاتك، إنك على ما تشاء قدير.
خاتمة السورة
عليك أيها المسترشد الخبير البصير - أرشدك الله إلى امتثال ما سمعت في هذه السورة، سيما في الكريمة المذكورة آنفا، ورزقك الاتصاف بما فيها من الحكم والآداب، والأخلاق المرضية، والسجايا الفاضلة - أن تتأمل فيها حق التأمل والتعمق، حال كونك خاليا صافيا عن الكدورات العارضة من طغيان القوى البهيمية، والحمية الجاهلية، تاركا بما عرض عليك من الأغراض النفسانية المترتبة على الأمور العادية، المستلزمة فيه لأنواع الضلال والفساد من التفوق على الأقران، والترفع على الإخوان، والتكبر على ضعفاء الأنام، والتلذذ بالسمعة والرياء المثيرة لأصناف الأهواء الفاسدة، والآراء الباطلة التي لا يمكن قلعها وقمعها أصلا، سيما تمرنت ورسخت، فلك أن تراجع وجدانك بأي شيء أردت الترفع، وقصدت التفوق والتفضل، أما ترى منشأك ماذا؟! أما استحييت التفوه من هذا وهذا؟!.
وأما قصة كرامتك وخلافتك التي هي من المواهب الإلهية، والعطاءات الغيبية، فإنما هي مبنية على محض التذلل والتواضع، والخضوع والانكسار مع كل ذرة من ذرائر الكائنات؛ إذ مبناه على الحكمة المتقنة المتشعبة من أسرار سرائر الرسالة والنبوة، وهي عبارة عن اعتدال جميع الأوصاف، وتزكية النفس عن جميع الرذائل، بل هي مبنية على إفناء متقضيات الأوصاف البشرية رأسا إرادة واختيارا.
وبالجملة: من أنصف على نفسه أدرك أن جميع ما في نفسه سوى التذلل والانكسار، والمسكنة والافتقار، حال كونه خاليا عن شوب الرياء والسمعة، والعجب والجربزة، إنما هي رعونات صدرت من طغيان القوى البهيمية المؤيدة بالعقل المستعار المموه بتمويهات الأوهام الباطنة، وتزيينات الخيالات الكاذبة.
هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من أنانيتنا، ولذة تلجئنا إلى سلوك طريق الفناء الموصل إلى البقاء السرمدي، إنك أنت الوهاب.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1-7]
{ سبحان الذى أسرى) نزه سبحاه ذاته بما يجب تنزهه عنه في حضرة علمه، وأيهم اسمه على مقتضى تعاليه وترفعه عن أفهام عبداه عن إخراج العبد من ظلمة الإمكان الذي هو الليل الحقيقي إكلى نور الوجوب الذي هو النهار الحقيقي { بعبده } يعني: حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بعدما أخلع عنه كسوة ناسوته، وألبسه خلعة لاهوته، بحيث تجرد عن مقتضيات بشريته مطلقا، وارتفعت عنه حجب تعيناته جملة، وانكشفت سدل الغفلة والغشاوات عن بصيرته وبصره.
وحينئذ انطوت المسافات مطلقا { ليلا } أي: في قطعة منه، صرح به، وإن كان الإسراء في اللغة عبارة عن السير في الليل. ليعلم أن ابتداؤه وانتهاؤه كان فيه { من المسجد الحرام } الذي حرمت ما أبيحت في الأماكن الأخر من الصيد وغنيره، ألا وهو قلب الإنسان الكامل الذي هو بيت الله الأعظم حقيقة؛ إذ حرمت فيه التوجه إلى الغير والسوى مطلقا، وإن كان مبنيا في بقعة جسدانية إمكانية { إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله } أي: كثرنا فيه الخير والبركة على زوارها وساكنيها، ألا وهو البيت المعمور الأبدي الأزلي الذي هو الوجود المطلق، المفيض على كافة المظاهر وحواليه عبارة عن مقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية، وزوارها استعدادات المظاهر وقابلياتها المستفيدة منها، الناشئة عن أضلال أوصافها.
وإنما أسريناه { لنريه من آياتنآ } الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، ووفور جودنا وكرامتنا { إنه } بعد تجرده عن جلباب تعيينه وهويته { هو السميع } بسمعنا، فيسمع بنا منا { البصير } [الإسراء: 1] ببصرنا، فيبصر ببصرنا عجائب صنعنا، وغرائر مبدعاتنا.
{ و } كما أيدنا حبيبنا بما أيدناه من الإسراء به، وإراءة عجائب صنعنا وقدرتنا إياه، بأن أسريناه من مكة في ساعة إلى بيت المقدس، ثم فيها إلى فوق السماوات السبع، ومثلنا له أرواح الأنبياء والأولياء، فتكلم معهم، ثم منها إلى ما شاء الله، وأخبر عنه سبحانه بقوله:
ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 8-9]، وسمع كلاما لا من جنس الأصوات والحروف.
كذلك { آتينآ موسى الكتاب } تأييدا له، وتنفيذا لأمرنا إلى أن خصصناه بتكليمنا إياه، وكرمناه بأنواع الكرامات { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } أي: هاديا لهم، يهديهم إلى توحيدنا، وتقديس ذاتنا عن الأشباه والأنداد، وأمرناهم فيه { ألا تتخذوا } أيها المتحيرون في الأمور والوقائع { من دوني وكيلا } [الإسراء: 2] أي: شريكا لي، وكفؤا تتكلون إليه في أموركم غيري؛ إذ ليس في الوجود سواي، فعليكم أن تتخذوني وكيلا، وتفوضوا أموركم كلها إلي؛ إذ لا معبود لكم غيري.
{ ذرية من حملنا } بمقتضى جودنا { مع نوح } حين استولى الطرفان على وجه الأرض، فهلك من عليها إلا من آمن لنوح، ودخل معه في السفينة، فأنجيناه أصالة، ومع معه تبعا { إنه } يعني: نوحا { كان عبدا شكورا } [الإسراء: 3] مبالغا في أداء الشكر، مواظبا عليه وجه الخضوع والخشوع، فلكم أن تقتفوا أثر أسلافكم الذين هم أصحاب سفينة نوح عليه السلام، وهم مؤمنون مصدقون له، ولكم أن تؤمنوا بمن أرسل إليكم لإصلاح أحوالكم، وتصدقوا كتابه.
{ وقضينآ إلى بني إسرائيل } أي: أوحينا إليهم { في الكتاب } المنزل عليهم على وجه الإيذان والإعلام تنبيها وتذكيرا، والله { لتفسدن } أنتم { في الأرض مرتين } مرة بمخالفة أحكام التوراة، وقتل شعياء، ومرة بقتل يحيى وزكريا، وقصد قتل عيسى. عليهم السلام. والكل من أعظم الجرائم عند الله { و } مع ذلك { لتعلن } وتستكبرون عتوا وعنادا على الأنبياء استهانة واستخفافا، وسخرية واستهزاء { علوا كبيرا } [الإسراء: 4] بحيث لا تبالونهم، ولا تعدونهم من العقلاء؛ لذلك تسفهونهم تارة، وتكذبونهم أخرى.
فاعلموا أيها المسرفون أنا ننتقم منكم في النشأة الأولى لكل جريمة صدرت عنكم من الجريمتين العظيمتين { فإذا جآء وعد } انتقام { أولاهما } أي: أولى الجريمتين { بعثنا } وسلطنا { عليكم } حين أردنا الانتقام، والأخذ عليها { عبادا لنآ } منتفعين عنكم من قبلنا { أولي بأس شديد } وشوكة عظيمة، وصولة قوية، وإذا دخلوا عليكم { فجاسوا } أي: تجسسوا وترددوا لطلبكم { خلال الديار } ووسطها للتقل والاستئصال { وكان } ما ذكر من الانتقام { وعدا } من الله { مفعولا } [الإسراء: 5] حقا عليه إنجازه وإيقاعه، وذلك حين استولى بختنصر عليهم، فقتل كبارهم، وسبى صغارهم، ونهب أموالهم، وخرب بلدانهم، وحرق التوراة، وخرب الأقصى.
{ ثم } بعدما ضعفناكم وأخذناكم { رددنا لكم الكرة } الدولة والغلبة والصولة { عليهم } أي: على أعدائكم { وأمددناكم بأموال } عظام { وبنين } معاونين ناصرين { وجعلناكم } في الكرة الثانية { أكثر نفيرا } [الإسراء: 6] من الكثرة الأولى؛ أي: أكثر عسكرا وجنودا منها.
وبالجملة: { إن أحسنتم } لبني نوعكم خالصا لوجه الله، وآمنتم لتزكية نفوسكم { أحسنتم لأنفسكم } إذ فوائد الإيمان والإحسان عائدة إليكم { وإن أسأتم } لهؤلاء، وكفرتم بالله وبرسوله { فلها } أي: وبال إساءتكم عليها؛ إذ الله في ذاته غني عن إحسان المحسن، وإساءة المسيء { فإذا جآء وعد الآخرة } أي: وقت انتقام الجريمة الأخيرة، بعثنا عليكم أيضا عبادا لنا أولي بأس شديد، وبسطة قوية، وبطش شديد: طيطوس الرومي.
وقيل: ملك الفرس اسمه: جودرز، وقيل: حردوس، وإنما بعثناهم عليكم { ليسوءوا وجوهكم } ليسوءوا معكم، بحيث ظهرت آثار إساءتهم من وجوهكم { وليدخلوا المسجد } وخربوه { كما دخلوه } وخربوه { أول مرة } من استيلاء بختنصر، وأحرقوا الكتب، كما أحرقوا { وليتبروا } وليهلكوا { ما علوا } وقدروا عليه وغلبا { تتبيرا } [الإسراء: 7] هلاكا كليا، بحيث لا ينجو منهم أحد.
قيل: دخل صاحب الجيش، فذبح قرابينهم، فوجد فيه دما يغلي، فسألهم عنه: فالوا: دم قربان لم يقبل منا، فقال: ما هو إلا كذب، فقتل ألوفا منهم عليه، ثم قال: إن لم تصدقوني، ولم تبينوا لي دم من هو هذا، ما تركت منك أحدا؟ فلما اضطروا قالوا: إنه دم يحيى النبي عليه السلام قتلناه ظلما، فقال: لمثل هذا ينتقم الله منكم؟! ثم قال ملتفتا إلى الدم: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، فأسكن من الغلي قبل ألا أبقي أحدا منهم، فسكن، ولم يقتل بعد هذا.
[17.8-17]
ثم قال سبحانه: { عسى ربكم } يا بني إسرائيل { أن يرحمكم } بعد المرة الثانية، إن تبتم عن معاصيكم وجرائمكم { وإن عدتم } إليها ثالثا { عدنا } إلى الانتقام والعذاب ثالثا، وهكذا رابعا وخامسا، وقد عادوا في النوبة الثالثة بتكذيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصدوا قتله، فأعاد الله عليهم الخزي، بأن سلط المسلمين عليهم، فقتلوهم وأسروهم، وضربوا الجزية على باقيهم، وصاروا مهانين أذلاء صاغرين إلى قيام الساعة، هذا في النشأة الأولى { و } في النشأة الأخرى { جعلنا جهنم } البعد والخذلان، والطرد والحرمان { للكافرين حصيرا } [الإسراء: 8] محبسا ومضيفا لا ينجون منها أبد الآباد.
ومن أراد نجاة الدارين، وخير النشأتين، فعليه الامتثال والانقياد بما في القرآن المنزل على خير الأنام { إن هذا القرآن } الفارق بين الهداية والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام { يهدي } ويرشد { للتي } أي: للطريق التي { هي أقوم } الطرق وأعدله، وأوضح السبل وأبينه إلى التوحيد المنجي عن ظلمات النشأتين { ويبشر } أيضا { المؤمنين الذين يعملون الصالحات } المأمورة منه، المقربة إلى التوحيد { أن لهم أجرا كبيرا } [الإسراء: 9] هو الفوز بشرف اللقاء، والتحقق عند سدرة المنتهى.
{ و } يخبر القرآن آيضا { أن الذين لا يؤمنون بالآخرة } ولم يقصدوا ما فيها من الحساب والعقاب، والصراط والسؤال وجميع ما فيها { أعتدنا } وهيأنا { لهم عذابا أليما } [الإسراء: 10] مؤلما محزنا لرؤيتهم المؤمنين متنعمين مترفين في الجنة مترفهين.
{ و } من جملة الأخلاق المذمومة، والديدنة القبيحة: { يدع الإنسان } مسرعا مستعجلا { بالشر } الملحق له من غير علم بشريته، ووخامة عاقبته { دعآءه بالخير } أي: مثل دعائه الخير؛ أي: لسرعته { وكان الإنسان } في جبلته خلق { عجولا } [الإسراء: 11] مسرعا مستعجلا على ما يميل إليه، وإن كان مضرا له.
{ و } من كمال رحمتنا وإشفاقنا { جعلنا اليل والنهار آيتين فمحونآ آية اليل وجعلنآ آية النهار مبصرة } ذا نور وإضاءة { لتبتغوا } وتطلبوا { فضلا } وعطايا ناشئة { من ربكم } لتعيشوا بها، وتقوموا أمزجتكم منها { ولتعلموا } بتجدد الملوين { عدد السنين والحساب } المتداولة بينكم في معاملتكم وجرائتكم وتجارتكم { و } بالجملة: في { كل شيء } تحتاجون إليه في أمور معاشكم ومعادكم { فصلناه } أي: بيناه وأوضحناه لكم، وعلمنا طريق وصولكم ونيلكم إليها { تفصيلا } [الإسراء: 12] وتبيينا واضحا لائحا، فعليكم أن تتخذوني وكيلا في جميع حوائجكم الدنيوية والأخروية.
{ وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه } أي: بعدما رتبنا أمور معاش الإنسان ومعاده على ما ينبغي ويليق بحاله، كتبنا جميع ما صدر عنه من الأعمال الصالحة والفاسدة في مكتوب جامع لها، محيط بها، وعلقناه في عنقه تعليقا لازما، شبه الأعمال بالطائر؛ لأن الإنسان يطير ويميل نحو السعادة والشقاة بما صدر عنه من الأعمال، كأن الأعمال جناح له { و } بعد انقضاء النشأة الأولى المعدة للاختبار والاعتبار { نخرج له يوم القيامة كتابا } جامعا لجميع ما صدر عنه في دار الابتلاء { يلقاه } وينال إليه { منشورا } [الإسراء: 13] على رءوس الملأ والأشهاد تكريما وتعظيما، أو تفضيحا وتقريعا.
وحين إلقائه إليه يقال له: { اقرأ } أيها المكلف في دار الابتلاء بأنواع التكليفات، والمأمور فيها بامتثال الأوامر، وترك المنهيات { كتبك } أي: مكتوبك المشتمل على جميع ما صدر عنك؛ إذ { كفى بنفسك اليوم } أي: كفى نسك اليوم { عليك حسيبا } [الإسراء: 14] أي: كافيا وشهيدا بلا احتياج لك إلى محاسب آخر.
{ من اهتدى } من النشأة الأولى بمتابعة ما أمر ونهي { فإنما يهتدي } ويفيد { لنفسه } إذ نفع الهداية هو الوصول إلى مرتبة الخلافة والنيابة التي جبل الإنسان عليها، عائد إلى الموحد نفسه بلا سراية إلى غيره، ألا على وجه الإرشاد والتنبيه { و } كذا { من ضل } عن طريق الحق، وانحرف عن مسلك التوحيد بترك المأمورات، وارتكاب المنهيات { فإنما يضل عليها } أي: إنما لا يعود ويرجع وبال ضلالها إلا على نفسها بلا سراية إلى غيرها، إلا تسببا وإضلالا.
{ و } بالجملة: { لا تزر } ولا تحمل نفس { وازرة } آثمة عاصية { وزر } نفس { أخرى } مثلها، بل كل نفس رهينة ما كسبت، سواء كان خيرا أو شرا { و } بعدما قرر سبحانه أن الهداية والضلالة لا تسري إلى الغير، أراد أن يبين سبحانه أن الأخذ على الضلال إنما هو بعد الإرشاد والتنبيه، فقال: { ما كنا معذبين } لأهل الضلال { حتى نبعث } ونرسل إليهم { رسولا } [الإسراء: 15] منهم، حين ظهر عليهم علامات الفسوق والعصيان، وأمارات الضلال والطغيان؛ ليبين لهم طريق الهداية ، ويرغبهم إليها، ويجنبهم عن الضلال، وينفرهم عنها.
وبعد بعثنا وإرسالنا، إن لم يقبلوا قول الرسل، ولم يمتثلوا بما أمروا على ألسنتهم، ونهوا عليها، بل أصروا على ما هم عليه من الضلال، أخذوا وعذبوا { و } كذلك جرت سنتنا أنا { إذآ أردنآ أن نهلك } ونستأصل { قرية } مستحقة للإهلاك والاستئصال { أمرنا مترفيها } أي: متنعميها بالإطاعة والانقياد { ففسقوا فيها } وخرجوا عن مقتضى الأمر، ولم يبالوا به { فحق } أي: ثبت واستقر { عليها القول } أي: على أهل القرية العذاب الموعود والمعهود { فدمرناها } وأهلكنا أهلها؛ بسبب فسقهم، وخروجهم عن الإطاعة والامتثال بالمأمور { تدميرا } [الإسراء: 16] أي: هلاكا كليا، واستئصالا حقيقيا إلى حيث لم يبق منهم ومن عمرانهم وزراعتهم شيء.
ليس أمثال هذا الإهلاك ببدع منا، بل { وكم } أي: كثيرا { أهلكنا من القرون } الماضية { من بعد نوح } كعاد وثمود؛ لتعوهم وعنادهم مع رسول الله { و } لا يحتاج لإثبات ضلال أولئك الضالين المضلين إلى شاهد ومبين، بل { كفى بربك } أي: كفى ربك يا أكمل الرسل { بذنوب عباده } وخروجهم عن إطاعته وانقياده { خبيرا } إذ هو عالم بما في سرائرهم وضمائرهم، بل ما في استعداداتهم { بصيرا } [الإسراء: 17] بما هو في ظواهرهم وعلنهم.
[17.18-27]
{ من كان } منهم { يريد } اللذات { العاجلة } والشهوات الفانية الزائلة { عجلنا } وأعطيناه { له فيها ما نشآء لمن نريد } أي: في النشأة الأولى ابتلاء له، واختبارا وتلبيسا عليه واغترارا، مطلعون على ما في سه وضميره { ثم جعلنا } وهيأنا في النشأة الأخرى { له جهنم } منزل الطرد والحرمان، حال كونه { يصلاها مذموما } مشئوما محروما { مدحورا } [الإسراء: 18] مطرودا مقهورا.
{ ومن أراد } منهم بامتثال الأوامر المتعلقة لمصالح الدين، وباجتناب نواهيه { الآخرة } أي: اللذة الأخروية الأبدية { وسعى لها سعيها } أي: حق سعيها على مقتضى الأمر الإلهي { و } الحال أنه { هو } في حال السعي والاجتهاد { مؤمن } موقن، مصدق بوحدانية الله، وبما جاء من عنده على رسله، بلا شوب تزلزل وتردد { فأولئك } السعداء المقبولون { كان سعيهم } واجتهادهم في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي { مشكورا } [الإسراء: 19] مقبولا مستحسنا، وعملهم مبرورا، وجزاؤهم موفورا، وهم صاروا في دار الجزاء مغفورا مسرورا.
{ كلا نمد } أي: كل واحد من الفريقين المطيع والعاصي نيسر ونوفق على مقتضى ما يهوى ويريد { هؤلاء } المؤمنين المطيعين، توفقهم على الطاعات، ونجنبهم عن المعاصي { وهؤلاء } الكافرين العاصين، نيسر لهم ما تميل إليه نفوسهم من الأهوية الفاسدة، والآراء الباطلة؛ إذ كل ميسر لما خلق له.
كل ذلك { من عطآء ربك } يا أكمل الرسل الذي رباك وجميع عباده بأنواع اللطف والكرم { و } كيف لا ييسر لهم سبحانه، ولا يوفقهم؛ إذ لا رازق لهم سواه، ولا معطي لهم غيره؟! لذلك { ما كان عطآء ربك محظورا } [الإسراء: 20] ممنوعا عن الكافر لكفره وعصيانه، موفورا على المؤمن لإيمانه، بل لا يعلل فعل بالأعراض والأعواض مطلقا، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد إرادة واختيارا.
والتفاوت الجاري بين عباده إنما هو لحكمة ومصلحة استأثر الله به في غيبه، لا اطلاع لأحد عليه؛ لذلك قال: { انظر } أيها الناظر المعتبر { كيف فضلنا بعضهم } في النشأة الأولى بالمال والجاه، والثورة والرئاسة { على بعض } مبتلى بالفقر والمسكنة، وأنواع المذلة والهوان { وللآخرة } المعدة للذات الروحانية، والحقائق والمعارف، والمكاشفات والمشهادات { أكبر درجات } لبقاء ذاتها أبد الآباد { وأكبر تفضيلا } [الإسراء: 21] من فضل المستعار الفاني الزائل بسرعة.
ومتى اعتبرت أيها المعتبر، وتأملت ما فيه من العبر { لا تجعل } ولا تتخذ { مع الله } الواحد الأحد، المتعزز برداء الفردانية { إلها آخر } كفؤا له، يعبد بالحق مثله، وكيف تجعل وتأخذ ربا سواه؛ إذ ليس في الوجود إلا هو { فتقعد } بعد جعلك واتخاذك إلها سواه خائبا خاسرا، بل { مذموما } عند الملائكة وجميع النبيين { مخذولا } [الإسراء: 22] عند الله يوم العرض الأكبر؟!.
{ و } كيف تتخذ إلها سواه، مع أنه { قضى ربك } وحكم حكما مقطوا مبرما { ألا تعبدوا } أي: بألا تعبدوا أيها البالغون لحد التكليف { إلا إياه } إذ لا مستحق للعبادة والانقياد سواه؛ إذ هو المستقل بإيجادكم وإظهاركم بلا مشاركة ومعاونة، فعليكم أن تعظموه وتوقروه، وتذللوا نحوه غايى التذلل والخضوع.
{ و } أن تسحنوا { بالوالدين } اللذين هما السبب الظاهري لتربيتكم وظهوركم { إحسانا } سلسا طلقا فرحانا، بلا شوب المنة والأذى، سيما { إما يبلغن } أي: أن يبلغن { عندك } أيها الولد { الكبر } أي: سن الكهولة، بحيث عجز عن خدمة نفسه { أحدهما } أي: أحد الوالدين { أو كلاهما } معا { فلا تقل لهمآ } في جميع الأحوال، سيما عند الكبر والكهولة: { أف } أي: صوتا شديدا دالا على تضجرهما وردعهما { و } إن خرجا عن مقتضى العقل، وفعلا فعلا يجب لك صرفهما عنه { لا تنهرهما } ولا تقهرهما زجرا عليهام { وقل لهما قولا كريما } [الإسراء: 23].
{ و } بالجملة: { اخفض } وابسط { لهما جناح الذل } والتواضع والمسكنة { من } كمال { الرحمة } والشفقة عليهما { و } لا يقتصر على الخفض والشفقة الدنيوية، بل { قل } لهما ولأجلهما مناجيا مع الله: { رب ارحمهما } على مقتضى رحمتك الواسعة، وجودك الشامل { كما ربياني صغيرا } [الإسراء: 14] أي: ارحمهما بفضلك، مثل رحمتهما وتربيتهما إياي في حال صغري وطفولتي.
فعليكم أن تكونوا في دعائهما على العزيمة الصحيحة، والمحبة الخالصة، بحيث يكون بواطنكم موافقة لظواهركم، مثل تربيتهما إياكم حالة صغركم، ولا تتمنوا موتهما في قلوبكم؛ إذ { ربكم } المطلع على سرائركم { أعلم بما في نفوسكم } من ابتغائكم موتهما، أو برهما وتكريمهما، فالله سبحانه يعفو عنكم، ويقبل توبتكم { إن تكونوا صالحين } مصلحين ما فوتم وأفسدتم على نفوسكم من حق تعظيمهما وتوقيرهما { فإنه } سبحانه من كمال جوده وفضله { كان للأوابين } الرجاعين إليه سبحانه، النادمين بما صدر عنهم من المعاصي، سيما ما يتلعق بعقوق الوالدين { غفورا } [الإسراء: 25] يغفرهم ويتجاوز عنهم.
{ و } لا تقتصر أيها الولد على تعظيم والديك فقط، بل عليك تعظيم كل من ينتمي إليك من قبلهما؛ لذلك { آت } وأعط { ذا القربى حقه } أي: حق تواضعهم وتوقيرهم إن كانوا إغنياء، وأنفق عليهم إن كانوا فقراء { و } آت من زكاة أموالك، وفواضل صدقاتكم { المسكين } الذي لا يقدر على قوته وقوت عياله { وابن السبيل } أيضا الذي يبعد عن بلده، ولس معه مؤنة معاشه، وكن في إنفاقك مقتصدا معتلا { ولا تبذر تبذيرا } [الإسراء: 26] أي: لا تسرف إسرافا مفرطا خارجا عن حد الاعتدال، سيما فيما لا يعني وينبغي؛ إذ التبذير والتقتير كلاهما مذموم عقلا وشرعا.
لذلك قال سبحانه: { إن المبذرين } المسرفين أموالهم رياء وسمعة { كانوا إخوان الشياطين } أي: أشباههم وأتباعهم في صرف الأموال الموهوبة من الله إلى غير المصرف و غير المستحق من المصارف، بل صرفوها إلى المحظورات والمكروهات، بإغواء الشياطين وإغرائهم { وكان الشيطان } الغوي الطاغي { لربه كفورا } [الإسراء: 27] لنعم الله، فيغري أتباعه إلى الكفران أيضا.
[17.28-38]
ثم قال سبحانه: { وإما تعرضن عنهم } أي: إن تحقق إعراضك ومنعك عن هؤلاء المستحقين المذكورين، سيما بعدما سألوا عنك العطاء { ابتغآء رحمة } أي: طلب رحمة وشفقة مرجوة { من ربك } حال كونك { ترجوها } أي: الرحمة لهم؛ لعلمك بأنهم صرفوها إلى القبائح والمعصية، فعليك أن تمنعهم وتردهم هينا لينا، بلا تشدد وغلظة { فقل لهم } حين دفعهم: { قولا ميسورا } [الإسراء: 28] سهلا إلى حيث لا ييأسوا ولا يحزنوا، مثل أن تقول: سل الله علينا وعليكم، ويسر لنا ولكم من فضله وجوده.
وبعدما نهى سبحانه عن التبذير صريحا، والإعراض عن صرف النعمة إلى المعصية، نهى عن مطلق البخل والتبذير المذمومين تأكيدا ومبالغة، فقال: { ولا تجعل يدك مغلولة } معقودة { إلى عنقك } بحيث لا يسع لك إعطاء شيء مما رزق الله لك على مستحقه شحا وبخلا؛ إذ هو إفراط وتقتر { و } أيضا { لا تبسطها كل البسط } بحيث لا قرار لك عندها أصلا، فهذا تفريط وتبذير، وكلاهما مذمومان شرعا وعقلا، فعليك بالاقتصاد الذي هو عبارة عن الكرم والجود، وهو صراط الله الأعدل الأقوم { فتقعد } بعد اتصافك بالبخل والتقتير { ملوما } عند الله، وعند الملائكة والناس أجمعين، واتصفت بالتبذير والإسراف، تقعد { محسورا } [الإسراء: 29] نادما متحسرا، قلقا حائزا في نظم معاشك.
{ إن ربك يبسط الرزق } الصوري والمعنوي، ويوسعه { لمن يشآء } من عباده على مقتضى علمه بحالهم، وسعة استعدادهم، وقابلية حوصلتهم { ويقدر } أي: يقبض ويضيق لمن يشاء منهم على مقتضى علمه يضيق صدرهم، وقلة تمكنهم ووقارهم؛ إذ الله الحكيم المتقن في أفعاله لا يتجاوز عن مقتضى حكمته { إنه كان بعباده } عليما { خبيرا } عن بواطنهم وصمائرهم، وما يؤول إليهم أمورهم { بصيرا } [الإسراء: 30] بظواهر أحوالهم، وتقلباتهم في شئونهم وتطوراتههم.
{ ولا تقتلوا } أيها البالغون لرتبة التكليف الإلهي { أولادكم } الحاصلة من أصلابكم، سواء كانوا بنين أو بنات بلا رخصة شرعية، سيما { خشية إملاق } أي: فقر وفاقة؛ إذ { نحن } من سعة جودنا، ووفور رحمتنا { نرزقهم وإياكم } إذ لا رازق لكم ولهم سوانا { إن قتلهم } إن صدر عنكم { كان خطئا كبيرا } [الإسراء: 31] أي: ذنبا عظيما.
{ و } عليكم أيها المؤمنون المتدرجون في مسالك التحقيق أن { لا تقربوا الزنى } بترتيب مقدمات تترتب عليها تلك الفعلة القبيحة، فكيف الإتيان بها. العياذ بالله { إنه } إي: الزنا { كان فاحشة } مسقطة للعدالة، مزيلة للمروءة، مبطلة لحكمة التناسل التي هي المعرفة الإلهية؛ إذ ولد الزنا لا يبلغ مرتبة الولاية والعرفان أصلا { وسآء سبيلا } [الإسراء: 32] لقضاء الشهوة المعدة لسر الظهور والإظهار من لدن حكيم عليم.
{ و } عليكم أيضا أيها الموحدون القاصدون إلى معارج التوحيد أن { لا تقتلوا النفس التي حرم الله } قتلها؛ إذ هي بيت الله، وتخريب بيته من أعظم الكبائر { إلا بالحق } أي: إلا برخصة شرعية من قصاص وحد وردة، إلى غير ذلك من الأمور التي عينها الشرع { ومن قتل مظلوما } بلا رخصة شرعية { فقد جعلنا } بمقتضى عدلنا { لوليه } أي: لمن يلي أمر المقتول بعده { سلطانا } سطوة وغلبة على القائتل الظالم مع معاونة الحكام له { فلا يسرف } أي: الولي المنتقم { في القتل } لقصاص المقتول المظلوم بأن يقتل غير القاتل بدله، أو يقتل هو مع غيره، وكيف لا يقتل الظالم بدل المقتول المظلوم { إنه كان } أي: المظلوم { منصورا } [الإسراء: 33] عند الله، وعند جميع الخلائق؟!.
{ و } عليكم أيضا أيها المتوجهون نحو الحق بالعزيمة الصحيحة، والقصد الخالص أن { لا تقربوا مال اليتيم } الذي لا متعهد له من الأبوين { إلا بالتي هي أحسن } بحالهم من ازدياد أموالهم وتنميته، وحفظه وتعميره على وجه العدالة والمروءة { حتى يبلغ } اليتيم { أشده } أي: رشده، وبلغ إلى سن التمييز والتصرف، فلكم أيها المتعهدون المتحفظون لأموال اليتامى ردها إليهم بعد اختيارهم وامتحانهم مرارا، وبالجملة: لكم أيها الموحدون الإيفاء والوفاء بالعهود والمواثيق مطلقا، سواء كانت مما بينكم وبين الله، أو بين المؤمنين من عباده { وأوفوا بالعهد إن العهد } والميثاق { كان مسؤولا } [الإسراء: 34] في النشأة الأخرى، وناقضة مؤاخذا، وموفيه مأجورا.
{ وأوفوا الكيل } أي: عليكم أيفاء الكيل { إذا كلتم } لغيركم { وزنوا } أيضا، إذا زنتم { بالقسطاس } أي: الميزان. وهو لفظ سرياني: { المستقيم } الذي لا ميل له إلى جانب، بل صار كفتاه على السوية بلا ميل { ذلك } أي: إيفاؤكم واستقامتكم في المكيال والميزان { خير } جالب لأنواع الخيرات في الدنيا { وأحسن تأويلا } [الإسراء: 35] أي: عاقبة ومآلا في العقبى.
{ ولا تقف } أي: لا تتبع أيها المؤمن الموقن، الطالب للوصول إلى مرتبة التوحيد { ما ليس لك به علم } أي: ما لم يتعلق علمك به تقليدا أو تخمينا؛ إذ أنت يوم الجزاء مسئول عما رمته بلا علم، وأقدمت عليه بأي عضو وجارحة، وقلته رجما بالغيب { إن السمع } قدمه، لأنه نسبت إليه أكثر المفتريات والكواذب { والبصر } لأن النفس تقع في أكثر الفتن والمهالك برؤية البصر { والفؤاد } الذي هو أصل في إنشاء الكواذب والمزرورات { كل أولئك } أي: كل واحد من القوى الثلاثة { كان } يوم القيامة { عنه مسؤولا } [الإسراء: 36] فتقر أولئك القوى بدما سئل عما صدرت منها من المعاصي، فيفتضح صاحبها على رءوس الأشهاد.
{ ولا تمش } أيها الطالب لعدالة التوحيد والعرفان { في الأرض } التي أعدت للتذلل والانسكار، والتواضع والخشوع { مرحا } ذا كبر وخيلا، فكيف تختال وتتكبر أيها لمهان المخلوق من المهين { إنك لن تخرق الأرض } بشدة قولتك ووطأتك { ولن تبلغ الجبال } باستعلائك واستكبارك { طولا } [الإسراء: 37] أي: مدة متطاولة حتى تستعلي بها على من دونك؟! وبالجملة: لا تتكبر ولا تتجبر أيها العاجز الضعيف مع ضعفك، وقصير عمرك.
{ كل ذلك } من النواهي المذكورة، من
لا تجعل مع الله إلها آخر
[الإسراء: 22] إلى هنا { كان سيئه } أي: ثبت وتحقق كونه سيئة، وإنما { عند ربك } لذلك كان { مكروها } [الإسراء: 38] منهيا عنه، مبغوضا عليه.
[17.39-49]
{ ذلك } المذكور من الأحكام المتقدمة، من أول السورة إلى هنا { ممآ أوحى إليك ربك } يا أكمل الرسل تربيتة لك، وتأييدا لأمرك { من الحكمة } المتقنة التي يجب الامتثال والانصاف بها على من أراد سلوك سبيل التوحيد، المبني على عدالة الأخلاق والأطوار والشئون { و } معظم المنهيات والمحظورات: الشرك بالله. العياذ بالله منه. لذلك كرره تأكيدا ومبالغة، وبالغ في الاحتراز عنه حبيبه، حيث قال: { لا تجعل مع الله } المتوحد المتفرد في ذاته، المعبود بالحق والاستحقاق { إلها آخر } يعبد له كعبادته، وإن اتخذت إليها سواه { فتلقى في جهنم } البعد والخذلان، حال كونك { ملوما } تلوم نفسك بأنواع الملومات بما ضاع عنك من التوحيد المنجي عن جميع المضائق والمهالك { مدحورا } [الإسراء: 39] مبعد عن رحمة الله، وسعة فضله وإحسانه.
{ أ } تزعمون أيها المشركون المستكبرون أن الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء فضلكم على نفسه { فأصفاكم } أي: خصصكم واجتباكم { ربكم بالبنين } الذين هم أكرم الأولاد وأشرفها { واتخذ } لنفسه أولادا { من الملائكة إناثا } نواقص عقلا ودينا { إنكم } أيها المسرفون بإقدامكم واجترائكم على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة { لتقولون } في حق الله { قولا عظيما } [الإسراء: 40] بهتانا وزورا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
إذ نسبة الأولاد إلى الصمد المنزه عن الأنداد في نهاية الشناعة والفساد، وأشنع منه نسبة الإناث إليه، ثم نسبة الملائكة الذين هم من أفضل عباد الله وأشرفهم إلى الأنوثة المستحقرة المذمومة شرعا وعقلا، هذا مع غاية الإفراط في حق الله، والتفريط في خلص عباده؛ لذلك وصف سبحانه هذا القول الشنيع بالعظمة.
ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتقريعا، وإشارة إلى تناهيهم في الضلال والطغيان: { ولقد صرفنا } وكررنا مرارا شناعة هذا القول؛ أي: نسبة الولد إلى الله الصمد المنزه في ذاته عن الأهل والولد { في هذا القرآن } المنزل لهداية أهل الغي والضلال { ليذكروا } أي: ليتذكروا ويتعظوا، ويتفطنوا إلى وخامة عواقبه ومآله، ومع ذلك لم يتذكروا ولم يتفطنوا، بل { وما يزيدهم } التكرار والمبالغة { إلا نفورا } [الإسراء: 41] إعراضا عن الحق، وإصرارا على ما عليه من الباطل.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { لو كان معه آلهة } أمثاله { كما يقولون } وتدعون أيها المشركون، هم معبودون بالحق، مستحقون للعبادة كما زعمتم { إذا لابتغوا } ولطلبوا { إلى } معاداة { ذي العرش سبيلا } [الإسراء: 42] ليغلبوا عليه، ويستولوا على ملكه، كما يفعل الولاة بعضهم مع بعض؛ إذ لو عجزوا عن مماراته ومقابلته، لم يكونوا مثله، فلم يستحقوةا للعبادة المطلقة مثله.
{ سبحانه } أي: نزه سبحانه ذاته تنزيها بليغا، وقدس تقديسا متناهيا في القدس والنزاهة { وتعالى } أي: ترفع وتعاظم { عما يقولون } هؤلاء الظالمون، المسرفون المفرطون في شأنه من إثبات الشريك المماثل له، والكفء المتكافىء معه { علوا كبيرا } [الإسراء: 43] أي: تعاليا وتباعدا في غاية البعد والاستحالة؛ إذ لا موجود سواه، ولا إله غيره.
كيف تغفلون وتذهلون عن دلائل توحيده الحق وشواهده أيها الضالون المضلون، مع أنكم مجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد، ومع ذلك { تسبح له } وتقدس ذاته عن الشريك والولد، والكفء والنظير { السموت السبع } المطبقة المعلقة المنضودة، المنظومة على أبلغ النظام وأعجبه، مع ما فيها من الكواكب المختلفة الألوان والأشكال، والمنازل والحركات والآثار المترتبة عليها، ومع ما فيها من عجائب المخلوقات، وغرائب المبدعات والمخترعات التي لا علم لنا إلا بأنياتها دون لمياتها، كل ذلك يدل على وحدة مظهرها وبارئها { والأرض } وما عليها من أنواع النباتات والمعادن والحيوانات التي عجزت عن إحصائها ألسنة أولي البصائر والنهى، المعتبرين المتأملين في مصنوعات الحق، وعجائب مخترعاته { ومن فيهن } من الملائكة والثقلين المجبولين على عبادة الحق وعرفانه.
{ و } بالجملة: { إن من شيء } أي: ما من شيء مما يطلق عليه اسم الشيء، ويمتد عليه ظل الوجود { إلا يسبح بحمده } أي: ينزهه ويقدسه عن شوب الحدوث والإمكان، بعضها بالحال، وبعضها بالمقال، سيما عن أقوى أمارات الإمكان التي هي الإيلاد والاستيلاد.
{ ولكن لا تفقهون } تفهمون أيها المنهمكون في الغي والضلال { تسبيحهم } لعدم اشتغالكم بالتدبر والتأمل في مصنوعات الحق، والتفكر في آياته، بل تنكرونها وتصرون على القدح فيها عنادا ومكابرة، وتشركون بالله. العياذ بالله منه. أندادا وبذلك استوجبتم أشد العذاب والنكال، فأمهلكم الله { إنه كان حليما } لا يعاجل بالانتقام والعقوبة رجاء أن تتعظوا وترجعوا نحوه بالتوبة والندم على وجه الإخلاص، فيغفر زلتكم كلها، إنه كان { غفورا } [الإسراء: 44] للأوابين التوابين، الرجاعين إليه بكمال الندم والإخلاص، وإن عظمت زلتهم، وثرت معصيتهم.
{ و } من كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل، وغاية حفظنا وحراستنا إياك { إذا قرأت القرآن } واستغرقت في لجج رموزه وإشاراته، وخضت ي تيار بحاره لطلب فرائد فوائده، وصرت من غاية استغراقك وتلذذك بها إلى أن غبت عن محافظة نفسك، ومراقبة حالك { جعلنا } وصيرنا { بينك وبين } القوم { الذين لا يؤمنون بالآخرة } ولا يوقنون بالأمور المترتبة عليها فيها { حجابا } غليظا، وغشاء كثيفا { مستورا } [الإسراء: 45] بسترك عن أعين أعدائك، القاصدين لك سوءا، مع أنهم لا يرون الحجب أيضا.
روى سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه لما نزلت:
تبت يدآ أبي لهب وتب
[المسد: 1] جاءت امرأته بحجر لترضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس مع أبي بكر رضي الله عنه، فسألت: أين صاحبك، لقد بلغني أنه هجاني؟ فقال أبو بكر: ما نطق صاحبي بالشعر، ثم قال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله، فقال: صلى الله عليه سلم
" لم يزل ملك بيني وبين أعدائي، أنا أراهم ولا يرونني ".
{ و } كيف لا يكون الكافر محجوبا مستورا عن سرائر القرآن ومرموزاته؛ إذ { جعلنا } أي: غطينا { على قلوبهم أكنة } غشاوة كثيفة تمنعهم { أن يفقهوه } ويفهموا معناه { و } جعلنا { في ءاذانهم وقرا } أي: حمما وثقلا، يمنعهم عن استماع ألفاظه حتى يتأملوا ويتدبروا في معناه { و } من غلظ غشاوتهم، وكثافة أكنتهم { إذا ذكرت ربك في القرءان وحده } منفردا، بلا ذكر آلهتهم { ولوا على أدبرهم } معرضين كارهين { نفورا } [الإسراء: 46] متنفرين ساخطين عليك؟!.
ولا تبال يا أكمل الرسل بهم، وبسماعهمه واستماعهم وعدمه، ولا تلتفت نحوهم؛ إذ { نحن أعلم بما يستمعون به } أي: يفرضون المتعلق باستماعهم الذي هو الاستهزاء والسخرية، وقت { إذ يستمعون إليك و } كيف لا يكونون مستهزئين مستسخرين { إذ هم } حين استماعهم كلامك { نجوى } أي: ذوو مناجاة، يضمرون في نفوسهم مقتك وهلاكك، وأقله الاستهزاء معك؟! اذكر { إذ يقول الظالمون } منهم على سبيل العناد والمكابرة لأهل العدل والتوحيد: { إن تتبعون } أي: ما تتبعون أيها الضالون { إلا رجلا مسحورا } [الإسراء: 47] سحر به فجن، فاختلط كلامه، وذهب عقله، وتكلم من تلقاء نفسه كلاما يشبه كلام العقلاء.
{ انظر } أيها الناظر بنور الله، المؤيد من عنده { كيف ضربوا لك الأمثال } الحشو والبتراء من غاية اضطرابهم وتهالكهم، مرة يقولون: إنك شاعر، ومرة: ساحر، ومرة: كاهن، ومرة: مجنون { فضلوا } عن طريق الحق في جميع ما نسبوا إليك، وإلى ما جئت به من الكلام المعجز في أعلى مراتب الإعجاز { فلا يستطيعون } إلى مقتلك وقدح كتابك { سبيلا } [الإسراء: 48] واضحا موجها، بل خبطوا في جميع ما نسبوا خبط عشوا، فضلوا عن السبيل السواء.
{ و } من غاية انهماكهم في الغي والضلال، ونهاية إنكارهم بحقية القرآن { قالوا } مستبعدين متعجبين على سبيل التهكم والاستهزاء { أءذا كنا عظاما } أي: أنبعث ونحيي بعدما صرنا عظاما بالية رميمة { ورفاتا } أي: غبارا مرفوتا، تذروه الرياح { أءنا لمبعوثون } محشورون من قبورنا { خلقا } آخر { جديدا } [الإسراء: 49] معادا للخلق الأول، لا مثلا له، بل عينا، بلا مغايرة أصلا، كلا وحاشا، من أين لنا هذا؟!.
[17.50-58]
{ قل } يا أكمل الرسل في جوابهم تبكيتا لهم والزاما: لا تستبعدوا أيها الضالون المعاندون أمثال هذا البعث والحياء عن قدرة الله في الأشياء التي عهدوا حياتهم من قبل؛ إذ لا بعد ولا غرابة فيها، بل { كونوا حجارة } أبعد بمراحل عن قبول الحياة { أو حديدا } [الإسراء: 50] هو أشد بعدا.
{ أو خلقا } آخر مثلا، هو { مما يكبر في صدوركم } ويستحيل في نفوسكم اتصافه بالحياة، فالله المقتدر بالقدرة الكاملة، والقوة الشاملة قادر على إحيائها وإيجادها، إن تعلقت إرادته، ومضت مشيئته على تكوينه وإظهاره، ثم بعدما أفحموا من سماع الحجة القوية، وانحسرت عقولهم عن المقابلة معها { فسيقولون } مستفهمين عن تعيين الحق المبدئ المعيد على سبيل الإنكار: { من يعيدنا } بعد موتنا وصيرورتنا عظاما ورفاتا؟ { قل الذي فطركم } وأظهركم من كتم العدم { أول مرة } إظهارا إبداعيا، وإيجادا اختراعيا، بلا سبق مادة ومدة، فإعادتكم أهون عليه من إبدائكم وإبداعكم.
وبعدما سمعوا منك قولك { فسينغضون } ويحركون { إليك } أيها المؤيد من عند الله لإلزام أولئك الغواة الطغاة، الهالكين في تيه المكابرة والعناد { رؤوسهم } على وجه الاستبعاد والاستهزاء { ويقولون } مستسخرين: { متى هو } مع أن الأنبياء الماضين يدعون مثلك قيامها، فلم تقع بعد، وأنت أيضا تدعى، فلا تقع، وما هي إلا مجرد الدعوى منكم ومنهم، بلا وقوع ولا ورورد؟! { قل } لهم يا أكمل الرسل: { عسى أن يكون قريبا } [الإسراء: 51] أي: بعدما ختم أمر الرسالة والتشريع، وكمل بناء الدين، قرب وقوعها.
فانتظروا أيها المؤمنون المصدقون ليوم البعث والحشر مترصدين مترقبين { يوم يدعوكم } الله للبعث والحشر { فتستجيبون } طائعين راغبين ملتبسين { بحمده } معترفين على كمال قدرته، ووفور حوله وقوته { و } تذكروا من طول ذلك اليوم، وشدة أهواله وإفزاعه، حيث { تظنون } وتعتقدون فيه { إن لبثتم } أي: ما لبثتم وأقمتم في النشأة الأولى { إلا قليلا } [الإسراء: 52] أي: تستقلون وتستقصرون مدة لبثكم فيها من كثرة شدائدها وأهوالها.
{ وقل } يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير، وتهذيب الأخلاق، وتصفية الباطن { لعبادي } يعني: المؤمنين الموقنين لشئوني وظهوري على سبيل جلياتي في النشأة الأولى والأخرى، إذا أرادوا إهداء التائهين في بحر الغفلة والضلال: { يقولوا } كل منهم، وقت تذكيرهم وتنبيههم رفقا لهم، وتليينا لقلوبهم، بالكلمة { التي هي أحسن } الكلمات وألينها، وأتمها نفعا، وأقربها للقبول، لا بالتي هي أخشن وأغلظ لتكون مدخلا للشيطان { إن الشيطان } المضل المغوي { ينزغ } أي: يوقع القتنة بين المرشد والمسترشد، ويهيجها ويثيرها إلى أن أدى الأمر إلى المشاجرة والمقاتلة، وأنواع الخصومات المخلة للحكمة المقصودة من أمر النبوة والرسالة، والكلمة الغليظة كثيرا ما يفضي إليها، فيفوت الغرض الأصلي { بينهم إن الشيطان كان } في أصل جبلته وفطرته خلق { للإنسان عدوا مبينا } [الإسراء: 53] ظاهر العداوة، ومستمر الفتنة، بحيث لا يردى دفع عداوته أصلا.
فلكم أيها الهادون الناصحون ألا تغلطوا، ولا تخشنوا في دعوة الناس إلى طريق الحق، ولا تبالغوا أيضا في إرشادهم وإهدائهم؛ إذ ما عليكم إلا تبليغ ما أمرتم بتبليغه، وليس في وسعكم وظاقتكم رشدهم وهدايتهم ألبتة؛ إذ هو مبين على العلم باستعداداتهم وقابليتهم، ولا علم لكم أيها الناصحون عليها، بل { ربكم } الذي رباكم أيها الناس المجبولون على فطرة المعرفة والإيمان { أعلم بكم إن يشأ } هدايتكم { يرحمكم } على مقتضى جوده، ويوفقكم على قبول الإيمان، وحصول العرفان عانية منه وفضلا { أو إن يشأ يعذبكم } أي: يبقيكم ويغويكم في تيه الحرمان والخذلان ، خاسرين خائبين بمتابعة الشيطان.
{ و } بالجلمة: { مآ أرسلناك } يا أكمل الرسل، وأفضل البرايا، مع أنك لولاك ما خلقت الأفلاك؛ إذ كل من في العلم منوط بمرتبتك المحيطة الجامعة { عليهم } أي: على الناس { وكيلا } [الإسراء: 54] أي: ليكون أمروهم موكولا إليك، بحيث إ ذا أردت هداية بعض، وضلال آخرين، فيقع مرادك بلا خلف، بل إنما أرسلناك مبلغا بشيرا ونذيرا، وما عليك إلا البلاغ، وعلينا الإصلاح والفساد؛ إذ نحن بكمال استغنائنا عن مطلق مظاهرنا ومصنوعاتنا، مستقلون في تدبيرات أمور ملكنا وملكوتنا، وشهادتنا وغيبنا، وجبروتنا ولاهوتنا.
{ وربك } يا أكمل الرسل { أعلم بمن في السموت والأرض } أي: باستعدادات الملائكة السماويين والأرضيين، وقابليات الثقلين السفليين { و } لعلمنا باستعدادات جميع عبادنا { لقد فضلنا بعض النبيين على بعض } لسنة سنية، وخصلة حميدة، مثل تفضيلنا إبراهيم باخلة، وكمال الحلم، وكثرة التأوه، وموسى بالتكليم، وعيسى بأنواع الإرهاصات والكرامات، من الارتقاء نحو السماء والتكلم في غير أوانه، ووجوده بلا أب، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بشق القمر وبالمعراج، وسليمان بالملك العظيم { و } من جملة تفضيلنا: { آتينا داوود زبورا } [الإسراء: 55] مشتملا على أنواع الحكمة، وفصل الخطاب، سيما على ألقاب خاتم الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وظهوره ونسخة جميع الأديان والكتب، وكون أمته أشرف الأمم، ودينه أكمل الأديان.
{ قل } يا أكمل الرسل للمشركين الذين يعون آلهة غير الله، ويعبدونهم كعباددته على سبيل التعجيز والتقريع: { ادعوا } عند نزول البلاء، وهجوم المحن والعناء، شركاءكم { الذين زعمتم } آلهة { من دونه } أي: من دون الله حتى ينقذوكم من الشدة والبأس، وإن بالغتم في الدعاء والتوجه نحوهم، الالتجاء إليهم { فلا يملكون } أي: لا يقدرون ولا يستطيعون وآلهتكم { كشف الضر } فيكف { عنكم } بل عن أنفسهم { ولا تحويلا } [الإسراء: 56] أي: دفعا وترديدا منكم إلى غيركم.
إذ { أولئك } الفقراء الضعفاء { الذين يدعون } إليهم، وتدعونهم آلهة، كالملائكة وعيسى وعزير - عليهما السلام. { يبتغون } ويطلبون من غاية افتقارهم واحتياجهم { إلى ربهم } الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم { الوسيلة } المقربة إليه من الأعمال الصالحة، والأخلاق المرضية المقبولة عند الله؛ ليظهر لهم { أيهم أقرب } إليه، وأقبل عنده { و } مع ذلك { يرجون } في مناجاتهم وخلواتهم { رحمته } على مقتضى لطفه وفضله { ويخافون عذابه } على مقتضى قهره وعدله { إن عذاب ربك كان محذورا } [الإسراء: 57] واجب الحذر لكل من دخل تحت حيطة التكليف، سواء كان نبيا أو وليا.
ثم قال سبحانه: { وإن من قرية } أي: ما من قرية من القرى الهالكة { إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } بالخسف والكسف، والزلزلة والطاعون وغير ذلك { أو معذبوها عذابا شديدا } كالقتل والنهب والأسر، وأنواع البليات والآذيات والمصيبات { كان ذلك } الإهلاك والتعذيب { في الكتاب } الذي هو عبارة عن حضرة علمنا، ولوح قضائنا { مسطورا } [الإسراء: 58] على التفصيل الذي وقع بلا مخالفة أصلا.
[17.59-66]
{ وما منعنآ أن نرسل بالآيات } أي: ما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة عنك يا أكمل الرسل والإتيان بها { إلا أن كذب بها } وبأمثالها { الأولون } أي: الأمم الماضون بعد إتيان ما اقترحوا عتوا وعنادا، فاستأصلناهم بتكذيبهم؛ إذ من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة استئصال المقترحين المكذبين على أنبيائنا بعد إتيانهم بمقترحاتهم، فلو حصل مقترحات هؤلاء المقترحين أيضا ليكذبوك ألبتة، فلزم علينا حينئذ إهلاكهم واستئصالهم على مقتضى سنتنا المستمرة، لكن مضى حكمنا ألا ننتقم من مكذبيك في النشأة الأولى؛ لأن منهم من يؤمن ومنهم من يولد مؤمنا، لذلك ما جئنا بمقترحاتهم.
{ و } اذكر لهم إن كانوا شاكين مترددين فيما ذكرنا بعض قصص الأمم الماضية المشهودة في الآفاق، وذكرهم كيف { آتينا ثمود الناقة } المقترحة حين اقترحوا على نبينا صالح عليه السلام بإخراجها من الحجر المعين، فأخرجها منه بإذن الله وقدرته، حال كون أعينهم { مبصرة } خروجها منه، ومع ذلك { فظلموا بها } أي: بالناقة بعدما أمرهم سبحانه بمحافظتها ورعايتها على لسان صالح، فكذبوه قعقروها، واستأصلناهم لأجلها، وأمثالها من الأمم الهالكة بتكذيبهم بعد إتيان ما اقترحوا أكثر من أن يحصى.
{ و } بالجملة: { ما نرسل } ونأتي { بالآيات } المقترحة { إلا تخويفا } [الإسراء: 59] من نزول العذاب المهلك المستأصل على المقترحين.
{ و } اذكر للمؤمنين وقت { إذ قلنا } موحيا { لك } مسليا عليك: لا تحزن من كثرة عدد عودك وعددهم، ولا تخف من شوكتهم { إن ربك } الذي اصطفاك من البرية للرسالة العامة قد { أحاط بالناس } إحاطة الظل بأظلالها، فهم مقهورون تحت قبضة قدرته يفعل بهم حسب إرادته ومشيئته، فامض على ما أمرت بلا خوف وتردد فلك الاستيلاء والغلبة.
{ و } أيضا { ما جعلنا الرءيا التي أريناك } حين نزولك ماء بدر، وأصبحت تقول مشيرا بإصبعك: " هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان " فأخبر قريش بقولك وإشارتك إلى مصارعهم، فاستهزءوا معك واستبعد بعض المؤمنين أيضا { إلا فتنة } واختبارا { للناس } هل يؤمنون بك ويصدقون قولك، أم يكذبونك وينكرون بك.
ثم لما وقع الأمر على الوجه الذي أريت في منامك، اطمأن المؤمنون وازدادوا يقينا وإخلاصا، وجحد الكافرون وأزدادوا شقاقا ونفاقا، ونسبوا أمرك هذا إلى السحر والكهانة الرجم بالغيب عنادا ومكابرة.
{ و } أيضا ما جعلنا { الشجرة الملعونة } المكروهة التي يلعنها كل من يذوقها ويطعمها، وهي الزقوم المنبت على أدوية الجحيم؛ لذلك لعنت { في القرآن } حتى يحترز المؤمنون عن الأعمال المقربة إليها الموجبة لأكلها إلا قتنة وابتلاء للناس، لذلك لما سمعت قريش شجرة الزقوم، جعلوها منشأ الهزل والسخرية مع الرسول صى الله عليه وسلم حتى قال أبو جهل: إن محمدا يخوفنا عن نار تحرق الحجارة، ويزعم أنها تنبت الشجرة، وقد علمتم أن النار تحرق الشجر، وما هي إلى قرية بلا مرية.
ثم اعلم أن الأمور الدينية كلها تعبدي، فلو ظهر لما وجه عقلي فيها ولو لم يظهر، لزم الإطاعة والانقياد على سبيل التعبيد والتسليم من الصادق المصدوق، مع أن نبت الشجر في النار، مما لا يمتنع عقلا أيضا؛ لأن وجود الحيوان في النار أبعد من وجود النبات فيها.
وحكاية الدويبة التي يقال لها: السمندل، هي تعيش في النار كالسمك في الماء متى خرجت منها ماتت، واتخاذ الناس من شعرها منديلا متى اتسخت، طرحت على النار فأحرقت، وأخرجت سالمة نظفية منها، مشهورة معروفة، لا شك في وقوعها.
وأعجب من ذلك ابتلاع النعامة الجمرة والجذوة والحديدة المحماة المحمرة في النار، ولا تضرها اصلا { و } من قساوة قلوب أولئك الغواة، وغلظ حجبهم { نخوفهم } بأنواع المخاوف الدنيوية والأخروية { فما يزيدهم } تلك التخويفات الهائلة { إلا طغيانا كبيرا } [الإسراء: 60] متجاوزا عن الحد غاية التجاوز لشدة عمههم وعتوهم.
{ و } ليس طغيانهم وإصرارهم عليه إلا بتسويلات الشياطين وتغريراتهمه على مقتضى العداوة القديمة، والخصومة المستمرة بين الشيطان وبني آدم. اذكر وقت { إذ قلنا للملائكة } بأجمعهم بعدما جاوءا بما جاءوا من الحجج والدلائل الدالة على عدم لياقة آدمة ب الخلافة والنيابة إلى أن أفحموا وألزموا: { اسجدوا لأدم } وتذللوا عنده، ولا تجادلوا في حقه إنا قد إخترناه لخلافتنا { فسجدوا } سجود تواضع وتكريم امتثالا للأمر الوجوبي، بعدما ما تمادوا في إيراد الحجج استحياء منه سبحانه، ورهبة من سطوة قهره بالإعراض عن أمره وما خالف أمر الله منهم { إلا إبليس } فإنه أصر على الإنكار، ولم يرغب إلى امتثال المأمور بل زاد على الجدال والنزاع؛ حيث { قال } مستعبدا مستنكرا { أأسجد } وأتذلل من نجابة أصلي وشرف عنصري { لمن خلقت طينا } [الإسراء: 61] أي: لمن أنشأته وصورته من طين متى مذموم لا شرف له ولا نجابة، وما هو إلا تفضيل المفضول وتكريم المرذول.
ثم لما طرده الحق من ساحة عز الحضور، وأخرجه من بين الملائكة، ولعنه لعنة مؤبدة إلى أن آيس عن القبول مطلقا { قال } إبليس معترضا على الله مسيئا الأدب معه سبحانه، مستفهما على سبيل الاستبعدا والاستنكار: { أرأيتك } أي: أخبرني { هذا } القالب المستحقر المسترذل { الذي كرمت علي } وأمرتني بسجوده وطردتني لأجله طردا مخلدا، بناء على أنه يعبدك ويعرفك، ويوحدك حق توحيدك، ويقدسك حق تقديسك وتنزيهك، ويتفطن على حق قدرك وقدر حقيتك، والله وبحق عظمتك وجلالك { لئن أخرتن } وأبقيتني فيما بينهم { إلى يوم القيامة } المعدة لتنفيذ الأعمال وعرضها على جنابك { لأحتنكن ذريته } أي: أضلنهم وأغوينهم بالإغواء والإغواء إلى حيث أمحون أسماءهم عن دفتر المؤمنين، فكيف عن العارفين المكاشفين المشاهدين، لأن تركيبهم وبنيتهم هذا مقتضى أنواع الفسادات وأصناف العصيان والضلالاات، ولي فيهم مداخل كثيرة أوسوسهم وأغريهم إلى حيث أضلهم عن منهج الرشاد ومسلك السداد { إلا قليلا } [الإسراء: 62] منهم فإنهم ثابتون على ما جبلوا لأجله لا أقدر على إغوائهم؛ لكونهم مؤيدين من عندك، موفقين بتوفيقك.
ثم لما سمع سبحانه منه ما سمع { قال } سبحانه ساخطا عليه مغاضبا طاردا له أشد طرد وتبعيد: { اذهب } يا ملعون فقد أمهلناك فيما بينهم إلى قيام الساعة، فذلك أن تفعل بهم ما نفعل { فمن تبعك منهم } بعدما جبلناهم على فطرة التوحيد والمعرفة، ومع ذلك أرسلنا عليهم الرسل المنبهين المرشدين لهم طريق الرشاد، وأنزلنا عليهم الكتب المبينة لهم أحوال المبدأ والمعاد، ومع ذلك يتركون متابعة الكتب والرسل، ويتبعون لك ويقتفون أثرك، فيهم حينئذ خارجون عن زمرة عبادنا الصالحين، لا قون بك، مستحقون بما استحققت أنت وأعوانك من الجزاء { فإن جهنم } الطرد والحرمان وأنواع المذلة والخذلان حينئذ { جزآؤكم } تابعا ومتبوعا ضالا ومضلا { جزاء موفورا } [الإسراء: 63] أي: مستوفيا وافرا وافيا، لا مزيد عليها مؤيدا مخلدا.
{ و } بعدما سمعت جزاءك وجزاء من تبعك منهم { استفزز } أيها المطرود الملعون؛ ي: حرك، وزلزل عن موضع ثبوتهم وقرارهم على جادة التوحيد { من استطعت منهم } وتمكنت على إضلالهم عن طريق الحق { بصوتك } أي: بمجرد أن تصوت عليهم، فينحرفوا من غاية ضعفهم في الإيمان { و } إن لم تقدر، ولم تظفر عليهم بمجرد صوت لرسوخهم وتمكنهم في الجملة { أجلب } أي: سح وصوت { عليهم بخيلك } أي: بركبان أعوانك وجنودك { ورجلك } أي: بمشاتهم ورجالهم، وبالجملة: تمم، وأوفر جميع حيلك ومكرك مهما أمكنك حتى تستفزهم وتضعفهم من مقر الإيمان والعرفان.
{ و } إن شئت اتحادهم وإخاءهم { شاركهم في } جميع { الأموال } أي: علمهم السرقة الغضب وقطع الطريق والربا والحيل المشهورة المعروفة في هذا الزمن، بالحيل الشرعية التي وضعها المتفقهة المتفسقة، خذلهم الله من تلقاء نفوسهم الخبيثة الدنية { و } شاركهم أيضا في { الأولاد } أي: علمهم طريق الإباحةة والاستباحة وتحليل المحرمات المؤدية، إلى تخليط الأنساب وامتزاج المياه كما ابتدعها أهل التلبيس والتدليس من المتشيخة الذين هم من جنودك، أهلكهم الله وقهر عليهم، { و } إن شئت { عدهم } بالمواعيد الكاذبة التي مالت إليها نفوسهم واقضتت شهواتهم من ترك التكاليف والأعمال الشاقة من الفرائض والسنن والآداب والنوافل المقربة نحو الحق، والإنكار على النشأة الآخرة، وما يترتب عليها من الأمور المسئولة عنها، المؤاخذة عليه والجنة والنار { و } معلوم أن { ما يعدهم الشيطان } المغوي المضل { إلا غرورا } [الإسراء: 64] أي: تزيينا وتحسينا للباطل بصورة الحق وادعاء الحقية والحقيقة لهم؛ ليغريهم بها، ويضلهم عن طريق الحق.
وبالجملة: افعل بهم أيها الحريص على إضلالهم ما شئت من المكر والحيل والخداع، وهم إن كانوا من زمرة أرباب الاطمئنان الإيقان، المقررين في مقر التوحيد والعرفان، الموفقين عليه من عندنا، لا يتبعونك ولا يقبلون منك وساوسك وهذياناتك، وليس لك عليهم سلطان أصلا.
وإن كانوا من المطبوعين المختومين من عندنا، المجبولين على الضلال والغواية، فيتبعوك ويقتفوا أثرك، فلحقهم ما لحق بك، وهم من جنودك وأتباعك، وبالجملة:
من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
ثم قال سبحانه: { إن } خلص { عبادي } أضافهم سبحانه إلى نفسه؛ لكمال إخلاصهم واختصاصهم { ليس لك } أيها المضل المغوي { عليهم سلطان } أي: حجة واستيلاء تغلبهم بها بعدما اتخذوني خليلا وأخذوني كفيلا { وكفى بربك وكيلا } [الإسراء: 65] حفيظا يتوكلون عليه مخلصين، ويستعيذون نحوه من إغرائك وإغوائك أيها لطاغي ملتجئين.
وكيف لا يحفظم سبحانه، ولا يعذبكم أيها المؤمنون المخلصون عما يؤذيكم ويقصد مقتكم: { ربكم الذي يزجي } يسري ويجري { لكم الفلك } الجارية { في البحر } بتيسيره وتسهيله عناية منه إيااكم { لتبتغوا } وتطلبوا { من فضله } ما يوسع لكم طريق المعاش من أنواع التجارات والأرباح، واستخراج الجواهر منها، وغير ذلك { إنه } سبحانه من كمال جوده وسعة رحمته { كان بكم رحيما } [الإسراء: 66] مشفقا عطوفا، سيما بعد اتكالكم عليه سبحانه على وجه الأرض.
[17.67-75]
{ و } مما ارتكز في نفوسهم ورسخ في قلوبكم، أنكم { إذا مسكم الضر في البحر } بأن عرض لمركبكم ما يوجب كسرها وغرقها، وصرتم فيها حيارى سكارى، بحيث { ضل } وغاب عنكم { من تدعون } وتستغيثون منه لو كنتم في البر، وما معكم من الأمتعة والبضاعات { إلا } استعانتكم واستغاثتكم { إياه } سبحانه، فإنه بذاته لا يغيب عنكم، ولا يفارقكم؛ إذ هو أقرب إليكم من حبل وريدكم { فلما نجاكم } وخلصكم سبحانه من تلك المضائق الهائلة { إلى البر أعرضتم } عنه سبحانه ، وصرتم متعلقين بما معكم من الأمتة والأعراض { وكان الإنسان } في أصل فطرته خلق { كفورا } [الإسراء: 67] لأنعم الله
هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا
[المعارج: 19-20] نحو الحق
وإذا مسه الخير
كفورا
منوعا
[المعارج: 21] معرضا عنه منكرا له.
{ أ } أعرضتم عنه سبحانه بعد إنجائه وصلاخه إياكم { فأمنتم } عنه قهره وسخطه حين وصلتم إلى البر، مع أنه سبحانه قادرا على إهلاككم من البر أيضا، أما تخافون { أن يخسف بكم جانب البر } أي: يقلب عليك الأرض كما خسفها على قارون { أو يرسل عليكم } ريحا شديدا { حاصبا } ترميكم وترجمكم بحجارة كما رجمنا قوم لوط { ثم } بعدما أخذناكم في البر بأمثال هذه البليات { لا تجدوا لكم وكيلا } [الإسراء: 68] حفيظا يحفظكم عن أمثال هذه المصيبات، أو يشفع لكم بتخفيفها وكشفها.
{ أم أمنتم } أيها القاصرون عن إدراك قدر الله، وكما قدرته { أن يعيدكم } ويلجئكم إلى الرجوع { فيه } أي: في البحر { تارة أخرى } بأسباب ووسائ لا تخطر ببالكم { فيرسل عليكم } في الكرة الأخرى لأخذكم وانتقامكم { قاصفا } كاسرا { من الريح } لتكسر مركبكم { فيغرقكم } فيه { بما كفرتم } في اللكرة الأولى { ثم } بعد إرجاعنا إلى البحر، وإغراقنا فيه على نحو إنعامنا وإنجائنا ن قبل { لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } [الإسراء: 69] أي: لا تجدوا ناصرا ومعينا لكم، فيظهر علينا بأخذكم وانتقامكم، ويطالب منا قصاص ما فعلنا بكم؛ إذ لا راد لفعلنا، ولا معقب لحكمنا، نفعل ما نشاء ونحكم ما نريد.
ثم قال سبحانه على سبيل الإنعام والامتنان: { ولقد كرمنا } وفضلنا { بني ءادم } بأنواع الكرامة والتفضيل على سائر المخلوقات من حسن الصورة والسيرة واعتدال المزاج، واستواء القامة، والعقل المفاض المتشعب من العقل الكل الذي هو حضرة العلم الحضوري الإلهي، وكذا بالقدرة والإدارة، وسائر الصفات المترتبة على الصفات الذاتية الإلهية يشعر بخلافته ونيابته { و } مع ذلك { حملناهم في البر } بركوب النجائب من الخيل والبغال والبعير وغير ذلك، { و } في { البحر } بركوب الجواري والسفن { ورزقناهم من الطيبات } أي: الأطايب التي يكسبونها بأيديهم على مقتضى إقدارنا إياهم، وإعدادنا أسباب مكاسبهم معهم، وأبحنا لهم ما تستلذ به نفوسهم وتشتهي قلوبهم على وفق ما نطق به رسلهم وكتبهم.
و { و } بالجملة { فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } [الإسراء: 70] والقليل المستثنى هم الملائكة المقربون المهيمون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله، وإن كان الوالهون الهائمون من الإنسان في ولاء الله ومحبته، المكاشفون بسر الخلافة والنيابة التي أخبر بها الحق، الواصلون إلى مرتبة الفناء بالموت الأرادي، أفضل منهم أيضا، وأرفع رتبة ومكانة.
وإنما كرمناهم وفضلناهم بما فضلناهم؛ لحكمة ومصلحة تقتضيها ذاتنا، وهي أن نريد أن نطالع ذاتنا المتصفة لجميع أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال في مظهر تام كامل لمراتبنا وخلافتنا، وكرمناه لأجل هذه الحكمة العزيزة، فمن لم يبلغ منهم إلى هذه المرتبة العلية والدرجة السنية بسلوكه الذي أرشدناه وعلمناه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فه ونازل كل التنازل عن درجة الاعتبار، ساقط عن رتبة ذوي الألباب والأبصار.
بل أولئك البعداء الضالون عن منهج الرشاد كالأنعام بلا شعور إلى ما جبلوا لأجله، بل أضل سبيلا منها وأسوأ حالا ومآلا،
من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
اذكر يا أكمل الرسل للمكرمين المفضلين على سائر المخلوقات: { يوم ندعوا } نحشر { كل أناس } منهم؛ لنسألهم، ونطلب عنهم ما اكتسبوا، وحصلوا من المعارف والحقائق والأعمال المقربة إلينا باقتدائهم { بإمامهم } الذي نرسل إليهم، وننزل ع ليه من الرسل والكتب؛ لإرشادهم وإهدائهم مع أنا كتبنا منهم خيرهم وشرهم اللذين جاء كل منهم بهما في صحيفة، ونعطيهم اليوم صحائف أعمالهم { فمن أوتي كتابه } منهم { بيمينه } فهو دليل خيرية أعماله وطيب أحواله { فأولئك } المقبولون { يقرؤون كتابهم } فرحين بما فيها مسرورين، فيجازون على مقتضى ما كتب بل أضعافها وآلافها، عناية منا وفضلا { و } هم { لا يظلمون } ولا ينقصون من أجور أعمالهم { فتيلا } [الإسراء: 71] مقدار ما في ظهر النواة من الخط الأسود أو بين الأصابع من الوسخ المفتول.
{ و } من أوتي كتابه بشماله فهو علامة شرية أعماله، ورخامة حاله ومآله، فأولئك الأشقياء المردودون ينظرون إلى كتابهم، فيجدون ما فيها من أنواع المعاصي والآثام، فيغمضون عيونهم عن قراءتها آيسين محزونين، فيجازون على مقتضى ما كتب مثلا بمثل عدلا منه سبحانه؛ إذ { من كان في هذه } النشأة { أعمى } عن مطالعة آثار الأوصاف الذاتية الإلهية، وملاحظة عجائب صنعه وغرائب حكمته وبدائع تجلياته وتطوراته لحظة فلحظة { فهو في } النشأة { الآخرة } أيضا { أعمى } إذ النشأة الأولى مزرعات الخيرات، والأخرى وقت حصاده، فمن لم يزرع فيها، فهو وقت الح صاد خاسر مغبون أعمى عن وجدان الخيرات { وأضل سبيلا } [الإسراء: 72] لفوات أسباب التدارك والتلافي عنه، فيبقى متحيرا مدهوشا قلقا حائرا ضالا مستوحشا.
ثم قال سبحانه مخاطبا لحيبيه على وجه التنبيه والتأديب بعدما ظهر عليه مخايل الميل والركون عن الحق بمخادعة أهل الكفر والنفاق: { وإن كادوا } أي: أنهم؛ أي: الكفرة قاربوا { ليفتنونك } يا أكمل الرسل، ويوقعونك في الفتنة الشديدة يالميل والصرف { عن الذي أوحينآ إليك } وأنزلنا في كتباك من الأوامر والنواهي والأحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن، ويرغبونك { لتفتري علينا غيره } أي: غير ما أوحينا إليك { وإذا } أي: حين افترائك وانتسابك إلينا غير ما أوحينا إليك من الأمور التي تشتهيها نفوسهم وترتضيها قلوبهم { لاتخذوك خليلا } [الإسراء: 73] وآمنوا بك بواسطة انتسابك هذا.
نزلت في ثقيف حين قالوا: لا نؤمن بك حتى تخصنا بخصال نفتخر ونباهي على سائر العرب، لا نضن ولا نحشر ولا نجبي في صلواتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب: لم فعلت معهم هذا؟ فقل: إن الله أمرني وأوصاني بها، وانتظر أن تنزل آية فيها، فإن فعلت بنا هذه نؤمن بك ونصدقك ونتخذك خليلا، فتردد صلى الله عليه وسلم وقرب أن يميل ويركن لشدة ميله إلى إيمانهم واتباعهم، فجاء جبريل عليه السلام فمنعه عن هذا الرأي.
لذلك قال سبحانه: { ولولا أن ثبتناك } أي: ولولا إثباتنا وتثبيتنا إياك يا أكمل الرسل في مقر صدقك وتمكينك { لقد كدت } وقربت { تركن } وتميل { إليهم شيئا قليلا } [الإسراء: 74] أي: صوت في صدد الميل والركون إلى إنجاز ما أرداوا.
{ إذا } أي: حين إنجاحكم سؤلهم ومأمولهم { لأذقناك } في نشأتك هذه { ضعف الحياة } أي: ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأولى { وضعف الممات } أي: ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأخرى؛ يعني: نعذبك في الدنيا والآخرة بعضف عذاب من جاء به من سائر الناس؛ لأن جزاء الأبرار لو أتوا بالمعاصي والآثام ضعف جزاء الأشراء، بل أكثر؛ إذ لا يتوقع منهم الانصراف عن منهج الرشاد أصلا، ولو انصرفوا أخذوا بضعف من يتوقع منهم الانحراف والانصراف { ثم } بعد أخذنا إياك انتقامنا منك { لا تجد لك علينا نصيرا } [الإسراء: 75] أي: لا تجد ظهيرا لك نصيرا يظهر علينا بنصرتك، ويطالبنا بإنقاذك عن عذابنا.
[17.76-86]
{ وإن كادوا ليستفزونك } أي: وإن قاربوا؛ ليحركونك ويضطرونك بالنقل والجلاء { من الأرض } التي استقررت وتمكنت فيها؛ يعني: مكة { ليخرجوك منها } معللين بأن الأنبياء والرسل إنما بعثوا في أرض الشام وأرض المقدسة، خصوصا أجدادك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولادهم وأسباطهم. صلوات الله عليهم كلهم. بعثوا فيها، فلك أن تخرج إليها حتى نؤمن لك ونصدق برسالتك، وما ذلك إلا حلية وخديعة معك؛ ليخرجوك من مكة حتى تبقى رئاستهم معهم { و } لا تغتم يا أكمل الرسل ولا تحزن بالخروج منها، فإنك لو خرجت منها { إذا لا يلبثون خلافك إلا } زمانا { قليلا } [الإسراء: 76] وقد جرى الأم على مقتضى وعد الله سبحانه، فإنهم بعدما هاجر صلى الله عليه وسلم ببدر بعد مدة يسيرة.
وليس إخراجك يا أكمل الرسل عن مكة، وهلاكهم بعد خروجك منها ببدع منا مستحدث، بل من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة إهلاك الأمم الذين أخرجوا نبيهم المبعوث إليهم من بين أظهرهم عتوا وعنادا بل صار ذلك: { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } المبعوثين إلى الأمم الما ضية؛ أ ي: من سنتنا الموضوعة فيهم بالنسبة إلى أقوامهم، فكذلك حالك مع هؤلاء المعاندين المكذبين { و } بعدما استمر منا هذه السنة السنية { لا تجد } أنت وغيرك أيضا { لسنتنا } المنبعثة من كمال حكمتنا { تحويلا } [الإسراء: 77] أي: تغييرا وتبديلا؛ إذ لنا فيها حكم ومصالح مخفية استأثرنا بها لا اطلاع لك عليها، وإنما عليك التوجه والتقرب في جميع أوقاتك وحالاتك سيما في الأوقات المكتوبة.
{ أقم الصلاة } وأدم التوجه { لدلوك الشمس } أي: حين زوالها من الاستواء { إلى غسق اليل } أي: ظلمته بغروبها إلى حيث لم يبق من بقية آثار ضوئها شيء أصلا، فيسع في المحدود المذكور: الظهر والعصر والمغرب والعشاء على ما عينه الشرع لكل منها وقتا معينا { و } طول { قرآن } صلاة { الفجر } وأطل القيام فيها مع القراءة { إن قرآن الفجر } الذي هو وقت الانكشاف والانجلاء الصوري، المنبئ عن الانكشاف المعنوي والانجلاء الحقيقي، الذي هو عبارة عن إشراق نور الوجود واضمحلال الأظلال والعكوس المشعرة بالكثرة والغيرية.
لذلك { كان } قراءة القرآن المبين لسرائر الوحدة الذاتية، وكيفية سريانها على صفائح المكونات فيه { مشهودا } [الإسراء: 78] لخواص عباد الله من الملائكة والثقلين، بل لجميع الحيوانات من الوحوش والطيور؛ إذ الكل في وقت الفجر متوجهون نحو الحق، مسبحون مهللون حالا ومقالا.
{ و } إن شئت ازيداد القرب والثواب اسهر واستيقظ قطعة { من الليل } واترك النوم فيها طلبا لمرضاة الله { فتهجد به } أي: صل فيها صلاة التهجد يتطويل القراءة؛ لتكون { نافلة } زائدة { لك } على فرائضك مزيدة لقربك وكرامتك { عسى أن يبعثك } ويقيمك { ربك } بسعيك واجتهادك في تهجدك { مقاما محمودا } [الإسراء: 79] أي: مقاما من مقامات القرب ودرجات الوصال مسمى بالمقام المحمود؛ لأن كل من وصل إليه يحمد له؛ إذ لا مقام أرفع منه وأعلى منه وأعلى رتبة ومكانة.
وبعدما وصلت أيها السالك الناسك إليها لم يبق لك درجة الاستكمال والاسترشاد، بل صرت كاملا رشيدا وإن الهمت وأذنت من عنده سبحانه صرت مرشدا مكملا لأهل النقصان، شفيعا لهم عند الله بإذنه؛ لتنقذهم من لوازم الإمكان المفضي إلى دركات النيران، وتوصلهم إلى فضاء الجنان بتوفيق الله إياك وإياهم.
{ و } بعد وصولك لسيعك وجهدك وأنواع تهجدك، وإقامتك في خلال الليالي بتوفيق الله، وتيسيره على ما وصلت من المقامات العلية والمراتب السنية { قل } مناجيا إلى ربك ملتجئا نحوه طالب التمكن والتقرر في المقام الذي وصلت إليه بتوفيقه وتأييده: { رب } يا من رباني بأنواع اللطف والكرم { أدخلني } بفضلك وجودك { مدخل صدق } ومنزل قرار، وهو مقر التوحيد المسقط لأنواع الإضافات والكثرات، وخلدني فيه لا تذبذب وتلوين { وأخرجني } عن مقتضيات أنانيتي وهويتي إلى فضاء الفناء الموصل إلى شرف البقاء واللقاء { مخرج صدق } بلا تلعثم ونزلزل { واجعل لي } حين معارضة أنانيتي معي واستيلاء أمارتي علي { من لدنك سلطانا } أي: برهانا قاطعا وكشفا صريحا وشهودا تاما؛ ليكون { نصيرا } [الإسراء: 80] لمن ينصرني على أعدائي، ويخلصني من أيديهم حين هجومهم علي.
{ وقلا } بعدما تحققت وتمكنت في مقر الكشف والشهود: { جآء الحق } الصريح الثابت، ولاح الشمس الذات { وزهق } أي: تلاشي واضمحل { الباطل } أي: العكوس والأظلال الهالكة الباقية على عدماتها الأصلية { إن } العدم { الباطل } الزائل الزاهق الظاهر على صورة الحق { كان زهوق } [الإسراء: 81] في نفسه، مضمحلا في ذاته، باقيا علكى عدمه، وإن أوهم وخيل أنها موجودات متأصلات في الوجود، إلا أنها ما شم في رائحة منه سوى أن أشعة التجليات الوجودية الإلهية لاحت عليها، فيتراءى ما يتراءى، فظن المحجوب بأنها موجود،
من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
ومتى تحققت وتمكنت بمقامك المحمود وفزت، فزت من الحوض المورود { وننزل } عليك تعظيما لشأنك وتأييدا لأمرك { من القرآن } المبين الموضح لمراتبك العلية من التوحيد { ما هو شفآء } لمرض القلوب بسموم الإمكان في مضيق الحدثان، ومحبس الملوين من الموفقين بشرف متابعتك { ورحمة } نازلة { للمؤمنين } بكل المصدقين بدينك وكتابك؛ ليسترشدوا ويستكشفوا بما فيه من الرموز والإشارات قدر قابلياتهم واستعداداتهم كي يتفطنوا أو يتنبهوا بما فيه من السرائر المودعة المتعلقة بسلوك مسالك التوحيد { ولا يزيد الظالمين } الخارجين عن مقتضى حدوده وأحكامه استنكارا له واستكبارا { إلا خسارا } [الإسراء: 82] ووبارا لإخسار أعظم منه، وهو إبطالهم الحكمة التي جبلهم الحق لأجلها، ألا وهي المعرفة والتوحيد، وما ينتمي إلأيها من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المقبولة عند الله.
ثم أخبر سبحانه عن تمايل الإنسان وتلوينه وعدم رسوخه، وتمكنه بحال من الأحوال وعدم فطنته وذكائه بذاته، وكيفية افتقاره واختياره واحتياجه إلى الحق، وعدم تأمله في أمر مبدئه ومعاده، وكيفية ارتباطه بالحق في النشأة الأولى والأخرى فقال: { وإذآ أنعمنا } وأعطينا من كمال فضلنا وجودنا { على الإنسان } المجبولين على الكفران والنسيان ووسعنا له طرق معاشه { أعرض } عنا، وانصرف عن شكرنا وعن الالتجاء والارتجاء بنا عنادا واستكبارا { و } صار من إفراط عتوه إلى حيث { نأى } وتباعد { بجانبه } أي: طوى كشحه ولوى عطفه عنا، كأنه مستغن في ذاته، مستقل في أمره، بحيث لا يخطر بباله احتياجه إلينا، ولهذا تجبر واستعلى، وبالغ في الجدال والمراء إلى أن قال:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24].
{ وإذا مسه الشر } وأزعجه البلاء، وهجم عليه الشدة والعناء، وترادفت عليه الوقائع والمصيبات { كان } من قلبة تصبره وضعف يقينه وتدبره { يئوسا } [الإسراء: 83] عن روح الله، شديد القنوط عن سعة لطفه ورحمته، والطرفان؛ أي: إفراط الاستغناء والاستكبار، وتفريط اليأس والقنوط، كلامهما مذمومان محظوران عقلا وشرعا.
{ قل } يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة منبئا عن الاستقامة والعدالة مبنيا عليهما: { كل } من المحق والمبطل، والضال والمهدي { يعمل } ويعتدي { على شاكلته } وطريقته التي تشاكل وتشابه حاله ووقته إياها؛ إذ كل ميسر موقن من عندنا لما خلق له، سواء كان من رشد أو غي، أو ضلالة أو هداية، ولا علم لكم يا بني آدم على حقيقة الأمر والحال { فربكم أعلم } بعلمه الحضوري { بمن هو أهدى } وأقوم { سبيلا } [الإسراء: 84] وأوضح منهجا وأسد طريقا، فيوفقه على جهته ووجهته.
ثم قال سبحانه تأييدا لحبيبه صلى الله عليه وسلم وتعليما: { ويسألونك } يا أكمل الرسل؛ فوق النصارى واليهود وجميع أهل الزيغ والضلال { عن الروح } المتعلق بالأجساد المحيي لها ومحركها بالإدارة والاختيار، وإذا انفصل وافترق عنها مات، ولم يتحرك وانقطع الشعور والإدراك عنها؛ أي: يسألونك عن لميه وكيفية تعلقه وارتباطه بالأجسام، وكيفية انفصاله عنها { قل الروح } نفسه، وكيفية تعلقه بالأجسام وكيفية انفصاله عنها كلها صادرة ناشئة { من أمر ربي } أي: مما حصل بأمره الدال على تكوين المكونات، وهو قول: " كن " الدال على سرعة نفوذ قضائه.
وأما كمية المقضي وكيفية حصوله وانفصالهن فأمر استأثر الله به في غيبه، ولم يطلع أحدا عليه لذلك قا ل: { ومآ أوتيتم } يا بني آدم { من العلم } المتعلق بالورح { إلا قليلا } [الإسراء: 85] وهو أنيته وتحققه دون لميته وحقيقته؛ لأن اطلاع الإنسان على الأشياء إنما هو بقدر قابليته واستعداده، وليس في وسعه وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها وتكونها، فكيف حقيقة الروح، وكيفية تعلقها في البدن.
غاية ما في الباب أن المكاشفين من أرباب الأذواق ينكشفون في البدن، ويتفطنون منها أن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها إنما هي تلك السراية، هذا نهاية ما يمكن التكلم والتفوه عنه، وأما الاطلاع على كنهها، فأمر لا يسعه مقدرة البشر.
ثم قال سبحانه: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } أي: والله إن شئنا وأردنا إذاهب القرآن المرشد لقاطبة الأنام، لحككناه من المصاحف ومحوناه من الصدور والخواطر { ثم } بعد إذهابنا ومحونا { لا تجد لك به علينا وكيلا } [الإسراء: 86] أي: لا تجد ظهيرا معينا لك يطالبنا بمجيئه.
[17.87-96]
{ إلا رحمة } ناشئة { من ربك } يا أكمل الرسل نازلة إليك إن سألت منه سبحانه رده يرده تلطفا وعطفا { إن فضله } سبحانه { كان عليك كبيرا } [الإسراء: 87] مثل اصطفائك من بين البرية، وإرسالك إلى كافة الناس، وتأييدك ونصرك في عموم الأوقات، وغير ذلك.
ثم لما قال بعض المعاندين من الكفار الطاعنين في القرآن لو شئنا لقلنا مثل هذا القرآن الذي جئت به يا محمد، ونسبته إلى الله افتراء، نزل: { قل } لهم يا أكمل الرسل في جوابهم مقسما مؤكدا: والله { لئن اجتمعت الإنس والجن } واتفقوا معارضين { على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } الجامع لأحوال النشأتين، الواقع في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة لما حصل لهم الإيتان بمثله وهم فرادى، بل { لا يأتون بمثله } في الجامعية والبلاغية، واتساق اللفظ والمعنى، ومتانة النظم والفحوى { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [الإسراء: 88] أي: ولو كا نوا متظاهرين متعاضدين في إتيانه، لم يتأت أيضا منهم الإتيان، لكونه خارجا عن طوق البشر.
{ و } الله { لقد صرفنا } وكررنا { للناس في } حق { هذا القرآن } المعجز لفظا ومعنى { من كل مثل } موضح لهم إعجازه، وخروجه عن معرض معارضة البشر، وارتفاع شأنه عن القدح والطعن فيه { فأبى أكثر الناس } وامتنعوا عن قبوله، ولم يتفطنوا لإعجازه، ولم يزيدوا في حقه مع ظهور الدلائل والشواهد المكررة { إلا كفورا } [الإسراء: 89] جحودا وإنكارا بدل القبول واليقين بحقيته.
{ و } مع ظهور هذا المعجز المشتمل لما في العالم غيبا وشهادة، إجمالا وتفصيلا { قالوا } تعننتا اقتراحا: { لن نؤمن لك } ونصدق بكتابك { حتى تفجر } وتشقق { لنا من الأرض } أي: أرض مكة { ينبوعا } [الإسراء: 90] أي: عينا جارية نشرب منه ونزرع ونغرس على وجه العموم.
{ أو تكون لك } عليها على وجه الخصوص { جنة } أي: بستان مغروسة مملوءة { من نخيل وعنب } سهل السقي { فتفجر الأنهار خلالها } أي: أوسطها { تفجيرا } [الإسراء: 91] سهلا يسيرا، بحيث لا تكلف في سقيها أصلا.
{ أو } تأتي بآية ملجئة لنا إلى الإيمان بأن { تسقط السمآء كما زعمت } ونسبته إلى ربك بقوله:
إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء
[سبأ: 9] { علينا كسفا } أي: قطعة بعد قطعة حتى نؤمن لك { أو تأتي بالله } الذي ادعيت الرسالة والنبوة عنه، تعالى عن ذلك، { والملائكة } أي: وتأتي بالملائكة الذين ادعيت وساطتهم ورسالتهم بينك وبين ربك { قبيلا } [الإسراء: 92] أي: تأتي بهم بجماعة أو مقابلا عينا مشاهدا محسوسا.
{ أو يكون لك بيت } متخذ { من زخرف } أي: ذهب وفضة مكللة بجواهز نفيسة { أو ترقى } وتصعد على رؤوس الأشهاد { في السمآء } بلا أسباب ووسائل { و } بعد صعودك وعروجك { لن نؤمن لرقيك } أي: لن نؤمن لك ونصدق بمجرد رقيك وعروجك { حتى تنزل علينا كتابا } أي: مكتوبا من عند ربك مشتملا على أسامينا ودعوتك إيانا إلى الإيمان وتصديقنا بك { نقرؤه } بين أظهرنا ونؤمن بك بأجمعنا { قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما سمعت منهم هذه المقترحات التي ليس في وسعك وطاقتك متعجبا متنزها مستبعدا: { سبحان ربي } وتعالى من أن يشارك في قدرته فإن أمثال هذه المقترحات، إنما تصدر منه سبحانه وتعالى أصالة، أو في خلقه وإظهاره في بعض عباده إن تعلق إرادته، ولم يخلق في بل { هل كنت } أي ما كنت { إلا بشرا } ضعيفا كسائر الناس، غية الأمر أني بوحي الله وإلهامه علي صرت { رسولا } [الإسراء: 93] كسائر الرسل، وقد كانوا أيضا إلا ما يسر الله لي.
{ وما منع } وصرف { الناس } عن { أن يؤمنوا } ويهتدوا وقت { إذ جآءهم الهدى } أي: الرسول الهادي المرشد إياهم ويرشدهم إلى طريق التوحيد والعرفان { إلا أن قالوا } أي: قولهم هذا على سبيل الاستبعاد والاستنكار: { أبعث الله } العليم الحكيم المتقن في أفعاله { بشرا } متصفا بأنواع الجهالات، منغمسا بأنواع الكدورات { رسولا } [إلإسراء: 94] إلى بشر م ثلهم؛ ليهديهم إلى الكمال ويهذبهم عن النقصان؟! كلا وحاشا بل إن أرسل الله رسولا إلى هداية عباده، فالمناسب إرسالك الملك لكونه صافيا عن الكدورات الجسمانية مطلقا.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: لا بد بين المفيد والمستفيد من المناسبة والملاءمة المصححة لأمر الإفادة والاستفادة { لو كان في الأرض ملائكة } سماويون نازلون منها إليها لمصلحة { يمشون } عليها { مطمئنين } متمكنين { لنزلنا عليهم } حين احتياجهم إلى الإرشاد والتكميل { من السمآء ملكا } مجانسا لهم { رسولا } [الإسراء: 95] إياهم، ويرشدهم ويهديهم بمقتضى مجانستهم ومناسبتهم.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما آيست عن إيمانهم وصلاحهم: { كفى بالله } أي: كفى الله { شهيدا } مثبتا لرسالتي عليكم بإظهار أنواع المعجزات على يدي قاطعا للنزاع الواقع { بيني وبينكم إنه } سبحانه بذاته وبحضرة علمه { كان بعباده } وبجميع ما صدر عنهم من الأعمال على التفصيل { خبيرا بصيرا } [الإسراء: 96] ذا خبرة وبصارة كاملة؛ بحيث لا يشذ! من أحوالهم شيء من علمه وخبرته، فيجازيهم بكمال قدرته على مقتضى علمه وخبرته.
[17.97-104]
{ و } بعد ما ثبت أن أمرهم موكول إلى الله وحالهم محفوظ عنده { من يهد الله } الهادي وتعلق إرادته بهدايته { فهو المهتد } أي: هو مقصور على الهداية لا يتعداها أصلا { ومن يضلل } الله، وتعلق مشيئته بضلاله { فلن تجد } يا أكمل الرسل { لهم أوليآء من دونه } أي: من دون الله يوالونهم، ويظاهرون عليهم، وينقذونهم من بأس الله وبطشه بعدما أخذتهم العزة بإثمهم { و } لذلك { نحشرهم } ونبعثهم { يوم القيامة } بعد تنقيد أعمالهم منكبين منكوسين { على وجوههم } تنفيذا لأحكامنا؛ يعني: يسحبون ويجرون نحو جهنم البعد والخذلان { عميا } لكونهم في النشأة الأولى أعمى من رؤية الحق في المظاهر والأعيان { وبكما } لكونهم صامتين ساكتين عما ظهر لهم من دلائل التوحيد عنادا ومكابرة { وصما } لكونهم أصمين عن استماع كلمة الحق من ألسنة الرسل ووراثهم؛ أي: العلماء، لذلك صار { مأواهم } ومنزلهم { جهنم } الطرد والحرمان المسعر بنيران الخذلان والخسران، وصارت من كمال سعرها إلى حيث { كلما خبت } وسكنت لهب نارها بعدما أكلت جلودهم ولحومهم { زدناهم } جلودا ولحوما مثل جلودهم ولحومهم، بل عينه؛ يعني: كلما انمحت جلودهم ولحومهم نعيدهم على ما كانوا لتصير { سعيرا } [الإسراء: 97] ذا شرر والتهاب مفرط، بعدما وجدت ما تأكل، والسر في تكرارها وإعادتها: إنكارهم للحشر وأعادة المعدوم بعينه.
{ ذلك } الذي سمعت من العذاب { جزآؤهم } أي: جزاء المنكرين الكافرين، وإنما عذبناهم بها { بأنهم } أي: بسبب أنهم { كفروا بآياتنا } الدالة على الحشر الجسماني { وقالوا } منكرين مستبعدين: { أءذا كنا عظاما و } صرنا { رفاتا } أي: هباء وغبارا { أءنا لمبعوثون خلقا } أي: مخلوقا موجودا { جديدا } [الإسراء: 98] مثل المخلوق الأول؟! كلا وحاشا.
{ أ } ينكرون الحشر وإعادة المعدوم بعينه، ويصرون على الإنكار أولئك المعاندون { ولم يروا } ولم يعلموا { أن الله } القادر المقتدر { الذي خلق السموت والأرض } خلقا إبداعيا اختراعيا بلا سبق مادة وزمان { قادر على أن يخلق مثلهم } بعد إعدامهم وموتهم، مع أن الإعادة أسهل وأيسر من الإنشاء والإبداء { و } لم يعلموا كيف { جعل } أي: صير وقدر { لهم أجلا } معينا { لا ريب فيه } متى وصلوا إليه ماتوا؛ بحيث لا يسمع لهم طالب التقديم والتأخير أصلا، ومع وضوح هذه الدلائل والشواهد { فأبى } وامتنع { الظالمون } الخارجون عن مقتضى العقل والنقل عن قبول الحق وتصديق الحق المطابق، للواقع، ما يزيدهم وروده ووضوحه { إلا كفورا } [الإسراء: 99] أي: جحودا وإنكارا للحق لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم، متوهمين نفاد قدرة الله عند مراده وانقضاء تمكينه واقتداره لدى المقدور.
{ قل } للمنكرين المتوهمين نفاد قدرة الله وانصرام حوله وقوته عن مراده: لا تقيسوا الغائب على الشاهد، ولا تتوهموا الشح والبخل والعجز والاضطرار في حق الله بل الكل هو من أوصافكم وخواصكم؛ إذ { لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي } مع سمعتها وعدم نفادها وتناهيها أصلا { إذا لأمسكتم } وبخلتم { خشية الإنفاق } أيك مخافة النفاد بالإنفاق بلا وضع شيء بدل ما ينفق { وكان الإنسان } خلق في أصل فطرته { قتورا } [الإسراء: 100] ممسكا لازدحام لوازم الإمكان الافتقار فيه؛ إذ هو أحوج المظاهر وأبعدهم عن الوحدة الذاتية؛ لأنه آخر نقطة قوس الإمكان، وهي نهاية الكثرة، وصار أول نقطة قوس الوجوب إن انخلع عن ملابس الإمكان، وتجرد عنها بالمرة بلا شوب شين ونقصانس.
{ و } من جملة كفورية الإنسان وفتوريته: أنا { لقد آتينا } من سعة رحمتنا وكمال حولنا وقدرتنا { موسى } المؤيد من عندنا { تسع آيات } أي: معجزات { بينات } واضحات دالة على صدقة في رسالته وحقيته في نوبته، وهي: العصا واليد البيضاء والجراد والقمل والضفادع ةالدم، وانفجار الماء من الحجر وانفلاق الحر ونتق الجبل فوقهم.
وإن شئت يأ أكمل الرسل زيادة إيضاح وإلزام المشركين اليهود { فسئل بني إسرائيل } أي: بقية أخبارهم؛ ليخبروك وقت { إذ جآءهم } موسى { فقال له فرعون } بعدما رأى منه ما رأى من الخوارق بدل من الإيمان الإطاعة { إني لأظنك يموسى } بعدما جئت بسحر عظيم وكيد كبير، وهو وإن كان من العقل والدارية: اعتقدك { مسحورا } [الإسراء: 101] مجنونا مخبطا مختل العقل بادعائك الرسالة والنبوة من خالق السماء ونزول الملك والمصحف إليك من عنده مع انسداد الطرق وانعدام السبل.
ثم لما سمع موسى من فرعون ما سمع آيس من إيمانه وقنط { قال } موبخا مقرعا: والله { لقد علمت } يقينا أن { مآ أنزل هؤلاء } الآيات القاهرة الباهرة إلي { إلا رب السموت والأرض } لكونها خارجة عن وسع غيره مطلقا، وعلمت أيضا أنه ما أنزله إلا { بصآئر } أي: بينات وشواهد دالة على صدقي في دعواي لتبصرك، وتوقظك عن مقام غفلتك، وتتفطن بها لأصل فطرتك وجبلتك { وإني } بعدما بالغت في تبليغ ما جئت من الهداية والإرشاد { لأظنك } وأعتقدك { يفرعون } المتناهي في الغفلة والغرور { مثبورا } [الإسراء: 102] مصروفا عن الخير مطرودا عن ساحة عز الحضور، مجبولا على الشر ودواعيه.
وبعدما رأى فرعون من موسى ما رأى من المعجزات الواضحات، خاف أن يميل إليه قومه ويؤمنوا له { فأراد } فرعون { أن يستفزهم } أي: بني إسرائيل، ويستأصلهم بأن يحركهم أولا { من الأرض } أي: أرض مصر، ويفرقهم بحيث لا يتأتى منهم المقاومة معه أصلا، ثم يأمر بقتل كل فرقة منهم مكرا منه وكيدا، فمكرنا له قبل مكره إياهم { فأغرقناه ومن } كانوا متفقين { معه } في مكره وكيده { جميعا } [الإسراء: 103] حين أمرنا موسى ومن معه بالفرار ليلا، فأخبر وأتبع أثره، فلقي موسى البحر وهو على عقبه، فأمرنا موسى بضرب البحر بالعصا، فضربه فانفلق وافترق وتشعب، فمر به موسى وأصحابه سالمين، فلقي فرعون على البحر الفور، فرأى البحر مفترقا فاقتحموا مغرورين، فأغرقناهم أجمعين بعدما أمرنا البحر بالخلط والاجتماع على ما كان.
{ وقلنا من بعده } أي: انقراض فرعون وانقضائه { لبني إسرائيل } على سبيل التوصية والتذكير في كتابنا المنزل عليهم، وهو التوراة { اسكنوا الأرض } التي أراد فرعون أن يستفزكم منها بالقهر والغلبة، آمنين صالحين مؤمنين بما أرسل إليكم وأنزل عليكم، عاملين بمقضتى أوامرنا ونواهينا { فإذا جآء وعد الآخرة } وقيام الساعة { جئنا بكم لفيفا } [الإسراء: 104] ملتفين مختلطين سعداؤكم مع أشقياءكم، فنميز بينكم، وندخلكم منزل الشقاوة والسعادة.
[17.105-111]
ثم قال سبحانه في حق القرآن ونزوله وعظم قدر من أنزل إليه: { وبالحق أنزلناه } أي: ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المطابق للواقع بلا عروض الباطل عليه أصلا { وبالحق نزل } أي: ما نزل فيه من الأحكام والأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات والمعارف والحقائق، كلها نزل بالحق الصريح الثابت الخالص عن توهم الباطل مطلقا { و } أيضا { مآ أرسلناك } يا أكمل الرسل على كافة البرايا { إلا مبشرا } بالحق للمؤمن المطيع بأنواع الخيرات واللذات الروحانية المعنوية { ونذيرا } [الإسراء: 5] بالحق للكافر الجاحد عن أنواع العذاب العقاب الجسمانية والروحانية، وأرسلناك عليهم؛ لتكون داعيا لهم إلى التوحيد والعرفان تاليا لهم.
{ وقرآنا } فرقانا بين الحق والباطل والهداية والضلال { فرقناه } أي: فرقنا إنزاله مفرقا منجما { لتقرأه على الناس } لدى الحاجة { على مكث } مهل وتؤدة، فإنها أسهل وأيسر للحفظ والفهم { ونزلناه تنزيلا } [الإسراء: 106] على حسب الوقائع ومقتضى الزمان والمورد في عرض عشرين سنة.
{ قل } يا أكمل الرسل للطاعنين في القرآن، المائلين عن حقيته جهلا وعنادا على سبيل التهديد والتوبيخ: { آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي: سواء منكم الإيمان بالقرآن وعدم الإيمان به؛ لأنكم جهلاء عما فيه من الحقائق والمعارف، غفلاء عن الرموز والإشارات المودعة فيه، فتصديقكم وتكذيبكم لا يجدي نفعاص، ولا يورث ضرا، إنما العبرة لذوي الخبرة { إن الذين أوتوا العلم } من لدن حكيم عليم بحقية ما فيه، وما في جميع الكتب الإلهية، وهم الأنبياء والأولياء المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان، كانوا يؤمنون به ويصدقون به { من قبله } أي: قبل نزوله، وبعد نزوله كذلك { إذا يتلى عليهم يخرون } ويسقطون { للأذقان سجدا } [الإسراء: 107] متذللين، واضعين جباههم وأذقانهم على تراب المذلة تعظيما لأمر الله، وشكرا له لإنجازه وعده.
{ ويقولون } في حين سجودهم منزهين مسبحين: { سبحان ربنآ } وتعالى عن أن يأتي الخلف فيما عهدنا، أو عن أن يعجز عن إتيان ما وعدنا { إن كان وعد ربنا لمفعولا } [الإسراء: 108] أي: إنه كان وعد ربنا إلى وعدنا به في الكتب السالفة من إرسال رسول بأوصاف مخصوصة مع كتاب جامع لما في الكتب السالفة، ناسخ لها، خاتم للرسالة العامة والتشريع الشامل، لذلك صار دينه ناسخا لجميع الأديان، فقد أنجز سبحانه وعده بإرسال هذا النبي الأمي الموعود.
{ ويخرون } أيضا العالمون العارفون بحقية القرآن بعد تأملهم، وتوغلهم في حكمه وأحكامه وحقائقه ومعارفه { للأذقان } حال كونهم { يبكون } من خشية الله { و } بالجملة: { يزيدهم } التأمل والتدبر فيه على وجه التدقيق والتعمق { خشوعا } [الإسراء: 109] وخضوعا؛ لاطلاعهم على سرائر شهدت بها أذواقهم، وذاق حلاوتها وجدانهم وسرائرهم.
{ قل } يا أكمل الرسل للمحجوبين الغافلين عن سر سريان الوحدة الذاتية الإلهية في المظاهر كلها والمجالي برمتها: { ادعوا الله } أي: سمو الذات الأحدية باسم الله المستجمع لجميع الصفات إجمالا { أو ادعوا الرحمن } أي: سموه باسم الصفات التي اتصفت بها الذات الأحدية تفصيلا { أيا ما تدعوا } وتسموا من أسماء الذات والصفات { فله } أي: لله المنزله عن سمة الكثرة والحدوث مطلقا، ووصمه الشركة والتعدد رأسا عن { الأسمآء الحسنى } الكاملة الدالة على أحدية ذاته، غايته في الباب أنها باعتبار شؤونه وتجلياته، إذ الاسم والمسمى كلاهما يتحدان عن سقوط الإضافات ورفع التعينات؛ إذ لا يتصور التعدد دون جنابه إلا وهما واعتبارا.
{ و } إذا كان الكل من المسميات راجعة إلى الذات الأحدية بعد رفع التعينات وسقوط الإضافات { لا تجهر } أيها العارف المتمكن في مقام التوحيد، الراشح فيه بلا تلوين وتقييد ولا تعقل { بصلاتك } وميلك نحو الحق بوحا وشطحا، ولا تقل في حال صحوك إفاقتك كلام أرباب السكر والحيرة { ولا تخافت بها } أيضا خيفة وشحا على ذوي الاستعداد الاسترشاد { وابتغ } وأختر يا صاحب التمكين { بين ذلك سبيلا } [الإسراء: 110] مقتصدا معتدلا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط؛ إذ الخير في كل الأمور أوسطها وأعدلها.
{ وقل } بعدما تحققت وتمكنت في مقر التوحيد شكرا لما أنعمك الحق الوصل إليه، وأمكنك التحقق دونه والورود عليه: { الحمد لله الذي } توحد بذاته ونقدس بأسمائه وصفاته، وتفرد بألوهيته، واستقل بوجوده وربوبيته إلى حيث { لم يتخذ ولدا } يخلف عنه لكونه صمدا قيوما أزليا سرمديا، لا يعرضه الفناء ولا يعتريه الانصرام والانقضاء { ولم يكن له شريك في الملك } والملكوت يظاهره أو يزاحمه ويخاصمه؛ إذ لا شيء في الوجود سواه { ولم يكن له ولي } يولي أمره ويعين عليه حين ما لحقه { من الذل } المسقط لعزه الأصلي وعظمه الحقيقي الأزلي؛ إذ لا تغير ولا تبدل في ذاته أصلا.
{ و } بالجملة: { كبره تكبيرا } [الإسراء: 111] ذاتيا حقيقيا وعظمه تعظيما صوريا ومعنويا؛ إذ لا وجود للغير معه حتى يتصور هناك النسبة والإضافة، بل هو أجل وأكبر لذاته بلا توهم الإضافة فيه.
اهدنا بفضلك سواء سبيلك إلى توحيدك، واجعلنا من زممرة أرباب تمييزك وتمجيدك.
خاتمة السورة.
عليك أيها الموحد المحقق في مقام تمجيد الحق وتحميده. مكنك الله بما أوصاك إليه وقررك دونه. أن تعظم الحق غاية التعظيم، وتكبره كمال التكبير والتكريم، واعلم أن تعظيمه إنما هو بتعظيم مظاهره ومجاليه؛ إذ ما من ذرة من ذرائر الكائنات إلا وقد ظهر الحق فيه، وتجلى عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فلك أن تتواضع وتتذلل عند المظاهر طوعا ورغبة ، ولا تتكبر عليها، ولا تتعظم دونها؛ إذ التكبر والتفوق على ذرة صغيرة من أمارات عدم الوصول إلى مرتبة اليقين الحقي ومقر التوحيد الحقيقي.
وذلك إنما يحصل لك بعد رفع مقتضيات أوصافك البشرية بموتك الإرادي الاختياري، وهو إنما يحصل بالرياضات الشاقة القالعة لدرن الهوى والغفلات، وترك العادات الراسخات في نفوس أصحاب الجهالات، والركون إلى العزلة والخلوات، والانقطاع عن رسوم أصحاب التخمينات والتقليدات، والتبتل نحو الحق في عموم الأوقات والحالات.
وفقنا الله وإياكم سلوك طريق التوحيد، ورزقنا الوصول إلى منزلة التجريد والتفريد، وجعلنا من زمرة أهل المحبة والولاء الوالهين في مقام التمجيد والتحميد، إنك قريب مجيب حميد مجيد.
[18 - سورة الكهف]
[18.1-8]
{ الحمد } المشتمل المتضمن على عموم الاثنينية والتوصيف بالأوصاف الجميلة حقيق لائق { لله } أي: للذات المستجمع لجميع مراتب الكمال، المستحق لجميع المحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا؛ لأنه { الذي أنزل على عبده } المستجمع لجميع مرابت الكمال، المستظل بظل الألوهية، المستحق لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحاه بالأصالة؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.
{ الكتاب } الجامع لجميع أوصاف الكمال إجمالا وتفصيلا، المشتمل لعموم الأحكام المتعلقة لها، المترتبة عليها في النشأة الأولى والأخرى، مع كونه محتويا على ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي، مع زيادات خلت عنها تلك الكتب من الرموز والإشارات المتعلقة بالتوحيد الذاتي المسقط لعرق الإضافات والكثرات مطلقا { و } بين لهم فيه طريق التوحيد الذاتي على الوجه الأبلغ الأقوم؛ بحيث { لم يجعل له عوجا } [الكهف: 1] وانحرافا في تبيينه.
بل جعله { قيما } مستقيما معتدلا بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا، وإنما أنزله إلى عبده وحبيبه صلى الله عليه وسلم { لينذر } بإنذاراته الكافرين الذين كفروا بالله وجحدوا في توحيده، وعملوا السيئات المبعدة عن طريق النجاة { بأسا شديدا } وعذابا أليما عظيما صادرا { من لدنه } أي: من عند الله العزيز المنتقم بطشا لهم وانتقاما منهم { ويبشر } أيضا بتبشراته { المؤمنين } الموحدين { الذين يعملون الصالحات } المقربة لهم إلى مرتبة التوحيد الصادرة عنهم على مقتضى يقينهم وعرفانهم { أن لهم } أي: أن لهم { أجرا حسنا } [الكهف: 2] هو التحقق بشرف اللقاء والفوز بمطالعة جمال الله والاستغراق بملاحظة وجهه الكريم.
{ ماكثين فيه } أي: في الأجر الحسن دائمين { أبدا } [الكهف: 3] مؤيدا مخلدا بلا تبديل وتغيير، مزيدين المحبة واللذة والشوق، متعطشين إلى زلال التفريد بلا رواء أصلا، كما أخبر سبحانه عن حال أولئك الوالهين بقوله:
" ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي ".
{ وينذر } أيضا أشد إنذار بأسوأ عذاب ووبال { الذين قالوا } من فرط إسرافهم في الشرك والجحود وهم اليهود والنصارى: { اتخذ الله } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الأهل والولد { ولدا } [الكهف: 4] حيث قال اليهود، عزير ابن الله، والنصارى: المسيح ابن الله.
مع أنه { ما لهم به } بالله باتخاذه ولدا { من علم } يقين أو ظن متعلق به وبمعناه، وبما يترتب عليه من النقص المنافي لوجوب الوجود؛ إذ اتخاذه إنما هو للإخلاف والمظاهرة والتزيين، وكلاهما محالان على الله لا يليقان بجنابه، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا { ولا لآبائهم } يعني: وإن ادعوا في إثبات الولد لله تقليد الآباء والأسلاف، فليس لهم أيضا علم بنقصه وعدم لياقته بجناب الحق المنزل المقدس في ذاته عن أمارات النقصان وعلامات الإمكان.
وبالجملة: { كبرت } أي: جلت وعظمت في الكفر وسوء الأدب مع الله { كلمة } أي: مقالتهم هذه مع أنها { تخرج من أفواههم } هفوة بلا علم وتأمل، بل { إن يقولون } أي: ما يقولون ويقصدون بقولهم هذا { إلا كذبا } [الكهف: 5] وافتراء يفترونه على الله، وينسبونه إلى كتابهم ظلما وزورا.
وبعدما كان حالهم في الافتراء والمراء على هذا المنوال، وشدة غيظهم وشكيمتهم مع الله على هذا المثال: { فلعلك } يا أكمل الرسل بمحبتك ومودتك إيمانهم وانقيادهم، وبرجائك وتحننك إلى بيعتهم ومتابعتهم { باخع نفسك } أي: قاتلها ومهلكها { على آثارهم } عندما انصرفوا عنك وذهبوا { إن لم يؤمنوا } أي: إن هم لم يؤمنوا ولم يصدقوا { بهذا الحديث } اي: القرآن { أسفا } [الكهف: 6] يعني: أهلكت نفسك بكثرة التأسف والتحزن على ذهابهم وانصرافهم عنك، وعدم إيمانهم وانقيادهم بك، وإن بعثك وحداك إلى إيمانهم واتباعهم غناهم ورئاستهم وترفههم وجاههم وثروتهم وسيادتهم بين الناس، فاعلم أنه لا اعتداد لها ولا اعتبار بما يترتب عليها.
{ إنا جعلنا ما على الأرض } من الأصول الثلاثة التي هي الحيوان والنبات والمعدن، وما يتفرع عليها من أنواع اللذات والشهوات الجسمية الوهمية { زينة لها } أو زخرفة عليها { لنبلوهم } ونختبرهم أي: أرباب التكاليف والتدابير، المجبولين على فطرة المعرفة والتوحيد { أيهم أحسن عملا } [الكهف: 7] وأتم رشدا وعقلا في الإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها والاجتناب عن لذاتها الوهمية التي هي على التقضي والانصرام، وشهواتها المورثة لأنواع الحزن والآلام وأمانيها، المستلزمة لأصناف الجرائم والآثام، مع أن الضروري منها كن حجرة، ولبس خرقة، وسد جوعة، وباقيها حطام ليس لها دوام، مورثة لآثام وآلام.
{ و } متى علمت أن ما في الأرض ليس إلا زينة وزخرفة ستفنى وتفوت عن قريب، فاعلم يقينا { إنا } بشدة حولنا وقوتنا، وكمال قدرتنا وسطوتنا { لجاعلون } أي: مصيرون مبدلون جميع { ما عليها } من الذخائر والزخارف { صعيدا } ترابا مرتفعة أملس { جرزا } [الكهف: 8] خالية منقطعة من النبات بحيث لا تنبت أصلا.
[18.9-16]
أعجبت واستبعدت عن كمال قوتنا وقدرتنا بجعل ما على الأرض صعيدا جرزا؟ { أم حسبت } وشككت { أن أصحاب الكهف } أي: قصتهم وشأنهم. والكهف هو: الغار الواسع في الجبل. { والرقيم } هو اسم الجبل الذي فيه الغار، أو اسم الوادي الذي فيه، أو اسم قريتهم، أو كلبهم، أو لوح رصاصي أو حجري، رقم أو رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف، أو أصحاب الرقيم قوم آخرون على اختلاف الأقوال والروايات.
وبالجملة: { كانوا من آياتنا } الدالة على كمال قوتنا وقدرتنا { عجبا } [الكهف: 9] أي: آية يتعجب منها الناس، ويستبعدون وقوعها مع أنه لا شك في وقوعها؛ إذ بلغت من التواتر حدا لا يتوهم فيها الكذب قطعا؛ إذ أمثال هذا في جنب قدرتنا الكاملة وقوتنا الشاملة سهل يسير.
ولو رفعت أيها المعتبر المتأمل الإلف والعادة عن البين، وطرحت تكرر المشاهدة والمؤانسة عن العين، لكان ظهور كل ذرة من ذرائر العالم في التعجب والاستعباد وكمال الغرابة البداعة مثل هذا، بل أغرب وأعجب من هذا، فلك أن تراجع وجدانك وتتأمل أمرك وشأنك حتى تجد في نفسك عجائب وغرائب يدهش منها عقلك وينحسر رأيك وفهمك ويكل إدراكك، وبالجملة: استغرقت في بحر الحيرة والدهشة من نفسك فكيف من غيرك.
أذقنا بلطفك حلاوة مطالعة مبدعاتك ومشاهدة مخترعاتك بنظر العبرة والحضور.
اذكر يا أكمل الرسل قصة أصحاب الكهف وقت { إذ أوى } أي: التجأ ورجع { الفتية } الخمسة أو السبعة أو الثمانية من أشراف الروم ورؤسائهم، دعاهم ملكهم دقيانوس إلى الشرك، وهم موحدون في أفسهم، فأبوا وهربوا منه { إلى الكهف } ملتجئين { فقالوا } مناجين مستغيثين من الله: { ربنآ } يا من ربانا بأنواع اللطف الكرم وفقنا بشرف توحيدك وتقديسك { آتنا } بفظلك وجودك { من لدنك } لا بسبب أعمالنا ومتقضياتها { رحمة } تنجينا عن يد عدونا وعذابه، وعن وبال ما دعانا إليه من الكفر والعصيان { وهيىء لنا } أسباب معاشنا حين كنا فارين من العدو وملتجئين إليك، مستعيذين بكنفك وجورك ووفق علينا { من أمرنا } الذي نعمل لمرضاتك ولوجهك الكريم { رشدا } [الكهف: 10] أي: هداية توصلنا إلى زلال توحيدك آمنين فائزين بلا خوف وخطر، فاستجبنا لهم مناجاتهم وأعطيناهم حاجاتههم.
وبعدما دخلوا الكهف ملتجئين بنا متضرعين { فضربنا } وختمنا { على آذانهم } حين كانوا راقدين { في الكهف } حجابا غليظا يمنعهم سماع الأصوات ملطقا وأنمناهم على هذا الوجه { سنين عددا } [الكهف: 11] بلا طعام ولا شراب ولا شيء من أسباب المعاش، وهم أحياء في صور الأموات، منقطعين عن لوازم الحياة مطلقا سوى الأنفاس تجيء وتذهب.
{ ثم بعثناهم } وأيقظناهم من منامهم بعث الموتى للحشر { لنعلم } أي: نجرب ونميز { أي الحزبين } المختلفين بعدما اختلفوا في مدة لبثهم { أحصى } أي: أضبط وأحفظ { لما لبثوا } من المدة { أمدا } [الكهف: 12] يعني: أيهم أحفظ ضبطا لمدة رقودهم في الكهف، فكلا الفريقين.
أي: اليهود والنصارى. لا يعلمان مدة لبثهم حقاا مطابا للواقع.
بل: { نحن نقص } من مقا مفضلنا وجودنا { عليك } يا أكمل الرسل { نبأهم } أي: خبر مدة لبثهم ملتبسا { بالحق } الثابت الصحيح المطابق للواقع { إنهم فتية } أي: شبان من أرباب الفتوة والمروءة، وفقوا من عند الله بالعقل الكامل والرشد التام إلى أن { آمنوا } وأذعنوا { بربهم } أي: بتوحيد مربيهم باستعمالهم عقولهم الموهوبة لهم إلى دلائل توحيده { وزدناهم } من لدنا بعدما أخذوا بالتأمل والتدبر في آياتنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال أوصافنا { هدى } [الكهف: 13] وزيادة رشد تفضلا وامتنانا.
{ و } ثبتناهم في الهداية والتوحيد بأن { ربطنا على قلوبهم } محبة الإيمان والعرفان، واذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قاموا } بين يدي دقيانوس الظالم الطاغي حين دعاهم إلى الشرك والكفر على رءوس الملأ، وبعدما سمعةا منه دعوته { فقالوا } بلا مبالاة له ولسطوته وشوكته: { ربنا } الذي أظهرنا من كتم العدم، وأوجدنا في فضاء الوجود { رب السموت والأرض } أي: هو رب العلويات والسفليات الغيب والشهادة والظاهر والباطن، أوجد الكل بوحدته واستقلاله في التصرف والاستيلاء بلا مشاركة مشير ومظاهرة ظهير، هو مستحق للألوهية والربوبية { لن ندعوا } ونعبد { من دونه إلها } باطلا؛ ذ لا مستحق لعبادة إلا هو، والله لئن دعوتنا إلها سواه { لقد قلنا إذا شططا } [الكهف: 14] أي: قولا ذا بعد عن الحق والتحقيق بمراحل، وصرنا حينئذ مغمورين في الشرك والكفر وأنواع الضلال والطغيان، عصمنا الله منها.
ثم قالوا على وجه التعريض والتسفيه: { هؤلاء } الضالون عن منهج الرشاد ومسلك السداد { قومنا اتخذوا } من غوايتهم وضلالهم { من دونه } سبجانه { آلهة } باطلة أي: أصناما وأوثانا يعبدونها لعبادة الله { لولا } أي: هلا { يأتون عليهم بسلطان بين } أي: بحجة واضحة وبينة لائحة ومعجزة باهرة، صادرة من قبلهم دالة على لياقتهم الألوهية والربوبية، فإن لم يأتوا فهم حينئذ مفترون على الله بإثبات الشريك له { فمن أظلم } وأطغى وأضل { ممن افترى على الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية بإثبات الشريك له، سيما أمثال هذه التماثيل العاطلة { كذبا } [الكهف: 15] مخالفا للواقع، بلا مستند عقلي أو نقلي، بل ظلما وزورا.
{ و } بعدما جرى بينهم وبين دقيانوس ما جرى، قال بعض الفتية لبعضهم: قد وجب علينا الآن الاعتزال منهم { إذ اعتزلتموهم } وهجرتموهم { وما يعبدون } أي: معبوداتهم من الأصنام والأوثان التي يعتقدونها آلهة شركاء مع الله يعبدونها كعبادته { إلا الله } الواحد الأحد الحق الحقيق بالعبادة، وأخلصتم العبادة له سبحانه بلا خوف منه ودهشة، كان أولى وأليق بحالكم.
وبالجملة: اتفقوا على الاعتزال واختيار الغربة والفرار من بينهم، فاعتزلوهم منهم وخرجوا من أظهرهم { فأووا } وانصرفوا { إلى الكهف } المعهود، ملتجئين إلى ربكم من خوف عدوكم، متوكلين عليه في رزقكم ومعاشكم { ينشر لكم ربكم } سبحانه ويبسط عليكم { من } سعة { رحمته } وجوده ما تعيشون وتبقون بسبب أن تعلق مشيئته بإبقائكم { و } بعدما التجأتم إلى الله، وتوكلتم عليه، مفوضين أمروكم كلها إليه { ويهيئ لكم } ويسهل عليكم { من أمركم } الذي اخترتم لرضا الله ورعاية جنابه { مرفقا } [الكهف: 16] أي: ما ترفقون وتنتفعون به من اللذات الروحانية يدل ما فوتم لأنفسكم من اللذات الجسمانية.
[18.17-20]
{ و } من كمال رفق الله إياهم، ورأفته معهم أيها الرائي { ترى الشمس إذا طلعت } من مشرقها في مدة الصيف حين ازدياد حرارتها { تزاور } أي: تنقلب وتميل { عن كهفهم ذات اليمين } أي: جانب يمين الغار؛ لئلا تؤذيهم بشعاعها وحرارتها { وإذا غربت } أي: زالت ومالت عن الاستواء نحو المغرب { تقرضهم } أي: تقطعهم وتنصرف عنهم { ذات الشمال } أي: جانب يسار الغار؛ لحفظهم عن حرها { وهم في فجوة منه } أي: والحال أنهم في متسع الغر ووسطه لا في زواياه؛ بحيث لو لم يكن رعاية الله وحفظه إياهم، وصرف شعاع الشمس عنهم لكانت منتشعشعة عليهم إلى وقت الغروب { ذلك } أي: نشر الرحمة وتهيئة الرفق والرأفة وصرف أذى الشمس، وكذا جميع المؤذيات عنهم { من آيات الله } الدالة على قبوله سبحانه إياهم ورضاه عنهم كونهم مهتدين إلى توحيده، موفقين من عنده، مبتغين لرضاه، متوكلين عليه في جميع الأمور، راضين بقضائه في كل الأحوال، مخلصين له في جميع الأعمال.
{ من يهد الله } وأراد هدايته في سابق علمه وقضائه، ومضى عليهم حكمه { فهو المهتد } الموفق على الهداية والفوز بالفلاح المقصور عليها، وإن لم يصدر ولم يسبق من الأعمال الصالحة { ومن يضلل } الله وتعلق مشيئته بضلاله في سابق قضائه، فهو الضال المقصور على الضلالة وإن صدرت عنه الأعمال الصالحة، لا يتبدل ضلالها أصلا، وبعدما أراد سبحانه ضلاله { فلن تجد له وليا } يولي أمره بالشفاعة لينقذه من الضلال الفطري ويخرجه عن الوبال الجبلي { مرشدا } [الكهف: 17] يهديه ويرشده إلى طريق الرشاد ومنهج السداد. { و } من كمال لطف الله إياهم ورأفته لو رأيتهم أيها الرائي ي مضاجعهم ومراقدهم { تحسبهم أيقاظا } متيقظين؛ لانفتاح عيونهم، وورودهم أنفاسهم، وعدم نتنهم وانفاسخهم { وهم رقود ونقلبهم } عناية منا إياهم وقت احتياجهم إلى التقلب { ذات اليمين وذات الشمال } كي لا تؤثر الأرض بأضلاعهم وجوانبهم { وكلبهم } هو كلب مروا عليه حين إواائهم إلى الغار معتزلين، فلحقهم فطردوه، فأنطقه الله فقال: أنا أحب أولياء الله وأحباءه دعوني أقتف أثركم فدعوه فتبعهم.
وقيل: كلب راع مضوا عليه فأطعمهم وحكوا عليه حالهم، فتبعهم وتبعه كلبه، وقراءة من قرأ: (وكالبهم) يؤيد هذا.
{ باسط ذراعيه بالوصيد } أي: في الباب أو الغتبة أو الفناء { لو اطلعت عليهم } أيها الرائي ورأيت هيئة رقودهم في ذلك الغار المهيب { لوليت } أي: استدبرت ورجعت قهقرى هربا وهولا { منهم فرارا } أي: من هيبتهم { ولملئت } وأملأ صدرك { منهم رعبا } [الكهف: 18] خوفا من رقودهم منفتحة العيون عظيمة الأجسام في غار مهيب في خلال جبال عوال بعيدة عن العمران.
{ و } كما أقدرناهم وأنمناهم على هذا الوجه العجيب والطرز الغريب { كذلك بعثناهم } وأيقظناهم { ليتسآءلوا } وينقاولوا { بينهم } ويستطلعوا معن مدة رقودهم ولبثهم في الغار؛ ليطلعوا على كمال قدرة الله، ووفور جوده ورحمته عليهم؛ ليزدادوا تعينا واطمئنانا واعتمادا أو وثوقا على كرم الله وفضله ولطفه، وبعدما قاما من هجعتهم { قال قائل منهم كم لبثتم } راقدين في هذا الغار؟ { قالوا } على سبيل الظن والتخمين؛ لأن النائم لا اطلاع له على مدة نومه: { لبثنا يوما } تاما { أو بعض يوم } لأنهم دخلوا على الغار غدوة وانتبهوا في الظهيرة، فظنوا أنهم في يومهم أو الذي بعده.
ثم لما شاهدوا طول أظفارهم وأشعارهم { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } إذ هو قائم حاضر في كل حال بلا تبدل واختلال، ونحن نائمون لا شعور لنا بمدة رقودنا ولا هم لنا بتعيينها بل أهم أمورنا أن نطعم { فابعثوا أحدكم } إلى المدينة مصحوبا { بورقكم } أي: بعينكم ونقدكم المضروبة المسكوكة.
والورق في اللغة: الفضة، سواء كانت مضروبة أم لا، والمراد هنا المضروبة.
{ هذه } إشارة إلى ما في يد القاتل من النقد { إلى المدينة } وهي: طرسوس التي فروا منها من دقيانوس { فلينظر } الذاهب المرسل، وليتأمل { أيهآ } أي: أي طبيخة طباخ { أزكى } أي: أنظف وأظهر { طعاما فليأتكم برزق منه } حتى نطعم؛ إذ نحن جيعان { وليتلطف } الذاهب مع أهل السوق وليجامل معهم في المعاملة { و } ليخرج منها سريعا حتى { لا يشعرن } أي: الذاهب ولا يطعن { بكم } أي: بحالكم ومكانكم { أحدا } [الكهف: 19] من أهل البلد.
{ إنهم } بعد اطلاعهم وشعورهم بحالكم { إن يظهروا } ويغلبوا { عليكم يرجموكم } أو يقتلوكم بضرب الأحجار { أو يعيدوكم } ويرجعوكم مرتدين { في ملتهم } التي كنتم عليها قبل انكاشفكم بالتوحيد { ولن تفلحوا } أو تفوزوا بالفلاح والصلاح { إذا } أي: حين عودكم وارتدادكم إليها { أبدا } [الكهف: 20] أي: لا يرجى فلا حكم بعد ذلك أصلا.
ثم لما أرسلوا واحدا منهم إلى البلدة فدخل على السوق، ودار حوق الطباخين واختار طبيخة زكية، وأخرج الدرهم؛ ليشتري الطعام، وكان عليه اسم دقيانوس، فاتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك، وكان الملك نصرانيا موحدا، فقص عليه القصة عن آخرها، فقال بعض الحضار: إن آباءنا قد أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملك وجميع أهل المدينة مؤمنهم وكفارهم، فأبصروهم وتكلموا معهم، ثم قال الفتية نستودعك الله، ونعيذك من شر الجن والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا، فدفنهم الملك، وبنى عليهم مسجدا.
[18.21-27]
{ و } كما أنمناهم نوما طويلا شبيها بالموت، ورحمناهم بتقلب من جانب إلى جانب وحفظناهم من حر الشمس وأنواع المؤذيات، وبعثناهم من نومهم بعث الموتى للحشر؛ ليزدادوا بصيرة وثقة على الله { كذلك أعثرنا } وأطعلنا { عليهم } وعلى من شاهد حالهم، وشهد قصتهم من المؤمنين { ليعلموا } ويتيقنوا { أن وعد الله } القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة لكل ما أراد وشاء { حق } ثابت لائق له أن ينجزه بلا خلفه { و } يتيقنوا خصوصا { أن الساعة } الموعودة التي وعدها الحق بألسنة جميع أنبيائه ورسله آتيه { لا ريب فيها } وارتفع نزاع الناس فيها، ببعث هؤلاء بعد ثلاثمائة وتسع سنين.
اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } المتعلق بدينهم في المحشر والمعاد الجسماني ؛ إذ القادر على حفظهم ورعايتهم في المدة المذكورة، وبعثهم بعدها قادر على إحياء عموم الموتى من قبورهم وإعادة الروح إلى أجسامهم؛ إذ أمثال هذا سهل يسير في جنب قدرة الله وإرادته، وبعدما بعثناهم من مراقدهم وأطلعنا الناس عليهم، فمضوا وتكلموا معهم، وحكوا ما حكوا، وأخبر القوم بمدة رقودهم، واستودعوا مع القوم ورجعوا إلى المراقد فماتوا وانقرضوا، فاختلف الناس في أمرهم، فقال المسلمون: هم منا لأنا موحدون، وقال الكافرون: بل هم منا لكونهم أولاد الكفار.
وبالجلمة: { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا } قال المسلمون: نحن نبني عليهم مسجدا، وقال الكافكرون نحن نبني عليهم كنسية، وكلا الفريقين ليسوا عالمين بكفرهم وإيامنهم، بل { ربهم } الذي رثاهم بأنواع التربية ورحمهم بأنواع الرحمة { أعلم بهم } وبحالهم فأمرهم موكول إلى الله مفوض إليه، ثم لما تمادى النزاع بينهم وتطاول جدالهم { قال الذين غلبوا على أمرهم } بالقدرة الحجة، وهم الموحدون المسلمون { لنتخذن } ونبنين { عليهم مسجدا } [الكهف: 21] نتوجه فيه لله، ونتبرك بهم ونجعله محل الحاجات وقضاء المناجاة، فاتخذوه وجعلوه مرجعا يرجع إليه الأقاصي والأداني.
ثم لما اختلف الخائضون في قصتهم في عددهم، ذكر سبحانه أقوالهم أولا، ثم بين ما هو أولى وأحق فقال: { سيقولون ثلاثة رابعهم } أي: مصيرهم أربعة { كلبهم ويقولون خمسة سادسهم } اي: مصيرهم ستة { كلبهم } كلا القولين، الأول قول اليهود، والثاني قول النصارى صدر عنهم { رجما } ورميا { بالغيب } إذ لا مستند لهم من التواريخ وقول الرسل { ويقولون } هم { سبعة وثامنهم } أي: مصيرهم ثماية { كلبهم } والواو وإن كان مقحما، أفاد توكيد لصوق الصفة بالموصوف وشدة اتصاله به، ليدل على صدقه ومطابقته، ومثله في القرآن كثير، منه قوله تعالى:
ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم
[الحجر: 4] وغير ذلك، وهي مثل الواو في قولهم: جاءني زيد ، ومعه ثوب.
هذا قول المؤمنين أخذوا من رسول الله، وهو من جبريل، وجبرائيل من الله سبحانه، فإن شكوا فيه أيضا ونسبوه إلى الرمي والتخمين { قلا } لهم يا أكمل الرسل: { ربي أعلم بعدتهم } إذ لا يعزب عن علمه شيء من أحوالهم من أول أمرهم إلى أخره؛ لأن علمه بمعلوماته حضوري، لا يغيب عنه أصلا وهم { ما يعلمهم } من أحوالهم { إلا قليل } بالأخبار والتواريخ، وأكثرها غير مطابق للواقع، ولما كان قولهم وعلمهم راجعا إلى الرجم والرمي بلا مستند { فلا تمار } ولا تجادل يا أكمل الرسل { فيهم } أي: في حق الفتية { إلا مرآء ظاهرا } أي: جدالا خفيفا مقتصرا على ما أوحينا إليك، لا متعمقا غليظا بأن تجهلهم وتسفههم، وتضحك من قولهم، وتنسبه إلى الخرافة الخرق.
{ و } أيضا { لا تستفت } ولا تسأل { فيهم } أي: في حق الفتية وأمرهم { منهم } أي: من أهل الكتاب { أحدا } [الكهف: 22] يعني: لا ستفت أحدا منهم عن قصتهم وشأنهم بعدما ظهر عليك أمرهم بالوحي؛ لأن استفتاءك بعد الوحي، إما سؤال تعنت وامتحان، فهو لا يليق بمرتبة الرسالة والنبوة، بعدي عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم اللازمة لمرتبة النبوة، وإما سؤال استعلام واسترشاد، فهم قاصرون عاجزون عنهها، مع أنه لا معنى للسؤال بعد الوحي.
{ و } لما أمره اليهود لقريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت وامتحان عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف، فسألوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ائتوني غدا أخبركم عنها ".
قاله بلا استنثاء وتعليق بمشيئتة؛ أي: لم يقل: إن شاء الله، فانسد عليه باب الوةحي بضعة عشر يوما، فشق عليه صلى الله عليه وسلم الأمر، وكذبته قريش وتحزن حزنا شديدان فنهاه سبحانته نهيا مؤكدا، وأدبه تأديبا بليغا؛ لئلا يترك الاستثناء في الأمور أصلا، فقال: { لا تقولن } يا أكمل الرسل ألبتة { لشاىء } عزمت عليه وأردت أن تفعله { إني فاعل ذلك } الشيء { غدا } [الكهف: 23] على سبيل البيت والمبالغة.
{ إلا أن يشآء الله } أي: إلا أن تذكر وتجيء بالاستثناء بعد عزمك بقولك، إن شاء الله، { واذكر ربك } يا أكمل الرسل { إذا نسيت } ذكر الاستثناء والتعليق على مشيئة الله في خلال الأمور حين القصد والعزيمة والقول بالإصدار، بعدما تذكرت نسيانك تلافيا لما فوت وتداركا لما تركت، ولو بعد حين بل سنة، وقل: إن شاء الله متذكرا الأمر الذي تركت التعليق فيه قضاء لما فات.
{ وقل } بعدما كشفنا عليك جواب سؤالهم هذا شكرا له، وابتهاجا عليه، وطلبا للمزيد منه سبحانه: { عسى أن يهدين ربي } وأرجوا من فضله وجوده أن يرشدني ويدلني { لأقرب من هذا رشدا } [الكهف: 24] أي: لأمر هو أقرب دلالة من أمر أصحاب الكهف وقصتهم إلى الهداية والرشاد، وأوضح إيصالا إلى مسلك الصواب والسداد؛ تأديبا لنبوتي وتشييدا لرسالتي، وهو قد هداه وأرشده بأعظم من ذلك: كالإخبار عن بعض الغيوب، وقصص الأنبياء المتباعد عهدهم وزمانهم، وأمارات الساعة وأشراطها، وإنزال القرآن المشتمل على الرطب واليابس الحادثة في العالمين، الجارية في النشأتين.
{ و } ما اختلف أهل الكتاب في عدد الفتية، اختلفوا أيضا في مدة لبثهم في الغار راقدين نائمين قال بعضهم: { لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين } بالسنة الشمسية على ما هو المشهور { و } بعضهم { ازدادوا } عليها { تسعا } [الكهف: 25] من تلك السنة أيضا، وإن كان المراد بالسنة فيه الأولى شمسية والثانية قمرية، كان كلا القولين واحدا؛ لأن التفاوت بينهما في كل مائة عام سنة ثلاث سنين، فيكون الزايدة في ثلاثمائة: تسع سنين قمرية.
{ قل } ي أكمل الرسل بعدما لم يوجد شيء يوثق به ويعتمد عليه في تعيين مدة لبثهم في الغار سوى التخمين والحسبان { الله } المطلع لجميع السرئر والخفايات { أعلم بما لبثوا } أي: بمدة لبثهم في كهفهم راقدين؛ إذ { له } سبحانه لا لغيره من مظاهره وأظلاله { غيب السموت والأرض } أي: الاطلاع على المغيبات الواقعة في العلويات من غاية انشكافه وانجلائه له أن يقال: { أبصر به وأسمع } كما يجري في مبصراتنا ومسموعاتنا؛ لاستغنائه وتنزهه سبحانه عن الالتفات والإصغاء، بل المغيبات والمحسوسات كلها في حضوره وحضرة علمه على السواء بلا تفاوت أصلا.
ثم قال سبحاه: { ما لهم } أي: لأهل السماوات والأرض { من دونه } أي: دون الله { من ولي } يوليهم ويلي أمورهم؛ إذ هو مستقل بالوجود والتصرف في ملكه وملكوته بلا مظاهرة أحد ومعاونته { ولا يشرك } بمقتضى تعززه وكبريائه وسطوته واستيلائه { في حكمه } السابق في قضائه إجمالا، واللاحق في قدره تفصيلا { أحدا } [الكهف: 26] من مظاهره ومصنوعاته، بل له الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والتخليق والترزيق، وجميع ما حدث من الحوادث الجارية في الآفاق كلها مستندة إليه سبحانه وتعالى أولا وبالذات، بلا تخلل الوسائل والوسائط العادية الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة بالنسبة إلى أولي الأحلام السخيفة، وذوي الحجب الكثيفة النافية لرؤية الحق انجلائه في المظاهر كلها.
وأما أرباب الوصول والشهود، وهم الذين ارتقوا حجب الخيالات وسدل الأوهام والعادات، فلا يرون في الوجود سواه، ولا إله عندهم إلا هو، لذلك لم سنسدوا شيئا من الحوادث الكائنة بمقتضى التجليات والشئون الإلهية إلا له سبحانه؛ إذ ليس وراء الله عندهم مرمى ومنتهى.
{ و } إذ كان مفاتيح المغيبات ومقاليد العلوم والإدراكات، وكذا جميع ما في العالم من المحسوسات والمشاهدات كلها مستندة إليه سبحانه، ناشئة من عنده { اتل } يا أكمل الرسل على من تبعك من المؤمين { مآ أوحي إليك من كتاب ربك } على الوجه الذي أنزل إليك بلا تبديل وتحريف؛ إذ { لا مبدل لكلماته } ولا متصرف في كلامه سواه، ولا تسمع قول المشركين:
ائت بقرآن غير هذآ أو بدله
[يونس: 15] إذ لا يسع لأحد أن يبدله ويحرفه { و } إن همت إلى تبديله وتحريفه من تلقاء نفسك { لن تجد من دونه } سبحانه { ملتحدا } [الكهف: 27] ملجا تلتجئ إليه نزول عذاب الله، وحلول أخذه وانتقامه على تبديلك وتغييرك كلامه.
ثم لما طلب صناديد قريش من روسل الله صلى الله عليه وسلم إبعاد فقراء المؤمنين وطردهم عن مجلسه، مثل أبن آم مكتوم وأبي ذر وفقراء أصحابه؛ لرثاثة حالهم وشمول الفاقة عليهم حتى يصاحبوه صلى الله عليه وسلم ويجالسوا معهم، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنجاج ما أرادوا واقترحوا، وأمر بالفقراء ألا يحضروا معهم في مجلسه، رد الله سبحانه على رسوله ردا بليغا، ونهاه عنه نهيا شديدا.
[18.28-34]
فقال سبحانه مؤدبا له مقرعا: { واصبر نفسك } أي: إن التمس قرشي من إبعاد الفقراء، وبالغوا في طردهم وذبهم عن صحيتك، لا تجبهم ولا تنجح مطلوبهم، بل اصبر ووطن نفسك المائلة إلى غنائهم وصفاء زيهم ولباسهم { مع } الفقراء { الذين } شأنهم أنهم { يدعون } ويعيدون { ربهم بالغداة والعشي } أي: طرفي النهار وما بينهما { يريدون وجهه } ويتوجهون نحوه مخلصين بلا ميل منهم إلى الهوى ومزخرفات الدنيا مع غاية فقرهم وفاقتهم { ولا تعد } أي: لا تمل ولا تصرف { عيناك عنهم } لرثاثة حالهم وخلق ثيابهم إلى الأغنياء وزيهم البهي حال كونك { تريد } وتقصد { زينة الحياة الدنيا } بالالتفات إليهم، والميل إلى مصاحبتهم ومجالستهم، والركون إلى جاههم وثروتهم { ولا تطع } ولا تنفق معهم في طرد الفقراء بمجرد ميلك إيمانك أولئك الأغنياء البعداء عن روح الله ورحمته، ولا تلتفت التفات متحنن متشوق إلى { من أغفلنا قلبه } وختمنا عليه بالإعراض { عن ذكرنا } ختما لا يرتفع عنه أصلا { و } لذا صار من العتو والعناد إلى أن { اتبع هواه } واتخذه إلها، واجتنب عن مولاه وبنذه وراءة { وكان أمره } في الاتباع والاتخاذ { فرطا } [الكهف: 28] ميلا وتقدما نحو الباطل، وإعراضا عن الحق ونبذا له وراءه ظهريا.
{ وقل } على سبيل المثال الإرشاد والتبليغ بلا مراعاة ومداهنة { الحق } الصريح الصحيح الثابت ما نزل ونشأ { من ربكم } الذي أنشأكم وأظهركم من كتم العدم وأصلح حالكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبلغ ما أوحي إليك بلا تبديل وتغيير؛ إذ ما عليك إلا البلاغ والتبليغ { فمن شآء } منهم الفوز والفلاح { فليؤمن } بالله وكتب ورسله على مقتضى ما بلغت { ومن شآء } منهم الوبال والنكال في الداري { فليكفر } فاعلم أنه سبحانه لا يبالي بكفرهم وإيانهم؛ إذ هو منزه عن إيمان عباده وكفرهم.
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والتنبيه: { إنا } من مقام علدنا وقهرنا من أعرض عنا من عبادنا وانصرف عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { أعتدنا } وهيأنا سبيما { للظالمين } الخارجين عن مقتضيات أحكامنا { نارا } ذاتت التهاب واشتعال إلى حيث { أحاط } أي: احتوى واشتمل { بهم سرادقها } أي: لهبها التي هي كالفسطاط في الإحاطة والشمول، والفسطاط: المتخذ من الشعر { وإن يستغيثوا } من شدة العطش ونهاية حرقة الكبد والزفرة { يغاثوا } ويجابوا { بمآء } في اللون { كالمهل } وهو الحديد المذاب، وفي الحرارة إلى حيث { يشوي الوجوه } ويحرقها وقت تقريبه إلى الفم للشرب.
وبالجملة: { بئس الشراب } شراب المهل { وسآءت } جهنم وأوديتها المملوءة بنيران الحرمان والخذلان { مرتفقا } [الكهف: 29] منزلا ومسكنا، تسكنون فيها أبدا مخلدا.
ثم اتبع سبحانه الوعيد بالوعد على مقتضى سنته المستمرة، فقال: { إن الذين آمنوا } بوحدة ذاتنا وكمال أوصافنا وأسمائنا، وبإرسالنا الرسل، وإنزالنا الكتب المبينة الموضحة لأحكامنا الصادر منا على مقتضى الأزمان والأدوار { و } مع الإيمان والإذعان { عملوا الصالحات } المأمورة لهم في الكتب وألسنة الرسل، واجتنبوا عما نهيناهم عنها، فجزاؤهم علينا نجازيهم ونضاعف لهم بأضعاف ما يستحقون بأعمالهم وإخلاصهم فيها { إنا } من مقام فضلنا وجودنا { لا نضيع } ونهمل { أجر من أحسن عملا } [الكهف: 30] وأخلص نية، وأتم قصدا وأكلم عزيمة.
{ أولئك } السعداء المحسنون المخلصون { لهم } في النشأة الأخرى { جنات عدن } أي: متنزهات إقامة وخلود من مراتب العلم والعين والحق، ومع ذلك { تجري من تحتهم الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق، متجددة بتجددات التجليات الإلهية والنفسات الرحمانية المترشحة من رشاشات بحر الذات الأزلية الأبدية، ومع ذلك { يحلون } ويزينون { فيها من أساور } وخلاخل متخذة { من ذهب } جزاء ما هذبوا أخلاقهم وجوارحه بمقتضى الأوامر الإلهية في النشأة الأولى { ويلبسون } فيها { ثيابا خضرا } مصنوعة { من سندس } وهو ما رق من الديباج { وإستبرق } هو ما غلظ منه جزاء ما يتصفون في النشأة الأولى بزي التقوى ولباس الصلاح.
ومن كمال تنعمهم وترفههم يكونون { متكئين فيها على الأرآئك } والسرر، متمكنين عليها جزاء ما حملوا من المتاعب والمشاق في مواظبة الطاعات وملازمة العبادات، وبالجملة: { نعم الثواب } والجزاء جزاء أهل الجنة وثوابهم { وحسنت } المتنزهات الثلاثة { مرتفقا } [الكهف: 31] يرتفقون وينتفعون فيها أهل الكشف والشهود، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بضرب المثل لتوضيح حال المؤمن والكافر، ومآل أمرهما فقال: { واضرب لهم } يا أكمل الرسل { مثلا } بينا موضحا كان { رجلين } من بني إسرائيل هما أخوان؛ أحدهما مؤمن موحد، والآخر كافر مشرك مات أبوهما، وورثا منه أموالا عظاما فاقتسما، فصرف المؤمن ماله في سبيل الله وأنفق للفقراء واليتامى وأبناء السبيل، واشترى الكافر مكاسب ومزارع وكثر ماله إلى أن { جعلنا لأحدهما } أي: للكافر ابتلاء له واختبارا { جنتين } بستانين { من أعناب } وكروم { وحففناهما } أي: أ؛طنا كلا منهما { بنخل } لتزيد حسنا وبهاء { وجعلنا بينهما } أي: بين الجنتين { زرعا } [الكهف: 32] مزرعا ومحرثا للحبوب والأقوات من الحنظة والشعير وغيرهما.
{ كلتا الجنتين } كملتا إلى أن { آتت } وأثمرت كل منهما { أكلها } ثمرتها كاملة وافرة في كل سنة { ولم تظلم منه شيئا } أي: لم تنقص ثمرتها وحاصلهما من كل منهما شيئا من النقصان كما هو المعهود في سائر البساتين، فإن ثمرها يتوفر في عام وينقص في أخرى { و } مع ذلك { فجرنا } وأجرينا { خلالهما } أي: أوساط الجنتين { نهرا } [الكهف: 33] سقيهما.
{ و } مع تينك الجنتين المذكورتين { كان له ثمر } أي: اموال عظام وأمتعة كثيرة من أنواع الأجناس والنقود والجواهر والعبيد وغير ذلك، { فقال } الآخر الكافر يوما على سبيل البطر والمباهاة { لصاحبه } أي: للأخ المؤمن { وهو يحاوره } ويخاطبه بعض الأموال والزخارف عليه، ويشنع عليه، ويعيره ضمنا، ويقرعه تقريعا خفيا، إلى أن بطرا: { أنا أكثر منك مالا } وبالأموال تقتضي الأماني، وتنال اللذات والشهوات { وأعز نفرا } [الكهف: 34] أبناء وعشائر وأحشاما وخدمة يظاهرن ويعانون علي لدى الحاجة، ويجالسون ويصاحبون معي في الحضر والسفر.
[18.35-45]
{ و } من شدة بطره وخيلانه: { دخل } يوما { جنته } التي ذكر وصفها { وهو ظالم لنفسه } بعرضها على عذاب الله وأنواع عقابه بكفره بالله، وبطره بحطام الدنيا، وإعجابه على نفسه اتكالا على ثروته وجاهه وكثرة أعوانه وأنصاره { قال } من طول أمله وحرصه وشدة غروره وغفلته: { مآ أظن } بل ما أشك وأوهم { أن تبيد } أي: تنهدم وتنعدم { هذه } الجنة { أبدا } [الكهف: 35] بل هي على هذا القرار والنضارة دائما.
{ و } أيضا { مآ أظن } وأعتقد { الساعة } الموعودة التي أخبر بها أصحاب الدعاوي من الأنبياء والرسل { قائمة } آتية البتة بلا تردد وشك حتى تنهدم وتنعدم هذه بانعدام العالم وانقراضها { ولئن رددت } هبني أن فرضت وقدرت قيام الساعة وانقضاء النشأة الدنياوية على ما زعموا وبعثت من قبري على الوجه الذي ادعو ورددت { إلى ربي } للحساب والجزاء وعرض الأعمال وتنقيدها { لأجدن } ألبتة جنة في العقبى { خيرا منها } أي: من هذه الديناوية فآخذها { منقلبا } [الكهف: 36] أي: مرجعا ومنزلا كما أخذت هذه في الدنيا، وإنما يقول ذلك على سبيل الاستهزاء والاستخفاف، يعني: إني حقيق حري بتلك المرتبة في الدنيا والآخرة، إن فرض وجودها، فأنا حري بذلك فيها أيضا.
ثم لما تمادى في المباهاة والمفاخرة، وتطاول كلامه في الغفلة والغرور والإنكار على الله وكمال قدرته وقوته، وسرعة نفوذ قضائه وحكمه المبرم متى تعلق إرادته { قال له صاحبه } المؤمن { وهو يحاوره } على سبيل العظة والتذكير وأنواع التسفيه والتعبير: { أكفرت } وأنكرت أيها المفسد الطاغي { بالذي خلقك } أي: قدر أولا مادتك { من تراب } خسيس مزدول إلى أن صرت بكثرة التبدلات والتغييرات نطفة مهينة { ثم } قدرها ثانيا { من نطفة } دنيئة يستحقرها بل يستخبثها جميع الطباع { ثم سواك } منها وعد لك شخصا سويا سالما ورباك بأنواع اللطف والكرم إلى أن صرت { رجلا } [الكهف: 37] رشيدا عاقلا بالغا كافلا للأمور والوقائع، كافيا لإحداث الغرائب والبدائع، وافيا في جميع المضار والمنافع.
ثم كلفك بالإيمان والمعرفة والإتيان بالأعمال الصالحة والإذعان بالنشأة الأخرى، وما يترتب عليها من العرض والحساب والسؤال والجزاء وجميع المتعقدات الأخروية، فاستنكرت واستكبرت إلى أن كفرت عنادا ومكابرة، فستعرف حالك فيها أيها الطاغي الباغي المستحق لأنواع العذاب والعقاب { لكنا } أي: لكن أنا لا أكفر وأنكر مثلك ربي الذي أظهرني من كتم العدم ولم ألك شيئا مذكورا، وقدر مادتي من التراب الأدنى والأرذل من المني الأخس الأنزل، ثم عدلني وسواني رجلا رشيدا كاملا في العقل الرشد؛ لأعرف ذاته فأعبده، وأشكر نعمه، وأؤدي حقوق كرمه، وأتوجه نحوه، وأتضرع إليه، وأصدق رسله وكتبه وجميع ما فيها من الأمور والنواهي والمعتقدات التي وجب الاعتقاد بها من الأمور المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى.
فكيف أنكره وأكفر بنعمه وأنسى حقوق لطفه وكرمه؛ إذ { هو الله ربي } ورب جميع من في حيطة الوجود من الأظلال والعكوس، وهو المستقل في الوجود والألوهية والربوبية، وهو المتوحد المتفرد بالقيومية والديمومية { ولا أشرك بربي } الذي رباني بأنواع اللطف والكرم { أحدا } [الكهف: 38] سواه؛ إذ لا شيء في الوجود إلا هو.
{ ولولا } أي: هلا وقت { إذ دخلت } أيها المدبر العاقل { جنتك } التي افتخرت بها { قلت } بدل قولك: { مآ أظن أن تبيد هذه أبدا } [الكهف: 35] { ما شآء الله } أي: ما شاء وأراد دوامها تتأبد وما لم يشأ لم تتأبد؛ إذ { لا قوة } ولا قدرة للتأبيد والتخريب { إلا بالله } أصالة وحقيقة، وأنت أيها الكافر المسرف المنكر { إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا } [الكهف: 39] فعيرتني وعرضت علي أولادك وزخارفك بطرا وبوحا، مع أني أكثر منك إيمانا وعرفانا وثقة على الله واتكالا.
{ فعسى ربي } وأرجو من كمال فضله وجوده { أن يؤتين خيرا } أي: أزريد حسنا وبهاء وأكثر بركة ودخلا { من جنتك } التي تتفوق وتتفضل بها لي؛ إذ هو القادر على كل ما أراد وشاء { ويرسل } بغتة { عليها } أي: على جنتك { حسبانا } أي: صواعق نازلة ليلا { من السمآء } فحرقتها وخربتها واستأصلتها { فتصبح } أنت وترى { صعيدا } ترابا { زلقا } [الكهف: 40] ملساء لا تثبت فيها قدم ولا تنبت فيها نباتا.
{ أو يصبح مآؤها } الجاري في خلالها { غورا } غائرا عميقا؛ بحيث لا يمكن سقيها منه أصلا لغاية غوره وعمقه { فلن تستطيع } وتقدر { له طلبا } [الكهف: 41] بالكفر والحيل وأنواع التدابير.
فأعطى سبحانه المؤمن ما أمله وأراده تفضلا عليه وامتنانا له: { و } أرسل على بستان الكافر صواعق نازلة من السماء كثيرة إلى حيث { أحيط بثمره } وعمت الإهلاك والاستئصال جميع ما فيها من الثمار، فلم يبق الانتفاع بها أصلا، وذهب ماؤها وبهاؤها واضحملت نضارتها وصفاؤها { فأصبح } الكافر { يقلب كفيه } ظهرا لبطن تلهفا وتأسفا { على مآ أنفق فيها } أي: في تعميرها وإنشائها من الأموال والعظام { وهي } أي: لجنة { خاوية } ساقطة { على عروشها } أي: عروشها على الأرض والكروم عليها محرقة جميعها { ويقول } الكافر حينئذ بعدما أفاق عن سكر الغرور والغفلة، وتفطن على منشأ الصدمة والصولة الإلهية نادما متحسرا: { يليتني لم أشرك بربي أحدا } [الكهف: 42] تعنتا واستكبارا حتى لا يلحق علي ما لحقني من الوبال والنكال.
{ ولم تكن له } حينئذ { فئة ينصرونه } على مقتضى مباهاته ومفاخرته بالأعوان والأنصار من بأس الله وأخذه بل لا ناصر له { من دون الله } أي: استنصر منه، واستغفر عما صدر عنه من الجراءة والجرائم فقد نصره وعفا عنه وإن عظمت زلته { وما كان } أيضا بنفسه على مقتضى استبداده وثروته { منتصرا } [الكهف: 43] مخلصا منجيا نفسه عن امثال عن أمثال هذا النكال.
بل: { هنالك } وفي تلك الحالة وأمثال تلك الواقعة { الولاية } أي: النصر والاستيلاء، والغلبة والاستعلاء، والعظمة والكبرياء، والتعزز والاستغناء { لله الحق } الثابت القيوم المطلق، الحقيق بالحقية والقيومية، الجدير بالبسط والديمومية، ولذلك { هو } سبحانه بذاته وبمقتضى ألوهييته وربوبيته { خير ثوابا } في النشأة الأخرى لأوليائه، وأفضل عطاء لأحبائه وأمنائه { وخير عقبا } [الكهف: 44] لانتقام أعدائه انتصارا لأوليائه.
{ واضرب لهم } أي: اذكر يا أكمل الرسل للمائلين إلى الدنيا ومزخرفاتها ومستلذاتها الفانية الغير قارة، المستتبعة لأنواع الآثام والعصيان، المستلزمة لغضب الله وسخطه ومثل لهم { مثل الحياة الدنيا } وانقضائها وفنائها سريعا { كمآء } أي: مثله مثل ماء { أنزلناه من } جانب { السماء } إظهارا لكمال قدرتنا وعجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا { فاختلط به } أي: تكاثف وغلظ بسببه { نبات الأرض } وصار في كمال الطراوة والنضارة والحسن والبهاء إلى حيث يعجب منها أبصار أولي الألباب والاعتبار، ثم يبس من حر الشمس وبرد الهواء { فأصبح هشيما } مهشوما متفرق الأوراق متفتت الأجزاء إلى حيث { تذروه } أي: تثيره وتطيره { الرياح } كيف يشاء { وكان الله } القادر المقتدر بالقدرة الكاملة التامة { على كل شيء } من قدوراته ومراداته { مقتدرا } [الكهف: 43] كاملا؛ بحيث لا تنتهي قدرته لدى المراد، بل له التصرف فيه على ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله.
[18.46-53]
ومتى سمعت وعلمت حال حياة الدنيا ومآل أمرها وعاقبتها، وانكشفت بعدم ثباتها وقرارها فمعظم ما يتفرع عليها: { المال والبنون } إذ هما { زينة الحياة الدنيا } الفانية عارضان عليها، ومتى لم يكن للمعروض دوام وبقاء، فللعارض بالطريق الأولى { والباقيات } التي تبقى معك في أولادك وأخراك { الصالحات } المقربة إلى الله المقبولة عنده، المترتبة عليها النجاة من العذاب والنيل إلى الفوز بالفلاح { خير عند ربك ثوابا } أي: أجرا وجزاء حسنا من اللذات الروحانية المودعة لأرباب القبول { وخير أملا } [الكهف: 46] أي : عاقبة ومآلا؛ إذ ينال بها المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المودعة لأرباب العناية وأصحاب القلوب من الراجين المؤملين شرف لقاء الله والفوز بمطالعة وجهه الكريم.
{ و } أذكر يا أكمل الرسل للناسين عهود الله ومواثيقه { يوم نسير الجبال } وتحركها بالقدرة الكاملة والسطوة الهائلة، ونفتت أجزاءها، وتحلل تراكيبها، ونشتتها إلى أن صارت دكا { وترى } أيها الرائي { الأرض } المملوءة بالجبال الرواسي الحاجبة عما وراءها { بارزة } ظاهرة ملساء مسوى لا ارتفاع لبعض أجزائها على بعض، مظهرة لما فيها من الأجساد المدفونة { و } بعد ظهورهم منها، وبروز الأجداث والأجساد عليها { حشرناهم } وجمعناهم بأجمعهم حفاة عراة إلى الموقف والموعد المعد للعرض والجزاء { فلم نغادر } ولم نترك { منهم أحدا } [الكهف: 47] لا نسوقه إلى المحشر.
{ و } بعدما جمعوا واجتمعوا في المحشر جميعا { عرضوا على ربك } يا أكمل الرسل عرض العسكر على السلطان الصوري { صفا } صافين مصففين على الاستواء؛ بحيث لا يحجب أحد أحدا، بل كل واحد في مرأى منه سبحانه بلا سترة وحجاب، ثم يقال لهم من قبل الحق على سبيل الاستيلاء والسطوة، وإظهار الهيبة والسلطنة القاهرة الغالبة: { لقد جئتمونا } اليوم حفاة عراة { كما خلقناكم أول مرة } كذلك؛ أي: في بدء وجودكم وظهوركم { بل } كنتم { زعمتم } وظننتم فيما مضى من شدة بطركم وغفلتكم { ألن نجعل لكم موعدا } [الكهف: 48] أي: لن نقدر على أنجاز ما وعدناكم بألسنة رسلنا من البعث والحشر والعرض والجزاء، بل كذبتم الرسل وأنكرتم الوعد والموعود جميعا، فالآن ظهر الحق الذي كنتم تمترون فيه.
{ و } بعدما عرضوا صافين على الوجه المذكور { وضع الكتاب } المشتمل على تفاصيل أعمالهم وجميع أحوالهم وأطوارهم، من بدء فطرتهم إلى انقراضهم من النشأة الاولى والمعدة لكسب الزاد للنشأة الأخرى بين يدي الله على رءوس الملأ { فترى } أيها الرائي { المجرمين } حينئذ { مشفقين } خائفين مرعوبين { مما فيه } أي: في الكتاب قبل القراءة عليهم { و } بعدما قرئ عليهم، وسمعوا جميع ما صدر عنهم كائنة مكتوبة فيه على التفصيل بلا فوت شيء { ويقولون } متحسرين متمنين الموت، مناجين في نفوسهم، منادين: { يويلتنا } وهلكتنا أدركينا فهذا وقت حلولك ونزولك { مال هذا الكتاب } العجيب الشأن الجامع لجميع فضائحنا وقبائحنا؛ بحيث { لا يغادر } ولا يترك فضيحة { صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } فصلها وعددها بلا فوت خصلة منها.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة.
{ و } بالجملة: { وجدوا ما عملوا } من الخير والشر والذميمة والحميدة { حاضرا } ثابتا مكتوبا بلا نقصان منها ولا زيادة عليها، وكيف لا يكون كذلك؛ إذ { ولا يظلم ربك } يا أكمل الرسل { أحدا } [الكهف: 49] من عباده لا بالزيادة ولا بالنقصان ولو قدر نقير.
ثم لما كان منشأ جميع الشرور والغرور، وأنواع الفتن والغفلات، وأصناف الشكوك والكفر والضلالات إبليس. عليه اللعنة. كرر سبحانه قصة استكباره واستنكاره مرارا تذكيرا للمتعظين وتنبيها على الغافلين المغرورين؛ ليكونوا على ذكر منه. بضم فسكون، أي: تذكر وتفكر. من غوائله وتسويلاته؛ ليتمكن لهم الحذر عن وساوس أعوانه وأنصاره التي هي جنود الأوهام والخيالات الباطلة والأماني الكاذبة الناشئة من صولة الأمارة المستولية على القوى الروحانية.
فقال: { وإذ قلنا للملائكة } أي: اذكر لهم وقت قولنا للملائكة المعترضين لنا على اصطفائنا آدم للخلافة والنيابة بعد إفحامنا، والزامنا إياهم بما ألزمناهم { اسجدوا } أي: تواضعوا وتذللوا على وجه الخضوع والانكسار { لأدم } النائب المستخلف عنا بعدما ظهر عنكم، وعليكم فضله وشرفه واستحقاقه لأمر الخلافة { فسجدوا } بعدما سمعوا متذليين امتثالا للأمر الوجوبي { إلا إبليس } منهم أبى، ولم يسجد له معللا بأنواع العلل والجدالات الباطلة الناشئة من خباثة فطرته على ماسمعت غير مرة.
وإنما امتننع؛ لأنه { كان من الجن } في أصل خلقته، فلحق بالملائكة لحكمة ومصلحة { ففسق عن أمر ربه } على مقتضى خلقته الأصلية { أفتتخذونه } أيها المغرورون بتغريره، والمأملون إلى تلبيسه وتزويره بعدما صدرت عنه هذه العداوة الظاهرة { وذريته } المختلطة معكم المرتكزة في نفوسكم، وقواكم اللاتي هي أعدى أعدائكم { أوليآء من دوني } بحيث نفوضون أموركم إليها؛ ليوالوها لكم { وهم } أصلهم وفرعهم { لكم عدو } قديم مستمر { بئس } الشيطان وذريته، وولايتهما { للظالمين } الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { بدلا } [الكهف: 50] عنا وعن ولايتنا إياهم.
وعن يحيى بن معاذ رضي الله عنه: لا يكون من أولياء الله، ولا يبلغ مقام الولاية من نظر إلى شيء دونه واعتمد على سواه، ولم يميز بين معاديه ومواليه، ولم يعلم حال إقباله من حال إدباره. انتهى.
فكيف تتخذون أيها الحمقى المسرفون إبليس وذريته أولياء من دوني مع أني { مآ أشهدتهم } وأحضرتهم إبليس وجنوده { خلق السموت والأرض } أي: وقت خلقهما وإيجادهام؛ ليعاونوا ويظاهروا علي حتى تتخذونهمه أولياء غيري، شركاء معي في استحقاق العبادة { ولا خلق أنفسهم } أيضا؛ أي: لا أحضر بعضهم عند خلق بعض منهم.
{ و } بالجملة: أنا أستقل بالخلق والإيجاد بل في الوجود أيضا؛ لذلك { ما كنت } في خلق الأشياء وإيجادها محتاجا إلى المعين والظهير أصلا، فيكف { متخذ المضلين } الضالين عن ساحة عز الحضور { عضدا } [الكهف: 51] أعوانا وأنصارا أعتضد وأنتصر بهم حتى تشاركونهم بي في استحقاق العبادة والإطاعة والانقياد بل ترجحونهم علي بالولاية والمحبة.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { يوم يقول } الله سبحانه على سبيل التعبير والتقريع للكفار والمشركين: { نادوا } أيها المنهمكون في الغي والضلال { شركآئي الذين زعمتم } أنهم شفعاؤكم اليوم، وعبدتم لهم مثل عبادتي بل أحسن منها حتى ينقذوكم من عذابي، ويشفعوا لكم عندي { فدعوهم } صارخين مستغيثين { فلم يستجيبوا لهم } ولم يجيبوا استغاثتهم؛ لأنهم حينئذ مشغولون بحالهم، مأخوذون بوبالهم ونكالهم، لذلك لا يلتفتون إليهم { و } مع ذلك { جعلنا بينهم } أي: بين العابدين والمعبودين { موبقا } [الكهف: 52] مهلكا عظيما وواديا غائرا عميقا من أودية جهنم مملوءة بالنار؛ بحيث لا يمكن تواصلهم أصلا.
{ ورأى المجرمون النار } بعدما عرضوا أو حوسبوا، وسيقوا نحو جهنم؛ ليعذبوا فيها كل على مقتضى ما كسب من المعاصي والآثام الموجبة للأخذ والانتقام { فظنوا } بل تيقنوا { أنهم مواقعوها } داخلوها وملاصقوهها ألبتة { و } وكيف لا يجزمون بالدخول واللصوف أنهم { لم يجدوا عنها مصرفا } [الكهف: 53] أي: منصرفا ومعدلا سواها، ينصرفون إليه مع أن الموكلين من الملائكة يسوقونهم، ويدخلونهم فيها زجرا وقهرا.
[18.54-61]
{ و } كيف يجدون مصرفا سواها، ومن أين يتأتى لهم الانصراف اليوم؛ إذ هم فوتوا على أنفسهم المصرف، وسبب الانصراف في النشأة الأولى مع أنا { لقد صرفنا } وكررنا { في هذا القرآن } المرشد إلى الهداية، الصارف عن الضلالة والغواية { للناس } المنهمكين في الغفلة والنسيان { من كل مثل } أي: من كل شيء مثلا موضحا ينبههم إلى الهدى، ويجنبهم عن الغفلة والهوى، فلم ينتبهوا ولم يتفطنوا بل قابلوا الباطل بالحق وجادلوا { وكان الإنسان } المجبول على النسيان والكفران { أكثر شيء جدلا } [الكهف: 54] أي: جداله ومكابرته أكثر من جدال سائر المخلوقات، وأن رشده وإيمانه أكثر أيض منها أيضا.
ثم قال سبحانه: { وما منع الناس } عن الإيمان وصرفهم { أن يؤمنوا } أي: يوقنوا ويصدقوا { إذ جآءهم الهدى } أي: النبي الهادي المؤيد بالكتاب المعجز المرشد { و } صرفهم أيضا أن { يستغفروا } ويتوبوا عن ظهر القلب عقيب كل معصية، نادمين عنها بلا إصرار وإدمان؛ ليسقط عنهم الأخذ والانتقام { ربهم إلا أن تأتيهم } ويحيط بهم { سنة الأولين } من الإهلاك والاستئصال بغتة { أو يأتيهم العذاب قبلا } [اكهف: 55] أي: أنواعا وأصنافا منه، مترادفة متوالية كالكسف والخسف والمسخ وغير ذلك، فيهلكهم على سبيل التدريج.
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } بأنواع الفتوحات والفيوضات الروحانية، والكشوفات والشهودات اللدنية النورانية { ومنذرين } عن أنواع العذاب والعقاب والنكبات، والبليات المورثة لأنواع الخذلان الخسران والطرد والحرمان والخلود في النيران إصلاحا لأحوال الأنام، وإرشادا لهم إلى دار السلام، وحثا لهم إلى سلوك طريق التوحيد المنجي عن ظلمات الشكوك والأوهام.
{ و } مع ذلك { يجدل الذين كفروا } بالله ورسله، ويخاصمون معهم متشبثين { بالبطل } الزائغ الزائل { ليدحضوا } أن ينزعوا { به الحق } ويزلقوا الثابت المستقر المطابق للواقع عن مقره { و } لذلك { اتخذوا ءايتي } الدالة على عظمة ذاتي، ووفور حكمتي، وكمال قدرتي وقوتي { ومآ أنذروا } أي: ما اشتملت عليه من الإنذارات والتخويفات وأنواع الوعيدات { هزوا } [الكهف: 56] أي: موضع استهزاء وسخرية، ومحل هزل وضحكة؛ لذلك نسبوها إلى ما لا يليق بشأنه من السحر الشعر والأساطير الكاذبة، وغيرها من أنواع الهذيانات والأباطيل الزائغة افتراء ومراء.
{ ومن أظلم } على الله وأسوأ أربابا لنسبته إليه سبحانه { ممن ذكر بآيت ربه } ليتعظ بها ويصلح بسببها { فأعرض عنها } وانصرف من سماعها، فكيف عن قبولها امتثالها استنكارا واستكبارا { ونسي ما قدمت } أي : كسبت واقترفت { يداه } من الجرائم والآثام وأنواع الكفر والشرك والطغيان، ولو اتعظوا به وعملوا بمقتضاها لذهبت سيئاتهم وتضاعفت حسناتهمه، وكيف يتذكرون بها ولا يمكنهم التذكر { إنا } بمقتضى قهرنا وسخطنا عليهم { جعلنا } أي: طبعنا وختمنا { على قلوبهم } التي هي وعاء التذكر والقبول { أكنة } حجبا غليظة كثيفة مانعة { أن يفقهوه } أي: القرآن ويفهموا معانية ومقاصده، فكيف بغوامض رموزه وإشاراته { و } ختمنا أيضا { في ءاذانهم وقرا } صمما بمنعهم عن الاستماع والإصغاء إليه، فيكف عن فهمه والعمل به.
{ و } من غلظ غشاوتهم، وشدة قساوتهم وصممهم { إن تدعهم } يا أكمل الرسل { إلى الهدى } وترشدهم إلى الفلاح والفوز بالنجاح { فلن يهتدوا } ويفوزوا { إذا } أي: حين ختم قولبهم ووقر صماخهم { أبدا } [الكهف: 57] في أي حال من الأحوال؛ إذ لا يعارض فعلنا ولا يبدل قولنا إلا بأمرنا وتوفيقنا.
وتكذيبهم الرسل والكتب، وإصرارهم على الكفر والشرك، وإن كان يستدعي نزول العذاب عليهم فجأة لاستخفافهم بنزوهل إلا أنه يمهلهم { وربك الغفور } المبالغ في ستر ذنوب عباده وعيوبهم؛ لأنه { ذو الرحمة } الوسعة والحكمة الكاملة لعلهم يتنبهوا بقبح صنيعهم، ويتأملوا في وخامة عواقبهم، فانصرفوا عما هم عليه نادمين؛ إذ { لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } على الفور، لكن أمهلهم بمقتضى رحمته وحكمته زمانا لا دواما رجاء أن يتوبوا، ويرجعوا حوه تائبين آيبين { بل لهم } أي: بل لهلاكهم { موعد } لا نفع فيه التلافي والتوبة، وهو يوم الحشر والجزء، وقيل: يوم بدر { لن يجدوا من دونه موئلا } [الكهف: 58] منجي ومخلصا بل يعذبون ويهلكون فيه حتما، بحيث لا يسع لهم التقدم والتأخر أصلا.
{ وتلك القرى } التي في مرآك أطلالهم، وآثار منازلهم ومزارعهم { أهلكناهم لما ظلموا } أي: حين خرجوا عن مقتضى حدودنا وأوامرنا ونواهينا المنزلة في كتبنا لرسلنا وكذبوهم وأنكروا عليهم { و } من سنتنا القديمة أنا متى أردنا إهلاك قرية من المستوجبين للمقت والهلاك { جعلنا لمهلكهم } أي: هلاكهم وإهلاكهم { موعدا } [الكهف: 59] وقتا معينا حين وصلوا إليها هلكوا حتما مقضيا؛ إذ لا مرد لقضائنا المبرم، ولا معقب لحكمنا المحكم.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل قصة موسى الكليم عليه السلام وإعجباه لنفسه حين خطب على المنبر بعد هلاك القبط، ودخوله ملك مصر خطبة عجيبة بليغة إلى حيث رقت القلوب وذرفت العيون، فقيل له، هل في الأرض أعلم منك؟
قال: لا.
فعتب عليه سبحانه لإعجابه، فقال سبحانه: " إن لنا في مجمع البحرين عبدا هو أعلم منك ".
فقال موسى عليه السلام: دلني عليه يا ربي؛ لأخدمه وأتعلم منه، وأستفيد من فتوحات أنفاسه الشريفة.
فقال له سبحانه: " خذ حوتا مملوحا يكون زادا لك واطلبه، فحيث فقدت الحوت فهو ثمة " فأخذ ومضى على الوجه المأمور.
اذكر وقت: { إذ قال موسى لفته } وهو يوشع بن نون، وكان خادمه { لا أبرح } أي: لا أقعد ولا أستريح من السفر { حتى أبلغ مجمع البحرين } ملتقى بحر فارس والروم. وأجد عنده من دلني الله عليه { أو أمضي } وأسير { حقبا } [الكهف: 6] زمانا طويلا ومدة مديدة إن لم أجده هناك حتى أجده وأستفيد منه، فرمى الحوت المشوي المملوح في مكتل، وحمله يوشع فذهبا، وأوصى موسى لفتاه متى فقدت الحوت أخبرني.
{ فلما بلغا مجمع بينهما } أي: بين البحرين { نسيا } عند المجمع { حوتهما } يعني: نسي موسى التفقد والاستخبار من يوشع عنه، ونسي يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من أمر الحوت وحياته ووقوعه في الماء.
وذلك أنه عزم يوشع التوضؤ عند المجمع، وكان على شاطئ البحر صخرة، فتمكن يوشع عليها ليتوضأ، فانتضح الماء على مكتله، فترشح على الحوت، فوثب من المكتل، ورمى نفسه في البحر { فاتخذ سبيله في البحر سربا } [الكهف: 61] أي: صار الماء كالطاق يسري الحوت تحته بسهولة، فتعجب يوشع من حياته ووثبته في الماء وسلوكه، فارتحلا متجاوزين من البحر تلك الليلة والغد إلى الظهر فنسي يوشع ذكر ما رأى لموسى.
[18.62-74]
{ فلما جاوزا } من الصخرة يوما وليلية عييا وجاعا { قال } موسى { لفته آتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هذا } أي: الذي سرنا بعدما جاوزا الصخرة { نصبا } [الكهف: 62] تعبا وألما ما كنا قبل كذلك.
{ قال } يوشع متذكرا متعجبا: { أرأيت } يا سيدي وقت { إذ أوينآ إلى الصخرة } ورقدت عندها تستريح، وأنا أهم إلى التوضؤ وأمكن عليها لأتوضأ، فانتضح الماء إلى المكتل، فوثب الحوت نحو البحر، فاتخذ سبيله سربا { فإني } بعد تيقظك من منامك { نسيت الحوت } وقصته مع غرابتها وندرتها وكونها خارقة للعادة { ومآ أنسانيه إلا الشيطن أن أذكره } أي: أذكر عنده قصته العجيبة البديعة { و } كيف { اتخذ سبيله } حين رمى نفسه { في البحر عجبا } [الكهف: 63] أي: على وجه يتعجب من جريه الرائي.
ولما سمع مومسى من يوشع ما سمع من فقد الحوت على هذا الوجه سر وفرح { قال } على وجه الفرح والسرور: { ذلك } الأمر الذي وقع { ما كنا نبغ } ونطلب من سرفنا هذا؛ إذ هو علامة وجدان المطلوب وأمارة حصول الإرب { فارتدا على آثارهما } على الفوز، فأخذا يقصان { قصصا } [الكهف: 64] لإزالة شدة السفر إلى أن وصلا الصخرة المعهودة { فوجدا } عندها { عبدا } كاملا في العبودية والعرفان؛ لأنه { من } خلص { عبادنآ } وخيارهم، لأنا من وفور جودنا وإنعامنا عليه { آتيناه } أعطيناه { رحمة } كشفا وشهودا تاما موهوبا له { من عندنا } تفضلا بلا عمل له في مقابلتها يقتضي ذلك { و } مع ذلك { علمناه من لدنا } بلا وسائل الكسب والتعلم والطب والاستفادة، بل بمجرد توفيقنا وفضلنا إياه امتنانا له وإحسانا عليه { علما } [الكهف: 65] متعلقا بالغيوب،؛ حيث أخبر بما وقع ويقع وسيقع.
فلما وصلا إليه وتشرفا بشرف صحبته { قال له موسى } على سبيل الاستفادة والاسترشاد وحسن الأدب { هل أتبعك } أيها المؤيد الكامل المتحقق بمراتب اليقين بتمامها الواصل إلى بحر الوحدة الخائض في لججها { على أن تعلمن } وتفيدني { مما علمت } من سرائر المغيبات سوابقها ولواحقها { رشدا } [الكهف: 66] بالتوراة؛ أي: أرشدتني مقدار استعدادي وقدر قابليتي.
قال: يا موسى كفى بالتوراة علما، وببني إسرائيل شغلا.
قال موسى في جوابه: إن الله أمرني بالاستفادة والاسترشاد منك فلا تمنعني؟.
وبعدما ألح موسى { قال إنك } يا موسى بكمالك في العلوم الظاهرية المتعقلة بوضوح القواعد الدينية، ونصب المعالم الشرعية، وانتصاف الظالم من المظلوم، وانتقامه لأجله إلى غير ذلك من الأمورم السياسية { لن تستطيع } وتقدر { معي صبرا } [الكهف: 67] بل لا بد لك متى اطلعت على ما يخالف الشريعة والوضع المخصوص الذي جئت به من عند ربك، ونزلت التوراة على مقتضاه، فعليك أن تمنعه أو تعترض عليه على مقتضى نبوتك ورسالتك على سبيل الوجوب، والذي أنا عليه من العلوم المتعلقة بالسرائر والغيوب قد يخالف أصلك وقواعدك فلن تستطيع حينئذ معي صبرا.
ثم اعتذر وقال: { وكيف تصبر } يا موسى { على ما لم تحط به خبرا } [الكهف: 68] أي: علما وخبرة واطلاعا على سره ومآله { قال } موسى ملحا عليه: { ستجدني إن شآء الله } وتعلق إرادته بصبري { صابرا ولا أعصي لك أمرا } [الكهف: 69] أي: ما أخالفك فيما تفعل وما تريد على جميع ما جئت به من المغيبات الخارقة للعادات التي لم أفز بسرائرها، وهي مخالفة لظواهر الشرائع والأحكام.
وبعدما اضطره موسى إلى القبول { قال } له الخضر على سبيل التوصية والتوطئة: { فإن اتبعتني } بعدما بالغت { فلا تسألني } أي: فعليك ألا تفاتحني بالسؤال { عن شيء } انكرته مني، ووجدته مخالفا لظاهر الشرع { حتى أحدث } وأبين { لك منه ذكرا } [الكهف: 70] بيانا واضحا كاشفا عن إشكالك ودغدغتك بلا سبق سؤال منك.
ثم لما تعاهدوا على هذا { فانطلقا } يمشيان على ساحل البحر لطلب السفينة، فمروا على سفينة فاستحملا من أهلها، فحملوهما بلا نوال، فقربوهما إلى الساحل { حتى إذا ركبا في السفينة } على شاطئ البحر فجرت، فلما بلغت اللجة { خرقها } أي: أخذ الخضر فأسا فقلع منها لوحا أو لوحين، فلما رأى مسى منه ما رأى أخذ يسد الخرق بثيابه { قال } له مسى حينئذ على سبيل نهي المنكر: { أخرقتها لتغرق } بخرقها { أهلها } إذ من خرقها يدخل الماء فيها، فيغرقها ويغرق أهلها، والله { لقد جئت } بفعلك هذا { شيئا إمرا } [الكهف: 71] أي: منكرا عظيما هو قصد إهلاكك جماعة بلا موجب شرعي.
{ قال } له الخضر على سبيل التذكير والتشنيع: { ألم أقل } لك يا موسى من أول الأمر { إنك } باعتيادك بظواهر العلوم { لن تستطيع معي صبرا } [الكهف: 72].
{ قال } موسى معتذرا متذكرا لعهده: { لا تؤاخذني بما نسيت } أي: بنسياني وغفلتي عن وصيتك وعهدي معك { ولا ترهقني } أي: لا تغشني ولا تحجبني { من أمري } الذي بعثني على متابعتك، وهو الاطلاع على سرائر الأمور ومغيباتها { عسرا } [الكهف: 73] أي: لا تحجبني عن مطلوبي بالمؤاخذة على النسيان عسرا يلحجئني إلى ترك متابعتك، فيفوت غرضي ومطلوبي منك.
وبعدما ألح واقترح معتذرا قبل الخضر بالضرورة عذره، ثم لما نزلا من السفينة: { فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما } صبيحا صبيا لم يبلغ الحلم يلعب مع الصبيان { فقتله } الخضر فجأة على الفور بلا صدر ذنب منه وجريمة؛ بأن أخذ رأسه وضرب إلى الجدار فجأة على الفور بلا صدور ذنب منه وجريمة؛ بأن أخذ رأسه وضرب إلى الجدار إلى أن مات، فاشتد الأمر على موسى وامتلأ من الغيظ ولم يقدر كظمه، { قال } على سبيل التقريع والتوبيخ: { أقتلت نفسا زكية } معصومة بريئة من جميع الآثام { بغير } إهلاك { نفس } صدر منه قصدا؛ ليكون قتله قصاصا عنه شرعا، مع أنه لا ولاية لك حينئذ على قتله وإن صدر عنه القتل عمدا، والله { لقد جئت } بإتيانك هذا { شيئا نكرا } [الكهف: 74] في غاية النكارة؛ إذ قتل النفس من أعظم الكبائر سيما النفس المعصومة المنزهة عن جميع المعاصي، سيما بلا جرم أصلا.
[18.75-83]
وبعدما سمع الخضر منه إنكاره { قال } له على سبيل التشدد والغلظة: { ألم أقل لك إنك لن تستطيع } وتطيق { معي صبرا } [الكهف: 75] إذ لا مناسبة بين وبينك، ولا موافقة لعلمي مع علمك، فخلني على حالي ولا تشوشني، وانصرف عني وامض حيث شئت، فقد بلغت الطاقة.
ثم لما رأى منه موسى ما رأى من الغيظ والحرارة: { قال } معتذرا مستحييا: لا تحرمني عن صحبتك مما صدر عني من نقض العهد وسوء الأدب، ولا تردني يا سيدي { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصحبني } ولا تجعلني رفيقك وصاحبك؛ لأنك { قد بلغت من لدني } ومن قبلي وأجلي { عذرا } [الكهف: 76] فلا أعتذر لك بعد هذا، بل أفارقك إن وقع مني ما يشوشك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" رحم الله أخي موسى استحى فقال ذلك، لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب ".
{ فانطلقا } بعدما تقاولا في أمر العلوم ما تقاولا { حتى إذآ أتيآ أهل قرية } هي أنطاكية أو أيلة { استطعمآ أهلها } من شدة جوعهما واحتياجهما إلى الطعام { فأبوا } وامتنعوا { أن يضيفوهما } يميلوهما إلى نيل الطعام ونوله { فوجدا فيها جدارا يريد } أي: يميل ويشرف { أن ينقض } أي: يسقط وينهدم { فأقامه } الخضر وعدله وسواه بالعمود وأسقطه وأحكم بنيانه جديدا.
ثم لما رأى موسى منه أمرا مستغرببا مستبعدا، وهو أنهما على جناح السفر، لوم يكن لهما شغل وغرض متعلق بتعمير الجدار وإقامته { قال } على سبيل التعرض بأنه فضول: { لو شئت لتخذت عليه أجرا } [الكهف: 77] وأخذت جعلا واكتسبت التقوت والزاد بعدما أبوا عن الضيافة.
ثم لماسمع الخضر من موسى ما سمع: { قال هذا } أي: سؤالك وتعريضك هذا { فراق بيني وبينك } أي: يوجب مفارقتي عنك، لكن لا أفارقك في الحال بل { سأنبئك } وأخبرك { بتأويل ما } أي: بتأويل الأمور التي أنكرت عليها، واعترضت مفتتحا إياها مستعجلا بحيث { ما لم تستطع عليه صبرا } [الكهف: 78] حتى أحدثك وأبينك سرائرها مع أني أوصيتك أولا ببيانها.
ثم فصلها فقال: { أما السفينة } التي خرقتها بإلهام الله إياي، وإلقائه على قلبي { فكانت } هي { لمساكين } ضعفاء لا مكسب لهم سواها { يعملون في البحر } بها ويعيشون من نولها { فأردت أن أعيبها } أي: أجعلها ذات عيب { وكان ورآءهم ملك } ظالم سيئ عليهم، وهو { يأخذ كل سفينة } صحيحة غير معيبة { غصبا } [الكهف: 79] ظلما وزورا بلا فدية، فجعلتها ذات عيب حتى تبقى لهم، وذلك بإذن من الله عناية منه سبحاه لضعفاءعباده ورعاية لحالهم ومصلحتهم.
{ وأما الغلام } الذي قتلته على الفور، فهو غلام قد جبله الله على الكفر والعصيان وأنواع الشرك والطغيان { فكان أبواه مؤمنين } موحدين مسلمين { فخشينآ } عليهما من سوء فعاله وقبح حاله { أن يرهقهما } ويغشيهما ويغطيهما { طغيانا وكفرا } [الكهف: 80] من غاية حبهما له وتحننهما إياه { فأردنآ } وأحببنا بقتله وهلاكه { أن يبدلهما } أي: يرقهما ويهب لهما { ربهما } الذي رباهما بنعمة التوحيد والإيمان وكرامة العصمة والعفاف ولدا { خيرا منه زكاة } أي: طهارة مطهرة عن خبائث الكفر والآثام، متصفة بجبلة الإيمان والإسلام { وأقرب رحما } [الكهف: 81] مرحمة وعطفا وبرا على الوالدين ولطفا .
قيل: ولدت له جارية بدل الغلام، فتزوجها نبي من الأنبياء، فولدت نبيا هدى الله به أمة من الأمم.
{ وأما الجدار } الذي أردت إقامته، وقصدت تعميره بإلهام الله ووحيه { فكان لغلامين يتيمين في المدينة } ولم يبلغا الحلم { وكان تحته كنز لهما } مدفون مخزون من ذهب وفضة { وكان أبوهما } رجلا { صالحا } موحدا مسلما، متوجها نحو الحق دائما { فأراد ربك } يا مسى من كمال لطفه وعطفه لليتيمين ورعاية للأب الصالح { أن يبلغآ أشدهما } ويدخلا رشدهما ويخرجا عن اليتم؛ إذ لا تم بعد البلوغ، ويصيرا ذوي رأي رزين وفكر بين { و } بعد ذلك { يستخرجا كنزهما } وإنما أمرني الله سبحانه بإقامة الجدار وإحكام المخزن { رحمة } وعطفا { من ربك } يا موسى شاملة إياهما تتميما لتربيتههما وتقويتهما.
{ و } بالجملة: { ما فعلته } وأنكرت عليه واعترضت وتعرضت عليه ليس صادرا { عن أمري } ورأي نائشا عن تدبر عقلي وفكري، بل مما ألهمني الله به وهاني عليه وأمرني بفعله، فأنا مأمور والمأمور معذور { ذلك } المذكور على التفصيل { تأويل ما لم تسطع } ولم تطق { عليه صبرا } [الكهف: 82] حتى ظهر لك سره.
ومما جرى بينهما - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما - يتفطن العارف اللبيب والطالب الأريب الأديب أن شرط الاستفادة والاسترشاد، ومناط الاستكمال وطلب الرشاد، هو أن يميت المريد المسترشد نفسه عند المرشد الكامل المكمل بالمت الإرادي؛ بحيث لا يتصدى إلى معارضه ومقابلته، وإن جزم أن قعل المرشد خارج عن مقتضى العقل الشرع على زعمه، بل حمل فعله على المحمل الأصوب، وسكت عن الجدال والمقابلة؛ إذ بعدما فوض أمره كله إلى مرشده واتخذه وكيلا وأخذه ضمينا وكفيلا، فقد فني فيه وبقي ببقائه، فلم يبق له التصرف أصلا بمقتضيات قواه وجوارحه ومداركه ومشاعره.
هب لنا ربنا من لدنك رحمة تنجينا عن تسويلات نفوسنا.
ثم قال سبحانه على وجه التنبيه لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: { ويسألونك } يا أكمل الرسل، أي: اليهود المردودون والنصارى المنجوسون المطرودون سؤال اقتراح وامتحان مثل سؤال أصحاب الكهف والروح { عن ذي القرنين } وأطواره وكيفية سيره وطوافه حول العالم { قل سأتلوا } وأقرأ وأذكر { عليكم منه } أي: من ذي القرنين وقصته { ذكرا } [الكهف: 83] قد أخبرني به سبحانه بالوحي في كتابه المعجز، وهو الإسكندر الأكبر الرومي بان الفيلقوس الرومي، سمي بذي القرنين؛ لأنه طاف قرني الدنيا؛ أي: المشرق والمغرب، اختلف في ولايته ونبوته.
[18.84-97]
أخبر عنه سبحانه بقوله: { إنا } من مقام عظيم جودنا وفضلنا { مكنا له } وقدرناه { في الأرض } تمكنا تاما وقدرة كاملة { و } ذلك { آتيناه } أعطيناه تأييدا له وتعضيدا { من كل شيء سببا } [الكهف: 84] موصلا إلى مبتغاه وما أمله؛ يعني: وفقنا وهيأنا أسبابه للوصول إلى كل مطلوب قصده وأراد الوصول { فأتبع سببا } [الكهف: 85] حتى ارتكب أمر الوثوقة واتكاله علينا، وبإنجاحنا إياه إلى مبتغاه.
ثم لما أراد أن يسير نحو المغرب، فاتبع سببه وسار { حتى إذا بلغ مغرب الشمس } أي: موضعا تغيب الشمس فيه؛ يعني: لم يبلغه حقيقة، وإنما بلغ قوما ليس وراءهم؛ أي: نهاية حد العمارة من جانب المغرب على ساحل المحيط { وجدها } أي: الشمس { تغرب } وتغيب { في عين حمئة } أي: ذات حمأة وهي الطين والماء، وقرئ: " حمية " أي: حارة. ويجوز أن يكون عينا ذات حماءة حرارة، يعني: غروبها في رأي العين على عين صفتها هذه، وإلا فلا تسع الشمس في جميع كرة الأرض، فكيف بجزء منها؛ إذ نسبه كرة الأرض إلى عظم جرم الشمس عند أهل الرصد كنسبة جزء من مائة وست وستين جزءا.
{ ووجد عندها } أي: عند العين الموصوفة { قوما } كفارا نافين للصانع الحكيم، لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما لفظ البحر بالموج من أنواع الحيوانات الميتة، فلما وصل ذو القرنين إليهم ووجدهم كفارا، خيرناه في أمرهم عناية منا بأن { قلنا } له وألهمنا عليه مناديا: { يذا القرنين } لك الخيار في شأن هؤلاء الكفار { إمآ أن تعذب } أي: تهلكهم وتستأصلهم بكفرهم؛ بيحث لا يبقى منه أحد { وإمآ أن تتخذ } وتصنع { فيهم حسنا } [الكهف: 86] شرعا ودينا كما في سائر المؤمنين.
ثم لما خير ذو القرنين في أمرهم، وفوض أمرهم إليه: { قال } على مقتضى العدل والإنصاف الذي جبله الحق عليه: ادعوهم أولا إلى الإيمان، وألق عليهم كلمة التوحيد والعرفان: { أما من ظلم } واستعلى وأبى وأصر على ما عليه من الكفر منه والهوى { فسوف نعذبه } أي: نقتله حدا بعد عرض الإسلام، ولم يقبل في دار الدنيا { ثم يرد إلى ربه } في يوم الجزاء { فيعذبه عذابا نكرا } [الكهف: 87] شديدا مجهولا لا يعرفه أهل الدنيا.
{ وأما من آمن } منهم { وعمل } على مقتضى الإيمان عملا { صالحا } فنصلح حالهم، ونراعيه في الدنيا { فله } في يوم الجزاء عند واهب العطايا { جزآء الحسنى } والمثوبة العظمى والدرجة العليا والجزاء الأوفى { وسنقول له من أمرنا } الذي أمرنا بالتخير في أمر أولئك الهالكين في تيه الغواية { يسرا } [الكهف: 88] سهلا معتدلا بين إفراط القتل والاستئصال، وتفريط الإبقاء على الكفر والضلال مداهنة.
{ ثم } بعدما وضع بين أهل المغرب الشرع بالأمر الإلهي { أتبع سببا } [الكهف: 89] آخر يوصله إلى المشرق، وسار { حتى إذا بلغ مطلع الشمسا } ومضع شروقه وإضاءته على العالم { وجدها تطلع } وتضيء أولا { على قوم لم نجعل لهم من دونها ستر } [الكهف: 90] يعني: لم نجعل لهم حائلا كثيفا وحجابا غليظا؛ ليكون سترا لهم من حر الشمس وقت طلوعها لا من الجبل ولا من الحجر والشجرة وغيرها، بل كلهم عزل عراة لا لباس لهم أصلا، وهم يحفرون الأرض، ويتخذون سراديب وأخاديد يدل الأبنية؛ لأن أرضهم لا تمسك النباء { كذلك } أي: هم أيضا كفار مثل أهل المغرب، وهم أشد الناس في الحروب والمعارك وأجرئهم على القتال والاقتحام في الوغاء، ولهم آلات واسلحة عجيبة وعدد بديعة لا كمثل سائر آلات الناس وعددهم، وهم أكثرهم أيضا عددا.
{ و } مع كثر عددهم ومركهم وخداعهم { قد أحطنا بما لديه خبرا } [الكهف: 91] يعني: أعلمنا إسكندر ومن عنده من الجند والخدمة علما بجال أعدائهم، فقاتلوا معهم وغلبوا عليهم، فوضع عليهم أيضا شعائر الإسلام مثل ما وضع لأهل المغرب { ثم أتبع سببا } [الكهف: 92] ثالثا، وسار على العرض بين المشرق والمغرب.
{ حتى إذا بلغ بين السدين } أي: بين الجبلين اللذين سد بينهما إسكندر بسد منيع، وهما جبلا يأجوج ومأجوج { وجد من دونهما } أي: عندهما { قوما } أعجميا { لا يكادون يفقهون } ويفهمون { قولا } [الكهف: 93] لغة من اللغات المتداولة.
{ قالوا } بلسان الواسطة والترجمان: { يذا القرنين } نحن أناس ضعفاء مظلومون نحتاج إلى إعانتك؛ لتنقذنا من يد الظلمة { إن يأجوج ومأجوج } علمان للقبيلتين من الترك هما { مفسدون في الأرض } أي: في أرضنا هذه بأنواع الفسادات.
قيل: كانوا يخرجون في الربيع فلا يتركون أخضر ربطا إلا أكلوه، ولا يباسا إلا حملوه، وقيل: كانوا يأكلون الناس أيضا.
{ فهل نجعل لك خرجا } جعلا نوزع بيننا فيبلغ مبلغا وافيا { على أن تجعل } بسطوتك وسلطتك { بيننا وبينهم سدا } [الكهف: 94] منيعا لا يمكنهم الخروج علينا فنأمن شرهم بجاهك.
{ قال ما مكني فيه ربي خير } أي: ما جعلني وخصني ربي بفضله وجوده مكينا من المال والملك خير مما تجمعوت بتوزيعكم وتخريجكم، ولا حاجة إلى أموالكم بل إلى إعانتكم وسعيكم أجراء { فأعينوني } في وضع هذا السد { بقوة } أي: عملة وصناع يأخذون مني أجرتهم ويعلمون { أجعل } بفضل الله وسعة جوده إن تعلق به مشيئته { بينكم وبينهم ردما } [الكهف: 95] حاجزا حصينا منعيا وثيقا؛ بحيث لا يقبل التخريب إلى انقراض الدنيا.
{ آتوني } وأحضروا عندي أولا { زبر الحديد } أي: قطعها الكبيرة، فأتوا بها فأمرهم بحفر الأرض إلى أن وصل الماء، فوضع الأساس من الصخر النحاس المذاب حتى وصل وجه الأرض، ثم أمرهم بتنضيد قطع الحديد بأن وضعوا بين كلا قطعتي الحديد فحما وحطبا، وأمرهم بارتفاعهم هكذا { حتى إذا ساوى بين الصدفين } أي: بين جانبي الجبلين حتى امتلأ بين الجبلين، وصار ما بينهما مساويا للطرفين في الرفعة، ثم أمرهم بوضع المنافع العظام من كلا طرفي السد.
ثم { قال } لهم: { انفخوا } فنفخوا { حتى إذا جعله نارا } أي: جعل المنفوخ فيه مثل النار في اللون الحرارة، فاحترق الحطب والفحم، واتصل بالزبر المحماة وبقيت فرج صغار إلى حيث لم تصل إلى الملاسة والاستواء { قال آتوني } نحاسا مذابا { أفرغ } وأصب { عليه قطرا } [الكهف: 96] حتى يصير ملساء مسوى لا فرج لها، ولا يرى أوصالها أصلا فصب فاستوى فصار أملس كأنه لا فرج فيه أصلا.
{ فما اسطاعوا } أي: ما قدر يأجوج ومأجوج { أن يظهروه } ويصعدوا عليه ويعلوا لارتفاعه وملاسته { وما استطاعوا له نقبا } [الكهف: 97] لعمقه وغلظة كننه.
[18.98-110]
فلما تم السد واستوى { قال } ذو القرنين مسترجعا إلى الله شاكرا لأنعمه: { هذا } أي: إتمام هذه السد على الوجه الأسد الأحكام { رحمة } نازلة علي { من ربي } إذ لولا توفيقه وتمكينه لما صدر عني بقوتي أمثال هذا { فإذا جآء وعد ربي } وقرب قيام الساعة، وظهر أماراتها وأشراطها.
ومن جملة أماراتها: خروج يأجوج ومأجوج { جعله } سبحانه هذا السد السديد الرفيع { دكآء } أي: مدكوكا مسوى مفتتا أجزاؤه؛ بحيث لم يبق له ارتفاع أصلا، وهم حينئذ يخرجون على الناس { وكان وعد ربي } بقيام الساعة واستواء الأ { ض، وكونها دكا بحيث لا عوج لها ولا أمتا { حقا } [الكهف: 98] ثابتا محققا لا شبهة فيهز
ثم قال سبحانه: { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } اي: وبعدما جعلنا الأرض مبسوطة مدكوكة بمقتضى قهرنا وجلالنا، وجعلنا السد السديد الرفعيت المنيع مسوى، أخرجنا يأجوج ومأجوج بإقدارنا إياهم بالخروج، وتركنا بعض الناس يموج ويزدحم ويدخل من صولتهم واستيلائهم بعضا مضطربين ومضطرين، { و } هم في ذلك الاضراب والتشتت من استيلا أولئك الظلمة القهارين القتالين { ونفخ في الصور } للحشر إلى المحشر وقامت الطامة الكبرى { فجمعناهم } حينئذ؛ أي: جميع الخلائق للعرض والحساب { جمعا } [الكهف: 99] مجتمعين في المحشر.
{ و } بعد جمعنا إياهم { عرضنا جهنم يومئذ } أي: يوم الحشر { للكافرين } المعرضين المكذبين للرسل والكتب، المنكرين ليوم العرض والجزاء { عرضا } [الكهف: 100] على سبيل الإلزام والتبكيت للقوم { الذين كانت أعينهم } في النشأة الأولى { في غطآء } وغشاوة كثيفة { عن ذكري } أي: عن آياتي الدالة على ذكري المؤدي إلى التفكر والتدبر في آلائي ونعمائي، المؤدي إلى ملاحظة ذاتي المنتهية إلى المكاشفة والمشاهدة للمؤنين المؤيدين من عندي، المنجذبين نحو توحيدي { وكانوا } أيضا { لا يستطيعون } ولا يقدرون { سمعا } [الكهف: 101] أي: إصغاء والتفاتا؛ اي: استماع كلمة الحق لتعطيلهم من خبث فطرتهم وطينتهم نعمة الحق الموهوبة لهم لاستماع كلمة الحق وإصفاء دلائل التوحيد عن مقتضاها.
ثم قال سبحانه على سبيل التقريع والتوبيخ للكفرة المشركين المتخذين آلهة سوى الله من مصنوعاته ومخلوقاته: { أفحسب } وظن القوم { الذين كفروا } وأشركوا بسبب { أن يتخذوا عبادي من دوني } مثل عزير وعيسى وجميع الأوثان والأصنام { أوليآء } آلهة يعبدونهم كعبادتي أنا لا نأخذهم ولا ننتقم منهم في يوم الجزاء؟! كلا وحاشا.
وكيف لا نأخذهم { إنآ } من كمال قهرنا وغضبنا على من أشرك بنا غيرنا، وأثبت إلها سوانا { أعتدنا } وهيأنا { جهنم } البعد والخذلان الممتلة بنيران الحرمان { للكافرين } المعرضين عن مقتضيات آياتنا وكتبنا ورسلنا { نزلا } [الكهف: 102] أي: منزلا معدا ينزلون فيها يوم الجزاء نزول المؤمنين في جنة الوصال ومقر الآمال.
{ قل } يا أكمل الرسل للمشركين المتخذين أربابا من دون الله من مصنوعاته، يعبدونهم مثل عبادته، وينكرون توحيده، ويكذبون كتبه ورسله المبينة لأحوال النشأتين { هل ننبئكم } أي: نخبركم ونرشدكم أيها المنهمكون في الخسران والطغيان { بالأخسرين أعمالا } [الكهف: 103] أي: العاملين الذين خسروا من جهة أعمالهم مع أنهم زعموا الربح فيها.
وهم: { الذين ضل } أي: بطل وضاع { سعيهم } الذين سعوا { في الحياة الدنيا } بإتيان الأعمال الصالحة والإنفاق، وبناء بقاع الخير وغير ذلك، كالرهابنة والقسيسين، وكذا عموم أهل العجب والرياء من أي: أمة كانت { وهم } في النشأة الأولى { يحسبون } ويظنون { أنهم يحسنون صنعا } [الكهف: 104] ينفعهم عند الله، ويتوقعون المثوبة العظمى والدرجة العليا لأجلها، مع أنهم خاسرون خسرانا مبينا؛ لفقدهم ما هو مبني الأعمال ومناط العبادات، وهو الإيمان بتوحيد الله والتصديق بكتبه ورسله.
{ أولئك } البعداء الأشقياء المجبولون على الكفر والشقاق هم { الذين كفروا } وكذبوا { بآيات ربهم } الدالة على توحيده وتصديق رسله وكتبه { ولقائه } الموعود لعباده عند إنجلاء جميعهم وارتفاع أستارهم { فحبطت } أي: ضاعت واضمحلت وضلت في النشأة الأخرى { أعمالهم } التي جاءوا بها في النشأة الأولى، ولطلب النفع والربح { فلا نقيم } ونضيع { لهم يوم القيامة } المعدة لجزاء الأعمال وتنقيدها { وزنا } [الكهف: 105] مقدارا ينتفع ويعتد بها؛ لانحباطها وسقوطها عن درجة الاعتبار لدى الملك الجبار.
بل: { ذلك } العلم المترتب على الكفر والشرك { جزآؤهم } ونفعهم العائد لهم لأجل أعمالهم في يوم الجزاء { جهنم } البعد والحرمان، وسعير الطرد والخسران { بما كفروا واتخذوا } أي: بكفرهم واتخاذهم { آياتي ورسلي } المؤيدين بآياتي، المبعوثين على تبيين دلائل توحيدي بين عبادي { هزوا } [الكهف: 106] محل استهزاء يستهزئون وينكرون عليها عتوا وعنادا.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد: { إن الذين آمنوا } وأيقنوا بتوحيد الذات والصفات والأفعال { وعملوا الصالحات } المقربة إلى التوحيد الذاتي، الملائمة المناسبة لشعائره ومناسكه { كانت لهم جنات الفردوس } وهو وسط الجنة المشرف على أطرافها المرتفع منها.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا سألتم الله فأسألوا الفردوس فإنه وسط الجنة ".
وهو بستان الغيب ومهبط الفتوحات الغيبية، وأيضا هو أعلى مراتب التوحيد، وعند ذلك انتهى السير والسلوك، وبعد ذلك السلوك فيه لا إليه وبه { نزلا } [الكهف: 107] أي: منزلا ينزلون إليه ويتمكنون.
{ خالدين فيها } ولصفائها ونضارتها، ودوام لذاتها الروحانية وفيوضاها { لا يبغون } ولا يطلبون بالطبع والإرادة { عنها حولا } [الكهف: 108] أي: انتقالا وتحويلا؛ لكونه مقر فطرتهم الأصلية ومنزل استعداداتهم الحقيقية؛ إذ فوقه عرش الرحمن المفيض لجميع القوابل والاستعدادات مقتضياتها.
ثم لما طعن اليهود في القرآن، وأرادوا أن يثبتوا التناقض في بعض آياته مع بعض؛ حيث قالوا: أنتم تقرأون في كتابكم تارة:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة: 269] وتارة تقرأون:
ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء: 85] وما هو إلا تناقض صريح.
أمر سبحانه حبيبه بقوله: { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما يسقط شبهتهم إن أنصفوا، نحن لا ندعي أن من أوتي الحكمة فقد أوتي بجميع معلومات الله وعلومه، وكيف ندعي هذا وهو ممتنع محال في غاية الامتناع والاستحالة؛ إذ { لو كان البحر } أي: جنس البحر، وهو جميع كرة الأرض { مدادا } أي: ماء يمد به القلم للرقم والكتابة { لكلمات ربي } أي: لثبتها وكتبها { لنفد البحر } وانتهى ألبتة؛ لتناهيه وكونه محددا { قبل أن تنفد كلمات ربي } لكونها غير متناهية { ولو جئنا بمثله } غير محدودة بحد معين، وكيف لا تنفذ وتتناهى { و } أي: بمثل جنس البحر بل بأضعاف أمثاله وآلافها { مددا } [الكهف: 109] إذ لا مناسبة بين المتناهي وغير المتناهي، وإن فرض أضعافا وآلافا.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما بلغت لهم كلمات الله الغير المحصورة كلاما خياليا عن وصمة التفوق، والتفضل المفضي للرعونة ناشئا عن محض الحكمة والفطنة: { إنمآ أنا بشر مثلكم } قابل للعلوم الإدراكات على مقتضى البشرية، لا فرق بيني وبينكم بحسب الفطرة، غاية في الأمر أنه { يوحى إلي } ويفاض إفاضة علم و عين حق { أنمآ إلهكم } ومعبودكم ومظهركم { إله واحد } أحد صمد فرد وتر، ليس له شريك ولا نظير ولا وزير، بل هو مستقل في الوجود والإيجاد والإظهار، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد استقلالا إرادة واختيارا، وإنما امتيازي عنكم بهذا.
{ فمن كان } منكم { يرجوا } رجاء مؤمل بصير { لقآء ربه } مكاشفة ومشاهدة { فليعمل عملا صالحا } قالعا لأصل أنانيته وهويته، قامعا لمقتضيات أوصاف بشريته وبهيميته، مزيلا لذمائم أخلاقه وأطواره { و } مع ذلك { لا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف: 110] من خلقه، أي: لا يقصد من عمله وعبادته الرياء والسمعة والعجب والنخوة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ".
قالوا: وما الشرك الأصغر؟.
قال: " الرياء ".
وقال تبارك وتعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو الذي عمله لأجله ".
وبالجملة: يعمل على وجه يسقط الكثرة والاثنينية لا على وجه يؤيدها ويكثرها، بل العامل العارف لا يطلب لعلمه الجزاء أيضا، بل إنما يعلم امتثالا لأمره سبحانه وطلبا لمرضاته، ولا يخطر بباله شيء وساه.
جعلنا الله ممن تحقق بمقام التوحيد، وأمنه عن توهم الرياء والتقليد، وحفظه من كل شيطان مريد.
خاتمسة السورة
عليك أيها الموحد القاصد للتحقق في مقام التمكن من التوحيد. قررك الله في مقعد صدقك ويقينك، وثبتك في مقر تثبيتك وتمكينك. أن تحفظ أعمالك التي جئت بها متفرقا الوصول إلى محل القبول عن مداخل الرياء والسمعة والعجب وأنواع الرعونات؛إذ هي كلها شباك الشيطان وعقاله، يقيد بها خواص عباد الله، ويلهيهم بها عما هم عليه من الرضا والتسليم، ويوقعهم في قتنة عظيمة ومعصية كبيرة مستلزمة للشرك بالله، العياذ به من غوائل الشيطان وتسويلاته ويخلصها لمحض وجهه الكريم.
فعليك أن تلازم العزلة، وتداوم الخلوة حتى لا يلحقكمن الخلطة أمثال هذه الأمراض العضال، وأيضا لك أن تجلي خاطرك وتصفي ضميرك عن هواجسك المتعلقة بأمور معاشك بين بني نوعك، فإن أكثر عروض هذه الأمراض إما يحصل من الأماني واللذات الوهمية من الجاه والثروة والتفوق على الأقران وغير ذلك.
وإن شئت أن يسهل عليك الأمر فاشغل جوارحك لكسب ضرورات معاشك في بعض الأحيا، واقنع بأقل المعيشة وسد الرمق، واحذر عن فضول العيش، فإن أكثر فحول الرجال قد استرق بفضول الأماني والآمال.
وبالجملة: نعم القرين العزلة، والفرار عن تغريرات الدنيا الغدارة المكارة، والخمول في زوايا الكهوف والأغوار عن اختلاط أصحاب الخسار والبوار.
وفقنا بفضلك وجودك بما تحب منا وترضى.
[19 - سورة مريم]
[19.1-11]
{ كهيعص } [مريم: 1] يا كافي مهام جميع الأنام، وهاديهم إلى دار السلام بيد القدرة العلية الصادرة عنك نيابة عنا.
هذه السورة: { ذكر رحمت ربك } الذي رباك كافيا هدايا للمضلين ينبوعا للعلوم الصافية اللدنية الجارية من قبلك على لسانك بمقتضى الوحي الإلهي والإلهامات الغيبية { عبده زكريآ } [مريم:2] المتوجه نحوه في السراء والضراء، المسترجع إليه عند هجوم البلاء وحلول العناء.
اذكر وقت { إذ نادى ربه } نداء مؤمل ضريع، وناجى معه مناجاة ما يؤنس فجيع { ندآء خفيا } [مريم: 3] متمنيا متحسرا، آمرا في ندائه ليأسه وقنوطه؛ لانقضاء وقت الولد وأوانه؛ لئلا يلام عند الناس لطلب الولد وقت الهرم من كلا الجنابين.
حيث { قال } مشتكيا إلى الله باثا شكواه عنده سبحانه: { رب } يا من رباني بأنواع اللطف والكرم { إني } من غاية ضعفي، ونهاية هزالي ونحولي { وهن العظم مني } أي: ضعفت دعائم جسمي وقوائم بدني، وأشرفت على الانهدام والانصرام { واشتعل الرأس شيبا } أي: اشتعل شبيب رأسي، وذهب سواده، وانقلب إلى البياض المشعر بالانقضاء والزوال، مثل ابيضاض النباتات وقت الخريف { ولم أكن بدعآئك } أي: لم أكن في كل حال بدعائي إياك { رب شقيا } [مريم: 4] خائبا خاسرا مردودا، بل عودتني بفضلك وجودك بالإجابة والإنجاح، وهذا الدعاء وإن كان أبعد بحسب العادة من الإجابة إلا أنه بالنسبة إلى قدرتك وجودك أقرب، ويجنب حولك وقوتك أسهل وأيسر، سيما ألهمتني به ووفقتني على إظهاره.
{ وإني } يا رب { خفت الموالي } أي: ن أبناء أعمامي الذين يترصدون الولاية والحبورة { من ورآءى } وبعد انقراضي وانقضائي أن يغيروها ويضيعوها، ويحرفوا معالم الدين وشعائر الإسلام بين المسلمين؛ إذ لا يرجى منهم الرشد والصلاح، والخير والفلاح، وأنت أعلم بحالهم مني يا رب، وليس لي ولد صالح يخلفني بعدي، ولم يبق لي قوة الاستيلاد لهرمي وضعفي { وكانت امرأتي عاقرا } عقيما أصليا لم تلد قط، فلا مرجع لي في أمري سوى بدائع صنعتك، وغرائب قدرتك { فهب لي } بمقتضى فضلك وجودك { من لدنك } لا على طريق العادة ومقتضى الأسباب الصوري ولدا { وليا } [مريم: 5] يولي أمر دين بني أمتي.
بحيث: { يرثني } عني نبوتي وحبورتي وولايتي، وجيمع ما أنزلت علي خاصة من مقتضيات إحسانك إلي وإنعامك علي { ويرث } أيضا { من آل يعقوب } ما بقي منهم من شعائر الدين ومعالم الهدى واليقين، قيل: كان زكريا أخا يعقوب بن إسحاق، { و } بالجملة: { اجعله رب } بمقتضى كرمك وجودك { رضيا } [مريم: 6] راضيا عنك بجميع ما جرى عليه من قضائك، صابرا على نزول عموم بلائك، شاكرا على نعمائك مرضيا عندك وعند عموم عبادك.
ثم لما اشتكى عنده سبحانه بما اشتكى، ودعا ما دعا أجاب سبحانه دعاءه، وأسرع إجابته مناديا له على سبيل الترحم والتفضل: { يزكريآ } المتضرع المناجي إلينا، المستدعي منا خلفا يخلفك ويحيي اسمك { إنا } من مقام عظيم جودنا { نبشرك بغلام } يولد منك ومن زوجتك العقيمة العاقرة { اسمه يحيى } ليحيي مراسم دينك وشرعك وحبورتك مع أنه { لم نجعل } ولم نخلق { له من قبل سميا } [مريم: 7] بهذا الاسم.
بهل هو أول من سمي به.
سمع زكريا البشارة من قبل الحق، { قال } على سبيل الفرح وبسط الكلام معه سبحانه، وإن كان جميع أحواله حاصلا عنده سبحانه على التفصيل حاصلا حاضرا لديه مستبعدا مستغربا: { رب أنى يكون لي غلام } في سني هذا وضعفي ونحولي { و } قد { كانت امرأتي عاقرا } جبليا { وقد بلغت من الكبر } والكهولة والهرم { عتيا } [مريم: 8] يبسا؛ بحيث لا يبقى على رطوبة في مفاصلي وأركان بدني وقوائم جسمي؟!.
{ قال } سبحانه: يا زكريا لا تستبعد من قدرتنا أمثال هذا بل { كذلك } أي: مثل ذلك قدرنا لك أبنا بأن تكون باقيا على كبرك وهرمك، وزوجتك أيضا على هرمها وعقرها، نخرج ونوجد منكما الولد إظهارا لقدرتنا الكاملة وأمثال هذا وإن كان عسر عادة، علينا يسير وفي جانب قدرتنا سهل يا زكريا.
كذلك { قال ربك } اسمع قوله: { هو علي هين } أي: إخراج الولد منك ومن زوجتك علي سهل يسير وفي جنب حولي وقوتي حقير { و } كيف لا يكون سهلا إني { قد خلقتك } وقدرت وجودك فيما مضى من العدم { من قبل ولم تك شيئا } [مريم: 9] ولا مسبوقا بشيء، بل أوجدتك إيجادا إبداعيا، وأظهرتك من كتم العدم إظهارا إختراعيا بلا سبق مادة ومدة وسبب وعادة، وهذا هين بالنسبة إلى ذاك.
ثم لما تفطن زكريا بإنجاح مطلوبه، أخذ يطلب العلامة والأمارة لحمل امرأته؛ حيث: { قال رب اجعل لي } بفضلك { آية } علامة دالة على حمل امرأتي { قال } سبحانه { آيتك ألا تكلم الناس } أي: لا تقدر على المقاولة والمكالمة { ثلاث ليال } مع نهارها لا عن عروض عارضة ولحوق مرض وخرس بل كنت { سويا } [مريم: 10] صحيحا سالما عن جميع الأسقام، غير أن اشتغالك بالحق شعلك عن الخلق؛ بحيث لا تطيق التكلم معهم في المدة المذكورة إلا رمزا وإشارة إيماء.
ثم لما دنا وقت الحمل ولاحت أماراته { فخرج } صبيحة { على قومه من المحراب } أي: الحجرة التي هو فيها في خلوته للصلاة على عادته المستمرة، وكان من عادته أن يأمرهم في كل صبيحة خرج عليهم بالصلاة والدعاء والخشوع والتوجه { فأوحى } أي: أومأ وأشار { إليهم } بلا قدرة على النطق والتكلم { أن سبحوا } ربكم ونزهوه عما لا يليق بجنابه { بكرة وعشيا } [مريم: 11] أي: في الصبيحة التي أنتم فيها والبكرة التي ستجيء إلى العشية الآتية وإلى الصبحة بعده، أوصاهم كل يوم بذلك على الدوام، وفي تلك المدة ما قدر على التكلم لذلك أشار وأومأ.
[19.12-25]
ثم لما أومأ سوينا خلقة يحيى، وأخرجناه من بطن أمه صحيحا سويا، قلنا له تربية وتكريما: { ييحيى } الموهوب من لدنا المؤيد من عندنا { خذ الكتاب } أي: التوراة واشرع في ضبطها وحفظها { بقوة } أي: بنية خالصة وعزيمة صحيحة { و } إنما أمرناه بحفظها وضبطها؛ إذ { آتيناه الحكم } يعني: الحكمة المندرجة فيها، وأعطينا فهمها واستنباط الأحكام منها حال كونه { صبيا } [مريم: 12] لم يبلغ الحلم.
{ و } إنما آتيناه وأعطيناه في حال صغره فهم التوراة { حنانا } ترحما وتعطفا ناشئا { من لدنا } تكريما له ولأبيه { و } لهذا أيضا أعطيناه { زكاة } طهارة عن الخبائث والآثام كلها { و } لذلك { كان } مدة حياته من أوان صباه إلى موته { تقيا } [مريم: 13] حذرا عن المناهي والمنكرات، خائفا عن المعاصي والمحظورات.
{ و } لنجابة طينته ألقينا في قلبه { برا } وإحسانا { بوالديه ولم يكن } في جميع أوقاته وحالاته { جبارا } عاقا لهما مستكبرا عن أمرهما { عصيا } [مريم: 14] تاركا حكمهما وأمرهما.
{ و } لسلامته عن جميع الآثام وطهارته عن جميع الخبائث والمعاصي { سلام عليه } أي: تحية وتكريم وحفظ وتسليم نازل عليه على الدوام { يوم ولد } نحفظه من الشيطان { ويوم يموت } نحفظه من زوال الإيمان { ويوم يبعث حيا } [مريم: 15] نصونه عن الخيبة والخسران ولحوق الحسرة والخذلان.
{ واذكر } يا أكمل الرسل { في الكتاب } أي: القرآن المنزل إليك سيد النساء { مريم } أي: قصتها، وحالتها العجيبة الشأن التي هي أغرب وأعجب من قصة زكريا، واذكر وقت { إذ انتبذت } أي: اعتزلت وتباعدت { من أهلها } حين حاضت وطهرت وأرادت الاغتسال على مقتضى طهارتها الفطرية ونجابتها الجبلية، فاختارت للخلوة والتستر { مكانا شرقيا } [مريم: 16] أي: في مشرق بيت المقدس، ومع كونه مكانا بعيدا خاليا عن الناس.
{ فاتخذت } وسدلت لكمال الاحتياط والانحفاظ { من دونهم حجابا } يسترها، ويحفظها عن أعين الناس إن وصلوا بغتة، لم لم تجردت عن لباسها واشتغلت؛ لأن تغتسل { فأرسلنآ إليهآ روحنا } أي: حامل روحنا وهو جبرائيل عليه السلام إظهارا لقدرتنا وحكمتنا، وإنفاذا لحكمنا الذي حكمنا به في سابق علمنا { فتمثل لها } جبرائيل عليه السلام { بشرا سويا } [مريم: 17] صحيحا صبيحا أمرد قططا مجعد الشعر لئلا تستوحض، ومع ذلك استوحشت وارتهبت رهبة شديدة، ومن غاية خوفها منه واضطرابها { قالت إني أعوذ } وألوذ { بالرحمن } الذي كفى لحفظ عباده عن مطلق الشذوذ سيما { منك } أي: من شرك ومن شر أمثالك فامتنع أنت بنفسك عني { إن كنت تقيا } [مريم: 18] خائفا عن الله، حذرا عن بطشه وانتقامه.
ثم لما رأى جبريل عليه لسلام من كمال عفتها وعصمتها ما رأى: { قال } مستحييا معتذار: { إنمآ أنا رسول ربك } أرسلني إليك { لأهب لك } بإذن الله إياي وأمره { غلاما زكيا } [مريم: 19] طاهرا عن جميع الرذائل والآثام، مترقيا في فنوف الفضائل والكمالات إلى أقصى النهايات، مظهرا لأنواع المعجزات والكمالات والكرامات، وأصناف الإرهاصات الخارقة للعادات.
ثم لما سمعت عليها لسلام مقالته، وتفطنت بنور الولاية أنه من قبل الله { قالت } مستعجبة مشتكية مستحية: { أنى } أي: من أين { لم يمسسني بشر } لم يجر علي أسبابه؛ إذ { يكون لي غلام و } بالنكاح مساس مواقعة موجبة للجمل والحبل { ولم أك } في مدة حياتي عاصية لله فاسقة خارجة عن مقتضى حدوده لأكون { بغيا } [مريم: 20] فاحشة زانية يلد مني ولد الزنا.
{ قال } جبرائيل عليه السلام: { كذلك } جرى حكم ربك، وأمضى عليه في سابق قضائه لا تستبعدي ولا تستعسري؛ إذ { قال ربك } الذي رباك على العصمة والعفاف { هو } أي: هبة الولد لك بلا مساس البشر، وسبق الأسباب العادية { علي هين } سهل يسير؛ إذ لا يعسر علينا شيء، ولا يعجز عن قدرتنا مقدور، بل إذا أردناه نقول له: كن فيكون بلا سبق سبب وعلة، { و } إنما نظهره ونوجده { لنجعله آية للناس } دالة على كمال قدرتنا وبدائع صنعنا وحكمتنا { ورحمة } نازلة { منا } على عبادتنا سيما عليك يا مريم { وكان } خلق عيسى ظهوره بلا أب في العالم، وعروجه إلى السماء { أمرا مقضيا } [مريم: 21] كائنا مثبتا في لوح قضائنا وحضرة علمنا.
ثم لما سمعت ما سمعت نفخ جبرائيل عليه السلام في درعها، فوصل أثرها إلى جوفها فحبلت: { فحملته } أي: صارت حاملة بعيسى فجأة وكبر في بطنها في الساعة، وبعدما ظهر عليها من أمارات الطلق ما ظهر { فانتبذت } واعتزلت وتباعدت منفردة { به مكانا قصيا } [مريم: 22] بعيدا عن العمران استحياء من أهلها ، ومن لوم الناس إياها وتعييرهم عليها بولادتها بلا زوج.
{ فأجآءها المخاض } وظهر أمارة الولادة، فألجأها التشبث { إلى جذع النخلة } اليابسة؛ لتعتمد عليها عند الولادة، وتستر بها عن الناس { قالت } حينئذ من شدة حزنها وكآبتها، ووفور ضجرتها من ألم الملامة والفضاحة متيمنة موتها: { يليتني مت } وعدمت { قبل هذا } اللوم والفضيحة { وكنت نسيا منسيا } [مريم: 23] متروكا معدوما لا التفات لأحد إلي أصلا.
ثم لما وضعت حملها واشتد الألم عليها { فناداها } أي: نادى الوليد أمه { من تحتهآ } بإلهام الله إياه وتنشيطا: { ألا تحزني } يا أمي، ولا يشتد عليك الأ/ر بواسطة ولادتي وظهوري بلا أب، واعلمي { قد جعل ربك تحتك } ولدا { سريا } [مريم: 24] سيدا مطيعا نقيا سجيا سخيا ذا إرهاصات وكرامات، من جملتها: إنه ظهر لك من تحت رجلك نهرا جاريا لدفع عطشك وتطهير الفضلات عن بدنك وثيابك.
{ و } لدفع جوعك { هزى إليك } أي: حركي إلى نفسك حين أخذت { بجذع النخلة } التي في جنبك { تساقط } أي: تتساقط منها ثمارها { عليك رطبا جنيا } [مريم: 25] بالغا في النضج غايته، وحان وقت اجتنابه.
قيل: كانت النخلة يابسة لا رأس لها، والوقت وقت الشتاء، فتغصنت في تلك الحالة، وأثمرت ونضجت ثمارها كرامة لعيسى وإرهاصا لأمه صلوات الرحمن عليهما.
[19.26-38]
{ فكلي } يا أمي من النخلة { واشربي } من النهر { وقري عينا } أي: نوري عينك بولدك وطيبي نفسك به { فإما ترين } أي: إن رأتي { من البشر أحدا } يسألك عن حالك وولدك { فقولي } في جوابه؛ يعني: أشيري إليه: { إني نذرت للرحمن صوما } أي: صمتا عن التكلم { فلن أكلم اليوم إنسيا } [مريم: 26] أي: إنسانا.
والحكمة في إلهام ولادتها وشاع بين الأنام قصتها، فمكثت مدة نفاسها في غار هناك وبعدما انقضت: { فأتت به } أي: بولدها { قومها تحمله } أي: ولدها على صدرها، فلما رأوه معها، أخذوا في لومها وتقريعها؛ حيث { قالوا } معيرين منادين بها على سبيل التوبيخ واللوم: { يمريم } الصالحة العفيفة المشهورة بالعصمة في بيت المقدس { لقد جئت } بالآخر { شيئا فريا } [مريم: 27] منكرا بديعا في غاية الشناعة والفضاحة.
{ يأخت هارون } هو رجل صالح نسبوها إليه تهكما، وقيل: هي من أولاد هارون أخي موسى، نسبوها إليه وإن تطاولت المدة بينهما { ما كان أبوك امرأ سوء } منسوب إلى الفواحش والزنا والخروج عن حدود الله { وما كانت أمك بغيا } [مريم: 28] زانية فاجرة بل هما من أصلح القوم وأزكاهما عن الفواحش والفسوق، فكيف أنت ومن أين اكتسبت هذا؟!.
وبعدما تمادى تعييرهم وتشنيعهم { فأشارت إليه } أي: إلى ولدها، بأن قل لهم في جوابهم ما يفحمون به ويسكتون، بل يتيهون ويتحيرون، ولما رأوا إشاراتها إليه وتفويضها الجواب نحوه { قالوا } على سبيل الاستهزاء: { كيف نكلم من كان في المهد صبيا } [مريم: 29] رضيعا ولم يعهد من مثله التكلم، أنت قد خجلت واستحييت تدفعيننا بهذا الرضيع، مع أنه معصوم لا ذنب له.
ولما رأى عيسى اشتداد اللائمين على أمه بالتقرح والتشنيع، واضطرار أمه واضطرابها من لومهم، أخذ في الجواب بإلهام الله إياه؛ حيث { قال } مفصحا معربا على وجه الفصاحة والبلاغة، ومشتملا على الحكمة البالغة: لا تعيروا أيها الجاهلون عن أمري وعلو شأني في أمي الكاملة المتناهية في العصمة والعفة، ولا ترموها بما لا يليق بعلو شأنها وجلالة قدرها { إني عبد الله } الحكيم المتقن في أفعاله، المستقل في حكمه وآثاره، خصني بالنبوة الرسالة، بأنواع الكرامات والمعجزات، وأبدعني من محض جوده من روحه، وأرسلني إلى عباده للهداية والإرشاد إلى توحيده؛ لذلك { آتاني الكتاب } أي: الإنجيل النازل من عنده علي؛ لترويج رسالتي وإرشادي وتتميم تكميلي { وجعلني نبيا } [مريم: 30] كسائر الأنبياء، { وجعلني مباركا } نفاعا كثير الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية { أين ما كنت } وحيثما توطنت وجلست معهم يصل خيري إليهم.
{ و } من كمال تربية الله وتزكيته إياي { أوصاني } وأمرني { بالصلاة } والميل التام والتوجه نحوه بالجوارح والأركان { والزكاة } أي: التخلية والتطهير عن جميع الرذائل والخبائث المتعلقة بالنفوس البشرية، المنغمسة بالعلائق الدنيوية، المبعدة عن صفاء الوحدة الذاتية { ما دمت حيا } [مريم: 31] بروح الله الذي أبدعني منه خالصا صافيا عن جميع الكدورات، وأوصاني بما أوصاني من عناية منه لأكون باقيا على صفائي، وطهارة لاهوتي بلا كدر من خبائث الناسوت.
{ و } جعلني أيضا { برا } أي: بارا محسنا { بولدتي } ممتثلا بأمرها، قائما بخدمتها، خافضا جناح الذل من الرحمة إياها، والحمد لولي الحمد الذي رباني سيعدا على الطهارة الصلاح وأنواع الكرامة والفلاح والتذلل والتواضع مع عموم عباده { ولم يجعلني جبارا } متكبرا متجبيرا على الناس { شقيا } [مريم: 32] بعيدا عن روح الله مستجليا لعذابه.
{ و } متى سلمني الله، وطهرني عن جميع ما يعوقني عن مقتضى صرافة الوحدة الذاتية الإلهية المعبرة عنها بروح الله صار { السلام علي } أي: سلام الله وحفظه { يوم ولدت } عن أمر يحفظني من مس الشيطان، { ويوم أموت } يحفظني عن شره ووسوسته أيضا { ويوم أبعث } للحشر أكون { حيا } [مريم: 33] بحياة الله وروحه كما كنت قبل هذا.
ثم لما سمعوا من عيسى ما سمعوا، تاهوا وتحيروا في أمره، وصاروا حيارى متعجبين في علو شأه وشأن والدته وجلالة قدرهما، فاختلفوا وتحزبوا، وفرقة منهم قالت بألوهيته، وفرقة قالت بإبنيته لله، وفرقة قالت بالأقانيم، ومنهم من رماه وأمه بما لا يليق بشأنهما.
أخبر سبحانه حبيبه بما هو الواقع الحق الصريح فقال: { ذلك } أي: القائل بهذه الكلمات والموصوف بهذه الصفات المذكورة هو { عيسى ابن مريم } لا ما قاله الغلاة من النصارى، ولا ما قاله طغاة اليهود بل { قول الحق } هذا { الذي } ذكر لك يا أكمل الرسل { فيه يمترون } [مريم: 34] ويترددون، مع أنه لا ريب فيه، لا ما قالته النصارى بأنه ابن الله.
إذ { ما كان لله } أي: ما صح وجاز بعلو شأنه سبحانه { أن يتخذ من ولد سبحانه } أي: هو منزه في ذاته عن الأهل والولد؛ لأنه لا يليق بذاته المعاونة والاستظهار بهما تعالى عن ذلك، بل من حكمه وشأنه أنه { إذا قضى } وأراد { أمرا } من الأمور الكائنة في عالم الأمر { فإنما يقول له } حين تعلق إرادته بتكوينه: { كن } بلا ترتيب في السمع بتقديم الكاف على النون.
إذ كلامه القائم بنفسه سبحانه نفسي ذاتي لا يتوهم فيه الحروف والأصوات ومقاطعها؛ ليتصور الترتيب بالتقدم والتأخر كما يتوهم في الألفاظ الصادرة عنا، بل يخلق سبحانه بقدرته الكاملة في لساننا لفظا معجزا لا من جنس ألفاظنا ليسع لنا التعبير عن كلامه وقت إرادة نفود قضائه، وهو لفظه: " كن " وعن حصول المقضي بلفظ: { فيكون } [مريم: 35] أيضا بلا تراخ وتعقيب يفهم من الفاء، ومن كان شأنه هذامن أين يكون له حاجة إلى الأهل والولد وإحبال المرأة ووقاعها؟! تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
بل هو سبحانه واحد أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا هذا؛ أي: من قوله: { ذلك عيسى ابن مريم } [مريم: 34] إلى هنا كلام وقع في البين.
ثم قال سبحانه حكاية عن عيسى، ومن جملة ما أوحى إليه: { و } بعدما بالغ عيسى في بيان طهارته وعصمة أمه، وتكلم في غير أوان التكلم بكلام عجيب غريب، علم بنور النبوة ونجابة الفطرة أن بعضهم قد يقولون في شأنه وشأن أمه ويتخذونه إلها، أورد كلاما نافيا لظنونهم وجهالاتهم دافعا لغلوهم واتخاذهم.
فقال: { إن الله } الذي أوجدني وأبدعني بلا أب هو { ربي } الذي رباني وأمي بأنواع الكرامة، وأظهرني من كتم العدم بمقتضى قدرته { و } هو سبحانه { ربكم } أيضا أوجدكم وأظهركم مثلي إيجادا إبداعيا { فاعبدوه } ووحدوه ولا تشركوا معه شيئا من المخلوقات، وتوجهوا نحوه بالتذلل التام والانكسار؛ إذ هو المستحق للعبادة لا معبود سواه، ولا إله إلا هو { هذا } الذي بينت لكم { صراط مستقيم } [مريم: 36] وطريق واضح سوي موصل إلى معرفة الحق وتوحيده، فاتبعوه إن كنتم مؤمنين موقنين بتوحيده.
وبعدما نبههم عيسى. صلوات الرحمن عليه. بالطريق الأبين الأوضح { فاختلف الأحزاب } أي: فرق النصارى واليهود في شأنه وشأنه أمه اختلافا ناشئا { من بينهم } بلا سيد شرعي وعقلي، فأفرط النصارى باتخاذه إلها وابنا له، وفرط اليهود بنسبته وأمه إلى ما لا يليق بشأنهما.
وبالجملة: فاستحق كلا الفريقين بأشد العذاب وأسوأ العقاب { فويل } عظيم وعذاب شديد أليم { للذين كفروا } أي: ستروا ما هو الحق في شأنه، وعدلوا عنه إلى الباطل بلا حجة وبرهان { من مشهد يوم عظيم } [مريم: 37] أي: من شهود يوم القيامة وظهوره، وهم يسحبون فيه على وجوههم نحو النار، ويكبون عليها صاغرين مضطرين.
{ أسمع } أيها السميمع { بهم } أي: بأنينهم وحنينهم { وأبصر } أيها المبصر بأغلالهم وسلاسلهم { يوم يأتوننا } للعرض والحساب مضطرين مسحوبين { لكن الظالمون } الخارجون عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { اليوم } الذي في النشأة الأولى { في ضلال مبين } [مريم: 38] وجهل عظيم عن أهوال يوم القيامة وأفزاعه.
[19.39-51]
{ وأنذرهم } يا أكمل الرسل من عندك لهم { يوم الحسرة } المعدة للجزاء؛ بحيث لا يكون فيها التلاقي والتدارك على مفات سوى الحسرة والندامة الغير المفيدة { إذ قضي الأمر } ونزل العذاب ومضى زمان امتثال المأمور { و } الحال أنه { هم في غفلة } وغرور عن مضيه { وهم لا يؤمنون } [مريم: 39] ولا يصدقون بإتيان هذا اليوم الموعود على ألسنة الرسل والكتب، وكيف لا يصدقون هذا اليوم أولئك الكاذبون المكذبون المستغرقون في بحر الغفلة والضلال التائهون في تيه الغرور.
{ إنا } من مقام قهرنا وجلالنا { نحن } بانفرادنا ووحدتنا { نرث الأرض ومن عليها } بعد انقهارها واضمحلال أجزائها وتشتيت أركانها بمقتضى القدرة الغالبة؛ بحيث صار كل من عليها فان، ولم يبق سوى وجهنا الكريم وصفاتنا القديمة، فانقلبت تجلياتنا المتشعشعة المتجددة من هذا النمط البديع إلى نمط أبدع منه وأكمل؛ إذ نحن في كل يوم وآن شأن، ولا يشغلنا شأن عن شأن.
{ و } كيف لا نرث من على الأرض الوجود وفضاء الشهود؛ إذ الكل { إلينا يرجعون } [مريم: 40] رجوع الظل إلى ذي الظل، والأمواج إلى البحر، والأضواء والأظلال إلى شمس الذات، وبعد رجوع الكل إلينا نودي من وراء سرادقات عزنا وجلالنا:
لمن الملك اليوم
؟! وأجيب أيضا منها؛ إذ لا يجب الوجود لسوانا:
لله الواحد القهار
[غافر: 16] للأظلال والأغيار.
{ واذكر } يا أكمر الرسل { في الكتاب } المتلو عليك المنزل إليك جدك { إبراهيم } أي: محامد أخلاقه ومحاسن شيمه؛ لتنتفع بها أنت ومن معك من المؤمنين، وتمتثل بأخلاقه أنت وهم { إنه كان صديقا } صدوقا مبالغا في الصدق والصداقة وتصديق الحق وتوحيده { نبيا } [مريم: 41] من خلص الأنبياء.
اذكر أوان انكشافه وإيقاظه من منام الغفلة التي هي عبادة الأوثان والأصنام وقت: { إذ قال لأبيه } مستنكرا عليه متعجبا من أمره، مناديا له رجاء أن يتفطن وتنبه بما تنبه به هو: { يأبت لم تعبد } وتطيع { ما لا يسمع } أي: شيئا لا يقدر على السمع { ولا يبصر } أي: لا يقدر على الإبصار، والمعبود لا بد أن يرى ويسمع أحوال عباده وحاجاتهم ومناجاتهم، { و } إذا لم يسمع ولم يبصر { لا يغني } ويدفع { عنك شيئا } [مريم: 42] من مكروهات ولا يعينك، فلا يصلح إذا للألوهية والربوبية، فلم عبدت وأطعت له مع أنه نحته بيدك وأظهرت أنت هيكله وشكله، والعجب منك كل العجب أنه مصنوعك أخذته إلها صانعا معبودا مستحقا للعبادة، مع أنك من ذوي الرشل والعلم، وهو جماد لا شعور له أصلا.
{ يأبت إني } وإنت كنت ابنك أصغر منك لكن { قد جآءني } ونزل علي { من العلم } ومن قبل الحق مع صغر سني { ما لم يأتك } مع كبرك؛ لأن الفضل بيد الله ويمقتضى إرادته يؤتيه من يشاء { فاتبعني } أي: اتبع ما أنزل علي من قبل ربي من خلوص الاعتقاد { أهدك } بتوفيق الله وإرشاده { صراطا سويا } [مريم: 43] موصلا إلى المعبود بالحق وتوحيده.
{ يأبت لا تعبد الشيطان } بعباده هذه التامثيل الباطلة والهياكل العاطلة، إذ ما هو إلا بإغوائه وتضليله؛ لأنه عدو لك ولأبناء عداوة قديمة مستمرة { إن الشيطان } المغوي المضل عن طريق الحق { كان } من الأزل إلى الأبد { للرحمن } المفيض لأصناف الخيرات والسعادات سيما الإيمان والعرفان المنجي عن الحرمان والخذلان عند لقاء الحنان المنان { عصيا } [مريم:44] عصى هو وانتظر لعصيان غيره وسعى بإضلاله وتسويلاته ليضل أهل الحق عن طريقه.
{ يأبت إني } من غاية إشفاقي وعطفي { أخاف } عليك { أن يمسك } وينزل { عذاب من الرحمن } المنتقم لأهل الضلال والطغيان بدل الثواب والغفران { فتكون } حينئذ بشاوتك وطغيانك { للشيطان وليا } [مريم: 45] صديقا، وللرحمن عدوا ببغيك وعصيانك له ومتابعتك لعدوه.
ثم لما تمادى مكالمة إبراهيم مع أبيه، ومحاورته على سبيل النصح والتذكير { قال } أبوه مقرعا عليه مهددا له مضلللا إياه: { أراغب أنت } أي: معرض بريء { عن آلهتي } ومعبوداتي، مع أن عبادتهم أولى وأليق بحالك { يإبراهيم } إذ خير الأولاد أن يتبع آباءه في الدين، سيما وقد سلف أجدادك على هذا وأنت استنكفت عن عبادة آلهتنا ، انته عن اعتقادك هذا، والله { لئن لم تنته } ولم تمتنع { لأرجمنك } وأرمينك بالأحجار على رءوس الأشهاد حتى تموت، قم من عندي { واهجرني } واتركني { مليا } [مريم: 46] زمانا طويلا، فإن ندمت عن اعتقادك هذا، ورجعت إلى ما كنا عليه. يعني عبادة الأصنام. فارجع إلي، وإلا فاذهب لا علاقة بين وبينك فأا بريء منك.
ثم لما رأى إبراهيم عليه السلام شدة غيه وضلاله، ورسوخ جهله وطغيانه { قال } مسترجعا إلى الله مودعا عليه مسلما: { سلام عليك } أي: سلامي عليك يا أبي، أهجرك بإجازتك إلا أني { سأستغفر لك ربي } لينقذك من أوزار الشرك، ويوصلك إلى مرتبة توحيده شكرا لأبوتك، ورعاية لحضانتك، وألتجئ نحو الحق، وألوذ به من شرك الذي هددتني به، { إنه } سبحانه { كان بي حفيا } [مريم: 47] مشفقا رحيما يحفظني من شرك ومن شر جميع من عاداني.
{ و } متى لو يفد لك نصحي، ولم ينفع لك تذكيري ووعظي { أعتزلكم } وأترككم على حالكم { و } أترك أيضا { ما تدعون } وتعبدون { من دون الله } وأتبرأ عنهم { وأدعو ربي } الذي رباني بفضله بالإيمان، وأوصلني إلى قضاء التوحيد والعرفان، وأعبد إياه وأطبعه في جميع أوقاتي وحالاتي { عسى ألا أكون بدعآء ربي } والتوجه نحو والتحنن إليه { شقيا } [مريم: 48] خائبا خاسرا عن رحمته، ذا شقاوة جالبة لسخط الله وغضبه.
{ فلما اعتزلهم } وبعد عنهم، واختار الغربة والفرار من بينهم { و } ترك عبادة { ما يعبدون من دون الله } من الأوثان والأصنام { وهبنا له } من مقام جودنا وفضلنا { إسحاق ويعقوب } ليؤانس بهم، ويدفع كربة الغربة بصحبتهما { و } لنجابة طينتهما وكرامة فطرتهما { كلا } منهما { جعلنا نبيا } [مريم: 49] مثل أبيهما مهبطا للوحي والإلهام مثله.
{ ووهبنا لهم } أي: لإبراهيم وولديه { من } سعة { رحمتنا } ووفور جودنا الأموال والأولاد والجاه والثروة، إلى أن صاروا مرجع الأنم وحاكمهم في الأحكام إلى يوم القيامة { وجعلنا لهم لسان صدق } أي: جعلنا ثناءهم ومدحهم العائد إليهم عن ألسنة البرايا ثناء صدق و تحقيق، لا خطابة تحنن كثناء سائر الملوك والجبابرة، لذلك صار ثناؤهم { عليا } [مريم: 50] مظهرا لعلو رتبتهم وشأنهم إلى نقراض النشأة الأولى، كل ذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام، وإجابة الحق له؛ حيث قال في مناجاته مع ربه:
واجعل لي لسان صدق في الآخرين
[الشعراء: 84].
{ واذكر } يا أكمل الرسل { في الكتاب } المنزل عليك أخاك { موسى } الكليم وقصة انكشافه من الشجرة المباركة { إنه } من كمال انكشافه وشهوده بوحدة الحق { كان مخلصا } خلص للتوحيد، وصفا عن أكدار ناسوته مطلقا { و } مع ذلك { كان رسولا } مرسلا إلى بني إسرائيل؛ للإرشاد والتكميل مؤيدا بالكتاب والمعجزات { نبيا } [مريم: 51] أيضا بالوحي والإلهام والرؤيا.
[19.52-64]
{ و } لكمال إخلاصه ومزيد اختصاصه بنا { ناديناه } بعد المجاهدة الكثيرة والرياضات البليغة { من جانب الطور الأيمن } أي: ذي اليمن والبركة وأنواع السعادة لموسى { و } بعدما انكشف بالنداء بما انكشف وشهد ما شهد { قربناه } بنا إلى أن صار { نجيا } [مريم: 52] مناجيا بنا متكلما معنا؛ إذ كنا حينئذ سمعه وبصره وجميع قواه، فينا يسمع، وبنا يبصر، وبنا يتكلم.
{ ووهبنا له من } كمال { رحمتنآ } وفضلنا إياه تأييدا له وتعضيدا { أخاه هارون } ليؤيده ويقويه في تنفيذ أحكام النبوة والرسالة { نبيا } [مريم: 53] ليكون أيضا على عزيمة صادقة وقصد خالص في إجراء الأحكام الإلهية.
{ واذكر في الكتاب } أيضا جدك { إسماعيل } ذبيح الله الراضي بجميع ما جرى عليه من قضائه { إنه } من كمال وثوقه واعتماده على الله وتفويضه الأمور كلها إليه { كان صادق الوعد } والعهد عند الله وافيا لميثاقه، صابرا على مصائبه وبلائه، شاكرا لآلائه ونعمائه { وكان } أيضا كأبيه وإخوته { رسولا نبيا } [مريم: 54] وإن لم ينزل عليه الشرع؛ إذ بعض أولاد إبراهيم. صلوات الرحمن عليه وعليهم. كانوا أنبياء مرسلين جارين على ملة أبيهم وشرعه.
{ و } من خصائله الحميدة أنه { كان يأمر أهله } أولا؛ لأنهم أولى بالإرشاد والتكميل وأحق من غيرهم { بالصلاة } التي هي التوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان، والتقرب نحوه عن ظهر القلب ومحض الجنان { والزكاة } التي هي تصفية النية وتخلية الطوية عن الميل إلى مزخرفات الدنيا وحطامها الزائلة، { وكان } من كمال تنزهه عن العلائق والعوائق العائقة عن التوجه الخالص نحو الحق { عند ربه } الذي رباه على كمال الرضا والتسليم { مرضيا } [مريم : 55] لوفائه الوعد، واستقامته فيه، وصبره على ما جرى عليه من البلوى.
{ واذكر } يا أكمل الرسل { في الكتاب } أيضا { إدريس } صاحب دراسة التوحيد والعرفان، وقالع أهوية النفس وأمانيها بشدائد الرياضات والمجاهدات في مسالك التصديق والإيقان { إنه } من كمال رشده وحكمته { كان صديقا } مبالغا في التصديق والتحقيق { نبيا } [مريم: 56] مبعوثا إلى الناس كسائر الأنبياء للهداية والتكميل.
{ و } لعلو شأه وسمو برهانه وكمال تصفيته، وتزكيته عن لوازم البشرية { رفعناه } تلطفا إياه { مكانا عليا } [مريم: 57] هو أعلى درجات المعرفة والتوحيد.
وقيل: إلى السماء الرابعة أو السادسة.
{ أولئك } المذكورون من زكريا إلى إدريس كلهم أنبياء الله، وأمناؤه في أرضه؛ لأنهم { الذين أنعم الله عليهم } بأنواع النعم الظاهرة والباطنة، واصطفاهم من بين البرية للهداية والتكميل، وهم { من النبيين } المنتشئين { من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح } في السفينة حين ظهر الطوفان على وجه الأرض { و } بعضهم { من ذرية إبراهيم و } ابنه يعقوب الملقب من عند الله { إسرائيل و } وكل منهم { ممن هدينا } إلى توحيدنا { واجتبينآ } من بين البرايا للتكميل والتشريع، ووضع الأحكام بين الأنام كلهم من كمال يقينهم وعرفانهم وتمكنهم في مقر التوحيد { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن } ودلائل توحيده وتجريده { خروا } خرور تواضع ورهبة { سجدا } متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان، راجعين من سعة رحمته على مقتضى لطفه وجماله { وبكيا } [مريم: 58] باكين خائفين من خشية الله بمقتضى قهره وجلاله، فإن المؤمن لا بد أن يكون في جميع حالاته بين الخوف والرجاء.
ثما لما ظهر على الأرض التي هي محل الشرور والفتن وأنواع الفسادات ما ظهر من أنواع المكروهات والمنكرات، وهم عند ظهورها واشتهارها بذلوا جهدهم في تنفيذ الأحكام الشرعية المنزلة على مقتضى زمان كل منهم، فكلموا وأرشدوا مقدار جهدهم وطاقتهم.
{ فخلف من بعدهم } واستعقبهم { خلف } سوء. بالسكن. لا خلف جيد صدق بالحركة. قد { أضاعوا } وأبطلوا { الصلوة } المقربة نحو الحق مع أنها من أقوى أسباب الإيمان { واتبعوا الشهوت } النفسانية المبعدة عنه الجالبة لأنواع العذاب النكال، وأباحوها لنفوسهم وأصروا على إباحتها { فسوف يلقون } في النشأة الأولى { غيا } [مريم: 59] شرا وخسرانا أو عذابا ونيرانا يترتب على شهواتهم ولذاتهم الفانية.
{ إلا من تاب } ورجع عنها نادما ولم يرجع إليها أصلا { وآمن } أي: صدق جرمتها { و } بعد التوبة والرجوع { عمل صالحا } ليصلح ما أفسد بمتابعة الهوى { فأولئك } التائبون الآيبون النادمون عما صدر عنهم من متابعة الهوى بإغواء الشيطان وإغرائه { يدخلون الجنة } لسائر المؤمنين المطيعين { ولا يظلمون شيئا } [مريم: 60] أي: لا ينقصون شيئا من درجات المؤمنين الغير العاصين، إذن كانت توبتهم على وجه الإخلاص والندامة الكاملة، بل لهم كسائر عباد الله.
{ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده } تفضلا عليهم وجزاء لأعمالهم وإيمانهم { بالغيب } أي: بلوح القضاء ومضي العلم يصلون إليها ويتمكنون فيها { إنه } من كمال عطفه ورحمته لعباده { كان وعده } الذي وعده إياهم { مأتيا } [مريم: 61] أي: حاصلا بلا ريب وتردد.
ومتى دخلوا في دار السلام { لا يسمعون فيها } من أحد { لغوا } فضولا من الكلام { إلا سلاما } من كل جانب تحية وتكريما وترحيبا { ولهم رزقهم } الصوري المعنوي معدا مهيأ { فيها بكرة وعشيا } [مريم: 62] أي: مستوعبا لجميع الأوقات؛ إذ أكلها دائم.
{ تلك الجنة } الموصوفة الموعودة { التي نورث } أي: نوطن ونمكن { من عبادنا } فيها { من كان } منهم { تقيا } [مريم: 63] متصفا بالتقوى حذرا عن الهوى خائفا.
{ و } بعدما أبطأ الوحي على رسول الله حي سأله المشركون من قصة أصحاب الكهف وأمر الروح وقصة ذي القرنين، فوعد لهم الجواب ولم يستثن، وانقطع الوحي خمسة عشر يوما. وقيل: أربعين. حتى عيروه واستهزءوا معه؛ حيث قالوا: ودعه ربه وقلاه.
ثم لما نزل جحبريل عليه السلام استبطأ نزوله وشكا، قال جبريل عليه السلام في جوابه: نحن معاشر الملائكة { ما نتنزل } ونوحي إلى أحد { إلا بأمر ربك } وإنزاله وإرساله؛ إذ التصرف { له ما بين أيدينا } أي: عندنا وفي علننا { وما خلفنا } أي: في سرنا واستعدادنا، وما غاب عنا وخفي علينا { وما بين ذلك } الطرفين المذكورينن، وبالجملة: مستوعب بنا، محيط لجميع أحوالنا بلا فوت شيء وغيبته عنه، بل الكل حاضر عنده { و } حينئذ { ما كان ربك } تعالى شأنه { نسيا } [مريم : 64] حتى ينسب إبطاء الوحي إلى نسيانه.
[19.65-76]
وكيف يتصور نسيانه؛ إذ هو { رب السموت والأرض وما بينهما } لا يعزب ويغيب عن علمه شيء منها لمحة، وإذ تحققت ما تلنا عليك يا أكمل الرسل وتأملت في معناه حق التأمل والتدبر { فاعبده } راجيا منه العناية على العبادة وجزاء الخير { واصطبر لعبادته } وتحمل لمتاعبها، واثبت عليها، ولا تستعجل بوحي ما قصدت وأحببت نزوله، ولا تقنط أيضا؛ إذ الكل بيده مرهون بوقت، ولا تضطرب من استهزاء الكفرة وسخريتهم، وكيف اضطربت { هل تعلم } وتسمع { له سميا } [مريم: 65] مثلا مسمى بالأله المستحق للتوجه والعبودية لإنجاح المطلوب سواه حتى ترجع إليه، فلك العبادة والاصطبار وترك الاضطراب والاستعجال، وتفويض جميع الأمور إلى الكبير المتعال.
{ و } من غاية الجهل ونهاية الغفل عن ربوبيته { يقول الإنسان } المجبول على النسيان والكفران بنعم الله وإنكار قدرته على إعادت المعدوم: { أءذا ما مت } وصرت عظاما ورفاتا { لسوف أخرج } من الأرض { حيا } [مريم: 66] سويا معادا؟! كلا وحاشا هذا محال باطل، وضلال ظاهر.
{ أ } ينكر المنكر املطر على قدرتنا، ويصر على الإنكار { ولا يذكر الإنسن } المكابر المعاند { أنا خلقناه } وأبدعناه { من قبل و } الحال أنه { لم يك شيئا } [مريم: 67] أي: مما يطلق عليه الشيء، ولا مسبوق بشيء، فقدرنا على إيجاده وإظهاره من العدم الصرف، ولم لم نقدر على إعادته بعد سبق أجزائه، والإعادة والإبداء وإن كانا عندنا على السواء، إلا أن الإعادة بالنسبة إلى فهمهم أسهل وأيسر من الإبداء والإبداع لا عن شيء.
{ فوربك } الذي هو أعظم الأسماء الإلهية وأشملها وبعزته وجلاله { لنحشرنهم } أولئك الضالين { والشياطين } المضلين لهم معهم، منخرطين في سلسلتهم { ثم لنحضرنهم } مقيدين مغلولين { حول جهنم جثيا } [مريم: 68] باركين على الركب، قائمين على أطراف الأصابع بلا تمكن لهم واطمئنان مثل الجاني الخائف عند الحاكم القاهر القادر على أنواع الانتقام.
{ ثم } بعد حشرهم وإحضارهم على النار { لننزعن } أي: ننتخبن ونخرجن { من كل شيعة } أي: فرقة شاعت منهم موجبات العذاب والنكال { أيهم أشد على الرحمن } المفيض لهم أنواع الخيرات والبركات { عتيا } [مريم: 69] جراءة على العصيان له وعلى ترك أوامره وارتكاب نواهيه، ليطرح أولا على مقر النار، ثم الأمثل فالأمثل إلى انطراح الكل فيها على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم في موجباتها قوة وضعفا.
{ ثم } بعد انتزاعها وانتخابنا { لنحن أعلم بالذين هم أولى } وأحق { بها } أي: بدخول النار { صليا } [مريم: 70] أي: دخولا أوليا سابقا على اكل، وهم الرؤساء الضالون المضلون؛ إذ يضاعف عذابهم لضلالهم وإضلالهم.
ثم قال سبحانه مخاطبا لبني آدم بأجمعهم: لا تغتروا بدنياكم ولذاتها وشهواتها، { و } اعلموا { إن منكم } أي: ما منكم أيها المتلذذون بزخرفة الدنيا { إلا واردها } أي: وراد النار وواقعها، ذاق كل منكم من عذابها مقدار ما يتلذذ من الدنيا.
أما المؤمنون المطيعون المتقون الذين يقنعون في الدنيا بسد جوعة ولبس خشن وكن ضروري، فيمرون عليها وهي خادمة عبرة لهم منها وشكرا لنعمه النجاة عنها.
وأما المؤمنون العاصون التائبون، فيذوقون من عذابها مقدار تلذذهم بالمعاصي، ثم يخرجون على مقتضى عدله سبحانه.
وأما أصحاب الكبائر من المؤمنين الخارجين من الدنيا عليها بلا توبة، وعموم الكفرة والمشركين، فه الواردون المقصرون على الورود فيها إلا أن المؤمنين تلحقهم الشفاعة.
وأما الكفرة لهم الخالدون المخلدون لا نجاة لهم منها أصلا.
ولا تتردوا أيها السامعون ولا تشكوا في المذكور؛ إذ { كان } ورودكم وعرض النار عليكم من جملة الأحكام المبرمة الإلهية التي وجب { على ربك } يا أكمل الرسل وجوبا { حتما مقضيا } [مريم: 71] محققا بلا شبهة و تخلف اوجبها سبحانه على نفسه لحكم ومصالح خص سبحانه في سترها ولم يفش على أحد.
{ ثم } ثم الورود والوصول { ننجي } ونخلص { الذين اتقوا } عن محارمنا في النشأة الأولى اتقاء من سخطنا وطلبا لمرضاتنا { ونذر الظالمين } الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا خالدين { فيها جثيا } [مريم: 72] لا يمكنهم الخروج والتجاوز عنها أصلا، بل صاروا مزدحمين فيها مضيقين معذبين بأنواع العذاب أبد الآباد.
{ و } كيف لا يخلدون في النار، وهم من كمال غيهم وضلالهم ونهاية غفلتهم وقسوتهم { إذا تتلى عليهم } في نشأة الاختيار { آياتنا } الدالة على تحيدنا وكمال قدرتنا على الإنعام والانتقام مع كونها { بينت } واضحات في الإعجاز بلا ريب وتردد { قال الذين كفروا } بعدما عجزوا عن معارضتها وأفحموا على المقابلة معها، متشبثين بما عندهم من المال و الجاه والثروة والرئاسة، مفتخرين بها قائلين على سبيل التهكم { للذين آمنوا أي الفريقين } أي: أنحن الأغنياء المتلذذون بأنواع اللذات المتمكنون بجميع المرادات والشهوات، أم أنتم أيها الفقراء الضعفاء المحتاجون بما تقتاتون في يومكم هذا؟! { خير مقاما } أي: مرتبة ومكانا عند الله { وأحسن نديا } [مريم: 73] مجلسا ومنزلا عنده، ولولا أنا أفضل وأخير منكم عند الله، لما أعطانا ما أعطانا ولما منع عنكم ما منع.
ثم لما افتخروا وتفضلوا على المؤمنين بما عندهم من حطام الدنيا وزخرفتها، رد عليهم وهددهم على الوجه الأبلغ الأتم، فقال على سبيل العبرة: { وكم } أي: كثيرا { أهلكنا قبلهم } في الأزمنة الماضية { من } أهل { قرن هم أحسن } وأكثر من هؤلاء المفتخرين المعاندين { أثاثا } أي: من جهة الأمتعة الدنيوية، وما يترتب عليها من الجاه والثروة والكبر والخيلاء { و } أحسن { رءيا } [مريم: 74] أي: زينة وبهاء.
ثم لما لم يتذكروا بالآيات والنذر، ولم يتفطنوا منها إلى توحيد الحق وصفائه، ولم يشكروا نعمه، بل أصروا واستكبروا بما عندهم من المزخرفات الفانية، فهلكوا واستؤصلوا { قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا كلاما ناشئا عن محض الحكمة: { من كان } منغمسا منهمكا { في الضللة } مجبولا عليها { فليمدد له الرحمن } وليمهله { مدا } مهلا طويلا، وليمتعهم تمتيعا كثيرا؛ أي: رغدا واسعا { حتى إذا رأوا ما يوعدون } على ألسنة الرسل والكتب { إما العذاب } العاجل لهم في النشأة الأولى بأن غلب المسلمون عليه، فقتلوهم وأسروهم، وضربوا الجزي عليهم مهانين صاغرين { وإما } تأتيهم { الساعة } بغتة { فسيعلمون } إذا بالعيان والمشاهدة { من هو شر مكانا } ومقاما عند الله { وأضعف جندا } [مريم: 75] أو أقل ناصرا ومعينا.
{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا } بعدما صار مال الكفار وبالا عليهم ومنالهم نكالا لهم { } الهادي لعباده المؤمنين { } إلى زلال عرفانه وتوحيده { } هداية ورشادا باقيا أزلا وأبدا بدل ما نقص عنهم من حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائلة الذاهبة { } المقربة إلى الله، المستتبعة لأنواع الفضل والثواب { } يا أكمل الرسل { } عائدة وفائدة { } [مريم: 76] أي: منقلبا ومآبا؛ لأن مآل الأموال والجاه والثروة إلى الحسرة والخسران ومآل العبادات إلى الجنة والغفران.
[19.77-88]
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للكافر المستكبر: { أفرأيت } أيها الرائي الباغي { الذي كفر } أنكر وأغرض واستكبر { بآياتنا } الدالة على عظمة ذاتنا وكما أوصافنا وأسمائنا { وقال } مقسما مبالغا على سبيل الاستهزاء والسخرية: والله { لأوتين } وأعطين في النشأة الأخرى أيضا إن فرض وجودها { مالا وولدا } [مريم: 77] مثلما أعطيت في هذه النشأة، هذا من غاية اغتراره ونهاية ذهوله وغفلته واعقاده كبرا وخيلا أنه حقيق بهذه المرتبة حيثما كان.
فرد الله سبحانه عليه على أبلغ الوجوه وآكده بقوله: { أطلع الغيب } أي: أبدعي هذا الطاغي التائه في تيه الغفلة والجهل علم الغيب واطلاع السرائر { أم اتخذ } واخذ { عند الرحمن } أي: من عنده على لسان نبي من أنبيائه أو ملك من ملائكته { عهدا } [مريم: 78] ليعطيه في الآخرة مالا وولدا؟! إذ لا معنى للجزم بهذه الدعوى وتأكدها بالحلف إلا بأحد هذين الطرفين.
{ كلا } وحاشا يس لهذا الجاهل الكذاب ولا ذاك ولا هذا، بل { سنكتب } ونأمر الحفظة أن يكتبوا { ما يقول } هذا المسرف المغرور اغترارا وجاهه { ونمد له } ونزيد عليه يوم الجزاء { من العذاب مدا } [مريم: 79] أي: عذابا فوق العذاب أضعافا وآلافا بكفره وإصراره واغتراره على كفره وعتوه على أهل الإيمان واستهزائه إياهم.
{ و } بعدما نهلكه ونميته { نرثه ما يقول } أي: نرث ما يقول ويفتخر به من الأموال والأولاد وغيرها، ونخلعها عه ونجرده؛ بحيث لا يبقى معه شيء منه { ويأتينا } يوم العرض والجزاء { فردا } [مريم: 80] صفرا خاليا بلا أهلس ولا مال ولا إيمان ولا عمل.
{ و } من غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم من حق قدره وقدر توحيده واستقلاله واستيلائه { اتخذوا من دون الله آلهة } من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى أهويتهم الفاسدة { ليكونوا } أي: آلهتهم { لهم عزا } [مريم: 81] أي: بسبب عزهم وتوقيرهم عند الله يشفعون لهم ويخفون عذابهم.
{ كلا } ردع لهم عما اعتقدوا من الفوائد العائدة لهم من عبادة الأوثان والأصنام من الوصلة والشفاعة والتسبب للنجاة، بل { سيكفرون } وينكرون أولئك المعبودون يومئذ { بعبادتهم } أي: بعبادة الكفرة إياهم { و } كيف يشفعون لهم حينئذ، بل { يكونون عليهم ضدا } [مريم: 82] يضادون عليهم، ويعادون بل يريدون مقتهم وازياد عذابهم.
ثم لما تعجب صلى الله عليه وسلم من قسوة قلوب الكفرة، وشدة عمههم وسكرتهم في الغفلة، وعدم تفطنهم وتنبههم بحقية آيات التوحيد مع وضوحها وسطوعها، مع أنهم من زمرة العقلاء المجبولين على فطرة المعرفة والإيقان، سيما بعد ظهور الحق وعلو شأنه، وارتفاع قدره برسالته صلى الله عليه سلم، ونزول القرآن له، واختتام أمر البعثة والتشريع به صلى الله عليه وسلم، وهم بعد منكرون.
أشار سبحانه إلى سبب غيهم وضلالهم وتماديهم فيها على وجه يزيح تعجبه صلى الله عليه وسلم فقال مخاطبا له: { ألم تر } يا أكمل الرسل ولم تتفطن { أنآ } بمقتضى اسمنا المذل { أرسلنا الشياطين } المضلين { على الكافرين } الذين أردنا إضلالهم وإذلالهم في سابق علمنا ولوح قضائنا وسلطانهم عليهم؛ بحيث { تؤزهم } أي: تهزهم وتحركهم وتغريهم بتسويلاتهم نحو المعاصي والآثام، وتوقعهم بأنواع الفتن والإجراء، وتحبب عليهم الشهوات واللذات النفسانية المستلزمة المستجبلة لأنواع العقوبات، المبعدة عن المثوبات والفوز بالمرادات { أزا } [مريم: 83] هزا دائما؛ بحث صارت قلوبهم المعدة بالفطرة الأصلية للمعرفة والتوحيد مطبوعة مختومة بغشاوة عظيمة وغطاء كثيف، لا يرجى انجلاؤها أصلا.
لذلك لم يتفطنوا بظهور الحق ولوائح آياته ولوامع علاماته، مع كمال وضوحها وانجلائها وتشعشعها.
{ فلا تعجل عليهم } يا أكمل الرسل بعدما علمت حالهم بإهلاكنا إياهم وانتقامنا عنهم، ولا تيأس من إمهالنا وتأخيرنا إهلاكهم أن نهمل عن أخذهم وانتقامهم، بل { إنما نعد لهم } بإمهالنا إياهم أياهم آجالهم وأوقاتها { عدا } [مريم: 84] متى وصل وقتها أخذناهم واستأصلناهم، بحيث أمنت أنت ومن معك من المؤمنين من شرورهم وفسادهم.
اذكر يا أكمل الرسل { يوم } الحسرة للكافرين؛ إذ { نحشر } ونجع فيه { المتقين } أي: المؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن المنهيات والمحظورات الواردة في الكتب الإلهية المنزلة على الرسل المبينين لها { إلى الرحمن وفدا } [مريم:85] وافدين فرقة بعد فرقة؛ ليجازوا بالرحمة والمغفرة، ويستغرقوا بها جزاء إيمانهم وتقواهم، ويتفضلوا بالضوان تفضلا عليهم وزيادة كرامة لهم.
{ ونسوق المجرمين } يومئذ سوق البهائم المجرمة الجانية إلى السجن والحبس بالقهر والغضب التام { إلى جهنم } التي هي أسوأ الأماكن وأظلمها وأعمقها { وردا } [مريم: 86] ورود البهائم إلى المجلس والأغوار بزجر تام من الضرب المؤلم والتصويب وغيرهما.
وهم في تلك الحالة حيارى مضطربين، لا تنفعهم أعمالهم ولا معبوداتهم الباطلة، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم من النار كما زعموا.
وكيف يشفعون له معبوداتهم؛ إذ هم { لا يملكون الشفاعة } لأنفهسم ليخففوا العذاب عنهم متى أرادوا، بل لا شفاعة لهم { إلا من اتخذ } وحصل له { عند الرحمن } أي: من عنده { عهدا } [مريم: 87] إذنا بالشفاعة لمن أراد سبحانه إنقاذه بشفاع ذلك الشفيع كشفاعة بعض الأنبياء لعصاة أممهم، وإن أذن لهم الرحمن المستعان.
{ و } كيف يحصل لهؤلاء الهالكين النجاة من نيران الحرمان، والخلاص من سعير الخذلان والخسران، مع جرمهم الذي هو أعظم الجرائم عند الله وأفحشها؛ حيث { قالوا } مفرطين في حق الله من غاية انهماكهم في الغفلة عنه وعن قدره ورتبته: { اتخذ الرحمن } المنزه عن وصمة الكثر وشين النقصان، المقدش عن سمة الحدوث والإمكان { ولدا } [مريم: 88] هو أقوى أمارات الإمكان وعلامات الاستكمال والنقصان.
[19.89-98]
والله أيها المفترون على الله { لقد جئتم } بإثبات الولد له سبحانه { شيئا إدا } [مريم: 89] منكرا عظيما، ومفترى شنيعا فظيعا، إلى حيث { تكاد السموت يتفطرن } ويتشققن مع متانة قوائمها وشدة التئامها { منه } أي: من سماع قولكم هذا ونسبتكم هذه، هولا ورهبة من صولة قهر الله وسطوة غضبه ونزول عذابه { وتنشق الأرض و } كذا { تخر } و تسقط { الجبال } خرور خشية وهول { هدا } [مريم: 90] أي: سقوطا وأصلا إلى التفتت والتشتت والاندكاك بالمرة، بحيث اضمحلت رسومها مطلقا.
كل ذلك من خوف سطوة صفاته الجلالية، ومقتضيات أسمائه القهرية، المنبعثة من الغيرة الإلهية، الناشئة منه سبحانه بواسطة { أن دعوا } وأثبتوا { للرحمن } المقدس المبرئ في ذاته عن لوازم الحدوث والإمكان { ولدا } [مريم: 91].
{ وما ينبغي } ويليق { للرحمن } المتجلي في كل آن وشأن، ولا يشغله شأن عن شأن { أن يتخذ } زوجة ويتسبب بها ليظهر { ولدا } [مريم: 92] يستخلفه ويستظهر به ويستعين منه، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
بل { إن كل من في السموت } من الملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة جمال الله، المستوحشين من سطوة جلاله { والأرض } أي: من في عالم الطبيعة المتوجهة نحو مبدعها طوعا { إلا آتي الرحمن } المهد الممد لهم أضلال أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى، والمفيض عليهم من رشحات بحر وجوده، بمقتضى فضله وجوده { عبدا } [مريم: 93] متذللا مقهورا تحت تصرفه، مصروفا حسب قدرته وإرادته، محاطا تحت حيطة حضرة علمه ولوح قضائه.
إلى حيث { لقد أحصاهم } وفصلهم، لا يشذ شيء من أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، وجميع حالاتهم حتى اللمحة اللحظة الطرفة والخطرة من حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته واختياره { وعدهم عدا } [مريم: 94] أي: فردا فردا، وشخصا شخصا، مع جميع العوارض من المتعلقة بكل فرد وشخص، ما داموا في هذه النشأة، { وكلهم آتيه } أيضا { يوم القيامة فردا } [مريم: 95] منفردا مفروزا عن الأنصار والأعوان وجمي الأصحاب والخلان.
ثم قال سبحانه: { إن } المنتخبين المنتجبين { الذين آمنوا } بالله وتوحيده، وأطاعوا لرسله والمؤيدين من عنده وامتثلوا بجميع ما جاءوا به من الأوامر والنواهي المبينة في الكتب الإلهية المنزلة عليهم { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } من النوافل المقربة إلى الله طلبا لرضاه وابتغاء لوجهه { سيجعل } ويحدث { لهم الرحمن } المتكفل لجزائهم وإثابتهم بمقتضى سعة رحمته وجوده ووفور لطفه { ودا } [مريم: 96] ومحبة في قلوب جميع المؤمنين حتى يحبوهم، ويتحننوا نحوهم، بلا سبق الوسائل والأسباب العادية الموجبة لمودة البعض للبعض من الإنعام والإحسان وأنواع العطية والإكرام، مع محبة عموهم عباد الله للبدلاء المنسلخين عن مقتضيات لوازم البشرية.
ثم قال سبحانه امتنانا على حبيبه، وإشارة إلى عظم رتبة القرآن الجامع لجميع المعارف والأحكام، بعدما بين في هذه السورة من معظمات مهما الدين من العبر والتذكيرات والأخلاق والآداب: { فإنما يسرناه } أي: القرآن { بلسانك } وسهلناه وأنزلناه على لغتك { لتبشر به المتقين } الذين يحفظون نفوسهم عن مخالفة ما أمروا به ونهوا عنه ببشارة عظيمة عناية من الله إياهم وفضلا، وهي تحققهم بمقامم الرضا والفوز بشرف اللقاء { وتنذر به } أي: بوعيداته وأنواع العذاب المذكورة فيه { قوما لدا } [مريم: 97] لدودا لجوجا، مفرطين في اللدد والعناد، مصرين على ما هم عليه من الفسق والفساد.
{ و } لا تبال يا أكمل الرسل بتماديهم في لددهم وعنادهم، ولا تحزن من عتوهم وفسادهم؛ إذ { كم أهلكنا قبلهم من قرن } أي: أهلكنا كثيرا من أقوام مضوا، كانوا متمادين أمثلهم في الغي والضلال، مصرين على المراء والجدال.
تأمل والتفت يا أكمل الرسل وتشعر { هل تحس } أي: وتشعر { منهم } من المهلكين { من أحد } نجا، وبقي سالما من قبضة وسطوة قهرنا وغضبنا { أو تسمع لهم ركزا } [مريم: 98] صوتا خفيا يسمع من قبورهم ومدافنهم، بل صاروا كأن لم يكونوا أصلا، وما ذلك وأمثاله علينا بعزيز.
رب اختم عواقب أمورنا بالخير والحسنى.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتدبر المتأمل في الأسماء الحسنى الإلهية، والمستكشف عن رموز صفاته الثبوتية والسببية والجمالية والجلالية، واللطفية والقهرية، وجميع الأوصاف المتقابلة والمتماثلة الإلهية، أن تتعمق وتتأمل في معنى اسم الرحمن الذي كرره سبحانه في هذه السورة مرارا كثيرة، وتدبر فيه كي تصل وتستكشف إلى أن مبدأ جميع ما ظهر وبطن، وكان ويكون، وإنما هو هذا الاسم المشير إلى سعة رحمة الحق، ووفور جوده وفضله على مظاهره ومصنوعاته؛ إذ به استوى سبحانه على عروش جميع الكوائن والفواسد، وبه ظهر ما ظهر من كتم العدم.
وبالجملة: ما من موجود محقق محسوس أو مقدر مخطور، إلا وهو في حيطة هذا الاسم وتحت تربيته وتصرفه، بحيث لو انقطع إمداده عن العالم طرفة لم يبق للعالم ظهور ووجود أصلا.
ومتى تحققت بهذا الاسم العظيم، ويقنت شموله وإحاطته لجميع المظاهر شمول عطف ولطف، فزت بحقيقة قوله سبحانه: { إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } [مريم: 93].
جعلنا ممن تحقق بمعاني أسمائه الحسنى، واستكشف عن سرائر صفاته الأسنى، بفضله وطوله، وسعة رحمته وجوده.
[20 - سورة طه]
[20.1-12]
{ طه } [طه: 1] طالب الهدياة العامة على كافرة البرايا.
{ مآ أنزلنا } من مقام إرشادنا وتكملينا { عليك } أيها المتوجه إلى السعادة الأبدية، المعرض عن الشقاوة { القرآن } الفرقان بين الهداية والضلالة، والسعادة والشقاوة { لتشقى } [طه: 2] أي: لتكون شقيا بنزوله بعدما كنت سعيدا قبله كما توهمه الكفار.
بل ما أنزلناه { إلا تذكرة } للسعادة العظمة لك ولمن تبعك، لا لكل أحد مهم بل { لمن يخشى } [طه: 3] من إنذاراته وتخويفاته، وامتثل بأوامره، واجتنب عن نواهيه؛ إذ أنزل القرآن عليك من عموم رحمتنا على كافة الخلق.
لذلك نزلناه { تنزيلا ممن } أي: من سامنا الذي بواسطته { خلق الأرض } أي: أوجدنا العالم السفلي { والسموت العلى } [طه: 4] أي: العالم العلوي، وذلك السام هو { الرحمن } الذي ظهر واستقر بالرحمة العامة { على العرش } أي: على عروش الذرائر، بحيث لا يخرج عن حيطة علمه ذرة من الذرات، بل { استوى } [طه: 5]. على جميعها
إذ { له } الاستيلاء والإحاطة التامة على { ما } ظهر { في السموت و } على { ما } ظهر { في الأرض } من الكائنات والفاسدات { و } كذا على { ما } ظهر { بينهما } من الأمور الكائنة فيها { و } كذا { ما } هو كائن وسيكون { تحت الثرى } [طه: 6].
هذا باعتبار ظهوره واستيلائه على الآفاق الخارجة عنك { و } أما ظهوره واستيلاؤه على نفسك، فإنه يستولي على ذاتك وأفعالك وأقوالك؛ بحيث { إن تجهر بالقول فإنه يعلم } القول بالجهر منك، الذي تعلمه أنت أيضا وغيرك، بل { السر } الذي لا يعلمه غيرك { وأخفى } [طه: 7] من السر الذي لا تعلمه أنت أيضا من مقتضيات استعداداتك قبل الخطور ببالك.
وإذا كان الحق محيطا ومستوليا على عروش ما ظهر وما بطن، فلا يكون الموجود الثابت إلا { الله } أي: مسمى هذا الاسم الجامع جميع مراتب العالم بحيث لا يخرج عن حيطته شيء أصلا؛ إذ { لا إله } أي: لا موجودا { إلا هو } أي: هذا المسمى الذي لا تعدد فيه أصلا، فيكون أحدا صمدا فردا وترا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
غاية ما في الباب أن { له } أي: لهذا المسمى { الأسمآء الحسنى } [طه: 8] الكلية التي جزئياتها لا تعد ولا تحصى، وباختلاف الأسماء، اختلفت الظهورات والتجليات عن المسمى.
وكما نبهناك يا أكمل الرسل على ظهورنا في الكائنات مجملا، نبهناك عليها مفصلا { و } ذلك أنه { هل أتاك } أي: قد ثبت و تحقق عندك الكليم { حديث موسى } [طه: 9] أي: قصة انكشافه من النار التي احتاج إليها هو وأهله في الليلة الشاتية المظلمة، وقت { إذ رأى نارا } مطلوبة لدفع البرودة، ولوجدان الطريق في الظلمة { فقال لأهله } المحتاجين إليها في تلك الليلة: { امكثوا إني آنست نارا لعلي } أو أنس عندها مع إنسان استخبره عن الطريق، وحين رجوعي إليكم { آتيكم منها بقبس } تتصطلون به { أو } أتخذ منها سراجا { أجد على النار } اي: مع السراج المسرجة منها { هدى } [طه: 10] طريقا موصلا إلى مطلوبنا.
{ فلمآ أتاها } مسرعا؛ ليرجع إليهم دفعة { نودي } من جانب الشجرة الموقدة ليقبل إليها فينكشف منها { يموسى } [طه: 11] المتحير في بيداء الطلب: اطلبني من هذه الشجرة الموقدة، ولا تستبعد ظهوري فيها حتى أنكشف لك منها.
{ إني } وإن ظهرت على هذه الصورة المطلوبة لك هذا { أنا ربك } أي: مطلوبك الحقيقي الذي ربيتك بأنواع اللطف والكرم، وابتليتك بأنواع البلاء في طريق المجاهدة؛ لتتوجه إلي فتعرفني، فالآن ارتفعت الحجب والقيود، وتحققت بمقام الكشف والشهود { فاخلع نعليك } فاسترح عن الطلب بعد وجدان الرب، وتمكن ي مقعد الصدق { إنك بالواد المقدس } عن رذائل الأغيار { طوى } [طه: 12] أي: طويت التوجه إلى الغير، ولم يبق لك احتياج إلى الاستكمال.
[20.13-37]
{ و } بعد وصولك إلى مقام الكشف والشهود { أنا اخترتك } أي: اصطفيتك من المكاشفين من أرباب الولاية للتكميل والرسالة على الناس النسين التوجه إلى بحر الحقيقة، فعليك التوجه إلى الإهداء والتجنب عن الميل إلى الهوى { فاستمع } أي: اقتصر في تكميلك ورسالتك { لما يوحى } [طه: 13] إليك من مقام عظيم جودنا، ولا تلتفت إلى الأهواء الفاسدة، حتى لا تضف أنت، ولا تضلهم عن السبيل، فبلغ إلى الناس نيابة عني: { إنني أنا الله } الواحد الأحد المحيط بجميع مراتب الأسماء { لا إله } أي: لا جامع لجميع المراتب { إلا أنا } الجامع لجميعها، المستحق للإطاعة والانقياد { فاعبدني } أنت حق عبادتي؛ أي: أحسن الأدب معي، وتخلق بأخلاقي { وأقم الصلاة } أي: دوام الميل بجميع الأعضاء والجوارح { لذكري } [طه: 14] أي: توجه نحوي بجميع أعضائك وجوارحك لتذكرني بها وتشكرني بجميعها، حتى أنكشف لك من كل منها بحيث كنت سمعك وبصرك وبدنك ورجلك، إلى غير ذلك من جوارحك حتى قامت قيامتك الكبرى، وقمت بين يدي المولى، وتمكنت في جنة المأوى، عند سدرة المنتهى، التي يرتقي وينتهي إليها عروجك في الصعود والارتقاء.
ثم قال سبحانه تعليما لعباده، وحثا لهم على طلب الانكشاف التام: { إن الساعة } أي: ساعة الانكشاف التام على الذي لم يبق معه الطلب كانكشافك يا موسى { آتية } حاصلة لكل أحد من الناس دائما في كل آن، لكن { أكاد أخفيها } أي: أخفي ظهورها لهم { لتجزى } أي: لتتمكن { كل نفس } بمرتبة من المراتب الإلهية { بما تسعى } [طه: 15] أي: بسبب ما تجتهد فيه، وتكتسب من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي الجارية على ألسنة الرسل؛ يبطل سر التكليف والتشريع.
وإذا كان الأمر كذلك { فلا يصدنك عنها } أي: فلا يصرفك عن الأم بالانكشاف التام إعراض { من لا يؤمن بها } تقليدا، حتى يطلبها تحقيقا، بل أنكرها وأعرض عنها { واتبع هواه } المضلة في تيه الغفلة والحرمان { فتردى } [طه: 16] فتهلك بداء الجهل والخذلان.
وإذ اخترناك للرسالة العامة، وهبنا لك شاهدا أصدق على دعواك الرسالة؛ لذلك سألناك أولا بقولنا { وما تلك } الخشية التي حملتها { بيمينك يموسى } [طن: 17] المستكشف على حقائق الأشياء؛ يعني: هل تعرف فوائدها وما تترتب عليها، وما تؤول هي عليها، أم لا؟.
{ قال } موسى على مقتضى علمه بها: { هي } أي: هذه الخشبة { عصاي } أستعين بها في بعض الأمور، وإذا عييت وتعبت { أتوكأ عليها و } إذا احتجت إلى هش الورق، وإسقاطه من الشجر لرعي الغنم { أهش } وأسط { بها } ليكون علفا { على غنمي ولي فيها } غير ذلك { مآرب أخرى } [طه: 18] من الاستظلال، ودفع الهوام، مقاتلة العدو إلى غير ذلك.
{ قال ألقها يموسى } [طه: 19] حتى تشهد آيتنا الكبرى { فألقاها } امتثالا للأمر الإلهي { فإذا هي حية تسعى } [طه: 20] تشمي علي بطنها كسائر الحيات، فخاف وموسى منها، وتضيق صدره من قلة رسوخه وعدم تمرنه بابتلاءات الله واختباراته؛ لأنه كان في أوائل حاله.
{ قال } سبحانه بعدما ظهرت أمارات الوجل منه: { خذها } هي عصاك يا موسى { ولا تخف } من صورتها الحادثة، فإنا من كمال قدرتنا { سنعيدها سيرتها } وصورتها { الأولى } [طه: 21] التي هي في يدك، استعنت بها في بعض الأمور، وإنما بدلنا صورتها لتتنبه على أن لنا القدرة على إحياء الجمادات التي هي أبعد بمراحل عن إهداء الضالين من الأحياء.
{ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء } ذات شعاع محير للعقول والأبصار { من غير سوء } أي: من غير حجاب يسترها وينقص من نورها؛ لتكون { آية أخرى } [طه: 22] لك أجلى من الآية السابقة.
وإنما أريناك الآيات قبل إرسالك من أرسلناك { لنريك } أولا { من آياتنا الكبرى } [طه: 23] فيطمئن بها قلبك، ويقوى ظهرك بإمدادنا لك في رسالتك، وتأييدنا إياك فيها.
فإذا اطمئن قلبك وقوي ظهرك { اذهب } أيها الهادي بإهدائنا وتوفيقنا نيابة عنا { إلى فرعون } الضال المستغرق في بحر العتو والعناد { إنه طغى } [طه: 24] أي: ظهر علينا مستكبرا بقوله للضعفة:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24] فبلغ إنذاراتنا وتخويفاتنا، وزد عليها الدلائل العقلية والنقلية والكشفية؛ لعله يتنبه بها، وينزجر بسببها عما عليه من العتو والعناد.
وبعدما سمع موسى خطاب الله إياه { قال } مشمر الذيل إلى الذهاب طالبا التوفيق من رب الأرباب: { رب } يا من رباني بأنواع اللطف والكرم، وأعطائي الآيتين الكريمتين العظيمتين؛ لتكوننا شاهدين على صدقي في دعواي { اشرح لي صدري } [طه: 25] أي: وسع لبي؛ بحيث لا يخطر ببالي خوف من العدو أصلا.
{ و } مع ذلك { يسر } وسهل { لي أمري } [طه: 26] هذا؛ بحيث لا أضطرب في تبليغه، ولا أستوحش من جاه فرعون وشوكته.
{ و } إذا شرعت لأداء الرسالة { احلل } وارفع لكنة عارضة من مهابة العدو، سيما هذا الطاغي { عقدة من لساني } [طه: 27] كي { يفقهوا قولي } [طه: 28] وغرضي منها.
{ و } إذا أوقعتني لأداء رسالتك يا ربي { اجعل لي وزيرا } ظهيرا، يصدقني في أمري، ويعينني عليه، ولا تجعل ظهيري من الأجانب؛ لقلة شفقتهم علي وعطفهم بي، بل اجعله { من أهلي } [طه: 29] وأقربائي أولى، وهو { هارون } إذ هو { أخي } [طه: 30] الأكبر بمنزلة الأب في الشفقة، وإذا جعلت هارون وزيري { اشدد به } أي: أقو وأحكم بسببه يا معيني ومغيثي { أزري } [طه: 31] أي: ظهري { و } لا يتحقق تقويته على حقيقته إلا بعد اشتراك معي في أداء الرسالة { أشركه } يا ربي { في أمري } [طه: 32] ورسالتي، بأن تنكشف عليه كما انكشفت لي؛ ليكون من المكاشفين، الموقنين بوحدانيتك يا ربي، الممتثلين بأوامرك، المجتنبين عن نواهيك.
وإنما سأتلك يا ربي الإعانة بأخي { كي نسبحك } ونقدس ذاتك عما لا يليق بشأنك تقديسا { كثيرا } [طه: 33].
{ ونذكرك } ونناجيك بأسمائك الحسنى وصفاتك العظمى ذكرا { كثيرا } [طه: 34].
وكيف لا نسبحك ونذكرك { إنك } بذاتك وأوصافك وأسماءك { كنت } محيطا { بنا بصيرا } [طه: 35] بجمع أحوالنا.
{ قال } تعالى رفقا له وامتنانا عليه؛ لرجوعه إليه بالكلية: { قد أوتيت سؤلك } أي: قد حصل لك جمع مطالبك؛ لتوجهك علينا، ورجوعك إلينا { يموسى } [طه: 36].
كيف { ولقد } أنعمنا عليك حين لا ترقب لك ولا شعور بأن { مننا عليك } من وفور رحمتنا وشفقتنا لك { مرة أخرى } [طه: 37].
[20.38-51]
وقت { إذ أوحينآ } وألهمنا { إلى } قلب { أمك ما يوحى } [طه: 38] وما يلهم عند نزول البلاء لنجاة الأحياء وخلاصهم عن ورطة الهلاك، وذلك حين إحاطة شرطة فرعون المأمورين بقتل أبناء بني إسرائيل على بيت أمك؛ ليقتلوك ظلما، فاضطربت أمك، وآيست من حياتك.
فألهمناها حينئذ: { أن اقذفيه } واطرحيه { في التابوت } المصنوع من الخشب فاتخذت تابوتا ووضعتك فيها، ثم ألهمناها ثانيا إذا وضعت فيه، توكلي على خالقه وحافظه وفوضي أمره إليه { فاقذفيه في اليم } يعني: النيل، ولا تخافي من غرفة { فليلقه اليم بالساحل } ألبتة؛ إذ من عادة الماء إلقاء ما فيه إلى جانبه، فإذا قرب من الساحل ورآه الناس { يأخذه } ويأمره بأخذه { عدو لي } يعني: فرعون المفرط بدعوى الإلهية لنفسه { وعدو له } يعني: الوليد، أو هو من أبناء بني إسرائيل، وهو عدو لهم بل هو سبب عداوة جميعهم في الحقيقة.
{ و } بعدما أمر عدوك بأخذك والتقاطك من البحر { ألقيت } من كمال قدرتي ووفور حولي وقوتي في نفس فرعون وزوجته آسية - رضي الله عنها - وأهل بيته { عليك } أي: على حفظك وحضانتك يا موسى { محبة } في قلوبهم مع شدة عداوتهم معك، وكانت تلك المحبة صادرة { مني } فظاهرهم حفظا لك وإظهارا لكمال قدرتي بأن أربيك في يد عدوك؛ لتكون سببا لهلاكه { و } إنما القيت في قلوبهم المحبة مني { لتصنع } ولتربى أنت وإن كنت بيدي العدو ظاهرا { على عيني } [طه: 39] أي: أعيان أوصافي وأسمائي؛ إذ الكل مظاهر ذاتي وأوصافي وأسمائي.
ومع إلقاء كمال المحبة والمودة مني في قلوبهم لحفظك وحضانتك، راعيت جانب أمك { إذ تمشي أختك } مريم حين طلبوا لك مرضعة بعدما أخروجك من البحر { فتقول } لهم على سبيل الوساطة والدلالة: { هل أدلكم على من يكفله } ويرضعه مع أنهم أحضروا كثيرا من مرضعات البلد عندك لم تممص انت ثديهن؛ إذ حرمنا عليك المراضع إنجازا لما وعدنا على أمك، فقبلوا منها قولها، فطلبوا أمك، فأرضعتك فاستطابوا وأجروها لإرضاعك.
وبالجملة: { فرجعناك إلى أمك } امتنانا لك بأن تحفظ أمك، ولأمك أيضا { كي تقر } وتنور { عينها } بمشاهتدك بعدما ذهب نور عينها بفمارقتك.
{ و } بالجملة: { لا تحزن } يا موسى في حال من الأحوال، فأنا رقيبك من جميع ما يضرك ويؤذيك، ومعينك وناصرك على جميع ما أمرتك { و } اذكر أيضا امتنانا عليك وتذكر أيضا وقت إذ { قتلت نفسا } أي: شخصا من آل فرعون، فهموا بقتلك قصاصا، وخفت منهم ومن العقوبة الأخروية أيضا؛ لأنك قتلت نفسا بلا رخصة شرعية، وتحزنت لشناعة فعلك وخوف عدوك حزنا شديدا { فنجيناك من الغم } وأزلنا حزنك الأخروي بقبول توبتك ورجوعك عن فعلك نادما مخلصا، والدنيوي بإخراجك عن يارهم وإبعادك عنهم.
{ وفتناك } وابتليناك أيضا بعدما أخرجناك من بينهم { فتونا } أي: ابتلاء واختبارا كثيرا من الجوع والعطش وضلال الطريق ووحش الغربة وكربة الوحدة وضيق الصدر والكآبة وتحمل مشاق السفر ومتاعبه، حتى تستعد لقبول الإرشاد والتكميل.
ثم بعدما اختبرناك بأمثال هذه الشدائد، أوصلناك وهديناك إلى مدين للاسترشاد والاستكمال { فلبثت سنين } أي: ثماني أو عشر سنين { في أهل مدين } عند نبينا وخليفتنا الكامل المكمل - وهو شعيب عليه السلام - لتسترشد منه، وتستكمل من شرف صبحته، وتتخلق بأخلاقه { ثم } بعد لبثك فيهم مدة، واستكمال من الرشد الكامل { جئت على } وطنك المألوف على { قدر } أي : مقدار عظيم من الكشف والشهود وفوق ما يحصل بالكسب والاجتهاد بل من لدنا { يموسى } [طه: 40] تفضلا وإحسانا.
وكيف لا يكون كذلك { و } قد { اصطنعتك } أي: اجتبيتك وانتخبتك من بين المكاشفين { لنفسي } [طه: 41] لتكون خليفتي ونائبي ومولي أمري وحامل أسراري.
وإذا أخترتك للرسالة: { اذهب أنت } أصالة { وأخوك } تبعا لك { بآياتي } ومعجزاتي الدالة على تصديقي لكما وتقويتي لرسالتكما { ولا تنيا } أي: لا تفترا أو لا تضعفا { في } تبليغ { ذكري } [طه: 42] المشتمل على الأوامر والنواهي اغترارا وخوفا.
بل { اذهبآ } بأمرنا مسرعين { إلى فرعون } المبالغ في التجبر والتكبر من غير مبالاة والتفات بعظمته وشوكته { إنه طغى } [طه: 43] علينا، ولا عبرة بعظمة الطغاة.
وإذا ذهبتما إليه: { فقولا له } تلطفا ورفقا كما هو دأب المرسلين { قولا لينا } رجاء أن يلين قلبه عن صلابة الفساد، وبعد الأداء على وجه التليين والتلطف { لعله يتذكر } الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، فصدقكما وآمن بدينكما { أو يخشى } [طه: 44] من نزول العذاب بدعائكما.
{ قالا } خوفا من فرعون وأعوانه على مقتضى بشريتهما ملتجئين إلينا: { ربنآ } وإن ربتنا بحولك وقوتك وأيدتنا بآياتك { إننا } من ضعف بشريتنا { نخاف أن يفرط علينآ } بالعقوبة والقتل { أو أن يطغى } [طه: 45] لك بما لا يليق بجنابك.
{ قال } سبحانه: { لا تخافآ } من إفراطه وطغيانه { إنني معكمآ } عند أدائكما الرسالة { أسمع } أقواله { وأرى } [طه: 46] أفعاله، فإذا أفرط عليكما أقدر على منعه وزجره.
{ فأتياه } مجترئين عليه من غير مبالاة بعظمته وشوكته { فقولا إنا رسولا ربك } الذي رباك بالعزة وأنواع الكرامة، وأبقاك بها إمهالا لك إلى تتكبر عليه باستكبارك على عباده، وإذا ظهر كبرك الآن أرسلنا إليك أيها المتكبر المتجبر؛ لترسل معنا خواص عباده الذين عندك وتحت قهرك وغلبتك إنجاء لهم من استكبارك وطغيانك عليهم.
ومتى سمعت ما بلغناك بإذن الله ووحيه { فأرسل معنا بني إسرائيل } المستوحشين عنك بظلمك وقهرك؛ لينجوا من استيلائك واستعلائك عليهم { و } إذ أرسلنا الله لإنجائهم وتخليصهم من عذابك { لا تعذبهم } بعد أدائنا الرسالة إليك لأنا { قد جئناك بآية } ساطعة ومعجزة باهرة ظاهرة إنها { من ربك } الذي هو رب العالمين.
إن تأملت فيها حق التأمل والتدبر تركت العتو والعناد، وآمنت بتوحيده { والسلام } أي: الأمن والسلامة من الله { على من اتبع الهدى } [طه: 47] وتأمل الآيات الكبرى وترك الهوى، ومن اتبع الهوى فقط ضل وغوى، واستحق عذاب الآخرة والأولى.
واعلموا أيها الهالكون في تيه الغفلة والضلال { إنا قد أوحي إلينآ } من عندنا ربنا { أن العذاب } الإلهي ناول { على } كل { من كذب وتولى } [طه: 48] أي: كذب الحق وأعرض عن أوامره ونواهيه، فلما رأى فرعون جرأتهما وسمع قولهما { قال } لهما تهكما واستهزاء: { فمن ربكما } الذي رباكما وأرسلكما لإنجاء بني إسرارئيل من عذابي، مع أني لم أعرف لك ربا رباك غيري { يموسى } [طه: 49] المقتدى في أمر الرسالة.
{ قال } له موسى على وجه التنبيه رجاء أن ينتبه: { ربنا الذي } أظهر الأشياء من العدم { أعطى كل شيء خلقه } أي: مرتبته في النشأة الأولى { ثم هدى } [طه: 50] الكل بالرجوع إليه والانقياد له في النشأة الأخرى؛ إذ منه الابتداء وإليه الانتهاء.
{ قال } فرعون: إذا كان الكل من عند ربك وبعلمك أحواله { فما بال القرون الأولى } [طه: 51] أي: ما أحوال الأمم الماضية، هل هم مهتدونن بمتابعة مثلك أم هم ضالون بمتابعة الهوى مثلي على رعمك؟!.
[20.52-64]
{ قال } موسى: لا أعرف حالهم من الهداية والضلالة؛ إذ { علمها عند ربي } لا يوحي إلي من أحوالهم شيئا بل أحوالهم ثابتة عنده سبحانه { في كتاب } هو حضرة علمه الأزلي على التفضيل؛ بحيث { لا يضل ربي } أي: لا يغيب عن أحوالهم شيء من عمله سبحانه { ولا ينسى } [طه: 52] ربي شيئا من ملعوماته؛ إذ علمه حضوري بالنسبة إلى جميع الأشياء، والعلم الحضوري لا يجري فيه الغيب والنسيانز
ثم قال موسى دفعا للاثنينية الناشئة من الإضافة: ربنا هو ربكم { الذي جعل لكم الأرض مهدا } مكانا تستقرون فيه وتستريحون { وسلك } أي: قدر { لكم فيها سبلا } مختلفة بعضها جبلا ترتحلون إليه في الصيف، وبعضها سهلا ترجعون إليه في الشتاء، حتى يكمل استراحتكم فيها، { و } مع ذلك { أنزل } لكم لتكميل استراحتكم أيضا { من السمآء } أي: عالم الأسباب { مآء } لإحياء الأرض الميتة { فأخرجنا } أي: أنشأنا وأنبتنا { به } أي: بسبب الماء فيها { أزواجا } وأصنافا { من نبات شتى } [طه: 53] مختلفة؛ ليكون مفرجا لغمومكم مقويا لنفوسكم.
وإذا احتجتم إلى الغذاء { كلوا } منها؛ حيث شئتم رغدا { وارعوا أنعامكم } التي تستريحون بسببها من أكلها وحملها وركوبها { إن في ذلك } الجعل والإنزال والإخراج { لآيات } دلائل واضحات على قدرتنا واختبارنا { لأولي النهى } [طه: 54] الناهين عقولهم عن إسناد الأمور إلى الأسباب بل يسندونها إلى مسببها أولا وبالذات.
وإذا تأملتم في بدائع مصنوعاتنا وغرائب مخترعاتنا على وجه الأرض جزمتم أنا { منها } أي: من الأرض { خلقناكم } وأوجدناكم بقدرتنا واختيارنا إيجاد النبات منها وقت الربيع { وفيها نعيدكم } أيضا بالآجال المقدرة لانقضاء حياتكم، إفناء النبات في أيام الخريف { ومنها نخرجكم } للحشر والعرض في يوم الجزاء { تارة أخرى } [طه: 55].
{ و } مع أمرنا لموسى وأخيه المسلين إليه بتليين القول، والتنبيه بدلائل الآفاق والأنفس { لقد أريناه } تحقيقا وتأكيدا؛ لئلا يبقى عنا جداله، حين أخذنا بظلمه في وقت الجزاء، مع علمنا بأنه من الهالكين في بيداء البعد والعناد { آياتنا } الدالة على صدق موسى المرسل { كلها } متعاقبة مترادفة، وهي: العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين والطمس { فكذب } بجميعها { وأبى } [طه: 56] فامتنع عن تصديق شيء منها، بل نسب الكل إلى السحر والشعبذة.
{ قال } اغترارا بعلو شأنه ورفعة مكانه، مستفهما على وجه التهكم والإنكار: { أجئتنا } متمنيا لرئاستنا مع غاية حقارتك وضعفك { لتخرجنا } مع كمال عظمتنا وقوتنا { من أرضنا } التي استقررنا عليها زمانا طويلا { بسحرك } الذي تعلمت من شياطين الأمة في بلاد الغربة { يموسى } [طه: 57] المتمني محالا، ولولا خشيتي من اشتهار عجزي من دلائلكوأباطيلك لقتلك ألبتة فالزم مكانك.
{ فلنأتينك بسحر } من أنواع السحر كامل من سحرك لا من نوع آخر بل من { مثله } أي: مثل سحرك كامل منه، قم من عندي وتأمل في أمرك؛ إن شئت تب من هذياناتك وفضولك وارجع إلي بالاستغفار حتى أغفر زلتك، وإن شئت { فاجعل } أي: عين وقتا من الأوقات؛ ليكون { بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت } ثم عين { مكانا سوى } [طه: 58] أي: مسوى لا حائل فيه بحيث يرى كل أحد ما يجري بيننا حتى تفتضح على رءوس الأشهاد.
{ قال } موسى: إن معي ربي سيقويني لا أخاف من معارضتك بالسحر وتعيين موعد إتيانك، بل { موعدكم } للمعارضة مع المعجزة { يوم الزينة } أي: يوم العيد؛ إذ يجتمع فيه الأقاصي والأداني { و } لا يكون وقت تفرقهم إلى بيوتهم { أن يحشر الناس ضحى } [طه: 59] أي: في وقت الضحوة المعدة لإظهار الزينة، ليظهر كل منهم على صاحبه زينة؛ ليكون إعجازي لك أبعد من أن يرتاب فيه أحد.
{ فتولى فرعون } وانصرف عن مكالمة موسى استكبارا { فجمع كيده } أي: أمر بجميع سحرة مملكته ليرى القاصرين أن ما جاء به موسى من جنس السحر { ثم أتى } [طه: 60] الموعد المعين مع ملئه وسحرته.
وبعدما حضروا الموعد { قال لهم } أي: للسحرة { موسى } على مقضتى شفقة النبوة أو بإلقاء الله إياه بطريق الإلهام كلاما خاليا عن الميل إلى الخصومة إمحاضا للنصح: { ويلكم } أي: ويل لكم ايها العقلاء التاركومن طريق العقل بمتابعة هذا الطاغي { لا تفتروا على الله كذبا } بأن أفعاله مما يعارض بالسحر والشعوذة؛ لأن ما جئت به من الآيات مما آتاني الله من فضله، وإن افتريتم على الله { فيسحتكم } أي: يهلككم ويستأصلكم { بعذاب } نازل من قهره { وقد } تحقق عندكم أيها العقلاء أنه { خاب } خيبة أبدية { من افترى } [طه: 61] على الله بما لا يليق بذاته من إبطال قدرته أو دعوى المعارضة معه.
فإذا سمع السحرة من موسى قوله هذا، وتأملوا فيه تأملا صادقا، وجدوه صادرا عن محض الحكمة والفطانة، فلذلك تأثروا من قوله تأثرا عظيما { فتنازعوا } وتشاوروا { أمرهم بينهم } بأن أمثال هذا الكلام لا يصدر إلا من المؤيد من عند الله، المستظهر به سبحانه، ما يشبه كلام السحرة المعارضين، فمآل كل منهم في نفسه إلى تصديقه { وأسروا النجوى } [طه: 62] أي: مناجاتهم في أنفسهم من فرعون وملئه، فتمكن فرعون وملئه في معرض المعارضة وقابلوا السحرة لممانعتهما.
{ قالوا } أي: فرعون وأشرافهم للسحرة تقوية لهم في أمرهم: { إن هذان } الرجلان الحقيران { لساحران } يدعيان الرسالة من ربهما الموهوم ترويجا لسحرهما، وبعد الترويج { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } المألوفة { بسحرهما } أي: بمجرد سحرهما لا من أمر سماوي كما زعمان، وبعد إخراجكم من أرضكم يريدان الاستقرار والاستيلاء على عموم ملك العمالقة { ويذهبا } بعد التقرر والتمكن { بطريقتكم المثلى } [طه: 63] أي: عادتكم العظمى ومرتبتكم العليا.
وبالجملة: يريدان أن يجعلا أمرنا وأمر بني إسرائيل بالعكس؛ ليكون لهم الكبرياء ولنا المذلة والهوان، بعكس ما كان من سالف الزمان.
وإذا سمعتم نبذا من مقاصدهما { فأجمعوا كيدكم } أي: هيئوا جميع أسباب سحركم؛ بحيث لا تحتاجون لدى الحاجة إلى شيء من أدواته { ثم ائتوا } عليها { صفا } أي: صافين مجتمعين بمقابلتهما؛ لأنه أدخل في المهابة { و } اعلموا أنه { قد أفلح اليوم } أي: فاز ووصل بانواع العطاء والمواهب { من استعلى } [طه: 64] وغلب عليهما.
[20.65-76]
ثم لما أتى السحرة صافين إلى المجلس على الوجه الذي أمروا { قالوا } من فرط عتوهم واستيلائهم: { يموسى } نادوه استحقارا واستذلالا { إمآ أن تلقي } أولا ما تلقيت وجئت به في مقابلتنا { وإمآ أن نكون أول من ألقى } [طه: 65] ما تلقينا في مقابلتك، فالأمران عندنا سيان؛ لأننا عصبة ومعنا جميع هذه الخلائق، وأنت ضعيف ليس معك إلا أخوك.
{ قال } موسى: لا تضعفوني أيها الحمقى إن معي ربي سيقويني إن شاء، ويغلبني على جميع من في الأرض { بل ألقوا } أنتم أولا أيها المغرورين فألقوا { فإذا حبالهم وعصيهم } التي يسحرون بها { يخيل إليه } أي: إلى موسى { من سحرهم أنها تسعى } [طه: 66] بذاتها.
{ فأوجس في نفسه خيفة موسى } [طه: 67] أي: أضمر في نفسه خوفا من غلبتهم عليه.
ثم لما علمنا من موسى خوفه { قلنا } له تشريحا لصدره وإزالة لخوفه: { لا تخف } أيها لامرشد من عندنا من تمثالاتهم الغير المطابقة للمواقع { إنك أنت الأعلى } [طه: 68] أي: الغالب عليهم بعد إلقائك { و } بعدما أطمأن قلبك بوحينا لك هذا { ألق ما في يمينك } يعني: عصاك بالجراءة التامة والقدرة الغالبة بلا جبن وتزلزل { تلقف } أي: تبلع وتلتقم { ما صنعوا } لمعارضتك { إنما } التماثيل التي { صنعوا } ليس لها اعتبا بل ما هي إلا { كيد ساحر } وحيلة ماكر { ولا يفلح } ويغلب { الساحر } بحيله وسحره { حيث أتى } [طه: 69] أي: في أي مكان أتى به، سواء كان عند معاونيه أو في مكان آخر.
فألقى موسى عصاه امتثالا لأمر ربه، فصار ثعبانا فابتلع حبالهم جميعا مجتمعين { فألقي السحرة } مجتمعين { سجدا } متذللين نادمين من معارضتهم { قالوا } بلسانهم موافقا لقلوبهم: { آمنا برب هارون وموسى } [طه: 70] بأن له القدرة والاختيار لا يعارض فعله أصلا، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
{ قال } لهم فرعون على سبيل التقريع والتوبيخ بعدما سمع إيمانهم، وتلذللهم عند موسى: { آمنتم له } وسلمتم سحره بلا استئذان مني، بل { قبل أن ءاذن لكم } بتسليمه فظهر عندي { إنه } أي: موسى { لكبيركم } أي: معلمكم ومقتداتكم { الذي علمكم السحر } في خلوتكم معه، فاتفقتم معه حتى تخرجوني من ملكي، فواعزتي وجلالي وعظم شأني لأنتقمن منكم انتقاما شديدا { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم } أولا { من خلاف } أي: متبادلين { و } بعد ذلك { لأصلبنكم في جذوع النخل } حتى يعتبر منكم من كان في قلبه بغضي وعداوتي، وإن ىمنتم خوفا من شدة عذاب ربه ودوامه { ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى } [طه: 71] وأدوم عقابا، أنا، أم رب موسى؟!.
{ قالوا } بعدما كوشفوا بما كوشفوا: { لن نؤثرك } ونرجحك يا فرعون { على ما جآءنا } ونكشف علينا من الحق الصريح سيما بعد ظهور المرجحات { من البينات } الواضحات الدالة على إيثاره وترجيحه، مع أنه لا بينة لك سوى ما جئنا به من السحر من قبلك وهو يبطله.
{ و } بالجملة: كوشفنا الآن بأنه سبحانه هو { الذي فطرنا } وأوجدنا من كتم العدم بكمال الاستقلال والاختيار فله التصرف فينا ولا نبال بتخويفك وتهديدك يا فرعون الطاغي، وبالجلمة { فاقض } أي: امض علينا { مآ أنت } عليه { قاض } راض من القطع والصلب وغير ذلك؛ لأنك { إنما تقضي هذه الحياة الدنيآ } [طه: 72] أي: ما تقضي وتحكم أنت أي حكم تحببت، ما هي إلا في هذه الحياة الفانية المستعارة؛ إذ حكومتك مقوصرة عليها، والدنيا وعذابها فانية حقيرة، والآخرة وعقابها باقية عظيمة.
لذلك { إنآ آمنا بربنا } الذي ربانا بأنواع النعم، فكفرنا له وأشركناك مع تعاليه عن الشريك والكفء والنظير، فالآن ظهر الحق وارتفع الحجب، فرجعنا إليه واستغفرنا منه من ذنوبنا { ليغفر لنا خطايانا و } خصوصا { مآ أكرهتنا عليه من السحر } بمعارضة المعجزة { و } بعد رجوعنا إليه تحقق عندنا أنه؛ أي: { الله خير } منك ومن كل ما سواه { وأبقى } [طه: 73] أي: بعد فناء الكل.
وقد تحقق عندنا أيضا { إنه من يأت ربه } القادر على الانتقام والإنعام { مجرما } مشركا طاغيا { فإن } أي: حق وثبت { له جهنم } التي هي دار البعد والخذلان أبدا { لا يموت فيها } حتى يستريح { ولا يحيى } [طه: 74] أيضا حياة يستفيد بها.
وثانيا إنه { ومن يأته مؤمنا } موقنا بذاته وصفاته وأفعاله، ومع ذلك { قد عمل الصالحات } بمقتضى أوامره { فأولئك } المؤمنون الصالحون { لهم } لا لغيرهم من الصالحين { الدرجات العلى } [طه: 75] القريبة إلى الدرجة العليا التي انتهت إليها جميع الدرجات، وهي { جنات عدن تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق لأولي البصائر والأبصار الناظرين بعيون الاعتبار المستغرقين بمطالعة جمال الله بلا مزاحمة الأغيار { خالدين فيها } بلا ملاحظة زمان ومقدار { وذلك جزآء من تزكى } [طه: 76] من ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار.
[20.77-87]
وكيف لا يكون للتزكية هذه الآثار! { ولقد أوحينآ } من عندنا { إلى موسى } المختار بعدما هذبنا ظاهره عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار، وحلينا باطنه بأنواع المكاشفات والأسرار، إنجاء له ولقومه من يد الكفار حين عزم عليه فرعون الغدار { أن أسر بعبادي } أي: سر ليلا معهم على صورة الفرار، فمتى أخبروا بذلك، اتبعوا أثرك بمقتضى الاغترار، ومتى أردفك العدو وقربوا أن يدركوا، ومنعك البحر من العبور، قلنا لك: { فاضرب لهم } بعصاك المعين في الأمور البحر؛ ليكون لك معجزة وظهر لهم { طريقا في البحر يبسا } جافا لا وحل فيها؛ لئلا يخافوا من الغرق ومن ورائك العدو، وأنت أيضا { لا تخاف دركا } أي: أن يدركك فرعون { ولا تخشى } [طه: 77] أن يغرقك البحر، فضرب البحر بأمر به بعدما سار بإذنه، فسلك فيه مسلك قومه خلفه، فعبروا، فصول فرعون وملؤه الأرض، فرأوا عبورهم من الطريق اليابس.
{ فأتبعهم فرعون بجنوده } بلا تراخ فدخلوا اغترارا بيبسه { فغشيهم } أي: غطاهم وسترهم { من اليم } أي: البحر { ما غشيهم } [طه: 78] أي: غشاوة عظيمة بحيث يكون البحر كما كان، فهدى موسى قومه فأنجيناهم امتنانا عليه وعليهم { وأضل فرعون قومه } باتباعهم بني إسرائيل على الفور { وما هدى } [طه: 79] وأرشد لهم طريق المخلص، فأغرقناهم متبوعا وتابعا زاجرا عليه وعليهم.
ثم بعد إنجائنا بني إسرائيل من عدوهم وإهلاك عدوهم بالمرة، وإيراثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، نبهنا عليهم التوجه والرجوع إلينا بتعديد نعمنا التي أنعمناهم؛ ليواظبوا على شكرها أداء لحق شيء منها، حتى يكونوا من الشاكرين المزيدين لنعمنا إياهم.
لذلك ناديناهم ليقبلوا إلينا، ويعلموا أن الكل من عندنا: { يبني إسرائيل } المنظورين بنظر الرحمة والشفقة { قد أنجيناكم } أولا بقدرتنا { من عدوكم } الغالب القاهر عليكم { و } أنجيناكم ثانيا عن جرائم تقصيراتكم بامتثال الأوامر الوجوبية حال { واعدناكم } نزول التوراة بصعودكم { جانب الطور } لا جميع جوانبه بل جانبه { الأيمن } ذا اليمن والكرامة؛ ليشير إلى العفو عن التقصير { و } أنجيناكم ثالثا عن شدائد التيه من جوعه وعطشه وحره وبرده بأن { نزلنا عليكم المن } الزنجبين { والسلوى } [طه: 80] السماني.
وأمرناكم بالأكل منهما مباحا بأن قلنا: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } بعد تحملكم شدائد الابتلاء واشكروا لنعمنا لنزيدهم { ولا تطغوا فيه } أي: لا تضلوا بإسناد النعم إياكم إليكم لا إلينا، مثل فرعون وقومه، وإن كنتم مثلهم في كفرانها { فيحل } أي: فينزل { عليكم غضبي } ألبتة مثل حلولهم { و } اعلموا أن { من يحلل عليه غضبي فقد هوى } [طه: 81] سقط عن درجة الاعتبار والتقرب.
{ و } إن ابتليتم بحلول الغضب لا تيأسوا عن نزول الرحمة بعد التوبة؛ إذ { إني } بعد رجوعكم إلي بالإخلاص { لغفار } ستار { لمن تاب } عما جرى عليه { وآمن } بعد التوبة تأكيدا للإيمان السابق { وعمل صالحا } بعد ذلك نادما على ما مضى من العصيان { ثم اهتدى } [طه: 82] بالأخلاص والعمل الصالح إلى درجات القرب واليقين.
ولما كان موسى حريصا على أهداء قومه لشفقته عليهم، تسارع إلى تصفيتهم، واختار منهم سبعين رجلا من خيارهم حتى يذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فساروا معه، فسارع موسى في الصعود شوقا إلى لقاء ربه، وأمرهم أن يتبعوه في الارتقاء إلى الجبل، فوصل موسى الموعد قبل وصولهم.
فقال له سبحانه تنبيها على استعجاله واضطرابه في أمره: { ومآ أعجلك } أي: أي شيء أسبقك { عن قومك } المستكملين برفاقتك { يموسى } [طه: 83] المرسل لتكميلهم، بل من حقك أن تجيء معهم مجتمعين.
{ قال } موسى: { هم } من غاية قربهم { أولاء } المشار إليهم التابعين { على أثري وعجلت } من غاية اشتياقي { إليك رب لترضى } [طه: 84] عني ويزداد تقربي إليك.
{ قال } تبارك وتعالى: إذ فارقتهم وتركتهم، صرت سببا لوقوعهم في البلاء العظيم { فإنا قد فتنا } ابتلينا { قومك } الذي أبقيتهم مع أخيك { من بعدك } أي: بعد خروجك من بينهم بعبادة غيرنا فأشركوا بنا { و } ما { أضلهم } إلا { السامري } [طه: 85] المفرط بصوغه صورة العجل من حلي القبط، ورميه عليها التراب الذي أخذه من حافر فرس جبريل وخوار العجل بعد رمي التراب وقوله:
هذآ إلهكم وإله موسى
[طه: 88].
فإذا سمع موسى من ربه ما سمع { فرجع موسى } من ساحة عز الحضور في مقام السرور { إلى قومه } المتخلفين عن أمره، المشركين بربه، قد استولى عليه الغضب حمية لهم و غيرة على ربه، فصار { غضبن } من فعلهم { أسفا } متأسفا متحزنا متفكرا، هل يمكن تداركه أم لا؟ فلما وصل إليهم { قال يقوم } المضيعين سعيي في تكميلكم، أما تستحيون من ربكم ألذي رباكم بأنواع النعم وأنجاكم من أصناف البلاء سبما عند وعد الزيادة لكم { ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } يحسن أحوالكم ويوصلكم إلى مقام القرب بإنزال التوراة عليكم؛ لتكملوا بها أخلاقكم { أ } تنكرون من إنجاز وعده { فطال عليكم العهد } ا لمدة بأن صار أربعين بعدما كان ثلاثين { أم أردتم } بزيادة الإنكار والإصرار { أن يحل } وينزل { عليكم غضب من ربكم فأخلفتم } بسبب ذلك { موعدي } [طه: 86] الذي وعدتكم من متابعتي لأخذ التوراة.
{ قالوا } يا موسى { مآ أخلفنا موعدك بملكنا } بقدرتنا واختيارنا من غير ظهور دليل يشغلنا عن موعدك، بل { ولكنا } كنا على ما وعدتنا، ولا يصدر عنا مخالفتك غير أن { حملنآ أوزارا } وآثاما مستعارا { من زينة القوم } أي : من حلي القبط ولم يمكنا الرد إليهم لاستئصالهم، ولا يمكننا أيضا حملها وحفظها دائما؛ لذلك اضطررنا فحفرنا حفرة { فقذفناها } أي: قذف كل منا منا في يده من الحلي فيها { فكذلك ألقى السامري } [طه: 87] ما في يده من الحلي فيه بعد قذفنا بلا صنع زائد منا.
[20.88-98]
وبعدما قذف الكل حليهم فيها، أدخل السامري يده فيها { فأخرج لهم } منها { عجلا } أي: صورة عجل أوجده الله تعالى من تلك الحلي المقذوفة، ولم يكن من ذوي الحس والحركة بل { جسدا } وهيكلا { له خوار } بصوت صوت البقرة { فقالوا } السامري أصالة والباقي تعبا: { هذآ } الجسد الذي خار خورة { إلهكم } الذين أوجدكم من العدم { وإله موسى } المتردد في بيدان طلبه، أنزله في هذه الحفرة من قبل { فنسي } [طه: 88] منزلة وسعى في طلبه سعيا بليغا، فرقى الطور لهذا الطلب.
{ أ } هم خرجوا عن طور العقل في اعتقاد إلهية الجماد، بل عن الحس أيضا { فلا يرون } ولا يتفكرون في شأن هذا الجماد { ألا يرجع } أي: أنه لا يرد { إليهم قولا } جوابا عن سؤالهم { ولا يملك لهم ضرا } لو لم يؤمنوا به { ولا نفعا } [طه: 89] لو آمنوا به.
{ ولقد قال لهم هارون من قبل } أي: قبل رجوع موسى إليهم نيابة عنه إصلاحا لحالهم، بعدما أفسدوا على أنفسهم ما أمرهم موسى من الأصلاح بحالهم: { يقوم } المائلين عن طريق الحق بسبب هذه الصورة { إنما فتنتم به } أي: ما هذا إلا ابتلاء لهم من ربكم؛ ليختبر سبحانه رسوخكم وتمكنكم على التوحيد، أعرضوا عن الشرك بالهل وتوجهوا إليه { وإن ربكم الرحمن } لكم بإرسال أخي إليكم رسولا وإنجائكم من عدوكم، وأنا نائب عن أخي استخلفني عليكم { فاتبعوني } لتتبعوا الحق، ولا تميلوا إلى الباطل { وأطيعوا أمري } [طه: 90] واقبلا قولي وإرشادي لكم حتى يصلح حالكم.
{ قالوا } لأنك وإن كنت نائبا عن أخيك، لكن لا تعرف الرب ولا تكلمت معه، بل يعرفه ويتكلم معه مومسى { لن نبرح } ونزال { عليه } أي: على الجسد { عاكفين } مقيمين حوله متوجهين له متضرعين عنده { حتى يرجع إلينا موسى } [طه: 91].
ثم لما رجع موسى من مقياته ومناجاته مع ربه إلى قومه، ووجد9م ضالين منحرفين عن مسلك السداد، صار غضبانا عليهم أسفا بضلالهم.
{ قال } من شدة غيظه لأخيه مناديا باسمه على سبيل الاستحقار مع أنه أكبر منه { يهرون ما منعك } أي: أي: شيء منعك عن القتال معهم وقت { إذ رأيتهم ضلوا } [طه: 92] عن طريق الحق وتوحيده، بعبادة العجل.
وما لحقك { ألا تتبعن } في مقاتلة المشركين بعدما أوصيتك به مرارا، وقد أقمتك فيهم لإصلاح حالهم { أ } كفرت وضللت أنت أيضا { فعصيت أمري } [طه: 93] فأخذ من كمال غيظه وغضبه بشرع أخيه ولحيته يجره.
{ قال } له حينئذ هارون قولا يحرك مقتضى الأخوة، وينبه على قبول العذر: { يبنؤم } نسبه إلى الأم استعطافا: احذر عن الغضب وتوجه إلي واسمع عذري { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } ما لم تسمع عذري، لم أترك قتالهم { إني } وإن كنت لا أقدر على قتالهم لكثرتهم { خشيت } مع ذلك إن قاتلت معهم { أن تقول فرقت بين بني إسرآءيل } أي: جعلتهم فرقا متخالفة متقابلة { ولم ترقب } ولم تحفظ { قولي } [طه: 94] لك: اخلفني في قومي، وأصلح بينهم حتى أرجع.
فلما سمع موسى عذره، ندم على فعله، فرجع إلى معاتبة من يضلهم و { قال فما خطبك } أي: أي شيء هو أعظم مقصودك من هذه التفرقة والإضلال { يسامري } [طه: 95] المضل.
{ قال } مقصودي الرئاسة عليهم بشيء يميزني عنهم من الخوارق؛ إذ { بصرت بما } أي: بشيء { لم يبصروا به } أصلا، وذلك أني رأيت جبريل راكبا على فرس الحياة، ما وضع قدمه على شيء إلا حيي { فقبضت قبضة من أثر الرسول } أي: من تراب وطئها حافر فرس الرسول الذي هو جبريل، وكنت أحفظها إلى أن أذابوا حليهم { فنبذتها } فيه، فسرى الحياة منها إلى الصورة المتخذة من الحلي فخار، فأمرتهم باتخاذها إلها { وكذلك سولت } وزينت { لي نفسي } [طه: 96] حتى أكون متبوعا لهم، ومقتدى بينهم.
{ قال } له موسى: { فاذهب } من عندي وتنح عن مرآي { فإن لك } أي: حق وثبت لك { في الحياة } أي: في حين حياتك { أن تقول لا مساس } لك ولا إدراك، يعني: أنك في حال حياتك من مرة الأموات الفاقدين للحواس والإدراك وجميع المشاعر، لاعتقادك بحياة هذا الجماد، وأخذته إليها، وأضللت بسبب هذا جمعا عظيما من الناس { وإن لك } أي: ثبت وتهيأ لك في الآخرة { موعدا } من الجحيم { لن تخلفه } أي: لن تنتقل عنه أصلا؛ إذ لا توبة لك منها حتى تتجاوز عنه، فتعين كذلك فيه أبد الآبدين { و } إذا عرفت حالك في دنياك وأخراك { انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه } وعلى عبادته { عاكفا } مقيما عازما { لنحرقنه } بالنار، وإن كان إلها، لم ترحقه النار، ثم بعد الإحراق وبعد صيرورته رمادا { ثم لننسفنه } وننشرنه { في اليم } أي: في البحر { نسفا } [طه: 97] نشرا؛ بحيث لم يبق من أجزائه في البر شيء.
فأحرقها ونسفها وتوجه إلى بني إسرائيل، فقال: { إنمآ إلهكم الله } المستجمع جميع أوصاف الكمال هو { الذي لا إله } أي: لا موجود { إلا هو } وما سواه عدم، ولو تعقل فلا يخرج عن حضرة علمه شيء؛ لأنه { وسع كل شيء } في الذهن والخارج { علما } [طه: 98].
[20.99-114]
{ كذلك } أي: مثلما أوحينا إلى موسى لأهداء قومه وإهلاك عدوه، وأوحينا إليك يا أكمل الرسل قصص السابقين؛ ليعتبر من هلاك عدوهم من عاداك، ويفرح من إهداء صديقهم من صدقك وآمن بك؛ إذ { نقص عليك } قصصهم مع كونك خالي الذهن { من أنبآء ما قد سبق } بمدة مديدة { وقد آتيناك } امتنانا لك { من لدنا } بلا واسطة معلم ومرشد { ذكرا } [طه: 99] كلاما جامعا يذكرك جميع ما في الكتب السالفة من الحقائق والأحكام والقصص على الوجه الأثم الأبلغ.
{ من أعرض عنه } أي: عن القرآن بعد نزوله، وتشبث بغيره من الكتب المنسوخة { فإنه يحمل يوم القيامة وزرا } [طه: 100] أي: إثما ثقيلا لأخذه بالمنسوخ وترك الناسخ.
بحيث يكون { خالدين فيه } فيها؛ أي: فيما يترتب عليه في ويم الجزاء من العذاب الأيدي { وسآء لهم } أي: لحامليهم { يوم القيامة } المخففة للحمل لأرباب العناية { حملا } [طه: 101] ثقيلا بوقعهم إلى النار.
{ يوم ينفخ في الصور } لأخراج ما بالقوة إلى الفعل { ونحشر المجرمين } المشركين { يومئذ زرقا } [طه: 102] زرق العيون سود الوجوه، وهما كنايتان عن الحسد والنفاق اللذين هم عليهما في دار الدنيا.
وإذا ظهر لهم قبائحهم الكامنة فيهم في الدنيا { يتخافتون بينهم } أي: يتكلمون خيفة فيما بينهم هكذا، هذه القبائح التي ظهرت علينا من أوصافنا التي كنا عليها في دار الدنيا زمانا قليلا، فبعضهم يقول للبعض: { إن لبثتم } أي: ما مكثتم في الدنيا { إلا عشرا } [طه: 103] من الليالي، وبعضهم يقلل من ذلك، وبعضهم يقلل منه أيضا، وهم يخفون أحوالهم لئلا يطلع عليها أحد.
وكيف يخفون عنا؛ إذ { نحن أعلم } بمقتضى حضرة علمنا { ب } جميع { ما يقولون } من الأقوال المتعارضة، ولا تذكر إلا ما هو أقرب للصواب { إذ يقول أمثلهم طريقة } أي: أميلهم وأقربهم إلى الصواب { إن لبثتم إلا يوما } [طه: 104] واستصغارهم مدة الدنيا، إنما هو من طول يوم الجزاء.
{ ويسألونك عن الجبالا } في ذلك اليوم أهي على قرارها وقوامها حتى يؤوى إليها أملا لا؟ { فقل ينسفها ربي نسف } [طه: 105] أي: يسحقها سحقا كليا كأنه خرج عن المناخل الدقيقة، { فيذرها } أي: يترك الأرض بعد نسف الحبال { قاعا } سطحا مستويا { صفصفا } [طه: 106] ملساء.
بحيث: { لا ترى } أيها الرائي { فيها عوجا ولا أمتا } [طه: 107] نتوا وربوة لاستوائه.
{ يومئذ } أي: وقت نفخ الصور لاجتماع الناس إلى المحشر { يتبعون الداعي } الذي هو إسرافيل؛ أي: يجتمعون عنده كل واحد منهم بطريق { لا عوج له } لاستواء الأرض، وعدم المانع من العقباب والأغوار { و } في ذلك اليوم { خشعت الأصوات } أي: خفضت وخفيت أصواتهم وقت الدعاء { للرحمن } من شدة أهوال ذلك اليوم؛ بحيث إذا أصغيت إلى سماع أقوالهم { فلا تسمع إلا همسا } [طه: 108] ذكرا خفيا.
{ يومئذ لا تنفع الشفاعة } أي: شفاعة كل أحد من الناجين كل واحد من العاصين { إلا من أذن له الرحمن } بالشفاعة لبعض العصاة من أرباب العناية في ذلك اليوم { و } مع إذنه سبحانه له { رضي له قولا } [طه: 109] أي: تعلق رضاه سبحانه الشفعي وقت الشفاعة.
وإنما أذن ورضي سبحانه بالشفاعة للبعض؛ لأنه سبحانه { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } أي: يحيط علمه بجميع أحوالهم من العصيان الطاعة ، وبأن أي: عصيان يزول بالشفاعة، وأي: عاص يستحقها { ولا يحيطون به علما } [طه: 110] بدقائق معلومات وأفعاله وآثاره.
{ و } في ذلك اليوم { عنت الوجوه } أي: هلكت وجوه الأشياء؛ أي: ظهورها وبقي الوجه الذي هو { للحي القيوم } المنزه عن الظهور والبطون، المقدس عن الحركة والسكون { وقد خاب } وخسر خسرانا مبينا في ذلك اليوم { من حمل ظلما } [طه: 111] شركا بالله الواحد القهار.
{ ومن يعمل من الصالحات } في الدنيا { وهو مؤمن } موقن بوحدانية الله { فلا يخاف } في ذلك اليوم { ظلما } بأن يحبط أعماله الصالحة بالكلية، ولم يجز بها { ولا هضما } [طه: 112] بأن ينقص من جزاء عمله الصالح.
{ وكذلك } أي: مثل إحاطة علمنا بجميع الأشياء { أنزلناه } أي: هذا الكتاب المحيط بجميع ما في العالم؛ إذ لا رطب ولا يابس إلا فيه { قرآنا عربيا } أي: كلاما عربي الأسلوب { وصرفنا فيه من الوعيد } أي: كثر تصرفنا فيه من الإنذارات والتخويفات { لعلهم يتقون } رجاء أن يتوجهوا إلى توحيدنا ويجتنبوا عن شركنا { أو يحدث } ويجدد وعيد القرآن { لهم ذكرا } [طه: 113] من أحوال الماضين، وعقاب الله عليهم من الغرق والمسخ والكسف والخسف لعلهم يتذكرون.
وإن قالوا على سبيل المكابرة عتوا وعنادا: لربك حاجة إلى إيماننا وتقوانا، وإلا لم يرجوا إيماننا؟ قل لهم يا أكمل الرسل: { فتعلى الله } أي: تنزه وتقدس { الملك } المستولي المطلق { الحق } الثابت الدائم أزلا وأبدا عما يقول الظالمون المشركون من إثبات الاحتياج له بمجرد الرخاء العائد نفعه إياهم أيضا.
{ و } إذا كان ظنهم هذا { لا تعجل } يا أكمل الرسل { بالقرءان } أي: بأدائه وتبليغه لهم وقراءته عليهم { من قبل أن يقضى إليك وحيه } أي: من قبل أن يفرغ جبرائيل عليه السلام من وحيه وتبليغه، بل أصبر حتى يفرغ من الوحي، ثم تأمل في مرمزاته وإشاراته الخفية بدقر استعدادك { و } بعد التأمل والتدبر { قل رب زدني علما } [طه: 114] بما فيه من نفائس المعلومات وعجائب المعارف والحقائق.
[20.115-125]
ثم بعد ذلك اقرأ عليهم، وبههم بما فيه من قدر عقولهم { و } لا تنسى نيهنا عن الاستعجال بأداء القرآن قبل تمام الوحي مثل نيسان أبيك آدم عليه السلام عهده معنا، فإنا { لقد عهدنآ إلى } أبيك { ءادم من قبل } بقولنا نهيا له ولامرأته:
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين
[البقرة: 35] { فنسي } عهدنا هذا لتغرير الشيطان له { ولم نجد له عزما } [طه: 115] رأيا صائبا في حفظ العهد حتى يوطن نفسه على مقتضى النهي.
{ و } اذكر لنقض عهده وقصور رأيه وقت { إذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } أي: تذللوا له تكريما وتعظيما؛ لأنه أفضل منكم وأجمع لتجليات أوصافنا { فسجدوا } ووقعوا متذللين له على الأرض تكريما له، وامتثالا لأمر ربهم { إلا إبليس } من بينهم { أبى } [طه: 116] وامتنع عن سجوده لاستكباره وعتوه.
وإذ استكبر إبليس عن تعظيمه نبهنا عليه عداوته { فقلنا } له: { يآءادم } المكرم بسجود الملائكة { إن هذا } المشار إليه بالإشارة القريبة الممتنع عن سجودك وتعظيمك { عدو لك ولزوجك } يريد إفسادكما فاحذروا عن مصاحبته وتغريره، ولا تتكلما معه { فلا يخرجنكما من الجنة } إلى دار الابتلاء { فتشقى } [طه: 117] أنت يا آدم على الخصوص، أي: تتعب وتعيى بسبب كسب المعيشة؛ لأن معيشتك حينئذ من كد يمينك.
ولا تعب لك في الجنة، بل { إن لك } أي: حق وثبت لك أيضا { ألا تجوع فيها ولا تعرى } [طه: 118] أي: في الجنة لسعة طعام الجنة وثيابها.
{ وأنك لا تظمأ فيها } لأن العطش إنما هو من فرط الحرارة ولا حرارة فيها { و } كيف يكون فيها حرارة؛ إذ أهلها له { لا تضحى } [طه: 119] ولا يبرز منه الظل إلى الشمس من جهة البرودة؛ لأن أهلها لا يؤذون بالحرارة والبرودة.
فلما عاش فيها زمانا مستريحا بلا تعب ولا عناء أظهر إبليس عداوته، وأخذ يوسوس له ولزوجته ليخرجهما منها؛ لأ،هما ما داما في الجنة، لم يقدر على إضلالهما { فوسوس إليه الشيطان } أي: ألقى وسوسته في نفسه و { قال يآدم } على وجه النصيحة: هنيئا لك عيشك في الجنة بلا تعب ومحنة { هل أدلك على شجرة الخلد } إن أكلت منها يخلدك أبدا فيها { و } أهديك على { ملك لا يبلى } [طه: 120] أي: لا يخلق ولا يعتق، بل يتجدد دائما بتجدد الأمثال ، بلا انتقال وزوال.
وإذ وسوس إليهما سمعا قوله وقيلا وسوسته فنسيا عهد ربهما { فأكلا منها } حتى شيعا وأراد أن يتبرزا ويتغوطا، ثم لما اتكبا المنهي، وظهر منهما ما هو مناف لطهارة الجنة ونظافتها، أمر سبحانه بإخراجهما منها، فنزع أولا عنهما لباسهما؛ أي: لباس الطهارة والنجاة الفطرية والتقوى الجبلية { فبدت } ظهرت بعد نزع اللباس { لهما سوءاتهما } عوراتهما، فاضطروا على التستر والتغطي { وطفقا } أي: شرعا { يخصفان } ويلزقان { عليهما } أي: على عورتهما { من ورق الجنة } أي: من أوراق بعض أشجارها، قيل: هي ورق التين.
{ و } إذا كان حالهما كذلك قالت الملائكة: { عصى ءادم } المكرم المسجود له { ربه } الذي رباه بتناول ما يصلحه منها عن تناول ما يضره، بأن أعرض عن النهي، وبادر إلى ارتكاب المنهي بغرور الشيطان المغوي المضل { فغوى } [طه: 121] بإغوائه، وضل عن مراده الأصلي بتغرير العدو؛ لأن العدو إنما يلقى عدوه عكس مطلوبه.
{ ثم اجتباه ربه } بعدما ألهمه الإنابة والرجوع إليه، فاعترف بذنبه، ورجع إلى ربه تائبا بقوله:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23] { فتاب عليه } أي: قبل سبحانه توبته { وهدى } [طه: 122] أي: هداه إلى مقصده الأصلي، وقبلته الحقيقية، إلا أنه سبحانه لا يبطل حكمة حكمة السابق المترتب على النهي، وهو قوله تعالى:
فتكونا من الظلمين
[البقرة: 35] الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية.
لذلك { قال اهبطا منها } أي: انزلا من الجنة التي هي دار الأمن والسرور إلى الدنيا التي هي دار التفرقة والغرور { جميعا } أصلا وفرعا، صديقا وعدوا، وبعد هبوطكم إليها { بعضكم } يا بني آدم { لبعض عدو } في أمور معاشكم، والشيطان عدو لكم في أمور معادكم، فتبقى هذه العداوة بينكم ما دمتم فيها، ومع أمرنا لكم بالهبوط والخروج منها إليها، لا نترككم هناك ضالين محرومين مطرودين { فإما يأتينكم مني هدى } بواسطة الرسل والكتب المنزلة عليهم فاتبعوا هداي { فمن اتبع هداي } عزيمة وقصدا صحيحا { فلا يضل } في النشأة ا لأولى لاتصافه بصفاتنا { ولا يشقى } [طه: 123] في النشأة الأخرى لفنائه فينا وبقائه ببقائنا.
{ ومن أعرض عن ذكري } أي: كتابي الجاري على ألسنة رسلي الهادين عن الضلال { فإن له } أي: ثبت له وحق ما دام دار الدنيا { معيشة ضنكا } ضيقا يضيق قلبه؛ بحيث لا يسع فيه غير التفكر في أمر المعاش { و } إذا انتقل منها { نحشره يوم القيامة } الكبرى { أعمى } [طه: 124] أي: يصور إعراضه عن الحق في الدنيا على صورة العمى في الآخرة.
حيث { قال } تحسرا وتحزنا: { رب لم حشرتني أعمى } في الآخرة { وقد كنت بصيرا } [طه: 125] في الدنيا.
[20.126-135]
{ قال } سبحانه توبيخا عليه وتقريعا: { كذلك } أي: مثل ذلك فعلت بنا حين { أتتك } بلسان الأنبياء { آياتنا } لهدايتك وإصلاح حالك { فنسيتها } ونبذتها وراء ظهرك فكانت نسبتك إليها كنسبة الأعمى إلى الأشياء المحسوسة { وكذلك } أي: كالمنبوذ وراء الظهر { اليوم تنسى } [طه: 126] أنت في جهنم العبد والحرمان.
{ وكذلك } أي: مثل نسيان من أعرض في العذاب { نجزي } ونترك منسيا في جهنم { من أسرف } وأفرط في الإعراض عن الله ورسله بمتابعة العقل واعتباراته ومضى عليها زمانا { ولم يؤمن } أي: لم يذعن ولم يوقن { بآيات ربه } النازلة على أنبيائه ورسله، ولم ينتبه لمرموزاتها ومكنوناتها { و } الله وإن احتمل الشدائد، وارتكب المتاعب في تحصيل تلك الاعتبارات { لعذاب الآخرة } في شأنه لاشتغاله بغير الله وإعراضه عن آياته { أشد } من شدائد ذلك التحصيل { وأبقى } [طه: 127] وأدوم وباله من النخوة المترتبة عليها.
{ أ } ينكر القريشي بآياتنا ويصر على إنكارها، ولم يذكر عذابنا لمنكري آياتنا { فلم يهد لهم } ولم يرشدهم لم يذكرهم إهلاكنا الأمم السالفة بسبب إنكار الآيات وتكذيب الرسل؛ إذ { كم أهلكنا قبلهم من القرون } أي: أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية حين { يمشون في مساكنهم } أمثالهم أصحاء سالمين فجاءهم بأسنا بياتا أ, نهارا، فجعلناهم هالكين فانين، كأن لم يكونوا موجودين أصلا لإعراضهم عنا وتكذيبهم آياتنا ورسلنا { إن في ذلك } الإهلاك { لآيات } دلائل ظاهرة على قدرتنا على الانتقام على المعرضين المكذبين لكتبنا ورسلنا، لكن لا تحصل تلك الدلائل إلا { لأولي النهى } [طه: 128] أصحاب العقول المنتهية مقتضى عقولهم إلى الشهود.
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } يا أكمل الرسل في حق أمتك بدعائك لهم، وهو ارتفاع العذاب عنهم في دار الدنيا من المسخ والكسف، وغير ذلك من أهلكنا به الأمم الماضية { لكان } عذاب المنافقين اليوم { لزاما } أي: لزاما حتما لازما مبرما لظهر أسبابه منهم { و } لكن قدر له { أجل مسمى } [طه: 129] وهو يوم الجزاء.
{ فاصبر } يا أكمل الرسل { على ما يقولون } إلى حلول الأجل المسمى، ولا يضيق صدرك من قولهم: إنك لا تقدر على إتيان العذاب بمقتضى دعواك، لذلك تخوفنا بالقيامة الموهومة، فلو كنت رسولا مثل سائر الرسل لفعلت بنا ما فعلوا بأممهم { و } إذا سمعت أقوالهم الخشنة أعرض عنهم، ولا تلتفت إليهم، ولا تشغل إلى المعارضة معهم.
بل { سبح } ونزه ربك عما يقولون من إنكار يوم الجزاء تسبيحا مقرونا { بحمد ربك } شكرا لنعمائه وآلائه الواصلة إليك، وداوم عليه { قبل طلوع الشمس } بعد انتباهك من منام غفلتك، وقبل اشتغالك في أمور معاشك { وقبل غروبها } بعد فراغك عن كسب المعاش، وقبل استراحك بالمنام { ومن آنآء الليل } المعد للاستراحة إن أيقظت فيها { فسبح و } سبح أيضا { أطراف النهار } إذا فرغت عن الاشتغال { لعلك ترضى } [طه: 130] عن الله في جميع الأوقات، ويرضى الله فيها.
{ و } عليك الاعتزال من أبناء الدنيا وعدم الالتفات إلى لذاتهم بمتاعها ومزخرفاتها؛ بحيث { لا تمدن عينيك } حال كونك متحسرا متمنيا مثله { إلى ما متعنا به } المنافقين المشركين { أزواجا } أصنافا من كل شيء؛ لأن من أعطينا { منهم زهرة الحياة الدنيا } أي: زينتها وزخرفتها { لنفتنهم فيه } نجربهم، ونخبترهم كيف يعيشون بوجودها في الدنيا، هل يتكبرون ويفتخرون بسببها على الفقراء ويمشون على وجه الأرض خيلاء أم لا؟.
{ و } إذا نبهناك عن متاع الدنيا استرزق منا عما في خزائننا من المكاشفات والمشاهدات بدل تلك اللذات الفانية؛ إذ { رزق ربك } الذي رزقك بها؛ ليكون لك الكشف والشهود والتمكن في المقام المحمود { خير } لك من مزخرفات الدنيا ومموهاتها لأنها فانية زائلة لا ثبات لها { و } هو { أبقى } [طه: 131] لك لبقائه مع استعدادك إلى ما شاء اللهز
{ و } إذ رزقت ما رزقت تفضلا من ربك، فعليك أن تأمر من يلازمك ويؤانسك من أهل الطلب بالميل إلى ما رزقك الله؛ ليكون لهم نصيب مما تفضل الله به عليك من الرزق المعنوي لذلك أمرناك بقولنا: { أمر أهلك بالصلاة } الشاغلة جميع قوامهم عن التوجه إلى غيرنا؛ ليكون منبها عليهم على ما في استعدادهم { واصطبر عليها } أي: تحمل على متاعب تبليغها، ولا تقصر خوفا من انتقاص رزقك؛ لأنا { لا نسألك } أي: لا نسأل منهم { رزقا } وجعلا لأجلك منهم حتى يشق عليهم، بل { نحن نرزقك } وإياهم من مقام جودنا ونوال إفضالنا من غير أن ينقص من خزائننا شيء.
ونبههم أيضا على العواقب الحميدة المترتبة على الصلاة، وجنبهم عن شواغلها { و } قل لهم: { العاقبة } الحميدة { للتقوى } [طه: 132] أي: المتصفين بالتقوى؛ أي: الراضين عن الله بما يرضى لهم ويأمرهم، المجتنبين عما لا يرضى منه سبحانه.
ولما سمعوا كشفك وشهودك ورزقك الأوفى من عند ربك، وإرشادك على من آمن بك، أصروا على الإنكار { وقالوا لولا يأتينا } هذا المدعي للكشف والشهود { بآية من ربه } مقترحة لم نصدق ولم نقر برسالته، قل لهم يا أكمل الرسل: { أ } ينكرون إتيان الآيات المقترحة على الأمم الماضية { ولم تأتهم } في هذا الكتاب المعجز المذكر لهم { بينة ما في الصحف الأولى } [طه: 133] من إتيان الآيات المقترحة على الأنبياء الماضين، ومع ذلك لم يؤمنوا بهم أممهم، بل كانوا يكذبونهم ويصرون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال، فهؤلاء أيضا أمثالهم.
{ و } قل لهم يا أكمل الرسل أيضا قولنا هذا { لو أنآ أهلكناهم بعذاب } نازل من عندنا لإصرارهم وعنادهم { من قبله } أي: من قبل إرسالك إليهم { لقالوا } حين نزول العذاب مثلما قالت تلك الأمم الهالكة عند نزوله: { ربنا لولا } هلا { أرسلت إلينا رسولا } من عندك { فنتبع آياتك } الالة على توحيدك { من قبل أن نذل } بهذا الإذلال { ونخزى } [طه: 134] بهذا الخزي والوبال.
وإن عاندوا معك بعد سماع هذه الدلائل الواضحة والتنبيهات اللائحة، أعرض عن مكالمتهم ومناصحتهم، و { قل } لهم كلاما يشعر باليأس عن إيمانهم وإصلاحهم { كل } منا ومكنم { متربص } منتظر لهلاك الآخر بسبب الشقاوة الإعراض عن الحق { فتربصوا } أو انتظروا أنتم لهلاكنا بشقائنا ، فإنا منتظرون أيضا بهلاككم بالشرك والطغيا، وإذا كشف الغطاء، وظهر يوم الحشر والجزاء { فستعلمون من أصحاب الصراط السوي } المستقيم المتمكن الغير المعوج المتلون، أنحن أم أنتم { ومن اهتدى } [طه: 135] منا من تيه الضلال إلى فضاء الوصال؟!.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي الطالب لسلوك طريق الحق بالاستقامة التامة، والتشبث عليه بلا اعوجاج وتزلزل؛ لتهتهدي بسلوكه إلى زلال الوحدة الذاتية التي هي ينبوع بحر الوجود ومنشأ جميع الموجود أن تقتفي أثر نبيك صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأعماله، وتتخلق بأخلاقه، وتتصف بأوصافه حسبما أمكنك وقدر ما يسر لك.
ولا تهمل دقيقة من دقائق الشرع الشريف بل بك أن تتبع به صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به من قبل ربه، وأنشأه من عند نفسه بلا تفحص وتفتيش عن سرائره، حتى ينكشف لك بعد الوصول إلى مرتبتك التي كلفك الحق إليها وجبلك لأجلها، فحينئذ ظهر لك جميع ما أوصاك به نبيك صلى الله عليه وسلم ورمز إليه، وصرت من أهل المعرفة والإيقان إن شاء ربك، ووفقك عليه.
وفقنا يا رب بفضلك وجودك إلى معارج عنايتك ومقر توحيدك يا ذا الجود العظيم.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1-6]
{ اقترب } أي: دنا وقرب { للناس } الناسين عهود ربهم التي عهدوا بها معه سبحانه وقت ظهور فطرتهم الأصلية من حمل أمانة المعارف، والحقائق وقبول أعباء الإيمان، والتوحيد، ومشاق الأعمال، والتكاليف المقربة لهم إليه { حسابهم } أي: قرب وقت حسابهم، وانتقاد أفعالهم وأعمالهم الصالحة المقبولة عند ربهم من الفاسدة المردودة دونه { وهم } مغمورون مستغرقون { في غفلة معرضون } [الأنبياء: 1] عن ربهم، وعن حسابه أياهم، بل أكثرهم معرضون عنه بحيث لا يلتفتون نحوه أصلا، بل ينكرون وجوده فكيف حسابه وعذابه؟.
لذلك { ما يأتيهم } وينزل عليهم { من ذكر } وعظة تنبههم عن سنة الغفلة، وتوقظهم عن رقدة النسيان صادر { من ربهم } بوحي { محدث } مجدد وحسب تجددات البواعث والدواعي الموجبة للإنزال على مقتضى الأزمان والأعصار { إلا استمعوه } أي: الذكر المحدث { وهم } حينئذ من غاية عمههم وسكرتهم { يلعبون } [الأنبياء: 2] به ويستهزئون مع من أنزل إليه .
{ لاهية } معه ذاهلة { قلوبهم } عن التأمل فيه، والتفكر في معناه والتدرب في رموزه وإشاراته { و } هم وإن أغفلوا نفوسهم وقلوبهم عنه لفط عتوهم واستكبارهم، لكن تفطنوا بحقيته من كمال إعجازه ومتانته، لكونهم من أرباب البلاغة والفصاحة والذكاء والفطانة، لكنهم { أسروا النجوى } أي: بالغوا في إخفاء ما يتناجوا به في نفوسهم من حقية القرآن وإعجازه؛ إذ هم { الذين ظلموا } أنفسهم بارتكاب الكفر، والمعاصي، وأنواع الضلال عنادا ومكابرة، وقصدوا أيضا إضلال ضعفاء الأنام حيث قالوا لهم على سبيل الإنكار: { هل هذآ } أي: ما هذا الشخص الحقير الذي ادعى الرسالة والنبوة والوحي والإنزال من جانب السماء { إلا بشر مثلكم } وهو من بني نوعكم لا ميزة له عليكم، والرسول المرسل من جانب السماء لا يكون إلا ملكا { أ } تميلون نحوه وتزعمونه صادقا بواسطة خوارق صدرت عنه على سبيل السحر والشعبذة مدعيا أنه معجز مع أنه ليس كذلك { فتأتون } وتحضرون { السحر وأنتم تبصرون } [الأنبياء: 3] آلاته وأدواته وتعلمون عيانا أنه سحر مفترى، هل تصدقونه أم لا؟ وهذا تسجيل وتنصيص منهم على كذب الرسول، وإغراء وتضليل على ضعفاء الأنام، وحث لهم على تكذيبه وإنكاره ما أتى به.
{ قال } يا أكمل الرسل في جوانبهم، والرد عليهم: { ربي } الذي رباني بأنواع الكرامات والمعجزات { يعلم القول } أي: جنس الأقوال والأفعال والأحوال الكائنة { في السمآء } أي: عالم الأرواح { والأرض } أي: عالم الطبيعة والأشباح { و } كيف لا يعلم ويعزب عن علمه شيء؛ إذ { هو السميع } المقصور على السمع بحيث لا يسمع سواه { العليم } [الأنبياء: 4] المستقل بالعلم لا عالم إلا هو.
ثم أعرضوا وانصرفوا عن قولهم بسحرية القرآن؛ لاشتمال على البلاغة والمتانة وأنواع الخواص، والمزايا الممدوحة عندهم إلى ما هو الأدنى والأنزل منه، { بل قالوا } ما هو إلا { أضغاث أحلام } أي: من تخليطات القوة المتخيلة وتمويهاتها التي رآها في المنام، ثم سطرها، وسماه كلاما نازلا من السماء موحى إليه من عند الله { بل افتراه } واختلقه واخترعه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الوحي ترويجا له بلا رؤيته في المنام { بل هو شاعر } فصيح تكلم بكلام كاذب مخيل نظمه على وجه يعدب الأسماع، وبالجملة ما هو نبي ولا كلامه الذي أتى به وحي نازل من الله كما ادعاه مثل كلام سائر الرسل، وإلا { فليأتنا بآية } مقترحة أو غيرها تلجئنا إلى تصديقه والإيمان به { كمآ أرسل الأولون } [الأنبياء: 5] أي: مثلما أرسل بها الأنبياء الماضون: كالعصا، واليد، البيضاء وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات الواقعة من الرسل الما ضين.
ثم لما تقاولوا بما تقاولوا، واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا أن ينزل عليه مثلما أنزل على أولئك الرسل نزلت: { مآ آمنت قبلهم } رسلنا الذين جاءوا بالآيات المقترحة { من قرية } أي: أهلها من القرى التي أرسلوا إليهم لذلك { أهلكناهآ } واستأصلناها، ولو تأتي أنت أيضا بمقترحاتهم، لما آمنوا لك مثلما لم يؤمنوا لهم { أ } تزعم يا أكمل الرسل أنهم لو أتيت لهم ما اقترحوا { فهم يؤمنون } [الأنبياء: 6] بك، كلا وحاشا، إنهم من شدة شكيمتهم وغلظ حجابهم وقسوتهم لا يؤمنون بك أصلا، وغاية الأمر أنه لو أتيت إياهم بمقترحهم لهم يقبلوا منك ألبتة، ولم يؤمنوا لك فاستحقوا الأهلاك والاستئصال حينئذ، وقد مضى أمرنا ونفذ حكمنا على ألا نستأصل قومك في النشأة الاولى، لذلك لم ننزل عليك ما اقترحوا منك.
[21.7-11]
{ و } إن أنكروا رسالتك يا أكمل الرسل معللين بأنك بشر مثلهم، والبشر لا يكون رسولا، قل لهم نيابة عنا: { مآ أرسلنا قبلك } رسولا على أمة من الأمم الماضية { إلا } أرسلنا { رجالا } منهم لا نساء، كاملا في الرجولية والعقل، بالغا نهاية الرشد والتكميل { نوحي إليهم } مثلما أوحينا إليك؛ ليرشدوا الناس إلى توحيدنا، ويوقظوهم من منام الغفلة، ويهدوهم إلى الصلاح، والفوز بالفلاح، وإن أنكروا هذا قل لهم: { فاسئلوا أ } أيها المنكرون { هل الذكر } أي: العلم والخبرة من أحبارهم وقسيسكم من المشتغلين لحفظ التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية { إن كنتم لا تعلمون } [الأنبياء: 7] أيها الجاهلون المكابرون.
{ و } إن أنكروا رسالتك معللين بأنك تأكل وتشرب مثلهم، والرسول لا بد ألا يأكل ولا يشرب مثل سائر الناس، قل لهم أيضا نيابة عنا: { ما جعلناهم } أي: الرسل الماضين { جسدا } أي: أجراما وأصناما { لا يأكلون الطعام } بدل ما يتخلل من أجزائهمن ولا يشربون الشراب المحلل لغذائهم؛ إذ هم أجسام ممكنة محدثة، محتاجة إلى التغذي، قابلة للنمو والذبول، مشرفة إلى الفناء والانهدام مثل أجسام سائر الأنام { وما كانوا خالدين } [الأنبياء: 8] دائمين مستمرين بلا ورود موت عليهم، وتحليل لتركيبهم، بل هم هلكى في قبضة قدرتنا وجنب وجودنا وحياتنا.
{ ثم } بعدما كذبهم المنكرون { صدقناهم الوعد } وأوفينا لهم الوعود المعهودة الذي وعدناهم من إهلاك عدوهم وإنجائهم من بينهم سالمين { فأنجيناهم } على الوجه الذي عهدنا معهم { ومن نشآء } من أتباعهم الذين سبقت رحمتنا عليهم في حضرة علمنا { وأهلكنا المسرفين } [الأنبياء: 9] المصرين على البغي والعناد، المنهمكين في الجور والفساد.
ثم قال سبحانه: { لقد أنزلنآ إليكم } يا معشر قريش { كتابا } جامعا لما في الكتب السالفة مع أنه ذكر { فيه ذكركم } وشرفكم، ونجابة عرقكم، وطينتكم، وكمال دينكم، ونبيكم، وظهوره على الأديان { أفلا تعقلون } [الأنبياء: 10] كلها، وتستعملون عقولكم بما فيه فتدركون مزية كتابكم، ورسولكم على سائر الكتب والرسل، ويشرف دينكم على سائر الأديان.
ولا تبالوا أيها المترفون بترفهكم وتنعمكم، ولا تعتروا بإمهالنا إياكم، ولا تؤمنوا عن فكرنا وإنزال عذابنا ونكالنا.
{ و } اعلموا أنا { كم قصمنا } أي: قهرنا كثيرا { من } أهل { قرية } وكسرنا ظهورهم، وبعدناهم عن أماكنهم التي يترفهون فيها؛ لأنها { كانت ظالمة } خارجة عن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة منا على رسلنا أمثالكم، وبعدما أخرجناها وأهلكناها { وأنشأنا بعدها } وبدلنا أهلها { قوما آخرين } [الأنبياء: 11] منقادين لحكمنا مطيعين لأمرنا.
[21.12-18]
{ فلمآ أحسوا } وأدركوا { بأسنآ } بعد تعلق أرادتنا بانتقامهم، ورأوا مقدمات عذابنا وبطشنا { إذا هم } مع شدة شكيمتهم ووفور قوتهم وقدرتهم { منها } أي: من قرارهم { يركضون } [الأنبياء: 12] ويهربون سريعا ركض الخيل من الأسد.
ثم قيل لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: { لا تركضوا } أيها المترفهون المتنعمون، إلى أين تمشون عن منتزهاتكم { وارجعوا إلى مآ } أي: إلى أوطانكم وقراكم التي { أترفتم } ومتعتم { فيه و } اسكنوا في { مساكنكم } التي كنتم فيها طول دهركم، لم تتركونها وتخرجون عنها؟ { لعلكم تسألون } [الأنبياء : 13] عن سبب الخروج والجلاء منها.
ثم لما ضاق عليهم أنواع العذاب ولحقت بهم وأدركتهم، ولم ينفعهم الفرار والتحرز { قالوا } متأسفين متحسرين: { يويلنآ } وهلاكنا تعالى { إنا كنا ظالمين } [الأنبياء: 14] متجاوزين مخرجين عن مقتضى العدل الإلهي؛ لذلك لحقنا ما لحقنا.
{ فما زالت تلك } تلك الكلمة المذكورة؛ يعني: يا ويلنا إنا كنا ظالمين { دعواهم } أي: دعاؤهم، ونداؤهم جارية على ألسنتهم على وجه الخضوع والخشوع والتذلل التام والانكسار المفرط؛ لأنهم قصدوا بها النجاة والخلاص، إذ هم اعترفوا بذنوبهم في ضمنها، وندموا عن فعلهم بتكرارها، ومع ذلك لم ينفعهم؛ لمضي وقت التوبة والندامة { حتى جعلناهم حصيدا خامدين } [الأنبياء: 15] أي: صارت أجسامهم مثل: المحصود الخامد من النبات، كأنه ماشم رائحة من الحياة في وقت من الأوقات.
{ و } كيف لا نأخذهم بظلمهم ولا نجعلهم محصودا خامدا جامدا؛ إذ { ما خلقنا السمآء } المزينة بزينة الكواكب، كل منها مقدر لأمور لا يعرف تعديده وإحصاءه غيرنا { والأرض } المزينة بزينة المعادن والنبات، والحيوان، والأشجار، والأنهار، وأنواع الفواكه، والأثمار، كل منها مشتمل على حكم ومصالح لا يسعه إلا حضرة علمنا { وما } يحصل { بينهما } من امتزاج آثارهما وأفعالهما من العجائب والغرائب التي تدهش منها العقول، وتكل في وصفها الألسنة، وتنحسر الصدور { لعبين } [الأنبياء: 16] أي: ما جعلناهما عبئا باطلا بلا سرائر ودعنا فيها، وبدائع أضمرنا في خلقها وظهورها، إذ الحكيم لا يفعل فعلا إلا وقد أودع فيه من المصالح الحكم ما لا يعد ولا يحصى.
فكيف يليق بجنابنا، وينبغي لشأننا أن يتصف أفعالنا المتقنة وآثارنا المحكمة باللهو واللعب، وتدبيراتنا بالعبث الخالي عن الحكمة والمصلحة؟ مع أنا { لو أردنآ } أي: قدرنا وفرضنا ما استحال علينا { أن نتخذ لهوا } ولعبا باطلا خاليا عن الفائدة، مخلا لكمال عزتنا وحكمتنا وعلو شأننا وعظمتنا { لاتخذناه من لدنآ } أي: من قبلنا، ومن جملة أفعالنا وآثارنا الصادرة وقدرتنا الكاملة وإرادتنا الخالصة، كلا وحاشا { إن كنا فاعلين } [الأنبياء: 17] أي: ما كنا مرتكبين العبث الخالي عن الفائدة سيما مع استكمال كمال قدرتنا ووفور علمنا على أنواع الحكم والمصالح.
{ بل نقذف } أي: بل اللائق المستحسن منا، المناسب بعلو شأننا أن نضمحل ونبطل { بالحق } الذي هو شمس وجودنا، ولمعان آثار فضلنا وجودنا { على الباطل } الذي هو الظل الزائغ الآفل، والعدم والعاطل الزائل { فيدمغه } أي: يمحقه ويسقط عنه اسم الوجود المستعار ويلحقه إلى ما هو عليه من العدم بلا عبرة واعتبار؛ ليظهر عند المعتبرين أن
ما هذه الحياة الدنيآ إلا لهو ولعب
[العنكبوت: 64]
وإن الآخرة هي دار القرار
[غافر: 39]
فاعتبروا يأولي الأبصار
[الحشر: 2]، فكيف لا يمحقه، ولا يلحقه بالعدم { فإذا هو } في نفسه وفي حد ذاته { زاهق } هالك زائل ما شم رائحة الوجود { ولكم الويل } والهلكة أيها الواصفون والجاهلون بقدر الله { مما تصفون } [الأنبياء: 18] ذاته من الأمور التي لا تليق بجنابنا من ارتكاب العبث، وإسناد اللهو واللعب بذاته تعالى، وإشراك هذه الأظلال الهالكة معه في الوجود، تعالىعن ذلك علوا كبيرا.
[21.19-24]
{ و } كيف تشركون أيها المشركون معه أضلاله وعبيده؛ إذ { له } تعالى إيجادا وإبداعا وإظهارا وتصرفا { من في السموت } أي: عالم الأرواح المجردة عن الأبدان { و } من في { الأرض } أي: الأرواح المتعلقة بها { و } كذا { من عنده } من الأرواح التي لا تزول لهم ولا عروج، كلهم متذللون { لا يستكبرون عن عبادته } وإطاعته { ولا يستحسرون } [الأنبياء: 19] ولا يعيون ع إقامتها وإتيانها.
{ يسبحون اليل والنهار } أي: ينزهون الله في جميع أوقاتهم عما لا يليق بجنابه { لا يفترون } [الأنبياء: 20] ولا يظهرون الضعف والعناء، بل أقاموها وواظبوا عليها طائعين متذللين خاشعين خاضعين.
وكيف لا يعبدون الله ولا يسبحونه وهم موحدون مخلصون؟ لا المشركون المعاندون الذين اتخذوا آلهة من السماء كعبدة الكواكب { أم اتخذوا } بل اتخذوا { آلهة من الأرض } هو أفحش من ذلك كعبدة الأوثان والأصنام اتخذوها آلهة وعبدوها كعبادة الله، وادعوا ضمنا أن الهتهم التي نحتوها بأيديهم أو صاغوها من حليهم { هم ينشرون } [الأنبياء: 21] أي: يخرجون الموتى من قبورهم، لأنهم آلهة وعبدوها كعبادة الله، والإله لا بد وأن يقدر على جميع المقدورات والمرادات ومن جملتها النشر، بل من أجلها، فلا بد لهم أن ينشروا فكيف يثبتون أولئك المشركون تعدد الآلهة مع أنه { لو كان فيهمآ } أي: في السماء والأرض { آلهة إلا الله } أي: غير الله الواحد القهار للأغيار مطلقا { لفسدتا } واختل نظامها، ولم يبقا على الهيئة المخصوصة المشاهدة ألبتة، إذ المفهوم من الإلهة هو المستقل في التصرف والآثار بالإرادة والاختيار، فكل من الآلهة المتعددة متصف بجميع أوصاف الألوهية بالاستقلال، فلا يمكن اتفاقهم على أمر من الأمور { فسبحان الله } الواحد الأحد الصمد المستقل في الألوهية والربوبية بلا شريك له في ملكه، بل في الوجود والتحقق { رب العرش } أي: عروش جميع المظاهر المستولي عليها، إذ لا ظهور لها إلا منه { عما يصفون } [الأنبياء: 22] من اتخاذ الولد والشريك والصاحبة والنظير، لتوحيده في الوجود واستقلاله في التصرف.
{ لا يسأل عما يفعل } إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه { وهم } أي: الشركاء الباطلة { يسألون } [الأنبياء: 23] عما صدر عنهم، فكيف تليق لهم الألوهية والشركة معه سبحانه وتعالى شأنه عما يصف الواصفون، وجل جلال قدسه عما نسب إليه الجاحدون والمكابرون.
ومع علو شأنه ووضوح برهانه وظهور وحدة ذاته واستقلاله في ألوهيته وربوبيته، ترددوا فيه، وفي توحيده { أم اتخذوا } أي: بل قد أخذوا { من دونه آلهة } شركاء له سبحانه لا واحدا، بل متعددا وعبدوها كعبادته سبحانه ظلما وزورا وجهلا وعنادا { قل } يا أكمل الرسل إلزاما لهم وتبكيتا: { هاتوا } أيها المشركون المثبتون لله الواحد الأحد الصمد شريكا { برهانكم } على وجود آلهة سواه عقلا أو نقلا إن كنتم من ذوي الألباب وأهل العقد والرشاد، ولا سبيل لكم إلى الدليل العقلي، إذ برهان التمانع قطع عرق الشركة بالمرة، ولا إلى النقل، إذ جميع الكتب الإلهية متطابقة في توحيد الحق، ونفي الشرك عنه سبحانه إذ { هذا } الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة المنزلة علي { ذكر من معي } أي: عظة وتذكير يذكر من معي من المؤمنين من أصحابي { وذكر من قبلي } من أمم الأنبياء الماضيين لو صدقوه وقبلوا ما فيه، لكنهم لا يصدقونه ليهديهم إلى الحق { بل أكثرهم } جاهلون { لا يعلمون الحق } ولا يعرفون الحق الصريح الظاهر في الآفاق بلا سترة وحجاب { فهم } لغلظ حجبهم وكثافة غشاوتهم { معرضون } [الأنبياء: 24] عن الحق منكرون له،
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
[21.25-28]
ثم قال سبحانه كلاما جليا مثبتا للتوحيد خاليا عن سمة التقليد: { ومآ أرسلنا } من مقام جودنا وفضلنا { من قبلك } يا أكمل الرسل من الرسل { من رسول } من الرسل الماضين { إلا نوحي إليه } أولا { أنه لا إله } يعبد بالحق ويستحق للعبادة والإطاعة { إلا أنا } المتفرد برداء العظمة والكبرياء، المنفرد بكمال الجلال، ودوام البقاء { فاعبدون } [الأنبياء: 25] أيها الأظلال الهالكة والعكوس المضمحلة الباطلة، وتذللوا نحوي خاضعين خاشعين، إذ لا مرجع لكم غيري.
وادعا الشركة { وقالوا } مستدلين عليها: نحن نجد في التوراة والإنجيل أنه { اتخذ الرحمن } الملائكة وعزيرا وعيسى { ولدا } والولد شريك لأبيه، إذ هو سره { سبحانه } وتعالى عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة { بل } هم { عباد } لله { مكرمون } [الأنبياء: 26] محبوبون لديه.
لذلك { لا يسبقونه بالقول } أي: لا يبادرون إلى القول قبل قوله سبحانه، ولا يبدلون، ولا يغيرون قوله وحكمه، كما هو دأب العبيد مع المولى { و } كيف يسبقونه بالقول { هم بأمره يعملون } [الأنبياء: 27] جميع ما عملوا من خير وشر والمأمور لا يكون شريكا للآمر.
وكيف لا يعملون بأمره إذ هو { يعلم } بعلمه الحضوري منهم ومن أحوالهم { ما بين أيديهم } أي: ما هو حاضر عندهم، معلوم دونهم من أحوالهم وأفعالهم { وما خلفهم } أي: ما هو غائب عنهم ومجهول لديهم { و } إن خرجوا عن مقتضى أمره سبحانه { لا يشفعون } أي: لا تقبل شفاعتهم لغيرهم، أو لا يشفع لهم عند الله بعدما خرجوا عن مقتضى حكمه { إلا لمن ارتضى } سبحانه، ورضي بشفاعة من يشفع لهم وأذن { و } كيف يشفع عنده سبحانه بغير إذنه ورضاه؟ إذ { هم } أي: الشفعاء { من } كمال { خشيته } سبحانه ومن غاية سطوته وهيبته وقهره { مشفقون } [الأنبياء: 28] خائفون مرعوبون وجلون.
[21.29-35]
{ و } متى كان حال الشفعاء وخشيتهم على هذا المنوال { من يقل منهم إني إله } مستحق للعبادة، مستقل في الألوهية { من دونه } سبحانه { فذلك } أي: بمجرد قولهم هذا، وإن كان غير مطابق لاعتقادهم { نجزيه } ونصليه { جهنم } البعد والحرمان ونيران الخيبة والخسران { كذلك نجزي الظالمين } [الأنبياء: 29] الخارجين عن مقتضى توحيدنا، المسيئين الأدب معنا.
{ أ } ينكرون وحدتنا، ويثبتون لنا شريكا من مصنوعاتنا، وينسبون بنا ولدا ظلما وزورا { ولم ير الذين كفروا } بنا بأمثال هذه الخرافات الباطنة، ولم يعلموا كمال قدرتنا { أن السموت } أي: عالم الأسماء والصفات { والأرض } أي: عالم الطبيعة والعكوس والأظلال قد { كانتا رتقا } أي: كان كل منهما مرتقا متضمنا بلا تعدد وتكثر.
أما الأسماء والصفات فمندمجة مندرجة في الذات بلا هبوط وتنزل وظهور أثر.
وأما الطبيعة العدمية قد كانت ساكنة في زاوية العدم بلا امتداد ظل الوجود عليها، { ففتقناهما } بالتجليات الحبية المنتشئة من الأسماء الذاتية والصفات الكمالية الفعلية، المقتضية للظهور والانجلاء لحكم، ومصالح قد استأثرنا بها، وبالقبول والتأثر من أشعة التجليات { و } إن أردتم أن تنكشف لكم كيفية انتشاء الأشياء الكثيرة من الذات الواحدة المتصفة بالصفات والأسماء المتماثلة والمتقابلة، فانظروا كيف { جعلنا من المآء } الواحد بالذات، والمشتمل على الأوصاف الكثيرة بحسب الآثار الصادرة منه { كل شيء حي } أي: خلقنا، وصيرنا كل شيء له إحساس وتغذية وتنمية وازدياد وانتقاص من الماء؛ إذ هو أقوى أسباب التبدلات والتشكلات، وأقبل إلى قبول التصرفات والامتزاجات { أفلا يؤمنون } [الأنبياء: 30] ويصدقون بهذا، مع أنه من أجلى البديهات، وأظهر المحسوسات.
ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على خلص عباده امتنانا عليهم وتنبيها لهم كي يتفطنوا منها بوحدة ذاته، وكمال قدرته وبسطته فقال: { وجعلنا في الأرض } التي هي الكرة الحقيقية، المائلة بالطبع إلى التدور والانقلاب { رواسي } شامخات مخافة { أن تميد } تتحرك وتضطرب وتضر { بهم وجعلنا فيها } أي: في تلك الرواسي { فجاجا } شقوقا وأدوية لتكون { سبلا } ومسالك متسعة وطرقا واسعة عناية منا إياهم { لعلهم يهتدون } [الأنبياء: 31] من تلك الطرق إلى ما يرومون من الأمكان البعيدة والبلدان النائية، فيتجرون ويتبعون منها مطالبهم ومصالحهم.
{ و } أيضا قد { جعلنا السمآء } المرفوع فوقهم { سقفا محفوظا } لهم فيها أوقات مزارعهم ومتاجرهم، وسائر مصالحهم في البر والبحر، إذ هي من أقوى أسباب معاشهم { وهم عن آياتها } الدالة على وحدة مبدعها وكمال قدرة مخترعها وموجودها { معرضون } [الأنبياء: 32] منصرفون منكرون، لا يتفكرون فيها كي تصلوا إلى زلال توحيدنا، وإلى كمال قدرتنا وأرادتنا.
{ و } كيف لا يتفكرون في خلق السماوات، ولا يتدبرون في الآيات الدالة على وحدة صانعها وبالجملة كيف ينكرون أولئك المنكرون المسرفون وجود موجدها مع أنه سبحانه { هو الذي خلق } وقدر لهم { الليل } سببا ووقتا لاستراحتهم ورقودهم { والنهار } لمعاشهم واكتسابهم { و } جعل { الشمس والقمر } سببين لإنضاج ما يتقوتون ويتفكهون و { كل } من الشمس والقمر وسائر السيارات { في فلك } من الأفلاك السبعة { يسبحون } [الأنبياء: 33] يسيرون ويدورون بسرعة تامة دائما بلا قرار وسكون؛ لتدبير مصالحهم، وإصلاح معايشهم، وهم لا يعلمون، ولا يشكرون.
ثم قال سبحانه: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } يعني: إن النصارى ادعوا خلود عيسى وبقاءه بلا طريان موت عليه دائما كما كان الآن، وكذا خلود جميع من لحق بالملائكة من البشر، رد الله عليهم على أبلغ وجه وآكده حيث قال: ما جعلنا وقدرنا لبشر من بني نوعك يا أكمل الرسل الخلد والبقاء السرمدي، لا من الذين مضوا قبلك، ولا من الذين يأتون بعدك، إذ هم بشر محدث مركب، وكل مركب محدث لا بد أن ينهدم امتزاجه وتنحل أجزاؤه ومزاجه، ولو كان فرد من أفراد المحدث البشر قديما لكنت أنت يا أكمل الرسل ألبتة { أ } تزعم وتردد يا أكمل الرسل { فإن مت } وعدمت عن الدنيا { فهم } الذين ادعى الجاهلون خلودهم { الخالدون } [الأنبياء: 34] المقصرون على الخلود بلا لحوق عدم عليهم، كلا وحاشا لا يكون الأمر كذلك.
بل { كل نفس } ذات أجواء وتركيب خيرة كانت أو شريرة، طويلة مدة عمرها، أو قصيرة، باقية في أهل الأرض، أو ملحقة بالملأ الأعلى { ذآئقة } كأس { الموت } المدركعة مرارتها، والمحتملة أهوال السكرات وأفزاعها، لا ينجو من الموت أحد، وإن علت رتبته وارتفعت مكانته، بل كلكم هلكى في حين ظهوركم ووجودكم المعاد المستعاد { و } إنما { نبلوكم } ونختبركم في وجودكم هذا، ونشأتكم هذه { بالشر } الغير المرتضى عندنا { والخير } المرضي، ليكون ابتلاؤنا إياكم { فتنة } لكم واختبارا منا إياكم لحكمة ومصلحة لنا فيها { و } بعدما اختبرناكم وابتليناكم في النشأة الأولى { إلينا } لا إلى غيرنا؛ إذ لا غير في الوجود { ترجعون } [الأنبياء: 35] في النشأة الأخرى ورجوع الظل إلى ذي الظل، والعكوس إلى الصور، فنجازيكم بها، ونعامل بكم على مقتضى اختبارنا وابتلائنا إياكم في النشأة الأولى.
[21.36-41]
ثم قال سبحانه امتنانا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: { و } اذكر { إذا رآك الذين كفروا } حين اشتغالك بقراءة القرآن أو بتذكير الأصحاب وعظة أولي الألباب، المشمرين نحو الحق أذيال همهم، المستفيدين المسترشدين منك قصارى مقاصدهم هي التوحيد الإلهي { إن يتخذونك } أي: ما يتخذونك حين التفاتهم نحوك { إلا هزوا } أي: محل اسهتزاء وسخرية قائلين حين بعضهم لبعض مستحقرين شأنك: { أهذا } الرجل الحقير الفقير الملحق بالأراذل والضعفاء { الذي يذكر آلهتكم } بالسوء، وينكر على شفعائكم ويسيء الأدب مع غاية حقارتهم وضعفهم، وهم من غاية عمههم وسكرتهم، ونهاية غيهم وغفلتهم { وهم بذكر الرحمن } المنزه عن شوب الشك وريب التردد { هم كافرون } [الأنبياء: 36] منكرون وجوده وتحققه مع كما ظهوره واستحقاقه بالألوهية والربوبية بالأصالة بخلاف معبوداتهم الباطلة الزائغة؛ إذ هم مقهورون تحت قدرته، مجبورون جنب إرادته واختياره، لا قدرة لهم من أنفسهم أصلا، فهم بالاستهزاء أحق، وبالاستهانة والسخرية أحرى وأليق.
ثم لما استعجل المنهمكون في بحر الضلال والإنكار، التائهون في تيه العتو والاستكبار نزول العذاب وقيام الساعة وجميع الوعيدات الواردة فيها على سبيل الاستهزاء والتهكم، رد الله عليهم إنكارهم واستعجالهم بأبلغ وجه فقال: { خلق الإنسان } أي: هذا النوع من الحيوان { من عجل } يعني: من غاية استعجاله ف يالخير والشر كأنه مصنوع منه، قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: إلى متى تستعجلون أيها المسرفون المغرورون { سأوريكم } عن قريب في هذه النشأة { آياتي } أي: بعضها من نقماتي التي هي من مقدمات عذاب الآخرة، قيل هي وقعة بدر، إذ المستعجلون هم قريش، وسيأتي عذاب الساعة، وعذابها بعدما { فلا تستعجلون } [الأنبياء: 37] أيها الضالون المسرفون.
{ و } بعدما سمعوا من الرسول وأصحابه ما سمعا { يقولون متى هذا الوعد } الموعود، والوقت المعهود، عينوا لنا وقت نزول العذاب وقيام الساعة { إن كنتم صادقين } [الأنبياء: 38] في دعواكم.
ثم قال سبحانه تفظيعا لهم وتهويلا عليهم: { لو يعلم } ويطلع { الذين كفروا } كيفية ما استعجلوا من العذاب وكميته { حين لا يكفون } أي: حين نزل عليهم حتما، ولا يمكنهم حينئذ أن يدفعوا { عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم } لأنهم محاطون بها، مغمورون فيها بحيث لا يسع لهم دفعها بأنفسهم { ولا هم ينصرون } [الأنبياء: 39] من الغير.
إذ كل نفس رهينة بما كسبت؛ يعني: لو علموا فظاتها وهولها، لما استعجلوا، لكنه لا يعلمون لذلك استعجلوا اغترارا واستكبارا.
{ بل تأتيهم } العذاب والساعة حتى تأتيهم { بغتة } فجأة ودفع { فتبهتهم } أي: تحيرهم وتدهشهم وقت ظهورها، فصاروا حينئذ حيارى سكارى مدهوشين { فلا يستطيعون } ردها إذ لا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه، سيما بعد نزوله { ردها ولا هم ينظرون } [الأنبياء: 40] ويمهلون حينئذ أن استمهلوا.
{ و } لا تبال بهم يا أكمل الرسل، ولا تحزن عن استهزائهم وسخريتهم؛ إذ { لقد استهزىء برسل } كثير مضوا { من قبلك } استهزءوا معهم أممهم مثل ما استهزءوا معك قريش { فحاق } وأحاط بالآخرة { بالذين } أي: بالمستهزئين الذين { سخروا منهم } أي: من الرسل وبآل { ما كانوا به يستهزئون } [الأنبياء: 41] ويستسخرون، وبأضعاف ما لحق لهم المعاندين المكابرين فلا تحزن عليه ولا تك في ضيق مما يستهزئون.
[21.42-46]
وإن أنكروا إلمام العذاب وإنزاله عليهم { قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { من يكلؤكم } ويحفظكم { بالليل } وقت فراغكم ومنامكم { والنهار } وقت شغلكم وترددكم { من } نزول العذاب عذاب { الرحمن } القادر على أنواع القهر والانتقام بمقتضى جلاله، لو لم يرحم عليكم بمقتضى لطفه وجماله، لكن يرحم عليكم، فلم يعذبكم رجاء أن تنتبهوا وتواظبوا على شكر نعمه، وأداء حقوق كرمه { بل هم } من شدة غفلتهم وسكرتهم { عن ذكر ربهم } الذي يحفظهم عن أنواع المكروهات والمؤذيات { معرضون } [الأنبياء: 42] لا يتوجهون نحوه ولا يلازمون عبادته ولا يداومون شكره.
{ أم } يزعمون أولئك المصرون المسرفون أن يدفعوا عذابنا النازل لهم بقوة نفوسهم { لهم آلهة تمنعهم } أي: تمنع عنهم العذاب مع أهم { من دوننا } شركاء لنا في الألوهية والربوبية كما زعموا، وتشفعه لهم عندنا، كلا وحاشا أن يسع لآلهتهم هذا؛ إذ { لا يستطيعون } أولئك التماثل الهلكى { نصر أنفسهم } لا يقدرون لدفع ما لحقهم ونزل عليهم من المكروهات فكيف عن غيره؟ { ولا هم } أي: آلهتهم { منا يصحبون } [الأنبياء: 43] ويقربون حتى يشفعوا لهم، ويدفعوا عذابنا عنهم بواسطة قربتهم وصبحتهم معنا، وإن خيلوا أن إمهالنا إياهم وآباءهم متنعمين مترفهين طول أعمارهم أمارة عدم أخذنا إياهم وانتقامنا منهم، إنما هو خيال باطل، ووهم زائغ زائل مما سولت لهم أنفسهم بتغرير إبليس عليهم.
{ بل متعنا هؤلاء } المسرفين المعاندين { وآبآءهم } الضالين المستكبرين { حتى طال عليهم العمر } فارتكبوا أنواع المعاصي والآثام مدة حياتهم فظنوا أنهم مصونون عن الأخذ والانتقام، ونزول العذاب والنكال { أ } يتوهمون من إمهالنا إيام هذا الموهوم { فلا يرون أنا } من مقام قهرنا وانتقامنا إياهم { نأتي الأرض } أي: نبعث ونغلب جنود المسلمين على أرض الكفرة بحيث { ننقصها } ونخربها مبتدئين { من أطرافهآ } إلى أن وصل إلى أقاصيها { أ } يزعمون ويتوهمون بعد أخذنا في تخريبه أطراف بلادهم وتنقيصها { فهم الغالبون } [الأنبياء: 44] على جنودنا وجنود أنبيائنا ورسلنا، ما هو إلا زعم فاسد، فإن ادعوا أنا وآباؤنا دائما مستمرا في كنف حفظ الله وجوار صونه من أعمارنا، فمن أين تخوفنا وتنذرنا أنت من إنزال الله العذاب علينا بغتة مع أنه لم يعهد لنا ولا لآبائنا منه تعالى أمثال هذا.
{ قل } يا أكمل الرسل في جوابهم: { إنمآ أنذركم } أي: ما أنذركم وأخوفكم من تلقاء نفسي بل { بالوحي } المنزل علي من عند الله، المشتمل على إنذاركم وتخويلكم.
ثم قال سبحانه توبيخا عليهم وتقريعا: { و } كيف يرشدكم ويهديكم الرسول المنزل إليكم، المؤيد بالآيات والمعجزات أيها المقصرون على الصمم الحقيقي والإعراض الفطري الجبلي إذ { لا يسمع } الرسول { الصم الدعآء } والذكر المتضمن لأنواع الهداية والرشاد، ولا يسع له إسماعكم { إذا ما ينذرون } [الأنبياء: 45] أي: إلا وقت قابليتكم والتفاتكم إلى الإنذار والتخويف، وأنتم من شدة صممكم وقسوتكم خارجون عن قابلية الإنذار والإرشاد والوعد والوعيد.
{ و } الله يا أكمل الرسل { لئن مستهم } وظهرت عليهم { نفحة } واحدة مني ورائحة قليلة { من عذاب ربك } نازلة على سبيل المقدمة والأنموذج { ليقولن } مصرخين صائحين متضرعين معترفين بذنوبهم قائلين: { يويلنآ } وهلاكنا تعالى { إنا كنا ظالمين } [الأنبياء: 46] خارجين عن حدود الله مستوجبين للمقت والهلاك، أدركنا فقد حان حينك وقرب أوانك.
[21.47-50]
{ و } بمجرد اعترافهم بظلمهم لا نأخذهم ولا نعذبهم حينئذ بل { نضع الموازين القسط } العدل المسوى المستقيم بحيث لا عوج ولا انحراف لها إلى جانب أصلا، المعدة { ليوم القيامة } لنوزن فيها أعمال العباد صالحها وفاسدها، ثم نجازيهم على مقتضى ما ظهر منها { فلا تظلم } وتنقص { نفس شيئا } من جزائها، ولا تزداد عليها أيضا سواء كان خيرا أو شرا، ثوابا أو عقابا على مقتضى عدلنا القويم وصراطنا المستقيم { وإن كان } العمل والظلم وزنه { مثقال حبة } كائنة { من خردل أتينا بها } مع أنها لا اعتداد لها، وجازينا صاحبها عليها تتميما لعدلنا، وتوفية لحقوق عبادنا { وكفى بنا حاسبين } [الأنبياء: 47] أي: كفى حسبانا لحقوق عبادانا أو لا يعزب عن حيطة حضرة علمنا شيء منها وإن قل وحقر.
ثم قال سبحانه على سبيل التذكير والعظة: { ولقد آتينا } من تمام فضلنا وجودنا { موسى و } أخاه { هارون الفرقان } أي: التوراة الفارق بين الحق والباطل { و } لكمال فرقة وفضله صار { ضيآء } يستضيء به عموم المؤمنين الموحدين من الملليين التائهين في ظلمات الغفلات والجهالات وأنواع الضلالات { وذكرا للمتقين } [الأنبياء: 48] منهم المتذكرين الوقوف بين يدي الله يوم العرض الأكبر.
وهم { الذين يخشون ربهم بالغيب } أي: بضمائرهم وسرائرهم كما يخشون منه سبحانه بظواهرهم وعلنهم { و } مع ذلك الخوف المستوعب لجوانحهم وجوارحهم { هم من الساعة } الموعودة إتيانها، المتحققة وقوعها وقيامها حقا حتما محققا { مشفقون } [الأنبياء: 49] خائفون مرعوبون كأنها واقعة آتيه.
{ وهذا } القرآن الفرقان الجامع أيضا { ذكر } وتذكير لعموم الموحدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مبارك كثير الخير والبركة للموقنين المخلصين منهم، الواصلين إلى مرتبة الفناء في الله { مبارك أنزلناه } من كمال فضلنا ولطفنا إلى محمد خاتم الرسالة، ومتمم مكارم الأخلاق، ومكمل دائرة الرسالة والنبوة عليه من الصلاة، والتحيات ما هو الأولى والأحرى { أفأنتم له } ولكتابه { منكرون } [الأنبياء: 50] أيها المسرفون المستكبرون؟!.
[21.51-57]
{ ولقد آتينآ } وأعطينا { إبراهيم رشده } أي: كمال عقله ورشاده إلى حيث أيقظناه عن سنة الغفلة، فأخذ لطلب المعارف، والحقائق وسلوك طريق التوحيد، والتوجه نحو الحق { من قبل } أي: من قبل موسى وهارون { وكنا به } أي: بكمال استعداده وقابليته لحمل أعباء الرسالة والنبوة، وانكشافه بسرائر التوحيد { عالمين } [الأنبياء: 51] بحضرة علمنا في لوح قضائنا.
اذكر يا أكمل الرسل: { إذ قال } جدك إبراهيم { لأبيه وقومه } حين جذبه الحق نحو جنابه وهداه إلى بابه، مستفهما على سبيل الإنكار والتقريع: { ما هذه التماثيل } الباطلة والهياكل الزائغة الزائلة { التي أنتم } مع كونكم من زمرة العقلاء المجبولين لمصلحة التوحيد والعرفان { لها عاكفون } [الأنبياء: 52] عابدون متذللون، مع أنها جمادات لا شعور لها ولا حركة، فكيف المعرفة واليقين وعبادة الفاضل للمفضول المرذول في غاية السقوط عند ذوي النهي وأولي الألباب؟.
ولما تفرسوا منه الرشد التام وجدوا قوله معقولا محكما { قالوا } في جوابه: ما نعرف استحقاق هؤلاء التماثيل للعبادة والألوهية، ولا تنكشف بسرائرها، غير أنا { وجدنآ آبآءنا } وأسلافنا { لها عابدين } [الأنبياء: 53] فنعبدهم كما عبدوها، مع أنهم كانوا من ذوي الفطنة والرشاد، فنعتقد أنهم انكشفوا بأسرارها، وما لنا شغل باستكشافها سوى أن نعبد بما يعبد أولئك الأسلاف.
{ قال } إبراهيم بعدما انكشف بالحق وظهر عنده ضلالهم وضلال آبائهم: { لقد كنتم أنتم } أيها الحمقى المنهمكون في بحر الغفلة والغرور { وآبآؤكم } أي: تابعكم ومتبوعكم وأصلكم وفرعكم { في ضلال مبين } [الأنبياء: 54] وغفلة عظيمة من الهداية وسلوك طريق الحق.
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا من التضليل والتجهيل { قالوا } له: { أجئتنا } أيها المدعى { بالحق } أي: بالجد الصريح الواضح المنكشف المبين { أم أنت } في تضليلك وتجهيلك إيانا { من اللاعبين } [الأنبياء: 55] بنا المستهزئين معنا.
{ قال } إبراهيم: لا لعب ولا سخرية في أمور الدين سيما في معرفة الألوهية والربوبية، وبالجملة ما هذه التماثيل العاطلة أربابكم الذين أوجدوكم وأظهروكم من كتم العدم { بل ربكم } وموجدكم { رب السموت والأرض } أي: موجد العلويات والسفليات، ومربيها واحد أحد فرد وتر، لا تعدد له، ولا اثنينية فيه، متصرف بالاستقلال في ملكه؛ إذ هو { الذي فطرهن } وأبدعهن اختياره، وانفراده بلا سبق مادة ومدة { وأنا على ذلكم } أي: على الأمور التي بينت لكم وأوضحها عندكم { من الشاهدين } [الأنبياء: 56] أي: من أرباب الشهود المتحققين بمرتبة الكشف واليقين الحقي، لا من أصحاب التقليد والتخمين.
{ و } بعدما جرى بينه وبينهم ما جرى، سفهوه واستهزؤوا معه، ونسبوه إلى الخبط والجنون، وانصرفوا عنه متعجبين إلى مجامعهم ومعابدهم التي اجتمعوا فيها لعبادة الأصنام، قال إبراهيم مقسما مؤكدا بالغا: { تالله لأكيدن } أي: لأحتالن وأمكرن؛ لأن أكسر { أصنامكم } ومعبوداتكم أيها الجاهلون لتفضحوا أنتم وهؤلاء الأباطيل الزائغة { بعد أن تولوا } وتنصرفوا { مدبرين } [الأنبياء: 57] من مجمعكم ومعبدكم.
[21.58-68]
ثم لما ذهبوا إلى معبدهم دخل إبراهيم كنيستهم ومعبدهم التي فيها أصنامهم وأوثانهم { فجعلهم } كلها { جذاذا } قطعا منكسرة وأجزاء متلاشية { إلا كبيرا لهم } يعني: لم يكسر الصنم الكبير من الأصنام فقط؛ ليكون سببا لإلزامهم، وإفحامهم لدى الحاجة { لعلهم إليه } أي: إلى الصنم الكبير { يرجعون } [الأنبياء: 58] أي: يراجعون له ويستفسرون منه عن كسر الأصنام؛ لأنهم اعقدوه أعظم الآلهة، والإله لا بد أن يجيب لهم جميع حوائجهم وحاجاتهم.
ثم لما رجعوا من معبدهم ودخلو إلى معابدهم وكنائسهم للعبادة والتقرب نحو الآلهة، وجدوها مجذوذة منكسرة متفرقة الأجزاء { قالوا } من فرط حزنهم وأسفهم مستبعدين مستحسرين: { من فعل هذا } الفعل الفظيع والأمر الفجيع { بآلهتنآ } ومعبوداتنا { إنه لمن الظالمين } [الأنبياء: 59] الخارجين عن شعائر ديننا الجاحدين لآلهتهم.
{ قالوا } أي: السامعون منهم للسائلين: { سمعنا فتى } نكروه تحقيرا له، وإعانة عليه { يذكرهم } أي: الآلهة بالسوء دائما، ويعيب عليهم، وينكرهم { يقال له إبراهيم } [الأنبياء: 60].
ثم لما انتشر الخبر واجتمعوا في المعبد مزدحمين متشاورين في انتقامه، واستقرارهم رأيهم عدما تمادى مشورتهم إلى أن { قالوا } متفقين: { فأتوا به } أي: بإبراهيم { على أعين الناس } ورؤوس الملأ والأشهاد { لعلهم يشهدون } [الأنبياء: 61] يحضرون ويجتمعون؛ يعني: جميع المعبودين لقتله وهلاكه، حتى ينال كل منهم نصيب حظه من نصر الآلهة.
ثم لما حضر نمرود واجتمع أشراف ممكلته، وازدحم العوام والخواص، وأحضروه لينتقموا عنه { قالوا } أولا له على سبيل التعيير والتقريع: { أأنت فعلت هذا } الفعل الشنيع، والأمر القطيع الفجيع { بآلهتنا } ومعبوداتنا { يإبراهيم } [الأنبياء: 62] المرذول المجهول.
{ قال } في جوابهم على مقتضى اعتقادهم وزعمهم: أنا عبد مألوه مربوب، وهم آلهة معبودون، كيف أقدر أن أفعل بهم هذا { بل فعله كبيرهم هذا } أي: هذا الصنم الغير المنكسر؛ لئلا يشاركوا معه في المعبودية والألوهية، وإن شككتم أنه فعل هذا هو أم أنا { فاسألوهم } أي: الآلهة { إن كانوا ينطقون } [الأنبياء: 63] يعين: إن اعتقدتم نطقهم وتكلمهم؛ لأنهم آلهة، ومن لوازم الألوهية: التكلم، والتنطق، بل أنتم تعتقدون أن هؤلاء خلقوا جميع أهل التكلم واللسان، فهم أولى وأحق بجواب سؤالكم هذا.
ولما سمعا منه ما سمعوا { فرجعوا إلى أنفسهم } متأملين؛ أي: رجع كل منهم إلى وجدانه ونفسه متفكرا متدبرا { فقالوا } أي: كل منم في سره ونجواه: { إنكم } أيها الجاهلون الغافلون عن قدر الألوهية والربوبية { أنتم الظالمون } [الأنبياء: 64] المقصورون على الخروج عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي، ما هذه إلا تماثيل مصنوعة لكم منحوتة بأيديكم، من أين توجدكم وتخلقكم، بل أنتم موجدوها ومختروعها.
{ ثم } لما تفرسوا بخطئهم وتفطنوا بحقية إبراهيم وصدقة في مقاله، أزعجتهم الغيرة البشرية والحمية الجاهلية إلى المراء والمجادلة معه لذلك { نكسوا على رءوسهم } يعني: بعدما علموا أعلى الأمر وأسفله، وفرقوا بين الحق والباطل، أرادوا أن يقلبوا الأمر وعكسوه عنادا ومكابرة وقالوا مكابرة: { لقد علمت } أيها المجادل المفتون { ما هؤلاء } الآلهة { ينطقون } [الأنبياء: 65] إذ هم جمادات لاحس لهم ولا شعور، كيف يتيسر لهم التكلم والتنطق.
وبعدما اعترفوا بحمادية آلهتهم وعدم قابليتهم للنطق، والتنطق، والتكلم { قال } إبراهيم موبخا عليهم ومقرعا: { أ } ما تستحيون وتخجلون أيها الضالون المكابرون { فتعبدون من دون الله } الواحد الأحد المتوحد بالألوهية والربوبية، المستقل بجميع التصرفات الواقعة في عالم الغيب والشهادة { ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } [الأنبياء: 66] أي: أصناما وأوثانا، لا يرجى منهم النفع والضر.
ثم لما قال على سبيل الضجر والإكراه عن أمرهم، والتأسف على ضيق عقلهم المفاض لهم من ربهم لمصلحة المعرفة والإيمان: { أف لكم } أي: قبحا لكم أيها المطرودون المردودون عن زمرة العقلاء { ولما تعبدون من دون الله } المستقل للنفع الضرر، وجلب أنواع الخيرات، ودفع أصناف المضرات { أفلا تعقلون } [الأنبياء: 67] أيها المتخذون لله شركاء، ولا تستعملون عقولكم الموهبة لكم لكسب المعارف والحقائق؛ للتتفطنوا إلى سرائر التوحيد الخالي عن شوب التخمين وشين التقليد
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
ثم لما سمعوا منه التعيير والتشنيع ثارت نار حميتهم واشتد غيظ غيرتهم { قالوا } بعدما شاوروا كثيرا في وجه إهلاكه وانتقامه: { حرقوه } إذ لا عذاب أقرع وأهول منه { وانصروا } بحرقة { آلهتكم } لأن التعذيب بالنار مخصوص بالإلهة، كما قال " لا يعذب بالنار غير خالقها " ولما كان تعذيبهم إياه لأجل آلهتهم، لذلك اختاروا تعذيبه بالنار { إن كنتم فاعلين } [الأنبياء: 68] ناصرين آلهتكم بأخذ انتقامهم عنه.
[21.69-75]
ثم لما حفروا البئر، وبنوا الحفرة، وجمعوا الحطب، وأوقدوا النار، علقوا المنجنيق ووضعوه فيه ورموه إليها { قلنا } حينئذ حافظين لخليلنا له، مخاطبين للنار: { ينار } المجبولة المطبوعة بالحرق والحرارة { كوني بردا } واتركي الحرق والحرارة { و } لا تضري لخليلنا بالبرودة أيضا، بل صيري { سلما } أي: ذات سلام وسلامه { على إبراهيم } [الأنبياء: 69] ولا تضري له.
{ و } بعدما علموا وأبصروا أن النار لا تضره، بل صارت له روحا وريحانا، أفحموا وألزموا وكيف لا يفحمون { أرادوا به كيدا } ومكرا لينتقموا عنه، ويبطلوا دعواه التوحيد فعاد عليهم الإلزام والإبطال، فغلبوا هنالك { فجعلناهم الأخسرين } [الأنبياء: 70] فيما قصدوا له وانقلبوا عن مجمعهم خاسرين خسرانا مبينا وخيبة عظيمة.
{ و } بعدما فعلوا مع خليلنا ما فعلوا { نجيناه } من مقام جودنا ولطفنا { و } صاحبناه مع ابن أخيه { لوطا } وبعثناهما عناية منا إياهما { إلى الأرض التي باركنا فيها } وصريناهما كثير الخير والبركة وذات الأم واليمن والأمان والإيمان { للعالمين } [الأنبياء: 71] أي: لجميع من ينزل ويؤول إليها من أهل الدين والدنيا، وهي الشام التي هي منازل الأنبياء والأولياءن ومقر السعداء والصلحاء، ومهبط الوحي الإلهي، لذلك ما بعث نبي إلا فيها وفي حواليها.
قيل: نزل إبراهيم عليه السلام بعدما جلا من وطنه ب " فلسطين " من الشام، ولوط ب " السدوم " وبينهما مسيرة يوم وليلة.
{ و } بعدما مكناه في الأرض المقدسة { وهبنا له } من رحمتنا تفريجا لقلبه من كربة الغربة، وتشريحا لصدره، وتقريرا لعينيه: ولديه { إسحاق ويعقوب } يزول حزنه بهما، وهبنا له إسحاق إجابة لدعائه بقوله:
هب لي من الصالحين
[الصافات: 100] وإنما أعطيناه يعقوب { نافلة } منا إياه، وزيادة فضل وعطية تكريما له وامتنانا عليه { وكلا } من ولديه { جعلنا صالحين } [الأنبياء: 72] للنبوة والرسالة وقبول سرائر التوحيد وأسرار الألوهية والربوبية في قلوبهم.
{ و } لصلاحيتهم واستعدادهم لقبول الخيرات { جعلناهم أئمة } وقدوة هادين مهديين { يهدون } الناس { بأمرنا } ووحينا إلى زلال توحيدنا { و } بعدما جعلناهم قدوة هادين { أوحينآ } وألهمنا تتميما لأهدائهم وإرشادهم { إليهم فعل الخيرات } والإتيان بالأعمال الصالحات، وعموم الطاعات والمبرات، لتكون لهم وسيلة مقربة لهم إلى توحيدنا { و } أوحينا خاصة { إقام الصلاة } المتضمنة لتوجههم نحو الحق بجميع القوى والحركات والأركان والجوارح { وإيتآء الزكاة } المصفية لقلوبهم عما سوى الحق { و } هم بمقتضى أمرنا ووحينا إياهم { كانوا لنا } خاصة بلا رؤيتهم الوسائل، والأسباب العادية في البين { عابدين } [الأنبياء: 73] متذللين متواضعين مخلصين بظواهرهم وبواطنهم وجميع أعمالهم وحركاتهم.
{ ولوطا آتيناه } من مقام فضلنا وجودنا { حكما } وقطعا للخصومات، وفصلا للخطوب والمهمات { وعلما } بسرائر الأمور ورموزها وإشاراتها الدالة على وحدة الصانع الحكيم، وسر سريان هويتها الذاتية على صفائح ما ظهر وما بطن { و } من كمال لطفنا معه { نجيناه من } فتنة { القرية التي كانت } أهلها { تعمل الخبائث } أي: الفعلة الشنيعة والديدنة الخسيسة الخبيثة المذموممة المسقطة للمروءة عقلا وبالجملة { إنهم } من غاية قسوتهم وغفلتهم { كانوا قوم سوء فاسقين } [الأنبياء: 74] مغمورين بين أنواع الفسق، منغمسين في أصناف المعاصي والآثام.
{ و } بعدما انتقمنا عنهم وأهلكناهم بأشد العذاب { أدخلناه } ومن معه ممن سبقت لهم منا الحسنى { في رحمتنآ } وكنف حفظنا وجوارنا { إنه من الصالحين } [لأنبياء: 75] لعبادتنا المقبولين في حضرتنا.
[21.76-81]
{ و } نجينا أيضا من كما لطفنا وجودنا { نوحا } وقت { إذ نادى } ودعا متوجها إلينا متضرعا { من قبل } حين كذبه قومه واستهزؤوا معه، وضربوه ضربا مؤلما بقوله:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
[نوح: 26] { فاستجبنا له } عداءه وأنجحنا مطلوبه { فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } [الأنبياء: 76] الذي هو الطوفان.
{ و } حين اضطروه وأشرفلوا على الهلاك ناجانا فزعا فجيعا بقوله:
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر
[القمر: 10] { و } لذلك { نصرناه } وجعلناه منتصرا ناجيا { من القوم الذين كذبوا بآياتنا } الدالة على عظمة ذاتنا وكمال أسمائنا وصفاتنا، وذلك أنه دعاهم إلى الإيمان والتوحيد، وهداهم إلى صريح مستقيمن وهم امتنعوا عن القبول { إنهم } من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم مع أهل الحق { كانوا قوم سوء } كأنهم مغمورون فيه متخذون منه { فأغرقناهم } لذلك { أجمعين } [الأنبياء: 77] تطهيرا للأرض من فسادهم، وقلعا لعرق غيهم وعنادهم.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل في كتابك قصة { داوود وسليمان } وقت { إذ يحكمان في الحرث } أي: زرع القوم { إذ نفشت } ودخلت { فيه غنم القوم } الآخر ليلا، فأكلته وأهكلته، فتنازعا ورفعا الأمر إليهما، واستحكما منهما فحكم داود بالغنم على صاحب الزرع، بناء على أن صاحب الغنم لا بد له أن يضبط غنمه ليلا؛ لئلا يخسر { وكنا لحكمهم } أي: لحكم داود إياهم؛ أي: لأصحاب الزرع بالغنم { شاهدين } [الأنبياء: 78] مطلعين اطلاع شهود وحضور.
وبعدما حكم داود ما حكم، وكان ابنه سليمان حاضرا عنده سامعا لحكمه { ففهمناها } أي: ألهمنا الحكومة الحقة والفتوى في هذه القضية { سليمان } وهو ابن إحدى عشرة سنة، فقال: الأرفق أن يدفع الغنم إلى أصحاب الحرث؛ لينتفعوا من ألبانها وأصوافها، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بسقيها وحفظها ورعايتها، حتى يعود إلى الذي كان، ثم يترادان ويتدافعان، فقال داود لسليمان: القضاء ما قضيت، فرجع عن حكمه، وحكم بحكم ابنه { و } إن كان { كلا } منهما { آتينا حكما وعلما } أي: رشدا صوريا ومعنويا بمقتضى قابليتها واستعدادها { و } كيف لا { سخرنا مع داوود } تفضلا منا عليه وتكريما { الجبال } إلى حيث { يسبحن } ويقدسن الله عما لا يليق بجنابه معه حين اشتغل بتسبيح الله وتقديسه ازديادا لثوابه ورفعا لدرجته { و } كذا { الطير } أي: الطيور معه حين اشتغاله بتكبير الله وتنزيهه { وكنا } وبأمثاله { فاعلين } [الأنبياء: 79] لأنبيائنا وأوليائنا، ومن يتوجه نحونا من عبادنا، فلا تتعجبوا من أمثال هذا، ولا تستبعدوا عن قدرتنا أمثال إبداعها.
{ و } أيضا { علمناه } من مقام جودنا إياه { صنعة لبوس لكم } أي: الدروع، وما يلبس للدفع حين الحراب والقتل، فكانت الدروع صفائح تخلقها داود، وسردها بإلهام الله إياه وتعليمه، إنما علمناه تخليقها وسردها { لتحصنكم } وتحفظكم { من بأسكم } أي: من جراحات السهام والسنان، إذ هو أدفع لآثارهما من الصفائح، وأخف منها { فهل أنتم } أيها المنعمون المتنعمون { شاكرون } [الأنبياء: 80] لوفور نعمنا إياكم.
{ و } كذا سخرنا { لسليمان الريح } حال كونها { عاصفة } سريعة السير والحركة، آبية عن التسخير، سخرنا له حيث { تجري بأمره } وحكمه سريعة { إلى الأرض التي باركنا } أي: كثرنا الخير { فيها } لساكنيها، وكذا لجميع من يأوي إليها، وهي أرض الشام فكان يسير مع جنوده متمكنين على بساط كان فرسخا في فرسخ، منسوج من الإبريسم عملته الجن له حيث شاء، ثم يعود من يومه إلى منزله { و } لا تستبعدوا منا أمثال هذا؛ إذ { كنا بكل شيء } تعلق إرادتنا بإيجاده { عالمين } [الأنبياء: 81] بأسباب وجوده وظهوره، فنوجده على الوجه الذي نريده ونجريه على مقتضى حكمتنا وقدرتنا.
[21.82-88]
{ و } كذا سخرنا لسليمان { من الشياطين من يغوصون له } البحار، ويخرجون منها نفائس الجواهر تتميما وتوفيرا بخزانته { ويعملون } أيضا { عملا دون ذلك } الغوص من بناء الأبنية الرفعية، والقصور المنيعة، واختراع الصنائع البديعة الغريبة والهياكل البديعة والتشكيلات العجيبة { وكنا لهم } من قبل سليمان { حافظين } [الأنبياء: 82] مشغلين مشرفين إياهم، لا يمكنهم أن يفسدوا في أعمالهم وأشغالهم ويزيغوها على مقتضى أهويتهم وطباعهم.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل أخاك { أيوب } الذي ابتلاه الله بأنواع المحن والبلاء، فصبر عليها فازداد ألمه، واشتد الأمر عليه واضطر إلى التضرع والتفزع، وبث الشكوى إلى الله، اذكر { إذ نادى ربه } مشتكيا إليه، مناجيا له، متضرعا إياه قائلا { أني مسني الضر } يا رب، وتنحوا عني أقاربي وذوو أرحامي وجميع رحمائي { وأنت } تبقى علي رحيما مشفقا؛ لأنك { أرحم الراحمين } [الأنبياء: 83] فأدركني بلطفك؛ إذ لا طاقة لي ولا صبر بعد اليوم، وقد بلغ الجهد غياته.
{ فاستجبنا له } دعاءه { فكشفنا } عنه { ما به من ضر } مؤلم مزعج { و } بعدما شفيناه وأزلنا عنه مرضه { آتيناه أهله } وأحيينا الذين هلكوا بسقوط البيت عليهم، وأمواله التي تلفت بالحوادث والنوائب { و } زدناها امتنانا له وتفضلا عليه { مثلهم معهم رحمة من عندنا } إياه وزيادة إنعام وإحسان منا عليه { و } ليكون ما فضلنا به وأعطيناه { ذكرى } تذكرة وحثا { للعابدين } [الأنبياء: 84] الذين صبروا على مشاق التكاليف، ومتاعب الطاعات والعبادات؛ ليفوزوا بأفضل المثوبات، وأعظم الكرامات.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل جدك { إسماعيل } ذا الصبر والرضا بما جرى عليه من القضايا { وإدريس } صاحب دراسة الحكمة المتقنة وأنواع المعارف والحقائق { وذا الكفل } المتكفل بعبادة الله في جميع أوقاته وحالاته، حيث لا يشغله شيء عن التوجه نحو الحق، قيل: هو إلياس، وقيل: زكريا، وقيل يوشع بن نون، وقيل: نبي آخر مسمى به؛ لأنه يتكفل صيام أيام حياته { كل } من هؤلاء السعداء المقبولين عند الله المقبولين { من الصابرين } [الأنبياء: 85] لقضاء الله، ونزول بلائه، كما أنهم كانوا شاكرين لآلائه ونعمائه.
{ و } لذلك { أدخلناهم في } سعة { رحمتنا } امتنانا عليهم { إنهم من الصالحين } [الأنبياء: 86] المصلحين أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم وأحوالهم، الواصلين إلى درجة القرب واليقين. { و } اذكر يا أكمل الرسل أخاك { ذا النون } صاحب الحوت، وهو يونس بن متى، واذكر قصته وقت { إذ ذهب مغاضبا } على قومه من أعمالهم حين وعظهم، فلم يتعظوا، فشق عليه الأمر، فغضب عليهم، فلم يكظم غيظه، فخرج من بينهم تفريجا لغضبه، وتوسيعا لصدره { فظن } بخروجه من بينهم { أن لن نقدر } وتضيق { عليه } ولا يمكننا حبسه وتضييقه وتغميمه في مكان آخر فهرب، ولقي البحر فركب على السفينة فسكنت الريح، فقال البحارون: إن ها هنا عبدا آبقا، فاقترعوا، فخرجت القرعة باسمه فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت { فنادى } وناجى ضريعا فجيعا مغمورا { في الظلمات } التي تراكمت عليه؛ إذ هو في بطن الحوت وكان الليل مظلما { أن } أي: أنه { لا إله } بعيد بالحق، ويستحق للعبادة استحقاقا ذاتيا ووصفيا { إلا أنت } يا من خضعت لك الرقاب، وانتكست دون سرادقات جلالك أعناق أولي النهى والألباب { سبحانك } ربي أنزهك عن جميع ما لا يليق بجنابك، ولا يليق لشأنك { إني } بواسطة خروجي عن قومي بغير إذنك ووحيك، مع أنك أرسلتني إليهم، وبعثتني بين أظهرهم نبيا ذا دعوة وهداية { كنت من الظالمين } [الأنبياء: 87] الخارجين عن مقتضى حكمك وأمرك، لذلك ضيقت الأمر علي يا ربي، وحبستني ولا مخلص لي من هذا المضيق إلا عفوك وكرمك.
وبعدما تاب إلينا، وتوجه نحونا مخلصا متضرعا، واستخلص منا مضطربا مضطرا { فاستجبنا له } وأجبنا دعاءه فأخرجناه من بطن الحوت { ونجيناه من الغم } العظيم والكرب الكبير { وكذلك ننجي } عموم { المؤمنين } [الأنبياء: 88] المخلصين الذين أخلصوا في إنابتهم ورجوعهم نحوننا من كروبهم وأحزانهم.
[21.89-91]
{ و } اذكر أيضا أخاك { زكريآ } الذي بلغ من الهرم والكهولة إلى حيث آيس ممن استخلفه من نطفته، وقنط عمن يقوم مقام من نسله، فشكا إلى الله وقت { إذ نادى ربه } متمنيا متحسرا آيسا: { رب } يا من رباني بأنواع الكرم إلى أن كبرت وأشرفت أركان جسمي إلى الانهدام، وأجزاء جسدي إلى الانحلال والانخرام { لا تذرني فردا } مطقوع الفرع، منسي الذكر بلا ولد يخلفني ويرث عني، ويحيي اسمي { و } إن جرى حكمك على هذا، أو مضى قضاؤك على ذا، فلا أبالي به؛ إذ { أنت خير الوارثين } [الأنبياء: 89] وأكرم المستخلفين.
وبعدما تضرع وتمنى ما تمنى { فاستجبنا له } عناية منا إياه وفضلا { ووهبنا له } من كمال جودنا { يحيى } المحيي لاسمه { وأصلحنا له زوجه } بل نفسه أيضا بعدما أفسدهما الدهر، وأخرجهما من قابلية الولاة والإيلاد، وصيرنا زوجته شابة ولودا بعدما كانت عجوزا عقيما؛ إظهارا لكمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا، وإنما فعلنا بالأنبياء المذكورين ما فعلنا بهم من كمال اللطف والكرم، ومحض الفضل والإحسان { إنهم } من كمال توجههم وتحننهم نحونا { كانوا } في جميع أوقاتهم وحالاتهم { يسارعون } ويبادرون { في الخيرات } ويسابقون إلى الطاعات المقبولة عندنا { و } مع ذلك { يدعوننا } في مناجاتهم بنا، وفي خلواتهم معنا { رغبا ورهبا } راغبين إلينا، راجين عفونا وغفراننا وراهبين عنا، خائفين منا صولة سطوة قهرنا وغضبنا { و } بالجملة هم { كانوا لنا } دائما { خاشعين } [الأنبياء:: 90] خاضعين متذللين مخبتين، ولذلك نالوا من الله بسبب خصائلهم هذه ما نالوا من جزيل العطاء، والفوز بشرف اللقاء والبقاء بعد الفناء.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل أختك العفيفة { التي أحصنت فرجها } من الحلال والحرام، وصبرت على العزوبة بلا ميل منها، ولا دغدغة إلى الشهوة تقربا إلى الله بتحمل المشاق والمتاعب في طريق توحيده، وبعدما بالغت في الحصن والحفظ، وبلغت في العفة كمالها وغايتها { فنفخنا فيها } أي: أمرنا حامل روحنا؛ يعني: جبريل عليه السلام بأن ينفخ في جيبها { من روحنا } فنفخ فسرى إلى جوفها، فحبلت بعيسى عليه السلام وبعد وضع حملها { وجعلناها } أي: مريم { وابنهآ } عيسى { آية } أي: كل منهما آية عجيبة غريبة دالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، خارقة للعادة، وهي إيجاد الولد بلا أب، وإيلاد المرأة بلا لمس زوج، فصار هذا كرامة وإرهاصا لمريم، ومعجزة لعيسى - عليهما الصلاة والسلام - وعبرة { للعالمين } [الأنبياء: 91] من حسن حالهما ورفعة رتبتها وعلو شأنهما.
[21.92-100]
ثم قال سبحانه مخاطبا لجماهير الأنبياء والرسل وأممهم: { إن هذه } الملة التي هي ملة الإسلام، وطريق التوحيد والفرقان { أمتكم } أي: قدوتكم وقبلتكم وقصارى أمركم، والحكمة في جبلتكم وخلقكم ما كانت إلا { أمة واحدة } لا تعدد فيها أصلا { وأنا ربكم } الواحد الأحد الصمد الفرد { فاعبدون } [الأنبياء: 92] أيها الضلال المنعكسة من أسمائي وأوصافي، وتوجهوا نحوي بغاية التذلل والخضوع، ونهاية الانكسار والخشوع.
{ و } بعدما كانوا أمة واحد لا اختلاف فيهم أصلا { تقطعوا أمرهم } أي: أمر دينهم قطعا، وتحزبوا أحزابا فوقع النزاع { بينهم } فاختلفوا اختلافا كثيرا على سبيل المراء والمجادلة، ولا تبال بهم وباختلافهم وتحزبهم؛ إذ { كل إلينا راجعون } [الأنبياء: 93] رجوع الأمواج إلى البحر.
وبعدما اختلفوا وتعددوا: { فمن يعمل } منهم { من الصالحات } المرضية لنا المقبولة عندنا { وهو مؤمن } موقن بتوحيدنا، مصدق لرسلنا وكتبنا { فلا كفران } ولا تضييع منا { لسعيه } الذي سعى في طريقنا طلبا لمرضاتنا، بل { وإنا له كاتبون } [الأنبياء: 94] حافظون حارسون ما صدر عنه من الخيرات الموجبة للمثوبات، ورفع الدرجات، فنعطيه ما استحق له من الثواب بلا فوت شيء منها.
{ و } حفظنا وحراستنا { حرام } ممنوع منا محرم { على قرية أهلكناهآ } أي: أهلها قهرا وغضبا منا إياهم بسبب { أنهم لا يرجعون } [الأنبياء: 95] ولا يتوجهون إلينا، ولا يؤمنون بتوحيدنا ولا يصدقون بكتبنا ورسلنا، بل يكذبون وينكرون، وهكذا تتمادى حرمتنا ومنعنا أياهم إلى أن ظهرت أشراط الساعة ولاحت أمراتها.
{ حتى إذا فتحت } وفتقت { يأجوج ومأجوج } سدهما الذي شد بينهما وبين سائر الناس { وهم } بعد فتح السد، ورفع المانع من غاية عدوانهم مع الناس، وحرصهم على تخريب البلاد { من كل حدب } أي: تلال وجبال { ينسلون } [الأنبياء: 96] يسرعون إلى الناس كالذباب الجوع.
{ و } بعدما { اقترب } ودنا { الوعد الحق } الموعود المحقق الذي هو فتح السد وخروجهما من أشراطه وعلامته، وقامت القيامة { فإذا هي } أي: الشأن والقصة حين أنها { شاخصة } حائرة مدهوشة مضطربة { أبصار الذين كفروا } في النشأة الأولى بالله، وكذبوا بهذا اليوم، فيقولون حينئذ متحسرين خائبين: { يويلنا } وهلاكنا تعال فالآن وقت حلولك { قد كنا في غفلة } عظيمة { من } مجيء { هذا } اليوم في نشأتنا الأولى { بل كنا ظالمين } [الأنبياء: 97] خارجين عن مقتضى الحكم الإلهي، منكرين لهذا اليوم بعدما أخبره بوقوعه الرسل ونطلق به الكتب.
ثم خاطب سبحانه الكافرين الذين أشركوا بالله مع أنه سبحانه لم ينزل عليه سلطانا خطابا عاما شاملا للعابدين ومعبوداتهم فقال: { إنكم } أيها المشركون الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه { وما تعبدون من دون الله } من الأضلال والتماثيل التي اتخذتموها آلهة، وادعيتم استحقاقها للعبادة والإطاعة أنتم وهم كلكم { حصب جهنم } أي: حطبها ووقودها { أنتم لها واردون } [الأنبياء: 98] ورود الأنعام للماء.
{ لو كان هؤلاء آلهة } كما زعمتم واعتقدتم { ما وردوها } لأنهم ينقذونكم منها ألبتة، ولا هم آلهة لكنهم يردون النار، جميعا عابدا ومعبودا، فظهر أنهم ما كانوا آلهة، بل عباد أمثالكم { وكل } منكم ومنهم { فيها خالدون } [الأنبياء: 99] مخلدون معذبون دائما.
{ لهم فيها } أي: لأهل النار في النار { زفير } تنفيس شديد، وأنين طويل { وهم فيها } من شدة الأهوال والأفزاع { لا يسمعون } [الأنبياء: 100].
ثم لما نزلت هذه الآية اعترض ابن الزبعري بأن عزيرا وعيسى والملائكة من المعبودين، فهم أيضا في النار، مع أنهم من الأنبياء والملك، وهم محفوظون منها على زعمكم.
[21.101-105]
نزل بعده: { إن الذين سبقت لهم } عناية { منا } الخصلة { الحسنى } والمنزلة الأسنى والدرجة العليا، والجنة المأوى { أولئك } السعداء المخصوصون بمزيد لطفنا وجودنا { عنها } أي: عن النار { مبعدون } [الأنبياء: 101] لسبق رحمتنا إياهم وعفونا عنهم.
بحيث: { لا يسمعون } من غاية البعد منها { حسيسها } أي: صوتها على وجه الخفاء كدوي النحل، مع أن أهلها يصرخون فيها، ويفزعون في غاية الشدة، ولا تصل لغاية بعدهم عنها { و } كيف يسمعون حسيس النار { هم } متنعمون مترفهون { في ما اشتهت أنفسهم } من اللذات الروحانية، والمشتهيات النفسانية عناية من الله إياهم { خالدون } [الأنبياء: 102] دائمون مستمرون بلا طريان ضد وعروض منافر.
وكيف يسمعون ويحزنون أولئك الآمنون من حسيس النار مع أنهم من فرط فرحهم وسرورهم { لا يحزنهم الفزع الأكبر } وهو النخفة الأخيرة في الصور، مع أنها في نهاية الهول والفظاعة، وإذا لم يشوشهم تلك الهائلة فكيف بالحسيس { و } بعد دخولهم في الجنة الموعودة { تتلقاهم الملائكة } مرحبين مهنئين قائلين: { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [الأنبياء: 103] في نشأتكم الأولى أيها المؤمنون الآمنون، وأنتم فيها تؤمنون بها، فالآن نلتم بما آمنتم، وفزتهم بما أملتم.
اذكر يا أكمل الرسل: { يوم نطوي } ونلف { السمآء } المبسوطة المنشورة { كطي السجل للكتب } أي: طيا مثل طي الصحيفة الحافظة الحارسة للمكتوب فيها؛ يعني: نلفها لفا بعد نشرها بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم، إذ طي الصحيفة كناية عن نيسان الشيء وإعدامها وعدم التذكر، وبالجملة { كما بدأنآ } وأبدعنا { أول خلق } وإيجاد من العدم بلا سبق مادة ومدة { نعيده } عليه كذلك، بحيث صار كأن لم يكن موجودا أصلا، وكان إعدامه { وعدا } منا لازما { علينآ إنا كنا فاعلين } [الأنبياء: 104] الموعود المعهود ألبتة إنجازا لوعدنا.
{ و } كيف نفنيه ولا نعدمه { لقد كتبنا } وأثبتنا { في الزبور } وفي جميع الكتب المنزلة منا { من بعد الذكر } أي: بعد الحضور والثبوت في حضرة علمنا ولوح قضائنا: { أن الأرض } أي: أرض الجنة المعدة لأهل الولاء والمحبة، ومستقر أرباب العناية؛ إذ لكل نفس من النفوس البشرية أرض معدة من فضاء الجنة، وإنما وصلوا إليها بالإيمان والأعمال الصالحة المقربة إلى الحق، فمتى لم يتصفوا بالإيمان والمعارف والتوحيد لم يصلوا إليها؛ وإذا لم يصلوا إليها بكفرهم وعنادهم وظلمهم { يرثها } من الكفار أماكنهم المعدة لهم فيها { عبادي الصالحون } [الأنبياء:105] المقبولون عندنا، المتصفون بشعائر التوحيد والإيمان، والعارفون بمعالم الدين ومسالك العرفان، المرضيون الراضون بجميع ما جرى عليهم من قضائنا.
[21.106-112]
{ إن في هذا } أي: ما ذكر في القرآن من المواعظ والتذكيرات والرموز والإشارات { لبلاغا } وتبليغا بليغا إلى أقصى مراتب التوحيد { لقوم عابدين } [الأنبياء: 106] عارفين بمسالك اليقين وأماراته.
{ و } كما كان هذا الكتاب هدايا لجميع البرايا إلى أعلى معارج التوحيد لذلك { مآ أرسلناك } يا أكمل الرسل المستخلف منا، المتخلق بأخلاقنا، المظهر لتوحيدنا الذاتي { إلا رحمة } أي: ذا رحمة شاملة وعطف عام { للعالمين } [الأنبياء: 107] إذ بعثة بعدك، ولا دين بعد دينك، بل أنت مكمل دائرة النبوة والرسالة، ودينك ناسخ جميع الأديان، فلا بد لجميع أهل الملل والنحل أن يتدينوا بدينك كي يصلوا إلى ما جبهلم الحق لأجله، وهو التوحيد والعرفان.
وبعدما صرت خاتم النبوة والرسالة وصار دينك ناسخا لجميع الأديان { قل } لقاطبة الأنام على سبيل الدعوة العامة والتبليغ التام: { إنمآ يوحى إلي } من ربي ما جعلني مبعوثا إلى عموم عباده { أنمآ إلهكم } أيها الواصلون إلى مرتبة التكليف { إله واحد } أحد صمد لا يقبل التعدد، ولا يعرضه نقصان، ولا يشغله شأن عن شأن، بل
كل يوم هو في شأن
[الرحمن: 29] { فهل أنتم } أيها العابدون { مسلمون } [الأنبياء: 108] منقادون له، مسلمون توحيده، مخلصون في إطاعته وانقياده.
{ فإن تولوا } وأعرضوا عن التوحيد بعد تبليغك إياهم قصارى أمرهم في دينهم { فقل } لهم يا أكمل الرسل: { ءاذنتكم } وأعلمتكم بإذن الله وأهديكم بمقتضى وحيه { على سوآء } أي: على طريق سوي، وصراط مستقيم موصل إلى توحيد الحق ومعرفته، وإن انحرفتم عن جادة التوحيد وانصرفتم عن مسالكه، استوجبتم المقت والعذاب ألبتة { وإن أدري } أي: ما أدري وأعلم { أقريب أم بعيد } نزول { ما توعدون } [الأنبياء: 109] من العذاب والنكال.
وبعدما تحقق نزوله وتقرر وقوعه بإخبار الله من لا تغتروا بإمهاله إياكم عن غفلته عنكم تعالى عن ذلك، كيف يعرض له سبحانه الغفلة والذهول؟ { إنه } بعلمه الحضوري { يعلم الجهر } منكم { من القول ويعلم } أيضا منكم { ما تكتمون } [الأنبياء: 110] وتخفون في نفوسكم من خواطركم.
{ وإن أدري } أي: وما أعلم أيضا { لعله } أي: لعل إمهاله إياكم وتأخيره العذاب عنكم { فتنة } واختبار { لكم } هل تتفطنون إلى توحيده أو لا؟ بعد ورود أنواع المنبهات عليه، والروادع، والزواجر البليغة عما ينافيه ويخالفه { و } ما أدري أيضا لعل إمهاله لكم { متاع } وتمتيع لكم { إلى حين } [الأنبياء: 111] لتزدادوا فيه إثما ومعصية كثيرة تستجلبوا بها أعظم العقوبات وتستحقوا أشد العذاب.
ثم لما تمادى النزاع بين أهل مكة ورسوله الله صلى الله عليه وسلم وتكثرت الوقائع والحادثات، أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بالاستعانة منه سبحانه والتفويض إليه بقوله: { قال } يا أكمل الرسل بعدما أصروا على إنكارك ملتجئا إلينا مناجيا: { رب } يا من رباني بكرامة الرسالة والتبليغ والإرشاد والتشريع { احكم بالحق } الصريح الصحيح عنك بيني وبين هؤلاء المعاندين، وأنت تعلم أنهم لا ينزجرون لا بنزول العذاب الموعود عليهم، أنزل بمقتضى قهرك عليهم ما ينزجرون به من العذاب { وربنا } وإن كان هو { الرحمن } الذي وسعت رحمته كل شيء حتى الكافر الشقي النافي له، لكنه { المستعان } والمعين المنان والناصر الديا لأهل المعرفة والإيمان { على } إزالة { ما تصفون } [الأنبياء: 112] الله به مما لا يليق بشأنه وجنابه.
وبالجملة أولئك المشركون هم الهالكون في تيه الجحود والطغيان، المنهمكون في بحر الغفلة والضلال والكفران.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب القاصد لاقتصاد الأحوال واعتدال الأقوال والأفعال أن تستعين بالله ما صدر عنك، وجرى عليك، و تسنده إلى الله سبحانه بلا رؤية الوسائل والبين، وتتخذه وكيلا على مقتضى أمره سبحانه
فاتخذه وكيلا
[المزمل: 9] وتفوض جميع أمورك في جميع شؤونك وأطوارك إليه سبحانه؛ إذ هي له أصالة، وإن صدر عنك صورة؛ إذ لا وجود لك في ذاتك، فيكف ما يترتب عليه من الأفعال والآثار المرتبة عليه، فلك أن تميت نفسك عما حداك إليه أمارة نفسك وشيطان وهمك وخيالك؛ إذ هو مضلك ومغويك يبعدك عما يعينك وينبغي لك، ويغريك إلى ما لا يعينك ويرديك.
فلك أن تميز بين تسويلات الهوى، وأماني النفس المائلة عن المولى وبين آيات الهدى وعلامات التقى الموصلة إلى الدرجة العليا والفوز بشرف اللقيا.
وإن شئت أن تخلص نفسك من جنود الهوى وعساكر الغفلات من الأوهام والخيالات فاعتزل عن أظهر الناس، وأعرض عن ملئهم، واحذر عن مخالطتهم ومصاحبتهم، واتخذ لنفسك خلوة تنجيك عن جميع ما يغويك ويؤذيك؛ إذ المرء إنما يذوق حلاوة الوحدة ولذة التوحيد في العزلة والفرار عن الخلطة، سيما في هذا الزمان الذي غلب فيه النفاق، وكثر الخلاف والشقاق.
ربنا هب لنا من لدنك جذبة عن لذات الدنيا ومشتهياتها، وأنسا بك تخلصنا عن مؤانسة غيرك، إنك على ما تشاء قدير، وبإنجاح آمال المؤملين جدير.
[22 - سورة الحج]
[22.1-4]
{ يأيها الناس } الناسون للعهود والمواثيق { اتقوا ربكم } الذي رباكم بأنواع الكرامات وجلائل العم، واجتنبوا عما نهاكم عنه من المكاره والمعاصي، ولا تغتروا بإمهاله إياكم في نشأتكم هذه، واحذروا عن بطشه في النشأة الأخرى وقيام الساعة { إن زلزلة الساعة } المعدة لانقهار النظام المشاهد، وانحلال أجزاء العالم المحسوس { شيء عظيم } [الحج: 1] وأمر فظيع هائل فجيع، بحيث تضعفت السماوات من هيبتها، واندكت الأرضون من شدة صولتها.
اذكر أيها الرائي: { يوم ترونها } أي: تلك الزلزلة الشديدة المهيبة بحيث { تذهل } أي: تدهش وتغفل من غاية دهشتها { كل مرضعة } مشفقة متحنننة { عمآ أرضعت } أي: ولدها الرضيع مع كمال محبتها ومودتها { وتضع } عند حدوثها من شدة هولها وفزعها { كل ذات حمل } وحبل { حملها } وجنينها { و } بالجملة { ترى } أيها الرائي { الناس } أي: جميع الأنام عند حدوثها { سكارى } حيارى مدهوشين، زائلين عقولهم من شدة الهول { وما هم بسكارى } حقيقة { ولكن عذاب الله } النازل إياهم في تلك الحالة { شديد } [الحج: 2] مدهش محير لعقولهم وأبصارهم، وجميع قواهم ومشاعرهم.
{ و } كيف لا يكون لله المنتقم الجبار ذي القدرة الكاملة والغيرة التامة العذاب والنكال في النشأة الأخرى لمن يسيء الأدب معه، وينسب إليه سبحانه ما لا يليق بجنابه ونيكر يوم البعث الجزاء مع ورود الآيات العظام في شأنه { من الناس } المجبولين على المرءا والمجادلة { من يجادل } ويخاصم داعي الله رسوله سيما { في } حق { الله } ويبالغ فيها حيث ينفي ذاته سبحانه وصفاته الذاتية الكاملة { بغير علم } أي: دليل عقلي يتشبث به أو نقلي يستند إليه بل إنما هو عن جهل وعناد { و } مستنده ومتشبثه أنه { يتبع } في دعواه وجداله هذا { كل شيطان } مضل مغو { مريد } [الحج: 3] عال متمرد في الشرارة والفساد بين العباد.
ولذلك { كتب } ونص { عليه } أي: الشيطان المريد المردود { أنه من تولاه } أي: الشيطان، واتخذه وليا من دون الله واقتدى له واقتفى أثره { فأنه } أي: الشيطان بإغوائه وإغرائه { يضله } ويصرفه عن سواء السبيل الذي هو طريق الإيمان والتوحيد { ويهديه } على مقتضى تلبيسه وتغريره { إلى عذاب السعير } [الحج: 4] بئس المولى وبئس النصير.
[22.5-7]
{ يأيها الناس } المنهمكون في الغفلة والنسيان المنغمسون بلوازم الحدوث والإمكان، المفضية إلى أنواع العصيان والطغيان { إن كنتم في ريب } شك وتردد { من } أمر { البعث } وإمكان وقوعه، ومن قدرتنا إلى إعادة المعدوم بلا سبق الهيولى والزمان، حتى يزول ريبكم، ويرتفع شككم { فإنا خلقناكم } وقدرنا وجودكم أولا { من تراب } جماد، لا مناسبة بينكم وبينه أصلا، إذ هو أصل النطفة ومادة المني، إذ المني إنما يحصل من الأغذية المتكونة من التراب { ثم } قدرناكم ثانيا { من نطفة } مصبوبة في الأرحام حاصلة في أجزاء الغذاء { ثم } صورناكم { من علقة } أي: دم منعقد من المني المصبوب في الرحم { ثم } عينا أركان أجسامكم { من مضغة } أي: لحم متكون من الدم المنعقد { مخلقة } كاملة الخلقة سوية الأجزاء بلا عيب ولا نقصان، قابلة الفطرة للمعرفة والهداية والرشد التام { وغير مخلقة } ناقصة الخلقة معيوبة الأجزاء، منحطة عن درجة الكمال كل تلك التبديلات والتغييرات منا دليل على كما قدرتنا وإرادتنا ووثوق حكمنا وتدبيراتنا إما أظهرناها { لنبين } ونظهر { لكم } كمال قدرتنا المتعلقة على جميع المقدورات المتحققة، والمقدرة على السوية بلا فتور وقصور.
{ و } بالجملة { نقر } ونثبت الولد { في الأرحام ما نشآء } ونريد ثبوته ذكرا أو أنثى، مبدلين مغيرين من صورة إلى أخرى مرارا كثيرة، { إلى أجل مسمى } سميناه وعيناه في حضرة علمنا لتسويته وتعديله { ثم } بعدما سويناه وعدلنا أركان جسمه على الوجه الذي تقتضيه حكمتنا، ونفخنا فيه من روحنا؛ إذ نفخنا الروح فيه علة غائية لإيجاده وإظهاره { نخرجكم } أي: كلا منكم من بطون أمهاتكم { طفلا } محتاجا إلى الرضاعة والحضانة { ثم } نربيكم بأنواع التربية والتغذية، ونقوي مزاجكم ومشاعركم على التدريج { لتبلغوا أشدكم } أي: كمال رشدكم وقوتكم الجسمانية، وتثمروا من المعارف والحقائق ما جبلتم لأجلها إن وفقوا من قبلنا { ومنكم من يتوفى } بعدما بلغ أشده ورشده أو قبل بلوغه { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو سن الكهولة والهرم المستلزم للخرافة ونقصان العقل وضعف القوى والآلات { لكيلا يعلم من بعد علم } متعلق منه بمعلوم مخصوص { شيئا } من أمارات ذلك المعلوم وصار عنده كأنه لم يلتفت إليه قط لغلبة الغفلة والنسيان عليه وسقوط الحفظ والإدراك عنه، كل ذلك إنما هو لإظهار قدرتنا الكاملة، وإرادتنا التامة الشامة { و } لا تتعجب من كمال قدرتنا، ومتانة صنعتنا، وحكمتنا أمثال هذا، أما { ترى } أيها الرائي { الأرض } الممهدة المبسوطة كيف كانت { هامدة } يابسة متينة جامدة بعيدة عن الرطوبة والخضرة كالرماد { فإذآ أنزلنا } وقت تعلق قدرتنا وإرادتنا بإحيائها ونضارتها { عليها المآء } المشتمل على خاصة الحياة { اهتزت } وتحركت اهتزازا شوقيا { وربت } وارتفعت من حضيض الخمود والجمود طالبا الخروج إلى فضاء الهواء والعروج إلى غاية ما أعد له من الكمال { و } بعد حركتها وارتفاعها متشوقة { أنبتت } وأظهرت بإقدارنا إياها { من كل زوج } نوع وصنف مما يخرج من الأرض { بهيج } [الحج: 5] رائق عجيب، وهذا من أوضح الدلائل والبراهين عند ذوي النهى واليقين على البعث، وإعادة المعدوم، وجميع المعتقدات الأخروية.
{ ذلك } المذكور من إيجاد المقدورات التي تستبعدها العقول السخيفة والأحلام الردية الضعيفة { بأن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { هو الحق } الثابت المحقق المقصور على الحقية والثبوت لا متحقق في الوجود سواه، ولا معبود يعبد بالحق إلا هو { وأنه } سبحانه بخصوصه المقتدر هو الحي القيوم المحيي { يحيي الموتى } بالإرادة والاختيار { وأنه } بذاته وأسمائه وصفاته هو القادر بالاستقلال { على كل شيء } دخل تحت قدرته وحيطة حضرة علمه وإرادته بالاستقلال { قدير } [الحج: 6] بلا فتور وقصور ولا تزلزل وعثور.
{ وأن الساعة } الموعودة المعهودة من عنده { آتية لا ريب فيها } إذ هي من جملة مقدورات الله التي قدر وجودها في لوح قضائه وحضرة علمه { وأن الله } المتصرف بالاستقلال والاختيار { يبعث } يوم الحشر { من في القبور } [الحج: 7] من النفوس الخيرة والشريرة، ثم يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
[22.8-13]
{ ومن الناس } المجبولين على الكفر والنسيان { من يجادل } ويكابر { في } أوامر { الله } وينكر مقدراته الماضية والآتية مع أنه { بغير علم } أي: دليل عقلي مسبوق بترتيب المعلومات اليقينية أو الظنية { ولا هدى } أي: حدس، وكشف ملهم من عند الله ملقى في روعة { ولا كتاب منير } [الحج: 8] دليل نقلي منسوب إلى الوحي، والإلهام بنور قلب من صدق به، وأخذ بما فيه إيمانا واحتسابا، ومع أنه ليس له سند عقلي ولا نقلي ولا كشفي وشهودي، معرض عن الدلائل والشواهد مع وضوحها وظهورها صارفا عنان عزمه عن التأمل فيها.
{ ثاني عطفه } يعني: لاويا عنقه وموليا جنبه عنها كبيرا وخيلاء على أصحاب الدلائل والبراهين وأرباب الكشف والشهود عتوا وعنادا، إنما فعل ما فعل من عدم الالتفات والتوجه نحو أهل الحق { ليضل } بفعله هذا ضعفاء الأنام { عن سبيل الله } الذي بينه الأنبياء وأوضحه الرسل بوحيه وإلهامه إليهم، وإنزال الكتب، والصحف عليهم { له } أي: لهذا المستكبر العاتي بسبب ضلاله وإضلاله { في الدنيا خزي } هوان وهون وطرد ولعن ونهب وأسر { ونذيقه يوم القيامة } بعد انقراض النشأة الأولى { عذاب الحريق } [الحج: 9] المحرق الذي هو عذاب النار الذي لا عذاب أشد منها.
وحين تعذيب الموكلين عليه إياه بالنار، أمرناهم أن يقولوا له على سبيل المثال التقريع والتوبيخ زجرا عليه: { ذلك } الذي لحقك وينزل عليك من العذاب المخلد { بما قدمت } وكسبت { يداك } في النشاة الأولى، وعلى مقدار ما اقترفته من المعاصي والآثام بلا زيادة عليها عدلا منا { و } اعلم أيها المسرف المبالغ في اقتراف الجرائم المستوجبة للعذاب { أن الله } المتصف بالعدل القويم { ليس بظلم للعبيد } [الحج: 10] يعني: ليس بمبالغ في جزاء الانتقام عنه مقدار الجرائم والآثام مثل مبالغته في جزاء الإنعام والإحسان تفضلا وامتنانا.
{ ومن الناس } المجبولين على نسيان المنعم، وكفران نعمه { من يعبد الله } المنزه المستغن عن إيمانه وعبادته { على حرف } أي: شاكا منتظرا على طرف بلا جزم منه فيه، وطمأنينة كالذي يتمكن يوم الوغى على طرف الجيش مترددا منتظرا، إن أحس الظفر قر في مكانه وتمكن، وإلا فر، كذلك هذا المؤمن المتزلزل { فإن أصابه } بعدما آمن وأسلم { خير } أي: شيء سره وينشطه { اطمأن به } وتمكن لأجله متفائلا بالإيمان والإسلام { وإن أصابته } بعد اختياره الإيمان والإسلام { فتنة } أي: بلية ومصيبة تمله { انقلب } ورجع { على وجهه } أي: وجهته وجهته التي تركها من الكفر متطيرا متشائما بالإيمان والإسلام وبالجملة { خسر } ذلك المتزلزل المتذبذب { الدنيا } بأنواع البليات والمصيبات { والأخرة } بالحرمان عن درجات الجنان والخلود في دركات النيران بأنواع الخسران { ذلك } الخسران المستوعب للنشأتين { هو الخسران المبين } [الحج: 11] العظيم، لا خسران أعظم منه وأفحش، وكيف لا يخسر ذلك المردود المطرود.
{ يدعوا } ويعبد { من دون الله } المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة والإطاعة استحقاقا ذاتيا ووصفيا { ما لا يضره } أي: شيئا، إن عصاه ولم يؤمن به لا يتأتى منه الضرب والانتقام { وما لا ينفعه } أي: إن أطاعه وعبده حق عبادته، لا يتأتى منه أن يثيبه ويغفر له ويحسن إليه { ذلك } أي: الإطاعة والانقياد لشيء لا يرجى منه النفع والضر { هو الضلال البعيد } [الحج: 12] عن الهداية والتوحيد بمراحل خارجة عن الحصر والتعديد.
بل { يدعو } ذلك الضال الغوي { لمن ضره أقرب } بسبب اتخاذه شريكا معه في استحقاق العبادة جهلا وعنادا، مع أنه الواحد الأحد الصمد المستقل بالألوهية والربوبية، ودخول المشرك في النار محقق، مقطوع به، فيكون ضره أقرب { من نفعه } الذي توهمه أن يشفع لأجله عند الله، والشفاعة عنده إنما هي بإذنه سبحانه أيضا فثبت ألا نفع له، والله { لبئس المولى } المعين الناصر الشفيع الأصنام والأوثان الخسيسة { ولبئس العشير } [الحج: 13] أي: الكفار الذين يعبدونهم ويوالونهم ويتخذونهم أربابا يطمعون منهم الشفاعة عند الله، من أن ترك المحقق المجزوم، وأخذ المعدوم الموهوم ما هو إلا كفر باطل وزيغ عاطل زائل.
ربنا اهدنا بفضلك إلى سواء السبيل.
[22.14-18]
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد: { إن الله } الهادي لعباده إلى دار السلام { يدخل الذين آمنوا } أي: سيقوا بالإيمان بالله، وتصدق رسله وكتبه { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } التي أمرهم سبحانه في كتبه وأجراهم على ألسنة رسله بالإتيان والامتثال بها، واجتبوا عن النوهي التي نهاهم سبحانه عنها { جنات } متنزهات من العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: المعارف والحقائق الجزئية المتجددة بتجددات الأمثال، وهي الرموز والإرشادات التي يتفطن بها العارف من ظواهر المظاهر المرتبطة بالشؤون والتجليات الإلهية وبالجملة { إن الله } الموفق لخواص عباده { يفعل } معهم { ما يريد } [الحج: 14] من الصلاح والفوز بالنجاح، والتحقق بمقام الرضا وشرف اللقاء.
ثم لما اعتقد المشركون من في قلبه عداوة راسخة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشيكمة شديدة، وغيظ مفرط ألا نصر ولا إعانة له من عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة كما زعمه رد الله عليهم نصرا له وترويجا لقوله، فقال: { من كان يظن أن لن ينصره الله } ولن يعين رسوله صلى الله عليه وسلم لا { في الدنيا } ولا في { والآخرة } بل ما ادعاه من نصر الله إياه في الدنيا والآخرة، إنما هو لإثبات دعوه وترويج مدعاه، وإلا فلا نصر له ولا ناصر، يقال للمنكر: إن شئت إزالة غيظك وحسدك عنه صلى الله عليه وسلم { فليمدد بسبب } أي: بحبل { إلى السمآء } أي: نحوها وارتفع معلقا بالحبل إلى أن يتباعد من الأرض مسافة بعيدة { ثم } يقال له بعدما ارتفع من الأرض: { ليقطع } الحبل وانفصل عنه، فقطع فوقع { فلينظر } بعدما وقع { هل يذهبن كيده } مكره وحيلته { ما يغيظ } [الحج: 15] أي: غيظه برسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم.
وباجملة ما يزول إنكار المنكرين، وغيظ المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الحيلة والكيد.
{ وكذلك } أي: مثلما نصرناه صلى الله عليه وسلم في وقائع كثيرة { أنزلناه } أيضا لتأييده ونصره { آيات } أي: دلائل { بينات } واضحات دالة على صدقة في دعواه النبوة والرسالة والتشريع العام والإرشاد التام { و } أنزلناه أيضا على سبيل العظة والتعليم { أن الله } الهادي للعباد، الموفق لهم إلى سبيل الرشاد { يهدي } بعدما بينت لهم طريق الهداية والسداد بوحي الله إياك يا أكمل الرسل { من يريد } [الحج: 16] ويتعلق إرادته ومشئته سبحانه لهدايته ورشاده، ومن يتعلق بضلاله أضله.
وبالجملة ما عليك إلا البلاغ، وعلى الله الهداية والرشاد، فلا تتعب نفسك في هداية من أحببت،
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص: 56] بل أمر الهداية والضلال إنما هو مفوض إلى الكبير المتعال.
لذلك قال سبحانه: { إن الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم الهادي للناس إلى توحيد الذات، والصفات، والأفعال جميعا { والذين هادوا } وهم الذين آمنوا بموسى عليه السلام الهادي لأمته إلى توحيد الصفات { والصابئين } الذين يدعون الاطلاع على سرائر الكواكب والأجرام العلوية { والنصارى } وهم الذين يصدقون بعيسى عليه السلام الهادي لأمته إلى توحيد الأفعال { والمجوس } الذين يدعون التمييز بين فاعل الخير وفاعل الشر { والذين أشركوا } بالله المنزه عن الشريك، كل من هؤلاء المذكورين يدعي الحقية لنفسه، والباطل لغيره { إن الله } المطلع لسرائرهم وضمائرهم { يفصل بينهم } أي: بين من هو المحق منهم والمبطل { يوم القيامة } وكيف لا يميز ويفصل سبحانه { إن الله } المتجلي في الآفاق والأنفس { على كل شيء شهيد } [الحج: 17] أي: حاضر مع كل شيء رقيب عليه، غير مغيب عنه أصلا.
{ ألم تر } أيها الرائي ولم تعلم { أن الله } المظهر لجميع المظاهر { يسجد } أي: يذلل ويخضع { له من في السموت } من العلويات { ومن في الأرض } من السفليات وخصوصا معظمات الأجرام العلوية وهي { والشمس والقمر والنجوم } ومعظمات الأجسام من السلفيات { و } هي { الجبال والشجر والدوآب و } يسجد له أيضا طوعا { كثير من الناس } المجبولين على فطرة التوحيد، المخلوقين على استعداد الإيمان، وقابلية المعرفة والإيقان { وكثير } منهم لانحرافهم عن الفطرة الأصلية بتقليد آبائهم ومعلميهم الذين يضلونهم عن سواء السبيل لذلك { حق عليه العذاب } وثبت له العقاب في لوح القضاء وحضرة العلم { ومن يهن الله } وأسقط رتبته وحط درجته { فما له من مكرم } معل رافع { إن الله } المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم { يفعل } معهم { ما يشآء } [الحج: 18] على مقتضى علمه وخبرته.
ثم لما تطاول نزاع اليهود مع المؤمنين وتمادى جدالهم وخصومتهم حيث قال اليهود: نحن أحق بالله منكم لتقدم ديننا، وشرف نبينا، وفضل كتابنا، وقال المؤمنون: نحن أحق منكم؛ لأن ديننا ناسخ جميع الأديان، ونبينا خاتم دائرة النبوة والرسالة، ومتمم مكارم الأخلاق، وكتابنا الجامع لما في الكتب السالفة الناسخة لبعض أحكامها أفضل من سائر الكتب، ونحن أيضا لا ننكر نبيا من الأنبياء، وكتابا من الكتب، وأنتم أنكرتم عيسى عليه السلام ودينه وكتابه وديننا ونبينا وكتابنا، مع أنه مذكور في كتابكم، وأنتم تعلمون حقيته وتنكرونه عنادا.
[22.19-25]
أورد سبحانه في كتابه قصتهما وحكم بينهما فقال سبحانه: { هذان } الفوجان؛ يعني: المؤمنين واليهود { خصمان اختصموا في ربهم } مع وحدة ذاته وشمول تربيته وألوهيته لجميع البرايا { فالذين كفروا } بالله المتوحد بذاته وأثبتوا له شركا، وفرقوا بين كبته ورسله بالإقرار والإنكار، والتصديق والتكذيب { قطعت } أي: أعدت وهيئت { لهم ثياب } وملابس متخذة { من نار } شبهها بالثبات لإحاطتها وشمولها ومع ذلك { يصب من فوق رءوسهم الحميم } [الحج: 19] الماء الحار البالغ نهاية الحرارة.
بحيث { يصهر } ويذاب { به ما في بطونهم } من الشحوم وغيرها { و } كذا يذاب به { الجلود } [الحج: 20].
{ ولهم } أي: لردهم ودفعهم زجرا وقهرا { مقامع } سياط مصنوعة { من حديد } [الحج: 21] بيد من ءوكل عليه من الزبانية { كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها } أي: من النار { من غم } وهم وكآبة، عرض لهم من شدة العذاب، فطلبوا الخروج تخفيفا، وترويحا حين التقطهم اللهب إلى الطرف الأعلى منها { أعيدوا فيها } زجرا ضاربين عليهم بالمقامع { و } قائلين لهم { ذوقوا } أيها المصرون على الكفر والعناد، المسرفون المفسدون بأنواع الفجور والفساد { عذاب الحريق } [الحج: 22] المحرق أكبادكم بدل ما تبردونها بالسحت والرشى.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إن الله } المتجلي على أهل الإيمان بالتجليات الحبية الجمالية { يدخل الذين آمنوا } بتوحيد الله مخلصين { وعملوا الصالحات } المقبولة عنده المقربة إليه { جنات } وحدائق ذات بهجة ترويحا لهم وتفريحا، وانشراحا لصدورهم، وتفريحا لغمومهم حيث { تجري من تحتها الأنهار } المذهبة للهموم الفارجة للكروب { يحلون فيها } تذهيبا وتزيننا لظواهرهم من عكوس بواطنهم { من أساور } متخذة { من ذهب ولؤلؤا } بها يرصع أساورهم { ولباسهم } دائما { فيها حرير } [الحج: 23] تليينا لبشرتهم وتكميلا لترفههم وتنعمهم.
{ و } لا يقتصر عليهم فيها على تزيين الظاهر وتفريح الباطن، بل { هدوا إلى الطيب من القول } ليتصفوا بالصدق والتصديق، ويداوموا على شكر الله بقولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وبقولهم: الحمد لله الذي هدانا لهذا، { و } بعدما تصفوا بالصدق والعدالة في الأقوال والأفعال { هدوا إلى صراط الحميد } [الحج: 24] الذي هو التوحيد المسقط للإضافات مطلقا، سمي به لاستحقاقه الحمد لذاته.
ثم قال سبحانه: { إن الذين كفروا } بتوحيد الله وأعرضوا عن شعائر دينه { و } مع ذلك هم { يصدون } ويصرفون الناس أيضا { عن سبيل الله } ومعالم الهدى واليقين لا في وقت دون وقت بل دائما مستمرا { و } خصوصا عن { المسجد الحرام } الذي منه الصد والمنع مطلقا؛ لأنه { الذي جعلناه } قبله { للناس } كافة، وفرضنا عليهم الطواف حولها من استطاع منهم إليها سبيلا، ولهذا ما صارت مكة ومن حولها ملكا لأحد، بل صار الكل فيها { سوآء العاكف } المقيم { فيه والباد } المسافر الوارد عليه { ومن يرد } ويقصد سواءا بالنسبة إليه من صدود وغيره مع أنه مقيم { فيه } وصدر ذلك عنه { بإلحاد } وميل مقرون { بظلم } أي: عن قصد وعمد لا عن خطأ وسهو ونسيان { نذقه } بمجرد قصده الذي لم ينته إلى الفعل والصدور { من عذاب أليم } [الحج: 25] مؤلم فجيع.
[22.26-30]
{ و } كيف لا نذيقه من عذابنا الأليم، إذ بناء بيتنا هذا على الطهارة الكاملة من جميع الآثام، اذكر يا أكمل الرسل { إذ بوأنا } أي: بينا وعينا { لإبراهيم } حين شرفناه بأمرنا المتعلق بيناء بيتنا هذا { مكان البيت } أي: الكعبة بعدما اندرست وسقطت بالطوفان، وصارت سوى لا علامة لها أصلا، فأعلمنا له بريح أرسلناها مع إبراهيم فكنست الريح حولها فبناه على بنائه الذي بناه آدم عليه السلام، وأوصينا { أن لا تشرك بي شيئا } من مظاهري وأظلالي في الوجود معي { و } بعدما نزهت ذاتي عن الشريك والنظير { طهر بيتي } هذا الممثل من بيتي الذي في صدرك عن جميع المعاصي والآثام والمؤذيات والقاذورات، وأنواع الخبائث والمكروهات، إذ جعلناه قبلة ومقصدا { للطآئفين } القاصدين بطوافهم حول البيت التحقق عند كعبة الذات والوقوف على عرفات الأسماء والصفات { والقآئمين } المواظبين بالتوجه الدائمي، والميل الشوقي الحقيقي الحبي بجميع الأركان والجوارح نحو الذات الأحدية، المنقطعين عن جميع العلائق والإضافات { والركع } الراكعين الذين قصمت ظهور هوياتهم عن حمل أعباء العبودية { السجود } الحج: 26] أي: الساجدين المتذللين الخاضعين الواضعين جباه أنانيتهم على تراب المذلة والانكسار لدى الملك الجبار القهار لسمت السوى والأغيار.
{ و } بعدما أوصيناه بما أوصيناه قلنا آمرا إياه: { أذن } وأعلم إعلاما عاما { في } حق عموم { الناس } وبشرهم { بالحج } أي: أعلم الداني والقاصي منهم بوجوب الحج عليهم، لزمهم أن { يأتوك } ويزوروا بيتك ويطوفوا حولها آتين { رجالا } مشاة إن كانوا من الأداني { و } ركبانا { على كل ضامر } بعير مهزول أهزله وأتعبه بعد المسافة؛ إذ { يأتين من كل فج } طريق { عميق } [الحج: 27] غائر بعيد إن كانوا من الأقاضي، وإنما أمرناهم بالحج وفرضناه عليهم { ليشهدوا منافع لهم } أي: أمكنة ينفعهم الحضور فيها والوقوف بها منافع النشأة الأخرى، ونسهل عليهم سلوك طريق التوحيد بالفناء والإفناء، والانقطاع عن حطام الدنيا، والتعري عن لباس البأس والعناء، التخلص عن مقتضيات القوى، والتجلي بلباس التقوى، والتشمر نحو جناب المولى، والتجرد عن موانع الوصول إلى دار البقاء من الأموال والأبناء { ويذكروا } فيها { اسم الله } المشتمل لجميع الأوصاف والأسماء، المحيط بجميع الأشياء إحاطة الشمس على جميع الأظلال والأضواء بلا تركيب وانقسام إلى أبعاض وأجزاء سيما { في أيام معلومات } عينها الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء للتوجه والدعاء، وهي عشر ذي الحجة، وقيل: أيام النحر { على } ذبح { ما رزقهم } الله وأباحهم { من بهيمة الأنعام } مما ملكت أيمانهم، متقربين بها إلى الله هدية أو أضحية { فكلوا } مما ذبحتم { منها وأطعموا البآئس الفقير } [الحج: 28] الذين شملهم بؤس الفقر وإحاطته شدة الفاقة.
{ ثم } بعد ذبح الهدايا والضحايا { ليقضوا } وليزلوا { تفثهم } أي: أوساخهم العارضة لهم من رين الإمكان، وطغيان الهويات، ومقتضى الأنانيات { و } بعد تطهير أوساخ الإمكان { ليوفوا نذورهم } التي نذروها في قطع بوادي تعيناتهم، ومهاوي هوياتهم من ذبح بقرة أمارتهم المضلة عن سواء السبيل { و } بعدما طهروا من الأوساخ ووافوا بالنذور { ليطوفوا } منخلعين عن خلع ناسوتهم، متجردين عن ثياب بشريتهم { بالبيت العتيق } [الحج: 29] والركن الوثيق الأزلي الأبدي، الذي لا يحلقه انصرام، ولا يعرضه انقراض وانخرام، فالأمر ذلك لمن أراد سلوك طريق الفناء، والحج الحقيقي، والطواف المعنوي.
{ ذلك ومن يعظم حرمات الله } أي: ومن يحافظ على حرمة ما حرمه الله في أوقات الحج ولم يهتك حرمتها ليجبرها بدم { فهو } أي: الحفظ بلا هتك حرمة { خير له } مقبول { عند ربه } من هتكها وجبرها بدم { و } اعلموا أيها المؤمنون { أحلت لكم } في دينكم { الأنعام } كلها بأنواعها وأصنافها، وشرب ألبانها، والانتفاع بأشعارها وأوبارها والتقرب بها إلى الله في أوقات الحج { إلا ما يتلى عليكم } في كتابكم تحريمه بقوله تعالى:
حرمت عليكم الميتة
[المائدة: 3] ومتى عرفتم ما أحل الله لكم { فاجتنبوا } أيها الموحدون { الرجس } والقذر الذي هو { من الأوثان } أي: من قبلها، إذ هي شرك مناف للتوحيد والشرك من أخبت الخبائث { واجتنبوا } أيضا { قول الزور } [الحج: 30] والبهتان، إذ هو ظلم والظلم مقرون باكفر، والشرك معدود من عداده مسقط للمروءة والعدالة اللازمة لأهل الإيمان والتوحيد.
[22.31-37]
يعني: اجتبوا عن الشرك والمعاصي المنافية للتوحيد، وكونوا { حنفآء لله } مخلصين له غير مائلين عن دينه { غير مشركين به } شيئا من مظاهره ومصنوعاته { و } اعلموا أيها العقلاء الموحدون أن { من يشرك بالله } الواحد الأحد المنزه عن الشريك مطلقا سواء كان شركه خفيا أو جليا { فكأنما خر } وسقط { من السمآء } أي: أوج الإيمان وأعلى درجة التوحيد والعرفان { فتخطفه } أي: إذا سقط أخذه { الطير } فجأة في الهواء، فيرميه في حضيض غائر بعيد عن العمران { أو تهوي به الريح } حين سقوطه منها فتطرحه { في مكان سحيق } [الحج: 31] بعيد، وواد عميق.
وبالجملة من يشرك بالله - والعاي به منه - فقد وقع في هاوية الضلال بحيث لا يرجى نجاته منها أصلا، الحكم والأمر.
{ ذلك } المذكور لمن أشرك بالله، ونسي الأدب معه، ولم يعرف حق قدره { ومن يعظم شعائر الله } المأمورة في أداء الحج، ويوقرها حق توقيرها وتعظيمها { فإنها } أي: تعظيمها وتحسينها ناشئة { من تقوى القلوب } [الحج: 32] الناظرة إلى الله بنور الحق في جميع حالاتها.
{ لكم } أيها المؤمنون الناسكون بمناسك الحج { فيها } أي: في الهدايا والضحايا { منافع } درها وصوفها وشعرها وظهرها ونسلها { إلى أجل مسمى } أي: إلى حلول وقت عينه سبحانه لذبحها { ثم } بعدما قرب وقتها، وحان حينها { محلهآ إلى البيت العتيق } [الحج: 33] أي: محل ذبحها عند البيت العتيق؛ أي: جميع الحرم حواليه.
{ ولكل أمة } من الأمم الماضية { جعلنا منسكا } أي: مذبحا معينا يتقربون فيه إلينا، ويهدون نحونا بهدايا وقرابين وإنما أعطيناهم ذلك { ليذكروا اسم الله } عند التذكية والذبح { على ما رزقهم } مما ملكت أيمانهم { من بهيمة الأنعام } قيدنا لهم؛ لأن الخيل والحمير لا يليق بالقربان والهدي، وبعدما علمتم أن لكل أمة مذبحا معينا ومنسكا مخصوصا يتقربون فيها إلينا { فإلهكم } أي: فاعلموا أن إلهكم { إله واحد } أحد صمد فرد وتر لا تعدد فيه ولاشركة { فله أسلموا } وتوجهوا إن كنتم مسلمين أموركم إليه { وبشر } يا أكمل الرسل من بين المؤمنين المسلمين بالمثوبة العظمى، والدرجة العليا، والفوز بشرف اللقيا { المخبتين } [الحج: 34] المطيعين الخاضعين المتواضعين الذين خبت، وخمدت نار شهواتهم من بأس الله وخشيته.
وهم { الذين إذا ذكر الله } القادر المقتدر بالإنعام والانتقام { وجلت } وخشيت { قلوبهم } خوفا من قهره وغضبه، وصولة صفات جلاله وسطوة سلطنته وكبريائه { و } أيضا { الصابرين على مآ أصابهم } من المصيبات والبليات التي جرى حكم الله عليه في سابق قضائه { والمقيمي الصلاة } المفروضة بأوقاتها مع شرائطها، وأركانها، وآدابها تقربا إليه، وتوجها نحوه بكمال الخضوع، والخشوع، والتذلل، والانكسار { ومما رزقناهم } و استخلفناهم عليه، ونسبناه إليهم { ينفقون } [الحج: 35] على الوجه الذي أمرناهم به، أي: على المصارف المذكورة في قوله سبحانه:
إنما الصدقات للفقرآء
[التوبة: 60]. متقربين بها إلى الله.
{ و } جعلنا خير الهدايا والضحايا { البدن } جمع: بادن كبذل جميع باذل، وهي: الإبل خاصة سميت بها؛ لعظم بدنها وجسامتها، وغلاء ثمنها، وعظم وقعها في نفوس الناس لذلك { جعلناها لكم من شعائر الله } وأعلام دينه ومعالم بيته { لكم فيها خير } كثير، وأجر جزيل، وثواب عظيم عند الله إن ذبحتموها، وإذا أردتم ذبحها { فاذكروا اسم الله عليها } عند تذكيتها قائلين: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك، وما لنا إلا امتثال ما أمرتنا به، والسر عندك ولديك، والحكمة دونك، واذبحوها { صوآف } أي: صافة قوائمها مشدودة محكمة، ثم تطعنون في لباتها { فإذا وجبت } وسقطت { جنوبها } على الأرض وخرجت روحها من الجسد { فكلوا منها } إن شئتم { وأطعموا } أيضا { القانع } وهو الفقير يقنع بما يعطى، ولا يبادر إلى السؤال والإلحاح { و } أطعموا أيضا { المعتر } وهو الذي يبادر إلى السؤال قبل الإعطاء، ويبالغ فيه { كذلك } أي: على الوجه المذكور { سخرناها } وذللناها؛ أي: البدن { لكم } مع أنها في كمال القوة والجسامة، وأنتم في غاية الضعف، كي تتفطنوا من تسخيرها وتذليلها عليكم إلى تذليل أمارتكم المسلطة عليكم، فذبحتموها في طريق الحق مشدودة قوائم قواها عن مقتضاها { لعلكم تشكرون } [الحج: 36] نعمة الإقدار والتوفيق عليها، وتعطون بدلها من لدنه سبحانه: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
واعلموا أيها المتقربون إلى الله بالهدايا والضحايا: { لن ينال الله } أي: لن يصيب ويصل إليه سبحانه { لحومها } المتصدق بها، إذ هو منزه عنها وعن الانتفاع بها { و } أيضا { لا } يصل إليه سبحانه { دمآؤها } المهراقة { ولكن يناله } ويصل منها إليه سبحانه { التقوى منكم } أي: التحرز والاجتناب عن محارمه ومنهياته والامتثال بأوامره والإتيان بمأموراته، وبالجملة بقربكم إليه سبحاه امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لا اللحوم والدماء.
ثم كرره سبحانه تأكيدا أو مبالغة بقوله: { كذلك سخرها لكم } أي: الهدايا والضحايا { لتكبروا الله } المتعزز بالعظمة والكبرياء، المستقل بالمجد والبهاء حق تكبيره، وتعظموه حق تعظيمه وتوقيره { على ما هداكم } وأرشدكم إلى الإيمان والتوحيد { وبشر } يا أكمل الرسل { المحسنين } [الحج: 37] منهم، وهم الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، ويحسنون الأدب معه ، كأنهم ينظرون إليه سبحانه.
[22.38-43]
ثم لما خشي المؤمنون على معاداة المشركين، وخافوشا عن مخاصمتهم، وغيظهم إذا خرجوا نحو مكة للزيارة والطواف قاتلوا معهم، وأكبوا عليهم وعلى أموالهم، وأسروا أولادهم، أزال الله سبحانه عنهم الرعب وأسقط عنهم الخشية بقوله: { إن الله } المتكفل لأمور عباده، الحفيظ عليهم عما يؤذيهم { يدافع } كيد الكفرة العداة البغاة الطغاة { عن الذين آمنوا } بالله وصدقوا بشعائر دينه، وقصدوا إقامتها على أمره ووحيه، كيف لا يدفع سبحانه مع كمال قدرته خيانة من خان بأحبائه وأصدقائه { إن الله } المنتقم لأعدائه { لا يحب كل خوان } مبالغ في الخيانة سيما مع أوليائه وأحبائه { كفور } [الحج: 38] مبالغ في كفران نعمه، حيث صرفها في غير محله مثل: هدي الكفرة، وذبحهم لأصنامهم وأوثانهم.
ثم لما اشتد إضرار الكفرة بالمسلمين وامتد أذاهم عليهم ظلما وعدوانا، أراد المؤمنون أن يقاتلوا ويشاجروا معهم، منعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال والحراب بإذن الله ووحيه سبعين مرة لنزول آية في المنع عنه، وقال صلى الله عليه وسلم في كل مرة: أصبروا حتى يأمر الله.
ثم لما شق على المسلمين ظلمهم وضررهم وصاروا مهانين صاغيرين مع قدرتهم على مقاتلتهم ومدافعتهم { أذن } ورخص من جانب الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم { للذين يقاتلون } أي: يريدون القتال معهم بعدما تحلموا كثيرا من أذاهم وظلمهم، فنزل هذه الآية للرخصة بعدما نزلت سبعون آية بعدمها، لذلك قيل نسخت هذه الآية نيفا وسبعين، وإنما رخصهم سبحانه بها { بأنهم ظلموا } أي: بسبب أنهم صاروا مظلومين صاغرين عن أذى الكفار والمشركين { وإن الله } القادر المقتدر { على نصرهم } أي: نصر الأولياء على الأعداء { لقدير } [الحج: 39] لينصرهم ويغلبهم عليهم، وإن كانوا أكثر منهم، وكيف لا ينتقم سبحانه عن أعدائه لأجل أوليائه؟.
إذ هم { الذين أخرجوا من ديارهم } ظلما وعدوانا { بغير حق } ورخصة شرعية موجبة للإخراج والإجلاء { إلا أن يقولوا } أي: لا موجب لأخراجهم سوى قولهم هذا: { ربنا الله } الواحد الأحد الصمد المنزه عن الشريك والولد { و } كيف لا يدفع سبحانه شر الكفرة عن أوليائه الموحدين؛ إذ { لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } أي: بتسليط أهل الإيمان على المشركين المعاندين { لهدمت } وخرجت باستيلاء الأعداء على الأولياء { صوامع } للرهابنة { وبيع } للنصارى { وصلوات } هي كنائس اليهود { ومساجد } للمسلمين، إنما عد كل واحد منها { يذكر فيها } أي: في كل واحد منها { اسم الله كثيرا } أي: حينا كثيرا، وذكرا كثيرا { و } الله { لينصرن الله } المتكفل بعباده { من ينصره } ويعين دينه ونبيه ويصدق كتابه { إن الله } المطلع لما في صدور عباده من الإخلاص { لقوي عزيز } [الحج: 40] غالب قادر على الإنعام والانتقام لأوليائه من أعدائه، كما سلط ضعفاء أهل الإيمان على صناديد العرب والعجم من الأكاسرة والقياصرة، وشاع دينهم بين الأنام إلى يوم القيامة.
وكيف لا ينصرهم سبحانه، إذ هم: { الذين إن مكناهم } وقدرناهم وجعلنا لهم التصرف والاستيلاء { في الأرض } المعدة للطاعات والعبادات { أقاموا } وأداموا { الصلاة } والميل إلينا بجميع جوارحهم وأركانهم ميلا مقرونا بأنواع الخضوع، والخشوع، والاستكانة، والانكسار، تطهيرا لنفوسهم عن العتو والاستكبار، وتقريبا لهم إلينا على وجه المذلة والافتقار { و } مع ذلك { آتوا الزكاة } المصفية لبواطنهم عن الميل إلى زخرفة الدنيا الغدارة { وأمروا } على من دونهم { بالمعروف } المستحسن عقلا وشرعا { ونهوا عن المنكر } المستقبح شرعا وعرفا على الوجه المبين لهم من ألسنة رسلهم كتبهم المنزلة عليهم من الله { ولله } المدبر لأحوال عباده { عاقبة الأمور } [الحج: 41] أي: مرجع جميع الأمور الجارية فيما بينهم، المتعلق بتهذيب ظواهرهم، وموانع بواطنهم عن موانع الوصول إلى مرتبة التوحيد.
ثم لما تغمم رسول الله صلى لله عليه وسلم وتحزن من تكذيب قومه إياه صلى الله عليه وسلم، ونسبتهم له ما لا يليق بشأنه، أراد سبحانه أن يسلي حبيبه صلى الله عليه وسلم ويزيل عنه همه فقال: { وإن يكذبوك } قومك يا أكمل الرسل لا تبال بهم وبتكذيبهم { فقد كذبت قبلهم } أي: قبل أمتك { قوم نوح } أخاك نوحا عليه لاسلام { وعاد } أخاك هودا عليه السلام { وثمود } [الحج: 42] أخاك صالحا عليه السلام.
{ وقوم إبراهيم } جدك الخليل أبا الأنبياء - عليه وعليهم السلام - { وقوم لوط } [الحج: 43] أخاك لوطا عليه السلام.
[22.44-50]
{ وأصحاب مدين } أخاك شعيبا عليه السلام { و } لا سيما { كذب موسى } يعني: كذب بنو إسرائيل أخاك موسى الكليم عليه السلام مرارا متعددة، مع أن آياته ومعجزاته من أظهر الآيات وأبهر المعجزات { فأمليت } وأملهت { للكافرين } المكذبين المعاندين المستكبرين { ثم أخذتهم } بأنواع العذاب والنكال إلى أن أهلكتهم وأستأصلتهم { فكيف كان نكير } [الحج: 44] إياهم وإنكاري عليهم بعد إمهالي بأن النعمة عليهم نقمة، والمنحة محنة، واللذة ألما، والفرح ترحا، والقصور قبورا.
ولا تتعجب يا أكمل الرسل من كمال قدرتنا وبسطتنا أمثال هذا { فكأين من قرية أهلكناها } أي: أهكلنا كثيرا من أهل قرية بأنواع العذاب والعقاب { وهي ظالمة فهي } أي: أهلها خارجة عن مقتضى حدود الله فهي الآن من ظلم أهلها { خاوية } ساقطة { على عروشها } أي: ساقطة جدرانها على سقوفها من غاية انهدامها وانتكاسبها { و } كم { بئر } معينة { معطلة } لا يستقى منها لهلاك أهلها { و } كم { قصر } عال { مشيد } [الحج: 45] محكم أركانه وبنيانه، مجصص أساسه وجدرانه، خال عن ساكنيها، غير مسكون فيها.
{ أ } ينكرون هذه المذكورات { فلم يسيروا } ويسافروا { في الأرض } المعدة للعبرة والاستبصار { فتكون } وتحصل { لهم قلوب يعقلون } ويعتبرون { بهآ } من الوقائع الواقعة فيها للأم الهاكة { أو } تحصل لهم { آذان } وقوة استماع { يسمعون بها } أخبارهم وآثارهم، وكيفية إهلاكهم واستئصالهم { فإنها } أي: شأن قصصهم ووقائعهم أنها { لا تعمى الأبصار } منها؛ لأن الأبصار تشاهد آثارهم وأطلالهم { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [الحج: 46] إذ لم يعتبروا منها ولم يستبصروا ولم ينظروا إليها نظر المعتبر المتأمل والمستبصر الخبير، والجملة من لم يعتبر بما جرى على الأمم الهالكة من الوقائع الهائلة، فهم عمي قلوبهم وإن كانت أعينهم صحيحة.
وبعدما استبطأ الكفار نزول العذاب الموعود وقالوا:
متى هذا الوعد
[يونس: 48] نزل: { ويستعجلونك } يا أكمل الرسل { بالعذاب } الموعود على لسانك { ولن يخلف الله } الصادق في { وعده } الذي وعده وإن كان بعد حين، سينزل ألبتة { وإن يوما } من أيام العذاب { عند ربك } يا أكمل الرسل { كألف سنة مما تعدون } [الحج: 47] في الدنيا في الشدة والعناء، فلا تستعجلوه يا هؤلاء الحمقى؟.
{ وكأين من قرية } أي: من أهلها { أمليت } وأمهلت { لها } وأخرت عنها عذابها { وهي ظالمة } أهلها مستحقة للعذاب أمثالكم { ثم أخذتها } بالعذاب الشديد بعدما كمل وازداد أهلها موجباته { و } لا مخلص لهم منه؛ إذ { إلي المصير } [الحج: 48] أي: مرجع الكل إلي ومنقبلهم عندي، ولا مقصد لهم غيري، وإن لم يعرفوا.
{ قل } يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة الكذب صادرا عن محض الحكمة: { يأيها الناس } المجبولون على الغفلة والنسيان { إنمآ أنا لكم نذير } مرسل من عند الله { مبين } [الحج: 49] مظهر لكم موانعكم وعوائقكم عن طريق الحق وطريق مستقيم.
{ فالذين آمنوا } منكم بالله وصدقوا رسله وكتبه { و } مع الإيمان والتصديق { عملوا الصالحات } المأمورة لهم على ألسنة رسلهم وكتبهم المقبولة المرضية عند ربهم { لهم } بواسطة إيمانهم وعملهم { مغفرة } ستر وعفو لما مضى من الذنوب، وجرى عليه من المعاصي { ورزق كريم } [الحج: 50] من الصوري والمعنوي في الجنة جزاء لإيمانهم وصالح أعمالهم.
[22.51-55]
{ والذين سعوا } وبذلوا وسعهم وجهدهم { في } إبطال { آياتنا } وردها وتكذبها، ومع ذلك صاروا { معاجزين } مسابقين ومبادرين إلى رد الممتثلين المصدقين بها وإنكارهم { أولئك } الأشقياء والمردودون هم { أصحاب الجحيم } [الحج: 51] وملازموها لا نجاة له منها أصلا.
ثم لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرار قومه على الكفر وشدة عنادهم وشيكمتهم عليه وعلى دينه، تمنى أن يأتيه الله ما يقاربهم ويحببهم معه، ويزل غيظه عن قلوبهم ويلينها، فأنزل الله سبحانه سورة:
والنجم
[النجم: 1] فقرأها فرحا وسرورا كي يسمعوا، ويميلوا إلى طريق الحق، فلما وصل إلى قوله تعالى:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى
[النجم: 10-20] توجهت قريش نحوه، والتفتوا إليه على وجه يشعرهم التلقي والقبول، فيلهي تلقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم فغفل عن قلبه وشغل، ألقى الشيطان على لسانه في أثناء كلامه على مقتضى مناه ومتمناه، وأسمعهم الآية هكذا: تلك الغرانيق العلى منهم شفاعة ترتجى، ففرحت بذلك قريش، وفلم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم ما صدر عنه لاستغراقه في أمنيته، فوجودهم مائلين نحوه، محسنين له، وازداد تحسينهم ومحبتهم له إلى أن سجدوا في آخر السورة المؤمنون والمشركون جميعا، فسر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرت قريش معه، ومن كلامه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: إن محمدا قد ذكر شفعاءنا بالخير.
فجاء جبريل عليه السلام فأخبر بما صدر عنه من تخليط الوحي بغير الوحي، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد اغتمام، وخاف خوفا شديدا من غيرة الله وقهره.
فأنزل اله سبحانه تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وإزالة لخوفه: { ومآ أرسلنا من قبلك } يا أكمل الرسل { من رسول } ذوي وحي وشرع وكتاب { ولا نبي } ذي وحي ومنام أو إلهام، له شرع وكتاب أو شرعة بعث لترويج شرع غيره من الأنبياء والرسل وكتبهم { إلا إذا تمنى } وطلبت شيئا أحب وقوعها من تلقاء نفسه بلا ورود وحي عليه وتمنى من الله أن ينزل عليه من الآيات مناسبا لما أمله وأحبه { ألقى الشيطان } من تسويلاته وتغريراته { في أمنيته } ومبتغاه فيلهيه عن نفسه ويخلط بالوحي من تسويلاته، ثم بعدما تنبه وتذكر ورجع إلى الله متندما تائبا آيبا { فينسخ الله } المؤيد لأنبيائه الحفيظ عليهم { ما يلقي الشيطان } ويزيله { ثم } بعدما أزال ونسخ سبحانه ما خلط الشيطان وأدخله في خلال الوحي من تلبساته { يحكم الله آياته } المنزلة من عنده، ويخبر بها، ويفصلها إحكاما تاما وإتقانا محكما { والله } المدبر لأحوال عباده واستعداداتهم { عليم } بما أنزل عليهم بما يناسب استعدادهم { حكيم } [الحج: 52] في إنزلاه وتدبير مصالحهم.
فإن توهم أن الله قادر على محافظة أنبيائه ورسله، سيما نبينا صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشيطان وتغريره وتخليطه إياهم أول مرة، فلم لم يحفظهم من إلقائه حتى لا يصدر عنهم ما صدر ثم نسخ؟ قيل: إنما لم يحفظهم سبحانه أول مرة { ليجعل } سبحانه { ما يلقي الشيطان } في أثناء الوحي { فتنة } وابتلاء { للذين في قلوبهم مرض } ميل عن الحق وانحرام عن طريقه، هل يعرفون ويميزون كلام الحق من تسويلات الشياطين أم لا؟ { و } لاسيما المرضى { القاسية قلوبهم } عن أن يسع فيها كلام الله، هم المشركون الذين ختم الله على قلوبهم وعلى أبصارهم، وعلى سمعهم غشاوة عظيمة وغطاء غليظ، تعميهم عن آيات الله، وإدراك مقاصده وبالجملة إن الظالمين المتجاوزين عن مقتضى العقل والشرع لاتخاذهم الجمادات التي نحتوها بأيديهم شركاء لله شفعاء عنده { وإن الظالمين لفي شقاق } خلاف وجدال { بعيد } [الحج: 53] عن الحق بمراحل
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
{ وليعلم الذين أوتوا العلم } اللدني من دون الله ووفقوا من عنده لقبول أحكامه { أنه } أي: القرآن وآياته المشتملة على الأومر والنواهي، والأحكام والمعارف والحقائق، أو إقداره سبحانه على الشيطان بإلقائه المذكور افتنانا منه سبحانه و ابتلاء { الحق } الثابت المحقق النازل { من ربك } يا أكمل الرسل { فيؤمنوا به } أي: بالله بإنزاله القرآن أو بإقداره على الشيطان أن يلقي على لسان أنبيائه اختبارا لعباده { فتخبت } وتطمئن { له قلوبهم } ويزداد وثقوهم، وصاروا على خطر عظيم واحتياط بليغ { وإن الله } المطلع لضمائر عباده { لهاد الذين آمنوا } وأخلصوا بلا شوب شك وتردد { إلى صراط مستقيم } [الحج: 54] موصل إلى توحيده بلا عوج وانحراف.
{ ولا يزال الذين كفروا } بالله وانصرفوا عن مقتضيات آياته الكبرى لمرض صدروهم وعمى قلوبهم { في مرية } أي: شك وارتياب { منه } أي: من القرآن، أو من ابتلاء الله إياهم بإلقاء الشيطان { حتى تأتيهم الساعة } أي: أشراطها وأماراتها { بغتة } فجأة، وهم في ريبهم يترددون { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } [الحج: 55] هو عذاب يوم القيامة، وصفه بالعقم؛ لأنه لا يقبل فيه توبة، ولا إيمان، ولا شفاعة، كأنه عقيم لا بلد لهم خيرا، ولا يثمر فيها عملهم ثوابا، ولتوبتهم قبولا، وكيف يقبل فيه منهم التوبة الاستغفار وينفعهم الإيمان؟.
[22.56-62]
إذ { الملك } والتصرف { يومئذ } أي: بعد انقضاء دار الابتلاء والاختبار { لله } المستقل بالألوهية والربوبية والتصرف مطلقا، وإن كان في النشأة الأولى أيضا كذلك، إلا أنه سبحانه أقدرهم على الإطاعة والانقياد، كما أقدرهم على الإنكار والعناد لحكم مصالح؛ إذ هي دار الفتن والابتلاء والاختيار، وبعد انقضائها لا يقبل منه جبر ما فوتوا على نفوسهم في تلك النشأة بل { يحكم } سبحانه بحكمه المبرم { بينهم } على مقتضى علم نهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر { فالذين آمنوا } بالله على جه الإخلاص والإخبات { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } المترتبة على الإيمان واليقينن هم في النشأة الأخرى { في جنات النعيم } [الحج: 56] دائمين يها مقيمين، لا يتحولون إلى ما هوأدنى، بل يترقونه إلى الأعلى حتى يفوزوا بشرف اللقاء.
{ والذين كفروا } بالله فيها { وكذبوا بآيتنا } المنزلة على رسلنا لبيان توحيدنا { فأولئك } الأشقياء المذبون المردودون { لهم } في الآخرة { عذاب مهين } [الحج: 57] لإهانتهم أنبياء الله ورسله، وما نزل عليهم من الآيات.
ثم قال سبحانه: { والذين هاجروا } وتركموا مضيق الإمكان ساكنين { في سبيل الله } طالبين فضاء به الوجوب والفناء فيه { ثم قتلوا } على يد الغفلة الجهلة عن توحيد الله واستقلاله في الوجود { أو ماتوا } بالموت الاضطراري حتف أنوفهم بعدما خرجوا عن مقتضيات الحياة الصورية بالموت الإرادي { ليرزقنهم الله } المنعم المفضل { رزقا حسنا } حقيقا من لدنه تفضيلا عليهم وامتنانا، وكيف لا يرزقهم مع أهم أولياؤه وهو رازق لأعدائه أيضا؟ { وإن الله } المتجلي في الآفاق، المتكفل لأرزاق من عليها وما عليها { لهو خير الرازقين } [الحج: 58] ممن نسب إليهم مجازا، إذ مرجع الكل إليه، ومبدؤه منه وتوفيقهم بيده، وهم تحت ظله، وفعلهم حقيقة منسوب إليه.
وبعدما رزقهم الله بالرزق المعنوي بدل ما جاهدوا في سبيله من تحمل المشاق والمتاعب في الانقطاع عن مألوفات بقعة الإمكان ومطبوعات نفوسهم وهوياتهم من اللذات والشهوات البهيمية.
{ ليدخلنهم } سبحانه بفضله وسعة جوده { مدخلا يرضونه } أي: مسكنا ومقاما يرضون منه نفوسهم بدل ما يتركون من البقاع والديار والقصور المشيدة المرتفعة ألا وهي المكاشفات والمشاهدات الواردة عليهم من الاطلاع على سرائر الأسماء والصفات الإلهية، والواردات الغيبية من عالم اللاهوت { وإن الله } المدبر لأمور عباده { لعليم } بمصالحهم وما يستدعي استعداداتهم { حليم } [الحج: 59] يفعل معهم ما يرضى به استعداداتهم ويسع له قابلياتهم.
{ ذلك } أي: الأمر والشأن ذلك المذكور لمن هاجر إلى الله طالبا لقياه، خالصا لوجهه الكريم { ومن عاقب } ظالمه يوما غلب عليه، وأراد أن ينتقم عنه { بمثل ما عوقب به } أي: بمقدار ظلمه بلا زيادة عليه ولا نقصان { ثم بغي عليه } أي: غلب الظالم على المظلوم المنتقم كرة أخرى، وأراد أن يظلم عليه ثانيا { لينصرنه الله } العزيز المنتقم في الكرة الثانية أيضا ما لم يتجاوز عن حد الانتقام، ولا ينظر سبحانه إلى اجترائه إلى الانتقام، ويتركه ما هو الأولى وهو العفو عند القدرة، وكظم الغيظ لدى الفرصة { إن الله } المطلع لمقتضيات استعداد عباده { لعفو غفور } [الحج: 60] لما صدر عنهم من المبادرة إلى الانتقام لدى القدرة.
{ ذلك } النصر على من ظلم { بأن الله } أي: بسبب أن الله المستوي على القسط القويم { يولج } ويدخل { الليل } المظلم { في النهار } المضيء { ويولج النهار } المضيء { في الليل } المظلم على التدريج ليعتدلا ويعتدل من ظهر وما ظهر كرهما وتجددهما { وأن الله } المدبر لمصالح مظاهره بالحكمة المتقنة { سميع } سمع ما هو من قبيل المسموعات من الوقائع التي أدركها السمع { بصير } [الحج: 61] يبصر ما هو من قبيل املبصرات من الحوادث المدركة بالبصر.
{ ذلك } أي: سمعه للمسموعات وإبصاره للمبصرات { بأن الله } المتجلي في الآفاق { هو الحق } المقصور على التحقق والثبوت بالاستحقاق الواجب وجوده بلا ارتياب الممتنع نظيره على الإطلاق { وأن ما يدعون } أيها المشركون { من دونه } من الآلهة الباطلة { هو الباطل } المصور على العدم والبطلان، لا وجود لهم فيكف ألوهيتهم، والإله لا بد وأن يكون واجب الوجود، ثم ما يترتب عليه من الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية فهم معزولون عن الوجود، ثم ما يترتب عليه من الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية فهم معزولون عن الوجود، فكيف عن لوازمها { و } اعلموا { أن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء، المتعزز بالمجد والبهاء، المتوحد بالقيومية والبقاء الأبدي { هو العلي } بذاته المتعالي على أن يصفه ألسنة العقلاء، ويعرب عنه أفهام العرفاء { الكبير } [الحج: 62] المتكبر في شأنه جل جلاله عن أن يحيط به وبأوصافه وأسمائه شيء من مظاهره ومصنوعاته.
[22.63-70]
{ ألم تر } أيها الرائي { أن الله } المتخصص بالآثار البديعة والصنائع العجيبة الغريبة { أنزل } بعد تصعيد الأبخرة والأدخنة و تركيبها و تراكبها { من السمآء } أي: جانبها { مآء } مصفى على الأرض { فتصبح الأرض مخضرة } بعدما كانت هامدة يابسة { إن الله } المدبر بالتدابير الباهرة { لطيف } دقيق رقيق، علمه متعلق برقائق المعلومات ودقائقها { خبير } [الحج: 63] لا يعزب عن خبرته شيء مما دق وغلظ.
وكيف يعزب عن حيطة علمه شيء من المعلومات؟ إذ { له } ملكا وتصرفا وإظهارا وخلقا { ما في السموت } أي: العلويات من الكوائن والفواسد { وما في الأرض } أي: السفليات مثلها { وإن الله } المتجلي على عموم ما ظهر وبطن { لهو الغني } بذاته عن جميع مظاهره وأظلاله { الحميد } [الحج: 64] بآثار أوصافه وأسمائه.
{ ألم تر } أيها الرائي { أن الله } المتكفل لأمور عباده كيف { سخر لكم } ولترتيب معاشكم { ما في الأرض }؟ من الحيوانات التي تأكلون منها وتزرعون بها وتركبون عليها وتحملونها في البر { و } سخر لك { الفلك تجري في البحر بأمره } وعلى مقتضى مشيئته وإرادته حيث سقتم وأجريتموها حسب مرامك تتميما لأمور معاشكم { ويمسك السمآء } معلقا على الهواء بلا عمد كراهة { أن تقع على الأرض } فيختل أمور معاشكم بوقوعها على الأرض، وإن ان لم يضركم؛ لأنها أجرام في غاية الخفة واللطافة، بل انسد من وقوعها إنزال المطر المقوي لإنبات الأقوات، إذ من شأنها الوقوع لولا إمساكه سبحانه إياها { إلا } أن تقع عليها { بإذنه } تعالى وتعلق مشيئته بوقوعها، وذلك يوم القيامة { إن الله } المدبر لمصالح عباده { بالناس } المجبولين على الكفران والنسيان { لرءوف } مشفق عطوف { رحيم } [الحج: 65] لهم يعفو عنهم زلتهم، ويرزقهم من حيث لا يحتسب.
{ و } كيف لا يرحكمكم ولا يرأف عليكم سبحانه { هو الذي أحياكم } في النشأة الأولى، وأظهركم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة { ثم يميتكم } إظهارا لقدرته وبسطته، ومقتضيات جلاله وقهره { ثم يحييكم } في النشأة الأخرى لتوفية الجزاء على ما أمركم به في النشأة الأولى { إن الإنسان } المركب من النسيان { لكفور } [الحج: 66] لأنواع نعم الله عليه.
ومن جملة إنعامنا عليه إنا { لكل أمة } من الأمم { جعلنا } أي: عينا وهيأنا { منسكا } معينا ومقصدا مخصوصا { هم ناسكوه } أي: ينكسون ويتقربون فيه إلينا بالقرابين والهدايا { فلا ينازعنك } يا أكمل الرسل { في الأمر } الذي كنت عليه من الذبح وغيره من الشعائر المتعلقة بأمور الدين ، ومعالم الهدى واليقين { وادع إلى } توحيد { ربك } حسبما أمرت { إنك } في دعوتك إلى الحق { لعلى هدى مستقيم } [الحج: 67] أي: طريق واضح سوي موصل إلى التوحيد الذاتي بلا عوج وانحراف.
{ وإن جادلوك } في أمرك هذا ودعوتك هذه عنادا ومكابرة، فلا تلتفت إليهم ولا تقابلهم { فقل الله } المطلع لخفايا الأمور وسرائرها { أعلم بما تعملون } [الحج: 68] مقتضى أهوية نفوسكم، فيجازيكم على مقضى علمه وخبرته.
وإن ألجأتموني إلى الخصومة ف { الله } المطلع لضمائر كلا الفريقين { يحكم بينكم } وبيني { يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون } [الحج: 69] معي من شعائر ديني وعلامة هدايتي ويقيني.
{ أ } تنكر أيها المنكر إحاطة علم الله بجميع المعلومات { لم تعلم أن الله } المتجلي لجميع ما ظهر وبطن { يعلم } بعلمه الحضوري { ما في السمآء والأرض } من الأمور الكائنة والفاسدة فيها، لا يعزب عن علمه شيء، وكيف لا يعلمها سبحانه { إن } جميع { ذلك } مثبت مسطور { في كتاب } هولوح قضائه وحضرة علمه، ولا تستبعد أمثال هذا عن جنابه { إن ذلك } الاطلاع على الوجه المذكور { على الله } المتصف بجميع أوصاف الكمال { يسير } [الحج: 70].
[22.71-74]
{ و } هو بسبب إنكارهم إحاطة علم الله { يعبدون من دون الله } المستحق للعبادة بالاستحقاق { ما لم ينزل به سلطانا } أي: أصناما وأوثانا، لم ينزل سبحانه على استحقاقهم العبادة برهانا من عند الله ليكون لهم حجة دالة على مدعاهم { و } أيضا يعبدون { ما ليس لهم به علم } أي: دليل عقلي دال على لياقتها واستحقاقها للعبادة والانقياد، بل يعبدونها ظلما وزورا بلا مستند عقلي ونقلي { وما للظالمين } المتجاوزين عن مقتضى العقل والنقل { من نصير } [الحج: 71] ينصرهم ويستدفع عنه عذاب الله، أو يستشفع لهم عنده سبحانه بتخفيفه عنهم.
{ و } من غاية ظلمهم وخروجهم عن حدود العقل والنقل { إذا تتلى عليهم آياتنا } الدالة على توحيد ذاتنا وكمال أسمائنا وصفاتنا مع كونها { بينات } واضحات الدلالات { تعرف } وتبصر أيها الرائي { في وجوه الذين كفروا } بها { المنكر } أي: علامات الإنكار، وأمارات العتو والاستكبار، بحيث ترونهم من شدة شكيمتهم وغيظهم المفرط { يكادون } ويقربون { يسطون } يبطشون ويأخذون { بالذين يتلون عليهم آيتنا } هم: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غيظا عليهم، وعلى ما جرى على ألسنتهم { قل } يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع { أ } تنقبضون وتضجرون عن استماع هذه الآيات العظام وتتشاءمون من سماعها { فأنبئكم } وأخبركم { بشر من ذلكم } الآيات، هي أشد عيظا وأكثر تضجرا منها ألا وهي { النار } التي { وعدها الله الذين كفروا } بسبب كفرهم وضلالهم { وبئس المصير } [الحج: 72] النار لأصحاب الضلال والإنكار.
{ يأيها الناس } الذين جبلوا على الغفلة والنيسان والجهل والطغيان عن عظمة الله وحق قدره، لذلك أثبتم له أمثالا وأشباها مع تعاليه وتنزهه في ذاته عنها، اسمعوا: { ضرب مثل } في حق شركائكم ومعبوداتكم { فاستمعوا له } سمع وتدبير وتأمل، ثم أنصفوا { إن الذين تدعون } وتعبدون أيها المدعون المكابرون { من دون الله } القادر بجميع المقدورات بالعلم التام، والإدارة الكاملة، والحكمة المتقنة { لن يخلقوا ذبابا } بل لن يقدروا على خلق أحقر منها وأخس، لا كل واحد منهم فرادى، بل { ولو اجتمعوا له } أي: لخلق الذباب وتظاهروا لإيجاده مجتمعين لن يقدروا أيضا، وكيف خلق الذباب وإظهاره؟ { وإن يسلبهم } ويأخذ منهم { الذباب } الحقير الضعيف { شيئا } من الآلهة الباطلة من حيلهم وتزييناتهم { لا يستنقذوه منه } ولا يقدروا على أن يخرجوه من يده لعجزهم وعدم قدرتهم، فكيف تعبدون أيها الحمقى العابدون أولئك الهلكى العاجزين الساقطين؟! فظهر للمتأمل المتدبر أنه { ضعف } أي: انحط وسقط عن زمرة العقلاء ورتبتهم { الطالب } العابد الجاهل { والمطلوب } [الحج: 73] المعبود المجهول المنحط عن رتبة أحقر الأشياء وأخسها فكيف عن أعلاها؟! فيكف عن خالقها وموجودها؟! تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
كل ذلك بواسطة أنهم { ما قدروا الله } القادر المقتدر على جميع المقدورات والمرادات وما علموه { حق قدره } كما هو اللائق بشأنه، وما عرفوه حتى معرفته، لذلك ما صفوه حق وصفه، ونسبوه إليه سبحانه مالا يليق بجانبه جهلا وعنادا، وأثبتوا له شركاء عاجزين من أضعف الأشياء { إن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { لقوي } في ذاته لا حول ولا قوة إلا به { عزيز } [الحج: 74] غالب في أمره وحكمه، متصرف مستقل في ملكه وملكوته، يفعل بالإدارة والاختيار، ويحكم ما يريد، لا راد لفعله، ولا معقب لحكمه.
[22.75-78]
ومن علو شأنه، وسمو برهانه، وكمال قوته، وعزته يتوسل إليه، ويتوصل نحوه بوسائل ووسائط اختارها الله واجتباها من بين بريته لإهداء التائهين في بيدان ألوهيته إلى زلال توحيده على مقتضى سنته، وجري حكمته، كما بين في كتابه حيث قال: { الله } العلي المتعال ذاته عن أن يكون شرعة كل وارد، أو يطلع على سرائر أسمائه وصفاته واحد بعد واحد، بل { يصطفي } ويختار { من الملائكة } المقربين عنده { رسلا } يرسلهم إلى خواص البشر، وخلص العباد { و } أيضا يصطفي ويختار { من } خيار { الناس } رسلا يرسلهم إلى عموم عباده بالنبوة والرسالة ليرشدوهم إلى توحيده سبحانه ويهدوهم إلى سواء طريقه { إن الله } المطلع لاستعدادات عباده { سميع } يسمع أقوالهم ومناجاتهم ويقضي حاجاتهم { بصير } [الحج: 75] يبصر أعمالهم وأفعالهم ويجازيهم عليها، لأنه: { يعلم } سبحانه بعلمه الحضوري { ما بين أيديهم } حالا { وما خلفهم } ماضيا واستقبالا { و } بالجملة { إلى الله } الذي بدأ منه ما بدأ { ترجع الأمور } الحج: 76] الكئنة أزلا وأبدا، ظاهرا وباطنا، حالا ومآلا، دنيا وآخره.
{ يأيها الذين آمنوا } بتوحيد الله ورجوع الكل إليه أولا وبالذات { اركعوا } نحوه خاضعين منكسرين { واسجدوا } له متذللين متواضعين { واعبدوا } بجميع أركانكم وجوارحكم { ربكم } الذي رباكم بأنواع النعم كي تعرفوا ذاته حسب استعداداتكم، وتشكروا نعمه وحقوق كرمه مقدار وسعكم، وتعبدوه حق عبادته قدر طاقتكم { و } بالجملة: { وافعلوا الخير } على وجه أمرتم به طلبا لمرضاته، واحذروا الشر خوفا من سخطه وحلول غضبه { لعلكم تفلحون } [الحج: 77] وتفوزون بما وعدتم من الجنة المأوى وشرف اللقيا فيها.
وفقنا بفضلك وجودك على ما تحب منا وترضى.
{ و } بعدما سمعتم ما سمعتم من علو شأنه سبحانه، وكمال عظمته وكبريائه { جاهدوا في الله } واجتهدوا في سبيل توحيده { حق جهاده } أي: ابذلوا وسعكم وطاقتكم في سلوك طرق التوحيد، مرابطين قلوبكم إلى الله، باذلين مهجكم في الفناء فيه، وكيف لا تجاهدون وترابطون أيها المائلون إلى الله بالميل الحبي الشوقي مع أنه { هو } سبحانه { اجتباكم } واصطفاكم من بين البرايا لإدراك توحيده والاتصاف بعرفانه، وأرسل عليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب ليرشدكم إليه، ويبينوا لكم طريق توحيده بوضع المناهج والشرائع الموصلة إلأيه، والأديان المثمرة له { وما جعل } سبحانه { عليكم في الدين } الموضوع فيكم { من حرج } ضيق وعسر خارج عن وسعكم وطاقتكم، بل وسع سبحانه عليكم أمر دينكم بأن جعل ملتكم { ملة أبيكم إبراهيم } صلوات الرحمن عليه، إذ لا ضيق فيه ولا حرج.
أضاف أبوة إبراهيم إلى الأمة من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول أب لهم؛ إذ رسول كل أمة أ ب ب النسبة إلى أمته، بل هو خير الآباء؛ لإرشادهم إلى طريق الحق، ولا معنى للأب إلا المرشد المربي.
وكما جعل سبحانه ملتكم ملة إبراهيم { هو } بذاته { سماكم المسلمين من قبل } في كتبه السالفة حيث قال سبحانه: من يؤمن ويصدق بمحمد خام النبوة والرسالة يصير مسلما { وفي هذا } الكتاب بين التسمية على وجه التسليم فسماكم فيه أيضا: مسلمين ضمنا، وإنما سماكم مسلمين مسلمين منقادين { ليكون الرسول } الذي هو أكمل الرسل وأفضل الأنبياء { شهيدا عليكم } شاهدا على انقيادكم وتسليمكم في يوم الجزاء، فتكونوا أفضل الأمم وأشرف الفرق، وبواسطة كونكم أ مته وزمرته وتحت لوائه { وتكونوا شهدآء على } عموم { الناس } بتبليغ الرسالة إليهم وإظهار الدعوة لهم، وإذا كنتم خير أمة وأشرف طائفة { فأقيموا الصلاة } وأديموا الميل والتوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان تقربا إليه شوقا وتحننا { وآتوا الزكاة } المسقطة لميلكم إلى زخرفة الدنيا وحطامها { و } بالجملة { اعتصموا بالله } في كل الأحوال، واثقين بفضله وجوده، وفوضوا أمروكم كلها إليه، متوكلين عليه { هو مولاكم } أي: ناصركم ومعينكم ومولي أموركم { فنعم المولى } الولي المعين { ونعم النصير } [الحج: 78] الناصر المعين، ذو القوة المتين، حسبنا الله ونعم الوكيل.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المجاهد في سبيل الله أعداء الله وموانع الوصول إلى توحيده أن تجاهد أولا مع نفسك التي بين جنبيك، إذ هي من أعدى عدوك، وأشد صولة واستيلاء إلى مملكة باطنك وقلبك الذي هو مخيم سرادقات سلطان الوحدة، ومحل نزول قهرمان العزة، ومهبط الوحي الإلهي والوارد الغيبي، فلك أن تزيل صولتها، وتشتت شملها، وتفرق جمعها التي هي جنودها وأنواعها من القوى الشهوانية والغضبية، وجميع الأوصاف البهيمية المتداعية إلى تخريب القلب، وتعمير النفس الأمارة بالسوء، وتقويتها وتقويمها؛ إذ عداوتها ومنعها ذاتية حقيقية وبلا واسطة، وعداوة سائر الموانع بواسطتها.
وإياك الإطاعة والانقياد إليها، فإنها تشغلك عن الحق، وتضلك عن سبيله وتغريك إلى الباطل وتقودك إلى طريقه.
فاعلم أيها المجاهد الطالب للغلبة على جنود النفس الأمارة أنه لا يمكن لك هذا إلا بالاعتزال عن إقطاع الشيطان ومهلكة النفس ومشتهياتها ومستلذاتها بالكلية، والتشمر نحو الحق بالعزيمة الخالصة عن الرياء والرعونات والانخلاع عن مقتضيات الأوصاف البشرية بالإدارة الصادقة، والتوجه نحو الوحدة الذاتية عن طريق الفناء بإسقاط الإضافات المشعرة لتوهم الكثرة.
وبالجملة لا يتم سلوك السالك في طريق التوحيد إلا بالفناء في الله، والبقاء ببقائه.
ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضائق هوياتنا، وتوصلنا إلى فضاء توحيدك بمنك وجودك.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-11]
{ قد أفلح } وفاز بمرتبة حق اليقين التي هي أعلى مراتب التوحيد، ومنتهى السلوك ومنقطع الطلب والعرفان { المؤمنون } [المؤمنون: 1] الراسخون في اليقين العلمي، الجازمون الثابتون فيه بلا تزلزل وتلوين.
{ الذين هم } من كمال رسوخهم وشدة تمكنهم وجزمهم { في صلاتهم } التي هي معراجهم للوصول إلى مرتبة الرضا والقبول { خاشعون } [المؤمنون:2] مخبتون متضرعون متحننون نح الحق عن ظهر القلب، وجميع الجوارح والأركان بلا تلعثم وعثور. { والذين هم عن اللغو } المشغل لهم عن التوجه نحو الحق { معرضون } [المؤمنون: 3] منصرفون إعراضهم وانصرافهم عما تستكرهه نفوسهم وقلوبهم.
{ والذين هم للزكاة } المطهرة لنفوسهم عن الميل نحو حطام الدينا ومتاعها الفانية { فاعلون } [المؤمنون: 4] تمرينا لنفوسهم على ترك الميل و الالتفات إليها.
{ والذين هم لفروجهم } التي هي مواريث بهيميتهم، وأقوى قوائم بشريتهم { حافظون } [المؤمنون: 5] ناكثون عن مقتضاهها، راكنون عما أملها وتهويلها.
{ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } من الإماء والسواري حفظا لحكمة إبقاء النوع، ومصلحة التناسل { فإنهم غير ملومين } [المؤمون: 6] على ذلك إن فعلوا بلا مبالغة مفرطة زائدة عن قدر الحاجة.
{ فمن ابتغى ورآء ذلك } وطلب التجاوز والتعدي عن قدر الحاجة من الحلائل المذكورة { فأولئك } البعداء الخارجون عن مقتضى الحد الإلهي، والحكمة المتقنة { هم العادون } [المؤمنون: 7] المقصورون على التجاوز والعدوان لا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح.
{ والذين هم } من كمال عدالتهم وقسطهم الفطري واعتدال أوصافهم وأخلاقهم الصورية والمعنوية { لأماناتهم } التي ائتمنوا عليها { وعهدهم } الذي عهدوا به سواء كانت الأمنة والعهد لله أو لسائر عباده { راعون } [المؤمنون: 8] قائمون بحفظها مواظبون لرعاية حقها بلا فوت شيء من حقوقها ورعايتها.
{ والذين } بالجملة المؤمنون المفلحون الفائزون بالعاقبة الحميدة التي هي مرتبة الكشف والشهود المعبر عند أرباب المحبة والولاء بالحق اليقين { هم على صلواتهم } المقربة لهم إلى ربهم، الفاصلة بين مرتبتي الناسوت واللاهوت { يحافظون } [المؤمنون: 9] أي: يداومون ويواظبون لأدائها بأوقاتها وبشرائطها وآدابها، مع ما ذكر من الأوصاف الجميلة المذكورة والأخلاق المرضية المشكورة، مخلصين فيها، مجتنبين عن الرياء والرعونة والعجب والسمعة.
{ أولئك } السعداء المقبولون عند الله { هم } الأولياء { الوارثون } [المؤمنون: 10] عن الأنبياء والرسل وصفوة عباد الله وخيرتهم وهم: { الذين يرثون الفردوس } الذي هو التحقق بمقام الكشف والشهود باستحقاقهم الذاي مع استرشادهم، واستفادتهم من الأنبياء والرسل الهادين المهديين المرشدين لهم إلى ما جبلوا لأجله لذلك { هم فيها خالدون } [المؤمنون: 11] متمكنون متقربون، لا يتحولون ولا يتبدلون.
[23.12-20]
{ و } كيف لا يرثون الفردوس ولا يخلدون فيها مع أنهم جبلوا لأجلها، سيما إذا كملوا سلوكهم وتمموا نسكها على الوجه الذي هداهم الأنبياء والرسل والأولياء الراشدون الذين هم خلفاء عن الرسل الكرام والأنبياء العظام - عليهم التحية والسلام - إذ { ولقد خلقنا الإنسان } أي: أظهرنا وقدرنا جسم آدم وبنيه أولا { من سلالة } أي: ربدة وخلاصة منتخبة { من طين } [المؤمنون: 12] الذي هو مادة جميع الأجسام السفلية وأقوى عناصرها وهيولاها.
{ ثم جعلناه } وصيرناه؛ أي: ما انتخبنا من الطين { نطفة } بيضاء وقررناها زمانا { في قرار } ومستقر { مكين } [المؤمنون: 13] حصين متين هي الرحم.
{ ثم } بعدما مكناها في المقر المكين مدة { خلقنا } وصيرنا { النطفة } المقررة المتمكنة في الرحم { علقة } أي: لحما متصلا ملتصقا أجزاؤها إلى حيث صارت قابلة للمضغ { فخلقنا } بعد ذلك { العلقة مضغة } المتلصقة المتصلة بعد انفصالها وتفريقهما التقديري { فخلقنا المضغة عظاما } صلبة خارجة عن قابلية المضغ والتليين، متقومة غير مائلة لتكون قوائم وأعمدة للجسم { فكسونا العظام } الصلبة القابلة للكسر والانكسار { لحما } لحما صونا لها عما يضرها ويكسرها، فتم حنيئذ تركيب صورته الجسمية وقالب الطبيعية بجميع لوازمها ومتمماتها من العروق والعظام والأعصاب والغضاريف والشريانات وغيرها { ثم } بعدما تم تركيبه وكمل مزاجه وتصويره على أبدع وجه وأعجبه، وصار حيوانا حساسا متحركا بالإرادة كسائر الحيوانات { أنشأناه } أي: أبدعناه واخترعناه فيه خاصة { خلقا آخر } إبداعيا مخصوصا بهذا الجسم بين سائر الأجسام، وهو نفخنا فيه من روحنا ليتصف بأوصافنا ويتخلق بأخلاقنا ويستحق بخلافتنا ونيابتنا، ويليق لأن يصير مرآة لنا قابلة لانعكاس أضلال أسمائنا الحسنى وأوصافنا العليا { فتبارك } أي: تعالى وتعاظم { الله } القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على أمثال هذه التبدلات والتطورات التي تحيرت العقول عندها، وانحسرت الأفهام دونها، وهو في ذاته { أحسن الخالقين } [المؤمنون: 14] المقدرين تقديرا وخلقا، وأتمها إبداعا واختراعا لو فرض مقدر غيره، مع أنه محال عقلاء وعادة.
{ ثم إنكم } يا بني آدم { بعد ذلك } أي: بعدما أتم صوركم ومعناكم { لميتون } [المؤمنون: 15] بالآجال المقدرة من عندنا لانقضاء حياتكم في النشأة الأولى.
{ ثم إنكم يوم القيامة } المعدة للعرض والجزاء { تبعثون } [المؤمنون: 16] وتحشرون لانتقاد ما اكتسبتم في النشاة الأولى.
ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على عباده تفضلا عليهم وامتنانا فقال: { ولقد خلقنا فوقكم } أي: جانب علوكم { سبع } سماوات { طرآئق } أي: متطارقة متطابقة بعضها فوق بعض، مشتملة على كواكب لا في السفليات من الأشياء المتعلقة لمعاشكم { و } بالجملة { ما كنا } في حال من الأحوال السابقة واللاحقة { عن الخلق } أي: عن جميع المخلوقات المستندة إلينا، الظاهر من امتداد أظلالنا { غافلين } [المؤمنون: 17] ذاهلين عن حفظها وتفقدها.
{ و } من كمال جودنا ووفور رحمتنا إلى عموم عبادنا { أنزلنا من السمآء مآء } بعدما أصعدنا الأبخرة والأدخنة من الأرض، وركبناها تركيبا أنيقا عجيبا إلى أن صارت سحبا متراكمة متكاثفة، فتقاطر منها الماء بمجاورة الهواء ونفوذها، فأرسلنا إلى الأرض الجزر { بقدر } معلوم معتدل { فأسكنه } وأدخلناه { في الأرض } أي: تجاويفها ومساماتها حتى تدخر فيهاز
ثم جعلناه ينابيع تخرج منها مندرجة وتجري على قدر الحاجة تتميما لحوائج عبادنا وتيسيرا لهم في معاشهم.
{ وإنا } بعدما أدخلناه في الأرض { على ذهاب به } أي: بالماء بالأغوار والتصعيد والتجفيف وغير ذلك من طرق الإذهاب { لقدرون } [المؤمنون: 18] كما أنا قادرون على إنزاله وإخراجه.
{ فأنشأنا لكم به } أي: بالماء والمدخر { جنات } وحدائق { من نخيل وأعناب } هما معظم الفواكه وأصلها { لكم فيها } أي: في تلك الجنات أيضا { فواكه كثيرة } متفرعة عليهما، ملتفة بهما من أنواع الفواكه على ما هو عادة الدهاقين في غرس الحدائق والبسايتن { و } أيضا { منها تأكلون } [المؤمنون: 19] تغذيا وتقوتا، إذ تزرعون في جناتكم من الحبوبات أيضا.
{ و } لاسيما أنشأنا لكم بالماء { شجرة } مباركة { تخرج } وتنشأ { من طور سينآء } هو جبل رفيع بين مصر وأيلة { تنبت } ثمرة ملتبسة { بالدهن } المضيء للسرج { و } مع ذلك { صبغ } أي: إدام { للآكلين } [المؤمنون: 20] لأنهم يغمسون أخبازهم فيه تأدما.
[23.21-27]
{ وإن لكم } أيها المتأملون في نعمنا، المعتبرون في أنعامنا { في الأنعام } والدواب التي ينعمون بها من عندنا { لعبرة } عظيمة إلى كمال قدرتنا وجلالة نعمتنا لو تعتبرون منها إذ { نسقيكم مما في بطونها } من الأخلاط والنبات لبنا خالصا سائغا للشاربين، مع أنه لا مناسبة بينهما { ولكم } أيضا { فيها } أي: في الأنعام { منافع كثيرة } من ظهورها وأصوافها وأشعارها وأوبارها وغير ذلك { و } أيضا { منها تأكلون } [المؤمنون: 21] من لحومها تقوية لمزاجكم وتقويما له.
{ و } بالجلمة { عليها } أي: على الأنعام في البر { وعلى الفلك } في البحر { تحملون } [المؤمنون: 22].
وبعدما عدد سبحانه نعمه التي أنعم بها على بني آدم، شرع في توبيخ من يكفر بها ولم يؤد حق شكرها فقال: { ولقد أرسلنا } من مقام لطفنا وجودنا { نوحا إلى قومه } حين انحرفوا عن جادة الاعتدال وانصرفوا عن الاستقامة { فقال } على مقتضى وحينا أياه مناديا إياه ليقلبوا إليه على مقتضى شفقة النبوة والرسالة وعطف الهدايا والإرشاد: { يقوم } أضافهم إلى نفسه إمحاضا للنصح وإظهارا لكمال الإشفاف { اعبدوا الله } الواحد الأحد الصمد الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] واعلموا أنه { ما لكم من إله } يعبد بالحق ويستحق بالعبادة { غيره أ } تتخذون إلها سواه { فلا تتقون } [المؤمنون: 23] وتحذرون عن بطشه وانتقامه بأنواع العذاب والنكال.
وبعدما ظهر بدعوى الرسالة وأظهر الدعوة على الوجه المذكور: { فقال الملأ } أي: الأشراف { الذين كفروا من قومه } باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة عبدوها كعبادة الله لضعفاء العوام ترويجا لكفرهم وتحقيرا لدعوته { ما هذا } الرجل الحقير المدعي للرسالة والنبوة من الله { إلا بشر مثلكم } بل أضعفكم حالا وأدناكم عقلا ومالا { يريد } مع حقارته ودناءته { أن يتفضل } ويتفوق { عليكم } بهذه الدعوة الكاذبة والافتراء الباطل { ولو شآء الله } إرسال رسول { لأنزل ملائكة } إذ هم أولى وأليق بالإرسال من عنده، ولهم مناسبة مع الله بخلاف من البشر، فإنهم لا مناسبة لهم معه سبحانه، مع أنا { ما سمعنا بهذا } أي: برسالة البشر من الله { في آبآئنا الأولين } [المؤمنون: 24] أي: لم يعهد هذا في الزمان السابق أصلا.
بل { إن هو إلا رجل به جنة } أي: ما هذا المدعي للرسالة من عند الله إلا رجل عرض له جنون فاختل دماغه وذهب عقله؛ فيتخبطه الشيطان ويتفوه بأمثال هذه الهذيانات المستبعدة المستحيلة { فتربصوا به } وأهملوه وانتظروا في أمره، ولا تميلوا إليه ولا تلتفتوا نحوه { حتى حين } [المؤمنون: 25] ليظهر لكم خبطه واختلاله، أو يفيق عما هو عليه ويعود على ما كان.
ثم لما سمع منهم نوح عليه السلام ما سمع من التجهيل والتسفيه أيس منهم وقنط عن إيمانهم ف { قال } مشتكيا إلى الله مستعينا منه: { رب } يا من رباني بأنواع الكرم وأرسلني إلى هؤلاء الضالين عن سواء سبيلك لأرشدهم وأهديهم إلى توحيدك، فبلغت ما أرسلت به إياهم، فلم يقبلوا مني فكذبوني وسفهوني { انصرني } بإهلاكهم وتعذيبهم { بما كذبون } [المؤمنون: 26] أي: بدل تكذيبهم إياي وسببه.
{ فأوحينآ إليه } أنجازا لما أوعدنا إياهم من العذاب والهلاك بعد تكذيبهم رسلونا وما جاء به من عندنا من الإيمان والتوحيد { أن اصنع الفلك } أي: أعمال السفينة، ولا تخف عن فساها بعدم تعلمك من أحد بل اصنعها { بأعيننا } أي: يحفظنا إياك نحفظك عن عروض الخطأ والفساد في صنعها { ووحينا } أي: بأمرنا وتعليمنا لك كيفية صنعها، ولا تبال بتسفيههم واستهزائهم معك ونسيتك إلى الخبط والجنون وأنواع الأذيات { فإذا جآء أمرنا } الوجوبي المتعلق بإغراقهم واستئصالهم { وفار التنور } المعين المعهود، فدلق ونبع الماء منه نبعة { فاسلك } وأدخل على الفور فيها { فيها } أي: في السفينة { من كل زوجين اثنين } أي: من نوع الحيوانات اثنين ذكرا وانثى؛ إبقاء لجميع الأنواع في العالم { و } اسلك أيضا { أهلك } ومن ينتمي إليك قرابة ودينا { إلا من سبق عليه القول } والحكم منا في لوح قضائنا بأنه من الهالكين { منهم } أي: من أهلك، أي: أدخل جميع أهلك سوى من مضى قضاؤنا بغرقه وإهلاكه وهو ابنه كنعان { و } بعدما سبق قضاؤنا لإهلاك من كفر من أهلك { لا تخاطبني } يا نوح، ولا تدع إلي في حق من سبق الحكم مني بغرقه ولا تسع { في } خلاص القوم { الذين ظلموا } على أنفسهم بالعرض على عذابنا { إنهم مغرقون } [المؤمنون: 27] معدودون من عدد الغرقى الهلكى، ولا أثر لدعائك لهم بعدما صار الأمر منا مقضيا والحكم مبرما.
[23.28-35]
{ فإذا استويت أنت } يا نوح، وتمكنت { ومن معك } من المؤمنين { على الفلك } وصرتم متمكنين متعززين عليها { فقل } شكرا لما أنعمنا عليك من إنجاز النصرة المعهودة الموعودة وإهلاك الله وغير ذلك من النعم العظام: { الحمد لله الذي نجانا } من كمال جوده وسعة رحمته { من القوم الظالمين } [المؤمنون: 28] الخارجين عن مقتضى العقل والشرع عتوا وعنادا.
{ وقل } أيضا بعدما مكنت على سفينة النجاة: { رب أنزلني } بفضلظ ولطفك { منزلا مباركا } كثير الخير والبركة { وأنت } من كمال جودك { خير المنزلين } [المؤمنون: 29] لو فرض منزل غيرك مع أنه لا منزل سواك، ولا وجود لغيرك؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
{ إن في ذلك } المذكور من قصة نوح مع قومه ونجاته وإهلاكهم، و تعليم صنع السفينة عليه، وإخراج الماء من التنور المعهود، وإحاطته على وجه الأرض كلها، ونجاة من كان في سفينته وغير ذلك من الأمور البديعة { لآيات } دلائل واضحات على كمال قدرتنا وإرادتنا واختبارنا في عموم أفعالنا على المعتبرين المتأملين في بدائع الأمور وغرائبه، الناظرين بعيون العبرة والاستبصار في حدوث هذه الوقائع الهائلة { وإن كنا لمبتلين } [المؤمنون: 30] أي: أن الشأن والأمر أنا بإحداث هذه الحوادث مع قوم نوح لمختبرون مجربون عموم عبادنا؛ لننظر من يعتبر ويتعظ بها منهم، وما هي إلا تذكرة وتذكير منا إياهم.
{ ثم } بعد إهلاك قوم نوح وإغراقهم { أنشأنا } وأظهرنا من ذرية من في سفينة نوح عليه السلام { من بعدهم } من بعد نوح، ومن معه في السفينة { قرنا آخرين } [المؤمنون: 31] هم عاد وثمود فانحرفوا أيضا عن جادة التوحيد.
{ فأرسلنا فيهم رسولا } ناشئا { منهم } ابتلاء لهم واختبارا لمن اعتبر منهم، فقال على مقتضى وحينا وإلهامنا إياه: { أن اعبدوا الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والوجود، واعلموا أنه { ما لكم من إله } يعبد له ويرجع إليه { غيره أ } تتخذون إلها غيره وتعبدون له ظلما وزورا، وتتضرعون نحوه في الوقائع والخطوب { فلا تتقون } [المؤمنون: 32] عن غضبه، ولا تخافون عن قهره وانتقامه.
{ و } بعدما بلغهم الرسول الموحي به { قال الملأ } أي: الأشراف { من } قومه عتوا واستكبارا لضعفاء العوام، وهم { قومه الذين كفروا } بالله باتخاذ الأصنام آلهة وأنكروا وحدة الإله { وكذبوا بلقآء الآخرة } ويوم الجزاء وجميع المواعيد الموعودة فيها { و } مع كفرهم وشركهم، وإنكارهم بالنشأة الأخرى { أترفناهم } بوفور نعمنا إياهم { في الحياة الدنيا } إمهالا لهم: { ما هذا } المدعي الكاذب { إلا بشر مثلكم } لا مزية له عليكم { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } [المؤمنون: 33].
{ و } الله { لئن أطعتم بشرا } فيما يأمركم من تلبيساته وتغريراته مع أنه { مثلكم إنكم } في إطاعتكم وانقيادكم لبني نوعكم { إذا لخاسرون } [المؤمنون: 34] خسرانا غظيما لا خسران أعظم منه؛ إذ هو خسران العقل والإدراك، وتذليل النفس العزيزة بمثله تغريرا. { أ } تسمعونه وتقبلون منه إيها المجبولون على الدربة والدارية ما { يعدكم } من الخرافات المستبعدة عن الإدراكات، وذلك { أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما } رفاتا بحيث تفرقت أجزاؤكم إلى أن صارت هباء وعدما صرفا { أنكم مخرجون } [المؤمنون: 35] بعد هذا من التراب، معادون إلى ما كنتم عليه؟!.
[23.36-44]
{ هيهات هيهات } أي: بعد بعدا تاما، واستحال استحالة شديدة { لما توعدون } [المؤمنون: 36] من البعث بعد الموت والوجود بعد العدم والإعادة بعد الإماتة.
{ إن هي } أي: ما الحياة لنا أيها العقلاء { إلا حياتنا } الت يهي { الدنيا } إذ وجودنا وعدمنا مقصور على ما هو فيها { نموت } ونعدم بعد الوجود فيها { ونحيا } ونوجد بعد العدم أيضا فيها { و } بالجملة: { ما نحن بمبعوثين } [المؤمنون: 37] منشرين أحياء بعدما متنا فيها، كما نشاهد من سائر الأشياء؛ يعني: لا منزل لنا سوى الدنيا حياتنا فيها وموتنا فيها لا دار لنا غيرها.
{ إن هو } أي: ما هو المدعى الكاذب { إلا رجل افترى } ونسب { على الله كذبا } ومراء عنه أنه أرسلني الله وأوصاني بكذا وكذا، وما هي إلا مختراعات اخترعها ن تلقاء نفسه { و } بالجملة: { ما نحن له بمؤمنين } [المؤمنون: 38] بمجرد هذه الدعوى، وإن أثبتها أيضا؛ إذ هو بشر مثلنا ولا رسالة للبشر من الله إلى البشر.
وبعد يأسه من إيمانهم أخذ في الدعاء عليهم، مشتكيا إلى الله؛ حيث { قال رب انصرني بما كذبون } [المؤمنون: 39] أي: عذبهم بتكذيبهم إياي؛ إذ تكذيبي مسلتزم لتكذيبك يا ربي.
{ قال } سبحانه: اصبر ولا تستعجل في انتقامهم أهم { عما قليل } أي: عن زمان قليل { ليصبحن نادمين } [المؤمنون: 40] عما فعلوا من التكذيب والإنكار.
{ فأخذتهم الصيحة } الهائلة من جانب السماء بغتة، قيل: صاح عليهم جبريل عليه السلام صيحة هائلة، بعدما تعلق إرادته الله بإهلاكهم ملتبسا { بالحق } أي: بالعذاب الثابت المحقق الواجب وقوعه { فجعلناهم } وصيرنا أجسادهم { غثآء } أي: كالغثاء الذي يسيل به الماء، وهو الزبد والحشائش التي يذهب بها الماء { فبعدا للقوم الظالمين } [المؤمنون: 41] أي: بعدما صاروا كذلك، قيل في حقهم: بعد بعدا وطردا للقوم اللظالمين الخارجين عن مقتضى أوامر الله ونواهيه، النازلة منه سبحانه على ألسنة أنبيائه ورسله.
{ ثم أنشأنا من بعدهم } وانقراضهم { قرونا آخرين } [المؤمنون: 42] يعني: قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم من الأمم الهالكة على الكفر والعناد بسبب تكذيب الرسل وكتبهم.
وبالجملة أهلكناهم؛ بحيث { ما تسبق من أمة أجلها } أي: ما تستعجل وتستقدم أمة منهم أجلها الذي عينا لإهلاكها ، وقدرنا هلاكهم فيه { وما يستأخرون } [المؤمنون: 43] أيضا: لا يسمع لهم الاستقدام والاستئخار في المدة المقدرة المعينة لهلاكهم.
{ ثم } بعدما انقرضوا { أرسلنا رسلنا } على المنحرفين عن جادة توحيدنا، المنصرفين عن مقتضى سنتنا { تترا } متواترة متتالية بلا تخلل فترة بينهم، فصار الأمر بينهم { كل ما جآء أمة رسولها } لإصلاح حالهم واعتدال خلافتهم وأعمالهم { كذبوه } وأنكروا له وظهروا عليه بالمقاتلة والمشاجرة، فأهلكناهم واستأصلناهم بسبب تكذيبهم وإنكارهم { فأتبعنا بعضهم بعضا } بالهلاك؛ أي: أهلكناهم متتابعة بعضهم بعد بعض إلى أن طهرنا الأرض عن خبثهم وفسادهم { وجعلناهم أحاديث } أي: حكايات وقصصا يسمر بهم، ويعتبر المتعبرون عما جرى عليهم، ويقولون في حقهم ب عدما سمعوا قصصهم معتبرين: { فبعدا } أي: طردا وحرامنا ومقتا وخذلانا { لقوم لا يؤمنون } [المؤمنون: 44] بتوحيد الله ولا يصدقون رسله، وجميع ما جاءوا به من عنده سبحانه من المعتقدات المتعلقة بالنشأتين.
[23.45-51]
{ ثم } بعد انقراض أولئك الحمقى والهلكى { أرسلنا موسى وأخاه هارون } ليكون رداءا له وظهيرا مؤيدين { بآياتنا } الدالة على كمال قدرتنا ومتانة صنعنا وحكمتنا؛ لتكون معجزة خارقة للعادة، صادرة عنه، ملزمة لمن يقابله { و } مع ذلك قويناهما بورود { سلطان مبين } [المؤمنون: 45] أي: برهان عقلي وحجة واضحة ساطعة قاطعة.
{ إلى فرعون وملئه } أشراف قومه، فبلغا الموحى به إليهم، وأظهروا الدعوة عندهم { فاستكبروا } عن قبوله عنادا وعتوا { و } هم { كانوا } في أنفسهم { قوما عالين } [المؤمنون: 46] متجبرين متكبرين.
وترقى أمر فرعون في الاستكبار إلى أن ادعى الربوبية والألوهية لنفسه { فقالوا } بعدما سمعوا منهما ما سمعوا من الإيمان بالله، والدعوة إلى توحيده، والإتيان بالأعمال الصالحة، والامتثال بالأوامر والاجتناب عن النواهي المنزلة في التوراة متشاورين بينهم مستبعدين عن أمرهما منهمكين معهما مستهزئين: { أنؤمن لبشرين } ونقبل منهما قولهما مع أنهما { مثلنا } في البشرية، ولا مزية لهما علينا بالمال والكمال { و } لا بالنسب؛ إذ { قومهما } الذين انتشأ منهم { لنا عابدون } [المؤمنون: 47] إلى الآن ونحن أربابهم مسلطون عليهم، فكيف نؤمن ونقاد لهما بلا شرفهما حسبا ونسبا؟!.
{ فكذبوهما } أشد تكذيب وأنكروا عليهما، ونسبوا ما أتيا من الحجج والمعجزات إلى السحر والشعبذة، وظهروا عليهما ونسبوا ما أتيا من الحجج والمعجزات إلى السحر والشعبذة، وظهروا عليهما بأشد العدوة والخصومات { فكانوا } بالآخرة بواسطة إنكارهم وتكذيبهم { من المهلكين } [المؤمنين: 48] المستأصلين بالإغراق في بحر قلزم أو النيل.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { لقد آتينا موسى } من كمال جودنا ولطفنا معه { الكتاب } أي: التوراة الجامع لإصلاح الظاهر والباطن { لعلهم } أي: قوم موسى { يهتدون } [المؤمنون: 49] به إلى مقر التوحيد.
{ و } بعد انقضاء زمن موسى وانقراض أعدائه { جعلنا ابن مريم } عيسى صلوات الرحمن عليه { وأمه }. رضي الله عنها. أي: كل واحد منهما { آية } دالة على كمال قدرتنا وبدائع حكمتنا وغرائب صنعنا وقدرتنا، جعلنا لعيسى من الخوارق والمعجزات ما لايخفى، ولمريم أيضا من الكرامات والإرهاصات الخارقة للعادة منها: الحمل بلا مسيس زوج، وسقوط الثمرة من النخلة اليابسة لأجلها في محل الشتاء، وحضور أنواع الأطعمة والفواكه عندها حال كونها في المحراب والأبواب مغلقة عليه مع أنها ما تشبه بأطعمة الدنيا وفواكهها، وغير ذلك من الإرهاصات الغريبة.
{ و } بعدما أخرجهما الجاهلون عن منزلهما { آويناهمآ } أي: أرجعناهما { إلى ربوة ذات قرار ومعين } [المؤمنونن: 50] أي: إلى مكان مرتفع من الأ { ض، كثير المأكل والمشارب يتنعم ويترفه ساكنوها فيها بلا تردد واضطراب في أمر المعاش، قيل: هي بيت المقدس أو دمشق.
ثم قال سبحاه مخاطبا لقاطبة رسله وأنبيائه أصالة، ولأممهم تبعا مناديا لهم إسقاطا منهم الرهبانية والزهد المفرط المؤدي إلى تخريب الجسد وضعف القوى المدركة والمحركة عن مقتضاها، وكذا جميع الآلات والجوارح المعمولة بها: { يأيها الرسل } يعني: نادى سبحانه كل واحد منهم في زمانه { كلوا من الطيبات } التي أنتجنا لكم مقدار ما يسد جوعتكم، ويعتدل به مزاجكم، وأطيب مطاعمكم كسب أيديكم { و } بعدما اعتدل مزاجكم وقوي قواكم { اعملوا } عملا { صالحا } مقربا لكم إلينا، مصلحا لما في نفوسكم من مفاسد الأهوية الفاسدة وتسويلات الشياطين { إني بما تعملون } على وجه الإخلاص { عليم } [المؤمنون: 51] أجازيكم عليه، سواء تزهدون وتترهبون أو لا.
[23.52-63]
{ و } إذا علمتم أن مناط أمركم في عملكم المقربة إلى ربكم على وجه الإخلاص والخضوع، فعليكم بأجمعكم أن تداوموا وتلازموا عليها { إن هذه } الطريقة المعهودة المذكورة لكم من ربكم { أمتكم } أي: قدوتكم وقبلتكم، موصلة إلى توحيد ربكم لذلك صارت { أمة واحدة } لا تعدد فيها ولا اختلاف أصلا، وإن كانت جهاتها مختلفة متعددة بحسب اختلاف الشرائع والأديان على مقتضى الأعصار والأزمان { وأنا ربكم } الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر، الذي لا أكون عرضة للتعدد والكثرة أصلا { فاتقون } [المؤمنون: 52] عن أخذي وبطشي ومتقضيات جلالي وقهري؛ إذ لا ملجأ لكم غيري.
ومع ذلك { فتقطعوا أمرهم بينهم } أي: دينهم الواحد وملتهم الواحدة { زبرا } قطعا مختلفة وأحزابا متفاوتة ومللا متخالفة، يدعي كل منهم حقية دينه وملته، فصار { كل حزب } منهم { بما لديهم } من الدين والملة { فرحون } [المؤمنون: 53] مسرورون معجبون.
{ فذرهم } بعدما تحزبوا وانحرفوا عن التوحيد وانصرفوا عن جادته، واتركهم على حالهم يعمهون { في غمرتهم } أي: جهلهم وغوايتهم { حتى حين } [المؤمنون: 54] أي: حين انكشاف الغطاء عن بصائرهم والعماء عن أبصارهم فعاينوا العذاب، ولم يمكنهم رده والنجاة منه فيهلكوا صاغرين.
{ أيحسبون } ويعتقدون أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال { أنما نمدهم به } ونعطيهم إمدادا لهم وإعانة عليهم { من مال } مله لنفوسهم ومشغل لقلوبهم { وبنين } [المؤمنون: 55] يستعبدون نفوسهم ويسترقون أعناقهم.
{ نسارع } ونبادر { لهم في } نيل { الخيرات } تفضلا منا إياهم؛ لذلك يباهون ويفتخرون بها، ويتفرقون على من دونهم لأجلهما { بل } هو استدراج منا إياهم، وإمهال لهم كي يحصلوا أسباب أشد العذاب وأسوأ العقوبات، ويستحقوا بواسطتها أسفل دركات النيران { لا يشعرون } [المؤمنون: 56] الاستدراج من الكرامة، فحلموا عليها وبأهوائها، فيسعلمون مصيرهم ومنقلبهم إلى أين.
ثم قال سبحانه: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } [المؤمنون: 57] خائفون حذرون متحرزون.
{ والذين هم بآيات ربهم } النازلة على رسله { يؤمنون } [المؤمنون: 58] يصدقون ويذعنون.
{ والذين هم بربهم لا يشركون } [المؤمنون: 59] بل يستقلونه بالوجود ولا يثبتون لغيره وجودا، ولا يسندون الحوادث إلى الأسباب العادية بل يسندون كلها إليه أولا، وبالذات.
{ والذين يؤتون مآ آتوا } من الأعمال والصدقات ومطلق الحسنات { وقلوبهم } في حال إتيانها { وجلة } خائفة مستوحشة بسبب { أنهم إلى ربهم راجعون } [المؤمنون: 60] بهذه الأعمال والحسنات، هل يقبل منهم أو يرد عليهم، وهم دائا بين الخوف والرجاء خائفون عن قهره، راجون من لطفه.
{ أولئك } السعداء المحسنون الأدب مع الله، المخلصون في أعمالهم { يسارعون } أي: يرغبون ويبادرون { في الخيرات } وأنواع الطاعات والعبادات والحسنات، راجين أنواع الكرامات والمثوبات من الله { وهم لها } أي: للحسنات وأنواع الخيرات والمبرات دائما { سابقون } [المؤمنون: 61] سارعون ساعون مبادرون.
{ و } اعلموا أيها المكلفون بأنواع التكاليف المصفية لظواهركم وبواطنكم { لا نكلف } ولا نحتمل { نفسا إلا وسعها } أي: مقدار وسعها وطاقتها على ما هو مقتضى استعداداتهم وقابليتهم، وكيف نكلفهم بما لا طاقة لهم { ولدينا كتاب } جامع لجميع أحوال ما حدث وكان، ويحدث ويكون، وهو لوح قضائنا وحضرة علمنا مع أنه { ينطق بالحق } السوي الثابت المطابق للواقع بلا إفراط وتفريط { وهم لا يظلمون } [المؤمنون: 62] بزيادة العذاب ونقصان الثواب، بل كل منهم مجزي بمقتضى ما ثبت فيه.
والكفار من غاية انهماكهم في الغفلة والضلال ينكرون لكتابنا الجامع لجميع الكوائن والفواسد الناطق بالحق المطابق للواقع { بل قلوبهم } التي جبلت وعاء للإيمان والتصديق { في غمرة } أي: غطاء وغشاوة { من هذا } الطريق الذي يترتب عليه الفلاح والفوز بالنجاح، وهو طريق التوحيد والتصديق { ولهم أعمال } طالحة على مقتضى أهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة { من دون ذلك } الأمر الذي تعبدنا بها عبادنا على ألسنة رسلنا { هم لها عاملون } [المؤمنون: 63] وإليها متوجهون دائما، وعن طريق الحق وسبيل التوحيد ناكبون منصرفون.
[23.64-71]
{ حتى إذآ أخذنا مترفيهم } ومتنعميهم { بالعذاب إذا هم يجأرون } [المؤمنون: 64] أي: يستغيثون ويستعينون؛ يعني هم في الراحة والرضا عنا غافلون، وإذا أخذناهم بالبلاء والعناء، فأجاءوا إلى الاستغاثة والاستعانة منا، منصرفين إلينا، متضرعين نحونا.
لذلك يقال لهم طردا وردا: { لا تجأروا } أيها المسرفون ولا تستنصروا { اليوم } منا حين نزول { إنكم } العذاب بسبب غفلتكم عنا، وإنكاركم علينا في يوم الراحة والرخاء { منا لا تنصرون } [المؤمنون: 65] أصلا، فاليوم لا ينفعكم دعاؤكم.
وكيف تستنصرون عني أما تستحيون مني؛ إذ { قد كانت آياتي } الدالة على عظمة ذاتي وعلو شأني وشدة سلطنتي وسطوتي { تتلى عليكم } تليينا لقلوبكم وإصلاحا لعيوبكم { فكنتم } من شدة عتوكم واستكباركم { على أعقابكم تنكصون } [المؤمنون: 66] وترجعون رجوع القهقرى، منصرفين عن سماعها.
حال كونكم { مستكبرين به } أي: بالكتاب والآيات المندرجة فيه إلى حيث لا تذكرونه { سامرا } أيضا؛ أي: حاكيا به في الليل على ما هو عادتكم وسنتكم المستمرة بينكم؛ إذ كنتم تسمرون حول البيت في خلال الليل، سيما بالأحاديث الحديثة الجديدة بل { تهجرون } [المؤمنون: 67] وتتركون السمر به مطلقان حتى لا تسمعوا ذكر الآيات والكتاب أصلا، فكيف ما فيه من الأوامر والنواهي.
ومع استكبارهم واستهزائكم بنا وبآياتنا وبرسلنا على أبلغ الوجوده وأشدها، تستنصرون منا وتستغيثون إلينا؟ { أ } ينكر المشركون القرآن، ويستكبرون به عنادا ومكابرة { فلم يدبروا } ولم يتأملوا حق التأمل { القول } أي: المقول والمسموع؛ ليظهر لهم إعجازه، ويتضح عندهم فصاحته وبلاغته الخارجة عن طور العقل وطوق البشر كي لا يبادروا إلى إنكاره وتكذيبه، بل يصدقوه ويؤمنوا له وبمن جاء به.
{ أم جآءهم } أي: بل يعلمون لو تأملوا أنه جاءهم من الله كتاب يخصلهم من العذاب الأخروي لو امتثلوا بما فيه مع أنه { ما لم يأت } أي: كتابهم هذا شيء لم يأت مثله { آبآءهم الأولين } [المؤمنون: 68] حتى يتأملوا فيه، ويؤمنوا له فيخلصوا من العذاب، فهؤلاء الحمقى الهلكى، المنهمكون في الغي والضلال، ويفوتون على أنفسهم الإيمان به والهداية بامتثال ما فيه، حتى يستحقوا الخلاص والنجاة.
{ أم لم يعرفوا رسولهم } أي: بل لم يعرفوا من شدة شكيمتهم وبغضهم علو شأن رسولهم، وسمو برهاه، وكمال عقله ورشده، واعتدال أخلاقه وأطواره، وإيفاءه العهود والأمانات { فهم له منكرون } [المؤمنون: 69] للجهل والعناد.
{ أم يقولون } وينسبون { به جنة } اختلال وخبط، ومن اختلاله وخطبه ظهر منه أمثال هذه البدائع التي استحدثها من تخيلاته { بل جآءهم } رسولهم بجميع ما جاءهم ملتبسا { بالحق } الصدق المطابق للوحي الإلهي { و } لكن { أكثرهم للحق كارهون } [المؤمنون: 70] وكونهم على الباطل مائلون، وإلى مشتهيات نفوسهم آيلون.
{ ولو اتبع الحق } والوحي { أهوآءهم } الباطلة وآراءهم الفاسدة { لفسدت السموت والأرض ومن فيهن } من ذوي الشعور والإدراك، المتوجهين نحو الحق طوعا؛ من شؤم أعمالهم وسوء أفعالهم وقبح أخلاقهم وأطوارهم، لذلك ما آتيناهم وأوحيناه على رسولهم ما هو مشتهى نفوسهم ومقتضى أهوائهم { بل أتيناهم بذكرهم } وتذكيرهم، بذكر ماه هو الأصلح بحالهم والأليق بشأنهم من الأوامر والنواهي، والوعد الوعيد، والإنذار والتبشير، والعبر والأمثال، والقصص والآثار { فهم } من غاية عمههم وسكرتهم { عن ذكرهم } المصلح لحالهم، المنجي لنفوسهم من الوبال والنكال { معرضون } [المؤمنون: 71] منصرفون عنه عتوا واستكبارا.
[23.72-80]
{ أم تسألهم } أي: أيظنون ويعتقدون أنك يا أكمل الرسل تطلب لأداء الرسالة وتبليغها علهيم { خرجا } جعلا وإجراء لذلك انصرفوا عنك وعن دينك وكتابك؟! { فخراج ربك } الذي رباك بأنواع النعم الصوري والمعنوي، وأجره لك بأعظم المثوبات وأعلى الدرجات { خير } لك من جعلهم { و } إن نسبوك إلى الفقر والفاقة قل { هو } سبحانه { خير الرازقين } [المؤمنون: 72] لو فرض رازق سواه، مع أنه لا رازق إلا هو.
{ و } بالجملة: هم منحرفون في أنفسهم عن جادة التوحيد؛ بحيث لا يفيدهم هدايتكم وإرشادك { إنك } بوحي الله إياك { لتدعوهم } وتهديهم.
{ إلى صراط مستقيم } [المؤمنون: 73] سوي لا عوج له أصلا، وهو طريق التوحيد الذاتي.
{ وإن الذين لا يؤمنون } ولا يصدقون { بالآخرة } التي فيها انتقاد الأعمال والأحوال وال عرض على ذي العظمة والجلال { عن الصراط } الذي هو سبب اعتدالهم وإخلاصهم فيها { لناكبون } [المؤمنون: 74] عادلون مائلون، لذلك لم يقبلوا منكما جئت به عند ربك؛ إذ خوف الآخرة من أقوى قوائم الإيمان.
{ ولو رحمناهم } على مقتضى سعة رحمتنا وجودنا { وكشفنا } وأنزلنا { ما بهم من ضر } مفرط مزعج مثل القحط والوباء والزلزلة والعناد، وغير ذلك من الشدائد العاجلة { للجوا } وأصروا { في طغيانهم } التي هم عليها من الكفر ولا شرك والعداوة مع أهل الإيمان { يعمهون } [المؤمنون: 75] يترددون ولا يتركون.
{ و } كيف لا يعمهون وقد جربناهم مرارا، فإنا { لقد أخذناهم بالعذاب } أي: الجدب والقحط أو بالقتل يوم بدر { فما استكانوا } وما تلذذوا وتواضعا { لربهم } من كما عتوهم وعنادهم { وما يتضرعون } [المؤمنون: 76] إليه استكبارا بل هم على إصرارهم دائما كلما أخذناهم وكشفنا عنهم، أصروا وازدادوا على استكبارهم وإصرارهم، ولم يرجعوا إلينا مخصلين.
{ حتى إذا فتحنا عليهم بابا } من البلاء والعناء { ذا عذاب شديد } وهو القحط المفرط؛ إذ هو من أصعب العقوبات وأسوئها { إذا هم فيه مبلسون } [المؤمنون: 77] متحسرون آيسون من كل خير، ومع ذلك لم يتوجهوا إلينا ولم يتضرعوا.
{ و } كيف لا تشكرون نعمه سبحانه مع أنه { هو الذي أنشأ } وأظهر { لكم السمع والأبصار } من المشاعر التي تتحفظون بها نفوسكم من الأعاي الخارجة عنكم { والأفئدة } أي: القلوب التي تتحفظون بها نفسوكم عن الأعادي الداخلة من التخيلات الباطلة والتوهمات الزائفة والزائلة المخزرفة المموهة من الرياء والرعونات وأنواع التلبيسات والتدليسات مع أنكم { قليلا ما تشكرون } [المؤمنون: 78] أي: ما تشركون لهذه النعم الجليلة إلا قليلا منكم.
{ و } كيف لا تشكرون نعمه سبحانه مع أنه { هو الذي ذرأكم } أي: أوجدكم وأظهركم من كتم العدم في النشأة الأولى، وبث نسلكم ونسبكم { في الأرض } تترفهون فيها وتتنعمون ورزقكم فيها من أنواع الطيبات { و } في النشأة الأخرى { إليه } لا إليى غيره؛ إذ لا وجود للغير { تحشرون } [المؤمنون: 79] وترجعون رجوع الأمواج إلى البحر.
{ و } كيف لاتحشرون إليه سبحانه { هو الذي يحيي } ويظهر أشباحكم من العدم بامتداد أظلال أسمائه وصفاته ويبسطها على مرايا انعدام الإعدام { ويميت } بانقهارها وقبض الأضلال عنها { و } من جملة قبضه وبسطه: إن { له } سبحانه ويمقتضى مشيئته وإرادته { اختلاف الليل والنهار } طولا وقصرا، ضوءا وظلمة { أفلا } تتفكرون وتتأملون أيها المجبولون على التفكر والتدبر حتى { تعقلون } [المؤمنون: 80] وتدركون كيفيفة ظهور الحق وإظهاره مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
[23.81-90]
وهؤلاء الضالون المضالون لا يتفكرون، ولا يعقلون مع وضوح الدلائل والشواهد { بل قالوا } من الهذيانات الباطة { مثل ما قال الأولون } [المؤمنون: 81] من آبائهم وأسلافهم تقليدا لهم؛ حيث { قالوا } مستنكرين مستبعدين على مواعيد الحق في النشأة الأخرى: { أإذا متنا } وانقرضنا عن الدنيا { وكنا ترابا وعظاما } بالية { أإنا لمبعوثون } [المؤمنون: 82] مخرجون من القبور أحياء مثل ما كنا عليه قبل موتنا؟!.
كلا وحاشا لا حياة إلا هذه الحياة التي كنا عليها في دار الدنيا، مع أنا { لقد وعدنا نحن } على لسان من جاءنا بادعاء الرسالة والنبوة { و } قد وعد أيضا { آبآؤنا هذا } الموعود المخصوص على لسان من جاء بهم { من قبل } وهلم جرا، مع أنا ولا هم لم نر من علامات صدقها وأمارات وقوعها شيئا أصلا.
وبالجملة { إن هذآ } أي: ما هذا الوعد الموعود والقول المعهود، وهو أنكم
إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد
[سبأ: 7] { إلا أساطير الأولين } [الأنبياء 83] أي: أباطيلهم وأكاذيبهم التي سطروها في دواوينهم وكتبهم على وجه السمرة والمخادعة لضفاء الأنام.
وبعدما بالغوا في الإنكار على البعث والإعادة، وعدم قدرتنا عليها مع أنا قادرون على الإبداء والإنشاء لا عن شيء { قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا: { لمن الأرض } المفروشة تحتكم { ومن فيهآ } من أ نواع النباتات والحيوانات والمعادن، وممن المظهر لها من كتم العدم، ومن المزين المنبت عليها من الأجناس المختلفة، أخبرونا موجدها ومخترعها { إن كنتم تعلمون } [المؤمنون: 84] أي: من ذوي الشعور والإدراك.
{ سيقولون } في الجواب ألبتة: { لله } إذ لا يمكنهم الإنكار بالصريح المحقق المثبت { قل } لهم بعدما اعترفوا بأن الأرض، ومن عليها لله سبحانه موبخا عليهم ومقرعا: { أ } تنكرون أيها الجاهلون قدرة الله على إعادة المعدوم وحشر الأجساد { فلا تذكرون } [المؤمنون: 85] وتستحضرون قدرة الحق على إبداء هذه البدائع والعجائب المستحدثة على الأرض بلا سبق مادة ومدة، ومع ذلك تنكرون، ومن إعادة من عليها، سيما بعد سبق مادتها، مع أن هذا أهون من ذلك.
{ قل } لهم أيضا إلزاما وتبكيتا: { من رب السموت السبع } الشدائد المطبقات المزينات بالكواكب { ورب العرش العظيم } [المؤمنون: 86] المحيط بالكل المسير لها على وجه السرعة التامة والحركة الشديدة بلا تخلل سكون أصلا.
{ سيقولون لله } إذ لا يسع لهم الخروج عن مقتضى صريح ال عقل { قل } لهم يا أكمل الرسل: { أفلا تتقون } [المؤمنون: 87] وتحذرون عن قهر الله وغضبه، تنكرون له أهون مقدوراته ومراداته، مع أنك اعترفتم بأشدها وأصعبها!.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما تأكدا إلزامهم وإفحامهم كلاما جليا شاملا لجميع مقدورات الله ومراداته: { من بيده } وقبضة قدرته وحوله وقوته { ملكوت كل شيء } وملكه يتصرف فيه حسب إرادته واختياره على سبيل الاستقلال { و } من { هو يجير } يغيث ويعين الملهوف المضطر إذا دعاه { ولا يجار } وينصر { عليه } لأنه سبحانه يعلو ولا يعلى عليه، أخبروني { إن كنتم تعلمون } [المؤمنون: 88] أي: من ذوي الخبرة والشعور.
{ سيقولون } أيضا بلا تردد " { لله } اختصاصنا وملكا، تصرفا استقلالا، اختيارا وإرادة { قل } لهم بعدما أثبتوا له الغاالبية، والقدرة التامة الكاملة، والفاعلية والمطلقة بالإرادة والاختيار للفاعل المختار اختصاصا واستقلالا: { فأنى تسحرون } [المؤمنون: 89] أي: من أي تخدعون وتلبسون للخروج عن مقتضى العقل والرشد وفي المقدور المخصوص والمراد المنظم المعين حتى تنكروا له، ولم تقبلوا وقوعه مع ورود الآيات والدلائل القاطعة على وقوعه.
{ بل أتيناهم } أي: كل ما آتيناهم من التوحيد، ولوازمه من الإيمان بالغيب، وجميع المأمورات والمنهيات الصادرة منا في كتبنا النالزة على رسلنا، وما ألهمنا وأوحينا إلى رسلنا إلا موافقا كتابنا وحضرة علمنا ولوح قضائنا ملتبسا { بالحق } المصدق المطابق للواقع بلا توهم الباطل في شيء منها { وإنهم لكاذبون } [المؤمنون: 90] في نسبة الكذب إليها وإليهم ألا ل عنة الله على الكاذبين.
[23.91-108]
ومن جملة ما تنسبون إلى الله سبحانه افتراء ومراء: إثبات الولد له سبحانه مع أنه { ما اتخذ الله } الواحد الأحد الذي شأ،ه ووصفه أنه:
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] { من ولد } إذ هو من خواص الأجسام ولوازم الإمكان، وهو سبحانه منزه عنهما.
{ و } من جملة أكاذيبهم البالطة أيضا: إثبات الشريك له سبحانه مع أنه { ما كان } أي: ما صح وجاز أن يكون { معه من إله } شريكا يعبد بالحق مثله، ويستحق بالعبادة اسحتقاقا ذاتيا ووضعيا كما هو شأنه سبحانه { إذا } أي: حين كان الإله الواجب الوجود المستحق للعبادة متعددا كما زعم أولئك المبطلون { لذهب } وتميز { كل إله بما خلق } أوجد وأظهر، فيكون ملك كل منهما ممتازا عن الآخر، وإذا كان الإله متعددا أو المملكة ممتازة، لأمكن التغالب والتحارب ألبتة { ولعلا } أي: غلب وارتفع { بعضهم على بعض } هم بالقدرة والاستيلاء، فاحتل النظام المشاهد المحسوس، ولم يبق له انتظام وقيام { سبحان الله } وتعالى ذاته { عما يصفون } [المؤمنون: 91] به أولئك الجاهلون الغافلون عن علو شأ،ه من إثبات الولد له والشريك مع تعاليه، وتنزهه في ذاته عنهما وعن أمثالهما.
وكيف يكون له ولد ومعه شريك، وهو بذاته { عالم الغيب والشهادة } لا يعزب عن حيطة علمه شيء { فتعالى } سبحانه { عما يشركون } [المؤمنون: 92] أولئك المعاندون من أن يكون له ولد يشبهه أو شريك يماثله مع أخص أوصافه التي هي وجوب الوجود والعلم بالغيب والشهادة حضورا.
{ قل } يا أكمل الرسل مستعيذا بالله من شر ما سيلحق لأولئك المعاندين المبطلين: { رب } يا من رباني بمزيد اللطف والإحسان { إما تريني } أي: أن تحقق وتقرر عنك يا مولاي إراءتك إياي { ما يوعدون } [المؤمنون: 93] أولئك المسرفون المشركون من أشد العذاب والنكال في العاجل والآجل؛ ليكون بسبب عبرتي وتذكيري من أحوالهم.
{ رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } [المؤمنون: 94] مقارنا لهم معدودا من عدادهم ملحقا بي ما سيلحقهم من أنواع العذاب الصوري والمعنوي، الدنيوي والأخروي.
{ و } قال سبحانه: { إنا على أن نريك ما نعدهم } من العذاب { لقادرون } [المؤمنون: 95] يعني: إنا قادرون على أن نريك العذاب الموعود إياهم في هذه النشأة، لكنا نؤخرهم ونمهلهم رجاء أن يؤمن بعضهم، أو يحصل منهم المؤمنون من نسلهم وذرياتهم.
وإذا كنا نمهلهم ونؤخر عذابهم لحكم ومصالح { ادفع } أنت أيضا يا أكمل الرسل { بالتي } أي: بالدلائل والشواهد التي { هي أحسن } من المقاتلة والمشاجرة { السيئة } التي هي ما هم عليها من الكفر والشرك، لعل دلائلك تلين قلوبهم وتصفيهم من المكابرة والعناد معك؛ إذ { نحن أعلم } منك { بما يصفون } [المؤمنون: 96] أي: يصفونك به، وينسبون إليك ما لا يليق بجانبك، وثق بنا وتوكل في جميع حالاتك علينا، واتخذنا وكيلا، وفوض أمر انتقامهم إلينا، فإنا نكفي عنك مؤنة شرورهم.
{ وقل رب } يا من رباني بكنفك وجوارك { أعوذ بك من همزات الشياطين } [المؤمنون: 97] ووساوسه وأنواع تسويلاته وتلبيساته { و } لا سيما { أعوذ } وألوذ { بك } يا { رب أن يحضرون } [المؤمنون: 98] عند توجهي نحوك،وتحنني إليك ومناجاتي معك، سيما في خلال صلاتي وعند تلاوتي وعرض حاجاتي.
والكافرون من غياة انهماكهم في الغفلة، ومصرون على ما هم عليه من الشرك والكفر { حتى إذا جآء أحدهم الموت } وعاين من أمارات النشأة الأخرى، تنبيه حينئذ يقبح صنائعه التي أتى بها في النشأة الأولى { قال } حينئذ متضرعا إلى الله نادما متمنيا متحسرا: { رب ارجعون } [المؤمنون: 99] بفضلك وجودك إلى النشأة الأولى.
{ لعلي } بعد رجوعي عملا { أعمل صالحا } مصلحا { فيما تركت } وأفسدت من أمور الإيمان والإطاعة والانقياد { كلا } ردع له عن هذا السؤال والدعاء، ومنع له عن أنجاح سؤله { إنها } أي: طلب المراجعة { كلمة هو قآئلها } من غاية الحسرة والندامة على ما فات عنه في الابتلاء { و } كيف يرجع إليها؛ إذ { من ورآئهم } أي: أمامهم وقدامهم { برزخ } أي: حجاب مانع يمنعهم عن الرجوع { إلى يوم يبعثون } [المؤمنون: 100] يعني: لا يمكنهم الرجوع إلى دار الدنيا والحياة يها إلا الحياة في يوم البعث والجزاء.
{ فإذا نفخ في الصور } لحشر الأموات ونشرها من قبورهم، فيخرجون منها حيارى سكارى تائهين هائمين { فلا أنساب بينهم يومئذ } بل يفر كل أمرئ من أخيه وصاحبته وبنيه؛ إذ لكل منهم شأن يغنيه { ولا يتسآءلون } [المؤمنون: 101] أي: لا يسأل بعضهم أحوال بعض، بل كل نفس منهم رهينة ما كسبت بلا التفات منه إلى غيره.
{ فمن ثقلت موازينه } ورجحت خيراته على شروره ومعاصيه { فأولئك } السعداء المقبولون { هم المفلحون } [المؤمنون: 102] الفائزوون المصورون على الفوز والفلاح
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة: 38].
{ ومن خفت موازينه } ورجحت سيئاته على حسناته { فأولئك } الأشقياء المردودون هم { الذين خسروا أنفسهم } خسرانا مبينا إلى حيث هم؛ لانهماكهم في الشرور والسيئات { في جهنم } البعد والخذلان { خالدون } [المؤمنون: 103] مخلدون دائمون لا نجاة لهم منها أصلا من شدة اشتعال النار وتلهبها.
{ تلفح } وتحرق { وجوههم النار وهم فيها } أي: في النار { كالحون } [المؤمنون: 104] عابسون حيث تقلص شفاههم عن أسنانهم؛ بحث تصل شفتهم العليا إلى وسط رأسهم والسفلى إلى سرتهم.
ومتى تضرعوا وتفزعوا، وبثوا الشكوى إلى الله قيل لهم من قبل الحق: { ألم تكن آياتي } الدالة على عظة ذاتي، وكمال قدرتي على الأنعام والانتقام { تتلى عليكم } حين ابتليناكم في النشأة الأولى { فكنتم } من غاية غفلتكم وضلالكم { بها تكذبون } [المؤمنون: 105] وتنكرون عنادا واستكبارا، فالآن لحقكم وعرض عليكم ما أنكرتم له وأعرضتم عنه.
وبعدما سمعوا من التوبيخ والتقريع ما سمعوا، { قالوا } متضرعين معترفين بما صدر عنهم من البغي والعناد: { ربنا } يا من ربانا على فطرة السعادة والهداية { غلبت علينا شقوتنا } واستولت أمارتنا، وصالت علينا أمانينا وأهويتنا { وكنا } بمتابعة تلك البغاة الغواة الضلال { قوما ضآلين } [المؤمنون: 106] منحرفين عن طريق الحق، ناكبين عن صراط مستقيم.
{ ربنآ أخرجنا } بفضلك وجودك { منها } أي: من النار { فإن عدنا } بعدما خرجنا منها إلى ما كنا عليه قبل من الغفلة والغرور { فإنا } حينئذ { ظالمون } [المؤمنون: 107] لأنفسنا بالعرض على أنواع العذاب وأشد النكال.
{ قال } سبحانه في جو ابهم زجرا وتبكيتا: { اخسئوا } واستكوا { فيها } أي: في النار مهانين صاغرين { ولا تكلمون } [المؤمنين: 108] معي، ولا تناجوا إلي لدفع عذابكم وتخفيفه وإخراجكم من النار؛ إذ أنتم فيها خالدون.
[23.109-118]
أما تستحيون أيها المسرفون تذكروا ما أنتم عليه { إنه } أي: إن شأنكم وأمركم في دنياكم { كان فريق من } خلص { عبادي يقولون } متضرعين متحننين نحونا راجعين العفو والرحمة منا بقولهم: { ربنآ } كما ربيتنا بأنواع الكرم { آمنا } وصدقناك بالربوبية والألوهية { فاغفر لنا } ذنوبنا واستر لنا عيوبنا { وارحمنا } تفضلا علينا وامتنانا { وأنت خير الراحمين } [المؤمنون: 109] إذ رحمتك بنا لا تعلل بغرض منك وعوض منا.
ومتى سمعتم مناجاتهم هذه، ودعاءهم هذا { فاتخذتموهم سخريا } وصرتم مستهزئين بأقوالهم وأعمالهم، متمادين في الهزء والسخرية، متوغلين في الغفلة والغرور { حتى أنسوكم } جهلكم وغفلتكم { ذكري } والتوجه نحوي، والرجوع إلي بل صرتم غافلين ذاهلين، محرومين عن كمال الإنسان، منحطين عن رتبة الخلافة، مستحقين لأنواع السخرية والضحكة { و } مع ذلك { كنتم منهم تضحكون } [المؤمنون: 110] مع أنهم ساعون نحونا، سالكون في طريق توحيدنا، طالبون الوصول إلى ما هم جبلوا لأجله.
لذلك { إني } من كما لطفي وإشفاقي معهم { جزيتهم اليوم } أحسن انلجزاء { بما صبروا } على أذاكم أيها الجاهلون في النشأة الأولى، وهم بسبب صبرهم وتمكنهم على أذاكم في دنياكم حفظا لدينهم وإيمانهم { أنهم } القوم { هم الفآئزون } [المؤمنون: 111] المقصورون على الفوز والفلاح إلى ما هو النجاة و النجاح، ب
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة: 38].
وبعدما صاروا مخلدين مؤبدين في النار، صاغرين مهانين فيها { قال } قائل من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع إظهارا لقبح استبدالهم، واختيارهم الأدنى بدل الأعلى: { كم لبثتم } أيها الضالون المسرفون { في الأرض } التي كنت تستكبرون عليها خيلاء مغرورين { عدد سنين } [المؤمنين: 112] أي: كم مدة وسنة استقررتم عليها متفوهين؟!.
{ قالوا } مستقصرين مستحقرين: { لبثنا } عليها { يوما أو بعض يوم } أي: بل بعض يوم بالنسبة إلى هذه الأيام الطوال التي كنا فيها مذنبين، بل نسينا نحن مدة ما كنا عليها لغاية قصرها ولا نقدر عليها { فسئل العآدين } [المؤمنون: 113] المعاصرين بنا من أهل القبول والسرور، والموكلين علينا من الموكلين علينا من الملائكة، المستحضرين لأعمارنا وأعمالنا وجميع ما كنا عليها من الأحوال.
{ قال } القائل المذكور في جوابهم تصديقا لهم في مقالهم واستقلالهم: { إن لبثتم } أي: ما لبثتم فيها { إلا قليلا } قصيرا في غاية القلة والقصر { لو أنكم } أيها الضالون المسرفون { كنتم تعلمون } [المؤمنون: 114] في أنفسكم طول مدة العذاب وعدم تناهيها، لما اخترتم لأنفسكم ما يستجلب عليكم العذاب ويوقعكم فيه، ومع جهلكم هذا لم تقبلوه من الأنبياء العارفين الهادين أيضا، بل أنكرتم عليهم واستهزأتم مستكبرين مستنكرين.
{ أ } تزعمون أيها الجاهلون المعاندون أن أفعالنا خالية عن الحكمة والمصلحة ومقدوراتنا صدرت عنا حشوا بلا طائل { فحسبتم } وظننتم بل جزمتم وأيقتنم { أنما خلقناكم } وأظهرناكم من كتم الع دم { عبثا } أي: عابثين ساعين فيها بلا طائل مرتكبين لهم بلا حكم ومصالح { و } أيضا ظننتم أيها الغافلون الجاهلون { أنكم إلينا لا ترجعون } [المؤمنون: 115] للجزاء وتنقيد الأعمال وعرض الأحوال.
وكيف لا ترجون إلى ربكم أيها المجرمون، وكيف عن أعمالكم لا تسألون أيها المسرفون ولا تحاسبون؟! { فتعالى الله } المحيط للكل حضورا وشهودا أن يتصف ذاته بالغفلة والذهول، وأوصافه بعدم الحيطة والشمول، وأفعاله بالعبث والفضول؛ إذ هو { الملك } المستحضر لجميع مماليكه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكيف يعزم ويغيب عنه شيء من الأشياء؛ إذ هو { الحق } الثابت المحقق والقيوم المطلق المثبت، لا يشغله شأ عن شأن، وهو في شأن لا يعرضه شأن، ولا يعتريه زمان ومكان بل الشئون كلها مندرجة في علو شأنه؛ إذ { لا إله } في الوجود { إلا هو } لأنه { رب العرش الكريم } [المؤمنون: 116] المحيط لذرائر الكائنات، وهو الوجود العيني الظلي الكامن الفائض من حضرة القدوس على هياكل العكوس.
{ و } بعدما تحقق أن الكل في حيطة أوصافه وأسمائه، ومن أضلاله، وتحت لوائه { من يدع مع الله } المحيط للكل { إلها آخر } من الأضلال المحاطة والعكوس الساقطة مع أنه { لا برهان له } يثبت به وجود إله آخر سواه، بعدما شمل سواه سبحانه الكل وأحاط { به فإنما حسابه } أي: حساب المدعي، وجزاء ما ادعى من الشرك { عند ربه } يجازيه على مقتضى علمه { إنه } أي: إن الشأن والأمر عنده سبحانه إنه { لا يفلح } ولا يفوز { الكافرون } [المؤمنون: 117] بكفرهم وشركهم إلى ما هو موجب للفلاح والنجاح؟
{ و } بعدما أثبت سبحانه الفلاح للمؤمنين الموحدين في أول السورة، ونفاه عن الكافرين المشركين في أخرها { قل } يا أكمل الرسل تعليما لكل من يقتدي بك ويقتفي أثرك، وتنبيها عليه وتذكيرا لهم: { رب } يا من رباني بكنفك وجوارك { اغفر } واستر أنانيتي عن عين بصيرتي { وارحم } علي بنفي هويتي وإفنائها في هويتك { وأنت } بذاتك وأسمائك وصفاتك { خير الراحمين } [المؤمنين: 118] الذين هم أيضا من مقتضيات أوصافك وعكوس أسمائك، والكل بك منك، ولا راحم سواك، ولا مربي غيرك.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي، المتحقق بمقام العبودية أن تلازم على هذه الكلمة التي أسمعك الحق على لسان نبيك وتداوم عليها، سيما في خلواتك وأعقاب صلواتك، عازما عليها، سامعا لها سمع قبول ورضا، حتى يترسخ في قلبك، وتتمرن فيه إلى حيث نطقت حالك بها بلا ترجمان من لسانك.
ومتى تحققت وتمكنت في هذه المرتبة أتممت مرتبة العبودية، فلك بعدما كملت عبوديتك الترقي منها بتوفيق الله، وجذب من جانبه إلى مرتبة الفناء في الله والبقاء ببقائه.
وذلك لا يتم إلا باضمحلال هويتك، وتلاشي بشريتك وماهيتك إلى حيث سقطت عنك تعيناتك رأسا، وفنيت تشخصاتك جملة ، وحينئذ فزت بما فزت، ووصلت بما وصلت، وليس وراء الله مرمى ولا منتهى.
[24 - سورة النور]
[24.1-5]
هذه { سورة } عظيمة، وسفر جليل، وآيات كريمة { أنزلناها } من مقام جودنا، وفضلنا عليك يا أكمل الرسل تأييدا لنبوتك ورسالتك، وترويجا لدينك وملكتك { وفرضناها } أي: أوجبنا الأحكام التي ذكرت فيها، وقدرنا الحدود المقررة في ضمنها، ألزمناها على من تبعك من المؤمنين تهذيبا لظوهرهم وبواطنهم { و } مع ذلك { أنزلنا فيهآ آيات } عظام دالة على وحدى ذاتنا، وكمال قدرتنا على الإنعام والانتقام مع كونها { بينات } واضحات الدلالات { لعلكم تذكرون } [النور: 1] وتتعظون، فتتركون ما يوجب مقتكم وهلاككم، وتتوجهون إلى ما جبلتم لأجله.
ثم أخذ سبحانه بتطهير المؤمنين عن أفحش الفواحش وأقبح الآثام، فقال: { الزانية والزاني } أي: حكمهما وحدهما فيما فرضناهما، وتلوناها عليكم أيها المؤمنين الجلد، قدم سبحانه الزانية؛ لأن وقوع الزنا في الأغلب من جانبهن، ومن غرض نفوسهن، وزينتهن على الرجال، وإذا سمعتم أيها الحكام الحدود والحكم فيهما { فاجلدوا } بعدما ثبت الزنا بينما، وهما غير محصنين؛ إذ حكم المحصن مطلقا بالإجماع رجم كل منهما إن كانا محصنين، ورجم أحدهما إن كان الآخر غير محصن.
والمحصن هو: المسلم الحر العاقل البالغ الذي وقع منه الوقاع بنكاح صحيح { كل واحد منهما مئة جلدة } أي: مائة ضربة بسوط مؤلمة مجلدة أشد إيلام بدل ضربات استلذ بها حال الوقاع.
وزاد الإمام الشاافعي - رحمه الله - على جلد المائة تغريب العام؛ إذ هو أحوط وأدخل في الانزجار، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" البكر بالبكر جلد مائة وتعريب عام ".
{ ولا تأخذكم } أيها الحكام وقت إجرائكم الحدود والأحكام { بهما رأفة } رقة ومرحمة تضيعون بها حكمة الحد؛ إذ لا رأفة { في دين الله } وتفييذ أحكامه وحدوده الموضوعة فيه { إن كنتم } أيها لاحكام المقيمون للأحكام والحدود { تؤمنون بالله } وبجميع ما جاء به من عنده من الأوامر والنواهي، وجميع الحدود الموضوعة من عنده { واليوم الآخر } الذي فيه تبلى السرائر وتكشف الضمائر، فلكم أن تقيموا حدود الله على الوجه الذي أمرت به؛ لئلا تؤاخذوا في يوم الجزاء.
{ و } بعدما قصدتم أيها الحكام إجراء الحد عليهما { ليشهد } أي: ليحضر وليبصر { عذابهما طآئفة } أي: جميع حثير { من المؤمنين } [النور: 2] المعتبرين تفيضيحا لهما، وتشهيرا لأمرهما؛ لينزجرا مما جرى عليهما من في قلبه ميل إلى أمثا ما أتيا به من الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة.
ثم أشار سبحاه إلى قبح مناكحتهما وشناعة ألفتهما، ومواصلتهما على وجه المبالغة في النهي والكراهة، فقال: { الزاني } أي: الذي يرغب، ويميل إلى عورات المسلمين بلا رخصة شرعية تعديا عن حدود الله وهتكا لستره { لا ينكح } إن نكح { إلا زانية } مثله مناسبة له ومشاكلة إياه؛ إذ الجنسية علة التضام والألفة { أو مشركة } هي أخس وأخبث وأشد قبحا وشناعة { والزانية } الراغبة للأجانب، المائلة إليهم بلا طريق شرعي { لا ينكحهآ } أيضا { إلا زان } كذلك لكمال الملائمة والمشابهة { أو مشرك } هو أخبث وأقبح { وحرم ذلك } الفعل القبيح، والخصلة الذميمة الشنيعة { على المؤمنين } [النور: 3] الموقنين المخصلين من أرباب العزائم، ونهي على أهل الرخص منهم نهيا واصلا إلى حد النفي والحرمة.
ثم قال سبحانه: { والذين يرمون } بالزنا { المحصنات } الحرائر العاقلات البالغات العفائف من المسلمات، سواء كان الرامي أزواجهن أو غيرهم، وحكم المحصنين أيضا كذلك، وإنما خصهن بالذكر؛ لكثرة ورود الرمي في حقهن، وكون رميهن سببا لنزول الآية الكريمة، { ثم } بعدما رموا { لم يأتوا } لإثباته { بأربعة شهدآء } ذوي عدل وأمانة ومروءة؛ بحيث لم يكونوا متجسسين عن أحوال الزانيين البغيين، ولا مستورين منتظرين لاطلاع ما يأتيان به من الفعلة الشنيعة، بل وقع نظرهم عليها بغتة فرأوا قبح صنيعهما - العياذ بالله - كالميل في المكحلة.
فإن أتوا بأربعة شهداء على الوجه المذكور فقد أثبتوا الزنا، وإن لم يأتوا { فاجلدوهم } أيها الحكام، الراميين القاذفين { ثمانين جلدة } لا كجلدة الزنا بل أخف منها كما هي أقل عددا.
{ و } بعدما جلدتم أيها الميقيمون لحدود الله { لا تقبلوا لهم شهادة } أصلآ في حال من الأحوال ودعوى من الدعاوي { أبدا } إلى انقراض حياتهم { وأولئك } الأشقياء المردودون { هم الفاسقون } [النور: 4] الخارجون عن مقتضى العقل والشرع، المسقطون للمروءة والعدالة، التاركون طريق الإنصاف والانتصاف، لا ترجى نجاتهم من عذاب الله أصلا.
{ إلا الذين تابوا } منهم ورجعوا { من بعد ذلك } الرمي والافتراء { وأصلحوا } ما أفسدوا على نفوسهم بالتوبة والندامة عن ظهر القلب { فإن الله } المطلع لضمائرهم { غفور } يعفو عنهم ويستر زلتهم { رحيم } [النور: 5] يرحمهم، ويقبل توبتهم إن أخلصوا فيها.
[24.6-10]
{ والذين يرمون أزواجهم } بالزنا { ولم يكن لهم شهدآء } حضراء عندهم { إلا أنفسهم } أي: غير أنفسهم { فشهادة أحدهم } صارت وتقاوت { أربع شهادات } في إسقاط حد القذف عنهم منزلة أربع شهادات مؤديات { بالله } متعلقات بهذا المدعى، وهي { إنه } أي: الزوج المدعي { لمن الصادقين } [النور: 6] في دعوى الزنا بلا افتراء منه ومراء.
{ والخامسة } أي: بعدما أدى الأربعة أتى بالهشدة الخامسة لها، المؤكدة المقيدة بلعنة الله تغليظا بأن قال هكذا: { أن لعنت الله عليه } أي: طرده وتبعيده عن ساحة عز حضوره وسعة رحمته { إن كان من الكاذبين } [النور: 7] في هذا الدعوى.
وبعد أداء الشهادات الأربع المؤكد بالخامسة، فقد سقط عنه حد القذف، وثبت حد الزنا على المرأة، ووقع التفريق المؤبدد بينهما بالفسخ أو بالطلاق على اختلاف الرأييين، ونفي الولد إن تعرض له فيه.
{ ويدرؤا عنها العذاب } أي: يسقط عن المرأة حد الزنا بعد { أن تشهد أربع شهادات } مؤديات { بالله } متعلقات بقولها: { إنه } أي: الزوج { لمن الكاذبين } [النور: 8] المفترين فيما رماني به وأنا بريئة عنه، { والخامسة } أي: أكدت الأربعة بالخامسة أيضا قائلة: { عليهآ إن كان } وقهره وتبعيده عن سعة رحمته { أن غضب الله } زوجها { من الصادقين } [النور: 9] في هذا الرمي الشنيع.
وبعدما أدتها على وجهها سقط الحد عنها، ووقع التفريق المؤبد، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ".
ثم قال سبحانه: { ولولا فضل الله } المطلع بجميع سرائر عباده { عليكم } أيها المجترئون بالحلف الكاذب والشهادات الباطلة، وتحمل لغنة الله وغضبه { ورحمته } أي: مرحمته وشفقته بالستر، والإخفاء عليكم لفضحكم، وأظهرا شنعتكم ألبتة، ولكنه أمهلكم وستر عليكم رجاء أن تتوبوا عن هتك محارم الله، والخروج عن مقتضى حدوده { و } اعلموا أيها المؤمنون { أن الله } المصلح لأحوالكم { تواب } لكم يوفقكم على التوبة { حكيم } [النور: 10] في جميع أفعاله، لا يعاجلكم بالعقوبة، كي تنتبهوا عن قبح صنيعكم، وترجعوا عن سوء فعالكم؛ لتفوزوا إلى ما جبلتم لأجله.
[24.11-18]
ثم أشار سبحانه إلى تطهير ذيل عائشة - رضي الله تعالى عنها - عما رماها وافتراها أهل الزيغ والضلال جهلا بحالها وعلو شأنها، وكمال عصمتها وعفتها، فقال: { إن } المفسدين المسرفين { الذين جآءوا بالإفك } أي: بالكذب الصارف عن الحق { عصبة } أي: فرقة وعصابة معدودة { منكم } أيها المؤمنون المقذوفون مع أنهم { لا تحسبوه } ولا تظنوه أي: الإفك الذي جاءوا به { شرا لكم } ولحوق عار عليكم { بل هو } أي: إفكهم { خير لكم } وسبب ثواب عظيم وأجر جزيل، و ظهور كرامة، ونزول آيات عظام في براءتكم وطهارتكم وتهويل شأنكم.
وصار { لكل امرىء منهم } أي: من القاذفين المفتريين جزاء { ما اكتسب من الإثم } والإفك الذي جاءوا به ظلما وزورا { و } لا سيما الشخص { الذي تولى كبره منهم } أي: معظم الآفكين، وهو الذي أخذ في إفشائه وإشاعته، وهو ابن أبي { له عذاب عظيم } [النور: 11] في الدنيا والآخرة؛ إذ هو مطرود بين المؤمنين، مشهور بالنافق، وله في الآخرة أشد العذاب.
ثم وبخ سبحاه على الآفكين وقرعتههم؛ حيث قال: { لولا إذ سمعتموه } أي: الإفك أيها الآفكومن لم تظنوا بالمذروفين خيرا كما { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا و } لم تقولوا كما { قالوا } أي: المؤمنون: { هذآ إفك مبين } [النور: 12] وكذب عظيم وفرية بلا مرية؛ إذ ساحة عصمتها وطهارة ذيلها ونجابة طينتها أجل وأعلى من أن يفترى عليها أمثال هذه المفتريات الباطلة.
عصمنا الله عما لا يرضى منه سبحانه { لولا جآءوا } أي: الآفكون المسرفون وأتوا { عليه } أي: على إفكهم هذا { بأربعة شهدآء } عدولا لصدقوا فيما قالوا { فإذ لم يأتوا بالشهدآء } الأربع العدول { فأولئك } الآفكون المفترون { عند الله } المطلع لضمائرهم { هم الكاذبون } [النور: 13] المقصورون على الكذب، يجازيهم سبحانه على مقتضى ما افتروا من الكذب والبهتان، سيما مع أهل البيت، أهل العصمة والكرامة.
{ ولولا فضل الله عليكم } أيها الباهتون، المفترون بتوفيكم على الإنابة والرجوع عن هذه الفرية العظيمة { ورحمته } الشاملة لكم { في الدنيا والآخرة لمسكم في مآ أفضتم فيه } وخضتم في إشاعته وإذاعته { عذاب عظيم } [النور: 14] عاجلا وآجلا.
{ إذ تلقونه } مع نهاية كراهته وسماجته { بألسنتكم } سائلا بعضكم بعضا متلقيا على قبوله وسماعه { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } لا ظن ولا يقين بل جهل وتخمين، { و } مع عظم هذا الجرم عند الله { تحسبونه } أيها الحمقى المسرفون { هينا } سهلا يسيرا، لا يترتب عليه شيء من العذاب والعقاب { و } الحال أنه { هو } أي: رمي تلك البريئة العفيفة { عند الله } المطلع لعفتها وعصمتها { عظيم } [النور: 15] فظيع في غاية العظمة والفظاعة، مستجلب لأنواع العذاب وأشد النكال؛ إذ الافتراء بآحاد الناس يوجب أشد العذاب وأسوأ العقاب، فكيف بأفضلهم وأشرفهم!.
{ ولولا إذ سمعتموه } أولا أيها الآفكون المفترون { قلتم ما يكون } أي: ما يصح ويجوز { لنآ أن نتكلم بهذا } الفحش الباطل الكذب الصريح العاطل { سبحانك } نقدسك وننزهك من أن تمكن أحدا يفعل، ويقول في حق حليلة حبيبك صلى الله عليه وسلم أمثال هذا الافتراء؛ إذ { هذا بهتان عظيم } [النور: 16] تبهت، وتحير منه العقول، وتضطرب الأسماع، وتتقلقل القلوب.
{ يعظكم الله } المصلح لمفاسدكم، ويبالغ في وعظكم وتذكيركم كرهاة { أن تعودوا لمثله أبدا } ما دمتم حيا { إن كنتم مؤمنين } [النور: 17] بالله مصدقين لنبيه؛ إذ أمثال هذه الخرافات بالنسبة إلى أهل بيت النبوة من أمارات الكفر والتكذيب، وعلامات سوء الأدب مع الله ورسوله.
{ و } بعد صدور أمثال هذه الخرافات من أهل السرف والإفساد { يبين الله } المدبر { لكم الآيات } الدالة على الصفح والإعراض عن أمثال هذه الافتراءات الهاتكة لأستار محارم الله، سيما مع أكرم عترة حبيبه { والله } المصلح لأحوالكم { عليم } بما في ضمائركم وخواطركم { حكيم } [النور: 18] في إزالة ما يضركم ويغويكم.
[24.19-22]
ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده: { إن } المفسدين المسرفين { الذين يحبون } من خبث بواطنهم { أن تشيع } تظهر وتنتشر { الفاحشة } الخصلة المذمومة عقلا وشرعا { في الذين آمنوا } أي: بين عموم المؤمنين { لهم } جزاء لإشاعتهم وإذاعتم { عذاب أليم } مؤلم مفزع { في الدنيا } بالجلد { والآخرة } بالنار المحرق الملتهب { والله } المطلع لجميع ما جرى في الغيب والشهادة { يعلم } قبح ما في الإشاعة والإذاعة { وأنتم لا تعلمون } [النور: 19] قبحها لذلك تحبون.
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بفتح باب التوبة، والرجوع عن المعصية بالندامة الخالصة لفضحكم، وعذبكم بقبح صنعتكم وشنعة خصلتكم { و } اعلموا { أن الله } المراقب لجميع ما صدر عنك { رءوف } لكم يحفظكم عما يضركم { رحيم } [النور: 20] لكم يرحمكم، بعدما وفقتم على التوبة والندامة.
ولما كان أمثال هذه المعاصي والآثام بمتابعة الشيطان المضل المغوي، نادى سبحانه عموم عباده المؤمنين، ونهاهم عن متابعته والاقتداء به والاقتفاء بأثره، فقال: { يأيها الذين آمنوا } بوحدة الصانع وصفاته، وبالنبوة والرسالة، والتشريع العام المفيد لاعتدال الأخلاق والأطوار بين عموم العباد، مقتضى إيمانكم مخالفة النفس والهوى اللتين هما من جنود الشيطان المضل المغوي عن طريق الحق { لا تتبعوا خطوات الشيطان } ولا تقتفوا أثره في إشاعة الفاحشة واستحباب المعصية.
{ ومن يتبع } منكم أيها المؤمنون { خطوات الشيطان } المضل المغوي فقد ضل وغوى { فإنه } أي: الشيطان { يأمر } من يتابعه ويقتدي به { بالفحشآء } المستقبح عقلا وشرعا { والمنكر } المردود مروءة ونقلا { ولولا فضل الله عليكم } المتكفل لإصلاح حالكم عليكم { ورحمته } الواسعة الشاملة لعموم عباده { ما زكى } وطهر وخلص { منكم من أحد } متابعة الشيطان { أبدا } ما دمتم أحياء؛ إذ متابعته مطبوعة لكم، مستحسنة عندكم، مقبولة لأنفسكم { ولكن الله } المدبر لأمور عباده { يزكي } أي: يخلص ويطهر من غوائل الشيطان ووساوسه { من يشآء } رعاية لحكمته، وضبطا لمصلحته التي جبل عباده عليها { والله } المطلع لما ظهر وبطن { سميع } لأقوالهم { عليم } [النور: 21] بقصهم ونياتهم.
{ و } بعدما جاء من القاذفين الآفيكن ما جاء، انصرف عنهم المؤمنون وأعرضوا عن إنفاقهم ورعايتهم، وحلفوا ألا ينفقوا عليهم أصلا، مع أن بعضهم في غاية الفاقة، رد الله على المؤمنين، وحثهم على الإنفاق، وأمرهم بالإحسان بدل الإساءة، وقال: { لا يأتل } أي: لا يحلف ولا يقصر { أولوا الفضل منكم } في الدين { و } أولوا { السعة } في الرزق { أن يؤتوا } أي: من ألا يؤتوا أو على ألا يؤتوا { أولي القربى } أي: الفقراء الذين ينتمون إليكم إيها المؤمنون بالقرابة { والمساكين } الفاقدين لقوت يومهم، ولا سيما الفقراء { والمهاجرين في سبيل الله } الباذلين أرواحهم في ترويج دينه؛ بسبب أنهم خاضوا في معصية الإفك والافتراء، وجاءوا ببهتان عظيم، وأحبوا أن يشيعوه، ويتقولوا به ظلما وزورا.
{ و } بعد نزول آيات البرءاة، والتنزيه في شأن العفيفة - رضي الله تعالى عنها - { ليعفوا } أي: جملة المؤمنين عن ذوب القاذفين بعدما تابوا وندموا، وقبل الله سبحانه منه توبتهم { وليصفحوا } وليعرضوا عن جريمتهم، ويصافحوا معهم، وليعطوا لهم ما أعطوهم قبل { ألا تحبون } أيها المقذوفون المطهرون البريئون { أن يغفر الله لكم } زلتكم وذنوبكم بسبب عفوكم عنهم، وصفحكم عما جاءوا به افتراء { والله } المنتقم المجازي لعباده { غفور } لهم يغفر زلتهم وذنوبهم بسبب عفوهم جرائم إخوانهم { رحيم } [النور: 22] يرحمهم تفضلا عليهم وامتنانا.
[24.23-27]
روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأها على أبي بكر رضي عنه، فقال: بلى أحب، وأعاد إلى مسطح - هو أحد القاذفني الآفكين - وهو ابن خالته فقير ليس له شيء ينفقه على نفسه؛ لأنه ينفق عليه دائما.
ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده، ونهيا لهم عن الرمي بالزنا مطلقا: { إن } المسرفين { الذين يرمون } بالزنا { المحصنات } المتعففات، والمستحفظات لحدود الله { الغافلات } البرئيات المنزهات عما رموا به أولئك الغفلة الجهلة ظلما وزورا { المؤمنات } بالله، وبما جاء من عنده من الحدود والأحكام الجارية على ألسنة رسله، وبيوم الجزاء المعد للكشفش والتفضيح { لعنوا } وطردوا عن روح الله وسعة رحمته؛ لقصدهم عرض العفائف، وهتك أستارهن، وطعنهم فيهن افتراء ومراء { في الدنيا } بإجراء الحد وأنواع الطرد والشتم، ورد شهادتهم مدة حياتهم { والآخرة } بأنواع العذاب والنكال.
{ و } بالجملة: { لهم } بسبب قبح صنيعهم وسوء فعالهم { عذاب عظيم } [النور: 23] لا عذاب أعظم منه؛ لعظم جرمهم وعصيانهم.
اذكر لهم يا أكمل الرسل توبيخا لهم، وتذكيرا لمن اعتبر منهم من المؤمنين { يوم تشهد عليهم } بإلهام الله وإعلامه { ألسنتهم } وتقر بما صدر عنها من الكذب والافتراء، ورمي المحصنات، وقذف العفائف عمدا بلا علم لهم ولا شعور بحالهن { وأيديهم } لما افترقوا من الأخذ والإعطاء لا على الوجه المشروع { وأرجلهم } بالسعي والتردد إلى ما يرضى منه سبحانه ولا رسوله ولا المؤمنون، وبالجملة: يقر كل من أعضائهم وجوارحهم { بما كانوا يعملون } [النور: 24] ويكتسبون من المعاصي والآثام.
{ يومئذ يوفيهم الله } المجازي لأعمالهم { دينهم } وجزائهم { الحق } أي: ما يستحقون من الجزاء بلا زيادة ونقصان عدلا منه سبحانه { و } حنيئذ { يعلمون } يقينا { أن الله } القادر على الإنعام والانتقام { هو الحق } المقصور على التحقق والثبوت بالقسط والعدل { المبين } [النور: 25] الظاهر ألوهيته وربوبيته على الوجه الأقسط الأعدل الأقوم، بلا ميل منه وانحراف عن جادة الاستقامة والعدل الحقيقي.
ومن جملة عدالته: رعاية المناسبات بين المظاهر والمربوبات، كما بينها سبحانه بقوله: { الخبيثات } من النساء المطعونات بأنواع الرذائل، المنحرفات عن جادة السلام والطهارة { للخبيثين } كذلك من الرجال؛ يعني: لا يتزوجهن غير الخبيثين بحكم المناسبة { و } كذا { الخبيثون } من الرجال { للخبيثات } من النساء، كل لنظيرتها بحكم المصلحة الإلهية.
{ و } كذا { الطيبات } الطاهرات العفائف المحصنات { للطيبين } أيضا كذلك { و } كذا { الطيبون } المستقيمون على جادة التوحيد والعدالة { للطيبات } أيضا كذلك؛ إذ كل يميل بالطبع إلى شاكلته بالميل المعني الموضوع بالوضع الإلهي، ومتى ثبت هذا الحكم، وتبين هذه المناسبات بتبيين الله { أولئك } العفائف المطهرون الطيبون { مبرءون } منزهون { مما يقولون } أولئك الرماة المفترون والطغاة الخبيثون المنحرفون عن طريق احلق، الناكبون عن صراط مستقيم، ولبراءتهم ونزاهتهم { لهم مغفرة } وعفو من الله المطلع لبراءتهم الشاهد عليها { ورزق كريم } [النور: 26] وهو الرزق الصوري والمعنوي، الذي يتلذذون به الجنة عند كشف الغطاء ورفع الحجب.
اللهم ارزقنا بلطفك من الرزق الكريم، واجعلنا بجودك من ورثة جنة النعيم.
ثم لما كان أمثال هذه الهذيانات الباطلة، والمفتريات العاطلة من نتائج الخلطة والاستئناس مع أصحاب الغفلة، وكشف الحجب، والأستار الواقعة بين ذوي القدور والاعتبار وأولي الخطر الكبار إلى من هو من السلفة الساقطين المنحطين من درجة أرباب الاستبصار.
أشار سبحانه إلى أن الاختلاط الاستئناس بين المؤمنين، لا بد وأن يكون مسبوقا بالاستئذان والاسترخاص، حتى لا يؤدي إلى أمثال هذه الخرافات، فقال: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم محافظة المحبة والإخلاص بينكم، ومن جملتها: إنها { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } أي: بيتا من بوت إخوانكم بغتة بلا استئذان من أهلها، بل لكم أن تصبروا { حتى تستأنسوا } وتستأذنوا، وتطلبوا رخصة الدخول.
{ و } بعدما أذنتم ورخصتم { تسلموا على أهلها } بأن تقولوا:
" السلام عليكمم! أدخل أم لا؟ ثلاث مرات "
هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن أذنتم بالدخول، فدخلوه وإلا فارجعوا { ذلكم } أي: الاستئذان والاستئناس { خير لكم } من المبادرة إلى الدخول بغتة، وإنما أنزل عليكم هذه الكريمة المتعلقة بالأخلاق { لعلكم تذكرون } [النور: 27] وتتعظون بها، وتحفظون حدود المصاحبة والمؤاخاة بينكم، ولا تجاوزون عن مقتضى المروءة والعدالة.
[24.28-30]
{ فإن لم تجدوا فيهآ } أي: في البيوت { أحدا } تستأذنون منه { فلا تدخلوها } لئلا تتهموا بأنواع التهمة بل اصبروا { حتى يؤذن لكم } أي: لا تدخلوا حتى تجدوا من يأذن لكم { و } بعدما وجدتم { إن قيل لكم ارجعوا } فالوقت لا يسع بالدخول { فارجعوا } على الفور بلا تفحص، وتفتيش عن أسبابه على وجه الإلحاح والاقتراح حخغ يفعله جهلة الناس.
{ هو } أي: الرجوع بلا تفتيش { أزكى لكم } وأظهر لنفوسكم من الإلحاح { والله } المدبر لمصالحكم { بما تعملون } وتأملون في نفوسكم { عليم } [النور: 28] يجازيكم على مقتضى علمه وخبرته.
{ ليس عليكم جناح } أي: ضيق ومنع { أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } مع أن { فيها متاع لكم } تستأجرونها أو تستعيرونها للادخار والاستخزان، { و } بالجملة: { الله } المطلع لضمائر عباده { يعلم } منكم { ما تبدون } وتظهرون { وما تكتمون } [النور: 29] وتخفون، يجازيكم على مقتضى علمه.
ثم أمر سبحانه لحيبيه بتذكير عباده، وتهذيب أخلاقهم سيما في حفظ المحارم والحدود فقال: { قل } يا أكمل الرسل { للمؤمنين } المصدقين بحدود الله، الممتثلين بأوامره { يغضوا } وينقصوا { من أبصارهم } مطلقا دائما حتى لا يقع نظرهم بغتة إلى المحرمات، بل لهم أن يديموا النظر إلى الطريق الذي مشوا عليها، حتى يسلموا من شرور أمارتهم وصولة جنود الشهوات عليهم.
{ و } قل لهم أيضا: { يحفظوا فروجهم } عن أمارات الزنا، وعلامات السفاح ومقدماته، ويتقوا عن مواضع التهم ومظان الرمي والقذف مطلقا { ذلك } الغض والحفظ { أزكى لهم } وأطهر لنفوسهم { إن الله } الرقيب على جميع حالاتهم { خبير بما يصنعون } [النور: 30] من التفكر والترامز، وإجالة النظر، وتحريك سائر الأعضاء نحو ما يشتهون من المحرمات.
[24.31]
{ وقل } أيضا يا أكمل الرسل { للمؤمنات } المقيمات لحدود الله، المتحفظات لمحارمه: { يغضضن } وينقصن { من أبصارهن } ويقصرن نظرهن إلى أزواجهن، { ويحفظن فروجهن } من الميل إلى المحارم، ولهن ألا يعرضن نفوسهن إلى غاير أزوجهن، { ولا يبدين } ويظهرن { زينتهن } لغيرهن { إلا ما ظهر منها } ما ظهر من الثياب التي يلبسونهن، { و } من غاية تسترهم وتحفظهم { ليضربن } ويسترن { بخمرهن } ومقانعهن { على جيوبهن } أي: نحورهن وصدورهن مبالغة في التستر والتحفظ.
{ و } الجملة: { لا يبدين زينتهن } أي: التي يتزين بها لازدياد الحسن { إلا لبعولتهن } أي: لأزاجهن الزينة إنما هي لأجلهم { أو آبآئهن } إذ هم الأولياء لهن { أو آبآء بعولتهن } لحفظهم محارم أبنائهم { أو أبنآئهن } لأنهم أمناء على أمهاتهم { أو أبنآء بعولتهن } لأنهم حافظون حمية آبائهم ومحارمهم { أو إخوانهن } لأنهم أحفظ عليهن منهن؛ لخوف لحوق العار حمية وغيرة { أو بني إخوانهن } إذ هم كآبائهم في محافظتهن { أو بني أخواتهن } لأن نسبتهم إليهن كنسبتهم إلى آمهاتهم { أو نسآئهن } أي: المسلمات مطلقا؛ إذ لا يتصور منهم الضرر سوى السحاقة، والضرر والإيمان يمنع عنهما { أو ما ملكت أيمانهن } إذ الاحتراز عنه حرج؛ لأنهم من أهل الخدمة { أو التابعين غير أولي الإربة } أي: الحاجة والشهوة { من الرجال } الهرم الذين لا يبقى منهم الشهوة { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء } لعدم بلوغهم وقت الحلم وثوران الشهرة.
{ و } أيضا قل لهن: { لا يضربن بأرجلهن } على عادة الجهال من التبختر والرقص { ليعلم } ويظهر { ما يخفين من زينتهن و } بالجملة: { توبوا } رجالا ونساء { إلى الله } المبدئ المبدع لكم من كتم العدم { جميعا أيه المؤمنون } بتحيد الله المصدقون لكتبه ورسله { لعلكم تفلحون } [النور: 31] وتفوزون بالفلاح والنجاح عند الملك التواب الفتاح.
[24.32-34]
ثم لما أشار سبحانه إلى محافظة الحدود والآداب والألفة والمصاحبة بين المؤمنين، ونهاهم عن أمارات السفاح ومقدمات الزنا مطلقا؛ لئلا يجهل النسب وتختلط النطف، وقدمها اهتماما بشأنها أراد أن يشير إلى النكاح الصوري المنبئ عن النكاح المعنوي، فقال: { وأنكحوا } أيها الأولياء السادات، المولون لأمور من في حفظكم وحضانتكم { الأيامى منكم } وهو جمع: أيم ، هو العزب سواء كان ذكرا أم أنثى، بكرا أو ثيبا، { و } أنكحوا أيضا { الصالحين } للنكاح والتزويج { من عبادكم وإمائكم } فعليكم أيها الولاة تزويج الأيامى، ولا تبالوا بفقرهم وفاقتهم { إن يكونوا فقرآء } عند النكاح { يغنهم الله } المصلح لأحوالهم { من فضله } وسعة جوده ورحمته لعباده بعد النكاح، { } والله المدبر لأمور عباده، المتكفل لأرزاقهم { واسع } يوسع عليهم من رزقه { عليم } [النور: 32] برثاثة حالهم، مغن علمه بهم عن سؤالهم.
{ وليستعفف } أي: ليجتهد في العفة، وتسكين الشهوة للفقراء { الذين لا يجدون نكاحا } أي: أسبابه وصداقه، وليصبروا بمشاق العزوبة { حتى يغنيهم الله } المصلح لأحوالهم { من فضله } وسعة جوده، فيجدون ما يتزوجون به.
ثم أشار سبحانه إلى عتق الموالي، وتخليصهم من ربقة الرق وعروة العبودية طلبا لمرضاة الله وعتقا من عذابه، فقال: { والذين يبتغون } أي: العبيد الذي يطلبون { الكتاب } أي: الكتابة المتضمنة لعتقهم، وخلاصهم عن الرق بعدما أدوا المبلغ المعهود ا لذي يكاتب عليها، وهم { مما ملكت أيمانكم } أيها الموالي سواء كانوا عبيدا أو إماءا، قنا أو مدبرا أو مستولدة، يطلبون منكم أن تعتقوهم على مال تكتسبون لهم؛ ليؤدوا إليكم منجما، وبعدما أدوا ما تكتبون لهم صاروا أحرارا معتقين { فكاتبوهم } واعتقوهم على جعل { إن علمتم فيهم خيرا } أي: علمتم وتفرستم فيهم بعدما فككتم رقابهم يكونوا صلحاء أمناء مؤمنين لا يرجى منهم الشر والفساد { و } بعد عقدهم الكتابة { آتوهم } أيها المسلمون { من مال الله الذي آتاكم } من فضله تفكيكا لرقابهم عن مذلة الرق وهوان العبودية.
ثم أشار سبحانه إلى حسن المعاشرة مع المماليك، ورعاية غبطتهم، ومحافظة الحدود بينهم؛ بحيث لا يكرهونهم إلى ما لا يصلح لهم شرعا وعادة بل عقلا ومروءة، سيما إ ذا استحصنوا وتحفظوا، فقال على سبيل المبالغة في النهي: { ولا تكرهوا } أيها السادة المسلمون { فتياتكم } أي: شواب جواريكم { على البغآء } أي: الزنا مطلقا سيما { إن أردن تحصنا } وتحفظا عن البغي مع قلة عقلهن ورشدهن، فأنتم أحق بحفظهن وحصنهن مما لا يرتضيه العقل والشرع، ولا تنصرفوا أيها الولاة عن مقتضى العقل والشرع { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } وتطلبوا متاعها الفاني وحطامها الدني الزائل { ومن يكرههن } سيما بعد نزول الزاجر { فإن الله } المنتقم لعصة عباده، سيما الظالم الخارج عن حدوده { من بعد إكراههن } أي: من بعد إكارههم لهن { غفور } يغفر لهن { رحيم } [النور: 33] يرحمن عليهن إن كن مخلصات في التحصن، ويعاقب على المكرهين أشد العقاب ويعذبهم أسوأ العذاب.
{ و } كيف لا يعاقبكم الله أيها المسرفون المصرون على الفسوق والعصيان { لقد أنزلنآ } من مقام جودنا وفضلنا { إليكم آيات مبينات } واضحات فيها ما هو صلاحكم ونجاتكم، { و } أوضحناها لكم بأن أورنا فيها { مثلا من } أحوال الظلمة { الذين خلوا } ومضوا { من قبلكم } لتعتبروا مما جرى عليهم من سوء صنيعهم { و } ليكون قصصهم { موعظة } وتذكيرا { للمتقين } [النور: 34] منكم المحترزين من بطشنا وانتقامنا، ومع ذلك لم تعتبروا ولم تنزجروا، فتستحقوا أشد العذاب وأسوأ العقاب مثلهم.
[24.35-40]
وكيف لا تنزجرون عن قهر الله أيها الغافلون، ولا تخافون عن بشطه أيها الضالون، أما تستحيون منه سبحانه مع حضوره وشهوده في جميع الأماكن، وظهور نوره في عموم الآفاق والأنفس غيبا وشهادة، ظاهرا وباطنا، أزلا وأبدا، أولا وآخرا، صورة ومعنى.
وكيف تتركون حدوده وتخرجون عن مقتضى أوامره ونواهيه في كتبه المنزلة على رسله أيها الجاهلون المسرفونن؛ إذ { الله } المتجلي بأسمائه الحسنى وصفاته العليا { نور السموت والأرض } أي: مظهرهما وموجدهما، وموجد ما ظهر بينهما وفيهما وعليهما من كتم العدم، بلا سبق مادة ومدة بامتداد أظلال أسمائه وآثار صفاته عليهما { مثل نوره } أي: ظهور أنواع وجوده من هياكل الهويات وشباك العكوس والتعينات { كمشكاة } وهي كوة توضع فيه القناديل المسرجة، وهي مثال الأشكال والمظاهر والتعينات المنعكسة من أشعة الأسماء والصفات الإلهية المتشعشعة المتجلية بالتجليات الحبية على مقتضى الذات { فيها مصباح } وهي مثال نور الوجود الإلهي، المضيء بنفسه وذاته، ومن كمال شروقه وبروقه ولمعانه تخطف الأبصار وتكمل المدارك والأنظار، لذلك احتجب { المصباح } المذكمور أولا { في زجاجة } صافية عن كدر التعينات ورين التعلقات، وهي مثال الأسماء والصفات المنبسطة أظلالها على صفائح الأكوان.
ومن كمال اللطافة والصفاء، هذه { الزجاجة كأنها كوكب دري } في غاية الإضاءة والإنارة، يتلألأ ويتشعشع بصفاته الذاتية ولطافته الجبلية؛ لأنه { يوقد } ويسرج بدهن إليهي متخذ { من شجرة مباركة } كثيرة الخير والبركة لمن استظل تحتها، وهي شجرة الوجود الممتدة أظلالها على صفائح عموم ما ظهر وبطن من المظاهر والموجودات الغير المحصورة { زيتونة } كثيرة النفع والخير؛ إذ الوجود خير محض ونفع صرف لا شر يه ولا ضرر أصلا { لا شرقية ولا غربية } أي: معتدلة في نفسها، خارجة عن الجهات كلها غير محاطة بها.
ومن كمال صفائها ولطافتها { يكاد زيتها } بإضاءتها الذاتية، وإشراقها العينية { يضيء ولو لم تمسسه نار } هي التجلي الحبي الشوقي، والمحبة الخالصة والعشق الإلهي.
وبالجملة: نور الوجود الإلهي { نور على نور } لا يدركه، ولا يتميز، ولا يطلع عليه أحد من مظاهره ومصنوعاته، بلا توفيق منه سبحانه وجذب من جانبه، بل { يهدي الله } الهادي لعباده إلى صفاء توحيده { لنوره } أي: ضياء وجوده وسعة رحمته وجوده { من يشآء } من عباده من جذبه الحق نحو جنابه، ووفقه الوصول إلى فناء بابه.
{ و } للتنبيه إلى هذا المقام والإشارة إلى هذا المرام، و { يضرب الله } المطلع لاستعدادات عباده { الأمثال } المنبهة والأشياء المثيرة { للناس } المجبولين على فطرة التوحيد لهم؛ لعلهم يتفطنون على ما جبلوا لأجله ويتنبهوا على مبدئهم ومعادهم { والله } المحيط بالآفاق والأنفس إحاطة حضور وشهود { بكل شيء } مما جرى في مملكة عموم المظاهر والمصنوعات { عليم } [النور: 35] لا يغيب عن عمله شيء.
ولهذا التفطن والتذكر يتوجه المخلصون المنجذبون نحو الحق { في بيوت } معدة للتوجه مع أنه { أذن الله } الهادي لعباده إلى توحيده { أن ترفع } بناؤها وتعظم غاية التعظيم، { ويذكر فيها } أي: في تلك البيوت والمساجد { اسمه } الذي هو كلمة توحيده وتقدسيه، ولهذا { يسبح له } أي: الله طلبا لمرضاته لا لغرض دنيوي أو أخروي { فيها } أي: في تلك البيوت المذكورة دائما { بالغدو والآصال } [النور: 36] أي: في جميع آناء الأيام والليالي.
{ رجال } كمل مخلصون منجذبون نحو الحق، مشمرون ذيل هممهم لسلوك طريق الفناء، منقطعون عن الدنيا وما فيها؛ بحيث { لا تلهيهم } وتشغلهم { تجارة } وأرباح متعلقة بالأمور الدنيوية أو الأخروية { ولا بيع } أيضا كذلك { عن ذكر الله } والتوجه نحو جنابه، والعكوف على بابه { وإقام الصلاة } ودوام الميل والمناجاة معه { وإيتآء الزكاة } إي: إنفاق ما في أيديهم خالصا لطلب المرضاة، ومع ذلك { يخافون يوما } أي: عذاب يوم القيامة، وما لحق فيها من النكال؛ إذ من شدة هولها { تتقلب } أي: تتلقلق وتضطرب { فيه القلوب } تدهش فيه { والأبصار } [النور: 37].
كذل ذلك { ليجزيهم الله } المجازي لما صرد عنهم { أحسن ما عملوا } بأحسن الجزاء { ويزيدهم من فضله } امتنانا عليهم { والله } المتفضل لخواص عباده { يرزق من يشآء } منهم من الرزق المعنوي الحقيقي { بغير حساب } [النور: 38] أي: بلا مقابلة عمل منهم، ومعاضوة إحسان من جانبهم، بل من محض الفضل والجود.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { والذين كفروا } ستروا الحق، وأنكروا عليه، وأظهروا الباطل ظلما وزورا، ووجوه عنادا ومكابرة لذلك صارت { أعمالهم } التي خيلوها صالحة مستجلبة لأنواع النفع في يوم الجزاء على عكس أعمال المؤمنين { كسراب } أي: كمثل سراب يلمع ويبرق { بقيعة } أي: بادية وصحراء { يحسبه } ويظنه { الظمآن } من بعيد { مآء } مسكنا للعطش، مبردا للأكباد.
فلما رآه سارع إليه، وسعى نحوه سريعا { حتى إذا جآءه } بعد تعب كثير وعناس مفرط مؤملا الوصول إلى الماء { لم يجده } ماء بل لم يجد { شيئا } آخر متأصلا في الوجود سوى العكوس التي تتراءى كالماء في البريق واللمعان من تقلب الحدقة، وتشتت البال واضطراب الحواس باستيلاء العطش المفرط وحرارة الأكباد، { و } بعدما آيس من نفع أعماله { وجد الله } الرقيب عليه في جميع أحواله، محاسبا إياه عما صدر عنه { عنده فوفه حسابه } على الوجه الأقسط الأعدل بلا زيادة ولا نقصا { والله } المطلع على جميع ما جرى على عباه في جميع شئوهم وتطوراتهم { سريع الحساب } [النور: 39] يحاسبهم، ويجازيهم على مقتضى علمه وخبرته، بلا فوت شيء مما صدر عنهم عدلا منه سبحانه.
{ أو } مثل أعمال الكفرة في عدم النفع والخير { كظلمات } أي: كمثل أصحاب ظلمات الليل الواقعة لهم { في بحر لجي } أي: عميق غائر منسوب إلى اللج، وهو معظم الماء { يغشاه } أي: يغطي البحر ويعلو عليه { موج } هائل { من فوقه } أي: فوق الموج الأول { موج } آخر أهول منه هكذا؛ أي: أمواج متراكمة مترادفة بعضها فوق بعض على التوالي والتتالي مع أنه { من فوقه } أي: فوق الموج المظلم { سحاب } كثيف أظلم منه.
وبالجملة: تلك الأمواج والسحب { ظلمات } متراكمة مترادفة { بعضها فوق بعض } بحيث { إذآ أخرج } من قوع فيها { يده } حذاء بصره اختبارا لنظره { لم يكد يراها } أي: لم يقرب أن يراها بالقوة فكيف بالفعل؟! هكذا أعمال الكفرة المتوغلين في بحر الغفلة والضلال، والمغشاة بالأمواج المتراكمة من الظلم والطغيان والغي والعدوان، من فوقه السحب الكثيفة والحجب الغليظة من الجهل بالله، والتعامي عن مطالعة آياته الدالة على توحيده واتصافه بالأوصاف الذاتية، وملاحظة آثاره البديعة وصنائعه العجيبة الغريبة.
وهم من غاية انهماكهم في ظلمات غفلاتهم وجهالاتهم، وكمال غيهم وضلالهم: إذا أمعنوا نظرهم إلى مشاهدة ما في نفوسهم من غرائب صنع الله لم يقربوا أن يكونوا مترصدين للوقوف عليها، فكيف الشهود والاطلاع بها؟! { و } بالجملة: { من لم يجعل الله } الهادي لعباده إلى زلال توحيده { له نورا } من جذبة وتوفيق يهدي به التائهين إلى مقصد توحيده { فما له } من نفسه وبمجرد كسبه وسعيه { من نور } [النور: 40] يرشده إليه سبحانه، ويوصله إلى فضاء توحيده.
هب لنا منك نورا نهتدي به إلى ما جبلنا لأجله بفضلك وجودنا يا ذا الطول العظيم.
[24.41-45]
{ ألم تر } ولم تعلم أيها المعتبر الرائي { أن الله } المتوحد برداء العظمة والكبرياء، المستقل بالوجود الحقيقي بكمال اللطف والجود { يسبح له } ويقدسه سبحانه عن جميع ما لا يليق بشأنه عن شوب النقص وسمات الحدوث والإمكان، جميع { من في السموت } من المجبولين على المعرفة المتوجهين نحو المبدع طوعا { و } جميع من في { الأرض } أيضا كذلك { و } كذا { الطير صآفات } باسطات أجنحتهن في الجو { كل } أي: كل واحد من المسبحين السماويين والأرضيين والهوائيين { قد علم } وأشعر { صلاته } وميله إلى ربه الذي أوجده وأظهره { وتسبيحه } الذي سبح ونزه به مبدعا عما لا يليق بجنابه { والله } المتجلي بأسمائه الحسنى وصفاته العليا { عليم } بعلمه الحضوري { بما يفعلون } [النور: 41] أي: بحميع ما صدر عنهم من التوجه والتسبيح، وإخلاصهم فيه.
وكيف لا يعلم سبحانه أفعال عباده ومملوكه؛ إذ { ولله } المظهر المبدع ابتداء { ملك السموت } وجميع من فيها وما فيها { والأرض } ومن عليها وما عليها، فله التصرف فيهما، وفيما بينهما بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة الأضداد والأغيار { و } كيف لا { إلى الله } لا إلى غيره من الأظلال الهالكة في بيداء الضلال { المصير } [النور: 42] أي: المرجع المنتهى؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود، هو الأول والأخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء كائن وسيكون أزلا وأبدا عليم خبير، يظهره ويعدمه حسب علمه وخبرته بإرادته واختياره.
{ ألم تر } أيها الرائي { أن الله } المتكفل لأرزاق عباده كيف { يزجي } ويسوق أجزاء الأبخرة والأدخنة إلى فوق متفرقة؛ ليجعله { سحابا } هامرا { ثم يؤلف } ويركب { بينه } أي: بين أجزاء السحاب { ثم يجعله ركاما } متراكما متكاشفا متصلا؛ ليكون منه مياه كثيرة، ثم يجعل له فتوقا ومنافذ { فترى } أيها الناظر المعتبر { الودق } أي: المطر المتقاطر { يخرج من خلاله } وفتوقه غاية منه سبحانه لمن في حوزته فضله وجوده { و } كذا { ينزل من } جانب { السمآء من جبال فيها } يعني: من قطع سحاب متراكم في الجو على هيئة الجبال الرواسي { من برد } متكون من الأبخرة والأدخنة الواصلة إلى الطقبة الزمهريرية من الهواء وصولا تاما، إلى حيث انجمدت انجمادا صلبا كالحجر من كمال البرودة، فينزل منها إظهارا لقهره سبحانه، وتنبيها على صولة سطوة صفاته الجلالية { فيصيب به } سبحانه { من يشآء } من عباده ممن سبق القهر والغضب منه سبحانه يمقتضى جلاله سبحانه { ويصرفه } أي: يصرف شره { عن من يشآء } من أهل العناية على مقتضى لطفه وجماله.
ومن أمارات غضب الله وقهره: إنه { يكاد } ويقرب { سنا برقه } اللامع؛ أي: ضوئه الحاصل منه في كمال الظلمة حالة الاصطكاك { يذهب بالأبصار } [النور: 43] الناظرة نحوه، ويختطفها بحدوث الضد من الضد فجأة، وذلك من الأسباب التافهة التامة لتفريق البصر.
وكيف لا يخطف الأبصار حين { يقلب الله } المحول للأحوال فيه { الليل والنهار } بغتة بلا تراخ ومهلة إظهارا لكمال قدرته، واختباره واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته { إن في ذلك } التبديل والقلب وإحداث الضد من الضد بغتة { لعبرة لأولي الأبصار } [النور: 44] المنكشفين بوحدة الواجب وصفاته الذاتية التي هي منشأ جميع ما ظهر وبطن من الكوائن والفواسد بإرادته واختياره، المستدلين من آثار أوصافه وأسمائه بعلو شأنه وسمو برهانه، المتيقنين بوحدة ذاته وتنزهه عن وصمة الكثرة والشركة مطلقا.
{ والله } المتوحد بذاته المعتزز بكمال أسمائه وصفاته { خلق } أي: أظهر وقدر { كل دآبة } تتحرك على الأرض { من مآء } وهو العنصر الأصلي لوجود الحيوانات؛ هو مبدأ حركاتهم ومنشأ إحساساتهم وإدراكاتهم، لذلك خص بالذكر بين العناصر وإن كانت مركبة من جميعها { فمنهم } أي: من الدواب، ذكر الضمير وجمعها جمع العقلاء على سبيل التغليب؛ لأن العقلاء منها { من يمشي } ويزحف { على بطنه } بلا آلة المشي كالحية { ومنهم من يمشي على رجلين } كالطير والإنسان { ومنهم من يمشي على أربع } كالمنعم والوحش.
وبالجملة: { يخلق الله } المقتدر على الخلق والإيجاد { ما يشآء } من الموجودات والخلوقات إرادة واختيارا { إن الله } المتصف بصفات الكمال { على كل شيء } داخل في حيطة علمه { قدير } [النور: 45] بإيجاده وإظهاره في فضاء العيان بلا قتور وقصور.
[24.46-52]
ثم قال سحبانه تحريكا لحمية عباده، وتشديدا لبنيان اعتقاداتهم بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته: { لقد أنزلنآ } من مقام جودنا، ولطفنا إليكم إيها المحبوسون في مضيق الإمكان، المقيدون بسلاسل الكفران والعصيان { آيات مبينات } موضحات مفصلات لتوحيدنا وصفاتنا وقدرتنا على الإنعام والانتقام، لعلكم تتفطنون منها إلى علو شأننا وكمال سطوتنا وسلطاننا، مع أن أكثركم لا تتفطنون ولا تتنبهون؛ لانهماككم في بحر الغفلة والضلالة، { والله } الهادي لعباده { يهدي } بفضله { من يشآء } هدايته منهم { إلى صراط مستقيم } [النور: 46] موصل إلى كعبة توحيده بلا عوج وانحراف.
{ و } من انحراف المنافقين، وانصرافهم عن طريق الحق، وميلهم إلى الباطل { يقولون } بأفواههم خوفا من حقن دمائهم وأموالهم: { آمنا بالله } المتوحد في ذاته { وبالرسول } المرسل من عنده لتبليغ دينه وآياته، { وأطعنا } لحكم الله ورسوله سمعا وطاعة { ثم يتولى } أي: يعرض وينصرف { فريق منهم } أي: من المنافقين { من بعد ذلك } الإقرار عن حكم الله ورسوله تكذيبا لنفسه، وإظهارا لما في قلبه من الكفر والنفاق { و } لذلك { مآ أولئك } الأشقياء المردودون { بالمؤمنين } [النور: 47] المتصفين بالإيمان والإذعان حقيقة، وإن أقروا واعترفوا على طرف اللسان؛ لأن الإيمان من صفات القلب واللسان مترجم له.
{ و } كيف كانوا مؤمنين أولئك المنافقون مع أنهمن { إذا دعوا إلى الله } المصلح لأحوال عباده { ورسوله } المستخلف منه سبحانه النائب عنه بإذنه { ليحكم بينهم } ويقطع نزاعهم { إذا فريق منهم معرضون } [النور: 48] أي: فأجاءوا إلى الانصراف عن حكم الله وحكم رسوله بعدما دعوا إلى رسوله إن كان الحكم عليهم.
{ وإن يكن لهم الحق } والحكم { يأتوا إليه } أي: إلى الرسول { مذعنين } [النور: 49] منقادين طائعين، وبالجملة: هم تابعون لمطلوبهم، وما هو مقصودهم، طالبون أن يصلوا إلى ما أملوا في نفوسهم، بلا ميل منهم إلى الحق وصراطه المستقيم وميزانه العدل القويم.
وما سبب ميلهم وإعراضهم؟! { أفي قلوبهم مرض } يعرضهم عن قبول الإيمان، والميل إلى اليقين والعرفان { أم ارتابوا } وترددوا في عدالة الله ورسوله { أم يخافون } من سوء ظنونهم { أن يحيف } ويميل { الله } المستوي على القسط والعدل { عليهم ورسوله } المتخلق بأخلاقه ظلما، بأن أجازوا الظلم على الله ورسوله { بل } الحق أنه لا شكل في عدالة الله ورسله، ولا ينسب الحيف والميل إليهما أصلا، فتعين أنه { أولئك } البعداء عن ساحة القبول { هم الظالمون } [النور: 50] المقصورون على الخروج عن حد الاعتدال، المائلون عن الصراط المستقيم لمرض قلوبهم وخبث طينتهم.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إنما كان قول المؤمنين } المخلصين على عكس المنافقين والمترددين { إذا دعوا } عند النزاع والمخاصمة { إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } ويزيل شبههم { أن يقولوا } طائعين راغبين: { سمعنا وأطعنا } بلا مطل وتسويف، رضينا بما حكمنا الله ورسوله { وأولئك } السعداء المقبولون عند الله ورسوله { هم المفلحون } [النور: 51] الفائزون بالفلاح، المقصورون على الصلاح والنجاح، ولا يتحولون عنه بل يزادون عليه تفضلا وامتنانا.
{ و } كيف لا يزادون؛ إذ { من يطع الله } حق إطاعته وينقاد { ورسوله } حق الانقياد والاتباع { ويخش الله } المنتقم فيما صدر عنه، ومضى عليه من الذنوب بعدما تاب وندم { ويتقه } عنه سبحانه فيما بقي من عمره { فأولئك } المطيعون المنقادون بالله ورسوله، الخاشعون المخبتون المتقون { هم } المتقون { الفآئزون } [النور: 52] بالمثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62].
[24.53-56]
{ و } من خباثة بواطنهم أهل الشرك والشقاق، وشدة شيكمتهم ونفاقهم معك يا أكمل الرسل: { أقسموا بالله } تروجيا لنفاقهم وتغريرا للمؤمنين { جهد أيمانهم } وغاية حلفهم، مبالغين فيها، مغلظين منكرين للامتناع عن حكم الرسول بقولهم، والله { لئن أمرتهم } يا أكمل الرسل؛ أي: المنافقين بالخروج عن الديار، والجلاء عن الوطن { ليخرجن } عنها بلا مطل وتسويف، ممتثلين أمرك، فيكف يتأتى منا الامتناع عن حكمك وما هو إلا من غاية تلبيسهم ونافقهم.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما تيقنت نفاقهم بالهام منا إليك ووحي: { لا تقسموا } بالله أيها المسرفون المفرطون، ولا تبالغوا في الحلف الكاذب، فإن المطلوب منكم { طاعة معروفة } مشهورة بين الناس بلا إتيان مخالفة منكم ظاهرا، وأما أمر بواطنكم وقلوبكم فسره عند الله { إن الله } المطلع لسرائركم وضمائركم { خبير بما تعملون } [النور: 53] وتقصدون في نفوسكم، يجازيكم على مقتضى خبرته.
{ قل } يا أكمل الرسل للناس على سبيل التبليغ العام، والراسلة المطلقة: { أطيعوا الله } المظهر لكم من كتم العدم، وانقادوا لجميع أوامره ونواهيه { وأطيعوا الرسول } المبعوث إليكم، وصدقوه في جميع ما جاء به من عند ربكم { فإن تولوا } وانصرفوا بعدما بلغت رسالتك حق التبليغ { فإنما عليه } أي: على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جزاء { ما حمل } من التبليغ وإظهار الدعوة وتبيين الرسالة، { وعليكم } أيها السامعون جزاء { ما حملتم } من الامتثال والانقياد { و } اعلموا أيها المتوجهون نحو الحق { إن تطيعوه } أي: الرسول، وتصدقوا قوله، وتعلموا على مقتضى ما أمرتم على لسانه { تهتدوا } إلى معرفة ربكم وتفوزوا بتوحيده، { و } إن لم تطيعوا له، وتهتدوا إلى ما جبلتم لأجله { ما على الرسول } المأمور بالدعوة والتبليغ { إلا البلاغ المبين } [النور: 54] الظاهر الواضح؛ لئلا يشتبه عليكم أمر الدين، فإن امتثلتم بما سمتعتم منه فزتم، وإن توليتم فعليكم الوزر والوبال.
واعلموا يقينا أنه { وعد الله } المتفضل المحسن لعباده بأنواع الفضل والعطاء { الذين آمنوا منكم } أيها الناس بتوحيد الله وصفاته، وإرسال الرسل، وإنزاله الكتب، والعبث بعد الموت، وجميع الأمور الأخروية { و } مع الإيمان والإعان { عملوا الصالحات } المقبولة عند الله، المرضية له على مقتضى ما أوحاه على رسوله وأنزله في كتابه، وأقسم سبحانه بنفسه تأكيدا لوعده { ليستخلفنهم } وليجعلنهم خلفاء { في الأرض } التي استولى عليها الكفرة { كما استخلف الذين } آمنوا { من قبلهم } يعني: بني إسرائيل استخلفهم على بلاد العمالقة والفراعنة وأرض الشام والفرس، { و } بعد استخلافهم { ليمكنن } ويقررن { لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وهو دين الإسلام، المبني على صرافة التوحيد الذاتي المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال.
وليشيعن ويذيعن دينهم هذا إلى جميع الأقطار والأنحاء { وليبدلنهم } ويحولن حالهم { من بعد خوفهم } الناشئ من تمويهات متخيلتهم ووساوس متوهمتهم { أمنا } نشأ من اليقين الحقي المثمر لكمال الاطمئنان والوقار، وبعدما حصل لهم مرتبة الفناء في ذاتي، حصل لهم البقاء ببقائي، فحينئذ { يعبدونني } مخلصين حيث { لا يشركون بي شيئا } من مظاهري ومصنوعاتي بتسويلات شياطين الخيالات والأوهام { ومن كفر } أي: ارتد ورجع { بعد ذلك } أي: بعد نفي الخواطر والأوهام المضلة عن سواء السبيل { فأولئك } المردودون المطرودون عن ساحة عز الحضور والقبول { هم الفاسقون } [النور: 55] الخاسرون المقصورون على الخروج والخسران عن مقتضى اليقين العلمي والعيني والحقي
ألا ذلك هو الخسران المبين
[الزمر: 15].
{ و } بعدما جعلتم التوحيد الذاتي قبلة مقصدكم أيها المحمديون { أقيموا الصلاة } المثمرة المورثة لكم كمال الشوق المحبة نحو الحق دائما { وآتوا الزكاة } المطهرة لنفوسكم عن الميل إلى ما سواه { وأطيعوا الرسول } المرشد لكم إلى طريق التوحيد { لعلكم ترحمون } [النور: 56] وتفوزون بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
حققنا بما أنت راض عنا يا خير الناصرين.
[24.57-60]
ثم قال سبحانه تأييدا لنبيه صلى الله عليه وسلم: { لا تحسبن } و لاتظنن يا أكمل الرسل { الذين كفروا } بالله، وأعرضوا عن توحيده هم صاروا بكفرهم وعنادهم { معجزين } الله القادر المقتدر عن أخذهم وإهلاكهم { في الأرض } التي هي مملكة الحق ومحل تصرفاته سبحانه، بل يأخذهم الله الرقيب عليهم بظلمهم وبغيهم، ويستأصلهم عن وجه الأرض في النشأة الأولى { ومأوهم النار } في النشأة الأخرى { و } الله { لبئس المصير } [النور: 57] مصيرهم ومرجعهم.
ثم أشار سبحانه إلى تتميم ما مضى من آداب الخلطة والمؤانسة بين المؤمنين، فقال مناديا لهم على وجه العموم؛ ليقبلوا إلى امتثال ما نودوا فقال: { يأيها الذين ءامنوا } من آداب المصاحبة والإخاء هذا { ليستأذنكم } بالدخول على بيوتكم، ويسترخص منكم أيها المؤمنون خدمتكم { الذين ملكت أيمنكم } سواء كانوا عبيدا أو إماء، وأنتم رجال أو نساء، ذكر الضمير على سبيل التغليب { و } كذا الصبيان { الذين لم يبلغوا الحلم منكم } أي: لم يبلغوا وقت الحلم، خص بالذكر؛ لكونه أقوى أسباب البلوغ إلى وقت التكليف { ثلاث مرات } يعني: ليستأذنكم الخدمة والصبيان في ثلاثة أوقات دخولهم:
أحدها: { من قبل صلوة الفجر } إذ هو وقت الانخلاع، والتجرد عن ثياب النوم، والدخول فيه منهي.
{ و } ثانيها: { حين تضعون ثيبكم من الظهيرة } للاستراحة والقيلولة.
{ و } ثالثها: { من بعد صلوة العشآء } وقت التجرد عن الثياب للنوم، والأوقات المذكورة { ثلاث عورات لكم } لا بد من تحفظكم فيها عما يشوشكم، ويطلع على سركم { ليس عليكم ولا عليهم جناح } ضيق ومنع { بعدهن } أي: بعد الأوقات الثلاث لو دخلوا عليكم بلا إذن منكم؛ إذ هم خدمة { طوفون عليكم } ليخدموكم؛ إذ جبلتم على أن يظاهر { بعضكم على بعض كذلك } أي: مثل ما ذكر { يبين الله } المدبر لمصالحكم { لكم الأيت } الدالة على آداب المصاحبة والمؤانسة، { والله } المطلع لأحوال عباده { عليم } بمصالحهم ومفاسدهم { حكيم } [النور: 58] في ضبطها وحفظها؛ بحيث لا يختل أمر النظام المتعارف.
{ و } كذا { إذا بلغ الأطفال منكم الحلم } وظهر منهم أمارات الميل والشهوة سواء كانوا ذكورا أم إناث { فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } من الأحرار البالغين؛ إذ هم حينئذ دخلوا في حكمهم بعد الحلم { كذلك يبين الله لكم آياته } الدالة على آداب خلطتكم وحسن معاشرتكم { والله } المصلح لأحوال عباده { عليم } بما في ضمائرهم من المنكرات { حكيم } [النور: 59] في دفعها قبل وقوعها.
{ والقواعد من } عجائز { النسآء اللاتي } قعدن عن الحيض والحبل وشهوة الوقاع مطلقا إلى حيث { لا يرجون نكاحا } وزواجا؛ لكبرهن وكهولتهن { فليس عليهن جناح } أي: ذنب وكراهة { أن يضعن ثيابهن } أي: الثياب الظاهرة التي يلبسنها فوق الأستار كالجلباب حال كونهن { غير متبرجات } أي: مظهرات { بزينة } مشهية للرجال، مثيرة لشهواتهم؛ أي: الزينة التي منعن من إبدائها في كريمة:
ولا يبدين زينتهن...
[النور: 31] { وأن يستعففن } عن الوضع { خير لهن } سواء كن عجائز أم شواب؛ لأن العفة أبعد من التهمة في كل الأحوال { والله } المطلع لسرائرهن { سميع } لمقالتهن مع الرجال { عليم } [النور: 60] بنياتهن منها.
[24.61-62]
ثم لما كانت العرب يتحرجون عن مصاحبة ذوي العاهات، والمؤاكلة معهم استقذارا، وكانوا أيضا يتحرجون من البيوتات المذكورة تعظما واستبكارا، بل يعدونه عارا، ويستنكفون منه، رد الله عليهم ونفى الحرج، فقال: { ليس على الأعمى حرج } أن يأكل مع البصراء { ولا على الأعرج حرج } أن يأكل مع السوي السالم، ويجلس معه { ولا على المريض حرج } أن يأكلش مع الأصحاء { ولا } حرج أيضا { على أنفسكم } في أكلكم مطلقا سواء { أن تأكلوا من بيوتكم } وعند أهليكم ومحارمكم، سواء كان من أكسابكم وأكساب أولادكم { أو بيوت ءابآئكم } وأجدادكم؛ لأنهم مستخلفون لكم { أو بيوت أمهتكم } لأن بينكم وبينهن مناسبة الكلية والجزئية { أو بيوت إخونكم أو بيوت أخوتكم } لا شتراككم معهم في المنشأ { أو بيوت أعممكم أو بيوت عمتكم } لاشتراك آبائكم معهم في المنشأ { أو بيوت أخولكم أو بيوت خلتكم } لاشتراك أمهاتكم معهم في المنشأ.
{ أو } بيوت { ما ملكتم مفاتحه } يعني: بيوت عبيدكم التي أنتم أسباب لإنشائها سواء كانوا معتقين أم لا، والتعبير عنهم بما: للتمليك والرية { أو } بيوت { صديقكم } بالمناسبة المعنوية التي هي أقوى من القرابة النسبية الصورية، كل ذلك المذكور مسبوق بالإذن والرضا والتبسط والنشاط من أصحاب البيوتات.
ثم أشار سبحانه إلى أدب المؤاكلة فقال: { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا } مجتمعين في إناء واحد يأكل بعضكم سؤر بعض؛ إذ هو أدخل في التأليف والتحابب { أو أشتاتا } متفرقين كل في إناء، وهذا أدخل في التزكية والنظافة { فإذا دخلتم بيوتا } أي: كل منكم بيتا من البيوت التي رخصتم بالأكل منها { فسلموا على أنفسكم } أي: فابدؤوا بالسلام على أهلها؛ لأنهم منكم دينا وقرابة، حتى صار سلامكم إياهم { تحية } وزيادة حياة لهم { من عند الله } تفضلا عليهم وإحسانا { مبركة } كثيرة الخير والبركة النازلة من عده على أهلها { طيبة } خالصة صافية عن كدر النفاق وأثر الخلاف والشقاق { كذلك يبين الله لكم الأيت } الدالة على آداب أثر الخلاف والشقاق { لعلكم تعقلون } [النور: 61] رجاء أن تتفطنوا منها إلى أحوالكم في النشأة الأخرى، فتزودوا فيها لأجلها.
ثم أشار سبحانه إلى محافظة الآداب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية حقوقه، وكمال الإطاعة والانقياد إليه فقال: { إنما المؤمنون } الموحدون الكاملون، المنكشفون بسرائر التوحيد الذاتي هم { الذين آمنوا بالله } الجامع لجميع الأسماء والصفات المنسوبة إلى الذات الأحدية { ورسوله } الجامع لجميع مراتب المظاهر والمصنوعات، لا يخرج عن حيطة مرتبته الجامعة الكاملة مرتبة من المراتب أصلا { و } بعدما عرفتم جمعيته { إذا كانوا } مجتمعين { معه } صلى الله عليه وسلم { على أمر جامع } أي: أمر مشروط حصوله بالاجتماع والاقتحام كالزحف والجهاد والجمع والأعياد { لم يذهبوا } ولم ينصرفوا من عنده صلى الله عليه وسلم { حتى يستأذنوه } بالانفضاض والانصراف، وإن كنتم مضطرين إلى الإياب والذهاب.
ثم كرر سبحانه أمر الاستئذان على وجه أبلغ تأكيدا ومبالغة، فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: { إن الذين يستأذنونك } في الذهاب والانصراف محافظة على الأدب { أولئك } السعداء المستأذنون هم { الذين يؤمنون } حقا { بالله ورسوله } ويراعون الأدب معهما من صفاء بواطنهم وخلوص طوياتهم { فإذا استأذنوك } يا أكمل الرسل بعد اضطرارهم { لبعض شأنهم } وأمرهم المتعلق بمعاشهم { فأذن لمن شئت منهم } أي: أنت مخير في إذنهم بعد اضطرارهم { و } بعدما أذنت لهم { استغفر لهم الله } من ذنبهم الذي اختاروا من أمر الدنيا على أمر العقبى، واستأذنوا له واهتموا لشأنه { إن الله } المطلع لاستعدادات عباده { غفور } يغفر لهم أمثال هذه الفرطات الاضطرارية { رحيم } [النور: 62] مشفق حينئذ عليهم بعدما ندموا في نفوسهم.
[24.63-64]
ومن جملة الآداب التي وجبت عليكم رعايتها ومحافظتها بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تجعلوا دعآء الرسول } ونداءه { بينكم } بين أظهركم { كدعآء بعضكم بعضا } بالاسم واللقب فقط لا ضميمة تدل على تعظيمه وتوقيره، بل قولوا له وقت ندائه: يا نبي الله؛ أو: يا خير خلق الله، أو: يا أكرم الخلق على الله، وأمثالها.
أو لا تجعلوا دعاءه ومناجاته مع الله، ورفع حاجاته صلى الله عليه وسلم إليه سبحانه في الإجابة والقبول كدعاء بعضكم بعضا، فإن قبل مرة رد أخرى بل رد مرارا كثيرة، فإن دعاءه صلى الله عليه وسلم لا يرد عند الله أصلا، أولا تقيسوا نداءه إليكم في الوقائع والأمور كدعاء بعضكم بعضا، فإن تجيبوا مرة وتردوا أخرى، بل عليكم أن تبادروا الإجابة ندائه صلى الله عليه وسلم سمعا وطاعة بلا مطل وتسويف، وخافضين أصواتكم حين إجابته مسرعين إليها بالآلات والجوارح، ساعين إلى إنجاح سؤله ومطلوبه صلى الله عليه وسلم.
ثم أشار سبحانه إلى توبيخ المنافقين وتقريعهم حيث قال: { قد يعلم الله } المطلع على سرائر عباده بمقتضى علمه الحضوري كيد المنافقين { الذين يتسللون منكم } أي: يخرجون قليلا قليلا من جمعكم أيها المؤمنون { لواذا } أي: حال كونهم ملاوذين ملتجئين بغيرهم بأن يستر بعضهم خلف بعض، وحتى يخرج بلا إذن ورخصة منه صلى الله عليه وسلم { فليحذر } أولئك الماكرون المخادعون { الذين يخالفون } وينصرفون { عن أمره } سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بلا رخصة { أن تصيبهم } في الدنيا { فتنة } أي: مصيبة ومحنة عظيمة مثل القتل والنهب الأسر وأنواع البليات { أو يصيبهم } في الآخرة { عذاب أليم } [النور: 63] لا عذاب أشد منه.
وكيف تعرضون، وتنصرفون عن أمر الله وأمر رسوله أيها المسرفون المفرطون، أما تستحيون من الله الرقيب عليكم، { ألا } أي: تنبهوا أيها الجاهلون الغافلون بقدر الله، وحق ألهويته واستقلاله وبسطته { إن لله } المظهر الموجد تصرفا وملكا مظاهر { ما في السموت والأرض } أي: العلويات والسلفيات، وما بينهما { قد يعلم } سبحانه بعلمه الحضوري { مآ أنتم عليه } في نشأتكم هذه.
{ و } يعلم أيضا ما ستكونون عليه { يوم يرجعون إليه } في النشأة الأخرى المعدة للعرض والجزاء؛ إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء مما جرى في عالم الغيب الشهادة والنشأة الأولى والأخرى { فينبئهم } ويخبرهم حينئذ { بما عملوا } في النشأة الأولى على التفصيل بلا شذوذ شيء منها، ثم يجازيهم عليها { والله } المجازي لعمود عباده في يوم الجزاء { بكل شيء } صدر عنهم في أولاهم وأخراهم { عليم } [النور: 64] محيط بجميع أعمالهم وأفعالهم وشئونهم وحالاتهم، وجميع ما جرى عليهم، يجازيهم على مقتضى علمه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
اصنع بنا يا مولانا ما أنت أهله يا ذا الفضل العظيم والجود العميم.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المستضيء، المقتبس من المشكاة الجامعة المصطفوية والمصباح اللامع النبوي. أرشدك الله إلى غاية ما أملك، ووفقك إلى كمال ما جبلك الحق لأجله. أن تحسن الأدب مع نبيك الهادي إلى طريق التوحيد الذاتي، وتحافظ على ملازمة ما أوجبك الحق من حقوقه وآدابه صلى الله عليه وسلم.
فلك أن تجعل رتبته صلى الله عليه وسلم نصب عينيك، ولا تترك شيئا من سنته المأثورة، وأخلاقه المشهورة، وشيمه المعروفة بين أهل الحق وأرباب المحبة من المنكشفين بعلو مرتبته صلى الله عليه وسلم ورفعة قدره ومكانته، ولا تهمل شيئا من الحدود والأحكام الموضوعة في دينه وشريعته، ولك أن تختار لنفسك من عزائم شرعه ودينه مهما أمكنك، ولا تميل إلى رخصتها؛ إذ الرخصة لعوام أهل الإيمان والعزائم لخواصهم، فلك الإخلاص في العمل، وعليك الاجتناب عن الرياء والسمعة وجميع الرعونات الواقعة في صدور الأعمال، سواء كان عملك قليلا أو كثيرا عزائم أو رخصا.
وإياك إياك الحذر عن مداخل الرياء والتلبيس، فإنها من شباك إبليس، يضل بها ضعفاء الأنام عن نهج الرشاد وسبيل الاستقامة والسداد.
عصمنا الله من تغيرات الشياطين، وتسويلاتهم بفضله وجوده.
[25 - سورة الفرقان]
[25.1-3]
{ تبارك } تعاظم وتعالى ذاته سبحانه من أن يحيط بمنافعه وكثرة خيراته وبركاته عقول مظاهره ومصنوعاته، حتى يعدوها بألسنتهم، ويعبروا عنها بأفواههم حالا ومقالا { الذي نزل } بمقتضى جوده الواسع وكرمه الكامل { الفرقان } الجامع لفوائد الكتب السالفة مع زوائد خلت عنها تلك الكتب تفضلا وامتنانا، ومزيد اهتمام { على } شأن { عبده } صلى الله عليه وسلم بعدما هيأه لقبوله، وأعده لنزوله، ورباه أربعين سنة تتميما لأمر المناسبة المعنوية وتحصيلاتها، حتى يستحق ويستعد للإلهام والوحي، وإنما أنزل هذا { ليكون للعالمين } أي: كافة المخلوقين على فطرة التكليف، وعامة المجبولين على استعدد المعرفة { نذيرا } [الفرقان: 1] ينذرهم ويحذرهم عما يضرهم، ويغويهم عن صراط الحق وطريق توحيده عناية منه سبحانه إياهم، ومرشدا لهم إلى مبدئهم.
وكيف لا يرشدهم سبحانه وهو { الذي له ملك السموت } أي: عالم الأسماء والصفات المعبر عنها بالعلويات { والأرض } أي: الطبائع السفلية القابلة للانعكاس من العلويات، فلا يضره كثرة الأسماء والصفات وحدوث العكوس والتعينات حسب الشئون والتجليات الإلهية وحدته الذاتية وانفراده الحقيقي { و } لهذا { لم يتخذ } سبحانه { ولدا } حتى يتكثر { ولم يكن له شريك } في وجوده وملكه حتى ينازع ويتضرر، بل له التصرف بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة العكوس والأظلال الهالكة في صرافة وحدته الذاتة وشمس ذاته { في الملك وخلق كل شيء } ظهر حسب تجاليته على مقتضى أسمائه وصفاته.
وبعدما أظهر ما أظهر { فقدره تقديرا } [الفرقان: 2] بديعا، ودبر أمره تدبيرا محكما عجيبا بأن وفق بعضهم لاختراع أنواع الصنائع والحرفة البديعة والإدراكات الكاملة والتدبيرات الغريبة المتعلقة بتمدنهم لمعاشهم، وجعل بعضهم آلة للبع، وبعضهم مالكا، وبعضهم مملوكا، وأزواجا وأصنافا مؤتلفة وفرقا وأضرابا مختلفة، وأنواعا متفاوتة إلى ما شاء الله
وما يعلم جنود ربك إلا هو
[المدثر: 31] كل ذلك ليتعاونوا ويتظاهروا، واختلطوا وامتزجوا إلى أن اعتدلوا وانتظموا، وصاروا مؤتمنين مؤتلفين مؤانسين، محتاجين كل منهم بمعاونة الآخر.
وإنما فعل سبحانه ما فعل؛ ليظهر كمالاته المندرجة في وحدة ذاته، ويظهر سلطان الوحدة الذاتية بظهور ضده، وبعدما بلغ الكثرة غايتها انتهت إلى الوحدة أيضا كما بدأت منها وانتشأت عنها، فحينئذ اتصل الأول بالآخر والظاهر بالباطن، واتحد الأزل والأبد، وارتفع الكثرة والعدد، ولم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4].
{ و } كيف لا يقدر سبحانه أمر عباده بإنزال الكتب، وإرسال الرسل المرشدين لهم إلى توحيده بعدما تاهوا في بيداء الكثرة والضلال، مع أنهم { اتخذوا من دونه } سبحانه { آلهة } يعدونها كعبادته، مع أن آلهتهم الباطلة { لا يخلقون } ولا يوجدون ويظهرون { شيئا } من المخلوقات حتى يستحقوا الألوهية والعبادة، مع أن من شأن الإله الخلق والإيجاد حتى يستحق للتوجه والرجوع إليه، بل { وهم } في أنفسهم { يخلقون } أي: مخلوقون مقدورون لا قادرون خالقون، بل { و } هم مرادون، والمخلوقات التي هي الجمادات؛ إذ { لا يملكون لأنفسهم } أيضا { ضرا } أي: إماتة لأحد { ولا نفعا } اي: جلب نفع إليها { ولا يملكون } أيضا { موتا } أي: إماتة لأحد { ولا حياة } أي: أحياء له { ولا نشورا } [الفرقان: 3] أي: بعثا وحشرا بعد الموت للجزاء، ومن كان وصفه هذا كيف تتأتى منه الألوهية والربوبية المقتضية للعبودية؟!.
[25.4-8]
{ و } بعدما أنزلنا القرآن الفرقان على عبدنا؛ ليهدي التائهين بيداء الغفلة والضلال { قال الذين كفروا } بالله، وأعرضوا عما جاء من عنده، ولتكميل الناقصين: { إن هذا } أي: ما هذا الذي جاء به هذا المدعي { إلا إفك } كذب يصرف عن الحق ويلبس الباطل بصورته؛ لأنه { افتراه } أي: اختلقه عن عمد، ونسبه إلى الوحي تغريرا وترويجا لأمره { و } مع ذلك { أعانه عليه } ولقن له فحواه { قوم آخرون } وهم أحبار اليهود، وبعدما سمع فحواه منهم، عبر عنه بلفظ فصيح، وأفرغه في قالب بليغ، فأتى به على الناس، ولقبه الفرقان المعجز، والقرآن البرهان المثبت المنزل عليه من ربه بطريق الوحي والإلهام؛ ترويجا لمفترياته وتقريرا للناس على قبولها { فقد جآءوا } أي: أولئك المسرفون المفرطون بجعل القرآن الفرقان المعجز - لفظا ومعنى - إفكا صرفا وافتراء محضا { ظلما } خروجا فاحشا عن حد الاعتدال { وزورا } [الفرقان: 4] قولا كذبا، وبهتانا ظاهرا متجاوزا ع الحد، مسقطا للمروءة سقوطا تاما؛ إذ نسبة هذا الكتاب الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
[فصلت: 42] إلى أمثال هذه الخرافات التي جاءوا بها أولئك الجهلة بشأنه في غاية الظلم والزور ونهاية المراء والغرور.
{ وقالوا } أيضا في حق هذا الكتاب ما هو أفحش منه، وأبعد من شأنه بمراحل، وهو: إنه { أساطير الأولين } أكاذيب سطرها المتقدمون فيما مضى، وهو { اكتتبها } أي: استنسخها من حبر ، وكتبها له كاتب، وبعدما أخذ سوداها { فهي } الأساطير المذكورة { تملى } وتقرأ { عليه } أي: على محمد صلى الله عليه وسلم { بكرة وأصيلا } [الفرقان: 5] أي: غداة وعشيا على سبيل التكرار ليحفظها؛ إذ هو أمي لا يقدر على أن يكرر من الكتاب، وبعدما حفظها، قرأها على الناس مدعيا أنها موحى من عند الله، أنزلها عليه ملك سماوي اسمه جبرائيل، أو تملى عليه على سبيل التعليم ليكتب لنفسه.
{ قل } يا أكمل الرسل بعما سمعت مقالهم، وتفرست حالهم في العتو وأنواع الإنكار والفساد: { أنزله } أي: الفرقان علي مع أني أمي كما اعترفتم، لا قدرة لي على الإملاء فكيف على الإنشاء العليم؟! { الذي يعلم } بعلمه الحضوري { السر } المكنون والحكمة الكامنة { في } أشكال { السماوات و } أقطار { الأرض } ولهذا أعجزكم بكلامه هذا عن آخركم مع أنكم من ذوي اللسن والفصاحة، وأعلى طلبقات البلاغة والبراعة، فعجزتم عن معارضته؛ ومع ذلك ما تستحيون أيها المسرفون المفرطون نسبتم إليه ما هو بريء عنه، بنسبتكم هذه استوجبتم العذاب والعقاب عاجلا وآجلا، إلا أنه سبحانه أمهلكم رجاء أن تتنبهوا بسوء صنيعكم هذا، فترجعوا إليه سبحانه تائبين نامين، فيغفر لكم ما تقدم من ذنوبكم، ويرحمكم بقبول توبتكم { إنه } سبحانه في ذاته { كان غفورا } للأوابين التوابين { رحيما } [الفرقان: 6] للمتندمين المخلصين.
وبعدما أفرطوا في طعن الكتاب المنزل والقدح فيه، ولم يقصروا على طعنه وقدحه، بل أخذوا في طعن من أنزل إليه حسب عداوتهم وشدة شكيمتهم وضغينهم معه، { وقالوا } مستهزئين متهكمين: { مال هذا الرسول } يدعي الرسالة والنبوة مع أنه لا يتميز عن العوام { يأكل الطعام } كما نأكل { ويمشي في الأسواق } لضبط أمور معاشه كما نمشي، فما مزيته علينا وامتيازه عنا حتى يكون رسولا؟ وإن كان صادقا في دعوى نزول الملك إليه بالوحي { لولا أنزل إليه ملك } ظاهرا بلا سترة حتى نراه ونعاين به، ونؤمن له بلا تردد { فيكون معه نذيرا } [الفرقان: 7] أي: يكون الملك المنزل ردءا له في إنذارنا وتبليغ الدعوة إلينا.
{ أو } هلا { يلقى إليه } من قبل ربه { كنز } فيستغني به عن الخلق، فتتبعه طعما للأحاسن { أو } هلا { تكون له جنة } موهوبة له من ربه فيها أنواع الثمرات والفواكه { يأكل منها } رغدا ويترفه بها أمدا، وبالجملة: ما له هذا ولا ذاك ولا ذلك، فمن أين نصدق برسالته، وبأي شيء نعتقده نبيا؟ { و } بعدما بالغوا في قدحه وإنكاره وأفرطوا في استهزائه وسوء الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وبالجملة: { قال الظالمون } المنكرون المستكبرون على سبيل الذب، والإعراض لضعفاء الأنام عن متابعته صلى الله عليه وسلم: لو صدقتم أيها الناس وآمنتم به من أنكم سمعتم أنه لا مزية له عليكم، ولا امتياز بينه وبينكم { إن تتبعون } أي: ما تتبعون حينئذ، وتؤمنون { إلا رجلا مسحورا } [الفرقان: 8] مجنونا سحر له، فجن واختل عقله وكل فهمه، لذلك تكلم بكلام المجانين، فعجز عن معارضته العقلاء؛ إذ العقل قاصر عن مموهات الوهم وتسويلات الخيال.
[25.9-12]
{ انظر } يا أكمل الرسل { كيف ضربوا لك الأمثال } هؤلاء الضلاال بعدما عجزوا عن معارضتك، وتاهوا في كمال رشدك وهدايتك، وكيف توغلوا في الحيرة عن مدركاتك، حتى تشبثوا بأمثال هذه الخرافات والهذايانات البعيدة عن علو شأنك وسمو رتبتك وبرهانك، وبالجلمة: { فضلوا } وتحيروا، وانسحرت عقولهم عن الوصول إلى كمال مدركاتك وأنواع هداياتك { فلا يستطيعون سبيلا } [الفرقان: 9] إليها لتعاليها عن مداركهم وعقولهم، فنسبوك إلى ما لا يليق بجنابك عنادا واستكبارا.
{ تبارك } وتعالى ربك { الذي } رباك بأنواع الكرامات الخارقة للعادات الشاملة لأصناف السعادات المعدة لأرباب الشهود والمكاشفات، وبالمعجزات الباهرة الدالة على صدقك في جميع ما جئت به من قبل ربك من الآيات البينات، وأنواع الخيرات والبركات { إن شآء } ربك وتعلقت مشيئته وإرادته { جعل لك } يا أكمل الرسل في النشأة الأولى أيضا { خيرا } وأحسن { من ذلك } أي: مما قالوه وأملوه تهكما واستهزاء، ولكن أخره إلى النشأة الأخرى؛ إذ هي خير وأبقى، والتنعم فيها ألذ وأولى؛ إذ هي مؤبدة مخلدة بلا انقطاع ولا انصرام.
ثم بين سبحانه ما هيأ لحيبيه صلى الله عليه وسلم فيها وأعد له من { جنات } منتزهات العلم والعين و الحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية على مقتضى الكمالات الأسمائية والصفاتية { ويجعل لك } أيضا فيها { قصورا } [الفرقان: 10] عاليات متعاليات عن مدارك ذوي الإدراكات مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهم من قصور نظرهم وعمى بصرهم وقلوبهم في هذه النشأة لا يلتفتون إلى أمثال هذه الكرامات العلية الأخروية.
{ بل كذبوا بالساعة } الموعودة المعهودة، وجميع ما يترتب عليها من المثوبات والدرجات العلية والدركات الهوية؛ إذ نظرهم مقصور على هذا الأرذل الأدنى { و } ولهذا { أعتدنا } وهيأنا بمقتضى قهرنا وجلالنا { لمن كذب بالساعة } وبالأمور الموعودة فيها { سعيرا } [الفرقان: 11] أي: نارا مستعرة ملتهبة في غاية التلهب والاشتعال؛ بحيث { إذا رأتهم من مكان بعيد } يعني: إذا كانوا بمرأى العين منها مع أنهم بعيدون منها بمسافة طويلة { سمعوا لها } مع بعدها { تغيظا } أي: صوتا كصوت المغتاظ من شدة تلهبها وغليانها { وزفيرا } [الفرقان: 12] أيضا كزفرة المغتاظ، والزفير في الأصل: ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع؛ يعني: من شدة غيظها لهم تغلي وتلتهب تلهبا شديدا، وتردد نفسها ترديدا بليغا حتى يردوا فيها.
[25.13-17]
{ وإذآ ألقوا منها } أي: من النار { مكانا } أي: في مكان من أمكنتها صار { ضيقا } لهم تشدد العذاب عليهم؛ بحيث صار كل منهم من ضيق { مقرنين } قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل والأغلال { دعوا } وتمنوا من شدة حزنهم وكربهم { هنالك ثبورا } [الفرقان: 13] هلاكا وويلا، قائلين صائحين: واثبوراه! واويلاه! تعال تعال! وهذا وقت حلولك ونزولك، ويقال لهم حينئذ: { لا تدعوا اليوم } أيها الجاهلون { ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا } [الفرقان: 14] إذ أنواع العذاب تتجدد عليكم دائما، فاطلبوا الكل منها ثبورا.
{ قل } يا أكمل الرسل موبخا عليهم، ومعيرا بعدما بينت لهم منقلبهم ومثواهم في الآخرة { أذلك } السعير الذي سمعتم وصفه، أو المعنى: أذلك الجنة التي إملتم من جنات الدنيا ومنتزهاتها { خير } مرجعا ومصيرا { أم جنة الخلد } المؤبد المخلد أهلها فيها بلا تبديل وتغيير { التي وعد المتقون } بدخولها حتى { كانت لهم جزآء } لأعمالهم الصالحة التي أتوا بها في النشأة الأولى، وصارت بدلا من مستلذاتها الفانية { ومصيرا } [الفرقان: 15] أي: مرجعا ومنقلبا لهم بعدما خرجوا من الدنيا، مع أن { لهم فيها ما يشآءون } من النعيم المقيم الدائم؛ لكونهم { خالدين } فيها لا يتحولون عنها أصلا؟ لذلك { كان } هذا الوعد { على ربك } يا أكمل الرسل { وعدا مسئولا } [الفرقان: 16] مطلوبا للمؤمنين في دعواهم ومناجاتهم، حيث قالوا في سؤالهم ودعائهم: ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك، إلى غير ذلك من الآيات والمناجاة المأثورة من الأنبياء والأولياء.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمتخذين آلهة سوانا، وحذرهم { يوم يحشرهم } ونبعثهم للعرض والجزاء { و } نحشر أيضا { ما يعبدون من دون الله } الواحد الأحد الصمد؛ أي: آلهتهم الذين يعبدونهم كعبادة الله، كالملائكة وعزير وعيسى والجن والكواكب والأصنام، عبر سبحانه عن آلهتهم ب (ما)، مع أن بعضهم عقلاء لعموم (ما)؛ أي: إنها تستعمل في عاقل وغيره، أو للتغليب، أو باعتبار ما يعتقدون ويتخذون آلهة من تلقاء نفوسهم، لا حقيقة لها سوى الاعتبار؛ لأنهم لا يرضون باتخاذهم، وبعدما حشر الآلهة ومتخذوهم مجتميعن { فيقول } الله سبحانه مستفهما للآلهة على سبيل التوبيخ والتبكيت لمتخذيهم: { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } [الفرقان: 17] عن عبادتي، ودعوتموهم إلى عبادة نفوسكم مدعين أنتم الشركة معي؟.
[25.18-20]
{ قالوا } أي: الآلهة مبرئين نفوسهم عن هذه الجرأة والجريمة العظيمة، منزهين ذاته سبحانه عن وهم المشاركة والمماثلة والكفاءة مطلقا: { سبحانك } ننزهك ونقدس ذاتك يا ربنا عن توهم الشركة في ألوهيتك وربوبيتك، بل في وجودك وتحققك { ما كان ينبغي لنآ } ويصح منا { أن نتخذ من دونك من أوليآء } فكيف يليق بنا أن ندعي الولاية لأنفسنا دونك والاشتراك معك، مع أنا لا وجود لنا إلا منك، ولا رجوع لنا إلا إليك، وأنت يا ربنا تعلم منا ما في ضمائرنا وأسرارنا واستعداداتنا ونياتنا في جميع شئوننا وقابلياتنا، وأنت تعلم أيضا منا يا مولانا لا علم لنا باتخاذهم أولياء، ولا إضلال وتقرير من قبلنا إياهم { ولكن متعتهم } أنت بمقتضى فضلك وجودك بأنواع النعم وأصناف الكرم { و } كذا متعت { آبآءهم } كذلك، وأمهلتهم زمانا مترفهين مستكبرين { حتى نسوا الذكر } أي: ذكر المنعم، وغفلوا عن شكر نعمه، واتخذوا على مقتضى أهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة أربابا من دونك وعبدوها كعبادتك عتوا واستكبارا { و } بالجملة: هم { كانوا } مقدرين مثبتين في لوح قضائك { قوما بورا } [الفرقان: 18] هالكين في تيه الغفلة والضلال، من أصحاب الشقاوة الأزلية الأبدية لا يرجى منهم السعادة أصلا.
ثم قيل للمشركين من قبل الحق: { فقد كذبوكم } آلهتكم أيها الضالون { بما تقولون } أنهم آلهتنا، أو بما يقولون هؤلاء وأضلونا، أو بقولكم: هؤلاء شفعاؤنا { فما تستطيعون } أي: فالآن ظهر ولاح أن آلهتكم وشفعاءكم لا يقدرون { صرفا } من عذابنا شيئا { ولا } يقدرون أيضا { نصرا } لكم؛ لتصرفوا عذابنا عن نفوسكم بمعاونتهم، ولا شفاعة عندنا؛ لتخفيف العذاب عنكم { و } بالجملة: { من يظلم منكم } أيها لامشركون نفسه باتخاذ غيرنا إلها عنادا ومكابرة، ولم يتب عن ذلك حتى خرج من الدنيا عليه { نذقه } الأمر؛ أي: يوم الجزاء { عذابا كبيرا } [الفرقان: 19] لا عذاب أكبر منه.
ثم أشار سبحانه إلى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم عما عيره الجهلة المستهزئون معه بقولهم:
مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...
[الفرقان: 7] { ومآ أرسلنا قبلك } رسولا { من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام } كما تأكل أنت وسائر الناس { ويمشون في الأسواق } لحوائجهم كما تشمي أنت وغيرك.
وامتياز الرسل والأنبياء من العوام إنما يكون بأمور معنوية لا اطلاع لأحد عليها سوى من اختارهم للرسالة والنبوة، وهم في ظوهر أحوالهم مشتركون مع نبي نوعهم بل أسوأ حالا منهم في ظواهرهم؛ لعدم التفاتهم إلى زخرفة الدنيا العائقة عن اللذة الأخروية، ولهذا ما من نبي ولا رسول إلا وقد عيرهم العوام بالفقر والفاقة إلا نادرا منهم.
{ و } بالجملة: من سنتنا أنا { جعلنا بعضكم } أيها الناس { لبعض فتنة } أي: بسبب ابتلائه ومحنة واختبار، من ذلك ابتلاء الفقراء بتشنيع الأغنياء، وتعيير النبيين والمرسلين باستهزاء المنكرين المستكبرين، والمرضى بالأصحاء، وذي العاهة بالسالم إلى غير ذلك، وإنما جعلناكم كذلك؛ لنختبر وتعلموا { أتصبرون } أيها المصابون بما أصابكم من البلاء فتفوزون بجزيل العطاء وجميل اللقاء أم لا؟ { و } الحال أنه قد { كان ربك } يا أكمل الرسل في سابق قضائه وحضرة علمه { بصيرا } [الفرقان: 20] لصبر من صبر، وشكر من شكر من أولي العزائم الصحيحة، ولمن لم يصبر ولم يشكر من ذوي الأحلام السخيفة والاختبار، إنما هو لإظهار الحجة الغالبة البالغة؛ إذ الإنسان مجبول على الجدال والكفران.
[25.21-26]
{ و } من جملة جدالهم وعنادهم: { قال } الكافرون الجاحدون { الذين لا يرجون لقآءنا } أي: لا يؤملون لقيانا، ولا يخافون منا لإنكارهم بنا وبوعدنا يوم الجزاء: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا مؤيدا من عند الله { لولا } أي: هلا { أنزل علينا الملائكة } المصدقون لرسالته؛ ليخبرونا بصدقه في دعواه { أو } هلا { نرى ربنا } الذي يدعونا إليه معاينة، فيخبرنا ربنا بصدق رسوله حتى نصدقه بلا تردد، وقال سبحانه في ردهم مقسما على سبيل التعجب والاستغراب: والله { لقد استكبروا في أنفسهم } أولئك المسرفون المفرطون بقولهم هذا مكابرة؛ حيث طلبوا من الله ما لا يسع لخلص عباده من ذوي النفوس القدسية { وعتوا } بإخطار هذه المطلب العظيم في خواطرهم، وإن صدر عنهم هذا تهكما واستهزاء { عتوا كبيرا } [الفرقان: 21] فاستحقوا بذلك أكبر ال عذاب وأصعب النكال والوبال.
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يرون الملائكة } أي: ملائكة العذاب مع أنه { لا بشرى } ولا بشارة لهم برؤيتهم { يومئذ للمجرمين } بل إنما يجيئون إليهم؛ ليجروهم إلى جهنم صاغرين مهانين { و } بعدمنا يرونهم صائلين عليهم صولة الأسود { يقولون } متحسرين خاسرين قولا يقول به العرب عند هجوم البلاء ونزول العناء واليأس التام من الظفر بالمطلوب، وهو قولهم: هذا { حجرا محجورا } [الفرقان: 22] وهو كنى عن قولهم: حرمنا عن التبشير بالجنة حرمانا مؤبدا، أو صرنا مسجونين في النار سجنا مخلدا.
ثم قال سبحانه: { و } بعدما حرمنا الجنة عليهم، وجعلنا مصيرهم النار { قدمنآ } وعمدنا { إلى ما عملوا من عمل } إلى أصلح أعمالهم وأحسنها التي أتوا في النشأة الأولى؛ كقرى الضيف وصلة الرحم وإعانة الملهوف وإغاثة المظلوم وغير ذلك من حسنات أعمالهم { فجعلناه هبآء منثورا } [الفرقان: 23] أي: صيرناه كالغبار المنثور بالرياح لا ترتب القبول والجزاء والثواب عليه؛ لفقدهم شرط القبول والإثابة وقت صدورها عنهم، وهو الإيمان والتوحيد، والتصديق بالرسل والكتب، والعمل بمقتضى الوحي، وهم كفار مكذبون مستكبرون، لذلك لم يقبل منهم أعمالهم.
وأما { أصحاب الجنة } المتصفون بالإيمان والتوحيد، وتصديق الكتب والرسل، الممتثلون بالأوامر والنواهي على مقتضى ما بلغهم الرسل وبين له فهم { يومئذ خير مستقرا } أي: من جهة مكان يستقرون عليه، ويتوطنون فيه { وأحسن مقيلا } [الفرقان: 24] يستريحون، ويستروحون فيه مع الحور والغلمان.
يومئذ يتلذذون أو هم { يومئذ } [الفرقان: 24] أي: يوم انقطاع السلوك، وانكشاف السدل والأغطية المانعة من الشهود { خير مستقرا } [الفرقان: 24] من جهة استقرارهم في مقر التوحيد، آمنين عن وساوس الأوهام والخيالات الباطلة { وأحسن مقيلا } [الفرقان: 24] يستريحون فيه بلا مقتضيات القوى والآلات البشرية المنخلعين عن لوازم ناسوتهم مطلقا، مشرفين بخلع من قبل اللأهوت وحضرة الرحموت.
{ و } ذلك { يوم تشقق السمآء } تتصفى، وتتجلى سماء الأسماء الإلهية المنكدرة المحتجة { بالغمام } أي: بغيوم التعينات العدمية المنعكسة منها { ونزل الملائكة } المهيمين عند الذات الأحدية، وهي الأسماء والصفات التي استأثر الله به في غيبه بلا انعكاس وانبساط وامتداد ظل كسائر الأسماء الفعالة { تنزيلا } [الفرقان: 25] على صرافة تجردهم بلا تدنس وانغماس بغيوم التعينات والتعلقات.
حنيئذ نودي من وراء سرادقات العز والجلال: { الملك } المطلق والاستيلاء التام والسلطنة الغالية { يومئذ الحق } الثابت اللائق، والمثبت على ما ينبغي ويليق { للرحمن } المستوي على عروش ذرائر الأكوان بعموم الرحمة وشمول الفضل والامتنان، بلا تقدير مكيال وميزان من زمان أو مكان { وكان } ذلك اليوم والشأن { يوما } وشأنا { على الكافرين } الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الآفاق والأنفس { عسيرا } [الفرقان: 26] في غاية العسر والشدة، وعلى الموحدين الواصلين إلى مرتبة الفناء، الفانين في الله، الباقين ببقائه يسيرا في غاية اليسر والسهولة.
[25.27-31]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن ظلمك وأساء الأدب معك، وأراد مقتك وطردك بغيا عليك واستكبارا { يوم يعض الظالم } الجاحد الخارج عن مقتضى الأدب مع الله ورسوله { على يديه } تحسرا على تفريطه وإفراطه في العتو والاستكبار، والجحود والإنكار { يقول } حينئذ متحسرا متمنيا: { يليتني اتخذت مع الرسول } الهادي إلى سواء السبيل { سبيلا } [الفرقان: 27] يوصلني إلى منهج الرشاد، وينجني عن هذا العذاب.
{ يويلتى } تعالي يا هلكتى، أسرعي { ليتني لم أتخذ فلانا } مضلا { خليلا } [الفرقان: 28] صديقا أضلني عن خلة الرسول المرشد المنجي والله.
ذلك المغوي { لقد أضلني عن الذكر } أي: عن ذكر الله ذكر رسوله ومصاحبة المؤمنين { بعد إذ جآءني } واختلط معي، وصار صديقي وخليلي، بل صار شيطانا فوسوس علي، وأعرضني عن طريق الحق { وكان الشيطان } المضل المغوي سواء كان جنا أو إنسا أو نفسا { للإنسان } المجبول على الغفلة والنسيان { خذولا } [الفرقان: 29] يخذله ويحرمه عن الجنان، ويسوقه إلى دركات النيران بأنواع الخيبة والحرمان، ونعوذ بك يا ذا الفضل والإحسان من شر الشيطانز
{ و } بعدما طعنوا في القرآن كثيرا، ونبذوه وراء ظهورهم نبذا يسيرا بلا التفات لهم إليه وإلى ما فيه من الأوامر والنواهي { قال الرسول } مشتكيا إلى الله مناجيا: { يرب إن قومي } الذي بعثتني إليهم؛ لأهديهم وأرشدهم إلى توحيدك، وأبني لهم حدود ما أنزلت إلي من الكتاب المعجز الجامع لجميع ما في الكتب السالفة، المشتمل على جميع المعارف والحقائق والحكم، والأحكام المتعلقة بالتدين والتخلق في طريق توحيدك وتفريدك وتقديسك، مع أن هؤلاء الجهلة المسرفين { اتخذوا هذا القرآن } مع سطوع برهانه، وقواطع حججه وتبيانه { مهجورا } [الفرقان: 30] متروكا لا يلتفتون إليه ولا يسترشدون منه، ولا يتوجهون نحوهن بل يقدحون فيه ويكذبون، وينسبون إليه ما لا يليق بشأنهز
{ و } بعدما بث صلى الله عليه وسلم شكواه إلى ربه، وبسط فيها معه سبحانه ما بسط، قال سبحانه تسلية له صلى الله عليه وسلم، وإزالة لشكواه: لا تبال بهم وبشأنهم، ولا تحزن من سوء فعالهم؛ إذ { كذلك } أي: مثل ما جعلنا لك يا أكمل الرسل أعداء منكرين مكذبين { جعلنا } أيضا { لكل نبي } من الأنبياء الماضين { عدوا من المجرمين } المنكرين المكذبين لهم، ويسيئون الأدب معهم ويطعنون بكتبهم، ولا ينصرونهم ولا يروجون دينهم ولا يقبلون منهم قولهم، وليس هذا مخصوصا بك و بدينك وكتباك { و } بالجملة: لا تحزن عليهم؛ إذ { كفى بربك } أي: كفى ربك لك { هاديا } يرشدك إلى مقصدك، ويغلبك على عدوك { ونصيرا } [الفرقان: 31] حسيبا يكفيك مؤونة شرورهم وعداوتهم وإنكارهم.
[25.32-36]
{ وقال الذين كفروا } على سبيل الإنكار والتكذيب للقرآن والرسول على وجه الإعراض والاستهزاء: { لولا } أي: هلا { نزل عليه القرآن جملة واحدة } من عند ربه كالكتب الثلاثة على الأنبياء الماضين؛ يعني: إنهم استدلوا بنزوله منجما على أنه ليس من عند الله؛ إذ من سنته سبحانه إنزال الكتب من عنده سبحانه كالكتب السالفة، قال سبحانه تسلية لحبيبه، وردا للمنكرين: إنما أنزلناه { كذلك } أي: منجما متفرقا { لنثبت } ونشيد { به فؤادك } يا أكمل الرسل، ونمكنك على حفظه نجوما؛ لأن حالك مخالف لحال موسى وداود وعيسى - صلوات الله عليهم - إذ هم من أهل الإملاء والإنشاء والكتب، وأنت أمي؛ ولأن إنزاله عليك بحسب الوقائع والأغراض، والإنزال بحسب الوقائع والأغراض أدخل في التأييد { و } لهذه الحكمة والمصلحة { رتلناه } أي: تلوناه لك وقرأناه عليك { ترتيلا } [الفرقان: 32] شيئا بعد شيء على التراخي والتدريج في عرض عشرين سنة أو ثلاث وعشرين.
{ و } أيضا من جملة حكمة إنزاله منجما: إنه { لا يأتونك بمثل } عجيب غريب يضربون لك جدلا ومكابرة في وقت من الأوقات، وحال من الحالات على تفاوت طبقاتهم { إلا جئناك بالحق } أي: جئناك بالمثل الحق على طريق البرهان تأييدا لك وترويجا لأمرك ودينك أوضح بيانا مما جاءوا به { وأحسن تفسيرا } [الفرقان: 33] وتبيينا.
وكيف يتأتى منهم المعارضة والمجادلة معك يا أكمل الرسل مع تأييدنا إياك في النشأة الأولى والأخرى، وهم في الدنيا مقهورون مغلوبون، وفي الآخرة { الذين يحشرون } ويسحبون { على وجوههم إلى جهنم } البعد والخذلان، وجحيم الطرد والحرمان، وبالجملة: { أولئك } الأشقياء المردودون عن شرف القبول { شر مكانا } ومصيرا { وأضل سبيلا } [الفرقان: 34] وأخطأ طريقا، اهدنا بفضلك سواء سبيلك.
ثم أخذ سبحانه في تعداد المنكرين الخارجين على رسل الله، المكذبين لهم، المسيئين الأدب معهم، وما جرى عليهم بسوء صنيعهم من أنواع العقوبات والنكبات، فقال: { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي: التوراة المشتملة على الأحكام؛ ليبين للأنام ما فيها من الأوامر والنواهي المصفية للنفوس المنغمسة بالمعاصي والآثام؛ ليستعدوا لقبول المعارف والحقائق المنتظرة لهم في استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية { وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا } [الفرقان: 35] ظهيرا له يؤازره، ويعاون له في ترويج دينه وتبيين أحكام كتابه.
وبعدما أيدناهما بإنزال التوراة وإظهار المعجزات { فقلنا } لهما: { اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا } الدالة على توحيدنا واستقلالنا بالتصرف في مظاهرنا ومصنوعاتنا إرادة واختيارا؛ يعني: فرعون وهامان ومن معهما من العصاة البغاة، الهالكين في تيه العتو والفساد وادعوهم إلى توحيدنا، وأظهروا الدعوة لهم فذهبا على مقتضى الأمر الوجوبي فدعوا فرعون لقومه إلى ما أمرا، فأبوا عن القبول وكذبوهما، واستهزءوا معهما كبرا وخيلاء، فأخذناهم بتكذيبهم واستنكافهم { فدمرناهم تدميرا } [الفرقان: 36] أي: أهلكناهم إهلاكا كليا إلى حيث لم يبق منهم أحد على وجه الأرض.
[25.37-42]
{ و } كذا دمرنا { قوم نوح لما كذبوا الرسل } أي: حين كذبوا نوحا ومن مضى قبلهم من الأنبياء؛ إذ أمرهم نوح بتصديقهم والإيمان بهم فكذبوا بهم تبعا؛ لذلك { أغرقناهم } بالطوفان { وجعلناهم } أي: جعلنا إغراقنا إياهم بالمرة { للناس } المعتبرين من أمثال هذه الوقائع { آية } علامة وعبرة تعتبرون منها وتستوحشون، وتحسنون الأدب مع الله ورسوله خوفا من بطشه وانتقامه { و } كيف لا يخافون من أخذنا وبطشنا؛ إذ { أعتدنا } وهيأنا { للظالمين } الخارجين عن مقتضى حدودنا { عذابا أليما } [الفرقان: 37] مؤلما أشد إيلام، وانتقمنا منهم أصعب انتقام؟!.
{ و } دمرنا أيضا { عادا وثمودا } يعني: قوم هود وصالح على المكذبين بتكذيبهم إياهما، وإنكارهم على ما ظهرا عليه من الدعوة إلى طريق الحق { و } كذا دمرنا { أصحاب الرس } أيضا بتكذيبهم رسولهم.
قيل: كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله سبحانه إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه، وهم يسكنون حينئذ حول الرسل، وهو البئر الغير المطوية فانهارت، فخسفت بهم وبدارهم.
وقيل: الرسل قرية بفلج اليمامة، كان فيها بقايا ثمود، فبعث الله إليهم نبيا فقتلوه فهلكوا.
وقيل: أصحاب الرس هي أصحاب الأخدود، وقيل: هو بئر بأنطاكية، قتلوا فيها حبيب النجار.
وقيل: هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي عليه السلام، ابتلاهم الله بطير عظيم كان فيها من كل لون، وسموها عنقاء؛ لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له: فتخ أو دمخ، وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد؛ فلذلك سميت مغربا، فدعا عليها حنظلة عليه السلام فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم كذبوا حنظلة فقتلوه، فأهلكوا لذلك.
وقيل: قوم قتلوا نبيهم، فرسوه؛ أي: دسوه في بئر.
{ و } بالجملة: دمرنا بواسطة تكذيب رسلنا { قرونا } أخر؛ أي: أهل قرون وأعصار، قيل: القرن أربعون سنة، وقيل: مائة وعشرون سنة { بين ذلك } المذكور من الأمم الهالكة { كثيرا } [الفرقان: 38] لا يعلم عددها إلا الله.
{ و } بالجملة: { كلا } من الأمم الهالكة المذكورة وغير المذكورة { ضربنا له الأمثال } أولا من الذين هلكوا قبلهم بالتكذيب، وبينا لهم الأحكام والشرائع الموضوعة على مقتضى حكمتنا ومصلحتنا، فكذبوهم ظلما وعدوانا فأهلكناهم بتكذيبهم خيبة وخسرانا { و } بواسطة تلك الخصلة المذمومة المشتركة بينهم { كلا } منهم { تبرنا } وفتتنا أجزاءه { تتبيرا } [الفرقان: 39] تفتيتا وتشتيتا إلى حيث لم يبق منهم أحد يخلفهم ويحيي اسمهم.
ثم أخذ سبحانه بتعيير قريش وتوبيخهم وقساوة قلوبهم، وشدة شكيمتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمال غيهم وغفلتهم عن الله، ونهاية عمههم وسكرتهم، وعتوهم واستكبارهم في أنفسهم إلى حيث لم يتأثروا ولم يتعظوا مما جرى على أمثالهم من العصاة والبغاة، المتمردين على الله ورسوله، فقال سبحانه مؤكدا بالقسم على سبيل التعجب من شدة قساوتهم: { و } الله { لقد أتوا } يعني: قريشا كانوا يذهبون إلى الشام؛ للتجارة ويمرون في كل مرة ذهابا وإيابا { على القرية التي أمطرت } على أهلها { مطر السوء } يعني: الحجارة؛ قهرا من الله إياهم، وزجرا لهم من سوء فعالهم وخروجهم من حدود الله وسوء الأدب مع الله ورسوله؛ يعني: لوطا، والقرية سدوم معظم بلاد قوم لوط.
{ أفلم يكونوا يرونها } في مرات مرورهم؛ حتى يتذكروا ويتعظوا منها { بل كانوا } يرونها في كل مرة؛ إذ هي على جنب الطريق، لكن بكفرهم بالله وكمال قدرته وعزته { لا يرجون } أي: لا يأملون { نشورا } [الفرقان: 40] أي: يوم ينشرون فيه للجزاء، ولا يخافون مما سيجري عليهم فيه؛ لذلك لم يعتبروا ولم يتعظوا منها ومما جرى على أهلها.
{ و } من كمال استكبارهم وشدة غيظهم معك يا أكمل الرسل { إذا رأوك } في المرأى { إن يتخذونك } أي: ما يتخذونك، ولا يحدثون عنك وفي شأنك { إلا هزوا } أي: كلاما مشعرا بالاستهانة والاستحقار والسخرية؛ حيث يقولون في كل مرة من مرات رؤيتهم بك متهكمين: { أهذا الذي بعث الله } لكم { رسولا } [الفرقان: 41] يرشدكم ويهديكم إلى توحيد ربه، ويقيم عليكم الحجج والبراهين؛ ليصرفكم عن آلهتكم وآلهة آبائكم وأسلافكم؟!.
ومن كمال جده وجهده في أمره ونهاية مبالغته في السعي والاجتهاد { إن كاد ليضلنا } أي: إنه قرب؛ ليضلنا ويصرفنا { عن آلهتنا لولا أن صبرنا } أي: ثبتنا ومكنا ووطنا نفوسنا { عليها } لصرفنا عن آلهتنا؛ أي: على عبادة آلهتنا، وأضلنا عن طريق عبادتهم؛ لسعيه التام وجده البليغ في ترويج دينه وإثبات دعواه، وكثرة إظهار ما يخيل له أن حجج ومعجزات وكمال فصاحة في تبيينها، وبالجملة: لولا صبرنا وثباتنا على ديننا لضللنا عن آلهتنا بإضلاله، قال سبحانه ردا عليهم على سبيل التهديد والتوبيخ: { وسوف يعلمون } أولئك الحمقى الجاهلون { حين يرون العذاب } النازل عليهم { من أضل سبيلا } [الفرقان: 42] وأخطأ طريقا، وأسوأ حالا ومآلا، أنتم أيها الجاهلون المصرون على الجهل والعناد، أم المؤمنون؟.
[25.43-46]
ثم قال سبحانه على التوبيخ لعامة المشركين المتخذين غير الله إلها، سواء كانوا مشركين بالشرك الجلي أو الخفي، المسندين الأفعال والحوادث الكائنة في عالم الكون والفساد إلى الأسباب والوسائل العادية على مقتضى هوية نفوسهم؛ وذلك لجهلهم بالله وغفلتهم عن إحاطة علمه وقدرته، وجميع أوصافه وأسمائه بجميع ما ظهر وبطن، وكان ويكون: { أرأيت } أي: أخبرني يا أكمل الرسل إن كنت من أهل الخبرة والذكاء، أتهدي وترشد إلى التوحيد { من اتخذ إلهه هواه } أي: من اتخذ هواه ومشتهى قلبه إلها يعبده كعبادة الله، قدم المفعول الثاني؛ للغاية والاهتمام { أفأنت } يا أكمل الرسل { تكون عليه وكيلا } [الفرقان: 43] حفيظا تحفظه عن متابعة هواه ومقتضى طبعه، مع أنا جبلناه وأثبتناه في لوح قضائنا وحضرة علمنا أنه من الأشقياء المردودين؟!.
{ أم تحسب } وتظن من كمال حرصك وشفقتك على إيمان هؤلاء الهلكى { أن أكثرهم } أي: أكثر المشركين { يسمعون } كلمة التوحيد سمع قبول ورضاء { أو يعقلون } ويفهمون معناه فهم عارف متدرب متدبر؟! إلا من سبقت له العناية الأزلية والتوفيق، بل { إن هم } أيك ما أكثرهم { إلا كالأنعام } يأكلون ويمشون، وعن السمع والشعور معزولون { بل هم أضل سبيلا } [الفرقان: 44] من الأنعام؛ لأنهم مجبولون على المعرفة والتوحيد، والأنعام ليست كذلك، فهم أسوأ حالا منها.
فكيف لا يكونون أضل سبيلا من الأنعام؛ لأنهم مع استعدادهم وقابليتهم لقبول فيضان أنوار التوحيد، ومعرفة كيفية سريان الوحدة الذاتية، وامتداد أظلالها على هياكل الموجودات والمظاهر، صاروا محرومين عنها وعن شهودها والاطلاع عليها، غافلين عن لذاتها، مع أنهم إنما جبلوا؛ لأن يدركوها ويشاهدوا عليها، وينكشفوا بسرائرها، ومع ذلك لا يجتهدون في شأنها، بل لا يلتفتون أيضا، مع أنه سبحانه أشار إليها وصرح بها في كتابه العزيز؛ إرشادا لنبيه صلى الله عليه وسلم وتنبيها على من تبعه من المؤمنين؛ ليتفطنوا منها إلى مبدئهم ومعادهم، ويتصفوا بكمال المعرفة والتوحيد.
فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ أمثال هذه الخطابات لا يسع في سمع غيره صلى الله عليه وسلم: { ألم تر } أيها المسترشد البصير، والمستكشف الخبير { إلى ربك } أي: مربيك الذي رباك بأنواع الكمالات وأرفع الدرجات { كيف مد الظل } أي: كيف بسط أظلال أوصافه وأسمائه، وعكوس شئونه وتطوراته على مرايا الإعدام القابلة، فيتراءى؛ أي: حسب اقتضاء أسمائه الحسنى وصفاته العليا ما لا يتناهى من الصور العجيبة والهياكل الغريبة حتى يتوهم المحجوبون أنها موجودات حقيقة متأصلة الوجود، مستقلة في الآثار المترتبة عليها.
ثم افترقوا، فذهب قوم إلى أنها موجودات متأصلة مستقلة بأنفسها، مستغنية عن فاعل خارجي يؤثر فيها، وهم الدهريون الجاهلون، القائلون بأن الطبيعة تكفي في تكون الأشياء، وإذا وجدت الشرائط وارتفعت الموانع تكون الشيء ألتة بلا احتياج إلى فاعل خارجي مؤثر في وجوده، ولم يتفطنوا أولئك الحمقى أن هذه الصور باقية على عدماتها الأصلية، ما شمت رائحة من الوجود سوى أن ظل الوجود انبسط عليها.
وآخر إلى أنها موجودات حقيقية قديمات بأنواع لها صور ومواد قديمة محتاجة إلى فاعل خارجي مؤثر موجب بمقارنة الصور للمادة، وهذا مذهب الحكماء، وهؤلاء الهلكى القاصرو عن درك الحق أيضا لم يتنبهوا ألا قديم في الوجود إلا الله الواحد القهار للسوى والأغيار مطلقا.
وآخر إلى أنها موجودات حقيقية أبدعها الله تعالى من العدم بمقتضى علمه وقدرته وإرادته و اختياره بلا وجوب شيء عليه في إيجادها، وبلا سبق مادة ومدة عليها، وهذا مذهب جمهور المتكلمين، وهؤلاء أيضا لم يتنبهوا أن العدم لا يقبل الوجود أصلا، كما أن الوجود لا يقبل العدم أصلا؛ إذ بينهما تضاد حقيقي لا يتصف أحدهما بالآخر مطلقا.
ومنشأ توهم هؤلاء الفرق الثلاث اقتصار نظرهم على الصور المرئية ظاهرا وغفلتهم عن ذي الصورة التي هي عكوس وأظلال وآثار له، ولو علموا ارتباط هذه الصور بذي الصورة، وكوشفوا بوحدة الوجود، وشهدوا ألا موجود إلا الله الواحد القهار لجميع الأغيار لم يبق لهم شائبة شك في عدمية هذه الصورة المرئية، كما لا شك لهم في عدمية الصور المرئية في المرايا والأظلال، ومن لم يجعل الله له نورا فما له نور.
{ ولو شآء } وأراد سبحانه عدم انبساط عكس وجوده وانبعاث العدم على صرافته، ولم يجعل مرآة الكمالات وجوده ولم يلتفت إليها، ولم ينحل عليها { لجعله ساكنا } اي: جعل ظل وجوده مقبوضا غير مبسوط؛ لفني العالم دفعة ألبتة { ثم } أوضحنا هذا المد والبسط بمثال واضح من جملة المحسوسات عناية منا لعبادنا بأن { جعلنا الشمس } في إضاءتها وإشراقها، وانبساط نورها وشعاعها على ظلمة الليل المشابهة بالعدم { عليه } أي: على بسط الوجود على مرايا الأعدام { دليلا } [الفرقان: 45] مثالا موضحا واضحا لكيفية امتداد أظلال الوجود وانعكاسها من العدم؛ وذلك أن الشمس إذا أخذت في الإشراق، وبسطت على النور والآفاق، استنار العالم بعدما كان مظلما، وإذا قبضت عاد على ظلمته الأصلية.
{ ثم } بعدما بسطنا ظل وجودنا على هياكل المظاهر والموجودات { قبضناه إلينا } دفعا لتوهم الشركة المنافية لصرافة التوحيد، وإن كان بحسب الظاهر؛ إذ لا موجود حقيقة إلا الله الواحد القهار { قبضا يسيرا } [الفرقان: 46] سهلا.
فإن قدرنا له التغير والتجدد على تعاقب الأمثال؛ ليدل على ألا وجود لها لذاتها؛ إذ لو كان لها وجود من نفسها لم يطرأ عليها التغير والانتقال، فعلم من هذه التغيرات الواقعة في الأكوان ألا وجود لها في الحقيقة بل لا وجود حقيقة إلا للواجب الذي هو نفس الوجود.
[25.47-52]
ثم تنزل سبحانه عن خطاب حبيبه صلى الله عليه وسلم في المعارف الحقائق المتعلقة بالوحدة الذاتية السارية في الأكوان، وكيفية ارتباط الأكوان عليها غلى مخاطبة العوام ومقتضى استعداداتهم وقابلياتهم فقال: وكيف تغفلون عن مبدعكم ومظهركم أيها الغافلون؟! { وهو الذي جعل لكم اليل لباسا } تسترون بظلمته عن أعين الناس؛ لئلا يطلع بعضكم على مقابح بعض { و } جعل { النوم } فيه { سباتا } راحة للأبدان بعد قطع المشاغل وقضاء الأوطار المتعلقة بالنهار { وجعل النهار نشورا } [الفرقان: 47] تنتشرون في أقطار الأرض؛ لطلب المعاش، كل ذلك بتقدير الله وتدبيره وإصلاحه لأمور عباده.
{ وهو الذي أرسل الرياح بشرا } مبشرا { بين يدي رحمته } يبشركم بنزوله { و } بعد تبشيرنا إياكم بالرياح المبشرات { أنزلنا } من مقام جودنا { من } جانب { السمآء مآء طهورا } [الفرقان: 48] متناهيا في الطهارة، مبالغا أقصى غاياتها.
{ لنحيي به } أي: بالماء { بلدة ميتا } قفرا يابسا جامدا بأنواع النباتات والخضورات { ونسقيه } أي: بالماء { مما خلقنآ } في البراري والبوادي { أنعاما وأناسي كثيرا } [الفرقان: 49] وهي جمع: إنسان، حذف نونه عوضا منها الياء فأدغم، أو جمع: إنسي؛ لبعدهم عن المنابع والأنهار.
{ ولقد صرفناه } أي: المطر { بينهم } إنعاما له وإصلاحا لحالهم، وكررنا ذكره في هذا الكتاب، وكذا في الكتب السالفة { ليذكروا } ويتفكروا في نعمنا وإنعامنا، ويواظبوا على شكرنا؛ ليزداد لهم، ومع ذلك { فأبى } وامتنع { أكثر الناس } عن قبوله وما يزيدون { إلا كفورا } [الفرقان: 50] أي: كفرانا للنعم وإنكارا لمنعها، حيث يقولون منكرا على المنعم: مطرنا بنوء كذا.
{ و } من شدة بغيهم وكفرانهم { لو شئنا } وتعلق مشيئتنا؛ لإنذار كل منهم بمنذر مخصوص { لبعثنا في كل قرية } من القرى نبيا { نذيرا } [الفرقان: 51] ينذرهم عما هم عليه من الكفران والطغيان، ولكن بعثناك يا أكمل الرسل إلى كافتهم وعامتهم تعظيما لشأنك وإجلالا لك، فلك ألا تعي من حمل أعباء رسالتنا وتبليغ ما أمرناك به، ولا تلتفت إلى مزخرفاتهم التي أرادوا أن يخدعوك بها.
{ فلا تطع الكافرين } المصرين على الكفر والعناد مطلقا { و } لا تتبع أهوائهم، بل { جاهدهم به } أي: بدينك هذا { جهادا كبيرا } [الفرقان: 52] حتى تقمع وتقلع دينهم الباطل، وتروج أمر دينك الحق ترويجا بليغا إلى حيث يظهر دينك على الأديان كلها
وكفى بالله حسيبا
[النساء: 6].
[25.53-57]
{ و } قله لهم تنبيها عليهم: كيف تغفلون عن ربكم وعن دينه الموضوع فيكم إصلاحا لحالكم؟! { هو الذي مرج البحرين } أي: التوحيد والشرك كلاهما متجاورين متلاصقين، مع أنه { هذا } أي: التوحيد { عذب فرات } سائغ شرابه للمتعطشين بزلاله { وهذا } أي: الشرك والكفر { ملح أجاج } أي: مالح في كمال الملوحة إلى حيث يقطع أمعاء شاربيه { و } من كمال لطف الله على عباده { جعل } سبحانه دين الإسلام والشريعة الموضوعة؛ للضبط { بينهما } أي: بين التوحيد والشرك { برزخا } مانعا عن التصاقهما واتصالهما { و } جعله { حجرا محجورا } [الفرقان: 53] أي: حدا محدودا، مانعا عن امتزاجهما واختلاطهما.
{ و } كيف تنكرون أيها المنكرون سريان وحدته الذاتية على صفائح مظاهره { هو الذي خلق } أي: أظهر وأوجد تنبيها لعباده على سر توحيده { من المآء } أي: من نقطة النطفة { بشرا } سويا ذا أجزاء مختلفة طبعا وشكلا، صلابة ولينا، قوة وضعفا، رقة وغلظا، إلى غير ذلك من الصفات المتقابلة والأجزاء المتفاوتة التي عجزت عن تشريح جزء من أجزاء شخص من أشخاص نوع الإنسان فحول الحكماء، مع وفور دواعيهم لكشفها إلى حيث تاهوا وتحيروا عن ضبط ما فيه من الامتزاجات والارتباطات، فكيف عن جميع أجزائه؟! وبعدما قدره سبحانه، وسواه بكمال قدرته وقوته، ووفور حكمته قسمه قسمين { فجعله نسبا } أي: جعل قسما منه ذكرا ذا نسب ونسل ينسب إليه من يخلفه من أولاده الحاصلة من نطفة.
{ و } جعل قسما آخر منه { صهرا } أي: أنثى يصاهر بها؛ أي: يختلط ويمتزج الذكر معها؛ إبقاء للنوع وتتميما لبقائه على سبيل التناسل والتوالد إلى ما شاء الله { و } بالجملة: { كان ربك } الذي رباك يا أكمل الرسل على كمال الذكاء والفطنة في فهم سرائر توحيده، ورقائق تجلياته الجلالية والجمالية { قديرا } [الفرقان: 54] على ما شاء وأراد بلا فتور وقصور.
{ و } مع كمال قدرته سبحانه، وعلو شأنه وسطوع برهانه { يعبدون } من خبث طينتهم وشدة قسوتهم { من دون الله } الحقيق بالعبودية ذاتا ووصفا واسما { ما لا ينفعهم ولا يضرهم } يعني: أصناما وأوثانا لا يرجى نفعهم ولا ضرهم لا لأنفسهم ولا لغيرهم وبالجملة: لا يملكون شيئا من لوازم الألوهية والربوبية مطلقا { وكان الكافر } الجاحد الجاهل بذات الله وكمال أسمائه وصفاته { على ربه } الذي رباه بمقتضيات أوصافه وأسمائه { ظهيرا } [الفرقان: 55] يظهر عليه بالباطل ويظاهره، وينبذ الحق وراء ظهره ويخالفه، ولا يلتفت إليه عتوا واستكبارا.
{ ومآ أرسلناك } يا أكمل الرسل { إلا مبشرا ونذيرا } [الفرقان: 56] إلى كافة البرايا وعامة العباد؛ لتبشرهم على ما ينفعهم، وتنذرهم عما يضرهم؛ يعني: تهديهم إلى المعرفة والتوحيد الذي هم جبلوا لأجله، وتمنعهم عن المفاسد المنافية له ولطريقه.
وإن نسبوك يا أكمل الرسل إلى أخذ الجعل والرشا؛ لإرشادك وإهدائك إيام { قل } لهم تبكيتا وإلزاما: { مآ أسألكم } وأطلب منكم { عليه } أي: على تبليغي إياكم ما أوحي إلي من ربي، وإرشادي لكم بمقتضى الوحي الإلهي { من أجر } جعل ومال آخذه منكم، وأجعله سببا للجاه والثروة وأنواع المفاخرة والمباهاة بها، كما هو عادة الجهلة المشيخين في هذا الزمان الذين هم من أعوان الشيطان، نسبوا أنفسهم إلى الصوفية والمتشرعين تلبيسا وتغريرا، وأخذوا من ضعفاء العوام من حطام الدنيا بعدما أفسدوا عقائدهم بأنواع التلبيسات والتدليسات، وتحليل المحرمات وإباحة المحظورات واختزنوها.
ثم ادعو بسببها الرئاسة والسيادة حتى مضوا عليها زمانا، وكثر الأتباع والأحشام، وهيأوا الأعوان والأنصار بتلبيسهم هذ، ثم بعد ذلك بغوا على السلطان وقصدوا الخروج على أولي الأمر والطاعة، واشتغلوا بتخريب البلدان وإضرار أهل الإيمان، وقصدوا أموال الأنام وأعراضهم وسبي ذراريهم، ومع ذلك سموا أنفسهم أهل الحق والعدل، وأرباب المعرفة والإيمان، وأصحاب التحقيق واليقين، ألا ذلك هو الخسران المبين والطغيان العظيم - عصمنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا - بل ما أطلب بتبليغي هذا { إلا } هداية { من شآء } وأراد بتوفيق الله إياه ممن سبقت لهم العناية الأزلية { أن يتخذ } ويطلب { إلى ربه } الذي رباه بأنواع الكرامات { سبيلا } الفرقان: 57] يوصله إلى معرفته وتوحيده.
[25.58-62]
{ و } إن انصرفوا عنك وأعرضوا عن هدايتك وإرشادك، وقصدوا تعنتك وقتلك عداونا وظلما، فلا تبال يا أكمل الرسل بهم وبشأنهم ولا تحزن عن أمرهم، بل { توكل } في مقابلتهم ومقاوتهم { على الحي } القيوم { الذي لا يموت } أي: لا يعرضه الموت والفناء { وسبح } ربك ونزهه عما لا يليق بشأنه مقارنا تسبيحك { بحمده } على آلائه ونعمائه الفائضة عليك على التعاقب والتوالي، سيما على ما اصطفاك من بيت البرايا، وأعطاك الرئاسة والسيادة على كافة الأنام، والرسالة على قاطبة الأمم، بلغ ما أنزل إليك ولا تفرح من إيمانهم، ولا تحزن على كفرهم وطغيانهم { و } اعلموا أنه { كفى به } أي: كفى الله سبحانه عالما { بذنوب عباده } ما ظهر منهم وما سيظهر، وما بطن في استعداداتهم، وكن في قابلياتهم { خبيرا } [الفرقان: 58] مطلعا بصيرا على وجه الحضور والشهود لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء منها، مجازيا قديرا، ومنتقما عزيزا يجازيهم بقدرته على مقتضى اطلاعه وخبرته.
وكيف لا يعلم ويطلع سبحانه بجميع ما ظهر وبطن، وهو { الذي خلق السموت والأرض } أبدعهما وأظهرما { وما بينهما } من كتم العدم بلا سبق الهيولي والزمان { في ستة أيام } أي: على عدد الجهات والأقطار المحفوفة بجميع الكوائن والفواسد { ثم } بعدما كمل ترتيبها على أبلغ نظام { استوى } وتمكن وانبسط { على العرش } أي: على عروش جميع المظاهر بالاستيلاء التام والبسطة العامة { الرحمن } الذي وسعت رحمته كل ما ظهر وبطن، غيبا وشهادة.
{ فسئل به } أي: بما ذكر من خبرة الله وإحاطة علمه وقدرته وإظهاره ما ظهر وبطن عينا وشهادة، وإحاطته واستيلائه على عروش الرحمن بالرحمة العامة { خبيرا } [الفرقان: 59] ذا خبرة يخبرك بصدقها من أرباب القلوب الواصلين إلى مرتبة الكشف وعموم الشهود ممن سبقت لهم العناية الأزلية، والجذبة الجالية الغالبة من قبل الحق، المفنية لهم عن أنانياتهم، المبقية لهم ببقاء الحق.
{ و } مع ظهور استيلاء الحق وانبساطه على عروش ذرائر الأكوان { إذا قيل لهم } على سبيل الإيقاظ عن نعاس النسيان، والتنبيه عن نومة الحرمان: { اسجدوا للرحمن } المظهر لكم من كتم العدم بسعة رحمته وجوده { قالوا } منكرين له مع كمال ظهوره مستفهمين على سبيل الاستغراب والاستعباد: { وما الرحمن } الذي تدعوننا إلى سجوده؟ أتوا بالسؤال بلفظة (ما) من كمال نكارته عندهم وشدة إنكارهم عليه، قائلين: { أنسجد لما تأمرنا } أي: لكل شيء تأمرنا بسجوده أنت من تلقاء نفسك { وزادهم نفورا } [الفرقان: 60] أي: ما زاد دعوتك إياهم وإرشادك لهم إلا نفورا عن الحق و طريق توحيده؛ لخبث طينتهم وشدة شكيمتهم، وكمال غيهم وقسوتهم.
وكيف تنفرون وتنصرفون هؤلاء الجاهلون الغافلون عن سجوده سبحانه، مع أنه { تبارك } وتعالى عن شأنه، عن أن ينصرف عنه وينفر منه أحد من عباده، مع كثرة خيراته وبركاته عليهم؛ لأنه { الذي جعل في السمآء } أي: العلويات { بروجا } لتكون منازل للكواكب المدبرة للأمور الأرضية { و } بعدما هيأها سبحانه على أبلغ النظام { جعل فيها سراجا } أي: شمسا دائرة من برج إلى برج { وقمرا منيرا } [الفرقان: 61] منقلبا من منزل إلى منزل من المنازل المذكورة؛ ليحصل من دورها وانقلابها الفصول الأربعة المصلحة لأحوال ما في السفليات من المواليد الثلاثة.
{ و } كيف تغفلون عن الصانع الحكيم إيها الضالون { هو الذي جعل اليل والنهار خلفة } متعاقبة متجددة، فخلف أحدهما الآخر؛ ليكون مرصدا وميقاتا { لمن أراد أن يذكر } ويتذكر آلاء الله المتوالية المتتالية عليه، الفائضة من عنده على تعاقب الأوقات والساعات { أو أراد شكورا } [الفرقان: 62] أي: أراد يشكر على نعمائه الواصلة إليه في خلالهما.
[25.63-67]
{ و } المتذكرون لآلاء الله، المواظبون لأداء حقوقها حسب طاقتهم، هم { عباد الرحمن } الواصلون إلى مرتبة الرضوان، الفائزون بلقاء الرحمن، وهم { الذين يمشون على } وجه { الأرض } التي هي محل أنواع الفسادات { هونا } هينين لينين بلا منازعة وجدال مع أحد من بني نوعهم، وسوء خصالهم معهم من كبر وخيلاء { و } هم من كمال سكينتهم ووقارهم، وتلطفهم مع عباد الله { إذا خاطبهم الجاهلون } بعلو شأنهم ورفعة مكانهم بما يكرهون من الشتم والوقاحة والاستهزاء.
{ قالوا } من سلامة نفوسهم وطيب قلوبهم: { سلاما } [الفرقان: 63] أي: تلسيما عليهم بلا تغير وتأثر من قولهم، وتركا لانتقامهم ومخاصمتهم، توطينا لنفوسهم على التسليم والرضا بجريان القضاء والحلم وكظم الغيظ، هذا حالهم وشغلهم بين الناس في النهار.
{ و } شغلهم في الليل، هم { الذين يبيتون } ويدخلون في الليل بائتين، صاروا في خلاله { لربهم سجدا } ساجدين، واضعين جباههم على تراب المذلة؛ طلبا لمرضاة الله بلا شوب السمعة والرياء، والعجب والهوى؛ لكونهم خالين في خلاله مع الله بلا وقوف أحد عليهم { وقياما } [الفرقان: 64] قائمين بين يدي الله تواضعا وخدمة { والذين يقولون } في مناجاتهم مع الله في خلواتهم: { ربنا } يا من ربانا بأنواع الكرامات { اصرف عنا } بفظلك وجودك { عذاب جهنم } المعد لعصاة عبادك { إن عذابها كان غراما } [الفرقان: 65] حتما لازما لنا، لولا فضلك بنا وإحسانك علينا، فإ،هم مع كمال توجههم وتحننهم نحو الحق على وجه الإخلاص ورسوخهم في الأعمال الصالحة الخالصة بلا فوت شيء من لوازمها خائفون، وجلون عن بطشه سبحانه وانتقامه؛ لأنهم لا يتكئون ولا يتكلمون إلى أعمالهم وطاعاتهم، ولا يثقون بها.
بل ما يعتمدون ويتكلمون إلا بفضل الله وسعة رحمته وجوده قائلين، مستعيذين من النار: { إنها } أي: جهنم البعد والحرمان { سآءت مستقرا } يستقر أحد فيها ساعة وآنا { و } كيف أن تجعل لنا يا مولانا { مقاما } [الفرقان: 66] نقيم فيها زمانا.
{ والذين إذآ أنفقوا } مما رزقهم الله من الأطايب على الفقراء والمساكين { لم يسرفوا } في الإنفاق إلى أن وصل حد التبذير المذموم عقلا وشرعا { ولم يقتروا } في الإمساك والمنع إلى أن وصل حد التقتير المحرم، المكروه شرعا ومرءة، بل { وكان } إنفاقهم { بين ذلك قواما } [الفرقان: 67] وسطا عدلا بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين، الساقطين عن درجة الاعتبار عند الله وعند الناس، المسقطين للنفس عن الاعتدال الحقيقي المقبول عند الله وعند عموم عباده.
[25.68-71]
{ و } بالجملة: هم الموحدون { الذين لا يدعون مع الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والربوبية { إلها آخر } يستحق للعبودية مثله { و } من جملة خصائلهم الحميدة: إنهم { لا يقتلون } بحال من الأحوال { النفس التي حرم الله } الحكيم المتقن في أفعاله وأحكامه قتلها؛ إذ كل نفس من النفوس البشرية إنما وضعت وبنيت بيتا لله،، مهبطا معه ولوحيه وإلهامه، محلا لحلول سلطان وحدته الذاتية ومجلى لظهور أسمائه الحسنى وصفاته العليا العظمى الكاملة، فلا يصح هدم بيته وتخريب بنائه { إلا بالحق } أي: بالرخصة الشرعية الموضوعة بوضع الله سبحانه حدا وقصاصا.
{ و } من جملة أخلاقهم الحميدة: إنهم { لا يزنون } عدوانا وعدولا عن مقتضى الحد الشرعي و الوضع الإلهي في حفظ النسب عن اختلاط النطف؛ إذ هي من أخس المحرمات وأفحش المحظورات؛ لذلك عقبه سبحانه بالوعيد الهائل، فقال: { ومن يفعل ذلك } أي: الزنا التي هي الفعلة الشنيعة، والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والشناعة المستكرهة عند الطباع السليمة، المسقطة للمروءة والعدالة { يلق } يوم الجزاء { أثاما } [الفرقان: 68] أي: جزاء مسمى بالأثام مبالغة وتأكيدا، كأن اسم الإثم موضوع له حقيقة وهي جامع لجميع ما يطلق عليه اسم الإثم ادعاء لذلك.
{ يضاعف له العذاب يوم القيامة } لا ضعفا مرة، بل أضعافا كثيرة، ومع ذلك التضعيف والتشديد { ويخلد } ويدوم { فيه } أي: في العذاب { مهانا } [الفرقان: 69] صاغرا ذليلا بالنسبة إلى جميع أهل النار؛ إذ الزنا من أقبح الجرائم عند الله وأفحشها؛ إذ لا جرم عنده سبحانه أعظم من هتك محارمه، أعاذنا الله من ذلك.
{ إلا من تاب } عما جرى عليه من سوء القضاء، ورجع إلى الله نادما عن فعله خائبا خاسرا، مستحييا من الله، خائفا عن بطشه، مكذبا لنفسه، معيرا عليها، متأوها متحسرا عما صدر عنه { و } مع ذلك { آمن } بتوحيد الله، وأكد توبته بتجديد الإيمان المقارن بالإخلاص الصائن للمؤمنين عن ارتكاب المحظورات المنافية للإيمان، وبالجملة: جدد إيمانه معتقدا أه حين صدر عنه لم يكن مؤمنا { و } مع التوبة وتجديد الإيمان { عمل عملا صالحا } منبئا عن إخلاصه في إيمانه وتوبته، مشعرا على يقينه ومعرفته.
{ فأولئك } السعداء التائبون الآيبون المقبولون، هم الذين { يبدل الله } الحكيم المصلح لأحوال عباده بعدما وقفهم على التوبة الخالصة والإنابة الصحيحة الوثيقة { سيئاتهم } التي أتوا بها قبل التوبة { حسنات } بعدها، بأن يمحو سبحانه بفضله معاصيهم المثبتة في صحائف أعمالهم قبل إنابتهم، ويثبت بدلها حسنات بعدما { وكان الله } المطلع لسرائر عباده وإخلاصهم { غفورا } لهم، متجاورزا عن ذنوبهم وإن عظمت بعدما جاءوا بالتوبة الخالصة { رحيما } [الفرقان: 70] يقبل توبتهم ويغفو زلتهم.
{ و } بالجملة: { من تاب } ورجع إلى الله نادما عما مضى عليه من المعاصي { وعمل } عملا { صالحا } تلافيا لما فات من الطاعات والحسنات، جابرا لما انكسر من قوائم إيمانه وأعماله بالمفاسد والآثام { فإنه يتوب } ويرجع { إلى الله } المتفضل المحسن الكريم الرحيم { متابا } [الفرقان: 71] أي: توبة مقبولة عند الله، مرضية دونه.
[25.72-77]
{ و } المؤمنون المقبولون المبرورون عند الله، هم { الذين لا يشهدون الزور } أي: الشهادة الباطلة المسقطة للعدالة والمروءة أصلا { و } أيضا { إذا مروا } فجأة بلا سبق ترقب منهم وتجسس { باللغو } مطلقا: أي: ما يجب أن يلغو ويطرح من المكروهات والمحظورات والمستقبحات، سواء كان قوليا أو فعليا { مروا } عليها { كراما } [الفرقان: 72] أي: مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه، مستغفرين من الله لمن ابتلاه الله به غاضين أبصارهم عن تدقيق النظر نحوه وتكرير المشاهدة إليه، والمبالغة في المطارحة والمطالعة فيه، وبالجملة: مرو باللغو على وجه التلطف والرفق والتليين، بحيث يستحيي من رفعته ولطفه المبتلون به؛ لعل الله يتوب عليهم بكرامة كرمه، إلى حيث لا يحومون حول ذلك اللغو بد ذلك أصلا.
{ و } هم { الذين إذا ذكروا } ووعظوا { بآيات ربهم } الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته { لم يخروا } ولم يسقطوا { عليها } أي: على الآيات { صما } أصمين غافلين عما فيها من الأوامر والنواهي، والعبر والأمثال، والرموز والإشارات { وعميانا } [الفرقان: 73] أعمياء عن مطالعة آثار أوصاف صفاته الجلالية والجمالية فيها بل يخرون ويتذللون عند سماعها، واعين حافظين بما فيها من المواعظ والتذكيرات المتعلقة لأحوالهم في النشأتين، مطالعين منها آثار الأوصاف والأسماء الإلهية، ناظرين عليها بنظر الاعتبار والاستبصار.
{ والذين يقولون } داعين مناجين متضرعين قائلين: { ربنا } يا من ربانا على فطرة التوحيد والإيقان { هب لنا } بفضلك، وسعة لطفك وجودك من في حوزتنا وجوارنا { من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } أي: أجعلهم بحيث تقر وتتنور عيوننا برؤيتكم من كمال صلاحهم وسدادهم، ممتثلين بأوامرك، مجتنبين عن نواهيك { و } بعدما وهبتنا يا مولانا ولأهلينا ما تقر به عيوننا من الاتقاء عن محارمك والامتثال بأوامرك، و { اجعلنا } بلطفك { للمتقين } المحترزين الحذرين عن محارمك ومنهياتك { إماما } [الفرقان: 74] مقتدى بهم، نرشدهم إلى طريق توحيدك.
وبالجملة: { أولئك } السعداء المقبولون عند الله، المذكورة أوصافهم من قوله سبحانه:
وعباد الرحمن...
[الفرقان: 63] إلى هنا، هم الذين { يجزون } من عند ربهم تفضلا عليهم وامتنانا { الغرفة } وهي أعلى درجات الجنان { بما صبروا } أي: بسبب ما صبروا على مشاق الطاعات ومتاعب الرياضات، والتحمل على قطع التعلقات وترك المألوفات، والذب عن جملة المشتهيات والمستلذات { و } بعدما استقروا عليها { يلقون فيها تحية } وترحيبا من الملائكة من جميع الجوانب { وسلاما } [الفرقان: 75] أي: سلامة عن جميع الآفات.
{ خالدين فيها } أي: في الجنة لا يتحولون عنها ولا يتبدلون، بل دائمون فيها مقيمون؛ لذلك { حسنت مستقرا } مستقرون فيها ومتمكنون عليها { ومقاما } [الفرقان: 76] يقيمون ويتوطنون فيها.
ثم لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عموم المشركين إلى الإيمان والتوحيد، وأمرهم بالإطاعة والانقياد على ما أمرهم الله، ونهاهنم عما نهاهم سبحانه على مقتضى الوحي الإلهي والكتاب المنزل من عنده كذبوه، وأنكروا له قائلين: نحن لا نؤمن بك ولا بكتابك ولا بربك الذي ادعيت الرسالة عنه، ولا نطيع بما أمرنا ونهينا عنه، وبالجملة: لا نقلل منك جميع ما جئت به من قبل ربك، ونسبته إليه افتراء ومراء.
رد الله عليهم قولهم هذا على أبلغ وجه وآكده مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، آمرا له بقوله: { قل } لهم بعدما انصرفوا عن دعوتك، والإيمان بك وبربك والعمل بكتابك: { ما يعبأ } أي: ما يبالي ويعتد بكم وبإيمانكم وكفركم { بكم ربي لولا دعآؤكم } أي: إطاعتكم وعبادتكم إياه وانقيادكم له { فقد كذبتم } بي وبربي، وأنكرتم بجميع ما جئت به من عنده سبحانه عنادا ومكابرة، الزموا مكانكم فتربصوا، وانتظروا لجزاء تكذيبكم وإنكاركم { فسوف يكون لزاما } [الفرقان: 77] أي: سكون جزاء تكذيبكم حتما لازما عليكم غير منقطع عنكم أبدا، بل يكبكم في النار خالدين صاغرين، ويعذبكم فيها مهانين ذليلين، نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي اللازم لتهذيب الأخلاق عن الرذائل، وتطهير الصفات عن الذمائم، والأطوار عن القبائح، والأسرار عن الميل إلى السوى والأغيار من الأمور المنافية المكدرة لصفاء مشرب التوحيد، أن تتأمل وتتعمق في مرموزات الآيات العظام المذكورة في هذه السورة، سيما في الآيات التي وصف بها سبحانه خلص عباده المتحققين لمرتبة العبودية، المنكشفين بسعة اسمه الرحمن، المظهر لمظاهر الأكوان شهادة وغيبا، وتتدبر في إشاراتها حق التدبر والتفكر إلى أن يتسرخ في قلبك معانيها رسوخا تاما، وينتفش في صحيفة سرك وخاطرك فحاويها انتقاشا كاملا، إلى أن تصير من جملة وجدانيتك وذوقك.
وبعدما صرت ذا وجدان وحال بها، وذقت حلاوتها فزت بغرفان جنة الرضا والتسليم، فحينئذ يترشح في صدرك رشحات بحر الوحدة الذاتية، واستنشقت من نفحات النفسات الرحمانية المهبة من فناء الحضرة الأحدية المصفية من التعينات الهيولانية والتعلقات الطبيعية، فلك ألا تنظر ولا تلتفت بعد ذلك إلى مقتضيات علائق ناسوتك مطلقا، وتجمع همك نحو لوازم لا هوتك، لعل الله ينقذك بفضله عن أغلال أنانيتك وسلاسل بشريتك بمنة وجوده.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-9]
{ طسم } [الشعراء: 1] يا طالب السعادة والسيادة المؤبدة المخلدة، ويا طاهر الطينة والطوبة من أدناس الطبيعة البشرية، ويا سالم السر والسريرة من العلائق الناسوتية البشرية، ويا ماحي آثار الرذائل المكدرة لصفاء شراب التوحيد.
{ تلك } الآيات العظام المذكورة في هذه السورة { آيات الكتاب } أي: من جملة آيات القرآن { المبين } [الشعراء: 2] المبين المظهر لدلائل التوحيد، الموضح للبينات والبراهين القاطعة الدالة على حقية دينكن إنما أنزلناها يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك، فلك أن تبلغها على قاطبة الأنام وعامة المكلفين على الوجه الذي تلي وأوحي إليك بلا التفات منك إلى إيمانهم وكفرهم، وتصديقهم وتكذيبهم، بل ما عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب.
إلا أنك من فرط محبتك لإيمانهم بك وبدينك وكتابك { لعلك باخع } هالك قاتل { نفسك } تحسرا وتحزنا { ألا يكونوا مؤمنين } [الشعراء: 3] أي: لأجل ألا يكونوا مصدقين لك ولدينك وكتابك، مع أنا لا نريد إيمانهم وهدايتهم، بل مضى في قضائنا وثبت في حضرة علمنا كفرهم وضلالهم، وما يبدل القول لدينا، ولا يغير حكمنا.
بل { إن } أي: إن تعلق إرادتنا ومشيئتنا لإيمانهم { نشأ ننزل عليهم من السمآء آية } ملجئة لهم إلى الإيمان والتصديق { فظلت أعناقهم } أي: صارت حين نزول الآية الملجئة أعناقهم التي هي أسباب كبرهم وخيلائهم من كمال الإطاعة والانقياد { لها } أي: للآية الملجئة النازلة { خاضعين } [الشعراء: 4] منكوسين منكسرين منخفضين، بحيث لا يتأتى لهم الإعراض عنها والتكذيب بها أصلا.
{ و } متى لم تتعلق مشيئتنا لم يؤمنوا، بل { ما يأتيهم من ذكر } أي: عظة وتذكير نازل { من } قبل { الرحمن } تفضلا عليهم { محدث } مستبدع على مقتضى الأعصار والأزمان؛ لإصلاح نفوس أهلها من المفاسد والضلال { إلا كانوا عنه } أي: عن الذكر المحدث { معرضين } [الشعراء: 5] منصرفين؛ لعدم تعلق مشيئتنا بقبولهم، بل إنما إرسلنا يا أكمل الرسل إليهم، وأمرنا بدعوتهم و تبليغهم؛ ليتعظ ويتذكر منهم ممن سبقت له العناية الأزلية من خلص عبادنا، وتعلقت إرادتنا بهدايتهم ورشدهم في أصل فطرتهم واستعدادهم، وبعدما بلغت إليهم الذكر والعظة المهذبة لقلوبهم عن رين الكفر والشرك العارض لهم من قبل آبائهم وأسلافهم سمعوا سمع قبول ورضاء؛ إذ كل ميسر، موفق لما خلق له.
وأما المجبولون على فطرة الشقاوة، المطبوعون على قلوبهم بغشاوة الغفلة والضلال { فقد كذبوا } بها حين سمعوها، ولم يقتصروا على تكذيبها فقط، بل استهزؤوا بها وبك يا أكمل الرسل عتوا واستكبارا، فلا تلتفت إليهم ولا تبال بهم وبإيمانهمم { فسيأتيهم } عن قريب { أنباء ما كانوا به يستهزئون } [الشعراء: 6] فظره حينئذ أحق حقيق بأن ينقاد ويتبع، أم هو باطل يجب تكذيبه والانصراف عنه؟!.
وكيف ينكرون بآياتنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، أولئك المعرضون عنادا ومكابرة؟! { أولم يروا } ولم ينظروا ويتفكروا حتى يعتبروا، مع أنهم من أهل النظر والاعتبار { إلى } عجائب { الأرض } اليابسة الجامدة { كم أنبتنا } من كمال قدرتنا ووفور حكمتنا { فيها من كل زوج } أجناس كثيرة من النباتات والحيوانات والمعادن و غير ذلك مما لا اطلاع لهم عليه؛ إذ ما يعلم جنود ربك إلا هو، { كريم } [الشعراء: 7] كلها ذوي الكرامات و البركات، والمنافع والخيرات.
{ إن في ذلك } أي: في إنبات كل من أنواع النبات، وإخراج كل من أصناف الحيوانات، وأجناس المعادن منها { لآية } بينة واضة، قاطعة دالة على أن منبتها ومخرجها متصف بجميع أوصاف الكمال، ونعوت الجمال والجلال، فاعل بالاختيار والاستقلال بلا مزاحمة الأشباه والأمثال { و } هي وإن كانت في غاية الوضوح والجلاء، لكن { ما كان } وثبت { أكثرهم } أي: أكثر الناس { مؤمنين } [الشعراء: 8] موفقين على الإيمان والتوحيد في علم الله ولوح قضائه؛ لذلك لم يؤمنوا بالآيات العظام، ولم يستدلوا منها إلى وجود الصانع الحكيم العلام القدوس السلام، المنزه ذاته عن طريان التقضي والانصرام.
{ و } إن كذبوك يا أكمل الرسل بما جئت من الآيات العظام، وعاندوا معك لا تبال لهم ولا تحزن { إن ربك } الذي رباك بأنواع الكرامات { لهو العزيز } الغالب المقتدر على البطش والانتقام { الرحيم } [الشعراء: 9] الحليم الذي لا يعجل العذاب وإن استوجبوا، بل يمهلهم زمانا؛ لعلهم يتنبهون على ما فرطوا من سوء المعاملة مع الله ورسوله وآياته فيتوبوا نادمين ضارعين خاشعين.
[26.10-19]
ثم أشار سبحانه إلى تعداد المكذبين الضالين عن طريق الحق، التائهين في تيه الغفلة والغرور فقال: { و } اذكر يا أكمل الرسل للمنصرفين عك وعن آياتك عنادا قصة أخيك موسى الكليم - صلوات الرحمن عليه - مع فرعون وملئه، وقت { إذ نادى ربك } عبده { موسى } وأوحى إليه بعدما ظهر الفساط في الأرض من استيلاء فرعون وملئه على بني إسرائيل واستعبادهم، وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ظلما.
حين قال له سبحانه: { أن ائت القوم الظالمين } [الشعراء: 10] أي: لك الإتيان بالدعوة والرسالة يا موسى على القوم الظالمين، الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة بين العباد؛ للإنصاف والانتصاف؛ يعني: { قوم فرعون } الطاغي الباغي الذي بغى على عباد الله بأنواع الجور والفساد، فقل لهم أولا بعدما ذهبت إليهم على سبيل التنبيه: { ألا يتقون } [الشعراء: 11] ويحذرون عن قهر الله، أيها المسرفون المكابرون، والمتجاوزون عن مقتضى العقل والنقل.
وبعدما ناداه سبحانه ما ناداه { قال } موسى ملتجئا إلى الله، مناجيا له: { رب } من رباني بأنواع اللطف والكرم { إني } من غاية ضعفي وانفرادي { أخاف أن يكذبون } [الشعراء: 12] ولا يقبلون دعوتي ولا يتلفتون إلي.
{ و } بذلك { يضيق صدري } ويكل خاطري عن تبليغ ما أمرتني به { و } بعد ضيق صدري وكل خاطري { لا ينطلق } ولا يجري { لساني } على تبينها وتفهمها، مع أن في لساني لكنة جبلة، وبالجملة: أنا وحدي لا أطيق بحمل أعباء الرسالة وتبليغها، واجعل لي يا ربي ظهيرا يعينني، وأخي أولى بالمظاهرة والمعاونة { فأرسل } بمقتضى فضلك وجودك حامل وحيك { إلى هارون } [الشعراء: 13] أخي، وأمره أن يشركه في أمري؛ حتى نذهب إلى فرعون ونبلغ رسالتك إياه.
{ و } لا سيما { لهم } أي: لقوم فرعون { علي ذنب } عظيم، وهو قتلي فيما مضى قبطيا منهم { فأخاف أن يقتلون } [الشعراء: 14] بقصاصه.
{ قال } سبحانه في جوابه على سبيل الردع: { كلا } أي: ارتدع يا موسى عن الخوف منهم بعدما أيدناك واصطفيناك للرسالة، ولا تبال بهم وبكثرتهم؛ إذ لا يسع لهم أن يقتلوك، وإن أردت أن تشرك أخاك معك في أمرك هذا فتشركه، فأرسل سبحانه جبرائيل عليه السلام إلى هارون بالحي وأشركه مع أخيه، وأمرهما بتبليغ الرسالة إلى فرعون بقوله: { فاذهبا بآياتنآ } الدالة على عظمة ذاتنا وكمال صفاتنا، وبلغا ما أمرتما بتبليغه بلا خوف منهم ومبالاة لهم { إنا } حاضرون { معكم مستمعون } [الشعراء: 15] ما جرى بينكم حافظون لكما عما قصدوا من المقت والأذاء.
{ فأتيا فرعون } مجترئين بلا مبالاة له { فقولا } له بلا دهشة وخوف من سطوته واستيلائه: { إنا } أي: كل واحد منا { رسول رب العالمين } [الشعراء: 16] إليك أيها الطاغي نبلغك من عنده سبحانه.
{ أن أرسل معنا } قومنا { بني إسرائيل } [الشعراء: 17] أي: خل سبيلهم؛ حتى يذهبوا بنا إلى أرض الشام سالمين عن ظلمك وجورك.
{ قال } في جوابهما مخاطبا لموسى؛ إذ هو أصل في الرسالة، معاتبا عليه، متهمكا موبخا: { ألم نربك فينا } زمانا يا موسى حين كنت { وليدا } لا متعهد لك سوانا { ولبثت فينا } بعدما كبرت إلى حيث مضى { من عمرك سنين } [الشعراء: 18].
قيل: لبث فيهم ثلاثين، ثم خرج إلى مدين عشر سنين، ثم عاد عليهم إلى التوحيد ثلاثين سنة، ثم بقي بعد غرقهم خمسين سنة.
{ و } بعدما ربيناك بأنواع التربية والكرامة { فعلت } من سوء صنعيك { فعلتك التي فعلت } بأن قتلت نفسا بلا جريمة صدرت منها موجبة لقتلها، فقتلها ظلما وعدوانا { و } بالجملة: { أنت من الكافرين } [الشعراء: 19] لنعمنا كفرانا سقط به لياقتك للرسالة والهداية، فالآن جئت تدعي الرسالة والإرشاد إلى الهداية.
[26.20-28]
{ قال } موسى في جوابه معترفا بما صدر عنه في أوان جهله وغفلته: { فعلتهآ } أي: الفعلة المذكورة المذمومة { إذا } أي: حينئذ { وأنا من الضالين } [الشعراء: 20] في تلك الحالة، الجاهلين بعواقب الأمور، الغافلين بما يترتب عليه من الأوزار.
وبعد فراري منكم؛ لأجلها وصلت إلى خدمة مرشد رشيد يرشدني ويربيني بأنواع الكرامات { ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي } من أثر صحبته وحسن تربيته { حكما } أي: حكمة متقنة كاملة { وجعلني } بفضله { من } جملة { المرسلين } [الشعراء: 21] فأرسلني إليكم؛ لأدعوكم إلى توحيده.
ثم شرع موسى في جواب ما من عليه فرعون من حقوق النعمة والتربية فقال: { وتلك } النعمة التي عددت { نعمة تمنها علي } ليست تبرعا؛ حتى أكون ممنونا بها، بل ما هي إلا { أن عبدت } زمانا قومي { بني إسرائيل } [الشعراء: 22] بل لها صاغرين مهانين مظلومين بأنواع الظلم والهوان، فما أنا ممنون منك حقيقة، بل منهم؛ لأنهم متسببون لتربيتك وحضانتك بي.
وبعدما جرى بينهم ما جرى { قال فرعون } مستكبرا، مستفهما على سبيل الاستبعاد والإنكار: { وما رب العالمين } [الشعراء: 23] أي: ما هو؟ وما ما هيته وحقيقته؟ ولأي شيء تدعونا إليه؟ عبر عنه سبحانه ب (ما) من غاية إنكاره واستحقاره.
{ قال } موسى في جوابه منبها له على ظهوره سبحانه في الآفاق: هو { رب السموت والأرض } أي: موجدهما ومظهرهما من كتم العدم { وما } حدث { بينهمآ } من الكوائن والفواسد { إن كنتم موقنين } [الشعراء: 24] أي: من ذوي الإيقان والعرفان بحقائق المحدثات المبدعة من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان، بل بامتداد أضلال الأسماء والصفات الإلهية على مرايا الإعدام بمقتضى التجليات الحبية المنتشئة من الذات الأحدية وإلا فلا يمكن تعريفه بإيراد الأجناس والفصول؛ إذ هو سبحانه منزه عن الاشتراك والامتياز؛ إذ هو الواحد من كل الوجوه، المستقل بوجوب الوجود والتحقق مع امتناع غيره مطلقا، لا يمكن أن يقومه جنس، ويميزه فصل حتى يركب له حد أو رسم.
وبعدما سمع من موسى ما سمع { قال } فرعون { لمن حوله } من ملئه وأشرافه متهمكا بجوابه: { ألا تستمعون } [الشعراء: 25] جوابه أيها العقلاء، سألته عن حقيقته وذاته فأجاب بعد أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه وأسمائه التي هي من عوارض ذاته.
وبعدما سمع موسى تشنيعهم واستبعادهم، أراد أن يزيد أيضا على تنبيههم فأجاب بظهوره سبحانه في الأنفس رجاء أن يتنبهوا، حيث قال: { قال } هو سبحانه { ربكم } مظهركم، ومربيكم بأنواع التربية والكرامة { و } أيضا { رب آبآئكم الأولين } [الشعراء: 26] الأقدمين.
وبعدما سمع فرعون كلامه ثانيا { قال } جازما عازما: { إن رسولكم } سماه رسولا تهكما واستهزاء { الذي أرسل إليكم } لإرشادكم وإصلاحكم { لمجنون } [الشعراء: 27] لا يتكلم بالمقابلة، بل يتفوه كيفما اتفق بلا تأمل وتدرب، سألته عن شيء وأجاب بأشياء لا أسأله.
وبعدما لم تنبهوا بالتنبيهات المذكورة، بل ازدادوا إنكارا فوق إنكار إلى حيث نسبوه إلى الخبط الجنون { قال } موسى كلاما جمليا كليا، مشتملا على جميع الأمور المنبهة: هو سبحانه { رب المشرق والمغرب وما بينهمآ } أي: مشرق الشمس ومديرها كل يوم بمدار مخصوص، ومغيبها كذلك تتميما وتدبيرا لمصالح عباده وجميع حوائجهم المتعلقة لمعاشهم على الوجه الأحكم الأبلغ، الأعدل بلا فوت شيء منها { إن كنتم تعقلون } [الشعراء: 28] وتطرحون عقولكم إلى التأمل والنظر في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته، وكيفية تدبيراته في إبدائه وإنشائه، وإبقائه، وإفنائه، وفي جميع الأمور المتعلقة بألوهيته وربوبيته.
إن اجهدتم حق السعي والجهد في شأنه لاهتديتم إلى وحدة ذاته، ووجوب وجوده واستقلاله في التصرف في مظاهره ومصنوعاته، فحينئذ لم يبق لكم شائبة شك فيه سبحانه حتى تحتاجوا إلى السؤال والكشف عن جنابه.
[26.29-40]
وبعدما جهلهم موسى وشدد عليهم، وسفههم { قال } فرعون مستكبرا مستعليا مهددا: { لئن اتخذت } وعبدت يا موسى { إلها غيري } على مقتضى زعمك { لأجعلنك من المسجونين } [الشعراء: 29] المعهودين عندك أنهم لا مخلص لهم عن سجني حتى يموتوا فيه، فإنه كان يطرح المخالفين في هوة عميقة يموتون فيها.
وبعدما سمع موسى تهديده وعتوه { قال } مستفهما على سبيل التعجيز والغلبة: { أ } تفف ما هددتني به { ولو جئتك } أيها الطاغي المتجبر { بشيء } أي: بمعجزة { مبين } [الشعراء: 30] ظ اهر الدلالة على صدقي في دعواي.
{ قال } فرعون مستحييا عن الناس، مستبعدا نفسه عن العجز: { فأت به } أي: بالذي ادعيت من المعجزة { إن كنت من الصادقين } [الشعراء: 31] في الدعوى.
{ فألقى } موسى { عصاه } على الفور { فإذا هي ثعبان مبين } [الشعراء: 32] ظاهر ثعبانيته، عظيم بحيث لا يشتبه على أحد أمره.
{ و } بعدما ألقى عصاه { نزع يده } أي: أخرجها من جيبه؛ ليثبت مدعاه بشاهدين { فإذا هي بيضآء } محيرة مفرقة للأبصار من غاية شعاعها ولمعانها { للناظرين } [الشعراء: 33] إليها، مدهشة لقلوبهم إلى حيث تاهوا وتحيروا من تشعشعها.
فلما رأها فرعون { قال } بعدما أوجس في نفسه خيفة { للملإ } الذين يجلسون { حوله } مستغربا من أمره، مستعجبا: { إن هذا } المدعي { لساحر عليم } [الشعراء: 34] ماهر في علم السحر، بالغ نهايته.
{ يريد أن يخرجكم من أرضكم } المألوفة { بسحره } هذا وكمال فيه { فماذا تأمرون } [الشعراء: 35] في أمره أيها الأشراف.
انظر أيها المتأمل الناظر إلى كمال قدرة الله وسطوع حججه الغالبة البالغة، كيف تأثر منها فرعون المتكبر المتجبر الطاغي، مع كمال عتوه واستعلائه، إلى حيث اضطر إلى المشورة مع الناس في أمر موسى ودفعه، مع أنه ادعى الألوهية لنفسه.
وبعدما سمع الأشراف قوله { قالوا } له: مقتضى شأنك وجلالك ألا تتسارع إلى قتلهما؛ لئلا تنسب إلى العجز الإلزام منهما ومن حجتهما، بل { أرجه } واحبس موسى { وأخاه } هارون، وأخر قتلهما زمانا { وابعث في المدآئن } شرطة { حاشرين } [الشعراء: 36] جامعين.
حتى { يأتوك بكل سحار } مبالغ في السحر { عليم } [الشعراء: 37] فائق منه، بالغ نهايته.
فبعث شرطة إلى الأقطار بعدما وكلل عليهما وكلاء يحبسونهما { فجمع السحرة } المهرة في هذا الفن { لميقات يوم معلوم } [الشعراء: 38] أي: لوقت عين لجمعهم في يوم الزينة، وهو وقتي الضحى.
{ وقيل للناس } أي: نودي عليهم في الطرق والسلك: { هل أنتم مجتمعون } [الشعراء: 39] لموعد يوم معلوم؛ حتى تشاهدوا حال موسى وهارون وغلبة السحرة عليهما، وإبطال ما أتيا به من السحر.
{ لعلنا } بأجمعنا { نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين } [الشعراء: 40] إياهما.
[26.41-51]
فخرج فرعون إلى الموعد واجتمع الناس فيه ، وأحضروا موسى وهارون { فلما جآء السحرة } الموعد { قالوا لفرعون } طالبين الجعل منه: { أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } [الشعراء: 41] المبطلين ما جاء به من السحر.
{ قال } لهم فرعون: { نعم } إن غلبتم أنتم لكم من الأجر ما أملتم وطلبتم { و } بعد ذلك { إنكم إذا لمن المقربين } [الشعراء: 42] إلي، المصاحبين معي، فلكم الترقي والزيادة في الإنعام والإحسان في كل حين وأوان.
وبعدما رضوا بما وعدوا جاءوا بمقابلة موسى، واشتغلوا بمعارضته { قال لهم } أي: السحرة { موسى } على سبيل الجراءة وعدم المبالاة بسحرهم: { ألقوا } أيها الطغاة البغاة، المتعارضون بأكاذيب السحرة والشعبذة مع آيات الله ومعجزاته عنادا ومكابرة { مآ أنتم ملقون } [الشعراء: 43] من الأباطيل.
{ فألقوا حبالهم وعصيهم } التي احتالوا فيها بأنواع الحيل { وقالوا } حين إلقائها مقسما: { بعزة فرعون } وسطوته وجلاله { إنا لنحن الغالبون } [الشعراء: 44] المقصورون على الغلبة على موسى وأخيه.
ولما رأى موسى من أباطيلهم ما رأى { فألقى موسى عصاه } بإلهام الله إياه { فإذا هي } ثعبان مبين { تلقف } أي: تبتلع وتلتقم جميع { ما يأفكون } [الشعراء: 45] أي: يحتالون فيه، ويخيلونه حيات تسعى بتمويهاتهم وتزويراتهم.
وبعدما شاهد السحرة من عصا موسى ما شاهدوا من الأمر العظيم المعجز الذي لا يتأتى بالسحر مثله تيقنوا أنها ما هي سحر وشعبذة، بل أمر سماوي إلهي، لا يكتنه لميته وكيفيته.
{ فألقي السحرة } على الفور { ساجدين } الشعراء: 46] متذللين، واضعين جباههم على تراب المذلة استحياء من مقابلة أباطيلهم معه.
{ قالوا } حين سقطوا صائحين: { آمنا برب العالمين } [الشعراء: 47].
{ رب موسى وهارون } [الشعراء: 48] وصدقنا أنهما رسولان من عنده سبحانه على الحق، وأذعنا ألا معبود يعبد بالحق، ويستحق للعبادة سواه، ولا إله غيره.
وبعدما رأى فرعون منهم ما رآى { قال } مهددا متوعدا إياهم: { آمنتم له } أي: صدقتم موسى بغتة، وآمنتم لإلهه { قبل أن آذن لكم } بتصديقه، فقد لاح { إنه لكبيركم } ومعلمكم { الذي علمكم السحر } اتفقتهم مه في الخلوة؛ لتفضحونا على رءوس الملأ { فلسوف تعلمون } أيها المفسدون أنا أقدر على الانتقام والتعذيب أم رب موسى؟! { لأقطعن } أولا { أيديكم وأرجلكم من خلاف } متبادلتين { ولأصلبنكم } بعد ذلك على رءوس الأشهاد { أجمعين } [الشعراء: 49] بجمعكم هذا؛ ليعتبر من حالكم من في قلبه خلافنا ونفاقنا.
وبعدما سمعوا تهديده ووعيده { قالوا } منقطعين نحو الحق، متشوقين بلقياه: { لا ضير } أي: لا ضرر يلحق بنا من قتلك وإهلاكك إيانا أيها الطاغي { إنآ } بالموت الصوري والهلاك المجازي { إلى ربنا منقلبون } [الشعراء: 50] صائرون راجعون بعد ارتفاع أنانيتنا الباطلة عن البين، وهويتنا الباطلة عن العين.
{ إنا نطمع } بعدما خرجنا عن أنانيتنا هذا { أن يغفر لنا ربنا خطايانآ } التي صدرت عنا في زمان جهلنا وغفلتنا { أن كنآ أول المؤمنين } [الشعراء: 51] أي: لأن كنا أول المؤمنين الموقنين بتوحيده اليوم.
[26.52-62]
{ و } بعدما أقام موسى فيهم زمانا، ويدعوهم إلى التوحيد دائما وما زادوا إلا عتوا وعنادات، وأدى عتوهم إلى أن قصدوا مقته وهلاكه، وقتل من معه من المؤمنين؛ لذلك { أوحينآ إلى موسى } بعدما هموا العزم لهلاكه، وقلنا له: { أن أسر بعبادي } أي: سر ليلا يا موسى مع من تبعك من عبادي { إنكم متبعون } [الشعراء: 52] يتبعكم ويعقبكم فرعون وجنوده.
فأسرى موسى مع المؤمنين، فاطلع فرعون وقومه على إسرائهم { فأرسل فرعون } شرطة { في المدآئن حاشرين } [الشعراء: 53] لجندهم؛ ليتبعوهم.
وأمر الشرطة أن قالوا للجيش ترغيبا لهم وتحريكا لحميتهم: { إن هؤلاء } الفارين { لشرذمة } أي: طائفة وجماعة { قليلون } [الشعراء: 54] بالنسبة إلينا، مع أنهم ستمائة وسبعون ألفا، وقوم فرعون من كثرتهم لا يعد ولا يحصى.
{ و } لنا أن نتبعهم ونستأصلهم { إنهم } قوم عدو { لنا لغآئظون } [الشعراء: 55] بنا يفعلون أفعالا تغيظنا وتحرك غيظنا، فلنا أن نقلع عرقهم عن وجه الأرض.
{ وإنا } وإن كنا أقوياء أشداء على الأعداء { لجميع حاذرون } [الشعراء: 56] دائما عن كيدهم ومكرهم، وإفسادهم بأنوع الفسادت من قطع الطريق والالتجاء بالأعداء والمظاهرة معهم، ولا بد لذوي الحزم والعزم من الضبط والاحتياط في عموم الأحوال.
{ فأخرجناهم } بعدما تعلق إرادتنا بإهلاكهم وإغراقهم بهذه الدواعي والبواعث المهيجة لنفوسهم إلى الخروج والاقفتاء أثر الأعداء { من جنات } منتزهات بهية فيها فواكهة شهية { وعيون } [الشعراء: 57] أي: منابع تجري منها في جناتهم الأنهار خلالها؛ ليزيد صفاء ونضارة وبهاء.
{ وكنوز } من الذهب والفضة مدفونة وغير مدفونة { ومقام كريم } [الشعراء: 58] هو المنازل الحسنة والقصور المرتفعة الموضوة فيها الأرائك والسرور والبسط المفروشة من الحرير وغيرها.
{ كذلك } أي: أخرجناهم إخراجا كذلك بإحداث بواعث الخروج في نفوسهم وإزعاجهم إلى أن يخرجوا مضطرين { و } بعدما أخرجناهم عما أخرجناهم { أورثناها } أي: ما سمعت من المذكورات جميعها { بني إسرائيل } [الشعراء: 59] إنعامها لهم وامتنانا عليهم بما صبروا بظلمهم وأنواع أذياتهم.
وبعدما اجتمع الجيش من أطراف المدائن، وازدحموا على باب فرعون خرجوا خلفهم مسرعين { فأتبعوهم مشرقين } [الشعراء: 60] أي: وقت طلوع الشمس من المشرق.
{ فلما تراءى الجمعان } أي: تقاربا إلى أن رأى كل من الجمعين صاحبه { قال أصحاب موسى } مشتكين إليه، ميئوسين من الحياة بعدما رأوا من خلفهم جيشا لا يعد ولا يحصى، وعن أمامهم البحر الذي لا يمكن العبور عنه: { إنا لمدركون } [الشعراء: 61] ملحقون، يلحقنا العدو الآن وبعد فناؤنا في البحر.
{ قال } موسى ردعا لهم وإزالة لرعبهم: { كلا } أي: ارتدعوا عن هذا القول ولا تخافوا عن إداركهم { إن معي ربي سيهدين } [الشعراء: 62] ويلهمني إلى طريق النجاة والخلاص؛ إذ وعدني اليوم بالخلاص، فإن وعده حتم لا يخلف.
[26.63-74]
فصبر إلى أن قرب العدو، ووصل موسى على شاطئ البحر مضطرا مضربا { فأوحينآ إلى موسى } بأن قلنا له: { أن اضرب بعصاك البحر } فضربه على الفور { فانفلق } البحر، وافترق فرقا وقطع قطعا كثيرة { فكان كل فرق } بعد انفلاقه وانقطاعه { كالطود العظيم } [الشعراء: 63] أي: كالجبل الراسي المرتفع نحو السماء، الثابت في مقره بلا حركة وذهاب، وانفرج بين الفلق فرجا وسيعة فدخل على الفور موسى وقومه في الشعوب والفرج، كل سبط بشعب.
{ و } بعدما دخلوا في شعاب البحر المنغلق { أزلفنا } وقربنا { ثم الآخرين } [الشعراء: 64] أي: فرعون وقومه، وهم أيضا وصلوا على شاطئ البحر فرأوهم في شعابه على العبور، فاقتحموا أثرهم مطمعين النجاة مثلهم.
{ وأنجينا موسى ومن معه أجمعين } [الشعراء: 65] بأن حفظنا البحر على انغلاقه إلى أن عبروا سالمين من تلك الفررج.
{ ثم أغرقنا الآخرين } [الشعراء: 66] أي: فرعون وقومه جميعا بعدما دخلوا في تلك الفرج بإطباق البحر، وإفناء انفلاقه وافتراقه، واتصاله على الوجه الذي كان عليه.
{ إن في ذلك } الإنجاء والإغراق { لآية } دالة على كمال قدرة الله، ومتانة حكمته بالنسبة إلى ذوي البصائر والاعتبار، المشمرين ذيل الغناية والاهتمام نحو التفكر والتدبر في آثار أوصاف الفاعل المختار { و } لكن { ما كان أكثرهم } أي: ما أكثر الناس المجبولين على فطرة الاستدلال والاعتبار { مؤمنين } [الشعراء: 67] بالله وتوحيده وأسمائه حتى يتأملوا في آثار صفاته؛ ليستدلوا على ذاته.
{ وإن ربك } يا أكمل الرسل { لهو العزيز } الغالب على أمره، القادر المتقدر على إجراء أحكامه وإنفاذ قضائه { الرحيم } [الشعراء: 68] لخلص عباده الموفقين من عنده للوصول إلى مبدئهم ومعادهم.
{ واتل } يا أكمل الرسل { عليهم } أي: على مكذبي قريش ومعانديهم { نبأ إبراهيم } [الشعراء: 69] أي: قصة جدك الخليل - صلوات الرحمن عليه - مع قومه.
وقت { إذ قال لأبيه وقومه } سائلاص لهم عن حقيقة ما يعبدون من الآلهة؛ ليريهم أن الأصنام لا تستحق العبادة والانقياد: { ما تعبدون } [الشعراء: 70] ولأي شيء تنقادون وتطيعون؟!.
{ قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين } [الشعراء: 71] أي: يدوم عكوفنا إياها وإطاعتنا لها.
{ قال هل يسمعونكم } ويجيبون دعوتكم { إذ تدعون } [الشعراء: 72] إليها في السراء والضرء؟! { أو ينفعونكم } ويثيبونكم؛ جزاء لطاعتكم وعبادتكم { أو يضرون } [الشعراء: 73] لكم إن أعرضتم وانصرفتم عن عبادتهم؟!.
{ قالوا } مستغربين عن مسئولاته؛ يعني: نحن لا نرجو منهم أمثال هذه الصفات؛ إذ هم جمادات لا تتأتى منهم أفعال ذوي الحياة والشعور { بل وجدنآ آبآءنا } وأسلافنا { كذلك يفعلون } [الشعراء: 74] اي: يعبدون لها، ويعكفون عليها خاشعين متذللين ونحن على أثرهم نعبدهم ونتذلل لهم؛ تقليدا لآبائنا.
[26.75-91]
{ قال } لهم إبراهيم على سبيل النصيحة والتذكير: { أفرأيتم } وعلمتهم أن { ما كنتم تعبدون } [الشعراء: 75] من دون الله؟!.
{ أنتم } في مدة أعماركم { وآبآؤكم الأقدمون } [الشعراء: 76] فيما مضى عليهم من الزمان لا يليق بالألوهية، ولا يستحق للإطاعة والانقياد؛ إذ الإله المستحق بالعبودية لا بد وأن يتصف بالصفات الكاملة، وأن يكون له نفع وضر، وثواب وعقاب؛ حتى يعبد له، وهؤلاء معطلون عن أوصاف الألوهية مطلقا.
{ فإنهم } أي: الآلهة الباطلة { عدو لي } نسب عداوتهم لنفسه أولا إمحاضا للنصح؛ إذ التجه إليهم والتذلل نحوهم يجلب عذاب الله ونكاله، فهم وعبادتهم من أسباب غضب الله وقهره، فلكم ألا تتوجهوا نحوهم، ولا تعبدوا غير الله سبحانه إلها، كما أني ما أتوجه وأعبد { إلا رب العالمين } [الشعراء: 77] إذ هو المستحق للعبودية والألوهية ذاتا ووصفا.
وكيف ولا هو { الذي خلقني } أي: أوجدني وأظهرني من كتم العدم { فهو يهدين } [الشعراء: 78] إلى توحيده واستقلاقه في الوجود والتصرف؟!.
{ والذي هو يطعمني } إن افتقرت إلى الغذاء { ويسقين } [الشعراء: 79] حين احتياجي إلى الماء.
{ و } كذا { إذا مرضت } من اختلاف الأمزجة وتداخل الأغذية { فهو يشفين } [الشعراء: 80] باعتدالها واستقامتها.
{ والذي يميتني } حين حلول أجلي، وانقضاء مدة حياتي في النشأة الأولى { ثم يحيين } [الشعراء: 81] في النشأة الأخرى؛ للعرض والجزاء.
{ والذي أطمع } وأرجوا من سة رحمته وجوده { أن يغفر لي } ويمحو عني جميع { خطيئتي } التي صدرت عني في دار الاختبار، ويعفو زلتي فيها { يوم الدين } [الشعراء: 82] والجزاء.
{ رب } يا من رباني بلطفك، وهداني إلى توحيدك { هب لي حكما } يقينا عليما وعينيا؛ حتى أستحق أن تفيض علي اليقين الحقي الذي صرت به مستحقا لمرتبة الخلة والخلافة { وألحقني } بعدما وهبت لي من حكمك وأحكامك ومعارفك ما قدرت لي { بالصالحين } [الشعراء: 83] المرضيين عندك، المقبولين في حضرتك.
{ واجعل لي } بفضلك وجودك { لسان صدق } أي: لسانا يتكلم بالصدق في حكمك وأحكامك، ومعارفك وحقائقك، وجميع أوامرك ونواهيك، بحيث يدوم أثر صدقي في أقوالي وأفعالي وأحوالي، وفي جميع أطواري وأخلاقي { في الآخرين } [الشعراء: 84] أي: اللاحقين من عبادك؛ لذلك ما من دين من الأديان إلا وله - صلوات الرحمن عليه وسلامه - فيه أقوال وأفعال وأخلاق منسوبة إليه، مسلمة منه، معمولة بمتابعته.
{ و } بالجملة: { اجعلني } بسعة رحمتك، ووفور إحسانك وعطيتك { من ورثة جنة النعيم } [الشعراء: 85] أي: من الذين يرثون من فضلك وجودك مرتبة الرضا والتسليم؛ إذ لا نعمة أجل منها، وأتم عند المنقطعين نحوك والمتشوقين بلقياك.
{ واغفر لأبي } واعف عن زلته وذنوبه إن سبقت عنايتك له في سابق قضائك وحضرة علمك { إنه كان من الضآلين } [الشعراء: 86] التائهين في تيه الغفلة والغرور.
{ و } بالجملة: { لا تخزني } ولا تخجلين من فعل نفسي وأبي يا رب { يوم يبعثون } [الشعراء: 87] أي: الأموات، ويحشرون من قبورهم نحو العرصات؛ لعرض الأحوال وجزاء الأعمال، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وأي يوم { يوم لا ينفع } فيه { مال } حتى يفديه صاحبه ويخلص من العذاب، أو يخفف العذاب لأجله { ولا بنون } [الشعراء: 88] يظاهرون لآبائهم وينقذوهم من عذاب الله؟!.
وذلك يوم لا مخلص فيه لأحد من عذاب الله من ذوي المعاصي والآثام { إلا من أتى الله } المطلع لسرائر العباد وضمائرهم { بقلب سليم } [الشعراء: 89] خال عن الميل إلى الهوى ومزخرفات الدنيا، خالص عن رعونات العجب والرياء، مخلص في التوجه نحو المولى بلا طلب الثواب منه والجزاء؟ بل لمحض الرضاء والامتثال بما أمره ونهى راضيا في كل الأحوال بما جرى عليه من نفوذ القضاء.
{ و } في تلك الحالة التي أتوا كذلك { أزلفت الجنة } أي: قربت { للمتقين } [الشعراء: 90] الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله؛ استحياء منه وطلبا لمرضاته، بحيث يرونها ويسرعون إلكيها تشوقا وتحننا، ويتفطنون أنهم يدخلون فيها خالدين مؤبدين.
{ و } كذا { برزت } وأظهرت { الجحيم } المسعر { للغاوين } [الشعراء: 91] الذين يضلون عن طريق الحق في النشأة الأولى بالميل إلى ال هوى وإلى مستلذات الدنيا والإعراض عن إرشاد الأنبياء الأولياء، والمصاحبة مع أهل الولاء والآراء والأهواء الباطلة المضلة عن صراط الله الأعدل الأقوم، واتخاذ الآلهة الباطلة على مقتضى أهويتهم الفاسدة.
[26.92-104]
{ وقيل لهم } حين ظهرت الجحيم عليهم، ويتفطنون أنهم مسوقون إليها صاغرين مهانين: { أين ما كنتم تعبدون } [الشعراء: 92] أي: أين الآلهة الباطلة التي عبدتم لها.
{ من دون الله } المتوحد بالألوهية والربوبية، معتقدين أنها شفعاؤكم ينقذونكم من عذاب الله { هل ينصرونكم } اليوم بأن يدفعوا عنكم العذاب { أو ينتصرون } [الشعراء: 93] فيدفعون العذاب عن أنفسهم؟!.
وبعدما جرى عليهم ما جرى من التقريع والتوبيخ { فكبكبوا فيها } أي: أدخلوا في النار قسرا وقهرا { هم } أي: الآلهة المضلة المغوية { والغاوون } [الشعراء: 94] أي: العبدة الضالون.
{ وجنود إبليس } مصاحبون معهم، ملازمون من القوى البهيمية الشهوية والغضبية التي هي من أعونة النفوس الأمارة { أجمعون } [الشعراء: 95] إذ كل منهم سبب تام لإضلالهم .
وبعدما دخلوا في النار صاغرين مهانين { قالوا } أي: الداخلون في النار تابعا ومتبوعا { وهم فيها } أي: في النار { يختصمون } [الشعراء: 96] أي: يتخاصم بعضهم بعضا.
حيث قال العابدون لمعبوداتهم مقسمين مغلظين تحسرا وتحزنا: { تالله إن } أي: إنه { كنا } باتخاذكم آلهة من دون الله عبدناكم كعبادته { لفي ضلال مبين } [الشعراء: 97] ظاهر لا يشبته على ذي مسكة ضلالته.
وكيف لا يكون ضلالا ظاهرا { إذ نسويكم } مع كونكم من أدنى الأشياء وأرذلها بل نرجحكم ونفضلكم { برب العالمين } [الشعراء: 98] الذي هو أحد صمد، فرد وتر ليس كمثله شيء، وليس له كفؤ، ولا ضلال أبين من هذا وأعظم.
{ ومآ أضلنآ } وأوقعنا في هذا الضلال المبين { إلا المجرمون } [الشعراء: 99] الذين اقتدينا بهم من رؤسائنا، وتقليدات آبائنا الذين مضوا على هذا.
{ فما لنا } بعدما وقعنا في النار صاغرين { من شافعين } [الشعراء: 100] يشفعون لنا؛ لينقذونا منها.
{ ولا صديق حميم } [الشعراء: 101] أي: ذي قرابة وصداقة تكفي صداقة وحمايته؛ لإنقاذنا ونجاتنا، إنما قالوا ما قالوا تحسرا وتحزنا.
وبعدما قنطوا عن الشفاعة والحماية تمنوا الرجعة والإعادة، وقالوا: { فلو أن لنا كرة } رجعة وعودة إلى الدنيا مرة بعد مرة أخرى { فنكون من المؤمنين } [الشعراء: 102] بالله، الموحدين له لا نشرك به شيئا من مظاهره ومصنوعاته.
{ إن في ذلك } أي: فيما ذكر من نبأ إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه { لآية } عظيمة دالة على توحيد الحق، وعلو شأنه وسمو برهانه عظة وتذكيرا للمتذكرين المعتبرين من أخلاقه - صلوات الرحمن عليه - وأطواره، وكمال علمه في دعوته، وإنصافه في محاورته، وإرخائه العنان إلى من قصد مجادلته ومعارضته، وإظهاره الحق على أبلغ وجه وآكده، عاريا عن جميع الرعونات والخلافات الواقعة بين أرباب المناظرات وأصحاب المجادلات { و } لكن { ما كان أكثرهم } أي: أكثر الناس { مؤمنين } [الشعراء: 103] بتوحيد الله وخلة خليله، وصفوة أخلاقه وحسن خصاله.
{ وإن ربك } يا أكمل الرسل { لهو العزيز } الغالب على انتقام من خرج من رق عبوديته { الرحيم } [الشعراء: 104] لمن وفق عليها وجبل لأجلها.
[26.105-113]
ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين: { كذبت قوم نوح المرسلين } [الشعراء: 105] لأن تكذيب نوح والإنكار على إرساله يستلزم تكذيب مطلق الإرسال، فيستلزم تكذيبه جميع الرسل الذين مضوا قبله، بل سيأتي بعده من الرسل؛ لاتحاد المرسل والمرسل به.
وذلك وقت { إذ قال لهم أخوهم نوح } حين ظهرت عليهم أمارات الكفر والفسوق، والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة على العدالة المعنوية، والقسط الحقيقي: { ألا تتقون } [الشعراء: 106] وتحذرون عن محارم الله أيها المكلفون المسرفون.
{ إني لكم رسول } من قبل الحق { أمين } [الشعراء: 107] بينكم، أرشدكم إلى ما يعنيكم وينفعكم، وأجنبكم عما يضركم ولا يعنيكم، بل يؤذيكم ويغويكم.
{ فاتقوا الله } القادر المقتدر على أنواع الانتقام { وأطيعون } [الشعراء: 108] في جميع ما جئت به من قبل ربي.
{ و } اعلموا أني { مآ أسألكم } وأطلب منكم { عليه } أي: على إرشادي وتكميلي وإصلاحي لكم ما أفسدتم على أنفسكم من الأخلاق والأعمال { من أجر } جعل ومال كما يسأل المتشيخة - خذلهم الله - من مريديهم ومحبيهم، بل { إن أجري } أي: ما أجري { إلا على رب العالمين } [الشعراء: 109] فإنه سبحانه أرسلني إليكم، وأمرني بتبليغ ما أوحي إلي إليكم.
{ فاتقوا الله } حق تقاته، واحذروا من بطشه وانتقامه { وأطيعون } [الشعراء: 110] في جميع ما جئت به من عنده من الأوامر والنواهي المصلحة لمفاسد أحوالكم؛ حتى تستقيموا وتعتدلوا في النشأة الأولى، وتفوزوا بما وعد لكم ربكم في النشأة الأخرى.
{ قالوا } في جوابه مستكبرين مستهزئين: { أنؤمن لك } ونتبعك نحن من شرفنا وثروتنا { و } قد { اتبعك الأرذلون } [الشعراء: 111] منا، الأقلون مالا، الأنزلون جاها ورتبة.
ومن هذا ظهر أن مناط الأمر عندهم على الحطام الدنيوية والمفاخرة بها، وإظهار الجاه والثروة بسببها، ومتابعتهم إنما هي لحصولها لا لأغراض دينية ومصلحة أخروية مصفية لبواطنهم عن العلائق العادية، والشواغل الهيولانية العائقة عن الوصول إلى مقر التوحيد.
لذلك { قال } نوح مشتيكا إلى الله، مفوضا { وما علمي } وإدراكي محيطا { بما كانوا يعملون } [الشعراء: 112] ويأملون في نفوسهم من أي غرض وسبب يؤمنون بي ويمتثلون بأمري؛ إذ ما لي اطلاع على ضمائرهم وسرائرهم، بل بظواهرهم.
{ إن حسابهم } أي: ما حسابهم المتعلق بمواطنهم وأسرارهم { إلا على ربي } المطلع لخفايا الأمور ومغيباتها { لو تشعرون } [الشعراء: 113] وتدركون ما أبثت لكم من الكلام لفهمتم ما هو الحق منه، ولكنكم أنتم قوم تجهلون؛ لذلك تقولون ما لا تعلمون وتفهمون.
[26.114-122]
{ و } إذا سمعتم مقالتي هذه فاعلموا أني { مآ أنا بطارد المؤمنين } [الشعراء: 114] ونافيهم من عندي؛ بسبب مليكم إلي واستدعائكم طردهم، وتوفيقكم الإيمان بي على تبعيدهم.
{ إن أنا إلا نذير } من قبل الحق { مبين } [الشعراء: 115] ظاهر الحجج، واضح البينات والمعجزات بالنسبة إلى عموم المكلفين سواء كانوا فقراء أو أغنياء؛ إذ الإيمان والتوحيد، والتدين والإخلاص إنما هي من أفعال القلوب، لا مدخل للأمور الخارجية فيها التي هي الغناء والثروة، والفقر والرذالة، فمن وفقه الحق على التوحيد، وسبقت له العناية في سابق القضاء، فهو مؤمن سواء كان غنيا أو فقيرا، ومن سبق عليه الغضب الإلهي، وكتب في لوح القضاء من الأشقياء، فهو كافر ناف للصانع، مشرك سواء كان غنيا أو فقيرا.
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا من عدم مبالاته بهم وثباتهم، وعدم رعاية جانبهم وغبطتهم { قالوا } من فرط عتوهم واستكبارهم: { لئن لم تنته ينوح } عن دعوتك وادعائك هذا، أو لم تترك هذياناتك التي جئت بها من تلقاء نفسك افتراء ومراء { لتكونن } بإصرارك عليها { من المرجومين } [الشعراء: 116] المقتولين بالحجارة زجرا وقهرا، فارجع إلى حالك، وتب من هذياناتك؛ حتى لانقتلك بأقبح الوجوه.
وبعدما قنط نوح عن إيمانهم، وآيس من توحيدهم وعرفانهم { قال } مشتكيا إلى الله، ملتجئا نحوه: { رب } يا من رباني بأنواع الكرامة، ووفقني على الهداية والتوحيد { إن قومي } الذي بعثني إليهم؛ لأهديهم إلى دينك وطريق توحيدك { كذبون } [الشعراء: 117] بجميع ما جئت به من عندك تكذيبا شديدا، وسفهوني تسفيها بليغا، بل قصدوا مقتي وقتلي بأشد العذاب وأقبح العذاب.
وبالجملة: ما بقي بيني وبينهم ائتلاف وارتباط { فافتح } واحكم يا ربي بمقتضى عدلك { بيني وبينهم فتحا } حكما مبرما، منجزا لوعدك الذي وعدتني به بعدما كذبوني وأنزل عليهم العذاب الموعود من عندك { و } بعد إنزال العذاب عليهم { نجني } منه بلطفك { ومن معي من المؤمنين } [الشعراء: 118] المصدقين بدينك ونبيك، الممتثلين بأوامرك، المجتنبين عن نواهيك بفضلك وطولك.
وبعد إفراطهم وإصرارهم المتجاوز عن الحد في الإعراض عن الله، والانصراف عن دينيه وتكذيب نبيه، وإيذائه إياه من آمن له من المؤمنين، أنزل الله عليهم الطوفان الموعود { فأنجيناه } أي: نوحا { ومن معه } من متابعيه ومصدقيه بأن أدخلناهم { في الفلك المشحون } [الشعراء: 119] المملوء منهم، ومن كل شيء زوجين اثنين.
{ ثم أغرقنا بعد } أي: بعد إنجائنا، وإدخالنا نوحا ومن معه في الفلك { الباقين } [الشعراء: 120] من قومه إلى حيث لم يبق منهم أحد على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة.
{ إن في ذلك } الإنجاء والإغراق { لآية } عظيمة دالة على كمال قدرتنا وسطوتنا وعلو شأننا وبسطتنا { وما كان أكثرهم } أي: أكثر الناس { مؤمنين } [الشعراء: 121] بوحدة وجودنا، وكمال قدرتنا وعزتنا، ومتانة حكمنا وحكمتنا.
{ وإن ربك } الذي وفقك يا أكمل الرسل على الإيمان والتوحيد، وكشف لك سر سريان وحدته الذاتية على هياكل المظاهر { لهو العزيز } الغالب القاهر في نفسه، بحيث لم يكن أحد في فضاء الوجود سواه ولا إله معه، ليس كمثله شيء، وهو السميع العليم { الرحيم } [الشعراء: 122] لخلص عباده ممن جذبته العناية الأزلية نحو بابه، ويسر له الوصول إلى جنابه، رب اجعلنا من المنجذين إليكم، المنكشفين بوحدة ذاتك.
[26.123-135]
ثم قال سبحانه مخبرا عن أحوال المكذبين أيضا: { كذبت عاد المرسلين } [الشعراء: 123] جمعه على الوجه الذي ذكر في تكذيب نوح، وإنما أنث باعتبار القبيلة وعاد اسم ابيهم.
وقت { إذ قال لهم أخوهم هود } حين رأى منهم ما هو من أمارات الكفر والفسوق عن مقتضى الاستقامة الموضوعة بينهم بوضع إلهي: { ألا تتقون } [الشعراء: 124] من بأس الله أيها المفرطون المسرفون، ولا تحذرون عن قهره وانتقامه أيها الجاهلون.
{ إني لكم رسول أمين } [الشعراء: 125] مرسل إليكم من عنده؛ لأبلغكم ما أرسلت به من قبل الحق من الأوامر والنواهي المصلحة لأحوالكم، المبعدة عن غضب الله إياكم وقهره.
{ فاتقوا الله } الغالب القادر على أنواع الانتقامات { وأطيعون } [الشعراء: 126] فيما أمرت لكم بوحي الله وإلهام من الأمور المهذبة لأخلاقكم.
{ ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } [الشعراء: 127].
من جملة تربيته: إرسال الرسل على المنحرفين عن سبيل الاستقامة من المنصرفين عن طريق توحيده { أتبنون } وتعمرون أيها المسرفون المستكبرون { بكل ريع } تلال مرتفعة من الأرض { آية } تستدلون بها في سلوككم نحو مقاصدكم ومناهجكم، مع أن النجوم الزهرات؛ إنما خلقت لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، وأنتم بوضعكم هذه الآيات والعلامات { تعبثون } [الشعراء: 128] وترتكبون فعلا لا فائدة لكم فيها أصلا.
{ و } أيضا من جملة كبركم وخيلائكم: إنكم { تتخذون مصانع } أي: منابع الماء والقوانيت، أو قصورا عاليات وأبنية شامخات مجصصه مشيدة { لعلكم تخلدون } [الشعراء: 129] وتؤملون الخلود في دار الابتلاء والغرور؛ لذلك تحكمون بناءكم وتشيدونها.
{ و } من كماف استكباركم وتجبركم { إذا بطشتم } وأخذتم أحدا بجريمة صدرت عنه { بطشتم جبارين } [الشعراء: 130] متجبرين متكبرين، خارجين عن مقتضى الحد الإلهي؛ الموضوع للتأديب والتعزير.
{ فاتقوا الله } المنتقم الغيور ألا يأخذكم على أمثال هذا الاجتراء على عباده والظلم عليها { وأطيعون } [الشعراء: 131] في نصحي وتذكيري؛ لتنجوا من سخط الله وعضبه.
{ و } بالجملة: { اتقوا } القادر العليم الحكيم { الذي أمدكم } ونصركم { بما تعلمون } [الشعراء: 132] من أنواع النعم، وأصناف الكرم الفائضة عليكم.
ثم فصل بعضا منها تنصيصا عليهم، فقال: { أمدكم بأنعام } تستمدون بها أكلا وحملا وركوبا { وبنين } [الشعراء: 133] تظاهرون بهم وتفاخرون.
{ وجنات } منتزهات ملتفة بأنواع الأشجار والكروم { وعيون } [الشعراء: 134] جاريات تجري بين جناتكم منها أنهار المياه.
{ إني } من كمال عطفي ومرحمتي { أخاف عليكم } من كمال تعنتكم واستكباركم { عذاب يوم عظيم } [الشعراء: 135] أي: نزول عذاب الله وأنواع عقوباته فيه.
[26.136-145]
ولما سمعوا منه ماسمعوا من التذكير والنصيحة على طريق المبالغة { قالوا } من كمال استكبارهم واستنكافهم، وشدة إنكارهم: { سوآء علينآ } يا هود { أوعظت } بما وعظت { أم لم تكن من الواعظين } [الشعراء: 136] المذكرين، نحن ما نسمع منك خرافاتك ولا نتمثل بها، ولا نترك لأجلها وأجلك أخلاق أسلافنا التي كانوا عليها.
{ إن هذا } أي: ما كنا عليه من الأخلاق ما هي { إلا خلق } آبائنا { الأولين } [الشعراء: 137] وعادتهم المستمرة، وسنتهم السنية المأثورة لنا منهمز
{ و } بالجملة: { ما نحن } ولا أسلافنا الذين مصوا عليها { بمعذبين } [الشعراء: 138] بعد انقراضنا عن هذه النشأة: إذ لا إعادة ولا رجوع لنا، ولا نشور من قبورنا بعدما متنا وكنا ترابا وعظاما بالية.
بالجملة: لم يقبلوا منه دعوته، ولم يصدقوا قوله: { فكذبوه } تكذيبا شديدا، وصاروا بسبب تكذيبهم إياه، وإنكارهم عليه مستحقين لقهرنا وغضبنا { فأهلكناهم } من كمال غيرتنا، واستأصلناهم بمقتضى قدرتنا { إن في ذلك } الإهلاك والاستئصال { لآية } دالة على استقلالنا واستيلائنا بالسلطنة القاهرة على مظاهرنا ومربوباتنا { و } لكن { ما كان أكثرهم مؤمنين } [الشعراء: 139] بنا وبأسمائنا، وأوصافنا الكاملة الشاملة آثارها لعموم المظاهر والمصنوعات.
{ وإن ربك } يا أكمل الرسل { لهو العزيز } الغالب المستقبل بالتصرف في آثار أسمائه وأوصافه بلا مشاركة له في الوجود والإيجاد { الرحيم } [الشعراء: 140] بتجلياته اللطيفية الجمالية في إظهار الكائنات المشاهدة في الآفاق والأنفس حسب إمداده وإعانته.
ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين المهلكين أيضا: { كذبت ثمود المرسلين } [الشعراء: 141].
{ إذ قال لهم أخوهم صالح } المصلح لأحوالهم حين لاح عليهم علامات الإعراض عن الله، والانحراف عن جادة توحيده: { ألا تتقون } [الشعراء: 142] عن قهر الله، فتخرجون عن حدوده.
{ إني لكم رسول أمين } [الشعراء: 143] أنبهكم على ما يصلح حالكم، وأجنبكم عما يفسدكم.
{ فاتقوا الله } المنتقم الغيور، واحذروا من قهره وصولة غضبه وجلاله { وأطيعون } [الشعراء: 144] فيما أنصح لكم وأذكركم به.
{ و } اعلمواأني { مآ أسألكم عليه } أي: على تذكيري { من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } [الشعراء: 145] وهو سبحانه اختارني للبعثة والرسالة، واصطفاني لحمل وحيه، فأرجوا من فضله وسعة جوده أن يفيض علي من معارفه وحقائقه إلى حيث اضمحل هويتي الباطلة في هوية الحق، وتلاشى تعيناتي بالفناء فيه.
[26.146-159]
{ أتتركون } وتبقون { في ما } أي: في أنواع النعم، وأصناف الإحسان والكرم، وتستمرون { هاهنآ } أي: في هذه النشأة كذلك { آمنين } [الشعراء: 146] بلا فترة انتقال وتحويل، مترفهين { في جنات } أي: حدائق وبساتين { وعيون } [الشعراء: 147] جاريات فيها { وزروع } كثيرة في أطرافها { و } لا سيما { نخل } لطيف { طلعها هضيم } [الشعراء: 148] إذ هو ينكسر وينهضم بسهولة، ويستحيل دما بسرعة.
{ و } من كمال بطركم، ونهاية حرصكم وأملكم { تنحتون } أي: تثقبون وتنقبون { من الجبال } المتحجرة { بيوتا } ومخازن تدخرون وتخزنون أمتعتكم فيها؛ صونا لها عن أنواع الحادثات بطرين { فارهين } [الشعراء: 149] متنعمين.
{ فاتقوا الله } المحول للأحوال؛ حتى لا يبدل يسركم إلى العسر، وتنعيمكم إلى التنقيم { وأطيعون } [الشعراء: 150] في نصحي وتذكيري.
{ ولا تطيعوا أمر المسرفين } [الشعراء: 151] في الإغراء على المعاصي والتغرير فيها؛ إذ هم { الذين يفسدون في الأرض } بأنواع الفسادات، ومن جملتها: إفسادكم وإغراؤكم إلى ما يضركم { ولا يصلحون } [الشعراء: 152] مفاسد أحد.
وبعدما سمعوا من صالح ما سمعوا من النصيحة والإرشاد، وأنواع الإصلاح والسداد { قالوا } من فرط تعنتهم وعنادهم، وكمال توغلهم في بحر الغفلة والغرور: { إنمآ أنت } يا صالح { من المسحرين } [الشعراء: 153] المختلين المخبطين عقولهم بالسحر.
لذلك تتخيل أنك رسول مرسل من قبل الحق هاد إلى طريقه، مع أنك { مآ أنت إلا بشر مثلنا } بلا رجحان لك علينا، ولم يعهد إرسال البشر إلى البشر، وبعدما عيروه وشنعوا عليه قصدوا تعجيزه، فأمروه بإتيان البرهان على صدقه، فقالوا متهكمين: { فأت } يا صالح { بآية } معجزة دالة على صدقك في دعواك { إن كنت من الصادقين } [الشعراء: 154].
{ قال } صالح: معجزتي الدالة على حقية دعوتي ورسالتي { هذه ناقة } مخرجة من الصخرة بإخراج الله بعدما اقترحتموني بإخراجها، فدعوت الله القادر المقتدر على اختراع الامور المستبدعة، وأتضرع نحوه فقل دعائي، فأخرجها بقدرته على الوجه الذي اقترحتم، فاعلموا أيها المنهمكون في بحر الغفلة والغرور أنه { لها } أي: للناقة { شرب } أي: معين لشربها من بئركم بتعيين الله إياها { ولكم شرب يوم معلوم } [الشعراء: 155] معين.
فعليكم ألا تتجاوزوا من شربكم إلى شربها، ولا تضروا بها { ولا تمسوها بسوء } من ضرب وعقر، وظمأ وجوع، فإنكم أن تمسوها بسوء { فيأخذكم } وينزل عليكم { عذاب يوم عظيم } [الشعراء: 156] وصف به، لعظم ما فيه من العذاب.
ثم لما أوصاهم بحفظها وحضانتها، وبالغ في شأنها لم يقبلوا منه، ولم يبالوا بقوله فاجتمعوا على عقرها متفقين { فعقروها } بعدما اتفق الكل { فأصبحوا } بعدما عقروها { نادمين } [الشعراء: 157] خائفين من نزول العذاب، لا تائبين آيبين عما فعلوا من ترك المأمور وارتكاب المنهي.
وبعدما استحقوا العذاب بصنيعهم هذا { فأخذهم العذاب } الموعود المعهود من قبل الحق فنزل عليهم، فأهلكهم بالمرة إلى حيث لم يبق منهم أحد على وجه الأرض { إن في ذلك } الابتلاء والإنزال والإهلاك { لآية } عظيمة مثبتة لكمال قدرة الله وقهره على مقتضى صفاته الجلالية { وما كان أكثرهم مؤمنين } [الشعراء: 158] بقهره وجلاله.
{ وإن ربك } يا أكمل الرسل { لهو العزيز } الغالب القاهر على أعدائه بمقتضى غضبه وجلاله { الرحيم } [الشعراء: 159] المشفق على أوليائه حسب اقتضاء لطفه وجماله.
[26.160-175]
ثم قال سبحانه: { كذبت } أيضا { قوم لوط المرسلين } [الشعراء: 160] مثل ما كذب السابقون.
وذلك في وقت { إذ قال لهم أخوهم لوط } حين شاعت بينهم الفعلة القبيحة الذميمة، والديدنية الشنيعة إلى حيث يباهون بها ولا يخافونها { ألا تتقون } [الشعراء: 161] من غضب الله أيها المسرفون المفرطون، اتقوا الله الغالب الغيور، واحذروا من سخطه.
{ إني لكم رسول } من قبله { أمين } [الشعراء: 162] يؤمنكم عن مكر الله، وإلمام غضبه وعذابه.
{ فاتقوا الله } حق تقاته { وأطيعون } [الشعراء: 163] في جميع ما جئت لكم من عنده.
{ و } اعملوا أني { مآ أسألكم عليه } أي: على تبليغي ونصحي { من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } [الشعراء: 164] فإنه المتكفل لأجور عباده على مقتضى أعمالهم ونياتهم فيها.
{ أتأتون } وتجامعون أيها المفسدون المفرطون { الذكران } أي: الذكور والأمارد وتختصون بهذه القبيحة الشنيعة، مع أنه ما سبق مثلها { من العالمين } [الشعراء: 165] من الذين مضوا من بني نوعكم.
{ و } تبالغون لها، حيث { تذرون } وتتركون { ما خلق لكم ربكم } لإتياكنكم وحرثكم { من أزواجكم } أي: نسائكم؛ ليترتب عليها حكمة التناسل وإبقاء النوع { بل أنتم } بسوء صنيعكم وقبح فعلتكم هذه { قوم عادون } [الشعراء: 166] مجاوزون عن حدود الله ومقتضى حكمته.
وبعدما سمعوا منه تشنيعه على أبلغ وجه وأشنعه { قالوا } من شدة شكيمتهم وضغينتهم: { لئن لم تنته يلوط } ولم تنزجر عن تشنيعنا وتقبيح فعلنا، ونهينا عنه { لتكونن } بجراءتك علينا { من المخرجين } [الشعراء: 167] من قريتنا على أشنع وجه وأسوئه.
وبعدما سمع لوط عليه السلام منهم ما سمع من الغلظة والتشدد في التهديد: { قال } متسوحشا منهم، مستنكرا عليهم: { إني لعملكم } هذا { من القالين } [الشعراء: 168] المغضين غاية البغض إلى حيث أكره مساكنكم مطلقا، وأريد الخروج من بينكم ، ولا أبالي من تهديدكم علي بالإخراج.
ثم توحه نحو الحق وناجى معه مبغضا عليهم، مشتكيا إلى ربه بقوله: { رب } يا من رباني بأنواع الطهارة والنظافة الصورية والمعنيوة { نجني } بفضلك وجودك { وأهلي مما يعملون } [الشعراء: 169] أي: من العذاب الموعود النازل عليهم بشؤم عملهم هذا.
فأنزلنا العذاب عليهم بعدما استحقوا لإنزاله { فنجيناه } أي: لوطا { وأهله أجمعين } [الشعراء: 170] من إصابة العذاب المنزل على قومه.
{ إلا عجوزا } وهي امرأته بقيت { في الغابرين } [الشعراء: 171] الهالكين بميلها إليهم ومحبتها لهم.
{ ثم دمرنا } وأهلكنا { الآخرين } [الشعراء: 172].
{ و } ذلك بأن { أمطرنا عليهم مطرا } لم يعهد مثله؛ لأنه حجارة هالكة لكل من أصاب { فسآء مطر المنذرين } [الشعراء: 173] مطرهم هذا.
{ إن في ذلك } الإمطار والإهلاك { لآية } عظيمة، دالة على علو شأننا وسطوع حجتنا وبرهاننا { وما كان أكثرهم مؤمنين } [الشعراء: 174] بآياتنا العظام؛ لذلك لحقهم ما لحقهم.
{ وإن ربك } يا أكمل الرسل { لهو العزيز } المتعزز برداء العظمة والكبرياء، المتفرد بالوجود والبقاء، لا موجد سواه، ولا إله إلا هو { الرحيم } [الشعراء: 175] المتجلي بالتجليات الحبية؛ لإظهار ما في الوجود من الأعيان والأكوان.
[26.176-191]
ثم قال سبجانه: { كذب أصحاب لئيكة المرسلين } [الشعراء: 176].
{ إذ قال لهم شعيب } حين رأى منهم أمارات الميل والانحراف عن القسطاس المستقيم، الموضوع من عند العزيز العليم، المبنئ عن الاعتدال المعنوي: { ألا تتقون } [الشعراء: 177] وتحذرون عن بطش الله إياها، المتجاوزون عن حدوده.
{ إني لكم رسول } من عنده { أمين } [الشعراء: 178] موصل لكم أمانته.
{ فاتقوا الله } ولا تنقصوا المكيال والميزان { وأطيعون } [الشعراء: 179] فيما أرسلت به.
{ و } لا تخافوا عن أخذ الجعل والرشا؛ إذ { مآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } [الشعراء: 180] يعطيني جزاء إرشادي وإبلاغي، ويوصلني إلى منتهى أملي ومرادي.
وعليكم أيها المكلفون المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية إيفاء الكيل { أوفوا الكيل } إبقاء تاما كاملا { ولا تكونوا } بتنقيصه وتطفيفه { من المخسرين } [الشعراء: 181] الناقصين حقوق عباد الله؛ حتى لا يخسركم رحمته.
{ وزنوا } وقت وزنكم لغيركم من عباد الله { بالقسطاس } والميزان { المستقيم } [الشعراء: 182] العدل السوي بحيث لا يميل إلى جانب أصلا.
{ و } عليكم أيضا أن { لا تبخسوا } ولا تنقصوا { الناس أشيآءهم } ولا تكسروا سلعهم { و } بالجملة: { لا تعثوا في الأرض } أي: لا تمشوا عليها بالظلم { مفسدين } [الشعراء: 183] بأنواع الفساد.
{ و } كيف تفسدون فيها، وتظلمون من عليها { اتقوا } القادر المقتدر { الذي خلقكم } وأظهركم من كتم العدم { و } كذا خق { الجبلة الأولين } [الشعراء: 184] وذوي الخلقة من المتقدمين من أسلافكم وغيرهم أيضا.
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا من الحكم والتذكيرات { قالوا } متهكمين مستهزئين: { إنمآ أنت } يا شعيب { من المسحرين } [الشعراء: 185] الذين ضاعت عقولهم بالسحر والافتتان.
{ و } كيف تكون أنت من المرسلين { مآ أنت إلا بشر مثلنا } ومن أين يتيسر لبشر أن يكون مرسلا من رب العالمين { وإن نظنك } في دعواك الرسالة { لمن الكاذبين } [الشعراء: 186] المفترين؟!.
{ فأسقط علينا كسفا } قطعا { من السمآء } من بعض إقطاعها تهلكنا بها { إن كنت من الصادقين } [الشعراء: 187] في أمرك هذا ورسالتك.
وبعدما آيس شعيب عليه السلام عن إيمانهم { قال } لهم مشتكيا إلى الله: { ربي أعلم } بعلمه الحضوري { بما تعملون } [الشعراء: 188] من أنواع الفسادات، وبمقدار ما تستحقون عليها من الجزاء والعذاب.
وبالجملة { فكذبوه } تكذيبا شديدا، وأنكروا عليه إنكارا بليغا، ولم يقبلوا قوله واستحقوا العذاب { فأخذهم عذاب يوم الظلة } على الوجه الذي اقترحوا منه، شدد الله عليهم بالحر؛ حيث اضطروا إلى الاستظلال، وذلك يوم غلت المياة في الأنهار، وظلتهم السحابة بغتة فازدحموا تحتها مستظلين، فأمطر الله عليهم نارا فاحترقوا بالمرة { إنه كان عذاب يوم عظيم } [الشعراء: 189] لعظم جرمهم وعذابهم فيه.
{ إن في ذلك } الأخذ والإنزال والإظلال { لآية } دالة على كمال قهرنا إياهم وزجرنا وانتقامنا عنهم { وما كان أكثرهم مؤمنين } [الشعراء: 190] بقهرنا وغضبنا متقضيات أوصافنا الجلالية.
{ وإن ربك } يا أكمل الرسل { لهو العزيز } الغالب على عموم المرادات والمقدورات من الثواب والعقاب، والإنعام والانتقام { الرحيم } [الشعراء: 191] على من فقهم إلى مقتضى ما رضي عنهم، ويسر لهم الامتثال بما أمرهم ونهاهم.
هذا آخر القصص السبع المذكورة؛ لتسلية رسول الله من أن المكذبين للرسل مأخوذون بأنواع العذاب، مستهلكون بأصناف النكال، إنما ذكر سبحانه؛ ليعتبر منها المعتبرون من المؤمنين ، ويتفطن المكذبون ما سيلحقهم من العذاب لو أصروا على ما هم عليه من التكذيب.
[26.192-204]
{ وإنه } أي: القرآن { لتنزيل رب العالمين } [الشعراء: 192] كالكتب السالفة.
{ نزل به } بالتخفيف { الروح الأمين } [الشعراء: 193] كما نزل سائر الكتب، وهو جبرائيل عليه السلام - سمي به؛ لأمانته على الوحي الإلهي بأن أوصله إلى ما أنزل إليه بلا تغيير وتبديل أصلا - نزل به على قلبك يا أكمل الرسل؛ لتكون أنت أيضا كسائر الرسل من المنذرين؛ لتنذر أهل الغفلة والغرور من قومك، كما أنذروا.
لذلك أنزله سبحانه { بلسان عربي مبين } [الشعراء: 195] ظاهر الدلالة وواضح الفحوى، مناسبا بلغة من أرسلت إليهم، ولو أنزله على لغة العجم كالكتب السالفة لقالت العرب: ما نفهم معناه، ولا نعرف مقتضاه.
{ وإنه } أي: إنزال القرآن عليك يا أكمل الرسل عربيا { لفي زبر الأولين } [الشعراء: 196] أي: مثبتا مزبورا في كتبهم مع نعتك أيضا وحليتك، وجميع أوصافك.
{ أ } تنكرون صدق القرآن وصحة نزوله من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم { و لم يكن لهم } ولم تثبت عندهم { آية } تدل على صدقه وحقيته، وصحة نزوله من عند الله، وهي { أن } أي: إنه { يعلمه } ويعرفه { علماء بني إسرائيل } [الشعراء: 197] وأحبارهم، يخبرون به ويقرؤون في كتبهم اسمه، واسم من أنزل إليه ونعته وحليته.
{ ولو نزلناه } أي: القرآن { على بعض الأعجمين } الشعراء: 198] { فقرأه عليهم } بلسانهم وعلى لغتهم { ما كانوا به مؤمنين } [الشعراء: 199] حينئذ، معللين بأنا لا نفهم معناه، ولا نعرف فحواه، فكيف عملنا به وامتثلنا به فيه؟.
{ كذلك } أي: مثل ما قررنا القرآن وأدخلناه في قلوب المؤمنين { سلكناه } وأدخلناه أيضا { في قلوب المجرمين } [الشعراء: 200] إلا أن المؤمنين آمنوا به وامتثلوا بما فيه؛ لصفاء طينتهم.
والمجرمون { لا يؤمنون به } عنادا ومكابرة؛ لخبث طينتهم { حتى يروا العذاب الأليم } [الشعراء: 201] المؤلم الملجء لهم إلى الإيمان في وقت لا ينفعهم إيمانهم.
{ فيأتيهم } العذاب الموعود لهم حينئذ من قبل الحق { بغتة } بلا تقديم مقدمة، وسبق مادة { وهم لا يشعرون } [الشعراء: 202] نزوله.
{ فيقولوا } بعدما نزل عليهم، ووقعوا فيه متحسرين متمنين: { هل نحن منظرون } [الشعراء: 203] ممهلون زمانا؛ حتى نتدارك ما فوتنا على نفوسنا من الإيمان بالله وتصديق كتبه ورسله.
قيل لهم حينئذ من قبل الحق: { أ } تستمهلون وتستنظرون أيها المصرون المسرفون { فبعذابنا } هذا { يستعجلون } [الشعراء: 204] فيما مضى مستهزئين متهكمين، قائلين لرسلنا:
فأتنا بما تعدنآ...
[الأحقاف: 22]، و
فأمطر علينا حجارة...
[الأنفال: 32]، و
فأسقط علينا كسفا...
[الشعراء: 187] وأمثال ذلك وحين نزل عليكم العذاب الموعود تستنظرون؟!.
[26.205-216]
{ أفرأيت } وعلمت أيها الرائي الخبير { إن } أملهنا في الدنيا زمانا طويلا بأن { متعناهم سنين } [الشعراء: 205] فيها تمتيعا بليغا، ورفهناهم ترفيها بديعا.
{ ثم جآءهم } ونزل عليهم بعد زمان طويل { ما كانوا يوعدون } [الشعراء: 206] من العذاب.
{ مآ أغنى عنهم } أي: لم يدفع طول مكثهم فيها شيئا من العذاب، ولم تخفف عذابهم { ما كانوا يمتعون } [الشعراء: 207] أي: تمتيعهم زمانا طويلا، فإذن لا فرق بين إمهالهم وبين تعجيل العذاب عليهم.
{ و } من سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة { مآ أهلكنا من قرية } من القرى القديمة الهالكة { إلا } أرسلنا أولا { لها } أنبياء ورسلا، هم { منذرون } [الشعراء: 208] مخوفون عما هم عليه من الأمور المستجلبة للعذاب، المستوجبة له.
وإنما أرسلنا إليهم وأنذرناهم عما أنذرناهم أولا؛ ليكون { ذكرى } أي: تذكرة وعظية منها إياهم؛ حتى لا ينسبونها إلى الظلم، ولا يجادلوا معنا وقت حلولك العذاب { و } ظهر عندهم أنا { ما كنا ظالمين } [الشعراء: 209] بتعذيبهم بأنواع العذاب.
{ و } بعدما نسب المشركون المكابرون تنزيل القرآن المعجز إلى الشياطين، وطعنوا فيه بأنه من جملة ما تلقى الشياطين إلى الكهنة، رد الله عليهم بقوله: { ما تنزلت به } أي: بالقرآن الفرقان، المعجز لفظا ومعنى، المبني على الهداية المحصنة { الشياطين } [الشعراء: 210] الضالون المضلون؛ إذ لا يتأتى منهم الهداية أصلا.
{ وما ينبغي لهم } الإتيان بالهداية والرشاد { وما يستطيعون } [الشعراء: 211] ويقدرون عليها؛ إذ الهداية إنما هي من طيب النفس وطهارة الفطرة، وأما استماعهم وسماعهم من الملائكة أيضا لا يتأتى منهم، ولا يمكنهم.
{ إنهم } من رداءة فطرتهم وخباثة جبلتهم { عن السمع } لكلام الملائكة { لمعزولون } [الشعراء: 112] لأن الاستماع منهم مشروط بالمناسب لهم في التجرد عن العلائق، وصفاء الفطرة عن أكدار الطبيعة، وقبول الفيض عند هبوب نسمات النفسات الرحمانية، والتعرض والاشتياق منها على الدوام.
وظاهر أن نفوسهم الخبيثة ليست بهذه المثابة، والقرآن والفرقان محتو على حقائق ومعارف، ومكاشفات ومشاهدات لا يمكن صدورها إلا ممن هو منبع جميع الكمالات ومنشأ عموم الخيرات، والمطلع بجميع السرائر والخفيات، والقادر المقتدر على جميع المرادات والمقدورات، فكيف يليق بكمال القرآن أن ينسب إلى الشيطان؟! تعالى شأن القرآن عما ينسب الظالمون علوا كبيرا.
ثم أشار سبحانه إلى تحريك سلسة أشواق المحبين، وتهييج إخلاص الموحدين المخلصين، المنقطعين نحو الحق، الساعين بإفناء هويتهم الباطلة في طريق توحيده، الباذلين مهجهم في مسلك الفناء؛ ليفوزوا بشرف اللقاء والبقاء.
فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، ناهيا له عن التوجه والالتفات نحو الغير مطلقا: { فلا تدع مع الله } الأحد الفرد الصمد، المستقل بالألوهية والربوبية { إلها آخر } من مظاهره ومصنوعاته؛ إذ الكل في حيطة أوصافه وأسمائه لا وجود لها لذاتها، بل إنما هي عكوس وأظلال للأسماء والصفات الإلهية { فتكون } أنت بجمعيتك وكمالك لو دعوت، واتخذت إلها آخر صرت { من المعذبين } [الشعراء: 113] بأنواع التعذيبات الصورية والمعنوية والعقلية والحسية، الجسمانية والروحانية.
إنما خاطب سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الهائل، عاتيه بهذا العتاب الهائب؛ ليتنبه المؤمنون، ويتفطنوا بكمال غيرة الله المتفرد المتوحد، القهار للأغيار مطلقا.
{ و } بعدما ظهر عندك يا أكمل الرسل غوائل الشرك، ولاح دونك ما يترتب عليه من القهر الإلهي وغضبه { أنذر عشيرتك } أي: قرابتك، سيما { الأقربين } [الشعراء: 214] منهم واهتم بشأنهم أشد اهتمام؛ حتى تنقذهم من الشرك المستجلب لأنواع العذاب والغضب من قبل الحق.
{ واخفض جناحك لمن اتبعك } وآمن لك منهم؛ أي: لين جانبك نحوهم، وابسط مؤانستك معهم ومصاحبتك معهم إياهم؛ حتى صار كلهم { من المؤمنين } [الشعراء: 215] الموحدين، الناجين من عذاب الله وسخطه.
{ فإن عصوك } بعدما قد لنت لهم وأنست معهم، ولم يقبلوا منك دعوتك وإنذارك { فقل } متبرئا منهم، مستنزها نفسك عن أعمالهم: { إني بريء مما تعملون } [الشعراء: 216] أي: منكم ومن عملكم الذين تعملونه مصرين مستكبرين.
[26.217-227]
{ و } إن عادوك وعاندوا معك إلى أن قصدوا منك { توكل } في دفعهم وكفاية مؤنتهم { على العزيز } الغالب لقهر الأعداء، الغالب على غضبهم وانتقامهم بأنواع البلاء { الرحيم } [الشعراء: 217] على الأولياء، ينصرهم على أعدائهم، ويدفع عنهم شرورهم.
وكيف لا يرحمك يا أكمل الرسل، ولا يكفيك مؤونة أعدائك { الذي يراك } أي: القيوم القادر الذي يشاهد { حين تقوم } [الشعراء: 218] من منامك خلال الليل طلبا لمرضاته، ورفعا لحاجاتك نحوه؟!.
{ و } يشاهد أيضا { تقلبك } وترددك جوف الليل في تفقد أحوال المؤمنين { في الساجدين } [الشعراء: 219] المتذللين نحو الحق، واضعين جباههم على تراب المذلة والانكسار شوقا إليه وتحننا نحوه من إفراط المودة، واشتعال نار العشق والمحبة الإلهية المطفئة لنيران الأهوية الفاسدة والآراء الباطلة.
وكيف لا يتذللون إليه ولا يتحننون نحوه { إنه } بذاته { هو السميع } لمناجاتهم وعرض حاجاتهم { العليم } [الشعراء: 220] بمقاصدهم وأغراضهم، وخلوص نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم.
وبعدما رد سبحانه قول من قال: إن القرآن منزل من قبل الشياطين لا من الملائكة وأثبت أن إنزاله منه سبحانه، وإيصاله من الروح الأمين على الرسلو الأمين؛ إذ المناسبة بينهما مرعية، والمشاكلة مثبتة، أراد أن يشير سبحانه إلى أن تنزيل الشياطين وتسويلاتهم إنما هو لأوليائهم الذين كملت نسبتهم إليهم، وصحت مناسبتهم معهم.
فقال: { هل أنبئكم } وأخبركم أيها المسرفون المترددون في أمر القرآن وإعجازه وإنزاله من قبل الحق القادحون فيه بنسبته إلى تنزيل الشيطان، أو إلى الشعر الذي هو من جملة وساوسه وتخيلاته، مع أنه مشتمل على معارف وحقائق، ورموزات وشهودات لا يسع الإتيان بها والتعبير عنها إلا لمن هو علام الغيوب، مطلع على سرائر أرباب الكشف والشهود، أخبركم { على من تنزل الشياطين } [الشعراء: 221] للإضلال والوسوسة، والتحريف عن طريق الحق، والتغرير بالأباطيل؟.
{ تنزل على كل أفاك } مبالغ في الإفك والافتراء { أثيم } [الشعراء: 222] مغمور في الإثم والعصيان، وأنواع الفسوق والطغيان.
ليتحقق مناسبته مع الشياطين الذين { يلقون السمع } للملائكة، ويصغون منهم بعض المغيبات لا على وجهها؛ غرضهم من الإصغاء الإفساد والرد لا الإصلاح والقبول { و } لذلك { أكثرهم كاذبون } [الشعراء: 223] فيما يسمعون ويلقون؛ إذ هم يحرفونه ويزيفون ترويجا لما هم عليه من الفساد والإفساد، وتغريرا لأوليائهم بأنواع التغريرات.
{ و } من جملة أولياء الشياطين المنتسبون إليهم بالنسبة الكاملة الكاذبة: { الشعرآء } المذبذبون بين الأنام بأكاذيب الكلام وأباطيله؛ لذلك { يتبعهم الغاوون } [الشعراء: 224] الضالون من جنود الشياطين، المستتبعون لهم؛ لترويج أباطيلهم الزائفة.
{ ألم تر أنهم } ومن تابعهم من الغواة { في كل واد } من أودية الضلالة والطغيان { يهيمون } [الشعراء: 225] يترددون حيارى تائهين بلا ثبات ولا قرار، مترددين في معاشهم ومعاهدهم.
{ وأنهم } من غاية غفلتهم وسكرتهم في أمور معاشهم { يقولون } بأفواههم، ويخبرون بألسنتهم تلقفا { ما لا يفعلون } [الشعراء: 226] من الأخلاق و الحكم والمواعظ، والرموز والإشارات التي تصدر عنهم هفوة، وهم لا يمتثلون بها أصلا.
{ إلا } الشعراء { الذين آمنوا } بتوحيد الله، واتصفوا بالحكمة المعتدلة المودعة في قلوبهم، الظاهر أثرها من ألسنتهم، ومضوا على مقتضى الاعتدال المعنوي الذي جبلهم الحق عليه بلا تلعثم منهم، وتزلزل عن مقتضى فطرتهم { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } من الأعمال المصلحة لمفاسدهم، المهذبة لأخلاقهم وأطوارهم { وذكروا الله } المستوي على صراط العدالة والاستقامة في أشعارهم وقصائدهم { كثيرا } في عموم أوقاتهم وحالاتهم؛ بل أكثر أشعارهم إنما هي لإثبات توحيد الحق ومعارفه وحقائقه ورموز أرباب الكشف والعرفان، والتذكيرات المتعلقة بترك المألوفات وقطع التعلقات المنافية لصفاء مشرب التوحيد.
وبعض أشعارهم متعلق بردع أهل الأهواء والآراء، وهتك محارمهم وأعراضهم وتعداد مقابحهم وزذائلهم { و } ذلك بأنهم { انتصروا } بأشعارهم هذه { من بعد ما ظلموا } من أيدي الجهلة، وألسنة الكفرة المتعنتين المستكبرين على أرباب المحبة والولاء من المنقطعين نحو الحق، السالكين في سبيل توحيده.
{ و } بالجملة: { سيعلم الذين ظلموا } على أهل الحق، وآذنوهم بالسنان واللسان وأنواع القدح والطغيان، ونسبوهم إلى الإلحاد والفساد، ورموهم بأنواع الفسوق والفساد مع أنهم على صرافة التوحيد متمكنون، ومن أمارات الكثرة والتقليد متنزهون، وسيعلم أولئك الرامون المفرطون المسرفون { أي منقلب } أي: مرجع ومآب { ينقلبون } [الشعراء: 227] ويرجعون، أيدخلون إلى حضرة النيران والخذلان منكوسين، أم إلى روضة الرضا مسرورين؟.
ألا أن أولياء الله
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة: 274].
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المراقب لاعتدال الأطوار والأخلاق والأعمال، وجميع الشئون والأحوال المتعلقة بنشأتي الدنيا والعقبى، أن تراجع ذوقك ووجدانك في جميع ما جرى عليك من الأحوال، وتتأمل فيها حق التأمل إلى أن تطلع بمبدئه ومنشئه، ثم تتفكر في صدوره، هل هو على مقتضى الاعتدال والقسط الإلهي، أم على مقتضى الهوى الغالب الذي هو من جنود الأمارة المستمدة عن إغواء الشيطان وإغرائه؟.
فإنه وجدته على مقتضى القسط الإلهي والعدل الجبلي، فطوبى لك، وإن وجدته القالعة لعرق الأماني، والمرادات المتعلقة بمستلذات الدنيا الفانية، وتواظب على أشق الطاعات وأتعب العبادات من صيام الأيم، ومشي الأقدام، وانقطاع صحبة الأنام، والاعتزال بين الجبال والآجام، والعكوف في الخلوات، والاشتغال بالميل والصلوات المقربة نحو الحق؛ حتى تعتدل أوصافك وأخلاقك، وتستقيم أفعالك وأحوالك، فحيئذ انكشف لك باب التوحيد، وانغلق عليك مداخل الرياء والسمعة والعجب، وأنواع الكدورات اللاحقة من الخلطة والمؤانسة مع الناس، والمصاحبة معهم المكدرة لصفاء شرب التوحيد.
واعلم يا أخي أن أرباب المحبة الكاملة والولاء التام، هم الذين يبذلون مهجهم في سلوك سبيل الفناء بلا التفات منهم إلى أحد من الناس، لا خيرا ولا شرا، ولا نفعا ولا ضرا، بل هم من كمال حيرتهم واستغراقهم في مطالعة جمال الله وجلاله لا يلتفتون إلى نفوسهم، فكيف إلى غيرهم؟!.
ولا يتيسر لك هذا إلا بتوفيق إلهي وجذب من جانبه، وبمتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم في أطواره وأخلاقه وجميع سننه وآثاره، وبملازمة خدمة مرشد كامل، منبه نبيه، يوقظك من منام غفلتك، ويرشدك إلى منتهى مقصدك وقبلتك.
رب هب لي من لدنك حكمة وحكما، وألحقني بالصالحين.
تم الجزاء الثاني من تفسير القرآن الشريف لحضرة سلطان الأولياء على الإطلاق سيدي وسندي السيد الشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني الشهير الذي ارتفع قدره وسما ذكره، رضي الله عنه وأرضاه.
[27 - سورة النمل]
[27.1-6]
{ طس } يا طالب السيادة السرمدية، والسعادة السنية الألية الأبدية { تلك } الآيات المتلوة عليك تعظيما لشأنك، وتتميما لبرهانك { آيات القرآن } أي: بعض آيات القرآن المبين، والمبين لدلائل التوحيد وبينات الفرقان، والفارق بين الباطل والحق من الأحكام { وكتاب مبين } [النمل: 1] من منتخب لوح القضاء، وحضرة العلم الإلهي المحيط بجميع ما لمع عليه برق وتجلياته الحبيبة.
إنما أنزلت إليك يا أكمل الرسل من عنده سبحانه؛ لتكون { هدى } هاديا لك إلى مقام تمكنك من التوحيد الذاتي { و } لتكون { بشرى } بأنواع السعادات، ونيل أصناف الخيرات والبركات، ورفع الدرجات وأنواع المثوبات { للمؤمنين } [النمل: 2] التابعين لك في شأنك ودينك إن اطمأنت قلوبهم بالإيمان؛ أي: اليقين العلمي المستجلب لليقين العيني والحقي.
والمطمئنون هم { الذين يقيمون الصلاة } المكتوبة المفروضة لهم من قبل الحق في الأوقات المخصوصة، ويؤدونها على الوجه الذي وصل إليه من صاحب الشرع الشريف بلا تخفيف ولا تسريف؛ ليتقربوا بها نحو الحق، وزاد يقينهم وتصديقهم بسببها { ويؤتون الزكاة } المصفية لقلوبهم عن الميل إلى ما سوى الحق من الزخرفة الفانية؛ ليتمرنوا بسببها على إسقاط الإضافات العائقة عن الوصول إلى وحدة الذات.
{ و } بالجملة: { هم } في جميع شئونهم وحالاتهم { بالآخرة } المعدة لجزاء الأعمال وتنقيد الأفعال { هم يوقنون } [النمل: 3] علما وعينا؛ لأن أرباب الخبرة والبصائر المنكشفين بتعاقب النشأتين يرون في النشأة الأولى ما سيلحقهم في الأخرى؛ لذلك يترددون في الأولى للأخرى، ويزرعون فيها ما يحصدون فيها.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه: { إن الذين لا يؤمنون } ولا يصدقون { بالآخرة } عنادا ومكابرة { زينا } وحسنا { لهم أعمالهم } القبيحة الفاسدة الدنيوية، وأمهلنا لهم علينا زمانا؛ ليستحقوا أشد العذاب وأسوا العقاب { فهم } بواسطة إمهالنا إياهم في سكرتهم وغفلتهم { يعمهون } [النمل: 4] يترددون ويتحيرون بطرين بما لهم من الترفة والتنعم.
{ أولئك } الأشقياء البعداء عن عز الحضور، هم { الذين لهم سوء العذاب } في النشأة الأولى { وهم في الآخرة هم الأخسرون } [النمل: 5] المقصورون على الخسران والخذلان، لا يرجى لهم نيل مثوبة ورفع درجة، وتخفيف عذاب وقبول شفاعة، ولا خسران أعظم من ذلك؛ لذلك أصاب يوم بدر ما أصاب، وسيصيب لهم في الآخرة بأضعافه وآلافه.
ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه تفضلا عليه، وأمتنانا له في إنزال القرآن إليه ووحيه عليه: { وإنك } يا أكمل الرسل؛ لنجابة طينتك وطهارة فطرتك { لتلقى القرآن } ويؤتى بك، وينزل إليك { من لدن حكيم } مبالغ في الإحكام والإتقان { عليم } [النمل: 6] باسعدادات الأنام، وقابليتهم التي بها تتفاوت طبقاتهم فضلا وكرامة.
[27.7-14]
ثم أخذ سبحانه بتعداد أرباب الطبقات والكرامة حثا لحبيبه صلى الله عليه وسلم بالتوجه نحوه والتحنن إليه، والمواظبة على شكر نعمه، فبدأ بموسى - صلوات الرحمن عليه وسلامه - فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قال } أخوك { موسى } الكليم - صلوات الرحمن عليه - { لأهله } وزوجته ابنة شعيب عليه السلام حين سار معها من مدين إلى مصر، وهي حاملة، والليلة شاتية مظلمة، وهم ضالون عن الطريق فجاءها الطلق، واضطر موسى في أمرها، فرأى شعلة نار من بعيد، فقال لأهله: اثبتوا مكانكم.
{ إني آنست نارا سآتيكم } ذا الساعة { منها بخبر } من الطريق، يخبر به من عندها؛ إذ النار قلما تخلو عن موقدين لها { أو آتيكم } إن لم أجد عندها أحدا { بشهاب } أي: جمر ذي { قبس } أي: مقبوسة مشتعلة منها { لعلكم تصطلون } [النمل: 7] وتستدفئون من البرد، وتستضيئون منها للطريق.
فاستقروا في مكانهم، فذهب موسى { فلما جآءها } أي: النار، ووصل عندها { نودي } من وراء سرادقات العز والجلال تكريما لموسى، وتعظيما له، وتنبيها عليه من أن مرجع جميع مقاصدك وحوائجك هو الحق، فاطلبه حتى تجد عنده جميع مقاصدك { أن بورك } أي: الشأن، إنه أكثر عليك خيرك وبركاتك يا موسى { من في النار ومن } ظهر { حولها } إذ هو محيط بجميع الأماكن، ظاهر منها، غير متمكن فيها؛ أي: من ظهر فيها ولاح عليها.
{ و } بعدما تحققت بشهود الحق مع جميع الأماكن والأشياء، نزهه عن الحلول فيها والإتحاد بها، فقل: { سبحان الله } المنزه عن الأماكن كلها، المتجلي في جميعها؛ لكونه { رب العالمين } [النمل: 8] يربيها بدوام التجلي، وامتداد الأظلال والعكوس الفائضة منه سبحانه عليها.
ثم لما قلق موسى واستوحش عن هذا النداء، وقرب إلى أن صار مغشيا عليه من شدة هوله ودهشته، وكمال ولهه وحيرته، نودي ثانيا باسمه استئناسا له، وإزالة لاستيحاشه: { يموسى إنه } أي: إن من ناداك في النار، وظهر على صورتها { أنا الله } المحيط بجميع المظاهر والأكوان إحاطة البحر للأمواج والأزباد، والشمس للأضواء والأظلال { العزيز } الغاللب القادر، المقتدر لقهر السوى والأغيار { الحكيم } [النمل: 9] المتقن في الأفعال والآثار الصادرة الظاهرة مني على أبدع ارتباط وأبلغ انتظام.
{ و } بعدما أزال وحشته، وأذهب ولهه ودهشته بالمؤانسة والمواساة، قال له آمرا: { ألق عصاك } التي أخذتها بيدك على الأرض؛ لترى من عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا ما ترى؛ حتى تتنبه من تبدل صورتها وسيرتها إلى سر سريان وحدتنا الذاتية في المظاهر كلها، فألقاها على الفور فإذا هي حي تسعى { فلما رآها } موسى؛ أي: العصا { تهتز } وتتحرك { كأنها جآن } أي: حية صغيرة سريعة السير { ولى } وانصرف منها موسى { مدبرا } خائفا هائبا، قلقا حائرا من أمرها.
{ ولم يعقب } أي: لم يرجع إليها ليأخذها؛ هيبة وخوفا قلنا منادين؛ ليقبل: { يموسى لا تخف } من عصاك، وستعود إلى سيرتها الأصلية { إني } من كمال مرحتمي وإشفاقي على خل عبادي { لا يخاف لدي } أحد من أوليائي سيما { المرسلون } [النمل: 10] منهم، المختارون للرسالة والتشريع العام.
{ إلا من ظلم } من المرسلين بارتكاب ذنب صدر منه، لا عن عمد { ثم بدل } وتدارك ذنبه { حسنا } بالتوبة والندامة { بعد سوء } صدر منه { فإني غفور } لهم أغفر لهم، وأعفو عن زلتهم { رحيم } [النمل: 11] أرحمهم وأقبل توبتهم بعدما صدرت عن خلوص طويتهم.
{ و } بعدما رأى موسى من عجائب العصا ما رأى قال له سبحانه ثانيا آمرا: { أدخل يدك في جيبك } يا موسى { تخرج } في الفور منه، فأدخلها فيه فأخرجها، ترها { بيضآء } محيرة للعقول والأبصار، مع أن بياضها { من غير سوء } مرض عرض لها من برص وغيرها، ثم قيل له من قبل الحق: هي؛ أي: اليد البيضاء آية ومعجزة جديدة دالة نبوتك ورسالتك، موهوبة لك من عندنا، معدودة { في تسع آيات } عظام لك، وهي: العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجذب.
ثم بعدما شهدت من يدك وعصاك ما شهدت يكفيك شهادتهما على صدقك في دعواك الرسالة، مع أن لك معجزات كثيرة سواهما، اذهب مرسلا من عندي { إلى فرعون وقومه } وبلغهم إنذاري وتخويفي، ونزول عذابي عليهم؛ من سوء صنيعهم { إنهم كانوا قوما فاسقين } [النمل: 12] خارجين عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم من عندنا وبوضعنا.
فذهب موسى بإذن الله ووحيه إلى فرعون وأظهر الدعوة عنده، وأقام البينة عليها { فلما جآءتهم } أي: ظهرت على فرعون وقومه { آياتنا } الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، وصدق من أرسلنا إليهم؛ لإرشادهم وتكميلهم، مع كونها { مبصرة } موضحة، مبينة لهم صدق موسى في دعوى الرسالة، ظاهرة لائحة في نفسها أنها معجزة، ما هي من جنس السحر والشعبذة { قالوا } من فرط عتوهم وعنادهم: { هذا سحر مبين } [النمل: 13] ظاهر، إنه مجعول بمكر وحيل.
{ و } من كمال استنكافهم واستكبارهم { جحدوا بها } وأنكروا لها، ولم يلتفتوا إليها ظاهرا { و } الحال أنها قد { استيقنتهآ أنفسهم } إنها معجزة خارقة للعادة صدرت عن أمر إلهي، لا عن مكر وخديعة فظلموا أنفسهم بتكذيب ما تستقر في أنفسهم صدقا وكونه معجزة { ظلما } صريحا، وعداوانا عن الحق، وميلا إلى الباطل حسدا وعنادا.
{ و } استكبروا على موسى، وأنكروا جميع ما جاء به من عند ربه { علوا } وعتوا { فانظر } أيها المعتبر الناظر { كيف كان عاقبة المفسدين } [النمل: 14] المستكبرين الذين يكذبون ما يعلمون يقينا حقيته في نفوسهم، وينسبونه بأفواههم إلى السحر والشعبذة عنادا ومكابرة، انظر عاقبتهم، كيف غرقوا واستؤصلوا إلى حيث لم يبق منهم أحد يخلفهم ويحيي اسمهم؟!.
[27.15-19]
{ و } من سعة جودنا، وعموم فيضنا وفضلنا { لقد آتينا } وأعطينا { داوود و } إبنه { سليمان علما } متعلقا بالحكم والأحكام، وعموم تدبيرات الأنام، وضبط أحوالهم وأوضاعهم المتداولة بينهم من الإنصاف والانتصاف وإقامة الحدود، وسد الثغور وغيرها من الأمور المتعلقة بضبط المملكة.
{ وقالا } بعدما آرادا أن يشكرا الله، ويؤديا حقوق نعمه الجليلة، ومنحه الفائضة الجزيلة: { الحمد } والمنة، والثناء التام الناشىء من عموم الألسنة، وجميع الجوارح الممنونة من نعمه، المغمورة بموائد لطفه وكرمه { لله } الواحد الأحد الصمد، المستحق لعموم المحامد والأثنية الصادرة من ذرائر الأكوان طوعا { الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } [النمل: 15] له، الموحدين بذاته، المصدقين لأنبيائه ورسله وكتبه، وخصصنا من بينهم بمزيد الكرامة المتعلقة برئاسة الدارين، وسيادة النشأتين، وحكومة الثقلين، والحكمة المتقنة المتعلقة بمرتبتي الناسوت واللاهوت، وحضرة الرحموت والجبروت.
{ وورث سليمان داوود } يعني: بعدما انقرض داوود استخلف عنه سليمان عليه السلام، وورث من نبوته وحكمته وحكومته، وسخر له جميع ما سخر لداوود مع زيادات خلال عنه أبوه عليه السلام، وهو تسخير الجن والريح ومنطق الطيق، فإنها ما تيسر لأبيه { و } بعدما تمكن سليمان عليه السلام على مقر الحكومة والنبوة { قال } يوما للملأ الجالسين حوله تنويها وتشهيرا لنعم الله على نفسه: { يأيها الناس علمنا } بلسان الوحي وترجمانه { منطق الطير وأوتينا } من فضل الله علينا { من كل شيء } أي: كثير من الأشياء ما لم يؤت مثله أحد من العالمين { إن هذا } الإعطاء والتخصيص والتفضل { لهو الفضل المبين } [النمل: 16] الظاهر اللائح فضله على كل أحد، والملك العظيم الذي لم يؤت أحد من الأنبياء.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل يوم { حشر } وجمع { لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير } وكان معسكره مسيرة مائة فرسخ، خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، تمشي كل طائفة منهم مع بني نوعه صافين مستوين، وإن تسابق بعضهم على بعض { فهم } حينئذ { يوزعون } [النمل: 17] ويحبسون؛ حتى يتلاحقوا ويتساوى صفوفهم، وكان سليمان عليه السلام يأمر الريح فترفعه فوق رءوسهم مشرفا عليهم، فتسير معه رخاء.
ومن كمال فضل الله عليه أنه ما تكلم أحد منهم بكلام إلا حملته الريح وألقته في سمعه، فبينا هو يسير مع عسكره هكذا رآه، وجنده حراث، فقال مستغربا: والله لقد أوتي آل داوود ملكا عظيما، فمشى سليمان عليه السلام إليه، فقال له: إنما مشيت إليك؛ لأوصيك ألا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يتقبلها الله خير مما أوتي آل داوود.
وكان عليه السلام مع جنوده على الوجه الذي ذكر { حتى إذآ أتوا على واد النمل } هو واد بالشام كثير النمل؛ لذلك سميت به { قالت نملة } بعدما رأت سواد العسكر، و أشعرت بعبورهم على الوادي منادية لإخوانها، صائحة عليهم، صارخة: { يأيها النمل } الضعيف النحيف { ادخلوا مساكنكم } مسرعين متحرزين، ولا تقفوا في الصحراء حتى { لا يحطمنكم } ولا يطأنكم { وهم } بحوافر خيولهم { سليمان وجنوده } وإن كانوا من أرباب البر والتقوى، محترزين عن أمثال هذا الظلم الصريح إلا أنهم { لا يشعرون } [النمل: 18] بكم؛ لصغركم وحقارتكم فيطئوكم بلا شعور وإدراك.
وبعدما سمع سليمان عليه السلام من النملة ما سمع { فتبسم } تبسما ظاهرا إلى أن صار { ضاحكا } متعجبا { من قولها } المشتمل على أنواع التدابير والخيرات من حسن المعاشرة مع الجيران، وآداب المصاحبة مع الإخوان، والتحذير عن مظان المهالك والمتالف قبل الوقوع فيها وغير ذلك.
{ و } بعدما اطلع سليمان على قولها وغرضها توجه نحو الحق عادا على نفسه جلائل نعم الله وآلائه، حيث { قال } حينئذ مناجيا إليه سبحانه: { رب } يا من رباني بأنواع الخيرات والكرامات التي ما أعطاها أحدا من خلقه { أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } ووفقني على أن أؤدي حقوقها على الوجه الذي ينبغي ويليق بشأنك وشأنها، ولا يتأتى مني هذا إلا بتوفيقك وتيسيرك، وفقني على إتمامها وتكميلها.
{ و } يسير علي { أن أعمل } في مدة حياتي عملا { صالحا ترضاه } أي: مقبولا عندك، مرضيا لك { و } بعدما توفيتني { أدخلني برحمتك } وسعة فضلك وجودك { في } زمرة { عبادك الصالحين } [النمل: 19] المرضيين عندك، المقبولين دونك، وعندني من عدادهم، واحشرني من زمرتهم، إنك على ما تشاء قدير، وبرجاء المؤملين جدير.
[27.20-26]
ثم لما سار سليمان - صلوات الرحمن عليه وسلام - ف يبعض أسفاره، وكان الهدهد دائما رائده، وبريد عسكره ودليلهم على الماء عند الاحتياج؛ إذ هو عالم به إلى حيث تعرفه تحت الأرض وتعين موضعه، و كان يأمر سليمان عفاريت الجن ليحفروها ويخرجوا منها الماء لدى الحاجة.
فاحتاج سليمان عليه السلام يوما من الأيام إلى الماء، ولم يكن الهدهد حاضرا عنده فغضب عليه { وتفقد الطير } وتعرفه مفصلا؛ حتى يجده بينهم فلم يوجد مغاضبا عليه: { فقال } مغاضبا عليه: { مالي } أي: أي شيء عرض علي حتى صرت { لا أرى الهدهد } بين الطيور، أهو حاضر عندي، مستور علي فلم أره { أم كان من الغآئبين } [النمل: 20] المتخلفين عن خدمتي ورفاقتي؟.
فوالله لو وجدته { لأعذبنه عذابا شديدا } إلى حيث آمر بنتف ريشه وحبسه في حر الشمس مع ضده في محبس ضيق { أو لأاذبحنه } حدا؛ ليعتبر منه سائر الخدمة { أو ليأتيني } وليقيمن على الإثبات عذره { بسلطان مبين } [النمل: 21] حجة واضحة ظاهرة الدلالة، مقبولة من ذوي الأعذار عند أولي الأبصار والاعتبار.
{ فمكث } الهدهد بعد تفقد سليمان وتهديده زمانا { غير بعيد } مديد متطاول، ثم حضر عنده بلا تراخ طويل { فقال } معتذرا لغيبته ومكثه: إنما مكثت وغبت عن خدمتك؛ لأني { أحطت بما لم تحط به } أنت يا سيدي؛ يعني: تعلق إدراكي بمعلوم لم يتعلق به قبل لا علمي ولا علمك، ولا علم أحد من جنودك { و } بعد وقوفي واطلاعي به { جئتك من } بلاد قبيلة { سبإ } من نواحي المغرب، وبمن ملك عليها { بنبإ } وخبر { يقين } [النمل: 22] مطابق للواقع.
قال سليمان مبتهجا، مزيلا لغيظه وغضبه، مستكشفا عنه: وما الخبر؟ قال الهدهد: { إني } بعدما وصلت إلى ديارهم بأقصر مدة { وجدت } وصادفت { امرأة تملكهم } اسمها بلقيس بنت شراحيل، من نسل يعرب بن قحطان، وأمها جنية؛ لأنه ما كان يرى التزويج من الإنس، ولم يكن له ولد غيرها؛ لذلك ورثت منه الملك فملكت { و } من كمال عظمتها وشوكتها { أوتيت من كل شيء } نفائسه وعجائبه ما لا يعد ولا يحصى { ولها } من جملة البدائع { عرش عظيم } [النمل: 23] من جميع عروش أرباب الولاية والملك.
قيل: كان ثمانين ذراعا في ثمانين، وارتفاعه ثلاثين أو ثمانين أيضا، وهو متخذ من الذهب والفضة، مكلل بالدر والزمرد، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وزمرد، وعليه سبعة بيوتات على كل بيت باب مغلق.
{ وجدتها وقومها يسجدون للشمس } ويعبدونها { من دون الله } المستحق للتذلل والعبادة { و } من غاية جهلهم بالله، وغفلتهم عن كمال أوصافه وأسمائه الحسنى { زين لهم الشيطان أعمالهم } هذه وعبادتهم للشمس { فصدهم } وصرفهم بتزيينه وتغريره { عن السبيل } السوي، الموصل إلى توحيد الحق الحقيقي بالعبودية والتذلل { فهم } بسبب تضليل الشيطان وتغريره، ورسوخهم على ما زين لهم { لا يهتدون } [النمل: 24] إلى التوحيد بمقتضى فطرتهم الأصلية وجبلتهم الحقيقية.
فلا بد لهم من مرشد كامل، وهاد مشفق يهديهم إلى سواء السبيل، مع أنهم من زمرة العقلاء المميزين بين الهداية والضلالة، ولكنهم بانهماكهم في الغفلة والغرور، زين لهم الشيطان عبادة الشمس التي هي من جملة مظاهر الحق، مقتصرين العبادة عليها؛ لقصور نظرهم، ولو نبههم منبه نبيه على توحيد الله واستقلاله سبحانه في جميع مظاهره، لعل الله يوقظهم من منام الغفلة.
بأن قال لهم مناديا إياهم: { ألا يسجدوا } يعني: تنبهوا أيها الفاقدون قبلة سجودكم وجهة معبودكم، أيها القوم الضالون المنصرفون عن المسجود الحقيقي والمعبود المعنوي، بل اسجدوا وتذللوا { لله } المتجلي في الأكوان، المنزه عن الحلول في الجهات والمكان، المقدس عن تتابع الساعات وتعاقب الأزمان، بل له شأن لا يشغله شأن ولا يجري عليه زمان ومكان { الذي يخرج } يمقتضى علمه المحيط، وقدرته الكاملة الشاملة { الخبء } أي: الخفي المطوي المكنون { في السموت والأرض } أي: سماوات الأسماء الإلهية، وأوصافه الذاتية الفاعلة، وأرض الطبيعة القابلة لقبول الانعكاس من الأسماء والأوصاف { ويعلم } سبحانه بعلمه الحضوري { ما تخفون } في سرائركم وضمائركم، بل بخفياتكم التي لا اطلاع عليها أصلا بمقتضى قابلياتهم واستعداداتهم { وما تعلنون } [النمل: 25] من أفعالهم وأحوالهم.
وكيف لا يظهر المكنون من الأمور، ولا يعلم خفيات الصدور { الله } الواحد الأحد الصمد، الحي القيوم الذي { لا إله } أي: لا موجود في الوجود { إلا هو رب العرش العظيم } [النمل: 26] المحيط بجميع ما لمع عليه برق تجلياته المتشعشة المتحددة المترتبة على أسمائه الذاتية الكاملة، المستدعية للظهور والبروز بإظهار ما كمن من الكمالات، المندمجة في الذات الأحدية إلى فضاء الوجود.
[27.27-35]
وبعدما سمع سليمان عليه السلام منه ما سمع { قال } ممهلا عليه: { سننظر } ونصبر إلى يظهر { أصدقت } فيما أخبرت به { أم كنت من الكاذبين } [النمل: 27] المزورين زورت هذا؛ لتخلص من العذاب؟.
ثم أراد سليمان - صلوات الرحمن عليه وسلامه - أن يرسل رسولا إلى بلفيس فكتب كتابا هكذا: " بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين " ثم طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } بحيث لم يتفطنوا بك وبأمرك { ثم تول } وانصرف { عنهم } وكن متواريا في قربهم { فانظر } وتأمل { ماذا يرجعون } [النمل: 28] أي: ماذا يرجع ويرد بعضهم بعضا من الكلام في المشاورة والمكالمة؟ فأخذ الهدهد الكتاب، وأتى بلقيس وهي نائمة في قصرها، فألقاه على نحرها، فلما استيقظت رأت الخاتم في نحرها، فرعدت وخضعت خوفا، ثم جلست مع أشراف قومها وتشاورت معهم في أمر الكتاب.
حيث { قالت } منادية مستفتية منهم: { يأيها الملأ إني ألقي إلي } اليوم { كتاب كريم } [النمل: 29] وصفته بالكرامة؛ لأنها نائمة في قصرها والأبواب مغلقة عليها، فرأت في صدرها هذا بلا إحضار محضر، كأنهم قالوا: ممن؟ وما مضمونه؟.
قالت: { إنه } أي: الكتاب مرسل { من سليمان وإنه } أي: مضمونه: { بسم الله الرحمن الرحيم } [النمل: 30].
{ ألا تعلوا } أي: عليكم ألا تترفعوا ولا تتكبروا { علي } ولا تبالوا ببسطكم وشوكتكم { و } لا يليق بشأنكم الإتيان على وجه الخضوع بلا كبر وخيلاء، وإذا انحضر أمركم على الإتيان { أتوني مسلمين } [النمل: 31] منقادين لأمر الله، مطيعين لحكمه وحكم رسوله بلا ممانعة وإباء.
ثم لما قرأت مضمون الكتاب عليهم، وشرحت لهم فحواه { قالت } خائفة مضطربة، منادية لهم ثانيا تأكيدا للتأمل والتدبر في هذا الأمر الهائل: { يأيها الملأ أفتوني } أي: أجيبوا علي وأشيروا إلي { في أمري } هذا، واختاروا ما هو الأحوط، واستفتوا طريقا ورأيا، أختار ذلك قطعا، وآمر بها حكما؛ إذ { ما كنت قاطعة أمرا } أمضي عليه وأجزم به { حتى تشهدون } [النمل: 32] له وتستصوبونه، بل الأمر مفوض إليكم، فاستصوبوا ما أقر رأيكم عليه؛ حتى أمضي على مقتضاه.
وبعدما فوضت أمرها إليهم استعطافا واستظهارا { قالوا } مستعلين مستكبرين على مقتضى أصحاب القدرة والقوة، وأرباب الجاه والثورة: { نحن } قوم { أولو قوة } وقدرة تامة عددا وعددا { وأولو بأس شديد } قد انتشر صيتنا في الآفاق بالشدة والشجاعة وأنواع الجراءة والاستيلاء، والصولة على الأعداء، فنحن هكذا ولا خوف لنا منهم { والأمر } بعد ذلك { إليك } ونحن عبيدك { فانظري ماذا تأمرين } [النمل: 33] من القتال والصلح، نعمل على وفق ما أمرتنا به.
{ قالت } في جوابهم بعدما تأملت، وتعمقت في أمرها ورأيها: نعم، إن لنا كثرة وشجاعة منتشرة في أقطار الأرض بأسها وهيبتها، إلا أن الحرب خداع، والقتال سجال لا تدرى عاقبتهما، ولا اعتماد على الكثرة والجراءة بعدما نفذ القضاء على الهزيمة، ومن المقدمات المسلمة { إن الملوك } وأرباب القدرة الاستيلاء { إذا دخلوا قرية } عنوة وقهرا { أفسدوها } بأن غيروا لها أوضاعها { وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة } بالغلبة والاستيلاء { وكذلك يفعلون } [النمل: 34] هؤلاء لو دخلوا على بلادنا هذه.
{ و } ما يليق لنا اليوم، ولا يصلح بحالنا مقارعة باب المقاتلة والمصالحة أيضا، بل { إني مرسلة } رسلا { إليهم } أولا مصحوبة { بهدية } كثيرة لائقة بعظم شأنهم لأختبرهم { فناظرة } منتظرة بعد ذلك { بم يرجع المرسلون } [النمل: 35] أي: بأي شيء يرجعون من عندهم بعد تجسسهم من أحوالهم وأطوارهم ومعاشهم مع رسلنا؛ حتى أعمل على ما يقتضى ما يرجعون، هذا من كمال عقلها ورزانتها في تدبيرات المملكة وصيانتها آداب السلطنة والإمارة وضبط المملكة.
وروي أنها أرسلت منذر بن عمرو في وفد، وأرسلت معه غلمان على زي الجواري، وجواري على زي الغلمان، وحقة فيها درة عذراء لا ثقب فيها، وجزعة معوجة الثقب، وقالت: إن كان نبيا بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبا مستويا، وسلك في الجزعة خيطا، ومعها أموال عظام من لبنات الذهب والفضة، والعود والعنبر والكافور والمسك، وأجناس الجواهر والنفائس من كل شيء، فلما وصلوا معسكره رأوا عظمة ما شاهدوا مثلها ولا سمعوا من أحد.
[27.36-40]
{ فلما جآء } الرسل { سليمان } وحضروا عنده نظر إلأيهم بوجه حسن طلق، وتكلم معهم لينا حزينا مخبرا عن أحوال ملكتهم ومملكتهم، ثم قال: ما أمركم ومصلحتكم؟ فأطعوا كتاب بلقيس فنظر فيه، فإذا هي فصلت فيه جميع ممتحناتها، قال سليمان عليه السلام: أين الحقة؟ فجيء بها فقال: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة معوجة الثقب، فأمر سليمان الأرضة فأخذت شعرة، فدخلت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر، وأمر دودة أخرى حتى دخلت في الجزعة المعوجة الثقب بخيط حتى خرجت من الجانب الآخر، وميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم بغسل وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها وتصب في الأخرى، ثم تضر وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه.
ثم أتوا ببقايا الهدايا المرسله فأبى سليمان عنها، ورد كله إليهم مهددا عليهم حيث { قال أتمدونن } وتزيدونني { بمال } يميل إليها أبناء الدنيا المحرومين عن اللذات الأخروية { فمآ آتاني الله } المنعم المفضل علي من الأمور الأخروية من النبوة والرسالة، وتسخير الثقلين والرياح والطيور والوحوش، وجميع من الجو وعلى وجه الأرض { خير ممآ آتاكم } من حطام الدنيا ومن مزخرفاتها الفانية، فما لنا ميل والتفات إليها { بل أنتم } وأمثالكم من أبناء الدنيا { بهديتكم } هذه { تفرحون } [النمل: 36] أي: تميلون وتسرون بها؛ لفخركم بأمثال هذه الزخارف؛ لقصور نظركم عليها وغفلتكم عن الأمور الأخروية.
{ ارجع } أيها الرسول { إليهم } أي: إلى ملكتك ومن معها أي: إلى ملكتك ومن معها من الجنود، وقل لهم: مطلوبي منهم الإيمان بالله المتوحد بالألوهية والربوبية، والانقياد إليه والإطاعة لأحكامه فلهم الإتيان إلي مؤمنين مسلمين منقادين وإلا { فلنأتينهم بجنود } من الإنس والجن وأصناف الوحوش والطيور، وأنواع الهوام والحشرات بالغة من الكثرة إلى حد { لا قبل لهم بها } أي: لا يسع لهم مقابلتها من بعيد، فكيف ممانعتها ومقاتلتها؟! { و } بعدما لم يسع لهم المقابلة { لنخرجنهم منهآ } أي: من بلادهم { أذلة } ضعفاء ذليلين بأيدينا { وهم } حنيئذ { صاغرون } [النمل: 37] مهانون أسراء بأيدي هؤلاء العفاريت.
ثم لما رجع رسلها مع ما أهدت من الهدايا على وجهها قالت بلقيس: قد عرف أنه ليس بملك، بل نبي من الأنبياء مؤيد بأمر سماوي، وما لنا طاقة مقاومة ومقابلة معه سوى المصالحة والإطاعة بأمره والحضور عنده.
ثم أرسلت بلقيس إليه - صلوات الرحمن عليه - ثانيا: إني قادمة إليك عن قريب فيهأت أسبابه حتى تخرج، وجعلت سريرها داخل سبعة أبواب في قصرها، وقصرها داخل سبعة قصور، وأغلقت على الأبواب كلها، وجعلت عليها حرسا متعددة، وارتحلت إلى سليمان، فلما دنت إليه رأى سليمان حين كان على سريره جما غفيرا من السواد مسيرة فرسخ فسأل عنهم، فقالوا: بلقيس أتت بجنودها مطيعين مسلمين.
{ قال } سليمان لمن حوله من الج والإنس: { يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني } ويحضروا عندي { مسلمين } [النمل: 38] مؤمنين؛ إذ بعدما أتوا لا يجوز إتيان عرشها إلا بإذنها؛ إذ لا يصح نقل مال المسلم إلا بإذنه.
{ قال عفريت } أي: خبيث مارد { من الجن } اسمه ذكوان أو صخرا: { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي: مجلسك الذي تجلس عليه أنت للحكومة؛ إذ من دأبه الجلوس إلى وقت الزوال؛ يعني: آتيك به قبل إتيانها { وإني عليه } أي: على حمل عرشها { لقوي } أحمله بلا تزلزل أركانه وقوائمه { أمين } [النمل: 39] لا أتصرف منه شيئا من زينته وجواهره، فاستبطأ عليه السلام إتيانه، وطلب أسرع من ذلك.
{ قال الذي عنده علم } فائض له { من الكتاب } أي: من حضرة العلم الإلهي المعبر بالقضاء واللوح المحفوظ، وعالم الأسماء والأعيان الثابتة، به يقدر على إحضار شيء وإعدامه دفعة، وكان هو وزيره آصف بن برخية، قد انكشف عليه خواص الأسماء الإلهية ففعل بها ما فعل: { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } أي: قبل أن تعيد وتطبق أجفانك حين نظرك، وهذا كناية عن كمال الرسعة والعجلة، فأتى به طرشفة عين { فلما رآه } أي: سليمان العرش { مستقرا عنده } قبل إتيان بلقيس { قال } سليمان عليه السلام متوجها إلى ربه، مذكرا نعمه الفائضة على نفسه، مجددا الشكر إياها: { هذا } أي: حضور العرش العظيم الثقيل في غاية الثقل والعظمة في آن و احد، مع أنه كان في مسافة بعيدة { من } جملة { فضل ربي } علي، ومن عداد جلائل إنعامه وأفضاله إلي.
إنما تفضل سبحانه علي بهذا { ليبلوني } ويختبروني { أأشكر } بمواظبة شكر نعمه المتواترة علي، بحيث أعجز عن أداء حق شكره، وأعترف بالعجز والقصور عن إحاطة نعمه، فيكف أداء حقوقها؟! { أم أكفر } لنعمه، ولا أقسيم بمقام الشكر عليها، وإن الإقامة والتوفيق عليها أيضا من جملة نعمه وفضله وكرمه، ولا عائدة من شكرنا إليه سبحانه؛ إذ هو منزه عنها؟! بل { ومن شكر } على نعم الحق، وصرفها على مقتضى ما جبلها الحق لأجله { فإنما يشكر } الشاكر { لنفسه } لازدياد النعم عليها بمزيد الشكر { ومن كفر } فإنما يكفر لنفسه بانتقاص النعم عليها { فإن ربي غني } في ذاته عن جميع العوائد { كريم } [النمل: 40] جواد لا يعلل فعله بالأغراض وإنعامه بالأعواض.
[27.41-44]
ثم لما دنت بلقيس مع من معهها من أشراف قومها بالدخول على سليمان عليه السلام والعرش عنده { قال } لمن حوله: { نكروا لها عرشها } حين جلست؛ أي: غيروا بعض أوضاعه وزينته { ننظر أتهتدي } وتتعقل أنه هو { أم تكون من الذين لا يهتدون } [النمل: 41] لاستحالة أن يكون هذا هو عادة؟ إنما قصد به عليه السلام اختبار عقلها ورشدها واستعدادها للإيمان بالمغيبات والمستبعدات الخارقة للعادات، فغير عرشها على الفور، وقد بنى سليمان صرحا ممردا من قوارير ووضع سريره فيها، وهي على الماء، ومن غاية صفائها لا يتميز عن الماء، وفي الماء حيوانات مائية المولد من الحوت والضفدع وغيرها.
{ فلما جآءت } بلقيس، وهو في ذلك الصرح على السرير { قيل } لها أولا: { أهكذا عرشك قالت } بعدما أمعنت نظرها نحو العرش: { كأنه هو } أتت بكلمة التشبيه، وقد تحقق عندها أنه هو؛ صيانة لنفسها عن الكذب { و } بعدما تفرست منه التصديق لقولها بادرت إلى تصديق نبوته، فقالت: لا حاجة لا إلى اختبارك بأمثال هذه المعجزات حتى نؤمن لك؛ إذ { أوتينا } المتعلق منا بصدقك وتصديق نبوتك { العلم من قبلها } أي: قبل ظهور هذه المعجزة الخارقة للعادة بأمور اختبرناك بها { وكنا مسلمين } [النمل: 42] منقادين لك، مسلمين نبوتك وتأييدك من قبل الحق.
{ و } من فضل الله إياها أنه { صدها } وصرفها بعدما ظهر عندها نبوة سليمان عليه السلام { ما كانت تعبد من دون الله } يعني: صرفها الحق عن عبادة الشمس؛ إذ عبدتها تقليدا لأسلافها { إنها كانت } منتشئة { من قوم كافرين } [النمل: 43] جاحدين لله، عابدين للشمس.
ثم { قيل } أي: قال سليمان عليه السلام آمرا { لها ادخلي الصرح } فبادرت إلى الإجابة { فلما رأته } أي: القصر { حسبته لجة } فيها أنواع الحيوانات المائية { وكشفت عن ساقيها } أي: رجليها؛ لتدخل فيها، فلما رأى سليمان ساقيها، وقد أخبر أن ساقيها لا كساق الإنسان؛ لذلك احتال بناء قصر القوارير؛ حتى يظهر عنده هل هو مطابق للواقع أم لا؟ فلما رأها أحسن ساقا قدما، لكن على ساقيها شعر صرف وجهه عنها مستغفرا، ثم { قال } لها: { إنه صرح ممرد } أي: بنيان مملس مصنوع { من قوارير } أي: من زجاج فأرخت ذيلها فدخلت، وبعدما رأت اللجة ظنت أنه يستغرقها بها عمدا، فلما ظهر عندها خلافه { قالت } مستغفرة عن سوء ظنها إياه: { رب إني ظلمت نفسي } بهذا الظن الفاسد عن نبي الله { وأسلمت مع سليمان لله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والربوبية؛ لكونه { رب العالمين } [النمل: 44] لا رب له سواه، ولا إله إلا هو.
وقد اختلف في توزجها، والأصح أنه تزوجها، ثم انقرض هي وسليمان ومن عليها جميعها؛ إذ
كل يوم هو في شأن
[الرحمن: 29] و
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن: 26-27].
[27.45-47]
{ و } من وفور وجودنا وإحساننا { لقد أرسلنآ إلى ثمود } حين لاح عليهم أمارات العدوان، وعلامات الفسوق والعصيان { أخاهم صالحا أن اعبدوا الله } أي: بأن اعبدوه حق عبادته، وتذللوا نحوه ولا تتكبروا عليه بالخروج عن مقتضى أوامره وحدوده { فإذا هم فريقان يختصمون } [النمل: 45] أي: بعدما أظهر عليهم الدعوة فاجئوا على الافتراق؛ حيث آمن له البعض، وصدقه وأعرض عنه البعض الآخر فكذبه، فاختصما.
{ قال } صالح للمعرضين المكذبين: { يقوم } شأنكم الحذر والإعراض من عذاب الله ونكاله، وعن موجبات قهره وأسباب عضبه { لم تستعجلون بالسيئة } الموجبة لأنواع العذاب والقهر الإلهي { قبل الحسنة } المستجلبة لعموم الخيرات { لولا } أي: هلا { تستغفرون الله } العفو الغفور؛ لكفركم وذنبكم الذي صدر عنكم { لعلكم ترحمون } [النمل: 46] قبل نزول عذابه عليكم؛ إذ حين نزول العذاب لا ينفع توبتكم واستغفاركم.
وبعدما ظهر عليهم أمارات قهر الله وغضبه إياهم ووقع الجدب بينهم { قالوا } مغاضبين على صالح: { اطيرنا } أي: تطيرنا وتشاءمنا { بك وبمن معك } من المصدقين لك، المتدينين بدينك؛ إذ توارت علينا المصيبات مذ ظهرتم بدينكم هذا، ووقعت الوقائع الهائلة بشؤمكم وحدوث دينكم، وبعدما سمع منهم صالح ما سمع آيس عن إيمانهم وصلاحهم { قال طائركم } أي: سببكم الذي جاء منه شركم وخيركم { عند الله } وفي لوح قضائه وحضرة علمه، كتب عليكم الخير والشر حسب ما صدر عنكم من الأعمال الصالحة والطالحة، ولا معنى لتطيركم وتشاؤمكم بنا { بل أنتم قوم تفتنون } [النمل: 47] وتخبرون بتفاقهم المحن، وتلاطم أمواج الفتن؛ كي تستغفروا وتندموا عما أنتم عليه من الكفر، وتستأصلوا من الكفر والعصيان، وتستأصلوا بنزول عذاب الله، وبعدما سمعوا منه كلامه هذا قصدوا مقته وإهلاكه.
[27.48-53]
{ وكان في المدينة تسعة رهط } أي: تسعة رجال اتفقوا إلى حيث صاروا رهطا واحدا متفقين على قهره وقتله، والرهط جمع لا واحد له، يطلق على ما دون العشرة، وكان شأنهم مقصورا على الإفساد والفساد { يفسدون في الأرض } بأنواع الفسادات { ولا يصلحون } [النمل: 48] أصلا في حال من الأحوال.
وبعدما ظهر عليهم أمارات العذاب الإلهي، وتحقق عندهم نزوله قصدوا إهلاك صالح ومن معه قبل إهلاكهم، حيث { قالوا } في ما بينهم: { تقاسموا بالله } بأن حلف كل منكم عند صاحبه { لنبيتنه وأهله } ونهلكنه قبل إلمام العذاب علينا { ثم لنقولن لوليه } عند طلب ثأره مبالغين في الإنكار: { ما شهدنا } في مدة عمرنا { مهلك أهله } أي: المكان الذي أهلك فيه صالح. فكيف قتلنا إياه؟! { و } نؤكد قولنا هذا بالقسم أيضا عند وليه، ونقسم { إنا لصادقون } [النمل: 49] في قولنا هذا، وما لنا علم بأهلاكه.
{ ومكروا } واحتالوا، لمقت نبينا { مكرا } بلغيا { ومكرنا } أيضا؛ لهلاكهم واستئصالهم { مكرا } أبلغ من مكرهم، بأن أمرنا الملائكة حي يمم أولئك المفسدون الماكرون؛ لقتل صالح، وأخذوا يطلبونه أن يرجمهم بالحجارة، ويصيح عليهم بالصيحة الهائلة عند الرجم، ففعلوا معهم كذلك { وهم } حينئذ من شدة هولهم وفزعهم { لا يشعرون } [النمل: 50] الصائح والرماة، فهلكوا بالمرة بلا وصول إلى من مكروا لأجله.
{ فانظر } أيه الناظر المعتبر { كيف كان عاقبة مكرهم } واصلة إليهم لاحقة بهم وبالجملة: { أنا } من مقام قهرنا وجلالنا { دمرناهم } وأهلكنا؛ أي: التسعة المتقاسمين { وقومهم } أيضا { أجمعين } [النمل: 51] إلى حيث لم يبق منهم أحد يخلفهم.
{ فتلك } الأطلال الخربة والرسوم المندرسة { بيوتهم } ومساكنهم التي شيدوها وحصنوها بأنواع التشييدات والمترصفات والتجصيصات انظر كيف صارت { خاوية } ساقطة جدرانها على سقوفها منعسكة، كل ذلك { بما ظلموا } وبشؤم ما خرجوا على مقتضى الحدود الإلهية عتوا واستكبارا { إن في ذلك } المكر والإهكلا { لآية لقوم يعلمون } [النمل: 52] دالة على كمال قدرتنا على انتقام من خرج عن ربقة انقيادنا وطاعتنا.
{ و } بعدما أهلكناهم صاغرين { أنجينا الذين آمنوا } بتوحيدنا، وصدقوا رسلنا سالمين غانمين { و } هم من كمال إخلاصهم وخشيتهم { كانوا يتقون } [النمل: 53] ويحذرون من قهرنا وغضبنا، ولا يسيئون الأدب معنا ومع رسلنا.
[27.54-59]
{ و } من مقتضيات حكمتنا المتقنة أرسلنا { لوطا } إلى قوم خرجوا عن مقتضى حدودنا تاركين حدود حكمة التناسل والتوالد وإبقاء النوع، مبدلين لها إلى ما هو مذموم عقلا وشرعا، وعرفا وعادة، ومروءة وطبعا، اذكر يا أكمل الرسل { إذ قال لقومه } مستفهما منهم على سبيل الإنكار والتوبيخ: { أتأتون الفاحشة } والفعلة القبيحة الشنيعة { وأنتم تبصرون } [النمل: 54] وتشاهدون قبحها وشنعتها وقت ما فعلتم وآتيتم.
{ أإنكم } أيها المسرفون المتسعبدون للشهوة { لتأتون الرجال } الذين هم مثلكم في الرجولية { شهوة من دون النسآء } مع أن الحكمة الإلهية تقتضي إيتاءهن للتناسل وبقاء النوع كسائر أنواع الحيوان، وهؤلاء مع جهلهم لا يخرجون عن مقتضى الحكمة، وأنتم أيها الحمقى مع أنكم مجبولون على العقل الفطري المميز بين الذمائم من الأخلاق والأطوار وحميدتها، تخرجون من مقتضاها { بل أنتم } بفعلتكم هذه { قوم تجهلون } [النمل: 55] منسلخون عن مقتضى العقل الإدراك المميز للإنسان عن سائر الحيوان، بل أسوأ حالا من الحيوانات العجم؛ إذ لا يتأتى منها أمثال هذا إلا من الحمار الأرذل الأنزل، انظروا ما هو شريككم في فعلتكم هذا أيها الحمقى المسرفون المفرطون.
{ فما كان جواب قومه } بعدما سمعوا منه أنواع الشتنيعات والتقريعات { إلا أن قالوا } من فرط انهماكهم في الغي والضلال، ونهاية عمههم وسكرتهم في رق شهواتهم ولذاتهم البهيمية متشاورين بينهم، متقاولين: { أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } [النمل: 56] عن أفعالنا ويتنزهون، ولا مناسبة بيننا وبينهم، فلهم أن يخرجوا من بيننا؛ حتى لا يتلوثوا بأفعالنا ويتنزهون، ولا مناسبة بيننا وبينهم، فلهم أن يخرجوا من بيننا؛ حتى لا يتلوثوا بأفعالنا، إنما قالوا هكذا تهكما واستهزاء.
ثم لما استحقوا نزول العذاب والإهلاك ، وحان حلول البوار عليهم { فأنجيناه } أي: أخرجنا لوطا من بينهم { و } أمرناه أن يخرج { أهله } أيضا عناية منا إياهم { إلا امرأته } المائلة عليهم، والراضية بفعلهم؛ لأنها منهم، لذلك { قدرناها } في سابق قضائنا { من الغابرين } [النمل: 57] الهالكين.
{ و } بعدما أخرجنا لوطا وأهله من بينهم { أمطرنا عليهم مطرا } أي: مطر، وهو مطر الحجارة المهلكة { فسآء مطر المنذرين } [النمل: 58] مطرهم الذي أمطروا به، بحيث لم يبق منهم ومن مساكنهم ومواشيهم شيء أصلا.
وبعدما قص سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم قصص بعد أرباب الطبقات من الأنبياء والرسل المختصين بأنواع الفضائل والكرامات الموهبة من عنده سبحانه إياهم تفضلا عليهم وامتنانا، أمره سبحانه بأن بادر إلى تجديد الشكر والثناء عليه سبحانه بما أولاهم من النعم العظام، وأعطاهم من الفواضل الجسام إيفاء لحقوق المؤاخاة، والاتحاد الحقيقي الواقع بين الأنبياء والرسل الكرام بعد رفع الإضافات وخلع التعينات.
وقال سبحانه: { قل } يا أكمل الرسل بعدما تلونا عليك بعض فضائل إخوانك تحميدا علينا من قبلهم، وتسليما منا إياهم: { الحمد } والثناء الكامل اللائق { لله } الواحد الأحد، الحقيق بجميع المحامد والأثنية الصادرة عن ألسنة عموم من رش عليهم رشحات بحر وجوده، وامتد عليهم أضلال أسمائه وصفاته بمقتضى وجوده { وسلام } من سبحانه ورحمة نازلة على التواتر والتوالي { على عباده الذين اصطفى } واختارهم من بين البرايا التائهين في بيداء الغفلة والضلال، وتكميل الناقصين المنحطين عن رتبة الخلافة والنيابة بميلهم إلى قاذورات الدنيا العائقة عن الوصول إلى در الخلافة التي هي التوحيد المسقط لتوهم الإضافات مطلقا.
قل يا أكمل الرسل بعدما ظهر الحق مستفهما، مقرعا للمشركين المتخذين غير الله إلها جهلا وعنادا: { ءآلله } الواحد الأحد، القادر المتقدر، المدبر لأجله من معرفة مبدئه ومعاده { خير أما يشركون } [النمل: 59] له عنادا ومكابرة من الأظلال الهالكة في أنفسها، المجبورة تحت قهر الله وقدرته الكاملة.
[27.60-63]
ثم قرع عليه سبحانه من التقريعات والتوبيخات ما قرع تتميا لردعهم، وتكميلا لزجرهم فقالأ: { أمن خلق السموت } أي: عالم الأسباب العادية { والأرض } أي: عالم الطبيعة القابلة لقبول فيضان آثار الفواعل العلوية { و } من { أنزل لكم من } جانب { السمآء مآء } محييا أموات الأراضي اليابسة بالطبع { فأنبتنا به } أي: بالماء بعدما أنزلناه من جانب السماء { حدآئق ذات بهجة } وبهاء ونضارة وصفاء { ما كان } أي: ما صح وأمكن { لكم أن تنبتوا شجرها } بل ولا شجرة واحدة من جملة أشجارها، لولا إمداد الله وإنباته إياها { أإله } أي: تدعون وتدعون إلها آخر { مع الله } المدبر لمصالحكم بالاستقلال والإرادة والاختيار { بل هم } أي: المتخذون غير الله إلها { قوم يعدلون } [النمل: 60] عن الحق الصريح الذي هو التوحيد إلى الباطل الذي هو الشرك في ألوهيته، وإثبات الغير معه في الوجود، وادعاء استحقاق العبادة إياه عنادا ومكابرة.
{ أمن جعل الأرض قرارا } أي: مقرا تستقرون عليها وتعيشون فيها، مع ان طبع الماء يقتضي الإحاطة بجميع جوانبها؛ بحيث لا يبدوا من كرة الأرض شيئا خرجا منه { و } بعد إبداء بعضها من الماء عناية من سبحانه إياكم { جعل خلالهآ } أي: أوساط الأرض البادية { أنهارا } جارية؛ تتميما لأمور معاشكم عليها { وجعل لها رواسي } أي: الأرض رواسي؛ أي: جبالا شامخات، وسير فيها معادن الفلزات، ومنابع المياة ومراتع الحيوانات تتميما وتكميلا لمصالحكم ومعايشكم.
{ وجعل } من كمال لطفه ومرحمته { بين البحرين } العذب والمالح { حاجزا أإله } مانعا؛ لئلا يختلط ويختل نظام معاشكم عليها؛ أي: أتدعون أيها الجاهلون { مع الله } المتوحد المتفرد في ذاته، المستقل في تصرفاته الواقعة في مملكته؟! { بل أكثرهم } لانهماكهم في الغفلة والجهل عن الله وحق قدره وقدر ألوهيته { لا يعلمون } [النمل: 61] شيئا من آداب عبوديته؛ لذلك ينسبون إليه سبحانه ما لا يليق بشأنه جهلا ومكابرة.
{ أمن يجيب المضطر } القلق الحائر في أمره بلا رشد منه إلى مخرجه ومخلصه { إذا دعاه } دعوة مؤمل ضريع سواه سبحانه { و } من { يكشف السوء } المتفاقم على ذوي الأحزان والملمات { و } من { يجعلكم خلفآء الأرض } من الأسلاق الذين مضوا عليها { أإله مع الله } الواحد الأحد الصمد تدعوان أيها الجاهلون المسرفون المكابرون، ومن نهاية جهلكم وغفلتكم عن ألوهية الحق، وغاية غيكم وضلالكم عن توحيده { قليلا ما تذكرون } [النمل: 62] أي: قليلا منكم تتذكرون آلاء الله ونعمائه المتواطئة المترادفة عليكم.
{ أمن يهديكم } ويرشدكم أيها الحمقى { في ظلمات البر والبحر } بالنجوم الزاهرات { ومن يرسل الرياح } المبشرات لتكون { بشرا بين يدي رحمته } أي: بشارة بالمطر المحيي لأموات الأرضي بأنواع النباتات، والحيوانات المبقية لأصناف المخلوقات { أإله } قادر على أمثال هذه الأفعال المتقنة والآثار المحكمة { مع الله } المستقل بالقدرة الكاملة والحكمة الباهرة، والرحمة العامة الشاملة تدعون وتعبدون { تعالى الله } المنزه في ذاته عن مشابهته للأمثال، ومشاركته مع غيره في الآثار والأفعال، سيما { عما يشركون } [النمل: 63] له أولئك المشركون المسرفون.
[27.64-66]
{ أمن يبدؤا } ويظهر { الخلق } أي: عموم المخلوقات والمكونات من كتم العجم بعدما لم يكن شيئا مذكورا برش نوره عليها، ومد ظله إليها بمقتضى لطفه وجماله { ثم } بعد إظهاره وإيجاده من { يعيده } ويبعثه بعد إعدامه وإماتته بمقتضى قهره وجلاله { ومن يرزقكم } ويقوم مزاجكم بأنواع الأغذية الحاصلة { من } أسباب { السمآء } قوابل { والأرض أإله مع الله } القادر المقتدر على إنشاء البدائع، وإبداء الغرائب والعجائب المكنونة في التراب؛ ليتكون غذاء لمن عليها من الحيوانات تثبتون وتشركون أيها الحمقى المسرفون، المشركون المكابرون، فإن أصروا على شركهم وكفرهم بعدما سمعوا قوارع الدلائل القاطعة، والشواهد الساطعة { قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا: { هاتوا } أيها الحمقى { برهانكم } على دعواكم ألوهية معبوداتكم { إن كنتم صادقين } [النمل: 64] في هذه الدعوى.
وبعدما تم إلزامك عليهم، وتبكيتك إياهم { قل } يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد، خاليا عن وصمة الكثرة مطلقا: { لا يعلم من } ظهر { في السموت } أي: العلويات { و } من ظهر في { الأرض } أي: السفليات من المظاهر المجبولة فيهما على فطرة الشعور والإدراك { الغيب } الذي غاب عن مداركهم وعقولهم وحواسهم { إلا الله } المنزه عن الأماكن والأزمان، بل الكل في حيطة أسمائه وأوصافه، والمبرأ عن الاشتراك في جنس وعن الامتياز بفصل، فإنه واحد لا يشارك مع شيء عنه بشيء، بل وحدته لا كسائر الوحدات، ولا علمه كسائر العلوم، وكذا جميع صفاته وأسمائه، فإنه سبحانه يعلم بعلمه الحضوري جميع ما ظهر وبطن، وغاب وشهد بلا تفاوت، بل الكل في ساحة عز حضوره على السواء بلا اختلاف من الخفاء والجلاء.
{ و } إن اجتهد أولئك الصالحون من أهل السماوات والأرضين { ما يشعرون } ويدركون { أيان يبعثون } [النمل: 65] أي: متى يبعثون، وفي أي آن يحشرون من قبور تعيناتهم، وأجداث هوياتهم؛ للوقوف بين يدي الله؛ وإن وصلوا بعدما اجتهدوا بتوفيق الله وتيسيره، إن وقوفهم بين يديه للعرض والجزاء كائن لا محالة، لكنهم ما وصلوا إلى مرتبة يسع لهم تعيين وقت الحشر والنشر؛ إذ يعبتر وقت البعث من جملة الغيوب التي استأثر الله بها، ولم يطلع أحدا من الأنبياء وأوليائه عليها.
{ بل ادارك } أي: بلغ وتدارك، ووصل { علمهم } أي: علم العلماء وأرباب الشعور والإدراك بعدما كوشفوا بإلهما الله وجذب من جانبه، و { في } تحقق النشأة { الآخرة } وما فيها من المعتقدات المحققة من الحشر والنشر، والصراط والسؤال، والجنة والنار، والثواب والعقاب، وجميع الأمور التي نطقت بها ألسنة الكتب والرسل { بل هم } أي: بل أكثر الناس { في شك } وتردد { منها } أي: من الآخرة ومن الأمور الكائنة فيها { بل هم } أي: بل أكثرهم { منها } ومن الأمور الموعودة فيها { عمون } [النمل: 66] غافلون منكرون، لا يعتقدون ولا يقبلون، بل ينكرونها أشد إنكار، ويكذبونها أبلغ تكذيب.
[27.67-75]
{ و } من شدة إنكارهم وتكذيبهم { قال الذين كفروا } بالله وبجميع ما وعد سبحانه في يوم العرض والجزاء، على سبيل الاستبعاد والاستنكار مستفهمين مستهزئين: { أإذا كنا ترابا وآبآؤنآ } أيضا كذلك { أإنا } وهم { لمخرجون } [النمل: 76] من قبورنا أحياة على الوجه الذي كنا عليه في مدة حياتنا قبل طريان الموت علينا، كلا وحاشا؛ إذ هو من جملة الأمور المستحيلة التي تأبى العقول عن قبولها.
ولا منشأ له سوى أنا { لقد وعدنا هذا } أي: البعث والحشر { نحن } اليوم على هذا المدعي للرسالة والنبوة { و } وعد { آبآؤنا } أيضا { من قبل } على ألسنة المدعين الآخرين الذين مضوا، وكان أسلافهم أيضا كذلك على ألسنة أسلاف آخرين مدعين وهكذا، وبالجملة: { إن هذآ } أي: ما هذا الوعد بالبعث والجزاء { إلا أساطير الأولين } [النمل: 68] أي: أكاذيبهم الموروثة لأخلافهم اللاحقين المتأخرين عنهم، وبالجملة: ها ديدنة قديمة، وعادة مستمرة بقيت بين الأنام من قديم الأيام؛ لتخويف العوام بلا وقوع ولا إمكان وقوع أيضا.
ثم لما بالغ أولئك الهالكون في تيه الضلال في تكذيب يوم الجزاء، وأصروا على ما هم عليه من الكفر والإنكار من متابعة الأهواء والآراء { قل } يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المجادلة والمراء، وما درأ عن محض العبرة والحكمة والاستبصار آمرا لهم على سبيل الاعتبار: { سيروا } أيها المنكرون المكابرون ليوم العرض والجزاء { في الأرض } التي هي محل العبرة ونزول الاستبصار { فانظروا } معتبرين متأملين { كيف كان عقبة المجرمين } [النمل: 69] المكذبين كمال قدرة الله القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بلا فتور ولا قصور.
ولا ينتهي قدرته دون مراد ومقدور، بل له إعادته كما له إبراؤه من جمع أجزائه ولوازمه وعوارضه من الزمان والمكان، والحركات والسكنات، وجميع الأطوار والأحوال الطارئة عليها من مبدأ حدوثها إلى منتهى حياتها؛ إذ جميع ما جرى عليه وصدر عنه حاضر عنده سبحانه، غير مغيب عنه بلا انقضاء في حضرة علمه، وإمضاء من لوح قضائه؛ إذ عنده سبحانه لا زمان ولا مكان؛ حتى يتصور الانقراض والانقضاء، واستبعاد هذه المسألة إنما يجيء من العقول السخيفة، والأحلام الضعيفة المحبوسة؛ لمضيق الزمان والمكان المتحصنة بحصون الجهات والأبعاد المقيدة بسلاسل الأيام وأغلال الليالي.
ومن انكشف له بصر بصيرته، وارتفع عنه سبل السدل وحول التحويل، ومدد التغير والتبديل، واكتحل عن عبرته بكحل الكشف والشهود، اضمحل دونه الزمان والاستمرار ولم يبق في عين عبرته وشهوده سوى الله الواحد القهار لجميع الأغيار، فسمع عنه وأبصر به وأظهر عليه، وفني فيه وبقي لديه ورجع إليه، وبدأ منه وعاد عليه قائلا لسان حاله ومقاله:
إنا لله وإنآ إليه راجعون
[البقرة: 156]،
ربنآ آمنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشهدين
[آل عمران: 53] برحمتك وجودك يا أرحم الراحمين.
{ و } بعدما هدد سبحانه مكذبي وعده ووعيده بما هدد، وأقرعهم بما قرع أراد سبحانه أن يسلي حبيبه صلى الله عليه وسلم بما لحق له من أذى المنكرين المكذبين بقوله: { لا تحزن عليهم } إن كذبوك وأعرضوا عنك يا أكمل الرسل { ولا تكن في ضيق } وسآمة { مما يمكرون } [النمل: 70] أي: من مكرهم وحيلهم، فإن الله يكفيك مؤنة شرورهم، وكن في نفسك يا أكمل الرسل واسع الصدر، طلق الوجه، مسرور القلب، فإن الله ناصرك ومعينك في كل الأحوال، يحفظك عن شرورهم ومكرهم وسيغلبك عليهم، ويظهر دينك على الأديان كلها في أقطار الأرض وأنحائها،
وكفى بالله حسيبا
[النساء: 6].
{ و } من شدة شكيمتهم، وكمال إنكارهم وضغينتهم { يقولون } متهكمين: { متى هذا الوعد } والعذاب الموعود؟ وفي أي آن يظهر؟ وأي زمان يقوم؟ عينوا لنا وقته أيها المدعون { إن كنتم صادقين } [النمل: 71] في دعواكم وقوعه ونزوله.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما اقترحوا عليك وألحوا: { عسى } أي: دنا وقرب { أن يكون ردف لكم } أي: تبعكم ولحقكم، واللام للتوكيد { بعض } العذاب { الذي تستعجلون } [النمل: 72] نزوله وحلوله فلحقهم، وهو عذاب يوم بدر.
{ و } سيلحقهم عن قريب كلها أيضا، لكن من سنته سبحانه إمهال عباده زمانا؛ رجاء أن ينتبهوا، ويتوبوا عما أصروا عليه { إن ربك } يا أكمل الرسل { لذو فضل } عظيم ورحمة واسعة شاملة { على } جميع { الناس } الناسين سوابق عهودهم مع الله المدبر لأحوالهم { ولكن أكثرهم لا يشكرون } [النمل: 73] نعمة الإمهال؛ حتى يخلصوا من نقمته وعذابه؛ لذلك لحقهم ما لحقهم من العذاب.
ومن جملة كفرانهم بنعم الحق: إنهم أرادوا أن يخدعوا مع الله ورسوله، ولا يشكروا لنعمه الإرسال والإرشاد، بل ينكروا عليها في نفوسهم، ويظهروا على الناس أنهم مؤمنون مع أنهم ليسوا كذلك؛ وقصدوا بذلك التلبيس والخداع، ولا ينفع لهم هذا.
{ وإن ربك } يا أكمل الرسل { ليعلم } بعلمه الحضوري { ما تكن } وتخفي { صدورهم وما يعلنون } [النمل: 74] ويظهرونه من إيمان وكفر، وفساد وصلاح، وعهد ونقض؛ إذ لا يخفى عليه سبحانه شيء من أحوال عباده، وما جرى عليهم في ظواهرهم وبواطنهم.
{ و } كيف يخفى عليه شيء من أحوالهم؛ إذ { ما من غآئبة في } طي { السمآء } و { والأرض } حتى النقير والقطمير، وما يعقل ويحس به، ويعبر عنه ويومئ إليه، ويرمز نحوه إلى ما شاء الله { إلا } مثبت محفوظ { في كتاب مبين } [النمل: 75] هو لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي الذي فصل فيه جميع ما كان ويكون أزلا وأبدا؛ بحيث لا يشذ عن حيطته ما من شأنه أن يعلم ويحس به.
[27.76-80]
ومما يدل عليه، وعلى حيطة حضرة علمه الكتب الإلهية النازلة من عنده سبحانه المنتخبة من حضرة علمه ولوح قضائه، سيما القرآن { إن هذا القرآن } من كمال جمعيته وإحاطته { يقص } أي: يظهر ويبين { على } علماء { بني إسرائيل أكثر } الامور والشأن { الذي هم فيه يختلفون } [النمل: 76] من الأمور المتعلقة لدينهم وملتهم.
{ وإنه } في نفسه { لهدى } هاد موصل إلى طريق التوحيد { ورحمة } نازلة { للمؤمنين } [النمل: 77] الموحدين المحمديين من قبل الحق؛ ليهديهم إلى وحدة ذاته ويوصلهم إلى غاية ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد.
{ إن ربك } يا أكمل الرسل { يقضي بينهم } أي: بين المختلفين من بني إسرائيل { بحكمه } المستنبط من حكمته المتقنة { و } كيف لا { هو العزيز } الغالب في أحكامه المبرمة { العليم } [النمل: 78] في حكمته المتقنة المتفرعة على عدالته الحقيقية.
وإن كذبوك يا أكمل الرسل وكتابك، وجادلوا معك مراء ومكابرة { فتوكل على الله } المتكفل لحفظك وحضانتك { إنك } في أمر دينك وكتابك ورسالتك وهدايتك، وفي جميع ما جئت به من قبل ربك { على الحق } والصدق الذي لا يأتيه الباطل والكذب من بين يديه ولا من خلفه { المبين } [النمل: 79] الظاهر حقيته عند ذوي البصائر وأولي الألباب المستكشفين عن لب الأمور، المعرضين عن قشورها، فإن أعرضوا عنك ولم يقبلوا إرشادك وهدايتك لا تبال بهم وبإعراضهم وانصرافهم؛ إذ هم أموات عند التحقيق لا حياة لهم حقيقة.
{ إنك } وإن بالغت واجتهدت في إرشادك وهدايتك { لا تسمع الموتى } ما جئت به من الأوامر والنواهي المقربة إلى الله، المبينة لطريق توحيده؛ إذ هم عن السمع معزولون { ولا تسمع الصم الدعآء } أي: ليس في وسعك إسماع الدعاء للأصمين الفاقدين آلة الاستماع، سيما { إذا ولوا } وأعرضوا عنك { مدبرين } [النمل: 80] بلا التفات وتوجه منهم إلى الاستماع والإصغاء.
[27.81-86]
{ و } بالجملة: { مآ أنت } أيها المرسل للهداية، والمبعوث للإرشاد والتكميل { بهادي العمي } الفاقدين لآلات الهداية وأسبابها { عن ضلالتهم } المركوزة في جبلتهم الراسخة في طباعهم { إن تسمع } أي: ما تسمع أنت هدايتك وإرشادك أيها الهادي بوحينا وتوفيقنا { إلا من يؤمن بآياتنا } الدالة على كمال وحدة ذاتنا، وقدرتنا وعلمنا وإرادتنا ويصدق بجميع ما جئت به من عندنا { فهم مسلمون } [النمل: 81] منقادون لأوامرنا وأحكامنا، مجتنبون عن نواهينا ومحظوراتنا، فهم من شدة شقاوتهم وغلظ غشاوتهم لا يؤمنون بك ولا يسلمون، فكيف يتأتى لك إسماعهم وإراشدهم؟!.
{ و } اصبر يا أكمل الرسل { إذا وقع القول } الموعود { عليهم } ولاح أمارات الساعة وظهر علامات القيامة، ودنا وقت قيامها { أخرجنا لهم } قبيل قيام الساعة { دآبة } عظيمة { من الأرض } لتكون أمارة على قيامها، دالة على كمال قدرتنا على إحياء الأموات من العظام الرفات، طولها سبعون ذراعا، ولها قوائم وزغب؛ أي: شعرات صفر كريش الفرخ، وريش وجناحان، يقال لها: الجساسة، لا يفوتها هارب ولا يدركها طالب.
سئل عليه السلام عن مخرجها فقال:
" من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى "
يعني: المسجد الحرام.
فإذا خرجت عليهم { تكلمهم } وتخاطب معهم بسوء فعالهم وحسن خصالهم فتفرق المؤمن من الكافر، وحينئذ ظهر { أن الناس } المنهمكين في بحر الغفلة والنيسان لأي شيء { كانوا بآياتنا } الواصلة إليهم من ألسنة رسلنا { لا يوقنون } [النمل: 82] ولا يذعنون، بل ينكرون ويكذبون عنادا أو مكابرة.
{ ويوم } اذكر يا أكمل الرسل { نحشر } ونسوق عند قيام الساعة { من كل أمة فوجا } فرقة وجماعة هي صناديدهم ورؤساؤهم { ممن يكذب بآياتنا } التي جاء بها رسلنا؛ لإهدائهم وإرشادهم { فهم } في حين حشرهم وسوقهم { يوزعون } [النمل: 83] أي: يحبس أولهم لآخرهم؛ حتى يتلاقوا ويزدحموا، ويساقون أولئك المجرمون هكذا.
{ حتى إذا جآءو } المحشر وحضروا الموعد، وعرضوا على الله صافين صاغرين { قال } قائل من قبل سرادقات العظمة والجلال معيدا عليهم: { أكذبتم } أنتم أيها المسرفون { بآياتي } في بادي الرأي بلا تأمل وتدبر فيها { ولم تحيطوا بها علما } أي: لم تطرحوا نظركم وعقولكم عن فحض معانيها وفحاويها؛ حتى ظهر عندكم ولاح عليكم هل هي جديرة بالرد والإنكار؟ أم حقيق بالقبول والاعتبار؟ فبادرتم إلى تكذيبها بلا إمعان فيها { أما ذا } أي: أم أي شيء شنيع { } كنتم تعملون [النمل: 84] أيها الجاهلون المسرفون؟!.
وبعدما جرى من أنواع التوبيخ ما جرى سكتوا حائرين، خائبين منكوسين { و } حينئذ { وقع القول } المعهود منا، وتحقق الوعد، وحل العذاب الموعود { عليهم بما ظلموا } أي: بسبب ظلمهم السابق { فهم } حينئذ { لا ينطقون } [النمل: 85] ولا يعتذرون، ولا يتضرعون، يكبهم على النار منكوسين؛ بحيث لا يسع لهم التنطق والتضرع أصلا.
{ ألم يروا } ولم ينظروا أولئك الحمقى بنظر العبرة إلى مصنوعاتنا المتبدلة المتغيرة بقدرتنا واختيارنا؛ ليتحقق عندهم أمر الساعة، ولم يبادروا إلى إنكارها؛ حتى لا يلحقهم ما لحقهم { أنا } من كمال قدرتنا، ووفور حولنا وقوتنا كيف { جعلنا الليل } مظلما { ليسكنوا فيه } بلا دغدغة منهم إلى الحركة والاشتغال { و } كيف جعلنا { النهار مبصرا } مضيئا تتحركون وتترددون فيه يشغل معاشكم { إن في ذلك } الإظلام والإضاءة على التعاقب والتوالي { لآيات } دلائل قاطعات، وشواهد ساطعات على قدرة القديم القادر المقتدر على أمثال هذه المقدورات المتقنة، والمصنوعات المحكمة الصادرة عن محض الحكمة { لقوم يؤمنون } [النمل: 86] ويذعنون بوحدة ذات الله وكمال أوصافه وأسمائه.
[27.87-90]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل تنبيها على التائهين في بيداء الغفلة: { يوم ينفخ في الصور } وهو البوق؛ لحشر الأموات من أجداثهم { ففزع } وارتعد من هول تلك الصدى { من في السموت } من سكانها { ومن في الأرض إلا من شآء الله } تمكنه وقرار قلبه مطمئن بلا قلق واضطراب، وهم الأولياء المتمكنون في مقر الفناء في الله، المتحققون بمقام البقاء ببقائه، الواصلون إلى شرف لقائه بلا تلوين، منسلخين عن جلباب ناسوتهم رأسا، وصاروا إلى حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{ و } بعدما أفاقوا من دهشتهم وهيبتهم العارضة إياهم من هول ما سمعوا { كل } ممن يتأتى منهم الإتيان { أتوه } على كلتا القراءتين فعلا أو اسم فاعل؛ أي: حضروا عنده وحاضروه { داخرين } [النمل: 87] صارغرين ذليلين، منتظرين إلى ما جرى عليهم من حكم الله، يساقون إلى النار بمقتضى عدله؟ أم إلى الجنة بمقتضى فضله وإحسانه؟.
{ وترى } أيها الرائي يومئذ { الجبال } الراسيات التي { تحسبها } وتظنها { جامدة } ثابتة مستقرة في مكانها بلا حركة وذهاب { وهي } في نفسها { تمر } أي: تتحرك وتذهب { مر السحاب } أي: كمروره وسرعة سيره؟ إذ الأشياء العظيمة التي لا يحيط الأبصار بجميع جوانبها قلما يحس بحركتها وإن أسرع فيها، بل يظن أنها ثابتة في مقره، وهكذا حال الجبال وجميع الأظلال والأطلال قبل قيام الساعة لو تفطنت بمرورها أيها الفطن اللبيب، وجدتها في كل آن على التقضي والانصرام؛ إذ الأعراض لا قيام ولا قرار، بل كل يوم وآن في شأن، و
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن: 26-27].
ومرور الجبال على هذا المنوال { صنع الله } أي: من صنع الله { الذي أتقن } وأحكم { كل شيء } إتقانا بديعا، ودبره تدبيرا أنيقا عجيبا، وأودع فيه من الحكم والمصالح ما لم يطلع عليها أحد من عباده؛ إذ لا يسع لهم الإطلاع على أفعاله سبحانه، بل { إنه } بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته { خبير بما تفعلون } [النمل: 88] أي: بجميع أفعالهم وأحوالهم، وأقوالهم الظاهر والباطنة، يجازيهم عليها على مقتضى خبرته، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
لذلك { من جآء } من المكلفين في دار الابتلاء { بالحسنة } أي: الخصلة الواحدة المقبولة عند الله وعند الناس { فله } في دار الجزاء { خير منها } إذ يعطى له بدله سبع مائة من الحسنة، وقد أبدل الخسيس بالشريف، سيما بأضعافه والفاني بالباقي { وهم } أيضا مع وجود هذه المثوبات { من فزع } هائل مهول للناس { يومئذ } أي: يوم ينفخ في الصور { آمنون } [النمل: 89] مطمئنون متمكنون، ولا يضطربون من هولها ولا يفزعون.
{ ومن جآء } في دا ر الاختبار { بالسيئة } المردودة عند الله، وعند الناس من الأمور التي حرمها الشرع والعقل والمروءة { فكبت وجوههم في النار } أي: كبوا على وجوههم في النار صاغرين، قيل لهم حنيئذ زجرا عليهم، وطردا لهم: { هل تجزون } أي: ما تجزون بهذا الهوان والصغار { إلا ما كنتم تعملون } [النمل: 90] من السيئات الجالبة له في النشأة الأولى.
[27.91-93]
ثم لما أمر سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أوحي إليه من الوعد والوعيد، والأوامر والنواهي المصلحة لأحوال الأنام في النشأتين، وبيان مبدئهم ومعاهدهم، وما يؤول إليه أمرهم بعدما انقرضوا من هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار، إما إلى دركات النيران وإما إلى درجات الجنان، ثم بين لهم طريق الوصول إلى مقر التوحيد، والتمكن في مقام التجريد والتفريد آمرا أيضا، بأن قال لهم إمحاضا للنصح كلاما ناشئا عن محض الحكمة، خاليا عن وصمة الميل إلى الهوى: { إنمآ أمرت أن أعبد } الله الواحد الأحد الصمد عبادة خالصة عن الرياء والرعونات { رب هذه البلدة } أراد بها مكة. شرفها الله - خصها بالإضافة للتعظيم، وإلا فهو رب جميع البلاد والأماكن { الذي حرمها } هذه البلدة من الأمور التي أباحها في غيرها من البلاد { وله } سبحانه { كل شيء } خلقه وملكه، وتصرف فيه كشف يشاء وأراد بلا منازع ومخاصم { و } بالجملة: { أمرت أن أكون من المسلمين } [النمل: 91] المنقادين لأحكامه سبحانه، الممتثلين لأوامره ونواهيه بلا التفات إلى إيمان أحد وكفره وهدايته وضلاله.
{ و } أمرت أيضا { أن أتلوا القرآن } المنزل علي من عند ربي، وأداوم على تلاوتة بين أظهر الأنام؛ لأنه إنما أوحي للهدى والإرشاد بالنسبة إلى جميع العباد { فمن اهتدى } به بعدما سمعه وتأمل معناه، وامتثل بمقتضاه { فإنما يهتدي لنفسه } نفع هدايته عائد إليها، مفيد لها { ومن ضل } أي: أعرض عنه بعدما سمع واستكبر وكذب { فقل } أي: أمرني ربي أن قل للمكذبين: { إنمآ أنا من المنذرين } [النمل: 92] أي: أمري منحسر بالإنذار والتخويف كسائر الرسل المنذرين، فالهداية والضلال إنما هو مفوض إلى الكبير المتعال.
{ و } بعدما أمرنن ربي بهذه المأمورات المذكورة أمرني بتجديد التحميد على تبليغ ما أحيت به بقوله: { قل } بعدما تلوت عليهم ما تلونا عليك { الحمد لله } على ما علمني ربي من الحقائق والمعارف، وشرفني بأنواع المكاشفات والمشاهدات، ويسر علي تبليغ ما أوحي إلي، وأمرت بتبليغه إلى قاطبة الأنام، وإن أعرضوا عن قبول ما بلغت لهم من مصالح دينهم في النشأة الأولى والأخرى.
قل لهم على سبيل التهديد: { سيريكم } سبحانه في النشأة الأخرى وقيام الساعة الموعودة صدق { آياته } الدالة على عظمة ذاته، المتينة لمواعيده ووعيداته { فتعرفونها } حنيئذ، وتسمعونها سمع قبول ورضا، ولا يجديكم قبولها حينئذ نفعا وفائدة؛ إذ قد مضى وقت الإرشاد والامتثال بها، والعمل بمقتضاها { و } بعدما بلغت لهم ما بلغت يا أكمل الرسل لا تبال بإعراضهم وإنكارهم؛ إذ { ما ربك } المطلع بالسرائر والخفايا { بغافل } ذاهل { عما تعملون } [النمل: 93] من الرد والقبول بعدما سمعوا منك وفهموا معناه، يجازيهم على مقتضى إطلاعه وعلمه.
رنبا اشرح لنا صدورنا بتأمل آياتك المنزلة من عندك، ويسر لنا أمورنا بأن نمتثل بمقتضاها بفضلك وجودك.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المواظب على تلاوة كتاب الله اللازم للاسترشاد والاستهداء منه أن تلاحظ أولا منطوقات ألفاظه المفردة، ثم مفهومات الكلام المركب مها، ثم التأمل والتدبر في رعاية المطابقة لمقتضيات الأحوال الموردة لأجلها، ثم لتعمق في الأساليب والأغراض المسوقة لها الكلام، ثم سرائر الأوامر والنواهي الموردة فيها، والعبر والأمثال المشتملة عليها الكلام، ثم الحكم والمصالح الباعثة لإيراد الكلام على وجهها، ثم التفطن والتنبه من النظم المتلو المقروء على المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات التي هي العلل الغائية لإنشائه، والأسرار الباعثة لنظم كلماته وتأليف حروفه.
وعليك أيها الفطن الخبير أن تدرك أن
" للقرآن ظهرا وبطنا، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن "
على ما نطق به الحديث الصحيح، صلوات الله على قائله وسلامه.
وإياك إياك أن تقنع منه بألفاظه ومنطوقاته التي تعرفها عوام العرب، أو تقنع منه بالخواص والمزايا التي تعرفها أرباب اللسن منهم، بل لك أن تلاحظ على الوجه المذكور إلى أن صار علمك المتعلق به لدنيا ذوقيا خاليا، بحيث تسمعه من قلبك، وتفهمه بقلبك بلا وسائل الألفاظ والحروف الجارية على لسانك؛ إذ الألفاظ والحروف إنما هي من جملة الحجب الغليظة عند أولي الألباب الناظرين في لب القرآن، فحينئذ فزت بحظك منه، ونلت نصيبك من هدايته وإرشاده.
رب هب لي بفظلك من خزائن جودك التي أودعتها في كتابك الكريم، إنك أنت الوهاب الملهم بالخير والصواب.
[28 - سورة القصص]
[28.1-6]
{ طسم } [القصص: 1] يا طالب السعادة المؤبدة المخلدلة، ويا طيب الطينة، وسالم السر والسريرة المنيرة، المقدس عن المكدرات الطبيعية المورثة لأنواع الجهالات الضلالات المنافية لصفاء مشرب التوحيد.
{ تلك } الآيات المتلوة عليك يا أكمل الرسل من هذه الصورة الحاكية عن قصص إخوانك من الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم أجمعين - { آيات الكتاب المبين } [القصص: 2] أي: نبذ مما ثبت في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي الظاهر إحاطته وشموله لجميع ما لاح عليه شروق شمس الوجود.
{ نتلوا عليك } ونحكي لك يا أكمل الرسل { من نبإ } أخيك { موسى } الكليم { وفرعون } المستكبر المستعلي، المفرط في العتو والعناد، إنما أنزلته إليك هذا ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع مع كونك خال الذهن عنه وعن أمثاله؛ لكونك أميا لا تقدر على مطالعة كتب التواريخ؛ وإنما أنزلناه لتكون آية ودليلا لك على صدك في دعواك { لقوم يؤمنون } [القصص: 3] ويصدقون رسالتك ونبوتك.
وذكل { إن فرعون } المفسد المسرف { علا في الأرض } أي: أرض مصر، وترقى أمره إلى حيث تفوه بأنا ربكم الأعلى { و } من كمال علوه واستكباره { جعل أهلها } أي: أهل مصر ومن يسكنون حولها { شيعا } أي: فرقا وأحزابا يشايعونه لدى الحاجة ويزدحمون عليه عند الإرادة طوعا وكرها.
وبعدما رأى فرعون في منامه ليلا أن نارا تخرج من دور بني إسرائيل، وتقع على داره وتحرقها وما حولها من ور القبط، ولم تضر بدور بني إسرائيل أصلا فأصبح، وأمر بإحضار الكاهن العليم، فاستعبر منه الرؤيا فقال الكاهن: سيخرج من بني إسرائيل رجل يستولي عليك، ويستأصلك ومن معك، وبعدما سمع من الكاهن ما سمع صار { يستضعف } ويضعف { طآئفة منهم } هي بنو إسرائيل، وبالغ في إضعافهم إلى حيث { يذبح أبنآءهم } أي: أمر الشرطة أن يقتلوا من ولد منهم ذكرا؛ لئلا يتقووا على قتاله، ولم يحدث بينهم من أخبر به الكاهن { ويستحيي نساءهم } ليتزوجهن القبط ظلما ويزدادوا ويلحق العار والصغار على بني إسرائيل، وبالجملة: { إنه كان من } أعظم { المفسدين } [القصص: 4] في الأرض، يريد أن يظهر على الله بقتل ما أوجده سبحانه عتوا واستكبارا.
{ و } بعدما بالغ في الإفساد والعناد، وتمادى في الجور والفساد زمانا { نريد } بمقتضى جودنا وسعة رحمتنا { أن نمن } منة عظيمة { على } عبادنا { الذين استضعفوا في الأرض } أي : أرض العمالقة، وهم بنو إسرائيل الأسراء المظلمون في أدي القبط { ونجعلهم أئمة } قدوة كراما متبوعين بعدما كانوا أتباعا أذلاء صاغرين { ونجعلهم الوارثين } [القصص: 5] من ظالميهم، يرثون منهم أرضهم وديارهم وأموالهم.
{ ونمكن لهم } أي: نقررهم ونوطنهم { في الأرض } أي: أرض مصر والشام بعدما كانوا مضطرين متزلزلين { ونري } بمقتضى قهرنا وجلالنا { فرعون } المفرط في العتو والعناد { و } ظهيره { هامان } المفتخر على أهل الزمان بنيابته ووزارته { وجنودهما منهم } أي: بني إسرائيل { ما كانوا يحذرون } [القصص: 6] منه، وهو ظهور مولود منهم يذهب به دولة القبط، وصار سببا لهلاكهم بالمرة.
[28.7-10]
{ و } بعدما ولد موسى، و ظهر من أراد به سبحانه زوال ملك فرعون استوحشت أمه؛ من وقوف الشرطة عليه وقتله { أوحينآ } وألهمنا { إلى أم موسى أن أرضعيه } مهما أمكنك إرضاعه وإخفاؤه { فإذا خفت عليه } من وقوفهم إياه ضعيه في التابوت { فألقيه في اليم ولا تخافي } من هلاكه وغرقه { ولا تحزني } من فراقه { إنا } من وفور لطفنا وعطفنا { رآدوه إليك } لتحضنه وتحفظه إلى وقت كبره { و } بعدما استوى وبلغ أشده { جاعلوه من } جملة { المرسلين } [القصص: 7] المؤيدين بالوحي والإلهام، وظهور أنواع المعجزات والخوارق من يده.
وبعدما تفرست أم موسى بوقوف الشرطة وتجسسهم بعدما أرضعته ثلاثة أيام وضعته في التابوت على الوجه المأمور، وألقته في اليم مفرضة أمرها إلى الله المتكفل بحفظه.
فذهب البحر بتابوته إلى حذاء دار فرعون فرآه من فيها { فالتقطه آل فرعون } أي: أخذوه وأخرجوه من اليم وأحضروه، وبعدما كشفوا عنه ستره رأوا وليدا في غاية الحسن والجمال إلى حيث تبهر به عيون الناظر إليه، بمضغ إبهامه، فلما رآه فرعون وامرأته وجميع من في بيته من الخدمة أحبوه وأعجبوا حسنه، وألقينا محبته في قلوبهم جميعا إلى اتفقوا لحفظه غافلين عن مكرنا معهم { ليكون لهم عدوا وحزنا } أي: موجب حزن طويل وعداوة مستمرة { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } [القصص: 8] مجبولين على الخطأ في جميع أفعالهم، ومن جلمتها: محافظة العدو الموجب لأنواع العذاب والنكال في النشأة الأولى والأخرى.
{ وقالت امرأة فرعون } آسية - رضي الله عنها - من كمال محبتها له وتحننها نحوه لفرعون: هو { قرت عين لي ولك لا تقتلوه } كسائر أبناء إسرائيل على ظن أنه منهم، بل نحفظه { عسى أن ينفعنا } أي: رجاء أن ينفع نفعا { أو نتخذه ولدا } خلفا لنا إذ ظهر على رشد تام وعقل كامل { وهم لا يشعرون } [القصص: 9] إنه عدوهم الذي يهذب به دولتهم وملكهم بيدهن وهلاكهم بسببه.
{ و } بعد ألقائه في البحر { أصبح فؤاد أم موسى فارغا } صفرا من العقل ومقتضياته، وصارت قلقة حائرة هائمة؛ بحيث اضمحلت عنها أمارات الحياة تحننا إلى ولدها وشوقا إليه، وخوفا من قتله، سيما سمعت بالتقاط آل فرعون إياه ووقوعه بأيديهم { إن كادت } أي: إنه صارت من غاية الحزن الأسف إلى أن قربت { لتبدي به } أي: لتظهر وتبوح بأمره صائحة عليه، فاجعة في شأنه من التقاط عدوه { لولا أن ربطنا } وألقينا { على قلبها } السكينة والطمأنينة { لتكون من المؤمنين } [القصص: 10] المصدقين لما وعدنا إياها برد ولدها لها بلا ضر من العدو.
[28.11-13]
{ و } بعدما سكنت من البوح والنوح والإظهار { قالت لأخته } أي: مريم أخت موسى: { قصيه } أي: اتبعي أثره وتتبعي أمره؛ كي تدرك إلى ما فعلوا معه فذهبت بأمرها { فبصرت به } أي: موسى { عن جنب } بعد { و } أخفت حالها عنهم إلى حيث { هم لا يشعرون } [القصص: 11] بقرابتها إياه، وهم بعدما اتفقوا على حفظه، وتركوا قتله أرادوا أن يرضعوه فطلبوا المرضة؛ لحضانته ورضاعته.
{ و } قد كنا من متانة حكمنا وحكمتنا { حرمنا عليه المراضع من قبل } أي: قبل إلقائه أمه في البحر، وحين عهدنا مع أمه برده إياها بقولنا:
إنا رآدوه إليك
[القصص: 7] فأحضروا مراضع كثيرة فأبى موسى عن مصهن، فتحيروا في أمره { فقالت } مريم بعدما انتهزت فرصة: { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } إن ابتغيتم المرضعة { وهم } أي: أهل ذلك البيت { له ناصحون } [القصص: 12] إلى أن كبر، بحيث لا يغفل من تربيته وحفظه.
فلما سمع هامان منها ما سمع قال: إنها قد عرفت أهله ومنشأه، خذوها حتى تخبر ما حاله؟ قالت مريم: إنما أردت، وهم للملك ناصحون فأمرها فرعون بإتيانها، فأتت بأمها وموسى على يدي فرعون يبيكي ويصيح، فلما شم ريح أمه استأنس، والتقم ثديها ومص بلا إباء، فقال لها فرعون: من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح واللبن، لا أوتي بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها وعين أجرة حضانتها ورضاعتها، فذهب به إلى بيتها من يومه.
كما قال سبحانه: { فرددناه } في يوم إلقائه في البحر { إلى أمه } إيفاء لوعدنا إياها { كي تقر } وتنور { عينها } بولدها { و } بعدما رددناه إليها ألهمنا لها أن { لا تحزن } بعد اليوم، وتثق بوعدنا إياك { ولتعلم أن وعد الله } القادر على إيفاء العهدو { حق } ثابت مطابق للواقع، فكما أوفى سبحانه وعد رده إليك يوفي وعد رسالته ونبوته أيضا بلا خلف منه، فعليك أن تثقي بالله وتفوضي أمره إليه، فإنه سبحانه يكفي مؤونة شرور أعدائه ويوصل إلى منتهى ما جبله لأجله؛ إذ هو قادر غالب على كل ما أراد وشاء { ولكن أكثرهم } أي: أكثر الناس { لا يعلمون } [القصص: 13] كمال قدرته وحكمته.
[28.14-17]
{ ولما } ربته أمه، وأحسنت تربيته بمعاونة عدوه إلى أن { بلغ أشده } كمال قوته في نشوئه ونمائه { واستوى } أي: كمل وتم عقله ورشده إلى أن صلح لحمل أعباء الرسالة { آتيناه } من كمال جودنا إيفاء لما وعدنا له في سابق علمنا، وكتبنا لأجله في لوح قضائنا { حكما } نبوة ورسالة؛ ليضبط به ظواهر الأحكام بين الأنام { وعلما } لدنيا متعلقا بمعرفة ذات الحق المتصف بجلائل الأوصاف والأسماء، وبمعرفة توحيده وتنزهه عن سمة الكثرة مطلقا { وكذلك } أي: مثل ما جزينا موسى { نجزي } عموم { المحسنين } [القصص: 14] من خلص عبادنا البالغين رتبة الإحسان؛ لأنهم يعبدون الله كأنهم يرونه؛ إنما أتى بلفظ الماضي مع أنه إنما أرسل بعدما هاجر من بينهم إلى مدين تلميذ شعيب عليه السلام تنبيها على تحقق وقوعه.
{ و } بعدما بلغ أشده { دخل المدينة } أي: مصر { على حين غفلة من أهلها } لأنهم لا يترقبونه في ذلك الوقت، قيل: هو وقت القيلولة، وقيل: وقت العشاء { فوجد } بعدما دخل { فيها رجلين يقتتلان } قتالا شديدا { هذا } أي: أحد المقاتلين { من شيعته } أي: بني إسرائيل { وهذا } أي: الآخر { من عدوه } وبعدما وصل موسى إليهما { فاستغاثه } أي: طلب منه الغوب والإغاثة، الرجل { الذي من شيعته } هو { على } الرجل { الذي } هو { من عدوه } لأن العدو غالب عليه، وبعدما وجد موسى صديقه مظلوما مغلوبا.
{ فوكزه } أي: العدو { موسى } أي: ضم أصابعه ومجتمعة مقبوضة فضرب بها العدو مرة { فقضى عليه } أي: هلك: وانفصل روحه بوكزة واحدة فخجل من فعله هذا، واسترجع إلى الله مستحييا منه سبحانه، حيث { قال هذا } أي: ما جئت به من الفعلة الشنيعة { من عمل الشيطان } إذ هو يغريني عليه { إنه } أي: الشيطان المغري المغوي { عدو } لأهل الحق وأرباب اليقين { مضل } لهم يضلهم عن الطريق المستبين { مبين } [القصص: 15] ظاهر العداوة والضلالة بالنسبة إلى أرباب الرشد والكمال.
{ قال } موسى متضرعا نحو الحق، آيبا إليه، تائبا عما صدر عنه، مناجيا له عن محض الندم: { رب } يا من رباني بأنواع اللطف والكرم بين يدي عدوي، وخلصني من البلية العاممة يمقتضى جودك { إني } بالإقدام على هذا الأمر الشنيع { ظلمت نفسي } وعرضتها لعذابك بالخروج عن مقتضى حدودك بقتل هذا الشخص بلا رخصة شرعية { فاغفر لي } يا رب زلتي بعدما تبت إليك، ورجعت عن ذنبي نادما، والتجأت إلى بابك راجيا { فغفر له } ربه زلته بعدما رجع إليه مخلصا { إنه هو الغفور } لذنوب عباده بعدما رجعوا نحوه متذللا خائبا خاسرا { الرحيم } [القصص: 16] لهم يقبل توبتهم بعدما أخلصوا فيها، وبعدما تاب ورجع عما عمل خطأ.
{ قال } مقسما: { رب } يا من رباني بأنواع الكرامات أقسمت { بمآ أنعمت علي } من النعم العظام { فلن أكون } بعد اليوم { ظهيرا } مغيثا ومعينا { للمجرمين } [القصص: 17] الذين أدت إغاثتهم إلى جرم كبير وذنب عظيم.
[28.18-21]
وبعدما صادر عن موسى ما صدر { فأصبح في المدينة } أي: مصر { خآئفا } من أولياء المقتول { يترقب } منهم الاستقادة { فإذا } أي: فوجئ بغتة بالرجل { الذي استنصره } واسغاث منه { بالأمس يستصرخه } ويستغيثه لقبطي آخر ياخصم معه ويغلب عليه { قال له موسى } أي: للمستغيث: { إنك } مع ضعفك وقلة قوتك { لغوي مبين } [القصص: 18] ظاهر الغواية والضلال.
{ فلمآ أن أراد } موسى بعدما نسبه الإسرائيلي إلى الغواية { أن يبطش بالذي } أي: بالقبطي الذي { هو عدو لهما } أي: لموسى والإسرائيلي؛ إذ القطبي عدو للسبطي مطلقا { قال } القبطي: { يموسى أتريد أن تقتلني } ظلما { كما قتلت نفسا بالأمس } جبرا بغير حق { إن تريد } أي: ما تقصد بفعلك هذا { إلا أن تكون جبارا } قتالا { في الأرض } ظلما وعدوانا مباهيا بقدرتك وقوتك { وما تريد } أنت بهذا الجرأة والجريمة { أن تكون من المصلحين } [القصص: 19] بين المتخاصمين، بل من المفسدين أشد إفساد.
{ و } بعدما انتشر الخبر بن القوم، وشارع بن الأنام إلى أن وصل الخبر إلى فرعون وملئه بقتل موسى بعدما شاوروا في شأنه { جآء رجل } مؤمن { من أقصا المدينة } إلى موسى، وهو ابن عمه حالك كونه { يسعى } يسرع ويتبختر { قال يموسى إن الملأ } أيك فرعون وأشراف قومه { يأتمرون بك } وتشاوروا في شأنك واستقر رأيهم { ليقتلوك } قصاصا { فاخرج } من المدينة ذا الساعة { إني } من كمال عطفي { لك من الناصحين } [القصص: 20] أنصحك بالخروج من بينهم؛ لئلا يلحقك شرهم وضرهم.
وبعدما سمع من الناصح ما سمع { فخرج منها } أي: من المدينة على الفور { خآئفا يترقب } إدراكه من الخلف { قال } حين خروجه ملتجأ إلى الله، مناجيا له: { رب } يا من رباني بكنفك وجوارك، ونجاني من أنواع الفتن والمحن { نجني } بلطفك { من } إدراك { القوم الظالمين } [القصص: 21] القاصدين لمقتي وقتلي.
[28.22-24]
{ ولما توجه تلقآء مدين } أي: حهة قرية شعيب عليه السلام { قال } راجيا إلى الله، ذاكرا سوابق نعمه عليه من كمال فضله وكرمه: { عسى ربي أن يهديني } بمقتضى جوده العميم { سوآء السبيل } [القصص: 22] أي: الطريق المستقيم المنجي عن العدو، الموصل إلى الصديق المشفق؛ ليهديني إلى صراط الله الأقوم الأعدل الذي هو التوحيد المخلص عن وساوس التقليد، فعن له ثلاث طرق فاختار أوسطها بإلهام من الله إياه، وجاء الطلاب عقيبه فاختاروا الآخرين، فنجا من شرورهم سالما.
{ ولما ورد } ووصل بعدما سار ثمانية أيام بلا زاد، يأكل الكلأ { مآء مدين } أي: بئرا قرب مدين، كان أهلها يسقون منها مواشيهم { وجد عليه أمة } أي: فرقة عظيمة { من الناس } قعد عندهم من شدة الوصف والجوع والعطش، وهم { يسقون } وماشيهم بالدلو منها { ووجد من دونهم } أي: في مكان أبعد وأشغل من مكانهم { امرأتين } معهما غنم كثير { تذودان } أي: تطردان وتصرفان غنمهما عن اخلاط غنمهم، وتبعدان عن الماء.
{ قال } موسى سائلا عنهما بعدما شاهد حاليهما وذودهما: { ما خطبكما } أي: شأنكما وأمركما؟ وأي: شيء مقصودكما من الذود مع أن أغنامكما في غاية العطش؟! { قالتا } مع كمال الاستحياء والتحفظ من مكالمته: { لا نسقي } أغنامنا مع هؤلاء الرجال؛ إذ نحن من أهل بيت النبوة لا نجتمع معهم في السقي، بل نصبر { حتى يصدر الرعآء } أي: يخلوا الدلو، ويخرجوا مواشيهم إلى المرعى عن رأس الماء - الرعاء: جمع راع كتجار: جمع تاجر، هذا على قراءة: { يصدر } بضم الياء وكسر الدال، وأما على قراءة: { يصدر } بفتح الياء وضم الدال؛ أي: يذهب الرعاء بمواشيهم مرتبة، وينصرفوا من شفير البئر - إذ نحن لا نختلط مع أجانب الرجال { و } نحن من كمال اضطرارنا جئنا للسقي؛ إذ { أبونا شيخ كبير } [القصص: 23] فاقد البصر، وما لنا أخ وعم، وليس لأبينا سوانا.
وبعدما سمع موسى منهما ما سمع، ورأى ما رأى من كمال العطف والعفة والعصمة قام مع أنه في غاية الضعف؛ من شدة الجوع والوصب، وعلى رأس البئر حجر عظيم يقله عند الاستسقاء جمع كثير، فأقله وحده { فسقى لهما } جميع أغنامهما { ثم تولى } ونصرف { إلى الظل } وازداد جوعه ووصبه { فقال } ملتجئا إلى ربه: { رب إني } من شدة جوعي وضعفي { لمآ أنزلت إلي } ورزقتني من موائد إفضالك وإنعامك { من خير } وصل إلي، حينئذ { فقير } [القصص: 24] محتاج مريد.
[28.25-28]
وبعدما تم مناجاته مع ربه، وطلب حاجته منه سبحانه { فجآءته إحداهما } أي: إحدى المرأتين { تمشي } نحوه { على استحيآء } تام منه، لما وصلت حوله سلمت عليه، ثم { قالت } له مستحيية: { إن أبي يدعوك ليجزيك } ويكافئك { أجر ما سقيت لنا } تبرعا، فأجابها موسى تبركا برؤية شعيب عليه السلام لا طمعا لأجرته.
روي أنه لما دخل عليه أتى أولا بالطعام، فامتنع موسى عليه السلام وقال: نحن من أهل بيت لا نبيع بالدنيا، قال شعيب عليه السلام: هذا من عادتنا مع كل من ينزل بنا، وإن من أتى بمعروف، وأهدي له لم يحرم أخذه وأكله في جميع الأديان.
{ فلما جآءه } أي: جاء موسى شعيبا - عليهما السلام - وتبرك بشرف صحبته لاح عليه حاله { وقص عليه القصص } الذي جرى عليه من أوله إلى آخره، وسمع منه الشيخ على التفصيل { قال لا تخف } بعد اليوم { نجوت من القوم الظالمين } [القصص: 25] يعني: فرعون وملأه.
وبعدما جلس موسى عند شعيب - عليهما السلام - وقص عليه ما جرى من الخوف والحزن وأنواع الكآبة { قالت إحداهما } أي: إحدى الابنتين، وهي التي استدعته للضيافة: { يأبت استئجره } لرعي الغنم، وأنت تريد الأجير { إن خير } جميع { من استئجرت } من الرجال هو؛ لأنه { القوي } أي: شديد القوة { الأمين } [القصص: 26] ذو الأمانة والديانة.
قال لها أبوها حمية وغيرة: من أين عرفت قوته وأمانته؟ فذكرت لأبيها إقلال الحجر العظيم وحده من رأس البئر مع أن الناس يقلونه في جمع كثير، فهذا دليل قوته، وأما أمانته فإني بعدما دعوته قام ومشى قدامي، وأمرني بالمشي خلفه، صيانة عن النظر إلي، فقال لي: دليني عن الطريق إن ضللت، وهذا دليل أمانته وصيانته حدود الله.
ولما سمع شعيب عليه السلام من ابنته ما سمع من أمارات أمانته ومروءته رغب إلى ألفته ومؤانسته؛ حيث { قال } شعيب لموسى عليه السلام { إني } بعدما وجدتك شابا صالحا، سويا ذا رشد وأمانة { أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } على صداق معين { على أن تأجرني } نفسك برعي الغنم { ثماني حجج فإن أتممت عشرا } كاملا { فمن عندك } تبرعا وإحسانا { ومآ أريد أن أشق عليك } بأن أحملك أزيد من ذلك { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } [القصص: 27] للخدمة والمصاحبة، والمؤاخاة والموافاة في أداء الحقوق والعهود.
{ قال } موسى مجيبا له، راغبا لقبول ما ألقاء من الكلام: { ذلك } الوقت الذي عينته ملزما علي أولا { بيني وبينك } معهود ثابت، والذي قلته ثانيا تبرعا مني، وبالجملة: { أيما الأجلين } يعني: أجل الالتزام، وأجل التبرع { قضيت } يقع المعهود بلا تردد { فلا عدوان } ولا تعدي { علي } بعد انقضاء كل واحد من الأجلين { والله } الشهيد المطلع لعموم أحوال عباده { على ما نقول } من المشارطة والمعادة { وكيل } [القصص: 28] حفيظ يحفظه على وجهها.
[28.29-31]
{ فلما قضى موسى الأجل } أي: أقصى الأجلين، ومكث عنده عشرا أخر بعدما تزوج ابنته؛ للاسترشاد والاستكمال، وبعدما كمل بصحبة المرشد الكامل المكمل أراد أن يرجع إلى قومه فخرج من عنده { وسار بأهله } نحو مصر، وهي حاملة فجاءها الطلق في ليلة شاتية مظلمة، وهم على جناح السفر ضالين عن الطريق { آنس } أي: أبصر موسى { من جانب الطور } أي: من الجهة التي تجاه الطور { نارا } ففرح من رؤيتها { قال لأهله امكثوا } ساعة { إني آنست } وأبصرت { نارا } ومن هذا يعلم أن أهله لم يروها، أذهب إليها { لعلي آتيكم منها بخبر } من الطريق أستخبر من عندنا { أو جذوة } أي: عود غليظ معي شيء { من النار } إن لم أجد عندها أحدا { لعلكم تصطلون } [القصص: 29] تستدفئون من البرد، فمكثوا.
فبادر إليها سريعا { فلمآ أتاها } وقرب إليها { نودي من شاطىء الوادي } أي: شفيره وجانبه { الأيمن } باليمن، والكرامة الواقعة { في البقعة المباركة } التي كثر الخير والبركة فيها { من الشجرة } أي: نودي من الشجرة التي تعقد النار عليها نداء عجيبا معربا عن اسمه، مصرحا به: { أن يموسى } المتحير في بيداء الطلب، القلق الحائر في فيافي التعب { إني } مع كمال إطلاقي وإن ظهرت على صورة نار، وتقيدت بها متنزها عن كمال تنزهي عن عموم الصور والتعينات { أنا الله رب العالمين } [القصص: 30] الجامع لجميع الأسماء والصفات، المتجلي لجميع الصور والشئون، وعموم الهياكل والتماثيل، المتعالي عن الحلول في شيء والاتحاد به والمعية معه مطلقا، فاطلبني تجد جميع حوائجك عندي؛ لأني رب العالمين، أي: مرب الكل ومدبره بعدما أظهرت الأشياء وأوجدتها من كتم العدم.
وبعدما سمع موسى ما سمع استوحش من هذا النداء، وارتعد من هيبة هذا الصدى؛ لأنه في ابتداء انكشافه وشهوده أنس معه ربه؛ إزالة لرعبه ووحشتها، فقال مخاطبا له، آمرا: { وأن ألق عصاك } التي في يدك؛ حتى ترى عجائب وغرائب حكمتنا وليزول استبعداك من ظهورنا على صورة الناس فألقاها، فإذا هي حية تسعى { فلما رآها تهتز } وتتحرك على وجه السرعة { كأنها جآن } أي: حية صغيرة سريعة السير { ولى } موسى، وانصرف عنها { مدبرا } بعدما أدبر مرعوبا مرهوبا { ولم يعقب } أي: لم يرجع ولم يلتفت إلى أخذها خائفا مها هائبا، قلنا له مناديا؛ إزالة لرعبة: { يموسى أقبل } إلى عصاك وخذها { ولا تخف } منها { إنك من الآمنين } [القصص: 31] عن ضرر ما ظهرت عليك من الصورة الحادثة المهبية، فإنا سنعيدها سيرتها الأولى.
[28.32-37]
ثم أمر سبحانه ثانيا؛ تأكيدا لتأنيسه إياه بقوله: { اسلك } وأدخل { يدك في جيبك تخرج } على الفور { بيضآء } مضيئة منيرة، محيرة للعقول والأبصار؛ من كمال إشراقها وضوئها، مع أنها { من غير سوء } أي: مرض من برص وبهق، فأدخل وأخرج فرأى ما رأى { و } بعدما رأى موسى يده في غاية البياض والصفاء استوحش أيضا منها واسترهب عن عروض المرض إليها، أمره سبحانه ثالثا؛ إزالة لحزنه بقوله: { اضمم إليك جناحك } أي: يديك، وأطو كشحك { من الرهب } أي: الخوف والحزن، وهذا كناية عن الطمأمنينة والوقار، وعدم إخطار الخوف في البال.
{ فذانك } أي: العصا واليد والبيضاء { برهانان } أي: شاهدان على نبوتك ورسالتك، ومعجزتان باهرتان لك لمن يعارض معك وأنكر عليك رسالتك، منتشئان { من } أمر { ربك } تأييدا لك ولأمرك حين أرسلك { إلى فرعون وملئه } لتدعوهم إلى توحيد الحق وصراط مستقيم، وتنذرهم عما هم عليه من الإفراط والتفريط { إنهم } من غاية انهماكهم في الغفلة والغرور { كانوا قوما فاسقين } [القصص: 32] خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة في شرائع الأنبياء الماضين، والرسل المنقرضين.
ثم لما سمع موسى من ربه ما سمع { قال } معتذارا مستظهرا: { رب } يا من رباني بسوابق النعم { إني قتلت منهم نفسا } خطأ، وأنت أعلم به مني { فأخاف أن يقتلون } [القصص: 33] ويبادرون إلى قتلى قبل دعوتهم إلى دينك وتوحيدك لو ذهبت إليهم وحيدا فريدا بلا ظهير ومعين.
{ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا } وأوضح بيانا، وأتم تقريرا وتبيانا { فأرسله معي } وأشركه في أمري؛ ليكون { ردءا } أي: معاونا في أمري { يصدقني } لدى الحاجة { إني } من كمال عداوتهم معي، وشدة شكيمتهم وغضبهم علي { أخاف أن يكذبون } [القصص: 34] دفعة، ولا ينطلق لساني بمجادلتهم؛ بسبب لكنتي فأفوت بلكنتي حكمة رسالتي، وأحكام دعوتي ونبوتي.
{ قال } له سبحانه على وجه التأييد والتعضيد: { سنشد عضدك } ونقويك { بأخيك } مع ذلك لا تيأس من توفيقنا إياك؛ إذ بعدما أرسلناكما إلى فرعون وملئه { ونجعل لكما سلطانا } حجة قاطعة بها تغلبان عليهم { فلا يصلون إليكما } بقهر واستيلاء { بآياتنآ } أي: بسبب آياتنا التي معكما، ولا تخافا عن غلبتهم عليكما؛ بسبب شوكتهم وكثرة عددهم وعددهم، بل { أنتما ومن اتبعكما } من المؤمنين هم { الغالبون } [القصص: 35] المقصورون على الغلبة، لا تتعدة الغلبة عنكم، وهم المغلوبون المنحصرون على المغلوبية، لا يتجاوزون عنها أصلا.
{ فلما جآءهم موسى } مؤيدا { بآياتنا } الدالة على صدقها في دعواه، مع كونها { بينات } ظاهرات واضحات أنها من عندنا بلا تردد وريب { قالوا } من كمال قسوتهم وانهماكهم في الضلال: { ما هذآ } الذي أتى به على صورة المعجزة والبرهان { إلا سحر مفترى } اختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الله افتراء وترويجا لباطله من صورة الحق { و } من شدة حرصه على ترويج ما زخرفه من عند نفسه سماه دينا وهداية ورشدا، ونسبه إلى الوحي والإنزال من الإله الواحد الموهوم، مع أنا { ما سمعنا بهذا } أي: بوحدة الإلهة المرسل للرسل، والمنزل للكتب بالوحي والإلهام، الواضع للأديان والشرائع بين الأنام كائنا ثابتا { في آبآئنا الأولين } [القصص: 36] إن هو إلا إفك افتراه، ولبس على الأنام أمره؛ تغريرا عليهم، وتضليلا لهمز
{ و } بعدما أبصروا الآيات القاطعة والبراهين الساطعة، ونسبوها من غاية غيهم وضلالهم إلى لاسحر والشعوذة، مع أنها بمراحل عنها { قال موسى } بعدما قنط من إيمانهم وصلاحهم: { ربي } الذي رباني بأنواع الكرامات { أعلم } مني { بمن جآء بالهدى } والرشد المنزل { من عنده } بمقتضى وحيه وإلهامه، ومن اهتدى واسترشد به { ومن تكون له عاقبة الدار } يعني: العاقبة الحميدة المترتبة على هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار، وبالجملة: { إنه } سبحانه بمقتضى عدله وحكمته { لا يفلح الظالمون } [القصص: 37] الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية، ولا يفوزون بما فاز المتقون من المثوبة العظمى والدرجة العليا.
[28.38-42]
{ و } بعدما أتم موسى كلامه الصادر عن محض الحكمة { قال فرعون } مستكبرا مستحييا عمن حوله من الأنام؛ لئلا ينسبوه إلى العجز والإفحام مناديا لهم على سبيل العظمة والكبرياء: { يأيها الملأ ما علمت لكم من إله } يعبد بالحق ويستحق لها { غيري } ومن أين يدعي هذا الكذاب في السماء إلها سواي؟! { فأوقد لي يهامان على الطين } أ ي: من العملة أن يتخذوا من الطين لبنها، وأوقدوه بالنار إلى أن ياصر آجرا متحجرا { فاجعل لي } منها { صرحا } رفيعا، وقصرا منيعا سمكها متصلا إلى السماء، فأستعلي عليه { لعلي أطلع إلى إله موسى } فإن أقبل بالقتل أغلبه، وأحطه على الأرض صاغرا مهانا { و } بالجملة: { إني لأظنه } في هذه الدعوة { من الكاذبين } [القصص: 38] القائلين بقول لا منشأ لها في الواقع ولا أصل.
قيل: بنى رصدا؛ ليطلع على نظرات الكواكب، هل يجد فيها نظرا يدل على زوال ملكه باستيلاء موسى عليه السلام.
{ و } من كمال سكرتهم وعمههم، وإمهالنا إياهم متمتعين { استكبر هو } أي: فرعون { وجنوده في الأرض بغير الحق } والاستحقاق، وترقبوا في عتوهم وعنادهم إلى أن ظهروا على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة { وظنوا } بالإقدام والجرأة على مثل هذه الخرافات { أنهم } بعد خلعهم لوازم الناسوت { إلينا لا يرجعون } [القصص: 39] رجوع الأظلال إلى الأضواء المنعكسة من شمس الذات، والأمواج إلى الماء.
وبعدما بالغوا في العتو والعناد، وظهروا على الأرض بأنواع الفساد { فأخذناه } أي: فرعون بمقتضى قهرنا وجلالنا { وجنوده } أيضا بأنواع العذاب { فنبذناهم } أي: طرحناهم { في اليم } وغطيناهم بالماء فأغشيناهم بها، مثل غشي وجوداتهم الباطلة بالوجود الحق الإلهي { فانظر } يا أكمل الرسل { كيف كان عاقبة الظالمين } [القصص: 40] ومآل أمرهم، وما يؤول إليه حالهم وشأنهم { و } من كمال ابتلائنا إياهم ومكرنا معهم: { جعلناهم أئمة } قدوة للضلال { يدعون } من تبعهم ويقتفي أثرهم { إلى النار } أي: أسبابها وموجباتها؛ إذ مآل الكل إليها تابعا ومتبوعا { ويوم القيامة لا ينصرون } [القصص: 41] أي: لا يدفع عنهم العذاب، ولا يخفف عليهم بشفاعة أحد.
{ و } كيف ينصرون أولئك الضالون المضلون، مع أنا { أتبعناهم } وألزمنا عليهم { في هذه الدنيا لعنة } مستمرة جارية على ألسنة من على الأرض { ويوم القيامة } المعدة للجزاء { هم من المقبوحين } [القصص: 42] المطرودين المسوقين نحو جهنم صاغرين مهانين؟!.
[28.43-46]
{ و } بعدما نبذنا فرعون وجنوده في اليم { لقد آتينا } وأعطينا من كمال جودنا { موسى الكتاب } أي: التوراة الجامعة لظواهر الأحكام { من بعد مآ أهلكنا القرون الأولى } واستأصلنا آثارهم وأحكامهم، بحيث لم يبق من شرائع المتقدمين وآثارهم وأحكامهم شيئا بين الأنام، كنوح وهود وصالح وإبراهيم؛ وإنما آتيناه ليكون { بصآئر للناس } أي: ينوروا بأحكامه وأوامره عيون بصائرهم، ويستيقظوا من منام الجهل والغفلة، ويشتغلوا بطلب الحق.
{ وهدى } يهديهم إلى سلوك مسالك التوحيد { ورحمة } يبشرهم إلى البقاء الأبدي السرمدي بعد انخلاعهم عن خلع تعيناتهم العدمية، والإفناء عن هوياتهم الباطلة { لعلهم يتذكرون } [القصص: 43] رجاء أن يتذكروا ويتنبهوا من المواعظ والأحكام التي ذكرت فيه إلى جبلوا لأجله من المعارف والحقائق والرموز، والإشارات والمكاشفات والمشاهدات.
ثم لما قص سبحانه على حبيبه صلى الله عليه وسلم ما قص من قصة موسى الكليم، وكيفية انكشافه من النار الموقدة على الشجرة، وكيفية عروجه مترقيا من العلم إلى العين ثم إلى الحق، أراد أن يمن عليه سبحانه بما اصطفاه وفضله من بين البرايا على الرسالة العامة، وأخبره من المغيبات بطريق الوحي والإلهام ما ليس في وسعه، لولا وحيه وإلهامه سبحانه إياه، فقال: { وما كنت } يا أكمل الرسل حين انكشف موسى بالواد المقدس، وشهد من فضل الله عليه ما شهد { بجانب الغربي } أي: الوادي الذي على شفيرها الشجرة بالطرف الغربي من مقام موسى؛ أي: ما كنت حاضرا عنده { إذ قضينآ } وأوحينا { إلى موسى الأمر } الذي هو مطلوبه الحقيقي من مطلوبه الصوري { وما كنت } حينئذ { من الشاهدين } [القصص: 44] الحاضرين المطلعين على شأنه وشهوده.
{ ولكنآ } من كمال لطفنا وجودننا أخبرناك بما جرى بينه وبيننا في تلك الليلة، كما أخبرنا لك أحوال أمم { أنشأنا } من بعد موسى ومن قبلك { قرونا } أي: زمانا متطاولة ومدة بعيدة { فتطاول عليهم العمر } ومكثوا في الدنيا كثيرا، ودار بينهم الدول الحول وحدثت الفتن والمحن، ووقعت التغييرات والتحريفات في الشرائع والأديان، واندست معالم الهدى، وفشا الجدال والطغيان، واستولت الهوية الفاسدة والآراء الباطلة على أهل الزمان، فأخبرنا لك في كتابك هذا من وقائعهم؛ لتكون تذكرة لك، وعبرة للمؤمنين بك.
{ وما كنت } أيضا يا أكمل الرسل { ثاويا } مقيما { في أهل مدين } شعيب عليه السلام { تتلوا عليهم آياتنا } الدالة على كمال القسط والعدالة بلسان شعيب عليه السلام حين انحرفوا عن جادة الاعتدال في المكيلات والموزونات، واشتغلوا بالبخص والتطفيف وأنواع التنقيص والتخسير { ولكنا كنا مرسلين } [القصص: 45] مخبرين لك، موحين إليك ما جرى عليهم الأحوال.
{ وما كنت } أيضا حاضرا { بجانب الطور } الذي هو موعد موسى وقت { إذ نادينا } موسى لأخذ التوراة ووحينا إليه { ولكن } علمناك به؛ لتكون { رحمة } لك نازلة إليك { من ربك } تأييدا لك، وتقوية لشأنك، بل إنما أوحينا ما أوحيناك { لتنذر } به { قوما } بقوا على فترة من الرسل؛ إذ { مآ أتاهم من نذير من قبلك } من لدن عيسى عليه السلام، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو إسماعيل عليه السلام بناء على أن دعوة أنبياء بني إسرائيل مختصة بهم لا يتعدى إلى غيرهم { لعلهم يتذكرون } [القصص: 46] يتعظون بما في كتابك، ويتنبهون بما في حكمه وأحكامه إلى مبدئهم ومعادهم، ويفوزون منها إلى المعارف الحقائق التي جبلوا لأجلها.
[28.47-50]
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع: { ولولا } كراهة { أن تصيبهم مصيبة } عظيمة جالبة لنزول أنواع العذاب والنكال { بما قدمت أيديهم } أي: بشؤم ما اقترفوا من المعاصي { فيقولوا } حنيئذ مجتمعين علينا، مجالدين بنا بعدما أخذناهم عليها: { ربنا لولا } وهلا { أرسلت إلينا رسولا } من عندك، مؤيدا من لدنك بالآيات البينات { فنتبع آياتك } البالغة إلينا برسالته ونصدقها، ونعمل بمقتضاها { ونكون من المؤمنين } [القصص: 47] الموقنين بوحدانيتك، المخلصن من عذابك.
{ فلما جآءهم الحق } أي: الرسول المرسل { من عندنا } ملتبسا بالحق المؤيد بالآيات الساطعة القاطعة { قالوا } من خبث طينتهم، وشدة شكيمتهم وضغينتهم: { لولا أوتي } وهلا أوتي بهذا الرسول المرسل إلينا من الدلائل والمعجزات { مثل مآ أوتي موسى } حتى نصدقه ونؤمن به؛ وما هذا إلا من غاية غيهم وضلالهم، وغلظ حجبهم وغشاوتهم، وإلا لو أتوي له مثل ما أوتي موسى لكفروا ألبتة { أولم يكفروا بمآ أوتي موسى من قبل }.
حيث { قالوا } بعدما شاهدوا دلائله ومعجزاته مبالغين في رده وإنكاره: { سحران } أو سحران على القراءتين { تظاهرا } يعني: موسى وهارون، مع أن ما أتيا به بعيد بمراحل عن السحر، وأنتم أيضا من بقية ما كفروا بدلائل موسى، ونسبوها إلى السحر، ولو آتينا محمدا صلى الله عليه وسلم مثل ما آتينا موسى لكفرتم به ألبتة، كما كفر أسلافكم بآيات موسى ومعجزاته، مع أن دلائل محمد أقوى من دلائل موسى، وكتابه أجمع من كتابه وأتم نظما، وأكمل معرفة وأعم حكما وأشمل فائدة، وبعدما سمعوا ما دل على خباثة فطرتهم { وقالوا } مظهرين ما في نفوسهم من الشرك والنفاق: { إنا بكل } مما يدعي الرسالة والنبوة، والإرشاد والهداية { كافرون } [القصص: 48] منكرون له، لا نقبل عن أبناء جنسنا مثل هذه المفتريات التي أختلقوها من تلقاء أنفسهم، ونسبوها ترويجا لها إلى ما لا وجود له في الواقع، وسموه إلها واحدا أحدا صمدا، فردا وترا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
{ قل } يا أكمل الرسل على سبيل التعجيز والتوبيخ بعدما عاينت منهم الكفر على أبلغ وجه وآكده: { فأتوا } أيها المفسدون المسرفون { بكتاب } نازل { من عند الله } المنزل للكتب؛ لإرشاد عباده { هو أهدى منهمآ } أي: من التوراة والقرآن { أتبعه } أي: الكتاب وما فيه من الأحكام، وأمتثل لأوامره، وأجتنب عما نهي فيه { إن كنتم صادقين } [القصص: 49] في نسبتنا إلى السحر.
{ فإن } عجزوا عن الإتيان، و { لم يستجيبوا لك } ما طلبت منهم { فاعلم } يا أكمل الرسل { أنما يتبعون أهوآءهم } أي: إنهمه إنما يتبعون أهواءهم الفاسدة، وآراءهم الباطلة بلا متابعة منهم إلى ملة من الملل السالفة، وإلى دين الأديان السابقة { ومن أضل } طريقا، وأشد غيا، وأسوأ حالا ومآلا { ممن اتبع هواه } حال كونه { بغير هدى } أي: بتوفيق وإرشاد { من الله } الميسر لأمور عباده ، وكيف يوفقهم الحق ويهديهم؟ { إن الله } الحكيم المتقن في أفعاله { لا يهدي } إلى الطريق المستبين { القوم الظالمين } [القصص: 50] الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه؛ إذ هم منهمكون في بحر الغفلة والضلالة لا يرجى نجاتهم منها.
[28.51-56]
{ ولقد وصلنا } وفصلنا { لهم القول } بأنا أتبعنا الأحكام بالحمم، والأوامر بالمواعظ، والتذكيرات والنواهي بالعبر والأمثال، وأوضحنا الكل بالقصص والوعيدات الهائلة لأهل الغفلة والنسيان، وتنزيل أنواع العذاب والنكال على أهل الكفر والإنكار { لعلهم يتذكرون } [القصص: 51] ويتعظون منها فيؤمنون ويقبلون، ومع ذلك لم يتعظوا ولم يتأثروا، فلم يقبلوا ولم يؤمنوا.
ثم قال سبحانه: { الذين آتيناهم الكتاب } أي: الفرقة الذين آتيانهم التوراة الدينية { من قبله } أي: قبل نزول القرآن { هم به } أي: بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن إليه { يؤمنون } [القصص: 52] إذ هم مصدقون بجميع ما في كتابهم.
ومن جملة الأمور المثبتة في كتابهم: إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن إليه، وهم يؤمنون به قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن لمدة متطاولة { و } وبعد نزول القرآن { إذا يتلى عليهم قالوا } مسلمين مصدقين: { آمنا به إنه الحق } المطابق للواقع، النازل { من ربنآ إنا كنا من قبله } أي: من قبل نزوله { مسلمين } [القصص: 53] منقادين لما فيه، مصديقن له، مؤمنين بما أنزل إليه؛ إذ الإيمان به من جملة المعتقدات المثبتة في كتابنا، فالآن لم لم نؤمن مع أنا وجدناه مطابقا لما علمناه في كتابنا، وعلى الوجه الذي تلوناه فيه؟!.
{ أولئك } السعداء المقبولون عند الله { يؤتون } ويعطون { أجرهم مرتين } أي: ضعفين؛ أي: مرة على الإيمان السابق بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم بمقتضى ما ثبت في كتابهم، ومرة على الإيمان اللاحق بعدما عاينوا ما وصف لهم في كتابهم، وإنما ضوعفوا { بما صبروا } وثبتوا على ما نزل عليه من قبل الحق، ولم يتركوا امتثاله سابقا ولا حقا بواسطة دوامهم وثباتهم على الأمر أو في كتابه { ويدرؤن } أي: يدفعون ويسقطون { بالحسنة } أي: الخصلة الحميدة الموجبة لأنواع الإفضال والإنعام { السيئة } الجالبة لأنواع العذاب والخذلان { و } هم أيضا من كمال اتصافهم بالكمال والإحسان { مما رزقناهم } وأقدرناهم على كسبه { ينفقون } [القصص : 54] من سبيلنا؛ طلبا لمرضاتنا.
{ و } من كمال تحفظهم، وصيانتهم نفوسهم عن نواهينا { إذا سمعوا اللغو } أي: الكلام الخالي عن المصلحة الدينية { أعرضوا عنه } اتقاء وتحرزا عن وصمة المداهنة والمراضاة بما لا يرضى منه سبحانه { وقالوا } من سلامة نفوسهم، وكمال علمهم للمرتكبين بعدما لم يقدروا على نهيهم: { لنآ } جزاء { أعمالنا } التي اقترفناها بسعينا واجتهادنا { ولكم } جزاء { أعمالكم } التي أنتم عليها مصرين، وقالوا لهم حين توديعهم والذب عنهم: { سلام عليكم } أي: سلمكم الله العفو الرحيم عن عوائد ما كنتم عليه ووفقكم على التوبة والإنابة، وما لنا معكم مطالبة ومجادلة سوى إنا { لا نبتغي } ولا نطلب مصاحبة { الجاهلين } [القصص: 55] بسوء عواقب الخصائل الغير المرضية عند الله وعند خالص عباده.
" ثم لم أحتضر أبو طالب، ودنا أن يخرج من الدنيا جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتما بإيمانه وتوحيده، فقال له: " قل يا عم مرة: لا إله إلا الله، أحاج بها لك عند ربي، وأخرجك بها عن زمرة المشركين " قال: يا ابن أخي، والله إني علمت إنك لصادق في جميع ما جئت به، لكن أكره أن يقال: جزع أبو طالب عند الموت "
أي: ضعف وجبن.
أنزل سبحانه هذه الآية؛ تأديبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، وردعا عن طلب شيء لا يعرف حصوله، فقال: { إنك } يا أكمل الرسل من شدة حرصك واهتمامك { لا تهدي } وترشد إلى طريق الحق، وسبيل التوحيد كل { من أحببت } وأردت إيمانه { ولكن الله } المطلع على استعدادات عباده { يهدي } ويوفق على الإيمان والإطاعة بدين الإسلام { من يشآء } هدايته، وأثبت سعادته وتوحيده في لوح قضائه { وهو أعلم } بعلمه الحضوري { بالمهتدين } [القصص: 56] من عباده بعد أن بلغت لهم ما أمرك الحق بتبليغه، وما عليك إلا البلاغ، والهداية والرشاد إنما هو بإرادته سبحانه واختياره.
[28.57-59]
ومن الأعراب قوم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله وعليه وسلم { وقالوا }: إنا قد علمنا يقينا أنك على الحق والهداية والرشاد، لكن { إن نتبع الهدى معك } ونؤمن بك ونعمل بدينك، وابتعناك بجميع ما جئت به من عند ربك على الوجه الذي اعتقدناك { نتخطف } ونخرج { من أرضنآ } التي كنا مستقرين عليها بمخالفتنا العرب؛ إذ نحن أكلة رأس متفقين، ومتى خالفناهم في أمر لم يرضوا عليه أخرجونا من بينهم صاغرين مهانين، فرد الله عليه سبحانه عذرهم هذا بقوله:
{ أ } يخالفون أولئك الخائفون { ولم نمكن لهم } من ما مضى، ولم نجعل مكانهم الذي يستقرون فيه { حرما } ذا حرمة عظيمة { آمنا } ذا أمن من جميع المكروهات، جالبا لأنواع الخيرات والبركات؛ إذ { يجبى إليه } ويجمع فيه، ويحمل نحوه { ثمرات كل شيء } أي: نفائسه من كل أمد بعيد، وفج عميق؛ ليكون { رزقا } لهم سابقا { من لدنا } إياهم؟! { ولكن أكثرهم } المجبولين على الجهل والنسيان { لا يعلمون } [القصص: 57] كمال لطفنا معهم، ووفور نعمتنا ورحمتنا إياهم.
{ و } قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: لا تغرنكم الحياة الدنيا، وإمهالنا إياكم فيها مترفهين متنعمين؛ إذ { كم أهلكنا من قرية } أي: كثيرا أهكلنا أهل قرية قد { بطرت معيشتها } أي: كان أهلها بطرين بسعة عيشها، ووفور معيشتها أمثالكم فدرا عليهم الدول، فأخذناهم بأنواع النقم بدل نعمهم، فأهلكناهم واستأصلناهم صاغرين؟! { فتلك } الأطلال الخربة، والآثار الكربة التي تجاه وجوهكم { مساكنهم } وأوطانهم التي يتمكنون فيها مترفهين بطرين، انظر كيف اندرست وتفتت إلى حيث { لم تسكن من بعدهم } في بلادهم وأماكنهم.
{ إلا قليلا } من أهل السفر والعبور ينزلون فيه، ويرحلون بلا إقامة فيها ووارثة لها، وهكذا الدنيا وحياتها، والاستقرار عليها والتمتع بمتاعها عند العارف المتحقق بحقيقتها { و } بعدما أهلكناهم، وخربنا بلادهم { كنا نحن الوارثين } [القصص: 58] منهم، حيث لا نمكن فيها خلفا من أبناء من شؤم آثارهم ومعاصيهم التي كانوا عليها مصرين غير ممتنعين، وإن أرسلنا عليهم الرسل، وأنزلنا عليهم الكتب.
{ وما كان ربك } يا أكمل الرسل { مهلك القرى } وما ينبغي ويليق بشأن العليم الحكيم أخذهم بغتة بلا منبه منذر، بل ما أخذهم على ظلمهم { حتى يبعث في أمها } أي: البلدة التي هي أم القرى الهالكة؛ إذ أهلها قبل المرشد والهداية من أصحاب القرى والنواحي، وهم تابعون لهم في معظم أمورهم { رسولا } مؤيدا من عندنا، مرسلا إليهم { يتلو عليهم آياتنا } الدالة على عظيم ذاتنا، وكمال قدرتنا على الإنعام والانتقام، ويدعوهم إلى توحيدنا والتدين بالدين الموضوع من عندنا، فتلا عليهم آياتنا فدعاهم إلى توحيدنا وديننا، فلم يقبلوا قوله ولم يستجيبوا له، بل كذبوه وجميع ما جاء به من الرشد والهداية مصرين على ما هم عليه من الغواية، فاستحقوا الهلاك والعذاب فأهلكناهم.
{ و } بالجلمة: { ما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } [القصص: 59] يعني: ما كنا مبادرين على إهلاك القرى الهالكة بلا سبق أسباب صدرت عنهم، واستوجبت هلاكهم، بل إنما أخذناهم بعدما ظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودنا الموضوعة فيها ظلما وعدوانا، وصاروا مصرين مباهين بما آتيناهم من زخرفة الدنيا المستعارة الفانية التي ألهاهم عن اللذائذ الأخروية الباقية فيهم.
[28.60-63]
{ و } الحال أنهم { مآ أوتيتم من شيء } في هذه النشأة { فمتاع الحياة الدنيا } الدنية التي هي على طرف التمام، مشرفة على التقضي والانصرام { وزينتها } الزائلة الذاهبة بلا قرار ولا دوام { وما عند الله } من المعارف الحقائق، والمكاشفات والمشاهدات لأرباب المراتب العلية، والمناصب السنية من المنقطعين نحو الحق بعد انخلاعهم عن لوازم هوياتهم البشرية الفائضة عن التلذذ باللذات الروحانية { خير } لا يتخلل بينهي شيء، ولا يعرضه ضر { وأبقى } إذ لا يلحقه انصرام ولا انقضاء، ولا زوال ولا فناء { أ } تستبدلون أيها الحمقى الأدنى الفاني بالأعلى الباقي، وتختارون اللذة الجسمانية على اللذات الروحانية { فلا تعقلون } [القصص: 60] ولا تستعملون عقولكم الموهوبة بمقتضاها؛ ليتميز عندكم ما هو الأليق بحالكم، والأولى بمآلكم؟!.
{ أ } تسوون الأجل الباقي بالعاجل الزائد الفاني، مع أن الكل من عندنا وتحت قدرتنا { فمن وعدناه وعدا حسنا } أي: موعدا ذا حسن وكرامة، وبهجة وبهاء { فهو لاقيه } أي: مدركة وموصلة إليه؛ إذ لا خلف لوعدنا، أتظنون وتعتقدون أيها الجاهلون أن منزلة هذا السعيد الموفق على السعادة من عندنا { كمن متعناه } في هذه النشأة { متاع الحياة الدنيا } مكدرة بأنواع الكدورات، مشوبة بالآلام والحسرات، منغمسة بالخبائث والقاذورات { ثم هو يوم القيامة } بعد انقراض النشأة الأولى { من المحضرين } [القصص: 61] للحساب والجزاء على ما تمتعوا في النشأة الأولى ؟!.
ثم قال سبحانه: { و } اذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله، وأثبت له شريكا في الوجود سواه { يوم يناديهم } الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء حين ظهر على مظاهره باسم القهار، المفني لأظلال السوى والأغيار مطلقا { فيقول } على مقتضى غيرته وجلاله مخاطبا لمن أشرك به شيئا من عكوسه وأظلاله، مع أن الكل حنيئذ مطموس مقهور تحت حوله وقدرته: { أين شركآئي الذين كنتم تزعمون } [القصص: 62] أيها المشركون شركائي، وتعبدونهم كعبادتي عدوانا وظلما؟! ثم أظهرهم الحق وأوجدهم؛ أي: التابعين والمتبوعين جميعا بعدما قهرهم وعذبهم جميعا؛ إظهارا للقدرة الكاملة، وإلزاما للحجة البالغة.
وبعدما أظهرهم وسأل عنهم { قال الذين حق } أي: ثبت وتوجه { عليهم القول } أي: السؤال من الله، وهم الشياطين المعبودون مناجين نحو الحق، متضرعين قائلين: { ربنا } يا من ربانا على فطرة التوحيد، كيف صدر منا أمثال هذه الجرأة؟! بل { هؤلاء } الغواة الهالكون في تيه الغي والضلال هم { الذين أغوينآ } عن منهج الاستقامة والسداد بأنواع التذلل والانقياد، والإطاعة والعبادة إيانا على مقتضى أهويتهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة، مع أنا لا نستحق بها على توهم منهم إنا قادرون على إنجاح ما في نفوسهم من الأماني والشهوات.
ونحن أيضا { أغويناهم } بأنواع التغرير والتضليل { كما غوينا } هؤلاء إيانا بعبادتهم وطاعتهم نحونا، فتعارض إغواؤنا بإغوائهم، وحين ظهر الحق تساطقا، فالآن { تبرأنآ } عنهم وعن عبادتهم، والتجأنا { إليك } تائبين آيبين، مع أنهم { ما كانوا إيانا يعبدون } [القصص: 63] حين ادعوا عبادتنا، بل إنما عبدوا أهوية نفوسهم، وأماني قلوبهم، وتوسلوا بنا فيها، والعابدون أيضا يتبرؤون عن معبوداتهم بأشد من ذلك.
[28.64-70]
{ وقيل } حينئذ من قبل الحق للمشركين: { ادعوا شركآءكم } الذين تطمعون وتدعون شفاعتهم لكم { فدعوهم } صائحين متضرعين { فلم يستجيبوا لهم } من كمال عجزهم وحيرتهم في أمر أنفسهم { و } بعدما { رأوا العذاب } النازل على أربابهم قالوا متمنين على سبيل التلهف والتحسر: { لو أنهم كانوا يهتدون } [القصص: 64] في النشأة الأولى لينقذوا أنفسهم من العذاب اليوم، فكيف: إنقاذهم بنا؟!.
{ و } بعدما سأل سبحانه عن شركهم سألهم عن تكذيب رسله، اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يناديهم } الحق { فيقول } سبحانه معاتبا إياهم: { ماذآ أجبتم المرسلين } [القصص: 65] حين دعوتكم إلى الإيمان والتوحيد، والعمل الصالح والاجتناب عن المحظورات وترك المنكرات { فعميت عليهم الأنبآء يومئذ } يعني: ضلوا وتحيروا عن جميع طرق الكلام، وسدت عليهم سبل الأجوبة والإخبار مطلقا؛ وذلك من كمال دهشتهم وحيرتهم، وشدة عمههم وسكرتهم { فهم } يومئذ من غاية ولههم وحيرتهم { لا يتسآءلون } [القصص: 66] ولا تقاولون؛ أي: لا يسأل بعضهم بعضا حتى يعلمه، بل كلهم حينئذ حيارى سكارى، تائهين هائمين، لا يسمع لهم ولا يتأتى منهم الالتفات والتلقي أصلا.
{ فأما من تاب } عما جرى عليه من المعاصي { وآمن } بالله على مقتضى ما أمرهم الحق بلسان رسله وأنبيائه { وعمل } عملا { صالحا } امتثالا لما نطق به الكتب والرسل { فعسى أن يكون } هذا السعيد { من المفلحين } [القصص: 67] الفائزين بالمثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله، ومن المبشرين من عنده بشرف اللقاء، والوصول إلى دار البقاء.
{ وربك } يا أكمل الرسل { ما يشآء } ويظهر بمقتضى تجلياته الحبية الجمالية جميع { يخلق } من المظاهر { ويختار } منها ما يختار، فالكل مجبور تحت قدرته ومشيئته { ما كان } أي: ما صح وثبت { لهم الخيرة } أي: التخير والاختيار؛ حتى يريدوا لأنفسهم ما هو الأصلح لهم، بل جميع شئونهم وأمورهم مفوضة إلى الله أولا وبالذات، وهم مقهورون مجبورون تحت حكمه وقضائه، وكيف لا يكونوا مجبورين؛ إذ هم من عكوس أسمائه وظلال أوصافه، ما لهم وجود في أنفسهم، وتحقق في ذواتهم؟! { سبحان الله } المنزه عن المثل والشبيه { وتعالى عما يشركون } [القصص: 68] من الشريك والنظير.
{ وربك } يا أكمل الرسل { يعلم } بعلمه الحضوري { ما تكن } وتخفي { صدورهم } أي: ضمائرهم وقلوبهم { وما يعلنون } [القصص: 69] بجوارحهم وآلاتهم.
{ و } كيف يخفى عليه شيء؛ إذ { هو الله } الواجب لذاته، المستقل في وجوده وظهوره على عروش عموم مظاهره ومصنوعاته بالاستقلال التام والاستيلاء الكامل { لا إله } في الوجود سواه، ولا عالم لما ظهر وبطن { إلا هو } لذلك ثبت { له الحمد } والثناء من ألسنة ذرائر الأكوان، وجميع من رش عليه من رشحات جوده ولمعات وجوده { في الأولى والآخرة } من نشأتي الظهور والخفاء، والبروز والكمون، والقبض والبسط { وله الحكم } والأمر في الصعود والهبوط، والنزول والعروج، وجميع الشئون والتطورات { و } بالجملة: { إليه } لا إلى غيره؛ إذ لا غير في الوجود { ترجعون } [القصص: 70] وتحشرون، كما أن منه تبدؤون وتنشؤون؟!.
[28.71-73]
ثم أشار سبحانه إلى معظم ما أنعم على عباده من تجدد الملوين، وتعاقب الجديدين امتنانا لهم، وحثا على مواظبة شكره ومداومة ذكره، والتذكر بإحسانه وإنعامه، وتعريضا للمشركين، فقال آمرا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: { قل } أي أكمل الرسل للناس الناسين توالي نعمنا المترادفة مستفهما إياهم، مسخبرا منهم على سبيل التنبيه والتذكير: { أرأيتم } أي: أخبروني أيها المغمورون بنعمي { إن جعل الله } المحول للأحوال، المدبر لجميع التدابير { عليكم الليل } المظلم { سرمدا } ممتدا مستمرا بلا تخلل ضوء بينه { إلى يوم القيامة من إله } قادر على إيجاد الضوء في خلال الظلمة { غير الله } على زعمكم الفاسد { يأتيكم بضيآء } تفوزون إلى أمور معاشكم بسببها { أفلا تسمعون } [القصص: 71] أمثال هذه التذكيرات ولا تفهمون معناها، ولا تستكشفون عن الحكم والمصالح المدرجة فيها أيها المجبولون على الفهم والاستكشاف؟!.
ثم قال سبحانه: { قل } لهم يا أكمل الرسل: { أرأيتم إن جعل الله } المصلح لجميع حالاتكم { عليكم النهار } المضيء { سرمدا } مستمرا دائما بلا لحوق ما يضاده { إلى يوم القيامة من إله غير الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والربوبية { يأتيكم بليل تسكنون فيه } وتستريحون من تعبكم اللاحق من أشغالكم { أفلا تبصرون } [القصص: 72] آلاء الله الفائضة عليكم على التعاقب التوالي؛ لإصلاح أحوالكم ليلا ونهارا؛ حتى تواظبوا على شكرها، وتداوموا لأداء حقها سرا وجهارا؟!.
{ ومن } كمال { رحمته } ووفور مرحمته { جعل لكم اليل والنهار } متجددين متعاقبين { لتسكنوا فيه } أي: في الليل، وتستريحوا عما عرض عليكم في النهار من المتاعب والمشاق { ولتبتغوا } وتطلبوا { من فضله } وسعة جوده في النهار { و } إنما أفاض علكيم كل ذلك { لعلكم تشكرون } [القصص: 73] نعمه سبحانه؛ كي تفوزوا إلى ما أعد لكم من موائد كرمه، ولا تشركوا معه شيئا من مظاهره ومصنوعاته، ولا تنظروا إلى الوسائل والأسباب العادية، ولا تنسبوا الأفعال الحادثة في الآفاق على غيره سبحانه، بل نزهوه عن مطلق المشاركة والمماثلة، وقدسوه عن جميع ما لا يليق بشأنه.
[28.74-77]
{ و } اذكر للمشركين أيضا يا أكمل الرسل { يوم يناديهم } الحق { فيقول } مغاضبا عليهم، مسفهما على سبيل التوبيخ والتقريع: { أين شركآئي الذين كنتم تزعمون } [القصص: 74] أيها الحمقى شركاء معي، أحضروهم حتى يظهر الحق، ويقمع الباطل الزاهق الزائل.
{ و } بعدما بهتوا وسكتوا من الجواب { نزعنا } وأخرجنا { من كل أمة شهيدا } يشهد عليهم جميع ما صدر عنهم وجرى عليهم في دار الاختبار، والشهيد هو النبي المبعوث إليهم حين انحرافهم عن سبيل الاستقامة { فقلنا } للأمم بعد نزع شهدائهم: { هاتوا } أيها الضالون { برهانكم } أي: مستندكم ودليلكم الذي أنتم تضلون لأجله وتشركون بسببه، وتنحرفون عن جادة العدالة وسبيل السلامة بمتابعة { فعلموا } حنيئذ { أن الحق } أي: اللياقة والاستحقاق على العبادة { لله } الحقيق بالحقية، الجدير بالألوهية اللائق بالربوبية، ليس كمثله شيء يعبد له ويرجع إليه { و } بعدما جاء الحق وزهق الباطل { ضل } أي: غاب وخفي حنيئذ { عنهم ما كانوا يفترون } [القصص: 75] المعبودية إليه وينسبون الألوهية والربوبية نحوه جهلا وعنادا، ويدعون اشتراكه مع الله في استحقاق العبادة والرجوع إليه لدى الحاجة.
ثم قال سبحانه تذكيرا للمؤمنين وعبرة لهم عن تفظيع حال من تكبر على الله، وعتا على كليمه، وخرج عن ربقة الإيمان وقلادة الإخلاص معه؛ بسبب ما بسط الله عليه من حطام الدنيا ومن زخرفاها ابتلاء وفتنة: { إن قارون } المتجبر المتكبر الذي ظهر على الله و على رسوله متفخرا بماله وجاهه { كان من قوم موسى } أي: من جملة من آمن له وصدقه، قيل: هو ابن عمته، وقيل: ابن خالته، وكان أميرا بين بين إسرائيل قد أمره عليهم فرعون، وبعدما ظهر موسى وهارون فآمن له وحفظ التوراة وأحسن حفظه إلى حيث يقرؤه عن ظهر القلب، ثم لما استولى موسى وأخوه على مملكة العمالقة، وانقرض الفراعنة رأسا حسدهما قارون، وأنكر جاههما إتكاء بما عنده من الكنوز، فقال يوما لموسى: لك الرسالة ولأخيك الحبور، وأنا في غير شيء إلى متى أصبر؟! { فبغى عليهم } وقصدهم مغالبتهم.
{ و } ما ذلك إلا أن { آتيناه } وأعطينا له مكرا له، وافتنانا عليه { من الكنوز } أي: الأموال التي عهد ادخارها من الذهب والفضة وغيرهما، وبلغت من الكثرة إلى { مآ إن مفاتحه } أي: إلى حد مفاتح أقفال مخازنه، وأقفال الصناديق الموضوعة فيها المختومة المقفولة { لتنوء } وتثقل من كثرتها { بالعصبة } أي: الجماعة الكثيرة من الحفظة، مع أنهم من { أولي القوة } أقوياء على حمل الثقيل جدا، وكان مفتخرا بها بطرا، فرحانا يمشي على وجه الأرض خيلاء { إذ قال له قومه } أي: بعض منهم من أقربائه وقرنائه بعدما أبصروا بطره المفرط نهيا له، وتشنيعا عليه، وحثا له على الإنفاق والصرف في سبيل الخيرات: { لا تفرح } بما عندك من الزخرفة الفانية فإنها عن قريب ستفوت، وأخرجها من قلبك { إن الله } المصلح لأحوال عباده { لا يحب الفرحين } [القصص: 76] منهم، سيما بحطام الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الروحانية.
{ وابتغ } واطلب { فيمآ آتاك الله } المنعم المفضل من الرزق الصوري الزائل الغير القار { الدار الآخرة } أي: الرزق المعنوي القار، المسمى في دار القرار، وذلك لا يحصل لك إلا بإنفاق ما في يدك من الرزق الصوري في سبيل الله للفقراء؛ طلبا لمرضاته بلا شوب المن والأذى، وسد الثغور وبناء القناطير والخانات، والمساجد وبقاع الخيرات، وغير ذلك من الأمور المتعلقة لعموم مصالح العباد والتسهيل عليهم ورفع العسرة عنهم { و } إن أردت أن تكون من أهل الثروة والجاه المخلد في النشأتين { لا تنس نصيبك من الدنيا } وهو الاجتهاد في مرتبة الاستخلاف والنيابة على مقتضى كريمة:
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه...
[الحديد: 7].
إذ العبد وما في يده لمولاه والتصرفات الحادثة في عالم الكون والفساد إنما هي مستندة إلى الله أولا بالذات { و } بعدما علمت ما هو نصيبك وحظك من دنياك، وما معك منه في أخراك إلا الإحسان والإنفاق { أحسن } مما جعلك الحق خليفة عليه { كمآ أحسن الله إليك ولا تبغ } أي: لا تطلب { الفساد في الأرض } اتكالا على ما في يدك من أسبابه التي هي الأموال المؤدية إلى أصناف الفسادات، وارتكاب أنواع المحذورات والمنهيات { إن الله } المطلع لجميع حالات عباده { لا يحب المفسدين } [القصص: 77] منهم، سيما بمظاهرة حطام الدنيا الدنية.
[28.78-80]
وبعدما سمع قارون منهم المواعظ والتذكيرات المتعلقة بإصلاح حاله، النافعة له في الاولى والأخرى أعرض عنهم وعن مقالهم عتوا واستبكارا، حيث { قال } مستعظما بشأنه، مستبدأ برأيه: { إنمآ أوتيته } أي: ما أوتيت بما أوتيت من الرزق الصوري إلا { على علم } حاصل { عندي } يعني: منشأ إتيان المال علي وحصولها عندي اتصافي بعلم كامل موجب لحصولها تحصيلها؛ أي: ما هي وجمعها إلا بحولي وقوتي وعلمي بطرق تحصيلها.
إنما قال هذا بطرا واستغناء، وكبرا وخيلاء، وقيلأ: إنه عالم بعلم الكيمياء، قال سبحانه ردا عليه على سبيل التعيير والتوبيخ: { أ } بتفوه ويقول هذا الطاغي الباغي الهالك في تيه الغي والضلال أمثال هذه الخرافات { ولم يعلم } بالتواتر ومطالعة كتب التواريخ، ومن القصص المثبتة في التوراة { أن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { قد أهلك } واستاصل كثيرا { من قبله من } أهل { القرون } الماضية { من هو أشد منه قوة } بحسب الأولاد والأتباع { وأكثر جمعا } لحطام الدنيا، أما يستحي هذا الطاغي المسرف يظهر على الله، ولم يخف من بطشه وانتقامه بغتة { و } من سرعة نفوذ قضاء الله وقت إرادة إنفاذه عند الغضب على أعدائه { لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } [القصص: 78] إذ اطلاعه سبحانه بحالهم وضلالهم يكفي في انتقامهم، فلا يحتاج إلى سؤالهم؟!.
وبعدما ذكروا عنده من الزواجر والعبر فلم ينزجر ولم يعتبر، بل ما زاد إلا بطرا وخيلاء { فخرج } يوما من الأيام من بيته مباهيا { على قومه } مستكبرا عليهم، مستغرقا { في زينته } الكاملة؛ إذ هو على بغلة شبهاء - هي الأبلق الذي كثر بياضه على سواده - وعليه ثباب فاخرة حمر كلها تسر الناظر إليها؛ من صفاء لونها وبهائها، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زية، وقيل: تسعون ألفا على زيه، وعلى خيولهم ومراكبهم أيضا لبسة حمراء، فخرج الناس معه صافين حوله، ناظرين نحوه، متعجبين من حاله، متمنين من الله رتبته، حيث { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } وزينتها، وهمهم مقصور إليها، وغاية متمناهم حصول مثلها لهم: { يليت لنا } من حظوظ الدنيا { مثل مآ أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم } [القصص: 79] ونصيب كامل من الدنيا.
{ وقال الذين أوتوا العلم } اللدني والمعرفة الكاملة وبالنشأة الأخرى؛ ردا عليهم وإزالة لحسرتهم، وردعا لهم عن متمناهم على أبلغ وجه وآدكده: { ويلكم } أي: يلزمكم ويلكم، ويحل عليكم هلاككم أيها القاصرون عن معرفة الحق، وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات التي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بل { ثواب الله } المحسن المفضل، ورضاه من عبده { خير } من الدنيا وما فيها من أضعافها وآلافها { لمن آمن } له احتسابا على نفسه { وعمل صالحا } أي: قرن إيمانه بالعمل الصالح إحسانا منه بالنسبة إليه سبحانه، وطلبا لمرضاته { و } بالجملة: { لا يلقاهآ } أي: لا يصل إلى هذه المثوبة العظمى، والدرجة العليا التي أعدها الله لعباده { إلا الصابرون } [القصص: 80] على ما جرى عليهم من البليات، وعلى مشاق الطاعات ومتاعب العبادات، والرضا بما أعطاهم الحق ورزقهم من الحظوظ بلا تمن منهم، ولا تحسر إلى مرتبة أحد من أصحاب الجاه والثروة، بل هم بما عندهم راضون، وبما أعطاهم الحق على مقتضى قسمته الأزلية متمكنون مطمئنون، ألا أنهم هم المؤمنون حقا وأولئك الفائزون المفلحون؟!.
ربنا اجعلنا من زمرتهم بمنك العظيم وجودك الكريم.
[28.81-84]
وبعدما أمهلناه زمانا، ورفهناه نشطا فرحانا، أخذناه غضبانا { فخسفنا به وبداره الأرض } قلقا حيرانا؛ يعني: طبقنا الأرض عليه وعلى أمواله وخزائنه بعدما أخذتها وابتلعتها امتثالا لأمر موسى الكليم - صلوات الله عليه وسلامه - وذلك أنه كان يؤذي موسى دائما حسدا عليه، وكان موسى يداريه صيانة لقرابته.
ثم لما نزلت الزكاة صالح معه من كل ألف بواحدة من أي جنس كان فحاسبه، فبلغ مبلغا عظيما فاستكثره فمنعه، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بين إسرائيل بغيا عليه وعدوانا فبرطل بغية، وأعطى لها رشوة؛ لترمي موسى بنفسها.
فلما كان يوم عبد قام موسى خطيبا، فقال في خطبته: من سرق قطعناه، ومن زنى غير محصن جلدناه، ومن زنى محصنا رجمناه، فقال قارون: ولو أنت يا موسى، قال: ولو كنت أنا؟! قال : إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت مع فلانة، قال موسى: فأحضروها فأحصرت، فناشدها موسى بالله الذي فلق البحر، وأنزل التوراة أن تصدق، فقالت بإلقاء الله في قلبها كرامة لموسى، وتنزيها له عما لا يليق بشأنه، وتفيضحا لقارون: جعل لي قارون جعلا كذا؛ على أمن أرميك بنفسي، فخر موسى ساجدا، فقال في سجدته: إليه إن كنت نبيك ورسولك فانصرني واخذل عدوي، فأوحى الله في سجدته: أن مر الأرض أي شيء شئت، فتجيبك يا موسى.
فرفع رأسه من سجدته مرتعدا غيورا غضبانا، فقال يا أرض خذيه فابتلعته على الفور إلى ركبته، فأخذ يتضرع: يا موسى ارحمني! فأنا قرابتك، ثم قال موسى مغاضبا على الأرض: خذيه! فأذخته إلى وسطه، فازداد في تضرعه وتفزعه، ثم قال: خذيه! فأخذته إلى عنقه، فتضرع وصرخ نحو موسى من أول أخذه إلى خسفه سبعين مرة لم يرحم عليه، ثم قال: خذيه! فخسفت به وطبقت عليه، فلم يرحمه حتى عاتبه سبحانه: ما أفظك يا موسى! حتى استرحمك سبعين مرة فلم ترعه، فوعزتي وجلالي: لو دعاني مرة لأجبته.
وبعدما خسف قارون قال بنو إسرائيل: إنما قلته ليرث أمواله، فأشعر بهم موسى فأمر الأرض بخسف داره وأمواله وخزائنه إلى حيث لم يبق من منسوباته شيء على وجه الأرض { فما كان له } حينئذ { من فئة } أعوان وأنصار { ينصرونه } ويدفعون عذاب الله عنه { من دون الله } القادر المقتدر على دفع أمثاله، وهو بريء من الله { و } هو غير ملتجئ إليه ومتضرع نحوه؛ ولذلك { ما كان من المنتصرين } [القصص: 81] الممتنعين من العذاب لا بنفسه ولا بمعاونيه وأنصاره.
وبعدما خسف قارون بشؤم أمواله التي جعلها وسيلة إلى أنواع الفسادات، من جملتها: رمي كليم الله وخلص رسله بالزنا التي هي بمراحل عن طهارة ذيله ونجابة طينته؛ إذ الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا.
{ وأصبح } الفقراء { الذين تمنوا مكانه } ومنزلته { بالأمس } أي: الزمان الذي هو أقرب زمن بخسفه، متحسرين بما عنده من الثروة والجاه، أخذوا { يقولون } متمنين على عكس متمناهم السابق، متعجبين من كمال علم الله ومتانة حكمته، قائلين كل منهم لصاحبه: { ويكأن } المعنى على الانفصال بين " ويك " و " أن " والاتصال بينهما إنما هو بمتابعة المصحف؛ يعني: ويل لك، وهلاكك لازم بمتمناك الذي تمنيته بالأمس، اعلم أن { الله } الحكيم المتقن في أفعاله { يبسط الرزق } بمقتضى حكمته { لمن يشآء من عباده } على مقتضى استعداداتهم { ويقدر } أي: يقبض عن من يشاء أيضا على وفق استعداده، وما لنا اطلاع على متانة علمه وحكمته { لولا أن من الله } المصلح لمفسادنا { علينا } بمنعنا عن متمناها { لخسف بنا } أيضا من شؤم مبتغانا، مثل ما خسف قارون، وإنما من علينا ما من؛ لإيماننا به سبحانه، وإخلاصنا فيه { ويكأنه لا يفلح الكافرون } [القصص: 82] ولا يفوزون بالنجاة عن عذابه سبحانه، بل يوفقهم سبحانه على ما يوقعهم في عذابه افتنانا منه وانتقاما.
ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين المتواضعين، وتنشيطا للمتقين الموقنين: { تلك } الجنة التي سمعت وصفها، وبلغك خيرها في كتب الله وألسنة رسله وأنبيائه وأوليائه المكشفين بها، الفائزين بمقاماتها { الدار الآخرة } أي: الموصوفة بهذه الصفة؛ إذ لا مقر لأهل الله سواها؛ لذلك سميت بها { نجعلها } بمقتضى فضلنا وجودنا مقرا { للذين } أي: للمؤمنين الموحدين الذين { لا يريدون } من كمال حلمهم وعلمهم { علوا في الأرض } أي: تفوقا وتكبرا على من عليها، ولا يمشون عليها خيلاء غافلين عن تزود الآخرة { ولا } يقصدون فيها { فسادا } مؤديا إلى هتك محارم الله والخروج عن مقتضى حدوده.
{ و } بالجملة: { العاقبة } الحميدة التي عبر بها عن الجنة ودار الآخرة، ودار السلام والخلد وغير ذلك من العبارات معدة مهيأة { للمتقين } [القصص: 83] الذين يحفظون نفوسهم عن ارتكاب المنهيات والمحظورات مطلقا، ويجتنبون عن جميع ما يؤدي إلى إسقاط المروءة رأسا، ويتصفون بجميع ما جاء به الرسل ونطق به الكتب من الأمور المشعرة للهداية والصلاح، والفوز بالنجاح والفلاح؛ فأولئك السعداء المقبولون هم الواصلون إلى درجة القرب والشهود، والوالهون بشرف مطالعة لقاء الخلاق الودود.
ثم أشار سبحانه بشارة جميلة محتوية على أصول جميع المواعظ والتذكيرات المتعلقة لعموم مصالح عباده، فقال: { من جآء } في النشأة الأولى { بالحسنة } والخصلة المقبولة عند الله وعند عموم عباده ابتغاء لمرضاته سبحانه، وأداء لحقوق عباده { فله } عند الله في النشأة الأخرى جزاء عليها { خير منها } وبأضعافها تفضلا وإحسانا { ومن جآء بالسيئة } والخصلة الذميمة أيضا فيها، المستقبحة عقلا وشرعا { فلا يجزى } من قبل الحق في يوم الجزاء المسيئون { الذين عملوا السيئات } التي لا يرضى بها الله ولا خلص عباده { إلا } مثل { ما كانوا يعملون } [القصص: 84] عدلا منه سبحانه.
[28.85-88]
ثم لما اغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة بسبب مكر المشركين، فلما وصل إلى جحفة اشتد اشتياقه إلى مولده وموطن آبائه، وتحزن حزنا شديدا إلى حيث أراد أن يعود منها إليها، فنزلت تسلية عليه صلى الله عليه وسلم، وإزالة لحزنه: { إن } القادر المقتدر { الذي فرض عليك القرآن } وقدر لك إنزاله، وأقدرك على الامتثال بجميع ما فيه من الأوامر والنواهي وكشف عليك ما فيه من الحقائق والمعارف، والرموز والإشارات المتعقلة بصفاء مشرب التوحيد، وذكر لك فيه القصص والعبر والأمثال إرشادا لك إلى مقامك الذي وعدك الحق تفضلا وامتنانا، وسماه من عنده مقاما محمودا { لرآدك } ومعاودك { إلى معاد } معهود، هو مولدك وموظن آبائك وأسلافك على أحسن وجه وأكمله.
وبعدما عدت ورجعت إليه بعد هجرتك من بينهم أو أضلوك ونسبوك إلى ما لا يليق بشأنك { قل } لهم على سبيل المجاراة: { ربي } الذي وسع علمه كل شيء { أعلم } بعلمه الحضوري { من جآء بالهدى } منا أنا أو أنتم { ومن هو في ضلال مبين } [القصص: 85] منا ومنكم.
{ و } عليك يا أكمل الرسل أن تفوض أمورك إلينا اتكالا علينا، واعتصاما لحولنا وقوتنا، ولا تلتفت إلى المشركين وإيمانهم ولا تداريهم، ولا تك في رعب منهم، إنا كفيناك مؤنة شرورهم عنك.
إذ { ما كنت ترجو } وتأمل { أن يلقى إليك الكتاب } الجامع لفوائد جميع الكتب المنزلة من عندنا، لكن ما أنزل إليك هذا { إلا رحمة من ربك } تفضلا عليك، وتلطفا معك بلا تطلب منك وترقب من قبلك، فكذلك يكفيك جميع مهماتك على الوجه الأصلح، فاتكل عليه واتخذه وكيلا، وفوض أمروك كلها إليه، ومتى سمعت نبذا من شأنك الذي أنت عليه في ابتداء حالك { فلا تكونن ظهيرا } أي: معاونا ومعينا { للكافرين } [القصص: 86] ولا مستظهرا ومستعينا بهم، بل فلك أن تمضي وتبلغ على الوجه الذي أمرت بلا مبالاة لهم ومداراة معهم.
{ ولا يصدنك } ويصرفنك مواساتهم ومداراتهم، والمسامحة معهم { عن } تبليغ { آيات الله } المشتملة على الإنذارات والوعيدات الشديدة إياهم { بعد إذ أنزلت إليك } وأمرت بتبليغها { وادع إلى } توحيد { ربك } بعدما بعثك إلى كافة البرايا، وعامة الأمم كله، من جبله الحق على صورة الإنسان، وكلفه بالمعرفة والإيمان { ولا تكونن } بالمداهنة والمسامحة معهم { من المشركين } [القصص: 87] المشتركين في شركهم وكفرهم.
{ ولا } بعدما ظهرت على التوحيد الذاتي، وأكملت مراسم الدين، وأتممت مكارم الأخلاق واليقين { تدع } بحال من الأحوال { مع الله } الواحد الأحد الصمد، الفرد الوتر الذي لم يلد ولم يولد، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا { إلها آخر } شريكا له في الوجود والألوهية والربوبية، وجميع التصرفات الواقعة في مظاهره ومماليكه؛ إذ { لا إله } في الوجود، ولا موجود في الشهود { إلا هو } هذا هو هايت ما نطق العارف عنه سبحانه، وبعد ذلك يقلق ويدهش ويهيم، ويفنى ويتلاشى.
إذ { كل شيء } يتراءى لك من أظلال أسمائه وعكوس صفاته { هالك } في حد ذاته، باق على عدمه، مستمرا على استحالته وامتناعه { إلا وجهه } الذي اقتبس به النور من تجليات الحق على حسب أسمائه وصفاته، واستمد به العكس من شوارق بوارق شئونه المتشعشعة المتجددة، وعن دقائق رقائق لوائح لوامع تطوراته التي تخطف بها أبصار أرباب الكشف والشهود من المنجذبين نحو الحق، المتأملين في شأنهم، الوالهين بمطالعة جماله وجلاله، وبالجملة: بعدما ثبت هلاك الكل في ذاته سبحانه وظهوره وانعكاسه منه ابتداء ثبت { له الحكم } والأمر في جميع ما كان ويكون أزلا وابدا { وإليه } انتهاء لا إلى غيره؛ إذ لا غير في الوجود معه { ترجعون } [القصص: 88] رجوع الأمواج إلى الماء، والأظلال إلى الأضواء.
سبحان من ظهر على الكل فأظهره، وبطن في الكل فأهلكه، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتوجه نحو الحق بوجهك الذي ليلي الحق المقتبس به منه أشعة أنوار تجلياته الذاتية حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن تتأمل في كيفية نشآت الكثرات الغير المحصورة عن الواحد من كل الوجود، وتتعمق بمقتضى العقل المفاض لك من حضرة علمه سبحانه على سبيل التوديع؛ لتتدبر معرفة مبدئك ومعادك حسب استعدادك الفطري، وقابليتك الجبلية التي بها امتيازك عن سائر المظاهر والمصنوعات، وبها تستحق الخلافة والنيابة عن الله، وبواسطة تلك الوديعة البديعة المودعة فيك كلفك الحق إلى ما كلفك، وأعد لك من المراتب العلية والمقامات السنية عنده ما أعد لك حسب صعودك وترقيك في معارفك، وحقائقك على مقتضى التكاليف التي توصلك إليها إن أخلصت فيها.
فلك أن تتحمل على مشاق التكليفات ومتاعب الرياضات ما دمت في مجال التكاليف ومنازل العروج إلى أن جذبك الحق منك نحوه، ومكنك بموعدك المعهود ومقامك المحمود الذي هو مرتبة الكشف والشهود، وحينئذ اتحد قوسا الوجوب والإمكان، وارتفعت الزبد والأمواج عن بحر العيان، وفزت بما فزت من موالد اللطف والإحسان، فظهر لك حينئذ معنى قوله: { لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } [القصص: 88].
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-6]
{ الم } [العنكبوت: 1] أيها الإنسان الاكمل الأعلم، اللائق لفيضان لوامع أنوار الوجود ولوائح آثار الفضل والجود، المؤيد الملازم لاستكشاف مكنونات ما في مظاهر المكونات من المعظمات آثار الإلوهية، ومكرمات أنواع الربوبية اللامعة اللائحة على نواصي عموم ما ظهر وبطن غيبا وشهادة على التعاقب والتوالي بلا انقطاع وانصرام، أزلا وأبدا، وبلا ذهول وغفلة، وفتور وفترة، بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه ذرة من ذرائر ما ظهر ولاح دون إشراق شمس وجهه الكريم.
{ أحسب } وظن { الناس } المنهمكون في الغفلة والنيسان { أن يتركوا } ويهملوا على ما هم عليه من عدم مطابقة قلوبهم لأفواههم، وأعمالهم بنياتهم، وأفعالهم بحالاتهم بمجرد { أن يقولوا آمنا } بلا موافقة من قلوبهم، مع أن الإيمان في الأصل هو الإذعان والقبول والإخلاص بالقلب، والانقياد والتسليم بالجوارح والآلات من لوازمه ومتمماته { وهم } بمجرد ما يلقلق به لسانهم، ويظهره بيانهم طنوا أنهم { لا يفتنون } [العنكبوت: 2] ولا يمتحنون، بلى والله لنبولنهم ونختبرهم بشيء من الخوف والجوع، ونقص من الأمال والأنفس والثمرات، حتى ظهر إخلاصهم في جيع ما آمنوا، فترتب خلاصهم حنيئذ على إخلاصهم.
{ و } ليس افتتاننا واختبارنا إياهم ببدع منا، بل { لقد فتنا } وامتحنا { الذين } مضوا { من قبلهم } من الأمم السالفة، مع أنهم يدعون الإيمان، ويتفوهون ويتقوهون به أمثالهم، ومع ذلك لم نتركهم بلا ابتلاء واختبار، وليس اختبارهم وامتحانهم إلا لإظهار حجتا البالغة عليهم، وإلا { فليعلمن الله } المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم { الذين صدقوا } منهم، وأخلصوا في إيمانهم { وليعلمن الكاذبين } [العنكبوت: 3] أيضا منهم.
وهم الذين لا يخلصون مع الله في حال من الأحوال، وعمل من الأعمال، ولا يسمعون أوامر الله ونواهيه من ألسنة رسله سمع قبول ورضا، وإنما أرادوا بإيمانهم الظاهر الذي أتوا به على سبيل الكراهة إسقاط لوازم الكفر من حقن الدماء، وسلب الذراري ونهب الأموال، وإلا فهم ليسوا ممن يذعنون بدلائل التوحيد وبراهين الإيمان عن صميم قلوبهم، ظنا أنا غافلون عن بواطنهم ونياتهم.
{ أم حسب } أي: بل ظن المسرفون { الذين يعملون السيئات } مصرين عليها، مبالغين في إتيانها { أن يسبقونا } ويفوتوا عنا جزاء ما عملوا، ويسقطوا عن حسابنا ما أتوا به من المعاصي، بل نحن مطلعون عليها حين كانوا في استعداداتهم قبل ظهورهم في فضاء الوجود، فكيف حين وجودهم وظهورهم، وصدور الآثام عنهم بالفعل؟! { سآء ما يحكمون } [العنكبوت: 4] علينا حكمهم وهذا ونسبتهم هذه - أعاذنا الله وعموم عباده عن أمثال هذه الظنون الفاسدة بالنسبة إليه سبحانه - كل ذلك عن جهلهم بالله ويمقتضى عزه وعلوه، وإنكارهم بلقائه والوقوف بين يديهز
إذ { من كان يرجوا } ويأمل { لقآء الله } المتجلي على الأكوان حسب أسمائه العلية وصفاته السنية، ويترصد أن ينكشف له ما هو الموعود من لدنه سبحانه من الدرجات العلية والمقامات السنية حال كونه متأدبا بالآداب المنزلة من عنده بواسطة أنبيائه ورسله، متحملا على متاعب التكاليف ومشاق الطاعات المفروضة المشروعة له، مترقبا للانكشاف والشهود، راجيا لقياه بلا يأس وقنوط، فاز بمبتغاه على الوجه الذي وعد بعدما وفقه الحق وجذبه إلى نفسه { فإن أجل الله } الذي وعده لعباده أن يشرفهم بشرف لقائه { لآت } بلا شك وارتياب { و } كيف لا يشرفهم بعدما وعدهم؛ إذ { هو السميع } لمناجاتهم { العليم } [العنكبوت: 5] بحاجاتهم التي هي الفوز بشرف اللقاء، والوقوف عند سدرة المنتهى، والتدلي إلى مقام دنا فتدلى
فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9].
{ ومن جاهد } واجتهد في الوصول إلى ما ذكر من المقام المحمود، والموعود الذي هو مرتبة الكشف والشهود { فإنما يجاهد لنفسه } إذ نفعه عائد إليه، وهو واصل إلى منتهى مطلوبه بعدما كان طالبا { إن الله } المنزه عن الطلب والاستكمال، المبرأ عن الترقب والانتظار { لغني } في ذاته { عن العالمين } [العنكبوت: 6] وطاعاتهم وعباداتهم ورجوعهم إليه، وتوجههم نحوه.
[29.7-9]
ثم قال سبحانه حثا لعباده على التوجه نحو بابه؛ ليفوزوا بما أعد لهم من الحسنات والدرجات: { والذين آمنوا } وأخلصوا إيمانهم { وعملوا الصالحات } المشعرة المؤيدة لإخلاصهم بلا شوب الهوى والرياء والرعونات أصلا { لنكفرن عنهم } ونمحون عن ديوان أعمالهم { سيئاتهم } التي جاءوا بها وقت جهلهم وضلالهم { ولنجزينهم } نعاملن معهم { أحسن الذي كانوا يعملون } [العكبوت: 7] يعني: أحسن من الجزاء الذي كانوا يستحقون بأعمالهم بعد إيمانهم وأزيد منه بأضعافه تفضلا وإحسانا.
وبعدما حثهم سبحانه على الإيمان والعمل الصالح أوحى لهم أمرهم ببر الوالدين وحسن المعاشرة معهما والتحنن إليهما؛ لأنهما من أقرب أسباب ظهورهما على مقتضى سنة الله سبحانه فقال: { ووصينا الإنسان } بعدما كلفه بالإيمان والعمل الصالح أن يأتي كل منهم ويعمل { بوالديه حسنا } أي: معاملة ذات حسن يستحسنه العقل والشرع ويرضيه الحق ويقتضيه المروءة بحيث لا يحوم حولها شائبة من ولا أذى ولا استخفاف استحقار، بل يتلذذون لهما ويتواضعون معهما على وجه الانكسار التام والتذلل المفرط.
وعليكم أيها المكلفون امتثال جميع أوامرهما ونواهيهما سوى الشرك بالله والطغيان على الله والعدوان معه ومع رسله وخلص عباده { وإن جاهداك } أيها المأمور على بر الوالدين أبواك وبالغا في حقك، مقدمين أشد إقدام وألحا لك أبلغ إلحاح وأتم إبرام { لتشرك بي } شيئا من مظاهري ومصنوعاتي { ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ } أي: ليس علمك ويقينك متعلقا بإلوهويته وربوبيته واستحقاقه للعبادة والرجوع إليه في المهمات، فلا تطعهما ولا تقبل أمرهما المتعلق بالإضلال والإشراك، ولا تمتثل قولهما هذا، بل أعرض عنهما وعن قولهما هذا، ولا تمض على دينهما وملتهما؛ إذ { إلي مرجعكم } أصلا وفرعا، مؤمنا وكافرا، موحدا ومشركا، وبعد رجوعكم إلي { فأنبئكم } وأخبركم { بما كنتم تعملون } [العنكبوت: 8] في دار الاختبار، أحاسب عليكم أعمالكم، وأجازيكم على مقتضاها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
{ والذين آمنوا } منكم في دار الاختبار مخلصين { وعملوا الصالحات } تكميلا لإيمانهم وتتميما له بما هو من لوازمه ومتفرعاته { لندخلنهم } حين رجوعهم إلينا { في } زمرة السعداء { الصالحين } [العنكبوت: 9] المقبولين الآمنين المستبشرين، الذين
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62] والذين كفروا منكم في النشأة الأولى وأصروا على الكفر والشرك، ولم يرجعوا عنه بعد بعث الرسل ونزول الكتب وورود الزواجر والروادع الكثيرة فيها، لنعذبهم عذابا شديدا، ولندخلنهم يوم يعرضون في زمرة الأشقياء المردودين المغضوبين الذين لا نجاة لهم من النار، ولا يرجى خلاصهم منها.
[29.10-13]
{ ومن الناس } المجبولين على التزلزل والتذبذب { من يقول } خوفا من عذاب الله { ءامنا بالله } بلا تمكن له واطمئنان في قلبه { فإذآ أوذي في } سبيل { الله } من أعدائه انقلب على الكفر حيث { جعل فتنة الناس } وإيذاءهم { كعذاب الله } القادر بالقدرة الكاملة على أنواع المحن والابتلاءات؛ يعني: يسوون بين خوف الله وخوف الناس، فكما يؤمنون بالله من خوف عذابه يكفرون به من خوف عذاب الناس بلا تفاوت بين الخوفين وبين العذابين، بل يرجحون خوفهم على خوف الله، فيختارون الكفر على الإيمان من ضعف يقينهم وعدم رسوخهم وتمكينهم على الإيمان، وذلك من عدم ترقيهم من حضيض الجهل والتقليد إلى ذورة العرفان والتوحيد { و } من غاية تزلزلهم وتلونهم { لئن جآء نصر } وعون للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل التوحيد { من ربك } يا أكمل الرسل وصاروا غالبين على أعداء الله بنصر الله إياهم، وفازوا بالفتح والغنائم وأنواع الكرامات { ليقولن } أولئك المذبذبون المتزلزلون، مبالغين في دعى الموافقة والمؤاخاة: { إنا كنا معكم } موافقين ظاهرا وباطنا، وفي دين الإسلام متمكنين مطئنين سرا وجهرا، فأشركونا في ما نلتم من الغنيمة والخير، وهم يقصدون بقولهم هذا التغرير والتلبيس على المؤمنين، بل على الله أيضا، لذلك قال سبحانه: { أ } تعتقدون التلبيس والتشبيه أيها الجاهلون بعلو شأنه { و ليس الله } المتجلي على جميع ما ظهر وبطن في الأكوان غيبا وشهادة { بأعلم } بعلمه الحضوري { بما في صدور العالمين } [العنكبوت: 10] بل بما في استعداداتهم وقابلياتهم التي كانوا عليها حيث لم يكونوا؟ وإن كان حالهم أيضا كذلك الآن عند من له أدنى حظ من المعرفة والإتقان.
{ وليعلمن الله } المطلع لضمائر عباده ويميزن { الذين آمنوا } بالله وبذلوا جهدهم في سبيله، وليظهرن إخلاصهم ورسوخهم على الدين، وتمكنهم واطمئنانهم في مرتبة اليقين بعدما أمرهم بالجهاد والقتال الصوري والمعنوي { وليعلمن } ويظهرن أيضا كيد { المنافقين } [العنكبوت: 11] ومكرهم وتقاعدهم عن القتال، واحتيالهم في التخلف عن المؤمنين.
{ و } من جملة مكرهم واحتيالهم مع المؤمنين وخداعهم إياهم { قال الذين كفروا للذين آمنوا } قاصدين إضلالهم عن طريق الحق وانصرافهم عن الدين المستبين: { اتبعوا } أيها الحمقى المتذللون في أيدينا { سبيلنا } واختاروا طريقنا الذي كنا عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي هي دين آبائنا وأسلافنا { و } إن خفتم على مقتضى زعمكم من أثقال ذنوبكم يوم العرض والجزاء { لنحمل } أثقال { خطاياكم } عنكم حينئذ فتصيروا مخففين بلا وزر وذنب، إنما قالوا هكذا؛ تغريرا عليهم وتضليلا لهم واستهزاء وإلا فهم منكرون بالآخرة وجميع ما فيها من الوعيدات الهائلة والإنذارات { و } هم وإن فرض أنهم اعتقدوا النشأة الأخرى ما فيها { ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } أي: شيئا قليلا من خطاياهم، فكيف بجميعها؟! وبالجملة: { إنهم لكاذبون } [العنكبوت: 12] في جميع مواعيدهم وعهودهم؛ إذ الكل لا يطابق اعتقادهم ولا الواقع؛ إذ لا تحمل يومئذ وازرة وزر أخرى، عدلا من الله تعالى.
ولهذا قال سبحانه مقسما: { و } الله { ليحملن } حنيئذ { أثقالهم } اي: خطاياهم التي اقترفوها لنفوسهم يزيدون عليها { وأثقالا } أخر حاصلة من إضلالهم وتضليلهم عباد الله { مع أثقالهم } الأصلية { و } الله مع تلك الأثقال على الأثقال { ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } [العنكبوت: 13] على الله من إثبات الشريك له في الوجود واستحقاق العبادة، وعن نسبتهم إليهم ما لا يليق بشأنه افتراء ومراء.
[29.14-18]
ثم ذكر سبحانه نبذا من أحوال أهل الضلال والإضلال من المفترين الذين مضوا في سالف الزمان تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإزالة للحزن الذي لحقه صلى الله عليه وسلم من تمادي المشركين في الغفلة والفساد وتطاولهم في الغي والعناد، فقال: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } وقت إذ ظهر فيهم أنواع الفسوق والجدال وأصناف الغي والضلال { فلبث فيهم } وتحمل على مشاق دعوتهم وأنواع أذاهم { ألف سنة إلا خمسين عاما } فهم كانوا يضربونه ويشتمونه ونسبونه إلى الجهل والجنون والخرف وأنواع الاستخفاف والاستحقار، ومع ذلك لم يتقاعد عن دعوتهم، ولم ينزجر عن زواجرهم، بل يبلغهم ما أمره الحق بتبليغه من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، وهم من شدة شكيمتهم وخبث طينتهم لم يزيدوا من سماعها إلا تعنتا واستكبارا، وعتوا واغترارا وإصرارا على ما هم عليه، وبعدما استحقوا كمال العذاب والنكال { فأخذهم الطوفان } حين خرج الماء من التنور المعهود وطاف عليهم فأغرهم واستؤصلوا { وهم } في أنفسهم { ظالمون } [العنكبوت: 14] خارجون عن مقتضى الحدود ومنهمكون في بحر الغفلة والغرور، ضالون في تيه الجهل والطغيان؛ لذلك أخذهم الله بالطوفان واستأصلهم بالمرة إلى حيث لم يبق منهم أحد على وجه الأرض بعدما إغرقناهم وأهلنكاهم.
{ فأنجيناه } أي: نيبنا نوحا عليه السلام { وأصحاب السفينة } وهم المؤمنون الذين ركبوا معه عليها حين نبع الماء من التنور، قيل: كانوا ثمانين، وقيل: كانوا ثمانية وتسعين، وقيل: نصفهم ذكور ونصفهم إناث { وجعلناهآ } أي: قصة هلاكهم بالطوفان { آية } عظيمة { للعالمين } [العنكبوت: 15] تستدلون بها على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا في انتقام من خرج على حدودنا وأحكامنا وأوامرنا ونواهينا.
{ و } أرسلنا أيضا يا أكمل الرسل جدك { إبراهيم } الخليل - صلوت الرحمن عليه وسلامه - إلى قومه الذين تمادوا زمانا في الغفلة والغرور؛ ليصلح مفاسدهم ويرشدهم توحيدنا، اذكر { إذ قال لقومه } بعدما بعثناه إليهم ليهديهم إلى طريق الحق { اعبدوا الله } الواحد الأحد الصمد، المستحق للعبادة والأطاعة استحقاقا ذاتيا ووصفيا { واتقوه } عن ارتكاب محارمه ومنهياته، واجتنبوا جميع ما لا يرضى به حتى لا تستجلبوا سخطه و غضبه عليكم { ذلكم } الذي أوصيكم به من العبادة والعرفان واجتناب عن المحارم والطغيان والاتصاف بالتوحيد والتقوى وجميع لوازم الإيمان { خير لكم } وأولى بحاكم وأنفع لنفوسكم من أولاكم وأخراكم مما أنت عليه من عبادة التماثيل التي تنحتونها بأيديكم وتسمونها من تلقاء أنفسكم آلهة دون الله ظلما وزورا { إن كنتم تعلمون } [العنكبوت: 16] أي: إن كنتم من ذوي العقول المستكملين بالقوة النظرية المفاضة لكم من حضرة العلم الإلهي؛ ليميزكم به عن سائر الحيوانات ويعدكم للخلافة والنيابة عن الله.
ثم نبه سبحانه على خطئهم في عبادة غير الله فقال: { إنما تعبدون من دون الله } المستحق للعبادة والاستقلال بلا شريك ومثال { أوثانا } تسمونهم آلهة ظلما وعدوانا وتعبدونهم كعبادة الله عنادا وطغيانا { وتخلقون } أي: تفترون وتنسبون إلى الله بإثبات الشريك له، سيما هذه التماثيل الباطلة العاطلة { إفكا } كذبا وافتراء، مجادلة ومراء، مع أن هؤلاء التماثيل لا تنفعكم ولا تضركم ولا ترزقكم ولا تمنع رزقكم، بل { إن } الآلهة { الذين تعبدون من دون الله } الحقيق بالإطاعة والعبادة مطلقا سواء كان هؤلاء الجمادات أو ذوي الحس والحركات { لا يملكون لكم رزقا } أي: أمر الرزق مقصور على الله المتكفل لأرزاق عباده، ليس في وصع غيره أن يرزق أحدا من عباده رزقا صوريا أو معنويا وإنما خص سبحانه الرزق بالذكر مع أنهم لا يملكون سواه أيضا؛ لأنه أظهر لإلزامه وأتم لشدة احتياجهم إليه، وإن أردتم رزقا جسمانيا أو روحانيا { فابتغوا } واطلبوا { عند الله } القادر المقتدر { الرزق } الصوري المقوي لمزاجكم والمعنوي، الموصل إلى مبدئكم ومعادكم؛ لتتزودوا برزقه في أولاكم وأخراكم { و } إذا سمعتم وعلمتم ألا رازق لكم سوى الله { اعبدوه } حق عبادته، واعرفوه حق معرفته { واشكروا له } أداء لحق شيء من حقوق نعمه، ونبذ من موائد فضله وكرمه، واعلموا أنكم { إليه ترجعون } [العنكبوت: 17] رجوع الظل إلى ذي الظل والأمواج إلى الماء.
{ وإن تكذبوا } أي: إن تكذبوني في قولي ولم تقبلوا مني رسالتي، ولم تتعظوا بنصحي وإرشادي { فقد كذب أمم } أمثالكم رسلهم مثلي { من قبلكم } ومن قبلي فصار تكذيبهم وبالا عليهم وسبب هلاك لهم ونزول عذاب عليهم { و } مع ذلك ما أبالي بتكذيبكم كما لم يبالوا بتكذيب أممهم؛ إذ { ما على الرسول } المرسل إلى قوم من عند الله { إلا البلاغ المبين } [العنكبوت: 18] أي: تبليغ ما أرسل به مكشوفا ظاهرا بلا سترة وحجاب وزيادة ونقصان، وأما أمر القبول والامتثال بالمأمور فمفوض إلى مشيئة الله وإرادته وقدرته له؛ أي: يتصرف في عباده بأن جعل الكافر الجاحد مؤمنا مطيعا، والمطيع المؤمن كافرا نافيا للصانع - العياذ بالله من سخطه وغضبه - فالكل مقدور له مثبت في لوح قضائه، حاضر في حضرة علمه، لا يسأل عن فعله وحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
[29.19-23]
{ أولم يروا } إلى كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته { كيف يبدئ } أي: يظهر ويبدع { الله } القادر المقتدر { الخلق } أي: جميع المخلوقات والموجودات من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة { ثم يعيده } ويعدمه كما برأه وأظهره على مقتضى النشأتين نزولا وعروجا، هبوطا وصعودا، ظهورا وبطونا، مدا وقبضا، نشرا وطيا، لطفا وقهرا، جمالا وجلالا { إن ذلك } التبديل والتحويل { على الله } المتجلي في الأكوان في كل آن في شأن { يسير } [العنكبوت: 19] إذ لا يعرضه العسر والفتور، ولا يلحقه العجز والقصور ولا يبرمه مر الدهور وكر الشهور.
وإن أنكروا لك ولم يقبلوا منك تنويرك الذي جئت به { قل } لهم يا أكمل الحلم والخلة: { سيروا في الأرض } سير معتبر خبير { فانظروا } بنظر الاعتبار والاستبصار { كيف بدأ } وأظهر { الخلق } في أقطار الآفاق ونشرهم فيها وبسطهم عليها بامتداد أظلال أسمائه وصفاته { ثم الله } القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بالاختيار والاستقلال { ينشىء النشأة الآخرة } المقابلة لنشأة الظهور والإبداع، وهي نشأة الكمون والإخفاء والفناء والإفناء، بأن قبض سبحانه بمقتضى قهره وجلاله جميع ما امتد من أضلال، وطوى نحوه ما نشر من آثار الأوصاف والأسماء { إن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { على كل شيء } من مقدرواته ومراداته { قدير } [العنكبوت: 20] لا تنتهي قدرته عند مقدور، بل له أن يتصرف فيه كيف شاء ومتى أراد أزلا وأبدا.
ومن كمال قدرته ومقتضى حكمته ومشيئته: { يعذب } من عباده { من يشآء } لا ملجأ لهم دونه ولا مرجع لهم سواه؛ إذ { ويرحم من يشآء } برحمته الواسعة أيضا كذلك على مقتضى لطفه وجماله { و } لا ملجأ لهم دونه ولا مرجع لهم؛ إذ { إليه } لا إلى غيره؛ إذ لا غير في الوجود معه { تقلبون } [العنكبوت: 21] انقلاب الزبد هواء والأمواج ماء.
{ و } إذا ثبت أن منقلبكم إليه ومرجعكم نحوه، فعليكم الإطاعة والإيمان بالله وبوحدانيته طوعا بلا تذبذب وتلعثم؛ إذ { مآ أنتم بمعجزين } على إدراككم وأخذكم { في الأرض } لو تحصنتم فيها { ولا في السمآء } لو تدليتهم إليها؛ إذ الكل في قبضته وقدرته وتحت تصرفه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء { و } بالجملة: { ما لكم من دون الله } المعيد المبدئ، المحيي المميت { من ولي } يولي أموركم بالاستقلال ويتصرف فيكم بالإرادة والاختيار { ولا نصير } [العنكبوت: 22] ينصركم على أعدائكم ويدفع ضررهم عنكم.
ثم قال سبحانه؛ حثا لهم إلى الإيمان وترغيبا لهم إلى التوحيد والعرفان: { والذين كفروا بآيات الله } الدالة على عظمة ذاته وكما أسمائه وصفاته { ولقآئه } أي: أنكروا بلقائه الموعود لأرباب الكشف والشهود { أولئك } البعداء المطرودون عن ساحة عز القبول هم الذين { يئسوا } وقنطوا { من رحمتي } مع سعتها ووفورها { وأولئك } المردودون في تيه الغفلة والضلال { لهم عذاب أليم } [العنكبوت: 23] في النشأة الأولى والأخرى، لا يرجرى نجاتهم وخلاصهم أصلا.
[29.24-26]
وبعدما بلغ الخليل - صلوات الرحمن وسلام عليه - في الدعوة والإرشاد، وأيده بأنواع المواعظ والتذكيرات والرموز و الإشارات، ونبذ من الوعيدات والإنذارات رجاء أن يتنبهوا منها ويتفطنوا به اعلى ما هو الحق { فما كان جواب قومه } بعد استماعهم مقالاه تفصيلا { إلا أن قالوا } متفقين مجتمعين: { اقتلوه } حدا، فإنه قد أعرض عن دينكم وانصرف عن آلهتكم وشفعاءكم { أو حرقوه } فإنه جدير بالإحراق؛ لعظم جرمه وكبر ذنبه، وبعدما اتفقوا على حرقه أو قدوا نارا عظيمة بحيث لا يمكن التقرب إليها إلا بمسافة بعيدة، فوضعوه في المنجنيق، فرموه بها إليها { فأنجاه الله } الرقيب المطلع على إخلاص عباده وأخلصه { من } حرق { النار } وجعلها له بردا وسلاما { إن في ذلك } الإنجاء والإنقاذ مع أن طبع النار الإحراق والإفناء { لآيات } عظام ودلائل جسام على كمال قدرة الله وحوله وقوته { لقوم يؤمنون } [العنكبوت: 24] بوحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته؛ لأ،هم هم المنتفعون بأمثال هذه الشواهد والبراهين.
وبعدما أنجاه الله منها { و } أيس من إيمان قومه { قال } لهم موبخا عليهم وموعدا لهم بوحي الله وإلهامه: { إنما اتخذتم } وأخذتم { من دون الله } المتوحد بالألوهية والربوبية { أوثانا } آلهة: لتكونوا أسبابا لكم توجب { مودة بينكم } وتوقع المحبة والمؤاخاة بين أظهركم { في الحياة الدنيا } بأن تجتمعوا عندها وتعتكفوا حولها، وتتقربوا إليها بالهدايا والقرابين { ثم } اعلموا أيها الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال والجهل بالله وبقدره وقدر حوله وقوته { يوم القيامة } المعدة للعرض والجزاء وحساب ماصدر عنكم في دار الابتلاء { يكفر بعضكم ببعض } يعني: يقع التناكر والتخاصم بينكم، فيكفر بعضكم ببعض { ويلعن بعضكم بعضا } أي: كل منكم ومن معبودكم يتلاعنون ويتخاصمون حال كونكم متبرئين كل منكم عن صحابه تابعا ومتبوعا، عابدا ومعبودا { و } بالجملة: { مأواكم } ومرجعكم إليها أنتم وآلهتكم جميعا، خالدون فيها لا نجاة لكم منها بأعمالكم وأفعالكم { النار وما لكم من ناصرين } [العنكبوت: 25] ليشفعوا لكم وينقذوكم منها بشفاعتهم.
وبعدما أنجى سبحانه خليله - صلوات الرحمن عليه وسلامه - من النار، وخرج منها سالما سويا بلا لحوق ضرر { فآمن له } ابن أخيه { لوط } وهو أول من آمن به وأنكره غيره، ونسبوه إلى السحر والشعبذة وأنواع الخرافات { و } لما أيس الخليل عن إيمانهم { قال } للوط وزوجته سارة ابنة عمه: { إني } بعدما أيست عن إيمان هؤلاء الجهلة الضالين، ونجوت عن مكائدهم { مهاجر } مبعد منهم { إلى } أرض أمرني { ربي } للهجرة إليها، وأوحاني أن أذهب نحوها، فعلي أن امتثل لأمره وأمضي على موجب حكمه { إنه } سبحانه في ذاته وأسمائه وأفعاله { هو العزيز } الغالب القادر على جميع ما جرى عليه مشيئته وقضاءه { الحكيم } [العنكبوت: 26] المتقن في جميع ما صدر عنه إرادة واختيارا.
[29.27-30]
{ و } بعدما خرج عليه السلام من سواد الكوفة مع لوط وزوجته وصل إلى حران، ثم منها إلى الشام، فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم، ثم لما استقر وتمن على فلسطين { وهبنا له } من كمال لطفنا معه وفضلنا إياه ابنه { إسحاق } نافلة { ويعقوب } ليزول بهما كربة الغربة ووحشة الجلاء، مع أن هبة ولده إياه من محض الجود الإلهي على سبيل خرق العادة؛ إذ هو كبير السن وامرأته عاقر { و } أيضا من كمال لطفنا معه { جعلنا في ذريته النبوة } مستمرة إلى الجزاء { والكتاب } أي: آتينا الكتاب لبعض منهم؛ يعني: رسلهم، وإنما فعلنا معه كذلك؛ لئلا تنقطع سلسلة كرامتنا عنه، بل تستمر إلى انقراض العالم { و } بالجملة: بعدما هاجر إلينا الخليل بالكلية، وانخلع عن لوازم ناسوته بالمرة { آتيناه أجره } أي: أجر هجرته { في الدنيا } على وجه لا ينقطع صيته عن الآفاق أبدا { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [العنكبوت: 27] لقبولنا، المقبولين في ساحة عز حضورنا.
{ و } أرسلنا أيضا { لوطا } إلى قوم انحرفوا عن جادة الاستقامة، وضلوا عن سواء السبيل، اذكر يا أكمل الرسل { إذ قال } لوط { لقومه } بوحي الله إياه وإلهامه: { إنكم } أيها المفسدون المسرفون { لتأتون الفاحشة } أي الفعلة التي { ما سبقكم بها } بغاية قبحها وهجنتها ونهاية شنعتها { من أحد } أي: أحد { من العالمين } [العنكبوت: 28] من بني نوعكم، بل أنتم ابتدعتموها واخترعتموها من خباثة نفوسكم وشؤم شهوتكم.
ثم وبخهم وقرعهم بهجنة أفعالهم وأعمالهم فقال: { أئنكم } أيها المفرطون في متابعة القوة الشهوية { لتأتون } وتطئون { الرجال } من أدبارهم وهم أمثالكم { وتقطعون السبيل } أي: سبيل التناسل والتوالد، وتبطلون الحكمة البالغة الإلهية المتعلقة بإبقاء النوع { و } مع ذلك { تأتون في ناديكم } أي: مجالسكم ومحافلكم { المنكر } أي: الفعلة الذميمة، أي: تأتون بها على رءوس الملأ بلا مبالاة واستحياء وإخفاء، بل يتباهون بإظهارها، مع أن إعلان المنكرات من أعظم الجرائم وأقبح الفواحش عند الله وعند المؤمنين، سيما هذا المنكر المستبدع المستقذر { فما كان جواب قومه } بعدما سمعوا منه التشنيع والتقبيح على أبلغ وجه وآكده { إلا أن قالوا } متهكمين له، مصرين على ما هم عليه من الفعلة الذميمة الشنيعة: { ائتنا } يا لوط { بعذاب الله } الذي ادعيت نزوله علينا بسبب فعلنا هذا { إن كنت من الصادقين } [العنكبوت: 29] في دعوك، فنحن لم نمتنع بهذياناتك عن فعلتنا هذا قط، ولم نقبل منك نصيحتك أصلا.
وبعدما أيس من صلاحهم وإصالحهم { قال } مشتكيا، ملتجئا نحوه، مستنصرا منه: { رب } يا من رباني على صفة الصلاح والنظافة { انصرني } بحولك وقوتك بإنزال العذاب { على القوم المفسدين } [العنكبوت: 30] المسرفين المفرطين في الإفساد، الخارجين على مقتضى حدودك.
[29.31-37]
وبعدما استحقوا الإهلاك والاستئصال بإصرارهم عليها وعدم امتناعهم عنها مع كونهم مجاهرين بها، مفاخرين بإظهارها، أخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة { و } ذلك { لما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى } أي ليبشروه بهبة الولد والنافلة { قالوا } مخبرين له عن طريق الوحي من الله: { إنا مهلكو أهل هذه القرية } يعني: سدوم، وجاعلوها منقلبة على أهلها { إن أهلها كانوا ظالمين } [العنكبوت: 31] خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية، منقلبين الحكمة البديعة بالبدعة الشنيعة.
ولما سمع إبراهيم عليه السلام منهم ما سمع { قال } مضطربا قلقا: { إن فيها لوطا } من خلص عباد الله { قالوا نحن أعلم } منك { بمن فيها } بتعليم الله إيانا { لننجينه وأهله } مما سيصيب قومه بأمر الله علينا بإنجائه، ومن معه من أهل بيته والمؤمنين له { إلا امرأته كانت من الغابرين } [العنكبوت: 32] الهالكين لنفاذ قضاء الله على هلاكها فيهم؛ إذ هي من جملتهم ومن عدادهم وفي زمرتهم.
{ و } بعدما بشروا إبراهيم بما بشروا، وأخبروا له ما أخبروا توجهوا نحو لوط، اذكر يا أكمل الرسل { لمآ أن جآءت رسلنا لوطا سيء بهم } أي: فجاءته المساءة والسآمة والكرب بقدومهم { وضاق بهم ذرعا } أي: ضاف ذرع طاقته بنزولهم؛ إذ اشتد عليه حفظهم عن أهل القرية، وضاقت طاقته عن تدبير خلاصهم له منهم؛ لأنهم جاءوا على صورة صبيان صباح ملاح، أمارد في غاية الحسن وكمال الجمال، فهم مشغوفون بطلب أمثالهم { و } لما تفرس الرسل منه الخوف والحزن والضجرة وأنواع الغموم والهموم العارضة لهم من إلمامهم إياه { قالوا } له تفريجا لهمه: { لا تخف } يا لوط إضرارهم بنا { ولا تحزن } من لحوق العار عليك بسببنا؛ لأنا رسل ربك، أرسلنا الله لنصرك وتأييدك وإنزال العذاب على قومك، ولا تحزن أيضا تعذيبنا لك ولمن تبعك { إنا } بأمر ربنا { منجوك وأهلك } مما يصيبهم من العذاب والهلاك { إلا امرأتك كانت من الغابرين } [العنكبوت: 33] الهالكين، هكذا ثب تفي حضرة علم الله ولوح قضائه.
ثم فصلوا له العذاب وقالوا: { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السمآء } أي: عذابا ذا رجز؛ أي: قلقا واضطرابا يقلق المضطرب المعذب، ويضطربه اضطرابا شديدا حين نزوله { بما كانوا يفسقون } [العنكبوت: 34] اي: بفسقهم الذي باهوا به وتمادوا فيه مجاهرين مصرين.
{ ولقد } بعدما انتقمنا منهم وأخذناهم بفسقهم { تركنا } وأبقينا { منهآ } أي: من حكايتهم وقصتهم { آية بينة } أي: عبرة ظاهرة لائحة { لقوم يعقلون } [العنكبوت: 35] حتى يستعلموا عقولهم في مواضع العبر، ويتأملون فيها معتبرين منها مستبصرين بها، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واعلموا أن الأبرار إنما يتميزون عن الأشرار بالاعتبار والاستبصار.
بصرنا الله بعيوب نفوسنا، وجعلنا من المعتبرين بعيوب الغير عند وجوده.
{ و } أرسلنا أيضا { إلى مدين } حين ظهر فيه الخيان في المكيلات والموزونات { أخاهم شعيبا } ليصلح ما فيهم من المفاسد { فقال } بعدما بعثناه إليهم مناديا لهم ليقبلوه ويطيعوا أمره: { يقوم } أضافهم إلى نفسه؛ لكمال العطف والشفقة وإمحاض النصح { اعبدوا الله } الواحد الأحد، الحقيق بالعبادة والإطاعة { وارجوا } من الله { اليوم الأخر } أي: ائتوا بالإيمان والإخلاص والعمل الصالح، راجين من الله الثواب في يوم الجزاء { و } عليكم أن { لا تعثوا في الأرض } ولا تتحركوا عليها حال كونكم { مفسدين } [العنكبوت: 36] لمصالح عباد الله وأمور معاشهم ومعادهم.
وبعدما سمعوا مقالتهم { فكذبوه } فجاءوا بتكذيبه بلا مبالاة له وبكلامه فاستحقوا المقت العظيم { فأخذتهم الرجفة } أي: الزلزلة الشديدة مع الصيحة الهائلة { فأصبحوا في دارهم } التي بنوها للحياة والمعاش { جاثمين } [العنكبوت: 37] مائتين هالكين باركين على ركبهم، ساقطين على وجوههم.
[29.38-40]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { عادا } المبالغين في الظلم والعدوان { وثمودا } المتجاوزين عن مقتضى حدود الله بالبغي والطغيان { وقد تبين لكم } وظهر عندكم ولاح عليكم أيها الناظرون المعتبرون عتوهم واستكبارهم { من مساكنهم } الرفيعة وحصونهم الحصينة المنيعة { و } ذلك بأنهم قوم { زين لهم الشيطان أعمالهم } وحسنها في نفوسهم فاستبدوا بها { فصدهم عن السبيل } أي: أعرضهم الشيطان بتزيين أعمالهم الفاسدة عن الصراط المستقيم والطريق المستبين { و } هم { كانوا مستبصرين } [العنكبوت: 38] متمكنين، قادرين على الاستبصار والاعتبار، فلم يعتبروا؛ إذ لم يسلب عنهم لوازم عقولهم، بل لبس عليهم الشيطان أفعالهم وحسن عندهم أعمالهم، فظنوا أنهم مهتدون وما كانوا مهتدين.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { قارون } المباهي بالمال والنسب على أهل عصره وزمانه { وفرعون } المستعلي بالسلطنة والملك إلى أن تفوه من غاية عتوه واستكباره بدعوى الألوهية لنفسه { وهامان } وزيره، قد تفوق على أقرانه وأهل زمانه بالثروة والجاه والنيابة الكاملة وعلو المكانة والمنزلة بين الأنام { و } من كمال تعنت هؤلاء المفسدين المسرفين واستعلائهم { لقد جآءهم موسى } بوحينا رسولا منا؛ ليهديهم إلى طريق الحق وصراط مستقيم، فكذبوه ولم يبالوا به وبكلامه مع كونه مؤيدا { بالبينات } القاطعة والمعجزات الساطعة { فاستكبروا في الأرض } على الله وعلى رسله وعموم عباده وانصرفوا عن مطلق أوامره ونواهيه منكرين وجوده وإرساله ووحيه عنادا ومكابرة { و } مع ذلك { ما كانوا سابقين } [العنكبوت: 39] بنا، حافظين نفوسهم عن إدراك عذابنا إياهم وانتقامنا منهم.
{ فكلا } منهم { أخذنا بذنبه } الذي صار علة لبطشه وانتقامه على مقتضى عدلنا، ثم فصل سبحانه أخذه إياهم بعدما أجمل، فقال: { فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } أي: ريحا عاصفا فيها حصباء، رميناهم ورجمناهم بها كقوم لوط وعاد { ومنهم من أخذته الصيحة } الهائلة كثمود وأصحاب مدين { ومنهم من خسفنا به الأرض } كقارون وما معه من زخارفه التي هي سبب طغيانه وبغيه { ومنهم من أغرقنا } كقوم نوح وفرعون وهامان وجميع جنودهما { و } ما أخذنا كلا منهم إلا بذنوب عظيمة صدرت عنهم على سبيل الإصرار والاغترار؛ إذ { ما كان الله } المستوي على العدل القويم والطريق المستقيم وما صح عليه وحق له سبحانه { ليظلمهم } ويأخذهم بلا ذنب صدر عنهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [العنكبوت: 40] أي: هم كانوا يظلمون أنفسهم باستجلاب عذاب الله عليها بارتكاب أسبابه وموجباته، وعرضها على غضب الله بالخروج عن مقتضى أوامره ومنهياته، وما ذلك إلا من رسوخ التقليدات التخمينات في نفوسهم، واستقرار الرسوم والعادات في جبلتهم؛ لذلك أصروا بما هم عليه وانصرفوا عن سواء السبيل وكذبا الرسل الهادين إليه، وأنكروا عليهم عتوا واستكبارا، فهلكوا خسارا وبوارا.
[29.41-45]
ثم أشار سبحانه إلى توهيم جميع التقليدات والتخمينات الحاصلة من هوية النفوس الخبيثة بالماديات، والعقول المكدرة بكدورات الأوهام والخيالات، فقال على سبيل التمثيل والتشبيه، على مقتضى إدراك العوام؛ توضيحا لهم ليتنبهوا على طريق الحق ويتفطنوا بالتوحيد القويم: { مثل } القوم { الذين اتخذوا من دون الله } المنزه عن الأشباه والأنداد مطلقا { أوليآء } يوالونهم كولاية الله ويعبدونهم مثل عبادته، متوهمين أنهم شركاء معه أو شفعاء لهم عنده سبحانه مع أنهم لا يتأتى منهم الشركة والشفاعة أصلا، إنما مثلهم في هذا الاتخاذ والاعتقاد { كمثل العنكبوت } التي { اتخذت بيتا } من لعابها، ثم تركتها واتخذت آخر مثلها، ثم تركتها، وهكذا حالها دائما مع أن هذه الأبنية البيوتات المتخذة لا تدفع حرا ولا بردا، ولا تصير مانعا له من العدو وحجابا كهؤلاء المقلدين الضالين الذين اتخذوا تقليد بعض الضلال دينا، ثم تركوها بتقليد آخر منهم بلا رسوخ ولا تمكن، وهكذا حالهم دائما مع أن الأديان المتخذة لا تكشف لهم طريق الحق، ولا توصلهم إلى معرفته وتوحيده، ولا تنقذهم من الأوهام والخيالات الباطلة العائقة عن مشرب التوحيد، ولا تخرجهم من سجن الطبيعة وقيود الإمكان وأغلال الأنانيات وسلاسل العينات.
{ و } قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة والتصريح بالتوهين بعدما كنى؛ لينزجروا ويرتدوا على ما هم عليه من الأديان الباطلة: { إن أوهن البيوت } وأضعف الأبنية { لبيت العنكبوت } إذ لا بيت أضعف منه، وأشرف إلى التخريب والانهدام، وأقل وقاية من الحر والبرد ودفع الضر { لو كانوا يعلمون } [العنكبوت: 41] وهنه وعدم نفعه لما اتخذوها، لكنهم لم يعلموا، فاتخذوا جهلا وعنادا، فيسعلمون عاقبة ما اتخذوا ووبال ما عبدوا.
ثم قال سبحانه على وجه الوعيد إياهم، آمرا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا أكمل الرسل: { إن الله } المطلع لضمائر عباده وسرائرهم { يعلم } بعلمه الحضوري { ما يدعون } وتعبدون { من دونه من شيء } من الأصنام والأوثان على التفصيل؛ إذ لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما ظهر وبطن وخفي وعلم، ولكن يمهلهم ويؤخر أخذهم بها زمانا؛ لحكم ومصالح استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها { و } كيف لا يأخذهم بما صدر عنهم إنه { هو العزيز } الغالب القادر على الانتقام بالقوى الكاملة والبطش الشديد { الحكيم } [العنكبوت: 42] المقتن في أفعاله بما لا مزيد عليه.
{ و } إن استهزءوا معك يا أكمل الرسل، متهكمين بما في كتابك من التمثيلات بأحقر الأشياء وأضعفها مثل: الذباب والعنكبوت والنمل وغيرها لا تبال بهم وبتهكمكم و استهزائهم؛ إذ { تلك الأمثال } التي { نضربها للناس } المنهمكين في الغفلة والنسيان؛ لنوضح لهم طريق التوحيد والعرفان وسبيل السلامة والإيمان، إنما هو للموفقين منهم المجبولين في استعداد القبول وفطرة الإسلام، لا كل أحد من أهل الغفلة والمترددين في أودية الجهل والخيال وهاوية المراء والجدال { و } لذلك { ما يعقلهآ } ويفهم معناها وما يصل إلى مغزاها { إلا العالمون } [العنكبوت: 43] الواصلون بما فاض عليهم من رشحات بحر العلم الإلهي ينبوع بحر الوحدة الذاتية التي هي منبع جميع الكمالات اللائحة على صحائف الآفاق وصفحات الأكوان، حيث { خلق الله } المتجلي بجميع صور الكمالات وأظهر على مقتضى الأسماء والصفات { السموت } أي: العلويات المتفاوتة، المتخالفة باختلاف الأسماء والصفات، والمنتشئة من الذات الأحدية حسب الشئون والتطورات المترتبة على الكمالات المندمجة فيها { والأرض } أي: طبيعة العدم، القابلة لجميع الانعكاسات المنعكسة من أشعة التجليات الذاتية غيبا وشهادة، ظهورا وبطونا، بروزا وكمونا، جمالا وجلالا؛ يعني: ما خلق وأظهر ما ظهر وبطن إلا ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع بلا شائبة شك فيه وارتياب { إن في ذلك } الإيجاد والإظهار على الوجه الأبدع الأبلغ والنظام الأتم الأكمل { لآية للمؤمنين } [العنكبوت: 44] الموحدين الموقنين بوحدة ذاته وكثرة أسمائه وصفاته حسب شئونه وتطورات على مقتضى التجليات المتجددة الغير المتكررة أزلا وأبدا.
{ اتل } يا أكمل الرسل { ما أوحي إليك من الكتاب } الجامع لما في النشأتين، الحاوي لجميع الأمور الجارية في المنزلتين، وتأمل في مرموزاته وإشارته حق التأمل والتدبر واتصف بأوامره واجتنب عن نواهيه، واعتبر عن عبره وأمثاله وذق حلاوة معارفه وحقائقه { وأقم الصلاة } أي: دوام على الميل المقرب إلى الله بجميع جوارحك وأركانك بالانخلاع عن لوازم ناستوك مطلقا { إن الصلاة } على الوجه المذكور { تنهى } وتكف صاحبه { عن الفحشآء } المترتبة عن القوى البهيمية من الشهوية والغضبية { والمنكر } المترتب على البشرية المنغمسة بالعلائق المادية والشواغل الجسمانية { و } بالجملة: { لذكر الله } المنزه في ذاته عن جميع الأكوان، المبرئ أوصافه وأسماءه عن وصمة النقصان وسمة الحدوث والإمكان، والاشتغال بذكره حسب إطلاقه { أكبر } شمولا وأتم توجها وأكمل حصولا ووصولا لو جذبتك العناية من لدن جنابه ووفقك التوفيق منه نحو بابه { و } كن يا أكمل الرسل في نفسك متوجها إلى ربك، متقربا إليه على الوجه الذي أمرت به، ولا تلتفت إلى هذيانات أهل البدع والأهواء الفاسدة؛ إذ { الله } المطلع بجميع حالاتهم { يعلم } منهم { ما تصنعون } [العنكبوت: 45] من الاستخفاف الاستهزاء وعدم المبالاة بمعالم الدين ومراسم التوحيد واليقين، فيجازيهم على مقتضى علمه بهم.
[29.46-49]
{ و } بعدما سمعتم أيها المؤمنون خطاب ربكم مع نبيكم { لا تجادلوا } ولا تخاصموا { أهل الكتاب } أي: الأحبار الذين واظبوا على محافظة كتاب الله المنزل إليهم واستنبطوا منه الأحكام، وامتثلوا بأوامره واجتنبوا نواهيه { إلا بالتي } أي: بالطريق التي { هي أحسن } الطرق، وأبعد عن المكبرة وأقرب إلى الصواب، هينين لينين معهم بلا قلق واضطراب وفضول الكلام ماداموا متصفين معتدلين بلا ميل منهم وانحراف إلى المكابرة والاعتساف { إلا الذين ظلموا منهم } جهلا وعنادا، وخرجوا عن منهج الصواب بغيا وعدوانا { وقولوا } لهم على مقتضى ما أمرتم به في كتابكم: { آمنا } وصدقنا { بالذي } أي: بالكتاب الذي { أنزل إلينا } من ربنا على طريق الوحي لنبينا { و } آمنا أيضا بالكتاب الذي { أنزل إليكم } منه سبحانه وحيا على نبيكم { و } كيف لا نؤمن لكتابكم ونبيكم؛ إذ { إلهنا } الذي أنزل علينا كتابا { وإلهكم } الذي أنزل عليكم أيضا كتابا { واحد } لا تعدد فيه ولا شريك له، ولا مثل له يمثاله ولا كفو له يشابهه { ونحن له مسلمون } [العنكبوت: 46] مؤمنون، منقادون، مطيعون وبجميع ما حكم به سبحانه في كتبه وعلى ألسنة رسله مصدقون ممتثلون إلا ما نسخ في كتابنا.
{ و } كيف لا يقول لهم المؤمنون هكذا ولا يؤمنون بالكتب المنزلة من عندنا { كذلك } وعلى ذلك { أنزلنآ إليك } يا أكمل الرسل { الكتاب } الجامع لما في الكتب السالفة؛ لتكون أنت ومن تبعك مؤمنين مصدقين لجميع الكتب والرسل بلا تفرقة ولا تفاوت { فالذين آتيناهم الكتاب } قبل كتابك { يؤمنون به } أي: بكتابك ويصدقون بك أيضا، كذلك على الوجه الذي وعدناهم في كتبهم من أنا سنرسل رسولا موصوفا بأوصاف ما بيناه لهم في كتبهم، ومعه كتاب جامع مصدق لجميع الكتب السالفة والرسل السابقة، وإن كان مشتملا على النسخ والتبديل لبعض أحكام الكتب السالفة على مقتضى سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة من نسخ بعض الأحكام السابقة باللاحقة.
{ ومن هؤلاء } أي: الأعراب { من يؤمن به } أي: بهذا الكتاب وإن لم يسبق لهم وعد؛ لأنهم ليسوا من أهل الكتاب في وقت من الأوقات، بل إنما آمنوا به، لكونهم من أرباب اللسن والفصاحة، تأملوا في نظام ألفاظه العجيبة واتساق معانيه الدبيعة، وانكشف لهم أ،ه ما هو من جنس كلام البشر، فجزموا بإعجازه وآمنوا به، فصدقوه أنه نازل من عند الله على سبيل الوحي { و } بالجملة: { ما يجحد } وينكر { بآياتنآ } الظاهر الإعجاز، العجيبة الشأن، الباهرة البيان { إلا الكافرون } العنكبوت: 47] الساترون نور الهداية والإيمان بظلمة الكفر والطغيان عنادا ومكابرة.
{ و } كيف لا يكون القرآن وحيا نازلا من عند الله بمقتضى إرادته؛ إذ { ما كنت } يا أكمل الرسل { تتلوا } وتتعلم { من قبله } أي: قبل القرآن ونزوله { من كتاب } من الكتب المنزلة { ولا تخطه } وتنسخه { بيمينك } على سبيل النقل؛ يعني: ما كنت من أهل النسخ والإملاء والكتابة؛ إذ هي مسبوقة بالتعليم وأنت أمي، عار عن الدراسة والكتابة والتعلم مطلقا، ولم يعهد منك أمثال هذه الأمور الدالة على الأخذ والاستنباط، ولو كنت متصفا بها وأهلا لها { إذا لارتاب } شك و تردد { المبطلون } [العنكبوت: 48] المجاهرون بالقول الزور الباطل في شأنك وفي شأن كتابك وكونه معجزا، مع أنه ما هو - أي: القرآن - حينئذ أيضا محل ارتياب ؛ لأنه في نفسه باعتبار نظمه العجيب البديع ومعانيه الغريبة وأسلوبه المحكم معجز خارق للعادة عند من له أدنى دربة في أساليب الكلام، ولا ينبغي لأحد أن يشك في إعجازه إلا من هو متناه في البلادة وسخافة العقل وركاكة الفهم.
{ بل هو } أي: القرآن في نفسه { آيات } ودلائل دالة على توحيد الحق { بينات } واضحات الدلالات في أنفسها، ثابتات { في صدور } الموحدين { الذين أوتوا العلم } اللدني المترشح من حضرة العلم الإلهي، المفاض لهم منها محسب استعداداتهم وقابلياتهم تفضلا عليهم وامتنانا لهم { و } بالجملة: { ما يجحد } وينكر { بآياتنآ } مع قواطع برهانه وسواطع تبيانه { إلا } القوم { الظالمون } [العنكبوت: 49] الخارجون عن مقتضى العلم والعين والكشف والشهود.
[29.50-54]
{ و } من غاية بغضهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة شكيمتهم وضغينتهم معه { قالوا } مقترحين منه على سبيل التعجيز والإنكار: { لولا } أي: هلا { أنزل عليه آيات من ربه } إن كان صادقا في دعواه كالآيات التي نزلت على الأنبياء الماضين مثل: ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى وسائر معجزاته، وغير ذلك { قل } لهم يا أكمل الرسل كاملا ناشئا عن محض الحكمة، خاليا عن وصمة الشبهة، { إنما الآيات } كلها { عند الله } أنزلها وفي قبضة قدرته، وعلى مقتضى إرادته ومشيئته حتى تعلقت إرادته بإنزال آية منها، أنزلها على من أنزلها إرادة واختيارا { و } ليس في وسعي وطاقتي ولا في وسع كل من مضى قبلي من الأنبياء والرسل إنزال عموم ماطلبتم، وإتيان جميع ما اقترحتم من الآيات وكذا حال الأنبياء الماضين مع أممهم المقترحين عليهم بالآيات، بل { إنمآ أنا نذير } من قبل الحق إياكم { مبين } [العنكبوت: 50] ظاهر الإنذار والتخويف، وكل من الأنبياء والرسل أيضا كانوا كذلك بالنسبة إلى إممهم؛ إذ نحن معاشر الأنبياء والرسل ما لنا إلا التبليغ والإنذار على مقتضى الوحي والإلهام الإلهي بلا تخويف منا وتبديل، وأما التنزيل والإنزال من قبل الحق، والقبول منكم فموض إلى القادر الحكيم.
ثم قال سبحانه على المقترحين وتقريعا لهم: { أولم يكفهم } ولم يغنهم من جميع الآيات التي اقترحوا عنك يا أكمل الرسل { أنآ أنزلنا } من مقام جودنا ولطفنا معك { عليك الكتاب } الجامع لما في الكتب السالفة، المحتوي على أحوال النشأتين على الوجه الأبلغ مع أنه لا يغيب عنهم، بل { يتلى عليهم } ويقرأ عندهم دائما بخلاف سائر الآيات، فإنها كما ظهرت غابت هي وأثرها وهو وأثرها حاضر عندهم غير مغيب عنهم، وبالجملة: { إن في ذلك } الكتاب الذي هو في نفسه آيات عظيمة الفوائد، دائمة العوائد، غير منقطعة آثارها عن من تمسك بها واستهديا { لرحمة } أي: نعمة عامة نازلة من قبل الحق { وذكرى } أي: عظة وتذكيرا شاملا لعموم عباده، ملقاه من عنده سبحانه { لقوم يؤمنون } [العنكبوت: 51] بتوحيده وأسمائه وصفاته، ويصدقون المبدأ والمعاد والعرض والجزاء والفوز بشرف اللقاء جميع ما وعد لهم في النشأة الأخرى.
ثم لما أتى قوم من ضعفاء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف رقم فيها بعض أراجيف اليهود وأقوايلهم الكاذبة، متبركين بها، متيمنين بما فيها، فقال صلى الله عليه وسلم مبغضا عليهم: كفى بضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم من قبل ربهم إلى ما جاء به غير نبيهم، وصدقوا ما جاء به غير نبيهم مع أنه كذب مفترى، وكذبوا ما جاء به النبي مع أنه صدق مطابق للواقع، فنزلت حينئذ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: { قل } يا أكمل الرسل للمكذبين لك وبما جئت به مصدقين لأعدائك وبما جاءوا به: { كفى بالله بيني وبينكم } أيها المكابرون { شهيدا } حاضرا معي ومعكم مطلقا، على حالي وحالكم وما جرى في ضميري وضمائركم؛ إذ هو سبحانه { يعلم } بعلمه الحضوري جميع { ما } ظهر { في السمو } ما ظهر في { ت والأرض } وكذا ما ظهر بينهما ما بطن فيهما، فيجازي كلا منا ومنكم على مقتضى علمه بنا وبكم.
{ و } كيف لا يجازي القادر المقتدر على انتقام عصاة عباده { الذين آمنوا } وأطاعوا { بالباطل } الذي هو بمراحل عن الحق والصدق { وكفروا بالله } الحق الحقيق بالحقية، المستوي على منهج الصدق والصواب، وأعرضوا عن إطاعته وانقياده عنادا وكابرة، وبالجملة: { أولئك } البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور، والأشقياء المحرومون عن سعة رحمة الملك الغفور { هم الخاسرون } [العنكبوت: 52] المقصورون على الخسران الخذلان، لا يرجى ربحهم وتفريجهم أصلا.
{ و } من غاية غيهم وضلالهم، ونهاية انهماكهم في بحر الغفلة والغرور { يستعجلونك } تهكما استهزاء { بالعذاب } واستهزاء بك الذي أنذرتهم بوحي منا إليك بنزوله إياهم من كمال إنكارهم وتكذيبهم { ولولا أجل مسمى } ووقت معين موعود، مثبت في لوح قضائنا { لجآءهم العذاب } اليوم فجأة عاجلا؛ لاستحقاقهم بنزوله إلا أنه مؤقت موعود على مقتضى سنتنا القديمة المستمرة من ترهين الأمور على الأوقات المعينة المثبتة في لوح القضاء وحضرة العلم.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: لا تغتروا بإمهالنا إياكم زمانا { و } الله { ليأتينهم } ولينزلن عليهم العذاب الموعود { بغتة } أي: دفعة وفجأة { وهم لا يشعرون } [العنكبوت: 53] ولا يطلعون بنزوله وأمارات إتيانه.
ومن غاية عمههم وسكرتهم وكمال انهماكهم في أسباب العذاب وموجباته ولوازمه { يستعجلونك بالعذاب } ظنا منهم أن ما هم عليه إنما هو من موجبات الثواب وأسباب النجاة الجنة، بل هي عينهما؛ إذ لا إيمان لهم بالنشأة الأخرى وما فيها، كيف لا يعذبون في النشأة الأخرى ولا يدخلون النار { وإن جهنم } الموعودة فيها لهم { لمحيطة بالكافرين } [العنكبوت: 54] محتوية عليهم الآين في النشأة الأولى باعتبار أسبابها وموجباتها؟!.
[29.55-60]
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يغشاهم العذاب } في الآخرة، كغشي أسبابها التي هي عبارة من لوازم الإمكان إياهم اليوم { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } أي: من أعلاهم وأسفلهم، ومحيطا بجميع جوانبهم { ويقول } قائل من قبل الحق زاجرا لهم وتوبيخا: { ذوقوا } أيها المستكبرون المصرون على الكفر والعناد جزاء { ما كنتم تعملون } [العنكبوت: 55] أيها المعاندون.
ثم قال سبحانه على سبيل التعليم التنبيه مناديا لخلص عباده الذين جل همهم الإخلاص في جميع ما جاءوا به من الأعمال: { يعبادي الذين آمنوا } أضافهم سبحانه إلى نفسه؛ تفضلا عليهم، ومزيد إكرامه لهم مقتضى إيمانكم: الإخلاص والحضور معي، والتوجه إلي مع فراغ البال في كل الأحوال، فإن لم تجدوا الفرصة والفراغة المذكورة في أرض لا تستقرون فيها، ولا تتمكنون عليها، بل عليكم أن تفروا وتخرجوا منها طالبين الجمعية والحضور { إن أرضي } ومقر عبادي وعبادتي { واسعة } فإن لم تجدوا لذة التوجه وحلاوة الرجوع إلي في أرض، ولم يتيسر لكم الجمعية الحاصلة المنعكسة من صفاء مشرب التوحيد فعليكم الخروج والجلاء منها، وبالجملة: { فإياي } في كل الأماكن والأحوال { فاعبدون } [العنكبوت: 56] عبادة مقارنة بالإخلاص والخضوع والخشوع، والتبتل والتوكل والتفويض، والرضا والتسليم، ولا تغتموا وتحزنوا بالخروج عن الأوطان والجلاء منها خوفا من الموت الطبيعي، إن كنتم مائلين إلينا راغبين نحونا.
إذ { كل نفس } من النفوس المستحدثة بحدوث البدن { ذآئقة } كأن { الموت } في أي موطن ومكان كانت { ثم } بعدما ذاق كأس الموت، وخلص عن قيود الهويات العدمية المانعة عن الطبيعي لإطلاق الحقيقي، فحينئذ { إلينا } لا إلى غيرنا؛ إذ لا موجود في الوجود سوانا { ترجعون } [العنكبوت: 57] رجوع الأضواء إلى الشمس، والأمواج إلى الماء.
{ و } بعد رجوع الموحدين { الذين آمنوا } موقنين { وعملوا الصالحات } مقارنين إيمانهم بها، مخلصين فيها إلينا { لنبوئنهم } وننزلنهم تفضلا منا إياهم وتكريما { من الجنة } المعدة لأرباب المعرفة التوحيد { غرفا } أي: لكل منهم غرفة معينة تصير له مقرا ومنزلا { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات على تفاوت طبقاتهم وقدر قابليتهم { خالدين فيها } دائمين، غير متحولين عنها أصلا { نعم أجر العاملين } [العنكبوت: 58] الجنة وما فيها، مما لاعين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم أولوا العزائم الصحيحة.
{ الذين صبروا } على جميع مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات وأذيات الأعادي، والجلاء من الأوطان ومفارقة الخلان، وغير ذلك مما جرى عليهم من طوارق الحدثان { و } مع ذلك هم في جميع حالاتهم، وفي عموم ما جرى عليهم { على ربهم } لا على غيره من الوسائل والوسائط { يتوكلون } [العنكبوت: 59] وينسبون إليه ما ينسبون لا إلى الوسائل والأسباب العادية؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود، بل الوسائل كلها مطوية عندهم، والأسباب منسية لديهم، بل نظرهم مقصور على المسبب الواحد الأحد، الفرد الصمد، القيوم المطلق الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4].
وبعدما أمر سبحانه المؤمنين بالجلاء ومفارقة الأوطان؛ لكسب الجمعية وحضور القلب، قالوا متخوفين عن العيلة والاضطرار في أمر المعاش: كيف نعمل ونعيش في بلاد الغربة، ولا معيشة لنا فيها، قال سحبانه تسلية لهم، وإزالة لخوفهم: { وكأين } أي: كثير { من دآبة } تتحرك على الأرض محتاجة إلى الغذاء المقوم لمزاجها مع أنها لضعفها وعدم مكنتها { لا تحمل رزقها } أي: لا تطيق لحمل رزقها وادخاره وكسبه { الله } المتكفل لأرزاق عموم عباده { يرزقها } من حيث لا تحتسب { وإياكم } أيضا، وأنتم من جملة الحيوانات التي تكفل الله برزقها، بل من أجلتها، فلا تغتموا لأجل الرزق، ولا تقولوا قولا به زل نعلكم عن خالقكم ورازقكم { و } لا تخطروا أيضا ببالكم أمثال هذا؛ إذ { هو السميع } لأقوالكم { العليم } [العنكبوت: 60] بأحوالكم وبيناتكم، فعليكم أن تتقوا في كل الأحوال بالله المتولي لأمركم، مفوضين كلها إليه، متوكلين عليه، متمكنين في توكلكم وتفويضكم، راسخين فيه بلا تلعثم وتزلزل.
[29.61-64]
ثم قال سبحانه قولا على سبيل الإلزام والتبكيت: { ولئن سألتهم } يا أكمل الرسل؛ أي: أهل مكة مع كفرهم وشركهم: { من خلق } وأظهر { السموت والأرض } من كتم العدم؟ { و } من { سخر الشمس والقمر } دائبين؟ { ليقولن الله } المظهر للكائنات، المستقل في إيجادها، والمتصرف فيها حسب إرادته ومشيئته، وبعدما أقروا بتوحيد الحق وانتهاء مراتب الممكنات إليه { فأنى يؤفكون } [العنكبوت: 61] ويصرفون عن توحيده والإيمان ب، والامتثال بأوامره ونواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه؟!.
وإن صرفهم عن الإيمان فاقة أهل الإيمان وفقر الموحدين، قل لهم نيابة عنا: { الله } المطلع لاستعدادات عباده وقابلياتهم { يبسط الرزق لمن يشآء من عباده } على مقتضى استعداده { ويقدر له } ويقبض عنه حسب تعلق إرادته { إن الله } المتقن في أفعاله { بكل شيء } صدر عنه إرادة واختيارا { عليم } [العنكبوت: 62] لا يعزب عن حيطة علمه شيء من لوازمه ومتمماته، وجميع مقتضياته.
{ و } يا أكمل الرسل: { من نزل من } جانب { السمآء مآء فأحيا به } أي: بواسطة الماء على مقتضى عادته المستمرة من تعقيب الأسباب بالمسببات { الأرض } الجامدة اليابسة { من بعد موتها } أي: جمودها ويبسها؟ طبعا { ليقولن الله } طوعا، القادر المقتدر على الإحياء والإماتة، ومع اعترافهم بوحدة الله وانتساب معظم الأشياء إليه يشركون له غيره عنادا ومكابرة { قل } أيضا { لئن سألتهم } يا أكمل الرسل بلسان الجمع، بعدما عصمك الحق عن الشرك وأنواع الجهالات بإفاضة العقل المفاض، وهداك إلى توحيده بالرشد الكامل المكمل المميز لك أكمل التمييز، حامدا لله شاكرا لنعمه، سيما نعمة العصمة عن الشرك والضلال: { الحمد } والثناء الصادر من ألسنة ذرائر الكائنات المتذكرة لمبدئها ومنشئها طوعا وطبعا، ثابتة حاصلة { لله } راجعة إليه سبحانه أصالة؛ إذ لا مظهر لهم سواه، ولا موجد في الوجود إلا هو.
{ بل أكثرهم } من نهاية غفلتهم وضلالهم عن الله { لا يعقلون } [العنكبوت: 63] ولا يفهمون وحدة الحق واستقلاله في الآثار والتصرفات الواقعة في الأنفس والآفاق، ولا يستعملون عقولهم المفاضة لهم للتدبر والتأمل في هذا المطلب العزيز حتى يستبعدوا الفيضان نزول الوحدة بطريق الكشف والشهود، فخلصوا عن التردد في هاوية الجهالات، وأودية الخيالات والضلالات، وما يعوقهم ويمنعنم عن الوصول إلى هذا المطلب العلي، والمقصد السني إلا المزخرفات الدنية الدنيوية، الملهية للنفوس البشرية عن اللذات الروحانية، مع أنها ما هي في أنفاسها إلا أوهام وخيالات باطلة، فكيف ما يترتب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية؟!.
كما قال سبحانه مشيرا إلى فناء زخرفة الدنيا وعدم قرارها وثباتها، وبقاء النشأة الأخرى وما يترتب عليها من اللذات الروحانية، والدرجات العلية النورانية المتفاوتة علما وعينا وحقا على تفاوت طبقات أرباب الكشف والشهود، ومقتضيات استعداداتهم الثابتة في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي: { وما هذه الحياة الدنيآ } التي لا قرار لها ولا مدار حقيقة، بل لا أصل لها أصلا سوى سراب انعكس من شمس الذات، وأمواج حدثت في بحر الجود { إلا لهو ولعب } يعني: كما أن السراب يلهي ويخدع العطشان بالتردد والتبختر نحو على اعتقاد أنه ماء، فيتعب نفسه ويزيد عطشه، بل يهلكها، كذلك الحياة الدنيوية ومزخرفاتها الفانية، ولذاتها الزائلة الذاهبة الإمكانية تتعب صاحبها طول عمره، ولا ترويه، ثم تميته بأنواع الحسرة والضجرة { وإن الدار الآخرة } وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات اللدنية، وما يترتب عليها من أنواع الفتوحات والكرامات الفائضة لأرباب التوحيد { لهي الحيوان } أي: هي مقصورة على الحياة الأزلية الأبدية التي لا يطرأ عليها زوال، ولا يعقبها فناء، ولا يعرض للذاتها انصرام وانقضاء { لو كانوا يعلمون } [العنكبوت: 64] يوقنون بها وبما فيها من الكرامات لم يؤثروا الدنيا الدنية وحياتها الفانية المستعارة عليها، ولم يختاروا اللذات الوهمية البهيمية على لذاتها الأزلية الأبدية، ويجهلهم وضلالهم اختاروا الفاني على الباقي، والزائل على القار، والسراب المهلك على الفرات المحيي.
[29.65-69]
والعجب منهم ومن حالهم كل العجب أنهم مع شركهم وإصرارهم على الكفر، وعدم تأثرهم بالزواجر والروادع الواردة من قبل الحق، ظهور المعجزات المزعجة إلى الإيمان { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله } متضرعين نحوه { مخلصين له الدين } أي: كائنين كالمؤمنين المطيعين، الخالصين إطاعتهم وانقيادهم لله بلا شوب الشرك وشين الكفر { فلما نجاهم } من كمال فضلنا وجودنا إياهم { إلى البر } وأخلصناهم من المهلكة آمنين { إذا هم يشركون } [العنكبوت: 65] يعني: هم ما جاءوا على الفور بعيد ما خلصوا من التهلكة إلى الشرك والطغيان وأنواع العصيان والكفران.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا آمرا لهم على سبيل التهديد: { ليكفروا } أولئك الكافرون { بمآ آتيناهم } من النعم العظام، سيما نعمة الإنجاء من مضيق البحر { وليتمتعوا } أولئك المتمتعون بما عندهم من الحطام الدنيوية، وما هم عليه من الإصرار على الكفر الضلال { فسوف يعلمون } [العنكبوت: 66] ما يترتب على كفرانهم وتمتعهم وشركهم وضلالهم.
{ أ } ينكرون نعمنا وإنعامنا إياهم أولئك الكافرون المبطلون { ولم يروا } ولم يعلموا أهل مكة { أنا } من مقام جودنا وفضلنا إياهم { جعلنا } بلدهم؛ يعني: مكة { حرما } يعني: ذا حرمة عظيمة يأوي إليها الناس من جميع أقطار الأرض من لك مرمى سحيق وفج عميق { آمنا } ذا أمن أهله من النهب والسبي وأنواع الأذى { ويتخطف } نهبا وسبيا، وهم آمنون فيها، مصونون عن المؤذيات كلها، وهم مع ذلك يكفرون نعمنا ويشركون بنا غيرنا { أ } أي: يختلس ويؤخذ { الناس من حولهم } ما تستحيون من الله أيها المبطلون، وما تخافون من بطشه أيها المفسدون المسرفون؟! { فبالباطل } العاطل الزاهق الزائل؛ يعني: الأصنام والأوثان { يؤمنون } أي: يطيعون ويعبدون، مع أنهم لا يقدرون على جلب نفع ودفع ضر { وبنعمة الله } القادر المقتدر القوي على البطش والانتقام { يكفرون } [العنكبوت: 67] فستعلمون أيها الجاهلون الضالون أي منقلب تنقلبون.
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد الشديد: { ومن أظلم } وأشد عدوانا على الله، وخروجا عن مقتضى حدوده، وعلى نفسه بالعرض على بطشه وعذابه { ممن افترى } وانتسب إلى الله مراء وافتراء { على الله كذبا } عظيما بأن يشرك معه غيره، مع أنه ليس في الوجود سواه { أو كذب بالحق } المطابق للواقع، الثابت النازل من عنده سبحانه؛ يعني: الرسول { لما جآءه } كذبه فجأة بلا تأمل وتدبر عنادا ومكابرة { أليس في جهنم مثوى للكافرين } [العنكبوت: 68] يعني: أيزعمون أولئك المسرعون في التكذيب، المجترئون على الإنكار أنهم لا يدخلون جهنم الطرد وجحيم الخذلان، خالدين مخلدين بسبب هذا الجرم العظيم والافتراء البالغ نهاية البغي والفساد على الله وعلى كتابه ورسوله؟! بلى هم المستوجبون المقصودون على الخلود فيها أبدا مهانين صاغرين.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد: { والذين جاهدوا فينا } يعني: المؤمنين الموقنين الذين حازوا كلا مرتبتي العين و الحق على مقتضى استعداداتهم الفطرية، ثم اجتهدوا ببذل وسعهم بأن يفنوا فينا، ويبقوا ببقائنا، باذلين مهجهم في سبيلنا، تاركين أنانيتهم وأعيانهم الباطلة في هويتنا وعيننا الحق { لنهدينهم } ونوفقن عليهم { سبلنا } ولنزيدن هديهم ورشدهم إلينا جذبا منا إياهم، وعناية لهم، وأحسانا معهم { و } كيف لا يجذبهم ولا يعتني بشأنهم، ولا يزيد برشدهم وتوفيقهم؟! { إن الله } المتجلي لخلص عباده بمقتضى أسمائه وصفاته { لمع المحسنين } [العنكبوت: 69] منهم، وهم الذين يحسنون الأدب مع الله، ويجتهدون في إفناء ذواتهم في ذاته بعدما تحققوا بمقام الكشف والشهود، وتيقنوا ألا موجود سواه، ولا إله ي الوجود إلا هو، اجتهدوا حينئذ أن يحكوا أضلال هوياتهم الباطلة، وعكوس تعيناتهم الهالكة العاطلة عن دفتر الوجود مطلقا؛ لئلا يبقى لهم عين ولا اسم ولا رسم.
وبعدما طرحوا بتوفيق الله وجذب من جانبه ما أطرحوا من أباطيل التعينات ولوازم الهويات والأنانيات، وعموم الاعتبارات عن دفتر الوجود وفضاء الشهود، بحيث لم يبق لهم عين ولا أثر، بل لا معنى للمعية والمصاحبة والمقارنة، ولا تشوشك منطوقات الألفاظ والعبارات إن كنت من أهل الرموز والإشارات، هو يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
خاتمة السورة.
عليكم أيها المجتهد المتوجه نحو الحق، المتعطش بزلال توحيده، المعرض عن الباطل وما يترتب عليه من غوائل الشيطان ووساوسه أن يجتهد أولا في استخلاص نفسك البشرية عن أمانيها مطلقا، سيما أنية أمارتك المائلة بأنواع الفجور، المبغية على الله بأصناف الكفر والفسوق، والغيبة التي لا تفهم مقتضيات الوحدة وإشارات أرباب التوحيد أصلا، العرية عن مبدأ المعارف والحقائق والأسرار والمكاشفات، الواقعة في طريقه رأسا، فلك أن تروضها بمتاعب الرياضات ومشاق التكليفات إلى أن تجعلها مطمئنة راضية بما جرى عليها من القضاء.
ثم بعدما صارت نفسك مطمئنة راضية انبعث شوقك، واقتضى ذوقك مع جذب من جانب الحق إلى أن تجعلها فانية في هوية الله، مضمحلة في ذاته، متلاشية في أوصافه وأسمائه، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، فحيئنذ صرت في زمرة المحسنين المهديين، المرضيين الذين هم من الله في جميع حالاتهم لا بطريق المصاحبة والمقارنة، ولا بطريق الحلول والاتحاد على ما يخيلك الألفاظ والعبادات، بل بطريق الفناء فيه والرجوع إليه، والبقاء ببقائه.
جعلنا الله ممن اجتهد في طريق التوحيد، وجاهد نفسه في مسلك الفناء حتى بذلها في سبيل الله وأفناها في هويته بمنه وسعة جوده.
[30 - سورة الروم]
[30.1-7]
{ الم } [الروم: 1] أيها الإنسان الأفضل الأكمل اللبيب، اللائق الملازم المداوم لاتسكشاف غوامض أسرار الوجود، ورقائق دقائق آثار الكرم والجود، الفائضة من الخلاق الودود على خواص مظاهر الأكوان المحبوسين في مضيق الإمكان؛ ليوصلهم إلى فناء الوجوب وصفاء الكشف والشهود، مخلصين عن جميع الأوهام والخيالات المستتبعة لأنواع الضلالات والجهالات.
{ غلبت الروم } [الروم: 2] أي: صاروا مغلوبين من عسكر الفرس.
{ في أدنى الأرض } وأقربها من أرض العرب وأرض الروم، وهي أذرعات الشام أو الأردن أو فلسطين - على اختلاف الروايات من أصحاب التواريخ - { و } ولا تغتموا أيها المؤمنون من مغلوبية أهل الكتاب وضعفهم؛ إذ { هم } أي : الروم { من بعد غلبهم } ومغلوبيتهم من الفرس { سيغلبون } [الروم: 3] ويصيرون غالبين عليهم ، آخذين انتقامهم عنهم على أبلغ وجه وأشده لأبعد مدة مديدة، وأمد بعيد.
بل { في بضع سنين } والبضع عند العرب من الثلاث إلى التسع.
وروي أن فارس غزوا الروم فتلاحقا بأذرعات الشام، وهي أقرب أرض الروم من الفرس والعرب أيضا، فلما اقتحما غلب الفرس على الروم، فوصل الخبر إلى مكة فأخذ المشركون في فرح عظيم وسرور مفرط، شامتين بالمسلمين، قائلين إياهم: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، فنحن لنظهرن أيضا عليكم مثلهم عن قريب، فنزلت الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه، فخرج عليهم، فقال لهم: لا يقر الله أعينكم أيها المشركون المسرفون، فوالله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبي بن خلف: كذبت، اجعل بننا أجلا أناحبك وأراهنك فناحبه أبو بكر رضي الله عنه على عشر قلائص من كل واحد منهم، وجعل الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه ما جرى بينهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى اله عليه وسلم:
" البضع ما بين الثلاث إلى التسع ".
فرجع رضي الله عنه إلى أبي فزايده الجعل والمدة أيضا، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنينن، ومات أبي من طعن طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية أو بدر، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه الخطر والرهن من ورثة أبي، وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:
" تصدق به "
فتصدق، فهذا قبل التحريم القمار، فلا يصح الاستدلال به على جواز العقود الفاسدة.
وهذه الآية من دلائل النبوة الرسالة؛ لكونها إخبارا عن الغيب بوحي الله وإلهامه؛ إذ { لله } وفي قبضة قدرته واختياره { الأمر } كله غيبا وشهادة، دنيا وعقبى { من قبل } أزلا { ومن بعد } أبدا، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، يفعل الله على مقتضى إرادته واختياره ما يشاء، ويحكم حسب حكمته ما يريد { ويومئذ } أي: حين غلب الروم على الفرس في رسن السنة التاسعة؛ إنجازا لما وعد به سبحاه المؤمنين { يفرح المؤمنون } [الروم: 4] مثلما فرح المشركون في الوقعة السابقة.
وفرح المؤمنين إنما هو { بنصر الله } وتأييده أهل الكتاب والملة، وتقوية أهل دينه وكتابه النازل من عنده، وتغليبهم على أهل الأهواءوالآراء الباطلة، لا بمجرد الغيرة والحمية الجاهلية والعصبية، كما هو ديدنه أهل الزيغ والضلال، وإلا { ينصر } سبحانه { من يشآء } من عباده على مقتضى مراده، سواء كان من أهل الهداية والضلال، أو السعادة والشقاوة؛ إذ لا يسأل عما يفعل { و } كيف يسأل عن فعله سبحانه، مع أنه { هو العزيز } المنيع ساحة عز حضوره عن أن يسأل عن كيفية أفعاله، الغالب المقتدر بالقدرة الكاملة على جميع مراداته { الرحيم } [الروم: 5] لعباده، يتفضل عليهم بمقتضى سعة رحمته تفضلا وإحسانا؟!.
وما ذلك النصر والتأييد { وعد الله } وعهده، وعده مع المؤمنين حين اشتد عليهم الحزن وهجم الهموم وقت مغلوبية الروم غيرة منهم على دين الله وأهله، ومن سنته سبحانه أنه { لا يخلف الله وعده } الذي وعده مع خلص عباده { ولكن أكثر الناس } المجبولين على الغفلة والنسيان { لا يعلمون } [الروم: 6] وعده، ولا يؤمنون ويصدقون بإنجازه الوعد، وعدم خلفه في الموعود.
بل ما { يعلمون } إلا { ظاهرا من الحياة الدنيا } يعني: لا يترقى علمهم عن المحسوسات الظاهرة مثل الحيوانات العجم، بل هم أسوأ حالا منهم؛ إذ هم مجبولون على التأمل والتدبر، والتفطن بما هو المقصود من ظهورها، والتفكر في حكمة إظهارها على هذا النمط البديع والنظم العجيب، وكيفية ارتباطها بالأسماء الإلهية والأوصاف الذاتية وانعكاسها منها { و } بالجملة: { هم عن } النشأة { الآخرة } المعدة لكشف السرائر، ورفع الحجب والسدل، وجميع الأغطية والأستار المانعة عن ظهور الحق، وانكشاف لقائه بلا سترة وحجاب { هم غافلون } [الروم: 7] غفلة مؤبدة تامة، بحيث لا يرجى منهم الإطلاع أصلا؛ لكثافة حجبهم، وغلظ أغطيتهم وأغشيتهم؛ لذلك لم يتدرجوا من عالم الكون والفساد ومضيق الإمكان، وما يترتب عليه من اللذات الوهمية إلى عالم الغيب وفضاء الوجوبن وما يترتب عليها من الكشف الشهود، وأنواع المعارف والحقائق الفائضة على مقتضى الجود الإلهي.
[30.8-10]
{ أ } يقنعون بهذه المزخرفات الفانية الضالون الغافلون، ويرضون أنفسهم بلذاتها الوهمية وشهواتها البهيمية { ولم يتفكروا } ويتدبروا في آلاء الله ونعمائه الفائضة على الترادف والتوالي في الآفاق على الصور العجيبة، والهيئات الغريبة، سيما { في أنفسهم } التي هي أقرب الأشياء إليهم، وأبدعها نظما وتركيبا، وأعجبها ظهورا، وأشملها تصرفا، وأكملها علما ومعرفة، وأعلاها شأنا، وأوضحها برهانا؛ لذلك ما وسع الحق إلا فيها، وما انعكس أوصافه وأسماؤه إلا منها، واستحقت هي بخصوصها من بين مظاهره سبحانه لخلافته ونيابته، ايطمئنون بهذه المزخرفات الزائلة الخسيسة، ولم يعبروا منها إلى مبادئها التي هي الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية، مع أنهم مجبولون على الجواز والعبرة بحسب أصل الفطرة ولم يعلموا، ولم يفهموا أنه { ما خلق } وأظهر { الله } الحكيم المتقن في جميع أفعاله { السموت والأرض } أي: العلويات والسفليات { وما بينهمآ } من البرازخ المتكونة من امتزاجاتهما واختلاطاتهما أثرا وأجزاء { إلا } ملتبسا { بالحق } ومنتهيا إليه إعادة وإبداء، لكنه قدر بقاءه وظهوره بوقت معين.
{ وأجل مسمى } عنده، وحين انقضائه انتهى إليه ورجع نحوه ما ظهر من الموجود، وانتفى وفني ما لمع عليه نور الوجود، وحينئذ لم يبق في فضاء الوجود إلا الواحد القهار للأظلال الأغيار { وإن كثيرا من الناس } المجبولين على الكفران والنسيان { بلقآء ربهم } في النشأة الأخرى { لكافرون } [الروم: 8] منكرون جاحدون عتوا واستكبارا؛ بسبب ما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية.
{ أولم يسيروا } أولئك المسرفون المفرطون { في } أقطار { الأرض فينظروا } بنظرة العبرة { كيف كان عاقبة } أمر المسرفين { الذين } مضوا { من قبلهم } كعاد وثمود، مع أنهم { كانوا أشد منهم قوة } لدلالة أظلالهم وآثارهم على تمكنهم { و } من دلائل قوتهم أنهم { أثاروا الأرض } وقلبوها للمعادن وإخراج العيون، وإجراء الأنهار، وإحداث الزروع وغير ذلك { و } بالجملة: { عمروهآ } أولئك فيمامضى { أكثر مما عمروها } هؤلاء اليوم، فدل زيادة عمارتهم على ازدياد قوتهم وتمكنهم.
{ و } بعدما أفسدوا على أنفسهم بأنواع الفسادات مباهيا بمالهم وجاههم، قلبنا عليهم أمرهم بأن أرسلنا إليهم رسلا مؤيدين بأنواع المعجزات، فلما { جآءتهم رسلهم بالبينات } القاطعة والبراهني الساطعة، فلجأوا على تكذيبهم وإنكارهم بلا تأمل وتدبر فيما جاءوا به، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، فاستأصلناهم وقلبنا عليهم أماكنهم، وخرجنا بلادهم ومزارعهم { فما كان الله } العزيز المتقدر الحكيم المتقن { ليظلمهم } أي: يفعل بهم فعل الظلمة بأخذهم وبطشهم بلا جرم صدر عنهم موجب لانتقامهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [الروم: 9] أي: يظلمون أنفسهم بعتوهم واستكبارهم على ضعفاء عباد الله، تكذيب خلص أنبيائه وأوليائه، وخروجهم عن مقتضى حدوده سبحانه.
{ ثم كان } بعدما تمادوا في الغفلة والعصيان، وتكذيب الرسل، والاستكبار على عباد الله وأنواع الإساءة مع رسله { عاقبة الذين أساءوا } مع الله ورسوله والمؤمنين { السوأى } أي: الخصلة الذميمة والعاقبة الوخيمة المترتبة على إساءتهم في الأخرى جزاء ما كانوا عليها في الأولى، كل ذلك بواسطة { أن كذبوا بآيات الله } وأنكروا عليها، واستخفوا بها ولمن أنزلت عليه { وكانوا } من غاية عتوهم واستكبارهم { بها يستهزئون } [الروم: 10] ويستسخرون، ونسبون إليها ما لا يليق بشأنها افتراء ومراء.
[30.11-16]
وكيف يستهزئ أولئك المسرفون مع الله ورسله وآياته النازلة من عنده؛ إذ { الله } المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته { يبدؤا الخلق } ويبدع المخلوقات من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان، ويظهر في فضاء الوجود، ثم يميته ويعدمه { ثم يعيده } حيا كذلك في النشأة الأخرى بعد انقراض النشأة الأولى { ثم } بعد العرض وتنقيد الأعمال { إليه ترجعون } [الروم: 11] رجوع الأمواج إلى البحر.
{ و } اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم تقوم الساعة } المعدة للعرض والجزاء { يبلس المجرمون } [الروم: 12] أي: يسكنون حيارى سكارى، تائهين هائمين آيسين عن الخلاص.
{ ولم يكن لهم } حينئذ { من شركآئهم } ومعبوداتهم { شفعاء } يجتهدون لخلاصهم وإنقاذهم من عذاب الله على مقتضى ما هو زعمهم إياهم، بل { و } هم حينئذ { كانوا بشركآئهم كافرين } [الروم: 13] ينكرون ويكفرون بهم حيث يئسوا عنهم، وقنطوا عن شفاعتهم.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { يوم تقوم الساعة } التي يحشر فيها الأموات ويعرضون على الله بما اقترفوا في دار الابتلاء من الحسنات والسيئات { يومئذ يتفرقون } [الروم: 14] فرقا فرقا، وفوجا فوجا كل مع شاكلته في الإيمان والكفر، والصلاح والفساد.
{ فأما الذين آمنوا } بالله وكتبه ورسله في دار الاختبار { وعملوا الصالحات } المؤكدة لإيمانهم فيها { فهم } حينئذ من كمال فرحهم وسرورهم { في روضة } ذات أزهار وأنوار وأنهار { يحبرون } [الروم: 15] يتنزهون ويسيرون مسرورين متنعمين.
{ وأما الذين كفروا } بتوحيدنا { وكذبوا بآياتنا } المنزلة من عندنا على رسلنا { ولقآء الآخرة } أي: أنكروا بلقائها في النشأة الأخرى، مع أنا وعدناهم على ألسنة رسلنا إياهم { فأولئك } الأشقياء المردودون عن ساحة عز الحضور { في العذاب } المؤبد المخلد { محضرون } [الروم: 16] لا نجاة لهم منه، أعاذنا الله من ذلك.
[30.17-21]
ثم أشار سبحانه إلى أسباب النجاة والخلاص عن الوعيدات الأخروية، ونيل لذاتها ومتنزهاتها الروحانية، فقال: { فسبحان الله } أي: سبحوا الله الواحد الأحد الصمد، المنزه عن شوائب النقص وسمات الكثرة مطلقا أيها الأحرار المتوجهون نحو في السرائر والإعلان، سيما { حين تمسون } وتدخلون في المساء الذي هو أول وقت الفراغ عن الشواغل الجمسانية، وفتح باب الخلوة مع الله، والعزلة عن أسباب الكثرة مطلقا { وحين تصبحون } [الروم: 17] وتدخلون في الصباح الذي هو نهاية مرتبة خلوتكم مع ربكم، فاغتنموا الفرصة فيه، وتعرضوا للنسمات المهبة بأنواع النفحات من قبل الرحمن.
وبعدما تزودوا بأنواع الفتوحات الروحانية في تلك الساعة الشريفة التي هي البرزخ بين اللذائذ الروحانية والجسمانية فاشتغلوا بالأشغال الجسمانية المتعلقة لتدبير المعاش النفساني.
{ و } لكم أيها المتوجهون نحو الحق أن تحمدوه وتشكروا نعمه، وتداوموا على أداء حقوق كرمه في خلال أيامكم ولياليكم، سيما طرفي النهار؛ إذ { له الحمد } والثناء الصادر عن ألسنة جميع ما { في السموت و } ما في { الأرض } من المظاهر التي لمع عليها برق الوجود، وانبسطت أظلال شمس الذات وأضواؤها { و } لا سيما { عشيا } إذ هو وقت مصون عن الكثرة { وحين تظهرون } [الروم: 18] أيضا؛ إذ فيها يحصل الفراغ عن أمور المعاش غالبا.
وكيف لا يتوجهون نحو الحق، ولا يديمون الميل إلأيه في أوقات حياتهم؛ إذ هو سبحانه بمقتضى لطفه وجماله { يخرج } ويظهر بكمال قدرته { الحي } أي: ذا الحس والحركة، والإرادة التي هي أنواع الحيوانات { من الميت } الذي هو النطفة الجامدة { و } كذا { يخرج } ويظهر بمقتضى قهره وجلاله { الميت من الحي } يعني: يعقبه الموت بالحياة، والحياة بالموت { و } من كمال قدرته { يحي الأرض } بأنواع النضارة والبهاء { بعد موتها } أي: يبسها وجمودها { وكذلك } أي: مثل إعادة الحياة النضارة للأرض وقت الربيع { تخرجون } [الروم: 19] من قبوركم أيها المنكرون للبعث والحشر وإعادة المعدوم.
{ ومن آياته } الدالة على كمال قدرته على الإعادة والإبداء على السواء: { أن } أي: إنه { خلقكم } وقدر جسمكم وصوركم أولا { من تراب } يابس، ثم بلدكم أطوارا وأدوارا؛ لتكميلكم وتشويقكم إمدادا و أدوارا إلى أن صوركم في أحسن صورة، وعدلكم في أقوم تعديل { ثم إذآ أنتم بشر } أي: بعدما كمل صورتكم، وتمم تمثالكم وشكلكم، واستوى بشريتكم فاجأتم { تنتشرون } [الروم: 20] في الأرض على سبيل التناسل والتوالد، ومن قدر على إبدائكم وإبداعكم على الوجه المذكور قدر على حشركم وإعادتكم، بل هو أسهل من الإبداء.
{ و } أيضا { من آياته } الدالة على كمال قدرته: { أن خلق } وقدر { لكم من أنفسكم } أي: من جنسكم وبني نوعكم { أزواجا } نساء؛ حتى تؤانسوا بهن وتستأنسوا بهن، بل إنما قدر لكم أزواجا { لتسكنوا إليها } وتتوطنوا معها توطنا خاصا، وتألفا تاما إلى حيث يفضي إلى التوالد والتناسل { و } بهذه الحكمة البديعة { جعل بينكم } وبينهن { مودة } خاصة خالصة، منبعثة عن محض الحكمة الإلهية بحيث لا يكتنه لميتها وكيفيتها أصلا.
{ و } من كمال قدرته ومتانة حكمته: جعل من امتزاج النطفة النازلة منكم ومنهن، الناشئة من المودة المذكورة، والمحبة المقررة بينكم { رحمة } ولدا مثلكم، ومحييا لكم اسمكم ورسمكم { إن في ذلك } الخلق والإيجاد، والتكميل والتمكن، والتقدير والانبعاث، والانزعاج وأنواع التدبيرات الواقعة فيها، والحكم العجيبة المحيرة لأرباب الفطنة والذكاء { لآيات } عظام ودلائل جسام { لقوم يتفكرون } [الروم: 12] في آثار صنائع الحكيم القدير، والعليم الخبير البصير.
[30.22-25]
{ و } أيضا من { آياته } العجيبة الشأن، والبديعة البرهان: { خلق السموت } وإيجاد العلويات متطابقة مترافعة مع ما فيها من الكواكب المتفاوتة في الإضاءة والإشراق على أبدع نظام، وأبلغ التئام وانتظام، بحيث لا يكتنه عند ذوي العقول، وأولي الإفهام المجبولين على الاستعلام والاستفهام، بل لاحظ لهم منها سوى الحيرة والعبرة، وأنواع الوله والهيمان { و } خلق { الأرض } ممهدة منبسطة مشتملة على جبال راسيات، وبحار واسعات، وأنهار جاريات، وأشجار مثمرات، ومعادن وحيوانات، وأصناف من نواع الإنسان المجبول على صورة الرحمن، الجامع لأنواع التبيان والبيان، وأصناف الدلائل والبرهان؛ ليصير مرآة مجلوة يتراءى فيها صور الأسماء والصفات الإلهية، وينعكس منها شئونه وتطوراته { واختلاف ألسنتكم } أي: لغاتكم وتكلمكم أيها المجبولون على فطرة النيابة والخلافة.
{ و } اختلاف { ألوانكم } من السواد والبياض، وأنواع التخطيطات والتشكيلات، والهيئات الصورية والمعنوية التي اشتملت عليها هياكلكم وهوايتكم، إنما هي من آثار الأوصاف والأسماء الإلهية التي امتدت على ماهياتكم وتعيناتكم أظلالها وانبسطت { إن في ذلك } الانطباق والالتصاق وأنواع الائتلاف والانتظام الواقعة في الأنفس والآفاق على أغرب الوجوه وأبدع الطرق { لآيات } دلائل واضحات، وشواهد لائحات على كمال قدرة العليم الحكيم { للعالمين } [الروم: 22] أي: لكل من يتأتى منه التفطن والتدبر للمبدأ والمعاد من أرباب الهداية والرشاد، والتأمل والتفكر على سبيل النظر والاستدلال من الصنائع والآثار إلى الصانع المؤثر المختار.
{ ومن آياته } العظام أيضا: { منامكم } واستراحتكم؛ تقويما لأمزجتكم، تقوية لقواكم { باليل والنهار } وقت عروض الإعياء والعناء { وابتغآؤكم } طلبكم المعاش فيهما { من فضله } وسعة رحمة جوده، أو على طريق اللف والنشر بأن قدر لمنامكم زمان الليل ولابتغائكم النهار { إن في ذلك } التقدير والتدبير المبني عن كمال العطف واللطف { لآيات لقوم يسمعون } [الروم: 23] دلائل توحيده سبحانه سمع قبول ورضا، ويتأملون في حكمة الحكيم المدبر لمصالح عباده، وما هو إلا صلح لهم.
{ ومن } جملة { آياته } أيضا: إنه سبحانه { يريكم البرق } المبنئ عن هجوم البلاء ونزول المطر أيضا، إنما أريكم سبحانه؛ ليحصل لكم { خوفا } من خشية الله وحلول غضبه وعذابه { وطمعا } لنزول فضله ورحمته، وإنما فعل سبحانه معهم كذلك؛ لتكونوا دائما خائفين من سخطه وبطشه، راجعين من فضله وجوده { وينزل من } جانب { السمآء مآء } بعدما أراكم البرق المخيف المطمع { فيحيي به } أي: بالماء النازل { الأرض } اليابسة { بعد موتها } أي: بعد جمودها ويبسها { إن في ذلك } الإراءة والإخافة والإطماع، والإنزال والإحياء { لآيات } على حكمة القادر المختار ، المستقل في التصرف والآثار { لقوم يعقلون } [الروم: 24] ويستعملون عقولهم في التفكر والتدبر في المصنوعات العجيبة والمخترعات البديعة الصادرة من الفاعل المطلق بالإرادة والاختيار.
{ ومن آياته } المحكمة أيضا: { أن تقوم السمآء والأرض بأمره } يعني: من جملة آياته الظاهرة الباهرة: قيام السماء والأرض بلا عمد وأوتاد وأسانيد، وقرارها ومدارها في مكان معين بلا تبدل وتحول، إنما هو بأمره وحكمه، وعلى مقتضى إرادته ومشيئته، بحث لا يسع لهما الخروج عن أمره وحكمه أصلا { ثم } بعدما تأملتم نفاذ حكمه سبحانه، ومضاء قضائه في معظم مخلوقاته، فلكم أن تتيقنوا { إذا دعاكم } وقت إرادة إعادتكم وإحيائكم { دعوة } متضمنة لأخراجكم { من الأرض إذآ أنتم تخرجون } [الروم: 25] يعني: بعدما أسمعكم بكمال قدرته مضمون دعوته إليكم فاجأتم إلى الخروج منها أحياء بلا تراخ ومهلة تتميما لسرعة نفوذ قضائه.
[30.26-29]
{ و } كيف لا تسمعون وتخرجون منها أحياء بعدما تعلق قدرته سبحانه بإخراجكم وإعادتكم؛ إذ { له } ملكا وتصرفا، إبداعا وإنشاء { من في السموت } من الملائكة المغمورين في آلاء الله ونعمائه، المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم { و } من في { الأرض } من أرباب الولاء التائهين في بيدا الألوهية، الفانين في فضاء الربوبية، الهائمين في صحراء الوجود؛ لذلك { كل } ممن أشرق عليه شمس الذات، ولاح عليه نور الوجود، ولمع عليه برق التجليات الحبيبة اللطيفة { له قانتون } [الروم: 26] منقادون مطيعون طوعا وطبعا؟!.
{ و } كيف لا ينقادون ويطيعون لحكه أولئك المسخرون لصولجان قضائه، وقلم تقديره { هو الذي يبدؤا } ويظهر { الخلق } من كتم العدم في فضاء الوجود بمقتضى اللطف والجود، ثم يعدمه ويميته بمقتضى قهره وجلاله أيضا فيها { ثم يعيده } أيضا على ما يشئه في النشأة الأخرى إظهارا لكمال قدرته ومقتضى حكمته؛ كي يظهر مصلحة الإبداء والإبراز في النشأة الأولى، وفائدة ما يترتب عليها في النشأة الأخرى يوم العرض والجزاء { و } أهل الأهواء والآراء الباطلة ينكرون الإعادة، مع أنه { هو } أي: الإظهار بعد الإعدام { أهون } وأسهل { عليه } سبحانه بالنسبة إلى عقولهم السخيفة، وأحلامهم الضعيفة من الإبداء والإبداع لا عن شيء وبلا سبق مادة، وإن كانت نسبة قدرته وإرادته سبحانه إلى كل ما دخل في حيطة حضرة علمه وخبرته على السواء؛ إذ
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر
[الملك: 3] وكرر النظر
هل ترى من فطور
[الملك: 3] وفتور في مبدعات الحق ومخترعاته؟!.
{ و } كيف يتفاوت دون قدرته الأشياء؛ إذ { له المثل الأعلى } واليد الطولى، والتصرف التام، والاقتدار العام الشامل لكل ما لاح عليه برق الوجود سواء كان { في السموت } أي: العلويات التي هي عالم الأسماء والصفات باعتبار التنزؤلات من مرتبته الأحدية، والعماء التي لا يسع فيه إدراك مدرك وخيرة خبير { والأرض } أي: السلفيات التي هي هالم الهيولي والطبيعة القابلة لأن تنعكس منها أشعة أنواع العلويات المتفاوتة حسب تفاوت الشئون والتطورات المرتبة على الأسماء والصفات المتخالفة المتكثرة حسب التجليات الحبية الإلهية؟! { و } كيف لا يكون له سبحانه المثل الأعلى؛ إذ { هو العزيز } الغالب في ذاته، حيث تفردت بوجوب الوجود، ودوام البقاء المنيع فناء على سرادقات سطوته وسلطنته عن شوب النقص والقصور مطلقا { الحكيم } [الروم: 27] المقتن في أفعاله وآثاره بالاستقلال على مقتضى حيطة حضرة علمه الكامل بجميع وجوه الكمالات اللائقة لكل ذرة من ذرائر الكائنات؟!.
لذلك { ضرب لكم } سبحانه تبيينا وتنبيها { مثلا } متخذا منتزعا { من أنفسكم } أيها المشركون المتخذون لله شركاء من مصنوعاته وعبيده؛ إذ هي أقرب الأشياء إليكم، وأوضحها عندكم { هل لكم } أيها الأحرار المتصرفون بالاستقلال في منسوباتكم متصرف آخر سواكم { من ما ملكت أيمانكم } وحصلت من اكسابكم من العبيد والإماء الذين هم من جملة منسوابتكم، وهل يصح ويجوز لمملوكيكم أن يكونوا، وبعدوا { من شركآء } معكم يتصرفون أمثالكم { في ما رزقناكم } مثل تصرفكم بلا إذن منكم؟!.
وبالجلمة: { فأنتم } أيها المالكون وما ملكت أيمانكم { فيه } أي: في التصرف والاحتياج إلى الأموال { سوآء } إذ هم أمثالكم، فلأي شيء تحتاجون إليه أنتم، وهم أيضا محتاجون إليه بلا تفاوت ولكن { تخافونهم } وتحذرون منهم أن تتصرفوا في أموالكم وأكسابكم بلا إذن منكم { كخيفتكم أنفسكم } يعني: تخافون على تضييع أموالكم، مثل خوفكم على أنفسكم، بل أشد من ذلك، وبالجملة: تخافون منهم أن تساووا معكم في التصرف في أموالكم؛ فلذلك منعتموهم، ولم ترضوا بتصرفهم وشركتهم في الحطام الدنيا، فكيف ترضون لنا شركة عبيدنا ومخلوقاتنا في ألوهيتنا وربوبيتنا، والتصرف في ملكنا وملكوتنا أيها الغافلون المفرطون في شأننا، والجاهلون بقدرتنا ومكانتنا؟!. { كذلك نفصل } ونوضح { الآيات } أي: دلائل توحيدنا، وبراهين وحدتنا وتفريدنا { لقوم يعقلون } [الروم: 28] ويستعملون عقولهم في تأمل الآيات، والتدبر فيها على وجه العبرة الاستبصار، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
{ بل اتبع } الجاهلون { الذين ظلموا } أنفسهم بالخروج على مقتضى الآيات الواضحة، والبراهين اللائحة { أهوآءهم } الباطلة، وآراءهم الزائغة الزائلة، مع أن اتباعهم بها { بغير علم } فائض عليهم من المبدأ الفياض، بل عن جهل مركوز في جبلتهم مركب مع طبيعتهم في أصل فطرتهم؛ لمقتضى الشقاوة الأزلية والغباوة الفطرية الجبلية، وإذا كان الأمر على ذلك { فمن يهدي } ويرشد { من أضل الله } وأراد ضلاله، وأثبته في لوح قضائه وحضرة علمه من جملة الضالين وزمرة الجاهلين { وما لهم } بعدما نفذ القضاء على شقاوتهم وضلالهم { من ناصرين } [الروم: 29] ينصروهم، ويرشدونهم إلى سبيل الهداية وطريق السعادة والرشاد.
[30.30-34]
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل أن الهداية والضلال إنما هو مفوض إلى الكبير المتعال { فأقم وجهك } فاستقم واعتدل بوجه قلبك الذي فاض عليك من ربك تتميما لتكميلك، وتخليصا لك عن قيود بشريتك وأغلال طبيعتك؛ لتصل به إلى مقرك من التوحيد الذي جلبت لأجله { للدين } النازل لك من عند ربك تأديبا لك يا أكمل الرسل ولمن تبعك، وإصلاحا لشأنك وشأن متابعيك { حنيفا } أي: حال كونك مائلا عن الأديان الباطلة، والآراء الفاسدة مطلقا، واعلم يا أكمل الرسل أن { فطرت الله التي فطر الناس عليها } وصيغته التي صبغهم بها أصلية جبلية لا تزول عنهم أصلا، إذ { لا تبديل } ولا تغيير وتحويل { لخلق الله } الحكيم العليم، وتقديره الذي قدره بمقتضى علمه وحكمته كما قال عز شأنه:
ما يبدل القول لدي
[ق: 29].
{ ذلك الدين } المنزل عليك من ربك يا أكمل الرسل؛ لوقاية الفطرية الأصلية المذكورة هو الدين { القيم } الطريق الأعدل الأقوم، الموصل إلى توحيده سبحانه على الاستقامة بلا عوج وانحراف { ولكن أكثر الناس } المجبولين على الغفلة والنسيان { لا يعلمون } [الروم: 30] حقيقته، ولا يفهمون استقامته وإيصاله إلى التوحيد، فعليكم أيها المحمديون أن تتدينوا بدين الإسلام، وتطيعوا بجمع ما فيه من أوامر الله ونواهيه.
{ منيبين إليه } راجين نحوه بالإخلاص التام { واتقوه } واحذروا عن محارمه خوفا من انتقامه بالخروج عن مقتضى حدوده، ومع ذلك لا تقطنوا من فضله وسعة ورحمته وجوده { و } بالجملة: { أقيموا الصلاة } وأديموا الميل نحوه في جميع أوقاتكم وحالاتكم، سيما في الأوقات المكتوبة والساعات المحفوظة { ولا تكونوا } أيها المنيبون المتوجهون نحو الحق، المتدينون بدين الإسلام { من المشركين } [الروم: 31] المشركين معه سبحانه غيره في حال من الأحوال، ولا تنسبوا الحوادث الكائنة في ملكه وملكوته إلى غيره من الأضلال والأسباب الهالكة، المستهلكة في شمس ذاته مع كمال توحده واستقلاقه في الوجود والتصرفات الواقعة في مظاهره ملطقا.
وبالجملة: لا تكونوا أيها المحمديون المتدينون بالدين النازل من عند الله؛ لحفظ فطرتكم التي هي التوحيد الذاتي { من الذين فرقوا دينهم } الوحداني الذي هو وقاية توحيدهم فرقا مختلفة، وابتدعوا فيه مذاهب متفاوتة متخالفة فتشعبوا شعبا كثيرة { وكانوا شيعا } وأحزابا يشايع ويروج { كل حزب } منهم { بما لديهم } وعندهم من المذهب المبتدع المستحدث من تلقاء نفوسهم { فرحون } [الروم: 32] مسرورون، مدعون كل منهم حقية ما هم عليه من الباطل الزائغ.
ثم أشار سبحانه إلى ما حداهم وأغراهم على هذا الزيغ والضلال من الخصلة الذميمة المركوزة في جبلتهم فقال: { وإذا مس الناس } المجبولين على الكفران والنسيان { ضر } أي: شدة وبلاء، ومصيبة وعناء يزعجهم إلى الدعوة والتوجه نحو الحق؛ لكشفه وتفريجه { دعوا ربهم منيبين إليه } مائلين عن الأسباب العادية مطلقا، مسترجعين نحوه عن محض الندم والإخلاص { ثم إذآ أذاقهم } الحق، وأنجاهم { منه } أي: من الضرر ومن آثاره ولوازمه المستتبعة { رحمة } لهم، وعطفا إياهم على مقتضى اللطف والجمال { إذا فريق منهم } أي: فجاء فريق منهم { بربهم يشركون } [الروم: 33] أي: يشركون بربهم، وينسبون الكشف والتفريج إلى الأسباب الوسائل العادية، بل إلى ما اتخذوها من دون الله من الآلهة الباطلة التي اعتقدوها شفعاء ينقذونهم عن أمثاله.
وإنما فعلوا ذلك ونسبوا ما نسبوا إلى الأظلال البالطة { ليكفروا بمآ آتيناهم } وأعطيانهم من النعم العظام والفواضل الجسام؛ وما ذلك إلا من خبث طينتهم، وتركب جهلهم في جبلتهم، قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { فتمتعوا } أيها لاكافرون لنعمنا، ولفواضل لطفنا ولكرمنا، ولتعيشوا بها بطرين مسرورين { فسوف تعلمون } [الروم: 34] عاقبة تمتعكم وكفرانكم، وما يترتب عليها من أنواع العذاب والنكال؛ إذ يأتي عليهم زمان يعترف كل منهم بما جرى عليه من الكفران والعصيان وقت رؤيتهم أحوال الكافرين وأهوالهم في النار.
[30.35-39]
{ أم أنزلنا } يعني: بل أنزلنا { عليهم } حينئذ { سلطانا } ملكا ذا سلطنة وسطوة { فهو يتكلم } معهم، ويذكرهم { بما كانوا به يشركون } [الروم: 35] أي: بجميع ما صدر عنهم من الشرك والكفران، وأنواع الفسوق والعصيان بلا فوت شيء منها.
ثم قال سبحانه: { وإذآ أذقنا الناس رحمة } وأعطيناهم نعمة وسعة في الرزق، وصحة في الجسم على الترادف والتوالي { فرحوا بها } وأفرطوا في الفرح والسرور إلى أن بطروا، وباهوا مفتخرين بما عندهم من الأسباب { وإن تصبهم } أحيانا { سيئة } مثل جدب وعناء، ومصيبة وبلاء تسوءهم، مع أنهم إنما أصابهم { بما قدمت أيديهم } أي: بشؤم ما اقترفوا من المفاسد والمعاصي الموجبة للبطش والانتقام، فانتقمنا منهم؛ لذلك { إذا هم يقنطون } [الروم: 36] أي: فجاءوا على اليأس والقنوط منا بحيث لا يتوجهون إلينا؛ لكشفها وتفريجها، بل لا يعتقدون قدرتنا على كشفها ورفعها.
{ أ } ينكرون قدرتنا أولئك المنكرون المفرطون { ولم يروا أن الله } القادر على أنواع اللطف والكرم كيف { يبسط } ويفيض { الرزق } الصوري والمعنوي { لمن يشآء } بسطه إياه { و } كيف { يقدر } ويقبض لمن يشاء قبضه عنه على مقتضى حكمته المتقنة؟! { إن في ذلك } القبض والبسط { لآيات } دلائل واضحات، وشواهد لائحات { لقوم يؤمنون } [الروم: 37] بتوحيد الله وأوصافه الذاتية الكاملة الجارية آثارها على مقتضى الحكمة والعدالة الإلهية، المعبرة عنها بالصراط القويم والقسطاس المستقيم.
وبعدما أشار سبحانه إلى بسط الرزق على من يشاء، وقبضه عمن يشاء إرادة واختيارا، أراد أن يشير إلى مصارفه فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو جدير بأمثال هذه الخطابات الإلهية : { فآت } وأعط يا أكمل الرسل من فواضل ما رزق لك من النعم { ذا القربى } المنتمين إليك من قبل أبويك { حقه } أي: ما يليق به من الصلة وحفظه ورعايته، فهم أولى وأحق بالرعاية من غيرهم { و } بعد أولئك الأولى بالرعاية: { المسكين } وهو الذي أسكنه الفقر من هاوية الهوان، وزاوية الحرمان { و } أعط بعده: { ابن السبيل } وهم الذين فارقوا عن الأموال والأوطان بأسباب أباحها الشرع لهم { ذلك } التصرف المذكور { خير } في الدنيا والآخرة { للذين يريدون } بأموالهم وصرفها { وجه الله } وابتغاء مرضاته، وخوضا في طريق شكره، أداء حق شيء من نعمه وفواضل كرمه { و } بالجملة: { أولئك } الباذلون أموالهم في سبيل الله على الوجه الذي أمرهم الحق به { هم المفلحون } [الروم: 38] المصورون على الفوز والفلاح من عنده سبحانهز
ثم أشار سبحانه إلى أحوال الجهلة الذين بذلوا أموالهم؛ لطلب الجاه والثروة والسمعة، وازدياد مال صديقه بلا وجه الله وابتغاء رضوانه وطلب الثواب منه، بل لمجرد الكبر والخيلاء، فقال: { ومآ آتيتم } وأعطيتم مما عندكم { من ربا } زيادة من أموالكم حاصلة من الربا، إنما أعطيتم { ليربوا } ويزيد { في أموال الناس } مكافأة لهم، أو نية فاسدة أخرى بلا امتثال أمر الله وطلب مرضاته { فلا يربوا } ولا يزيد لكم صرفكم هذا { عند الله } شيئا من الثواب، بل لا يقبل عنده سبحانه أصلا؛ لإفسادكم في أغراضكم ونياتكم { و } أما { مآ آتيتم } وأعطيتم للفقراء { من زكاة } قد فرضها سبحانه عليكم امتثالا لأمره، وإطاعة لدينه على الوجه الذي أمرتم به، مع أنكم { تريدون } وتقصدون بإخراجها وصرفها { وجه الله } ومحض رضاه بلا خلط شيء من أماني أهويتكم، وتسويلات أمارتكم معها { فأولئك } الفاعلون للزكاة على الوجه المذكور المأمور { هم المضعفون } [الروم: 39] عند الله ثوابها إلى سبعين، بل إلى سبعمائة، بل إلى ما شاء الله عناية من الله، وإفضالا لهم.
[30.40-43]
وكيف لا تطلبون وتقصدون بخيراتكم وصدقاتكم خالص وجه الله؛ وتشركون معه غيره من التماثيل والأظلال الهالكة، البالطة العاطلة؛ إذ { الله } المتوحد المتفرد في ذاته، القادر المقتدر، الحكيم العليم { الذي خلقكم } وأظهركم من كتم العجم، ولم تكونوا شيئا مذكورا لا بالقوة ولا بالفعل { ثم } بعدما أظهركم في بيداء الوجود { رزقكم } وأنعم عليكم من أنواع النعم؛ ليربيكم بها على مقتضى اللطف والكرم { ثم } بعدما انقضى الأجل المسمى عنده لبقائكم في النشأة الأولى { يميتكم } على مقتضى قهره وجلاله تتميما لقدرته الكاملة الغالبة { ثم } بعدما انقرضت النشاة الأولى المعدة لأنواع الابتلاءات والاختبارات الإلهية، المتعقلة لحكمة إظهاركم وإيجادكم في عالم الكون والفساد؛ لتتزودوا فيها من المعارف والحقائق، والاتصاف بالأخلاق الإلهية لنشأتكم الأخرى { يحييكم } فيها؛ للعرض والجزاء وتنقيد ما اقترفتم من الأعمال والأحوال في النشأة الأولى؛ لتجازوا بها على مقتضى فيها.
وبعدما سمعتم ما سمعتم تأملوا وتدبروا منصفين أيها المشركون بالله المتوحد المتفرد، والمستقل في التصرفات الواقعة في ملكه غيرة منه سبحانه وحمية؛ لحمى قدس ذاته من أن يحوم حول سرادقات عزه وجلاله شائبة فتور وقصور، وبعدما سمعتم هذا من خواص أوصافه سبحانه تأملوا { هل من شركآئكم } الذي ادعيتم شركتهم مع الله القادر المقتدر على أمثاله بالاستقلال والاختيار { من يفعل من ذلكم } الذي سمعتم صدروه منه سبحانه { من شيء } حقير قليل، كلا وحاشا صدور شيء من الأشياء من غيره { سبحانه } أي: في ذاته منزه عن شوب الشركة والمظاهرة مطلقا { وتعالى } شأنه { عما يشركون } [الروم: 40] أولئك المشركون المسرفون علوا كبيرا.
ومن كمال جهلهم بالله، وغفلتهم عن علو قدره وسمو مكانته { ظهر الفساد } وأنواع البليات والمصيبات الواقعة { في البر والبحر } من الجدب والعناء والوباء والزلزلة، وأنواع الحرق والغرق والضلالات الواقعة في السفن الجارية، مع أن أصل الظهور والبروز باعتبار الفطرة الأصلية على العدالة والاستقامة، وإنما ظهر ما ظهر من الانحرافات والانصرافات المنافية لصرافة الاعتدال الحقيقي الإلهي { بما كسبت أيدي الناس } أي: بشؤم ما اقترفوا من الكفر والكفران، والفسوق والعصيان، والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة على الاعتدال والقسط القويم، والحكمة في صدور هذه الانحرافات والفسادات منهم: { ليذيقهم بعض الذي عملوا } أي: ليذيق لهم العليم الحكيم في الدنيا وبال بعض أعمالهم الفاسدة، ويبقى بعضها إلى الآخرة ليستوفيها، وإنما نذيقهم نبذا منها عاجلا { لعلهم يرجعون } [الروم: 41] إلينا بعدما ذاقوا ما ذاقوا من أنواع المحن والشدائد.
وإن أنكر هؤلاء المشركون إذاقتنا العذاب لأمثالهم { قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { سيروا في الأرض } المعدة لأنواع الكون والفساد { فانظروا } نظر معتبر منصف، ومتأمل مستبصر؛ ليظهر عندكم { كيف كان عاقبة الذين } مضوا { من قبل } مع أنهم { كان أكثرهم مشركين } [الروم: 42] أمثالكم، مشاركين معكم في الشرك والكفر، وأنواع الفسوق والعصيان.
وبعدما أشار سبحانه إلى وخامة عاقبة أصحاب الآراء الفاسدة، والأهواء الباطلة من المنحرفين عن جادة الاستقامة، المنصرفين عن سبيل السلامة، أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالإقامة والاستقامة في منهج العدالة التي هي دين الإسلام الناسخ لجميع الأديان الباطلة، والآراء الزاهقة الزائلة، فقال: { فأقم وجهك } أي: استقم وتوجه يا أكمل الرسل بوجه قلبك الذي يلي الحق { للدين القيم } المنزل من عنده سبحانه على الاستقامة والعدالة تفضلا عليك وامتنانا { من قبل أن يأتي } ويجيء { يوم لا مرد له } أي: لا يرد فيه ما نفذ من القضاء المبرم؛ لأن إتيانه { من الله } العليم الحكيم على هذا الوجه؛ إذ لا استكمال ولا رجوع حينئذ، ولا ينفع الطاعة والعبادة حين حلوله، بل { يومئذ يصدعون } [الروم: 43] أي: يتفرق الناس فرقا، ويتحزبون أحزابا على مقتضى ما كانوا عليه في نشأة الابتلاء والاختبار.
[30.44-47]
{ من كفر } فيما مضى { فعليه كفره } أي: وبال كفره وفسقه ملازم معه يدخله في النار، ويخلده فيها مهانا { ومن عمل صالحا } فيما مضى { فلأنفسهم يمهدون } [الروم: 44] أي: فهم بإيمانهم وعملهم الصالح يمهدون، ويبسطون لأنفسهم منزلا ومهادا في الجنة هم فيها خالدون.
والسر في قيام الساعة والنشأة الأخرى: { ليجزي } سبحانه { الذين آمنوا } وأيقنوا بتوحيده وبجميع ما جاء من عنده على رسله { وعملوا الصالحات } المقبولة عنده امتثالا لما أمروا به على ألسنة رسله { من فضله } أي: يجزيهم من محض فضله ولطفه معهم، ومحبته إياهم بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم وإيمانهم، ويجزي الكافرين أيضا بمقتضى عدله بمثل ما اقترفوا من الكفر والشرك وأنواع الظلم والظلال { إنه لا يحب الكافرين } [الروم: 45] المصرين على الكفر والضلالن سيما بعد إرساله سبحانه إليهم من يصلحهم ويهديهم إلى صراط مستقيم، فكذبوه وأنكروا له عنادا واستكبارا.
{ ومن } جملة { آياته } سبحانه الدالة على كمال رأفته ورحمته للمؤمنين المتحققين لمرتبة التوحيد، المتمكنين بمقر الوحدة الذاتية: { أن يرسل الرياح } المشتملة لأنواع الروح والراحة، المهبة من نفحات النفسات الرحمانية؛ ليتعرضوا لها ويستنشقوا منها فيضان آثار اللطف والجمال، مع كونها { مبشرات } لمزيد فضله وطوله، ونزول أنواع رحمته وجوده { وليذيقكم } ويفيض عليكم { من } سعة { رحمته } ما ينجيكم ويخلصكم من لوازم بشريتكم وناستوكم { ولتجري الفلك } أي: سفن تعيناتكم الجارية في بحر الوجود { بأمره } وعلى مقتضى مشيئته وإرادته { ولتبتغوا } وتطلبوا بعدما فوضتم أموركم إليه واتخذتموه وكيلا { من } موائد { فضله } وإحسانه، وعوائد كرمه وجوده ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر { و } إنما فعل معكم سبحانه هذه الكرامات { لعلكم تشكرون } [الروم: 46] رجاء أن تشكروا نعمه، وتفوزوا بمزيد كرمه، وتتحقوا بمقام معرفته وتوحيده الذي جبلتم لأجله.
ثم قال سبحانه مقسما تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإزالة لهمه وحزنه من تكذيب الجهلة المسرفين، المشركين بالله، المستهزئين مع رسوله: { و } الله { لقد أرسلنا من قبلك } يا أكمل الرسل { رسلا } مبشرين ومنذرين { إلى قومهم } الذين ظهرت عليهم أمارات الكفر والطغيان، وعلامات الكفر والعدوان { فجآءوهم } مؤيدين من عندنا { بالبينات } الواضحة، والمعجزات اللائحة، ففاجئوا على تكذيبهم عنادا واستكبارا بلا تدبر وتأمل منهم في آياتهم وبيناتهم { فانتقمنا } بمقتضى قهرنا وجلالنا { من الذين أجرموا } بالجرائم العظام، سيما تكذيب الرسل - عليهم السلام - { و } كيف لا ننتقم عنهم بتكذيبهم رسلنا، مع أنه { كان حقا علينا } بمقتضى ما ثبت في لوح قضائنا، وحضرة علمنا { نصر المؤمنين } [الروم: 47] أي: نصر الرسل والمؤمنين بهم، وتغليبهم على الكفارين بعدما امتثلوا لأوامرنا، و اجتنبوا عن نواهينا، وبلغوا جميع ما أمرناهم وأوحيناهم إلى ما أرسلناهم، فكذبوهم ولم يقبلوا منهم؟!.
[30.48-53]
فكيف لا يقبل منهم أولئك البعداء، المنكرون المسرفون وحي العحق إياهم وإلهامهم عليه، مع أنه { الله } الجامع لجميع مراتب الأسماء والصفات الظاهرة، المتجلي على مقتضاها بالاستقلال إرادة واختيارا { الذي يرسل الرياح } المنتشئة من محض فضله وجوده بلا سبق سبب يوجبها، وعلة تقتضيها على ما جرى عليه عادته سبحانه في سائر الموجودات { فتثير } وتحرك أجزاء البخار والدخان، ويمتزج بعضها مع بعض فتركمها وتكشفها حتى صارت { سحابا } هامرا { فيبسطه } سبحانه { في } جو { السمآء كيف يشآء } عرضا وطولا، سائرا وواقفا، مطبقا وغير مطبق، إلى غير ذلك من الأوضاع الممكنة الورود عليها.
{ و } بعدما مهدة سبحانه وبسطه { يجعله كسفا } أي: قطعا مختلفة { فترى } أيها الرائي { الودق } المطر { يخرج } ويفيض { من خلاله } وفتوقه بعدما تكون فيه بقدرة الله من اجتماع أجزاء الأبخرة والأدخنة المتصاعدة الممتزجة، المتراكمة المتكاثفة، المتفاعلة بعضها مع بعض إلى أن صارت ماء فتقطر وتسيل { فإذآ أصاب به } أراضي { من يشآء من عباده } عناية منه سبحانه إياهم، وتفضلا عليهم { إذا هم يستبشرون } [الروم: 48] أي: فوجئوا بنزوله إلى أنواع الاستبشار والابتهاج، والفرح والسرور متفائلين بنزوله إلى الخصب والرخاء، وأنواع البهجة والصفاء.
{ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } المطر { من قبله } أي: من قبل ثوران الأبخرة والأدخنة، وانعقاد السحب وتراكمها منها { لمبلسين } [الروم: 49] آيسين قانطين؛ لطول عهد عدم نزوله إياهم.
{ فانظر } أيها المؤمن المعتبر، الناظر بنور الله { إلى آثار رحمت الله } وكمال فضله وجوده { كيف يحي } ويخضر { الأرض بعد موتهآ } أي: جمودها ويبسها، وعدم نضارتها ونزاهتها، ويظهر أنواع الأزهار والأثمار عناية منه سبحانه لعباده، وفضلا لهم؛ ليتزودوا بها ويسلكوا سبيل هدايته وتوحيده { إن ذلك } القادر المقتدر بالإرادة التامة و الاختيار الكامل { لمحي الموتى } ومخرجها ألبتة من قبورها وقت تعلق إرادته بإحيائها { و } كيف لا { هو } بذاته { على كل شيء } دخل في حيطة حضرة علمه وإرادته { قدير } [الروم: 50] على الوجه الأتم الأكمل بلا فتور وقصور؟!.
{ و } من عدم رسوخهم في الدين القويم، وقلة تثبتهم على الصراط المستقيم { لئن أرسلنا } عليهم { ريحا فرأوه } أي: ما هبت عليه من الزروع { مصفرا } من أثرها بعدما كان مخضرا؛ يعني: لا يربى زروعهم ولا ينميها، بل يضعفها ويرديها، مع أن إضرارها واصفرارها أيضا إما هو بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام { لظلوا من بعده } أي: صاروا وأخذوا بعد اصفراره { يكفرون } [الروم: 51] بالله وبنعمه، وينكرون بعموم فضله وكرمه، مع أن أخذهم بالبأساء والضراء؛ إنما هو ليتضرعوا نحوه، ويلتجئوا إليه منيبين خاشعين خاضعين؛ ليكشف عنهم ما يضرهم؛ إذ لا كاشف إلا هو، ولا منجي لهم سواه.
وبالجملة: هم من خبث طينتهم، وجمود قريحتهم أموات حقيقة ومعنى، وإن كانوا من الأحياء صورة، لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبشأنهم، ولا تجتهد إلى إهدائهم وتكميلهم { فإنك لا تسمع الموتى } أي: ليس في وسعك وطاقتك إسماع الموتى، بل ما عليك إلا التبليغ والدعوة { ولا تسمع الصم } الجبلي { الدعآء } والدعوة، سيما { إذا ولوا } وانصرفوا عنك { مدبرين } [الروم: 52] معرضين منكرين لك، مكذبين رسالتك ودعوتك.
{ و } كيف تجتهد وتسعى يا أكمل الرسل في حصول ما هو خارج عن وسعك وطاقتك مع أنك لا تؤم به؟! إذ { مآ أنت بهاد العمي عن ضلالتهم } إذ هم مجبولون على الغواية الجبلية في أصل فطرتهم، فقادون بصائر قلوبهم المدركة دلائل التوحيد وشواهد الوحدة الذاتية، ولا يتأتى لك أن تهديهم إلى طريق التوحيد وترشدهم إليه { إن تسمع } بتبليغك وإرشادك { إلا من يؤمن بآياتنا } ونوفقهم على الإيمان بمقتضى ما ثبت وجرى في لوح قضائنا وحضرة عملنا { فهم } بعدما سبقت العناية منا إياهم { مسلمون } [الروم: 53] منقادون لك، مسلمون منك جميع ما بلغت لهم من شعائر الدين، ودلائل التوحيد واليقين.
[30.54-57]
ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان إظهارا لكمال قدرته على إبداء الشئون و التطورات الواردة على عباده حسب تعاقب الأزمنة والأوقات في النشأة الأولى، فكيف ينكرون إعادتها في النشأة الأخرى مع أن الإعادة أهون من الإبداء، وإن كان الكل في جنب قدرته على السواء: { الله } القادر المقتدر، الحكيم المتقن في أفعاله وأحكامه، العليم بمقتضاها هو { الذي خلقكم } وقدر وجودكم بعدما أبدعكم من كتم العدم في عالم الطبيعة والهيولي { من ضعف } هو ماء النطفة الضعيفة المهينة { ثم جعل } ما صير وخلق { من بعد ضعف } كائن في نشأة النطفة { قوة } جسمانية متزايدة، مستكملة فيها إلى أن بلغت كمال الشباب { ثم جعل من بعد قوة } كائنة في عالم الشباب { ضعفا } وانحطاما { وشيبة } مضعفة لجميع القوى والآلات، منتهية إلى الهم الذي عبر عنه سبحانه بأرذل العمر؛ كي لا يعلم صحابه من بعد علم شيئا، وبالجملة: { يخلق } ويظهر سبحانه جميع { ما يشآء } ويريد إرادة واختيارا { و } كيف لا { هو العليم } بجميع ما أحاط عليه إرادته ومشيئته { القدير } [الروم: 54] لإيجاده وإظهاره في فضاء العيان بلا فتور وقصور.
{ و } كيف ينكر من ينكر الحشر والنشر، وإعادة الموتى أحياء بعدما شهد هذه التطورات المتخالفة المتعاقبة؟! اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم تقوم الساعة } الموعودة المعدة لحشر الأموات من الأجداث { يقسم المجرمون } أي: يقسم ويحلف كل منهم عند صاحبه بمدة لبثهم في الدنيا مترفهين متنعمين، واتفقوا بعدما اختلفوا وترددوا في مكثهم فيها أنهم { ما لبثوا } فيها { غير ساعة } واحدة بالنسبة إلى طول يوم القيامة، ومن شدة عذابها وأهوالها، وكثرة الهموم والأحزان فيها صار لبثهم في الدنيا مدة أعمارهم فيها ساعة واحدة عندهم، بل بضعهم تخيلوا أقصر منها { كذلك } أي: مثل صرفهم عن طول مدة مكثهم في الدنيا يوم القيامة { كانوا يؤفكون } [الروم: 55] ويصرفون في النشأة الأولى عن طريق التوحيد، وسبيل الهداية والرشاد من كمال غفلتهم وقسوتهم.
{ و } بعدما سمع منهم المؤمنون الموحدونن استقصارهم مدة لبثهم فيها، وانصرافهم عن الحق { قال الذين أوتوا العلم } اللدني من قبل الحق { والإيمان } بالمغيبات التي أمروا بتصديقها على ألسنة الرسل والكتب، سيما يوم البعث والنشور ردا عليهم، وتخطئة لهم: { لقد لبثتم } في الدنيا بمقتضى ما ثبت { في كتاب الله } ولوح قضائه، وحضرة علمه { إلى يوم البعث } وحشر الموتى، وقيام الساعة { فهذا } اليوم الذي أنتم فيه معذبون الآن { يوم البعث } الموعود لكم في الدنيا على ألسنة الرسل { ولكنكم } من خبث طينتكم وجهلكم { كنتم لا تعلمون } [الروم: 56] ولا تؤمنون به، ولا تصدقون قيامه، بل تنكرونها وتكذبون من أخبر بها من الرسل العظام، مع أنهم مؤيدون من قبل الحق بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة، والمعجزات الباهرة الظاهرة.
وبعدما فوتوا الفرص في دار الاختبار، وضيعوا عين العبرة والاعتبار فيها { فيومئذ ا } أي: حين قيام الساعة، وانقضاء أيام التفقد والتدارك { لا ينفع الذين ظلمو } أنفسهم بالخروج عن حدود الله والعرض على عذابه { معذرتهم } أي: عذر منهم ليعتذروا عن قصورهم، ويتوبوا عن فتورهم متداركين لما فوتوا { ولا هم يستعتبون } [الروم: 57] أي: لا يطلب منهم العتبى حتى يزول عتابهم بالتوبة والإنابة والندم والرجوع؛ إذ قد انقضت نشأة الاتبلاء الاختبار، حينئذ لا يقبل منهم التوبة والعبادة أصلا.
[30.58-60]
ثم قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة مشيرا إلى كمال قسوة أهل الزيغ والضلال: { ولقد ضربنا } وبينا { للناس } الناسين طريق الوصول إلى توحيدنا ووحدة ذاتنا { في هذا القرآن } المنزل من عندنا؛ لتبيين طريق توحيدنا، وسلوك سبيل الاستقامة والرشاد فيه { من كل مثل } ينبئ لهم عنه، وينبئهم عليه، ويبين لهم كيفية التنبه والتفطن منه، ومع ذلك لم ينتبهوا ولم يتفطنوا إلا قليلا منه { و } من غلظ غشاوتهم، ونهاية غفلتهم وضلالهم { لئن جئتهم } يا أكمل الرسل { بآية } من آيات القرآن ملجئة لهم إلى الإيمان، لو تأملوا معناها وتدبروا فحواها { ليقولن الذين كفروا } أي: أعرضوا عن الحق، وانصرفوا عن توحيده والإيمان على سبيل الحصر والمبالغة بلا مبالاة بك وبآياتك: { إن أنتم } أي: ما أنتم في دعواكم هذه أيها المدعون الكاذبون - يعنون: الرسلو والمؤمنين - { إلا مبطلون } [الروم: 58] متفرون مزروعون، تفترون على الله ما تختلقون من تلقاء نفوسكم تغريرا وترويجا.
{ كذلك } أي: مثل طبعهم وختمهم الذي شهدت يا أكمل الرسل من هؤلاء الجهلة { يطبع الله } الحكيم المتقن في أفعالهن ويختمه { على قلوب } جميع الكفرة والجهلة { الذين لا يعلمون } [الروم: 59] الحق، ولا يذعنون به؛ لتركب جهلهم في جبلتهم، والجهل المركب لا يزول بالقواطع والشواهد قطعا
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
وما متى سمعت يا أكمل الرسل من أحوالهم وأوصافهم ما سمعت من عدم قابليتهم واستعدادهم إلى الهداية والرشاد { فاصبر } على إيذائهم، وثق بالله وبوعده الذي وعدك بأن يظهر دينك على الأديان كلها { إن وعد الله } وإنجازه لما وعد به { حق } بلا خلف وتردد { ولا يستخفنك } أي: لا يحملنك ويبعثنك يا أكمل الرسل على الخفة والاضطراب، وقلة التصبر، وعدم الثقة بالله القوم { الذين لا يوقنون } [الروم: 60] ولا يتصفون باليقين في أمر من الأمور أصلا، فيكف بالمعارف والحقائق الإلهية؛ إذ هم مجبولون على فطرة الضلال، مترددون في بيداء الوهم والخيال، لا نجاة لهم منها في حال من الأحوال؟!.
هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضيق الجهل والضلال، ووصلنا إلى سعة العلم وفضاء الوصال، نحمدك على كل حال، ونسعيذ بك منك من جميع الأهوال.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتحقق لمرتبة اليقين العلمي والعيني والحقي - مكنك الجق من مقر لاهوتك، وجنبك على لوازم ناسوتك مطلقا - أن تتصبر على أذيات أصحاب التقليدات والتخمينات، وتتحمل على تشنعيات أرباب الظنون والجهالات المترددون في تيه الجهل الضلال بمتابعة الوهم والخيال، وتصفي خاطرط وضميرك عن معارضتهم ومقابلتهم، والبغض معهم والالتفات إليهم مطلقا؛ إذ هم قوم خذلهم الله وأحطهم عن مرتبة الإنسان التي هي التحقق بمقام اليقين والعرفان، والتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة من الرحمن المستعان، والتخلق بأخلاق الحنان المنان، وأسكنهم في مضيق الإمكان مقيدين بسلاسل التقليد وأغلال الحسبان، لا نجاة لهم منها أبدا.
وعليك أن تتوجه بوجه قلبك إلى ربك، وتفوض أمورك كلها إليه وتتخذه وكيلا، وتجعله حسيبا وكفيلا، فإنه سبحانه يكفيك مؤنة شرور أعدائك وحاسديك، ولك التبتل والانقطاع إلى الله في كل الحالات، والرجوع نحوه في جميع المهمات والملمات؛ إذ ما من خبر يسرك وشر يضرك إلا منه بدأ وبقدرته ظهر، وعلى مقتضى علمه صدر وبموجب حكمته جرى وقدر.
فلك أن تسترجع إليه، وتتضرع نحوه، وتستعيذ منه به؛ إذ الكل من عنده لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-7]
{ الم } [لقمان: 1] أيها الإنسان الكامل اللائق للوامع لطائف أنوار الوجود الإلهي، ولوائح آثار جوده، المكرم المؤيد من عنده بمزيد اللطف والكرم، الممتاز المتخصص من بيع جميع مظاهره بالمرتبة الجامعة المستجمعة لجميع المراتب العلية.
{ تلك } الآيات المتلوة عليك يا أكمل الرسل امتنانا لك، واختصاصا بشأنك { آيات الكتاب } أي: نبذ من آيات الكتاب { الحكيم } [لقمان: 2] المشتمل على الحكمة المتقنة، المنبعثة عن اجتماع القدرة الكاملة والإرادة الخالصة، المترتبين على العلم الكامل الإلهي الذي لا يغيب عن حضرة حضوره ذرة من ذرائر ما لاحت عليه شمس الوجود.
ولجمعيته وشموله، وصدق نزوله من عند الله اتصف بوصفه سبحانه تأكيدا ومبالغة، ولكونه نازلا من عنده سبحانه على مقتضى الحكمة البالغة؛ لتأييد رسوله المعبوث إلى كافة الأمم صار { هدى } عاما، ورشدا تاما كله للمتثلثين بما فيه من الأوامر والنواهي، والأحكام والقصص، والتذكيرات والعبر، والرموز والإشارات { ورحمة } خاصة نازلة من عنده سبحانه { للمحسنين } [لقمان: 3] الذي لا يرون غير الله في الوجود، ولا يعبدون سواه من الوسائل، ولا ينسبون الحوادث الكائنة في الآفاق إلى الأسباب العادية، والمحسنون المرضيون عند الله، الراضون بما جرى عليهم من نفوذ القضاء.
هم { الذين يقيمون الصلاة } ويواظبون عليها في جميع أوقاتهم وحالاتهم، سيما الأوقات المحفوظة المقبولة { ويؤتون } وينفقون جميع ما في أيديهم من الرزق الذي يسوق الحق إليهم في سبيله طلبا لمرضاته، سيما { الزكاة } المفروضة عليهم من عنده سبحانه تزكية لظواهرهم عن الالتفات إلى ما يشغلهم { و } مع ذلك لا يقتصرون أولئك السعداء المقبولون بتهذيب الظاهر والباطن، بل { هم بالآخرة } المعدة لتنقيد الأعمال وجزاء الأفعال { هم يوقنون } [لقمان: 4] علما وعينا وحقا.
وبالجملة: { أولئك } السعداء المتصفون بالخصائل السنية والأخلاق المرضية { على هدى } صريح صحيح، فائض نازل إياهم { من ربهم } تفضلا عليهم، وامتنانا لهم { وأولئك } الأمناء المقبولون المرضيون عند الله { هم المفلحون } [لقمان: 5] المقصورون على الفوز والفلاح
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة: 38].
جعلنا الله من خدامهم وتراب أقدامهم.
{ ومن الناس } المجبولين على كفران نعم الله، ونسيان حقوق كرمه وجوده { من يشتري } ويستبدل آيات الكتاب المشتمل على أنواع الفضائل والكمالات، وأصناف الهدى والكرامات { لهو الحديث } أي: يستبدل الآيات الإلهية، ويختار بدلها من الأراجيف الكاذبة ما يلهي النفوس، ويشغلها عما يعينها ويفيدها، ويقربها إلى ما لا يعنيها ويضرها، وما ارتكب ذلك الضال المضل بما ارتكب من الاشتراء والاستبدال الفاسد إلا { ليضل } ويصرف { عن سبيل الله } من يميل إليها ويتوجه نحوها؛ ليتدين بدين الله، وينقاد لنبيه على مقتضى فطرته الأصلية، مع أنه صدر عنه هذا الصرف والمنع { بغير علم } يتعلق به منه نقلا، عن جهل مرتكز في جبلته، وحميته مركوزة في خبث طينته طبيعته.
{ و } بسبب ذلك الجهل الجبلي { يتخذها } إلى الآيات الموصلة إلى طريق الحق وتوحيده { هزوا } أي: محل استهزاء وسخرية؛ لجهله وغفلته عن السرائر المودعة فيها، والأسرار المكنونة في فحاويها { أولئك } البعداء المجبولون عن الغواية والضلالة أصلا وفرعا، تابعا ومتبوعا { لهم } في النشأة الأخرى { عذاب مهين } [لقمان: 6] يهينهم فيها بدل ما استهانوا بكتاب الله، واستهزءوا برسله ظلما وزورا بلا تدرب وتدبر.
{ و } من شدة شكيمته، وبغضه بالله ورسوله وكتابه، ونهاية عتوه وعناده { إذا تتلى عليه } وقرئ عنده { ءاياتنا } الدالة على توحيد ذاتنا، وكمال أسمائنا وصفاتنا { ولى } عنها، وأعرض عن استماعها، وانصرف عن قبولها { مستكبرا } عليها، متجافيا كشحه عنها، { كأن لم يسمعها } مع أنها تتلى عليهم قصد الاستماع، ولم يلتفت إليها { كأن في أذنيه وقرا } صمما يعوقه عن السماع والاستماع { فبشره } يا أكمل الرسل بعدما أعرض عن كتاب الله، واستنكف عن استماعه وإصغائه مستخفا عليه، مستحقرا إياه { بعذاب أليم } [لقمان: 7] مؤلم في غاية الشدة والألم.
[31.8-11]
ثم عقب سبحانه وعيد الكفرة الهالكين في تيه الغي والضلال بوعد المؤمنين على مقتضى سنته المستمرة فقال: { إن الذين آمنوا } بتوحيد الله، وصدقوا رسله { وعملوا الصالحات } المرضية له سبحانه، المقبولة عنده على مقتضى ما نزل عليهم من الآيات الواردة إياهم، المصفية لظواهرهم وبواطنهم { لهم } في النشأة الأخرى جزاء ما أتوا به من الإيمان والعمل الصالح في النشأة الأولى { جنات النعيم } [لقمان: 8] متنزهات مملوءة بألوان النعم، وأصناف الجود والكرم، لا يتحولون منها أصلا، بل صاروا { خالدين فيها } مترفهين بنعيمها لا يمسهم فيها نصب ولا وصب { وعد الله } الذي وعد لخلص عباده من عنده على مقتضى علمه وإرادته لا بد له أن ينجزه { حقا } صدقا بلا خلف وتردد { و } كيف يخلف في وعده { هو العزيز } الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة علمه وإرادته { الحكيم } [لقمان: 9] المتقن في إيجاده وإظهاره على الوجه الذي أراد.
ومن جملة حكمته المتقنة المتفرعة على حضرة علمه المحيط، وقدرته الشاملة، وإرادته الكاملة أنه { خلق } وأظهر { السموت } أي: عالم الأسباب { بغير عمد } وأسانيد على الوجه الذي { ترونها } معلقة على الأرض بلا استناد واتكاء { وألقى في الأرض } التي هي عالم المسببات { رواسي } شامخات، وجبالا راسيات؛ كراهة { أن تميد بكم } وتميل عليكم وقت ترددكم وتحرككم عليها { وبث فيها } أي: بسط عليها، ونشر { من كل دآبة } تتحرك عليها متبادلة متقابلة كيف اتفق؛ لتستقر وتتمكن؛ لأن طبيعتها في حد ذاتها كانت على الحركة والاضطراب؛ إذ هي محفوفة بالماء السائل المجبول على الحركة والسيلان، وبالهواء المتموج بالطبع، وبالنار المضطربة، وبالأفلاك المتحركة بطبقاتها { و } بعدما شهدناها وألقينا عليها من الرواسي العظام تتميما لتقريرها { أنزلنا من } جانب { السمآء مآء } مستحدثا من الأبخرة والأدخنة المتصاعدة المتراكمة، المتسحيلة بالماء بمجاورة الكرة الزمهريرية { فأنبتنا } وأخرجنا بإنزال الماء عليها { فيها } أي: في الأرض المنبسطة اليابسة بالطبع { من كل زوج } صنف من النبات مزدوج مع شاكلته { كريم } [لقمان: 10] كثير المنافع الفوائد، مصلح للأمزجة، قموم لها؛ لتعيشوا عيلها مترفيهن متنعمين، شاكرين لنعمنا، غير كافرين بمقتضى جودنا وكرمنا.
ثم قال سبحانه من مقام العظمة والكبرياء، وكمال المجد والبهاء على سبيل الإسكات والتبكيت لمن أشرك معه غيره عنادا ومكابرة: { هذا } الذي سمعتم أيها المجبولون على السمع والإصغاء { خلق الله } القادر المقتدر ذي الحول والقوة الغالبة، والطول العظيم { فأروني } أيها المشركون المسرفون، المفرطون في دعوى الشرك معه سبحانه { ماذا خلق } أي: أي شيء أظهر وأوجد الشركاء { الذين } تعبدونهم وتدعون نحوهم في الخطوب، وتذعنون أنهم آلهة { من دونه } سبحانه مستحقة للعبادة والرجوع، قادرة على لوازم الألوهية والربوبية، فسكتوا بعدما سمعوا ما سمعوا باهتين، وانقلبوا حينئذ صاغرين { بل الظالمون } المجبولون على الظلم والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية، سيما بدعوى الشركة واتخاذ إله سواه - العياذ بالله منه - { في ضلال مبين } [لقمان: 11] وغواية ظاهرة ، وطغيان عظيم.
[31.12-15]
ثم قال سبحانه عن سبيل إظهار الفضل الامتنان، والتفرد بمقتضى الألوهية والربوبية: { ولقد آتينا } من مقام عظيم لطفنا وجودنا { لقمان } بن باعورا بن ناخور بن آزر، فكان ابن أخت أيوب عليه السلام أو ابن خالته، وعاش إلى أن أدرك داوود عليه السلام فأخذ منه العلم و { الحكمة } وهي عبارة عن اعتدال الأوصاف الجبلية المودعة في النفوس البشرية على مقتضى الفطرة الأصلية، والتخلق بالأخلاق المرضية المنشئة من الأوصاف الذاتية الإلهية، وقلنا له بعدما أنعمنا عليه نعمة الحكمة، وأعددناه لقبول فيضان أنواع اللطف والكرامات: { أن اشكر لله } واصرف بمقتضى الحكمة الموهوبة لك من عندنا جميع ما أعطيناك من النعم العظام على ما جبلنا لأجله؛ لتكون من زمرة الشاكرين المواظبين على أداء حقوق جودنا وكرمنا، ومن جملة المطيعين لمقتضيات حكمتنا وأحكامنا.
{ و } أعلم أيها المجبول على الحكمة الفطرية أنه { من يشكر } نعمنا عاد على نفسه فوائد كرمنا { فإنما يشكر لنفسه } إذ فائدة شكره عائدة إليه، مزيدة لنعمنا إياه، مستجبلة لأنواع لطفنا وإحساننا معه { ومن كفر } لنعمنا من خبث طينته، وأعرض عن أداء حقوق كرمنا إياه، فوبال كفرانه أيضا عائد إلى نفسه؛ إذ عندنا الشكر والكفر سيان، ونحن منزهون عن الربح والخسران { فإن الله } المتجلي على عموم الأنفس والآفاق بالاستحقاق { غني } بذاته عن جميع صور إحسان عباده معه { حميد } [لقمان: 12] هو في ذاته باعتبار أوصافه الذاتية الظاهرة آثارها على صفائح الأكوان والمكونات، المتجهة نحو مبدعها، المثنية له حالا ومقالا، سرا وجهارا.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين معناه تذكيرا لهم، وعظة عليهم: { إذ قال لقمان لابنه } المسمى بأنعم أو أشكم، أو ماثان قولا ناشئا عن محض الحكمة المتقنة، الموهوبة له من عنده سبحانه { وهو يعظه } ويقصد تهذيب ظاهره وباطنه عن الأخلاق الردية والخصائل الدنية، مناديا أياه، مصغرا على سبيل التحنن والتعطف، وكمال الترحم والتلطف، مضيفا إلى نفسه؛ ليقبل منه ما أوصاه: { يبني لا تشرك بالله } المنزه عن الشريك والشبيه، والكفء والنظير، واعلم أن أجل أخلاقك، وأعز أوصافك: التوحيد وتنزيه الحق عن الشبيه والتعديد، وأخس أوصافك، وأرذل أخلاقك، وأردى ما جرى في خلدك وضميرك: الشرك بالله { إن الشرك } واعتقاد التعدد والاثنينية في حق الحق، الحقيقي بالحقية، الوحيد بالقيومية، الفريد بالديمومية، المستقبل بالألوهية والربوبية { لظلم عظيم } [لقمان: 13] لا ظلم أعظم وأفحش، أعاذنا الله وعموم عباده منه.
ثم قال سبحانه على سبيل التوصية والمبالغة تأكيدا وتحقيقا على ما أوصى به لقمان ابنه من النهي عن الشرك، والزجر عنه: { ووصينا الإنسان } وألزمنا عليه أولا بعدما أظهرناه قابلا لحمل التكاليف المستكملة { بوالديه } أي: بإطاعتهما، وبحفظ آداب المعاشرة والمصاحبة معهما، ورعاية حقوقها على ما ينبغي ويليق بلا فوت شيء من حقوقهما، سيما الوالدة المتحملة لأجله أنواع المحن والمشاق؛ إذ { حملته أمه } بواسطة حمله في بدء وجوده { وهنا على وهن } أي: ضعفا على ضعف؛ إذ كلما ازداد نشوءه ازداد ضعفها إلى أن انفصل عنها، وبعد انفصاله تداوم لحفظه وحضانته إلى فطامه { وفصاله } أي: فطامه إنما هو { في عامين } وبعد انفطم تلازم أيضا على حفظه إلى وقت بلوغه، وبعدما بلغ سن التكليف قلنا له: { أن اشكر لي } أيها المكلف المتنعم بأنواع النعم مني أصالة وتسببا؛ لأني خلقتك وأظهرتك من كتم العدم ولم تك شيئا.
{ و } اشكر أيضا { لوالديك } ، { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } [الإسراء: 24] لإقامتهما على حفظك وحضانتك إلى أن كبرت، وبلغت مرتبة أشدك، وكمال عقلك ورشدك، واعلم أن شكرك لهما راجع إلي أيضا؛ إذ أقدرتهما ومكنتهما على حفظك، وألقيت محبتك في قلبيهما، وبالجملة: { إلي المصير } [لقمان: 14] والمرجع في جميع الأفعال الصادرة من العباد ظاهرا؛ إذ هم وما صدر عنهم من الأفعال مستندون إلينا أولا وبالذات، وكيف لا تستند أفعالهم إلينا؛ إذ جميع ما صدر عنهم تابع لوجوداتهم، مترتب عليها؟! والحال أنه ليس لهم وجود في أنفسهم، بل وجوداتهم إنماهي رشحة من رشحات وجود الحق، وفيء من أضلال أوصافه وأسمائه الذاتية.
{ و } بعدما أكدنا عليكم أيها المكلفون في حفظ حقوق والديكم، وبالغنا فيه { إن جاهداك } أي: والداك أيها المكلف، واجتهدا في شأنك، وبالغا في الجهد والسعي إلى أن قاتلا معك وأرادا مقتك { على أن تشرك بي } وتعتقد ربا سواي وتعبده مثل عبادتي، مع أنك خالي الذهن؛ إذ { ما ليس لك به علم } يتعلق بنفي الشريك وإثباته أيضا { فلا تطعهما } في أمرهما هذا وسعيهما فيه؛ إذ أصل فطرتك مجبولة على التوحيد سواء تعلق علمك به أو لم يتعلق، فلك ألا تطعهما وتنصرف عن أمرهما هذا { و } مع انصرافك على أمرهما هذا { صاحبهما في الدنيا } وإن كانا مشركين { معروفا } مستحسنا عقلا وشرعا ومروءة حفظا لحقوقهما.
{ و } لا تتبع بشركها وكفرهما، بل { اتبع } في الدين والملة { سبيل من أناب } ورجع { إلي } ودين من توجه نحوي موحدا إياي، بريئا من الشرك معي، وبالجملة: امرض على التوحيد واسلك طريقه مادمت في دار الابتلاء { ثم } بعدما انقرضت النشأة الأولى { إلي مرجعكم } تابعا ومتبوعا، أصلا وفروعا { فأنبئكم } وأخبركم { بما كنتم تعملون } [لقمان: 15] أي: بتفاصيل أعمالكم التي صدرت عنكم في دار الاختبار، وأجازيكم على مقتضاها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
[31.16-19]
وبعدما سجل لقمان على ابنه التوحيد بنفي ضده على طريق المبالغة والتأكيد، أراد أن ينبه عليه بأنه لا بد له أن يحفظ على نفسه الأدب مع الله في كل الأحوال، بحيث لا يصدر عنه شيء يخالف توحيده، ولا يلائمه ولو كان ذرة حقيرة؛ إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه سبحانه شيء، فقال أيضا مناديا: { يبني إنهآ } أي: الخصلة الذميمة التي أتيت بها المنافية للتوحيد، أو الخصلة الحميدة الملائمة له، لا يعزب كلامهما عن علم الله مطلقا، وبالجملة: { إن تك } فرضا ما جئت به من الخصلة الذميمة والحميدة في صغر الحبة والوزن { مثقال حبة } واحدة كائنة { من خردل } أي: هي مثل في الحقارة والصغر { فتكن } أنت بعدما جئت بها { في صخرة } أي: جوفها، وهي أخفى المواضع وأستر الأمكنة { أو في } أعلى { السموت } وفوقها، وهو ما وراء الفلك الأطلس { أو في } أسفل { الأرض } وقعرها.
وبالجملة: إن كنت في أخفى الأماكن وأحفظها { يأت بها } أي: بك وخصلتك التي صدرت عنك { الله } الرقيب عليك في جميع حالاتك، ويجازيك بمقتضاها إن تعلق إرادته ومشيئته بأحضارك وإتيانها، وبالجلمة: { إن الله } المطلع على السرائر والخفايا { لطيف } لا يحجبه حجب، ولا يمنعه سدل { خبير } [لقمان: 16] ذو خبرة، يعلم كنه الأشياء وإن دقت ورقت ولا كتنه ذاته، مع أنه أظهر وأبين في ذاته من عموم مظاهره ومصنوعاته.
وبعدما سمعت { يبني } وصف ربك وحيطة علمه وقدرته، ولطافة إطلاعه وخبرته { أقم الصلاة } أي: دوام ميلك نحوه بجميع أركان وجوارحك مخلصا في ميلك ورجوعك إليه سبحانه، محرما على نفسك جميع ما يشغلك عن ربك، مجردا عاريا قلبك عن جميع منسوباتك ومقتضيات بشريتك ولوازم هويتك { وأمر } يا بني على بني نوعك أولا إن قصدت تكميلهم وإرشادهم إلى مقصد التوحيد { بالمعروف } المستحسن عقلا وشرعا، وكلم معهم على قدر عقولهم بلا إغراء ولا إغواء، ولا تفش عليهم سر التوحيد ما لم يستحقوا لحفظه، ولم يستعدوا له قبوله { وانه عن المنكر } المستهجن عقلا وشرعا، وعادة ومرءوة، ونبههم على وجه القبح والهجنة، وألطف معهم في تبيينها لعلهم يتفطنون بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها في بدء الأمر.
{ و } بالجملة: { اصبر على مآ أصابك } في تمشية سلوك التوحيد، وتقوية طريقه، وكن متحملا على مشاق الطاعات ومتاعب العبادات، وارض من ربك بجميع ما جرى عليك، وثبت لك في لوح قضائه { إن ذلك } المذكور؛ أي: كل واحد من الأمور المذكورة والخصائل المأمورة { من عزم الأمور } [لقمان: 17] أي: من الأمور التي عم الحق عليها، وأوجبها على أولي العزائم الصحيحة من خلص عباده إرشادا لهم إلى وحدة ذاته، وزلال هدايته الصافية عن كدر الضلالات والجهالات.
وكن يا بني في تمدنك ومعاشرتك مع بني نوعك لينا هينا، بشاشا بساما { ولا تصعر } أي: لا تمل ولا تعرض { خدك } أي: صفحة وجهك التي بها مواجهتك { للناس } ولا تلو عنقك عنهم كبرا وخيلا، كما يفعله أرباب النخوة من الجهلة المستكبرين المتفوقين، المفتخرين بما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة، والعلوم الرسمية على الفقراء الضعفاء الفاقدين لها { و } بالجملة: { لا تمش } يا بني { في الأرض } التي بسطت للتذلل والانكسار { مرحا } أي: ذا فرح وسرور، متفخرا بما عندك من الحطام الفاني { إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { لا يحب كل مختال } يمشي على وجه الأرض خيلا، بحيث يتبادر منه الكبر والنخوة في بادئ النظر { فخور } [لقمان: 18] بما عنده من الحسب والنسب، والمال والجاه بطر بها، مباه بسببها.
{ واقصد في مشيك } أي: توسط يا بني في مشيك بين الإسراع المذهب بهاء المؤمن ووقاره، وبين الدبيب الموجب للعجب والخيلاء { واغضض من صوتك } أيضا، وأنقص منه ولا ترفعه وإن كان حسنا، فإنك - يقصد رفعة صوتك مبالغا فيها - تشبه الحمار؛ إذ هو مخصوص من بين سائر الحيوانات بترفيع الصوت والمبالغة فيه، ومن بالغ في رفع صوته، فقد أشبه نفسه به، ولا شك أن صوته منكر عند جمهور العقلاء، وجميع الحيوانات أيضا حتى إن الكلب يتأذى من صوته، ويفزع منه عند سماعه من غاية تأثيره وتألمهن وبالجملة: { إن أنكر الأصوات } وأوحشها وأقرعها للآذان { لصوت الحمير } [لقمان: 19] وكيف تشبهون أنفسكم أيها المجبولون على الشرف والكمال على أدون الحيوانات، وأذل المخلوقات، وأنزلها رتبة؟!.
[31.20-22]
{ ألم تروا } ولمت تعلموا أيها المجبولون على الدربة والدارية { أن الله } الحكيم المتقن في عموم أفعاله { سخر لكم } وسهل عليكم تتميما لفضلكم وكرامتكم جميع { ما في السموت } أي: العلويات التي هي علل وأسباب، وإن كانت معلولات في أنفسها { وما في الأرض } أي: السفليات؛ أي: هي مسببات عن العلويات وقوابل لما يفيض عنها بطريق جري العادة؛ ليحصل من امتزاجها ما تعيشون بها، مترفهين متنعمين من أنواع الفواضل والنعم.
{ و } بالجملة: { أسبغ } أي: أكثر وأوفر سبحانه { عليكم } أيها المجبولون على الكرامة الفطرية، والكمال الجبلي { نعمه ظاهرة } تدركون بها ظواهر الآفاق من المبصرات والمسموعات الملموسات، والمشمومات والمذوقات { وباطنة } تدركون بها سرائر المعلومات والمعنويات، وتنكشفون بها إلى المعارف والحقائق الفائضة على قلوبكم التي أودعها الله العليم الحكيم في بواطنك؛ ليسع فيها وينزل عليها سلطان وحدته الذاتية السارية في ظواهر الأكوان وبواطنها الكائنة أزلا وأبدا، مع أنه سبحانه لا يسعه في سعة السماوات والأرض وإن فرض لها أضعاف وآلاف، لكنه يسع في قلب عبده العارف المؤمن الموقن، المنكشف بتوحيده وبظهور وحدته الذاتية المتجلية على صفائح ما ظهر وبطن، ومع ظهور وحدته سبحانه في ذاته واستقلاله في إظهار المظاهر الكائنة أزلا وأبدا.
{ ومن الناس } المجبولين على الجدال والنسيان، المنهمكين في بحر العناد والطغيان { من يجادل في } توحيد { الله } المتوحد المتفرد بالألوهية والربوبية، المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته إرادة واختيارا، ويثبت له شريكا سواه ويعبده كعبادته، مع أن جداله ما يستند إلى سند يصلح للاستناد، بل { بغير علم } دليل عقلي يمكن التوصل به إلى إثبات ما ادعاه بطريق النظر والاستدلال { ولا هدى } أي: كشف صريح لدني نبع من قلبه بلا افتقار إلى المقدمات والوسائل العادية التي يستنتج منها المطالب { ولا كتاب منير } [لقمان: 20] أي: دليل نقلي ينور خلده، ويعده لفيضان المعارف والحقائق من المبدأ الفياض، بل إنما نشأ ما ادعاه من محض التقليد والتخمين الحاصل من متابعة الوهم والخيال.
{ و } لذلك { إذا قيل لهم } على سبيل العظة والتذكير إمحاضا للنصح: { اتبعوا مآ أنزل الله } المصلح لأحوالكم من الدين والكتاب المشتمل على أنواع الرشد والهداية، والنبي المؤيد من عنده، المبعوث إليكم؛ لهدايتكم وإصلاحكم { قالوا } في الجواب: ما نتبع بمفترياتكم المستحدثة التي ابتدعتموها من تلقاء أنفسكم، ونسبتموها إلى الله تغريرا وترويجا { بل نتبع ما وجدنا عليه آبآءنا } إذ هو مستمر قديم، فنحن بأثرهم متبعونن، وبدينهم راضون متخذون.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { أ } يتبعون آبائهم أولئك الضالين { ولو كان الشيطان } المغوي المضل إياهم { يدعوهم } وآباءهم أيضا إلى الباطل؛ ليصرفهم عن الحق، ويوصلهم { إلى عذاب السعير } [لقمان: 21] الذي أعد لمتابعيه، ومن يقتفي أثره ويقبل دعوته.
ثم قال سبحانه: { ومن يسلم وجهه } الذي يلي الحق { إلى الله } ويخلص في توجهه نحوه { و } الحال أنه { هو محسن } ناظر إلى الله بنوره سبحانه، مطالع بوجهه الكريم { فقد استمسك } وتمسك { بالعروة الوثقى } التي لا انفصام لها، وهي حبل الله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات، ومن تمسك بها فقد فاز بكنف حفظه وجواره، وأمن من شر الشيطان وغوائله وتضليلاته عن طريق الحق وصراطه المستقيم { و } كيف لا { إلى الله } المستجمع لجميع الأسماء والصفات المترتبة لما في الكائنات لا إلى غيره من الوسائل والأظلال العادية { عاقبة الأمور } [لقمان: 22] ومصيرها؟! ومن تشبث بحبل الله مخلصا، فقد لحق بخلص أوليائه الذين
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62].
[31.23-28]
{ ومن كفر } وأعرض عن التشبث بحبل توفيقه، وانصرف عن الاستمساك بدلائل توحيده وشواهد استقلاله في آثاره { فلا يحزنك } يا أكمل الرسل { كفره } وإعراضه عنا، وعن مقتضى ألوهيتنا وربوبيتنا؛ إذ { إلينا مرجعهم } ومصيرهم، كما أن منا مبدأهم ومشأهم { فننبئهم } ونخبرهم، ونفصل عليهم { بما عملوا } بعدما رجعوا إلينا، ونجازيهم على مقتضاها بلا فوت شيء مما صدر عنهم، وكيف لا يجازون بأعمالهم، ولا يحاسبون عليها { إن الله } المطلع على جميع ما ظهر وبطن من ذرائر الأكوان { عليم } محيط حضرة علمه { بذات الصدور } [لقمان: 23] وخفيات الأمور وإن دق ولطف، ولا يعزب عنه حيطة علمه شيء؟!.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: لا يغتروا بإمهالنا وتمتعينا إياهم، وعدم التفاتنا نحوهم، وعدم انتقامنا عنهم؛ إذ { نمتعهم قليلا } أي: زمانا قليلا تسجيلا للعذاب عليهم، وتغريرا { ثم نضطرهم } بعد بطشنا إياهم { إلى عذاب غليظ } [لقمان: 24] لا عذاب أغلظ منه وأشد؛ لغلظ غشاوتهم وقساوتهم.
{ و } كيف لا نأخذ أولئك المكابرين المعاندين { لئن سألتهم } سؤال اختبار وإلزام: { من خلق السموت } وأوجد العلويات، وما فيها من الكواكب والبروج وأنواع الفجاج { والأرض } ومن عليها، وما عليها مما لا يعد ولا يحصى؟ { ليقولن } في الجواب مضطرين حاصرين: { الله } إذ لا يسع لهم إسناد خلقهما وإيجادهما إلى غيره سبحانه؛ لظهور الدلائل والشواهد المانعة من الاستناد إلى غيره سبحانه { قل } يا أكمل الرسل بعدما اعترفوا بأن الموجد للعلويات والسلفيات هو الله سبحانه بالأصالة والاستقلال: { الحمد لله } حيث اعترفتم بتوحيد الله مع أنكم اعتقدتم خلافه، فيلزمهم لقولهم هذا التوحيد الحق { بل أكثرهم لا يعلمون } [لقمان: 25] لزومه، ولا يفهمون استلزامه؛ لذلك ينكرون له، ويشركون معه غيره عنادا واستكبارا، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وكيف لا يعلمون ويفهمون مع أنه { لله } الواحد الأحد، المستحق للألوهية والربوبية، وفي قبضة قدرته وتحت تصرفه جميع { ما في السموت والأرض } أي: العلويات والسلفيات، والممتزجات سواء علموا وحدته واستقلاقه في ملكه او لم يعلموا، أو اعتقدوا بتوحيده أو لم يعتقدوا؛ إذ لا يرجع له سبحانه نفع من اعتقادهم، وضر من عدمه، بل نفع اعتقادهم وإيمانهم إنما يرجع إليهم، وضر كفرهم وشركهم أيضا كذلك؛ إذ هو سبحانه منزه عنهما جميعا { إن الله } المستغني عن جميع ما ظهر وبطن { هو الغني } المقصور على الغنى الذاتي { الحميد } [لقمان: 26] بمقتضى أوصافه الذاتية، وأسمئه الحسنى التي بها ظهر ما ظهر وما بطن سواء نطقت بحمده ألسنة مظاهره وأظلاله أو لم تنطق؛ إذ هو في ذاته متعال عن النقص والاستكمال، واستجلاب النفع والإجلال مطلقا.
ثم لما أمر اليهود وفد قريش بأن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:
ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء: 85] كيف قال سبحانه هذا مع أنا قد أنزل إلينا التوراة، وفيها علم كل شيء ظاهرا وباطنا؟! رد الله عليهم حصرهم علم الحق بالتوراة، بل بجميع الكتب والصحف المنزلة على عموم الرسل وقاطبة الأنبياء؛ إذ كل ما دخل في حيطة الإنزال والإتيان متناه، وحضرة علمه سبحانه في نفسه غير متناه، ولا نسبة بين المتناه وغير المتناه، بل علمه سبحانه بالنسبة إلى معلوم ومقدور واحد باعتبار شئونه وتطوراته غير متناه، فكيف بعموم المعلوما والمقدروات؟!.
فقال سبحانه على مقتضى استعداد من على الأرض وقابليتهم وقدر عقولهم، مبينا عن عدم نهاية حضرة علمه منها لها: { ولو أن } جميع { ما في الأرض من شجرة } أي: كل ما لها ساق من هذا الجنس { أقلام والبحر } أي: المحيط الذي هو كرة الماء الكائن حول الأرض { يمده } أي: يصير مدادا لها وحبرا لثبتها ومدها، بل يفرض أيضا { من بعده } أي: بعد نفاذ البحر المحيط { سبعة أبحر } مثلا محيطات كذلك تشيعه وتمد مده، فكتب بهذه الأقلام والمداد على الدوام كلمات الله العلي العلام { ما نفدت } وتمت { كلمات الله } وتنفد المدد والأقلام المذكورة، بل إن فرض أمثالها وأضعافها وآلافها؛ إذ الأمور الغير متناهية لا تقدر بمقدار المتناه، ولا يكال بمكيال مقدر، وكيف يكال ويقدر علمه { إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { عزيز } غالب قادر على كل ما جرى في حضرة علمه، مع أنه لا نهاية لمعلوماته { حكيم } [لقمان: 27] لا ينتهي حكمته وقدرته بالنسبة إلى مقدور دون مقدور، بل له التصرف في كل واحدة من مقدوراته ومراداته إلى ما لايتناهى أزلا وأبدا؛ إذ لا يكتنه طور علمه وخبرته، وحكمته وقدرته مطلقا؟!.
ومن جملة مقدوراته الصادرة منه سبحانه على مقضتى حكمته إرادة واختيارا: خلقكم وإيجادكم أولا على سبيل الإبداع بمقتضى اللطف والجمال، وإعدامكم ثانيا على مقتضى القهر والجلال، وإعادتكم وبعثكم ثالثا إظهارا للحكم المودعة فيه هوياتكم وأشباحكم، والمصلحة المندرجة في إيجادكم وإظهاركم.
والمحجوبون المقيدون بسلاسل الأزمان والساعات يتوهمون بين الأطوار الثلاثة والنشأة المتعاقبة أمدا بعيدا وأزمنة متطاولة، وهي عند الله بعدما تعلق إرادته ونفذ قضاؤه، وصدر عنه الأمر بقوله: كن، فيكون الكل بلا تراخ ومهلة في أقصر مدة وآن؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولا يقدر أفعاله زمان ومكان؛ لذلك قال سبحانه: { ما خلقكم } وإظهاركم في فضاء الوجود في النشأة الأولى { ولا بعثكم } وحشركم في النشأة الأخرى بعدما انقرضتم عن الأولى { إلا كنفس واحدة } يعني: إيجادكم جملة أولا، وبعثكم ثانيا كذلك في جنب قدرتنا وإرادتنا كإيجاد نفس واحدة بلا تفاوت؛ إذ متى صدر عنا قولنا: كن، إشارة منا إلى خلقكم وبعثكم جملة، فيكون الكل في الحال ككون نفس واحدة { إن الله } المطلع لسرائر ما ظهر وبطن { سميع } لعموم ما صدر عن ألسنة استعداداتهم وقابلياتهم { بصير } [لقمان: 28] بما لاح عليهم من إشراق نور الوجود.
[31.29-32]
وكيف لا يطلع سبحانه لجميع الكوائن والفواسد { ألم تر } أيها الرائي المتأمل المتدبر { أن الله يولج } ويدخل { الليل } أي: أجزاء منه { في النهار } ويطيله بها في الربيع تتميما لتربيتكم وأرزاقكم وأقواتكم { ويولج } أيضا في الخريف { النهار } أي: أجزاءه { في الليل } ويطيله بها تقوية وتعميرا للأرض؛ لتربية ما حدث منها { و } بالجملة: { سخر الشمس والقمر } لمصلحة معاشكم وتربية نفوسكم إلى حيث { كل يجري } ويدور بأمره، ويتم دورته بحكمه { إلى أجل مسمى } عينه الله سبحانه، وسماه من عنده على مقتضى حكمته تربية لعباده، وتقويما لأمزجتكم؛ ليشتغلوا على ما جبلوا لأجله { و } اعلما أيها المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان { أن الله } الرقيب عليكم في جميع حالاتكم { بما تعملون } أي: بجميع ما صدر عنكم من الإعمال والأفعال { خبير } [لقمان: 29] لا يعزب عن خبرته ذرة من ذرائر ما لمع عليه نور الوجود.
وإنما ظهر منه سبحانه كل { ذلك } الذي سمعتم أيها المجبولون على فطرة الدراية والعرفان، والمترصد لانكشاف سرائر التوحيد والإيقان من بدائع القدرة والألوهية، وعدائب العلم والإرادة، وغرائب الشئون والأطوار اللامعة من لوائح لوامع شرقوق شمس الذات؛ ليدل { بأن الله } المتجلي على عروش الأنفس والآفاق بالأصالة والاستحقاق الوجود { هو الحق } الثابت المثبت أزلا وأبدا، القيوم المطلق، الدائم الباقي وبلا انقضاء ولا انصرام.
{ وأن ما يدعون من دونه } ويدعون الوجود له من العكوس والأظلال الهالكة في شروق شمس الذات { الباطل } المقصور، المنحصر على العدم والبطلان، المستهلك في مضيق الإمكان بأنواع الخذلان والحرمان { و } بالجملة: اعلموا أيها المتأملون في آثار الوجود الإلهي المتحقق بوحدة ذاته، وكثرة شئونه وتطوراته حسب أسمائه وصفاته { أن الله } المستقل بالألوهية والربوبية، المستحق لأنواع التذلل والعبودية { هو العلي } بذاته لا بالإضافة إلى غيره؛ إذ لا غير معه { الكبير } [لقمان: 30] في شئونه وتطوراته حسب تجلياته الجمالية والجلالية، واللطفية والقهرية.
وكيف لا يستقل سبحانه بتصرفات ملكه وملكوته؟! { ألم تر } أيها الرائي المستبصر { أن الفلك تجري في البحر } حاملة { بنعمت الله } المنعم المفضل عليكم بمقتضى لطفه وسعة جوده { ليريكم من آياته } الدالة على توحيده؛ لتتفطنوا منها إلى وحدة ذاته { إن في ذلك } الإجراء والإمداد بالرياح المعينة لجريها، والحفظ من الغرق والهلاك { لآيات } دلائل قاطعة، وشواهد ساطعات { لكل صبار } صبر على متاعب ما جرى عليه من القضاء { شكور } [لقمان: 31] لما وصل إليهم من الآلاء والنعماء.
{ و } من كمال صبرهم وشكرهم { إذا غشيهم } وغطاهم { موج } عظيم، واستعلى مغلقا عليهم { كالظلل } المغيظة إياهم من الجبال والسحب { دعوا الله } الواحد الأحد الصمد، المنجي لهم عن أمثاله { مخلصين له الدين } منحصرين التوجه والانقياد إليه بلا ميل منهم إلى الأسباب والوسائل العادية، متضرعين نحوه، داعين إليه بلا رؤية الوسائل في البين على ما هو مقتضى التوحيد { فلما نجاهم } سبحانه بفضله من أهوال البحر ومضيقه، وأوصلهم { إلى البر } وسعة فضائه سالمين غانمين { فمنهم } حينئذ { مقتصد } أي: معتدل في قصده نحو الحق، غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط، ومنهم مائل عن الاعتدال، منحرف عنه، ساع إلى تحصيله { و } بالجملة: { ما يجحد } منهم، وينكر { بآياتنآ } الدالة على وحدة ذاتنا، وكمال أسمائنا وصفاتنا { إلا كل ختار } غدار ناقض للعهد الفطري، والميثاق الجبلي { كفور } [لقمان: 32] للآلاء والنعماء المترادفة المتوالية.
[31.33-34]
{ يأيها الناس } المجبولون على الكفران والنسيان، المشغولون عن البغي والعدوان { اتقوا ربكم } الذي أظهركم من كتم العدم ولم تكونوا شيئا مذكورا، واحذروا عن بطشه وانتقامه، فإن بطشه شديد، وعذابه لعصاة عباده أليم مزيد { واخشوا يوما } وأي يوما { لا يجزي } أي: لا يقضي ولا يسقط ولا يحمل { والد } مع كمال عطفه ورأفته { عن } وزر { ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا } بل كل نفس حينئذ رهينة ما كسبت، ضمينة ما اكتسبت بمقتضى ما وعد الله لها وككتب، وبالجملة: { إن وعد الله } الذي وعده لعباده { حق } لا ريب في إنجامه، ولا خلف في وقوعه { فلا تغرنكم } أيها المجبولون على الغفلة والغرور { الحياة الدنيا } يتغريرها وتلبيساتها من مالها وجاهها، ولذاتها الفانية الغير القارة { ولا يغرنكم بالله } عفوه وغفرانه، وسعة رحمته وجوده { الغرور } [لقمان: 33] أي: الشيطان المبالغ في الغرور والتغرير بأن يجبركم على المعاصي اتكالا على عفو الله وغفرانه.
ثم لما أتى الحرث بن عمرو رسول الله صلى للعلهي وسلم فقال: متى تقوم الساعة، وأني قد ألقيت بذرا على الأرض فمتى تمطر السماء، وامرأتي ذات حمل حملها ذكر أم أنثى، وما أعمل غدا، وأين أموت؟
فنزلت { إن الله } المستقل باطلاع الغيوب { عنده علم الساعة } وقت قيامها، ولم يطلع أحدا عليها سوى أنه سبحانه أخبر بوقوعها وقيامها في جميع الكتب المنزلة من عنده على رسله { و } أيضا هو { ينزل الغيث } ولم يطلع أحدا بوقت نزوله { ويعلم } أيضا سبحانه { ما في الأرحام } ولم يطلع أحدا عليه { و } أيضا { ما تدري } وتعلم { نفس } من النفوس { ماذا تكسب } وتعمل { غدا } وإن تدبرت وتدربت، وبذلت جهدها وسعيها لا تفوز إلى دراية أحوال غدها، بل هو أيضا من جملة المغيبات التي أحاط بها علمه سبحانه بلا اطلاع أحد عليها { وما تدري } وتعلم { نفس } أيضا، وإن بالغت في السعي وبذل الجهد والطاقة { بأي أرض تموت } بل هو أيضا من جملة الغيوب التي استأثر الله بها، بالجملة: { إن الله } المستقل بالألوهية والربوبية، المستجمع لجميع أوصاف الكمال { عليم } لا يعزب عن حيطة حضرة علمه ذرة { خبير } [لقمان: 34] لا يخرج عن حيطة خبرته طرفة، وإن كان لا يكتنه علمه وخبرته، والله أعلم بحقائق أسمائه وصفاته، ودقائق معلومات، ورقائق آثاره ومصنوعاته المترتبتة عليها.
ربنا ذرنا بفضلك وجودك علما تنجينا عن الجهل بك وبأسمائك وأوصافك، إنك على ما تشاء قدير.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المتحقق بمقام التوحيد، والمتمكن في مقعد الصدق، خاليا عن إمارة التخمين والتقليد ألا تتأمل ولا تتمنى في نفسك حصول ما لا يسع في وسعك وطاقتك من الأمور التي ليست في استعدادك وقابليتك حصولها وانكشافها دونك؛ إذ الإنسان وإن سعى، بذل جهده في طريق العرفان بعدما وفقه الحق وجذبه نحوه لا يبلغ إلا التخلق بأخلاقه الله والفناء في ذاته، منخلعا عن لوازم ناسوته بقدر ما يتمكن له، ويسع فيب قابليته واستعداده.
وأما الاطلاع على جميع معلوماته سبحانه، والانكشاف بالمغيبات التي استأثر الله به في غيب ذاته فأمر لا يحوم حوله إدراك أحد من الأنبياء والرسل، والكمل من أرباب الولاء والمحبة الخالصة، بل لا يتفوه به أحد من خلص عباده أصلا؛ إذ هو خارج عن استعداداتهم مطلقا، وما المعجزات والكرامات الخارقة للعادة الصادرة عن خواص عباد الله من الأنبياء والأولياء، فما صدرت أيضا منهم هذه الأمور إلا بإطلاع اليه إياهم، وتوفيقهم عليها، وهم مجبورون مضطرون في ظهور أمثال تلك الكرامات عنهم، مع أن بعض أرباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة جمال الله وجلاله تحزنوا، وتغمموا عند ظهور أمثال هذه الخوارق منهم؛ لمنافاتها بصرافة استغراقهم، كما تشاهد من بعض بدلاء الزمان، أدام الله بركته على معارف أهل الإيمان والعرفان.
وبالجملة: لا بد أن يكون الموحد متمسكا بحبل الرضا والتسليم بما جرى عليه من صلوجان القضاء بلا تطلب منه وترقب له.
جعلنا الله ممن تمكن بمقام الرضا، ورضي بجميع ما أثبت له الحق في لوح القضاء.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-5]
{ الم } [السجدة: 1] أيها الإنسان الأكمل الأعلم للوازم أنوار الوجود اللائح على صفحات وجود الأكوان بمقتضى الجود، الملاحظ المطالع لها بتوفيق الله الملك الودود.
{ تنزيل الكتاب } الجامع لما في الكتب السالفة، المبين لأحكام دين الإسلام، المنزل عليك يا أكمل الرسل؛ لتأييدك وتوريح دينك { لا ريب فيه } إنه نازل من الله الجامع لجميع الأسماء والصفات، كما أن مرتبتك جامعة لجميع مراتب أهل العلم، وأنت مبعوث إلى كافة الأمم؛ ولذا صا كتابك نازلا { من رب العالمين } [السجدة: 2] يشكون ويترددون في نزوله من عنده سبحانه أولئك الطاعنون الضالون.
{ أم يقولون افتراه } واختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الله افتراء ومراء، تغريرا وتلبيسا، لا تحزن يا أكمل الرسل عليهم، ولا تلتفت إلى قولهم هذا { بل هو الحق } الثابت المحقق، المثبت نزوله { من ربك } الذي رباك بأنواع الكرم، واصطفاك من بين البرايا لرسالته العامة، أنزله إليه مشتملا على الإنذارات الشديدة، والتخويفات البليغة { لتنذر } بوعيداته { قوما } انقطع عنهم آثار النبوة والرسالة؛ لبعد العهد أو { مآ أتاهم } بعد عيسى - صلوات الله عليه وسلامه - { من نذير } أنذرهم عن الباطل وأرشدهم إلى طريق الحق { من قبلك } بل هم على فترة من ارسل فارسلك إليهم { لعلهم يهتدون } [السجدة: 3] بهدايتك وإرشادك إلى توحيد الحق، واتصافه بأوصاف الكمال.
وكيف لا يوحدون ولا يؤمنون بتوحيده وأسمائه وصفاته { الله } وأوجد بقدرته الكاملة { السموت } أي: العلويات { والأرض } أي: السفليات { وما بينهما } أي: الممتزجات { في ستة أيام } وساعات منبسطة في الأقطار والجهات الست { ثم } الواحد الأحد، الفرد الصمد { الذي خلق } بعدما تم التمهيد والبسط { استوى } واستولى، وتمكن سبحانه { على العرش } أي: انبسط على عروش عموم ما ظهر وبطن من الآفاق والأنفس بالاستقلال التام، والتصرف العام على صرافة وحدته الذاتية بلا شائبة شركة وطرق كثرة؛ لذلك { ما لكم } أيها الأظلال المنعكسة من شمس ذاته { من دونه } سبحانه { من ولي } يولي أموركم ويتصرف فيكم { ولا شفيع } ينصركم، ويعاون عليكم سواه سبحانه { أ } تشكون وتترددون في توحيده وولايته سبحانه أيها المنهمكون في الغفلة والضلال { فلا تتذكرون } [السجدة: 4] وتتعظون بمواعظه وتذكيراته مع أنه كررها مرارا.
وكيف لا هو الذي { يدبر الأمر } أي: عالم الأمر المنبئ عن الإيجاد والإظهار بإنزال الملائكة الذين هم مظاهر أوصافه وأسمائه { من السمآء } أي: سماء الأسماء المتعالية عن الأقطار والجهات مطلقا { إلى الأرض } أي: الطبيعة القابلة لقبول آثارها، وإنما أنزلهم وأهبطهم إليها؛ ليعد حسب حكمته المظاهر والمصنوعات؛ لقبول آثارها، وإنما أنزلهم وأهبطهم إليها؛ ليعد حسب حكمته المظاهر والمصنوعات؛ لقبول فيضان سلطان توحيده { ثم } بعدما تم على الوجه الأبدع، والنظام الأتم الأبلغ { يعرج } ويصعد { إليه } سبحانه ما يترتب على عالم الأمر من المعارف والحقائق، والأسرار الكامنة في سريان الوحدة الذاتية بعد انقراض النشأة الأولى { في يوم } معد لعروجه وصعوده { كان مقداره } أي: مقدار ذلك اليوم في الطول والامتداد { ألف سنة مما تعدون } [السجدة: 5] في هذه النشأة من الأيام والأعوام.
[32.6-11]
وإنما دبر من المعارف والحقائق المترتبة على الإيجاد والإظهار، وقدر للعروج والصعود ما قدر لحكم ومصالح استأثر بها سبحانه في غيبه، ولم يطلع أحدا عليها؛ إذ { ذلك } الذات البعيد ساحة عز حضوره عن أن يحوم حوله إدراك أحد من مظأهره ومصنوعاه { عالم الغيب } الذي لم يتعلق به علم أحد سواه { والشهادة } المنعكسة مه حسب تجلياته الجمالية والجلالية { العزيز } الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة حضرة علمه بأن يتصرف فيه كيف يشاء إرادة واختيارا { الرحيم } [السجدة: 6].
{ الذي } وسعت رحمته كلما لاحت عليه بروق تجالياته؛ لذلك { أحسن كل شيء خلقه } أي: قدر وجوده بعدما دخل في حيطة علمه، وقدرته وإرادته { وبدأ } من بينهم { خلق الإنسان } أي: آدم، وقدر وجوده أولا { من طين } [السجدة: 7] إذ هو أصل في عالم الطبيعة، قابل لفيضان آثار الفاعل المختار، مستعدا لها استعدادا أصليا، وقابلية ذاتية.
{ ثم } بعد تعلق إرادته سبحانه بإبقاء نوعه { جعل نسله } أي: قدر بصنعه وجود ذرياته المتناسلة المتكثرة، المختلفة منه على سبيل التعاقب والترادف { من سلالة } فضله منفصلة مني، كائنة { من مآء مهين } [السجدة: 8] ممتهن مسترذل مستقذر؛ لخروجه عن مجرى الفضلة.
{ ثم } بعدما قدر خلقه أولا من الطين، وثانيا من الماء المهين { سواه } سبحانه إظهارا لقدرته؛ أي: قوم وعد أركانه على أحسن التقويم { و } بعد تسويته وتعديله { نفخ فيه من روحه } المضافة إلى ذاته المستجمع لجميع أوصافه وأسمائه تتميما لرتبة خلافته ونيابته، واستحقاقه لمرآتية الحق، قابليته انعكاس شئونه وتطوراته ولياقته؛ للتخلق بأخلاقه { و } بالجملة: { جعل } وهيأ { لكم } أيها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد { السمع } لتسمعوا بها آيات التوحيد، ودلائل اليقين والعرفان { والأبصار } ليشاهدوا بها آثار القدرة والإرادة الكاملة المحيطة بذرائر الأكوان { والأفئدة } المودعة فيكم؛ لتتأملوا بها سريان الوحدة الذاتية على هياكل الأشباح الكائنة والفاسدة، وتتفكروا بها في آلاء الله ونعمائه المتوالية المتوافرة، ومع وفور تلك النعم العظام، والفواضل الجسام { قليلا ما تشكرون } [السجدة: 9] وتصرفونها إلى ما مقتضياتها التي جبلها الحق لأجلها.
{ و } من غاية كفرانهم بنعم الله، ونهاية عمههم وسكرتهم فيه: { قالوا } أي: أبي بن خلف ومن معه المنافقين بعدما سمعوا من البعث والحشر، ويوم العرش والجزاء مستبعدين مستفهمين، مكررين على سبيل المبالغة في الإنكار { أءذا ضللنا } وضمحللنا { في الأرض } وصرنا من جملة الهباء المنبثة، المتلاشية المتناسلة التي لا تمايز فيها أصلا { أءنا } بعدما كنا كذلك أيها العقلاء المجبولون على الدارية والشعور { لفي خلق جديد } مثلما كنا عليها قبل مؤتنا؟! كلا وحاشا وما لنا عود إلى الحياة الدنيا، سيما بعدما متنا وصرنا ترابا وعظاما، وهم أيضا ما يتقصرون من شيء بمجرد قولهم هذا { بل هم } من غلظ غشاوتهم وغطائهم { بلقآء ربهم } الذي رباهم بأنواع النعم في النشأة الأولى، وأفاض عليهم سجال اللطف والكرم في النشأة الأخرى، وقبض ملك الموت أرواحهم بأمر الله أياه { كافرون } [السجدة: 10] منكرون جاحدون.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعدما سمعت قولهم: { يتوفاكم } ويستوفي أجلكم أيها المنهمكون في الغفلة والضلال { ملك الموت الذي وكل بكم } بإذن الله؛ لقبض أرواحكم { ثم } بعدما قبضتم في النشأة الأولى، وبعثتم من قبوركم أحياء في النشأة الأخرى { إلى ربكم ترجعون } [السجدة: 11] للعرض الجزاء.
[32.12-14]
{ ولو ترى } أيها المعتبر الرائي يومئذ بعدما بعث الخلائق، وعرضوا على ربهم حيارى سكارى، تائهين هائمين { إذ المجرمون } المنكرون بالعبث والنشور، والعرض والجزاء وشرف اللقاء حينئذ { ناكسوا رءوسهم عند ربهم } من غاية الخجالة والحياء، قائلين من نهاية اضطرارهم واضطرابهم، مناجين معه سبحانه { ربنآ } يا من ربانا بأنواع الكرامة فكفرناك، وأرسلت لنا رسلا فكذبانهم عنادا، وأنكرنا عليهم وعلى دعوتهم مكابرة، فاليوم { أبصرنا } ما هو الحق المطابق للواقع { وسمعنا } منك حقا صدق رسلك، وجميع ما جاءوا به من عندك { فارجعنا } بفضلك ولطفك إلى الدنيا مرة بعد أخرى { نعمل } فيها { صالحا } مرضيا عندك مقبولا على مقتضى ما أبصرتنا وأسمعتنا الآن { إنا موقنون } [السجدة: 12] اليوم بجميع ما جاء به رسلك، ونطق به كتابك.
لو رأيت حالهم هذا، وسمعت مناجاتهم هذه حينئذ لرأيت أمرا فظيعا فجيعا، ثم نودوا من وراء سرادقات العز والجلال: الآن قد مضى وقت الاختبار والابتلاء، وانقرض زمان التدارك والتلافي { ولو شئنا } وتعلق إرادتنا بهدياتكم أولا { لآتينا } في دار الابتدلاء { كل نفس } منكم { هداها } ووفقكم علهيا كما آتينا لخلص عبادنا، ويسرنا لهم الهداية والرشاد { ولكن حق } أي: صح وثبت { القول } والحكم { مني } على مقتضى حكمتي ومصلحتي { لأملأن } بمقتضى عزتي وجلالي { جهنم } المعدة لأصحاب الشقاوة والأزلية { من الجنة } التي هي جنود إبليس { والناس } الناسين مقتضى العهود الفطرية، والمواثيق الجبلية بتغريرات شياطين نفوسهم الأمارة بالسوء { أجمعين } [السجدة: 13] وما يبدل القول لدي، ولا معقب لحكمي.
{ فذوقوا } أي: قلنا لهم بعدما لم نستجب دعوتهم: ذوقوا اليوم أيها الضالون المسرفون { بما نسيتم } أي: بسبب نسيانكم { لقآء يومكم هذآ } مع أن الرسل بالغوا بإخباره إياكم، والكتب نطقت بتبيينه عليكم على أبلغ وجه وآكده، وأنتم أصررتم على الإنكار غافلين ناسيين مكابرين { إنا نسيناكم } اليوم أنواع العذاب، كما نسيتم أنتم إيانا فيما مضى { وذوقوا عذاب الخلد } أي: المخلد المؤبد { بما كنتم تعملون } [السجدة: 14] من الكفران الدائم، والنيسان المستمر في النشأة الأولى، أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك.
[32.15-18]
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إنما يؤمن } ويذعن { بآياتنا } الدالة على توحيد ذاتنا وكمال أسمائنا وصفاتنا الموحدون المخبتون { الذين إذا ذكروا بها } أي: بالآيات تبشيرا وإنذارا { خروا } وسقطوا { سجدا } مستقبلين مبادرين لقبولها، وامتثال ما فيها من الأوامر والنواهي، والعبر والتذكيرات الواردة في فحاويها { و } مع ذلك { سبحوا } ونزهوا ربهم عما لا يليق بجناب قدسه، قائلين { بحمد ربهم } عائدين نعمه على أنفسهم، مواظبين على شكرها، خاضعين خاشعين أذلا، واضعين جباههم على تراب المذلة تواضعا وإسقاطا للكبر والخيلاء المذمومين عقلا وشرعا { وهم } حنيئذ { لا يستكبرون } [السجدة: 15] عند عبادة الله، وعن الانقياد بأوامره وأحكامه الواردة في كتابهز
ومن كمال إطاعتم وانقيادهم: { تتجافى } أي: تتنحى وترتفع { جنوبهم } وضلوعهم { عن المضاجع } أي: البسط والوسائد الي رقدوا عليها في الليل؛ يعني: بعدوا عن مواضع رقودهم واستراحتهم في خلال الليالي { يدعون ربهم خوفا } من بشطه وخشيته { وطمعا } لمرضاته وعموم رحمته، وسعة جده مغفرته { و } هم لا يقتصرون على قيام الليل للتهجد، بل { مما رزقناهم } وسقنا نحوه من الرزق الصوري والمعنوي { ينفقون } [السجدة: 16] في سبيلنا على الطالبين المتوجهين إلينا، منقطعين عن لذائد الدنيا ومزخرفاتها، سوى سد جوعة وستر عورة، وهم بارتكاب هذه المتاعب والمشاق ما يريدون إلا وجه الله، وما يطلبون إلا رضاه سبحانه، مؤثرين رضاء الله على أنفسهم مخلصين فيه.
بحيث { فلا تعلم } ولا تغيب { نفس } منهم { مآ أخفي } وأعد { لهم } من قبل الحق { من قرة أعين } هي فوزهم بشرف لقائه برية وجهه الكريم، وإنما أعد لهم سبحانه ما أعد له { جزآء بما كانوا يعملون } [السجدة: 17] على وجه الإخلاص من إيثارهم جانب الحق على أنفسهم.
{ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } أي: أتظنون أيها الظانون المسرفون، والجاحدون المنكرون أن من كان مؤمنا موقنا بوحدانية الله، متصفا بالأعمال الصالحة المؤيدة لإيمانه، كمن كان فاسقا خارجا عن ربقة الإيمان والإخلاص، وحدود الشرائع الواردة لحفظه؟! كلا وحاشا، إنهم { لا يستوون } [السجدة: 18] في الشرف والكمال، والفوز والنوال.
[32.19-21]
بل { أما الذين آمنوا } بوحدانية الحق { وعملوا الصالحات } المأمورة لهم على وجهها، مع كونهم مخلصين فيها، خاشعين خاضعين { فلهم } في النشأة الأخرى بعدما انقرضوا عن دار الدنيا { جنات المأوى } أي: المتنزهات المعدة لأهل الإيمان والقبول تأوي إليها نفوسهم على الرغبة الكاملة والطوع التام؛ ليكون { نزلا } لهم؛ أي: منزلا يسكنون فيه، ويستريحون فيها { بما كانوا يعملون } [السجدة: 19] أي: بمقابلة ما يرتكبون من حمل المتاعب والمشاق ف يطريق الطاعات والعبادات.
{ وأما الذين فسقوا } أي: تركوا الإيمان بالله، وخرجوا عن مقتضى الأوامر والنواهي الموردة في كتبه وعلى ألسنة رسله { فمأواهم } أي: مرجعهم ومثواهم في النشأة الأخرى { النار } المعدة لأهل الشقاوة الأزلية، هم يها خالدون مخلدون، مؤبدون لا نجاة لهم أصلا، بل { كلمآ أرادوا } وأملوا { أن يخرجوا منهآ } أمهلهم الخزنة إلى أن يصلوا إلى شفيرنا، ثم بعد ذلك { أعيدوا فيها } زجرا وقهرا تاما مهانين صاغرين { وقيل لهم } أي: الزبانية الموكلون عليهم بإلهما الله إياهم: { ذوقوا } أيها المنكرون المصرون { عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } [السجدة: 20] حين أخبركم الرسل والكتب، وأنذروكم به.
ثم أشار سبحانه إلى رداءة فطنة أصحاب الضلال، وخبث طينتهم فقال على سبيل المبالغة والتأكيد: { و } الله { لنذيقنهم } ونصبن عليهم في دار الابتلاء { من العذاب الأدنى } الأنزل الأسهل من القحط والطاعون والوباء، والقتل والسبي والزلزلة، وأنواع المحن والبليات التي هي أدنى وأسهل بمراحل { دون العذاب الأكبر } أي: عند عذاب الآخرة الذي هو في غاية الشدة، ونهاية الألم والفظاعة، وإما أخذناهم بها { لعلهم يرجعون } [السجدة: 21] مما هم عليه من الكفر والشقاق، ويتفطنون منها إلى كما قدرتنا واقتدارنا على أضعافها وآلافها، ومع ذلك لم يتفطنوا ولم يرجعوا عن غيهم وضلالهم، بل أصروا واستكبروا عدوانا وظلما.
[32.22-25]
{ ومن أظلم } على الله ، وأسوأ أدبا معه سبحانه { ممن ذكر } ووعظ { بآيات ربه } ليهتدي بها إلى الإيمان والتوحيد، ويمتثل بمقتضاها؛ ليتخلص عن الكفر والشرك { ثم } بعدما سمعها { أعرض عنهآ } فجأة بلا تفكر وتأمل في معناها، وأنكر على مقتضاها، واستكبر على ما أنزل الله إليه، فكذبه ونسب إليه ما لا يليق بشأنه، وأصر على ما هو عليه عنادا ومكابرة { إنا } من مقام قهرنا وجلالنا { من المجرمين منتقمون } [السجدة: 22] أي: قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعدما بالغوا في الإنكار والإصرار: إنا منتقمون منهم على أبلغ وجه وأشده من عموم المجرمين الظالمين، فكيف من هو أجرم وأظلم منهم، وأصر على البغي والعناد؟! فننتقم عنهم، ونخلدهم في عذاب النار؛ إذ لا عذاب أسوأ منه وأشد، أعاذنا الله وجميع عباده منها.
{ و } لا تظنن يا أكمل الرسل أنا لم ننجز وعدنا الذي وعدنا معك في كتابك من أنا ننتقم من أهل الشرك والكفر والإصرار على أبلغ وجه وآكده، بل لك أن تتيقن وتذعن عن إنجاز وعدنا إياك مثلما أنجزنا مواعيدنا مع أخيك موسى الكليم؛ إذ { لقد آتينا } من مقام جودننا أخاك { موسى الكتاب } أي: التوراة مثلما آتيناك الفرقان، ووعدنا فيه معه مثلما وعدنا معك في كتابك هذا من انتقام أهل الفساد والعناد، بل وعدنا هذا الوعد مع كل نبي ورسول آتيناه الكتاب والصحف { فلا تكن } أنت أيضا يا أكمل الرسل { في مرية } أي: شك وارتياب { من لقآئه } أي: إنجاز هذا الموعود وإتيانه على الوجه الذي وعدناه في التوراة { و } كيف ترتاب في وعدنا هذا مع أنا قد { جعلناه } أي: التوراة { هدى لبني إسرائيل } [السجدة: 23] يهتدون به إلى المعالم الدينية، والمعارف اليقينية، والحقائق العلية، والمكتشفات السنية؟!.
{ و } كيف لا وهم من خواص عبادنا وخلصهم؛ إذ قد { جعلنا منهم أئمة } أمناء هادون، مهديون مقتدون { يهدون } الناس { بأمرنا } ووحينا إياهم، وإلهامنا إليهم إلى ديننا وتوحيدنا، وإنما أعطيناهم ما أعطيناهم من الكرامات { لما صبروا } أي: حين وطنوا نفوسهم على تحمل ما لحقهم في إعلاء كلمة الحق، وإفشاء أعلام الدين من المتاعب والمكروهات المؤدية إلى إتلاف النفس، وبذل المهج وأنواع المصيبات { و } هم { كانوا } في أنفسهم { بآياتنا } النازلة إياهم، الدالة على كمال قدرتنا، الواردة في أي شيء أردناه { يوقنون } [السجدة: 24] يذعنون، لا يترددون فيها ولا يتذبذبون، وأنت يا أكمل الرسل أولى وأحق منهم بإيقان آياتنا وإذعانها.
{ إن ربك } الذي رباك بأنواع الكرامات، وأيدك بأصناف الخوارق والمعجزات { هو } بذاته ومقتضى حكمته المتقنة، وأحكامه المبرمة { يفصل } ويقضي { بينهم } أي: بين المحقين والمبطلين، ويميز كلا منهم عن صاحبه { يوم القيامة } المعدة للقطع والفصل، وتنفيذ الأحكام والحكومات، فومئذ يظهر لهم الحق { فيما كانوا فيه يختلفون } [السجدة: 25] من الأمور الدينية، والمعارف اليقينية.
[32.26-30]
{ أولم يهد لهم } أي: أهل مكة إلى سبيل الرشاد، ولم يوقظهم عن هجعة الغفلة ورقاد العناد { كم أهلكنا } أي: ك ثرة إهلاكنا واستئصالنا { من قبلهم من } أهل { القرون } الماضية الهالكة، المغرورين أمثالهم بالكبر والخيلاء بما عندهم من المال والجاه والثورة، مع أن هؤلاء المعاندين { يمشون } ويمرون { في مساكنهم } الخربة، ودورهم المندرسة حين ارتحالهم نحو متجارهم وما يعتبرون منها { إن في ذلك } أي: في رؤية تلك المنازل والأطلال المغمورة، والبلاد المقهورة { لآيات } دلائل واضحات، وشواهد لائحات على كمال قدرتنا واختيارنا، وشدة انتقامنا وقهرنا { أفلا يسمعون } [السجدة: 26] مقتضيات الآيات، ولا يتدبرون فيها حق التدبير والتفكر؛ حتى يتخلصوا عن أودية الضلالات، وأغوار الجهالات، ويتصفوا بأنواع الهدايات والكرامات؟!.
{ أولم يروا } ولم يبصروا أولئك المعاندون المنكرون على كمال قدرتنا، ووفور حكمتنا واختيارنا { أنا } من مقام جودنا ولطفنا كيف { نسوق المآء } بالتدابير العجيبة، والحكم البديعة من تصعيد الأبخرة والأدخنة، وتراكم السحب منها، وتقاطر المطر من فتوقها وخلالها { إلى الأرض الجرز } التي قطع نباتها من غاية يبسها وجمودها { فنخرج به } أي: الماء الذي سقنا { زرعا } أي: أنواعا من الأقوات { تأكل منه أنعامهم } أوراقه وتبنه { وأنفسهم } حبوبه وثمرته { أفلا يبصرون } [السجدة: 27] أولئك المصرون المنكرون هذه القدرة العجيبة، فيستدلون بها على قدرتنا الكاملة، وحكمتنا البليغة البالغة بعدما سمعوا منك يا أكمل الرسل أن ربك يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟!.
{ ويقولون } مستهزئين معك، متهكمين : { متى هذا الفتح } والفصل الذي وعدتم به، أخبرونا وقته { إن كنتم صادقين } [السجدة: 28] في دعواكم؛ حتى نتهيأ ونتزود، ونؤمن به كماآمنتم؟.
{ قل } يا أكمل الرسل في جوابهم: { يوم الفتح } هو يوم القيامة المعدة؛ لتنقيد الأعمال والحساب، فومئذ { لا ينفع الذين كفروا } في النشأة الأولى مدة أعمارهم { إيمانهم } فيها { ولا هم } حينئذ { ينظرون } [السجدة: 29] ويمهلون؛ حتى يتداركوا ما فوتوا على نفوسهم طول عمرهم من الإيمان بالله، والامتثال بأوارمه ونواهيه، وتصديق الرسل والكتب، وجميع معالم الدين وشعائر الإسلام.
وبعدما تمادوا في الغفلة الضلال، وبالغوا في العتو والعناد { فأعرض } يا أكمل الرسل { عنهم } ولا تلتفت إلى هذياناتهم، واصرف عنان عزمك عن هدايتهم وإرشادهم بعدما تاهوا في تيه الغي والضلال، وأصروا عليها { وانتظر } النصر والظفر، والغلبة عليهم { إنهم منتظرون } [السجدة: 30] أيضا؛ ليغلبوا عليك ويظفروا. ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
خاتمة السورة
عليكم أيها السالك القاصد سلوك سبيل التوحيد، والناسك المجاهد مع أعدى عدوك الذي بين جنبيك، أعانك الله ونصرك على عدوك أن تتصبر وعلى متاعب العبودية، ومشاق التكاليف الواقعة في إتيان المأمورات الشرعية، وترك المألوفات الطبيعية، سيما فيما أشكل أمره عليك، ودفعه عندك من انقهار أمارتك وانزجارها، وانتقامك عنها مفوضا أمورك كلها إلى ربك منتظرا إلى أن يغلبك الحق عليها بعدما وعدك به بأن يجعل سبحانه سلطانة أمارتك مأمورة لك، مطمئنة بحكمك، راضية بجميع ما جرى عليها من سلطان القضاء بلا امتناع وإباء.
فلك حينئذ أن تتمكن في مقام الرضا والتسليم؛ حتى تصير مطمئنتك فانية مضمحلة، متلاشية بحيث لا يبقى فيها من هوية ناسوتها شيء، بل فنيت هويتها في هوية الحق مطلقا، فحينئذ فزت بدوام أبدي، وبقاء سرمدي بلا عروض انقضاء وانصرام، وبلا لحوق انتهاء وانخرام.
هب لنا من فضلك جذبة من هوية ناسوتنا، وتفنينا في هوية لاهوتك يا أرحم الراحمين.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1-4]
{ يأيها النبي } المؤيد من عند العليم الحكيم مقتضى نبوتك التي صرت بها خاتما لدائرة النبوة والرسالة، متمما لمكارم الأخلاق، مكملا لأمر التشريع والتدوين: التقوى والتحفظ من مقتضيات الأراء الباطلة، والأهواء الفاسدة، والتحصن بالله والثقة إليه، وجعله وقايتك عند نزول البلاء وهجوم الأعداء { اتق الله } حق تقاته، واجتنب عما لا يرضى به ربك مطلقا { ولا تطع } في حال من الأحوال أمر { الكافرين والمنافقين } الذين خاصموا معك في إسرارهم وإعلانهم، ولا تتبع أهواءهم الفاسدة وآراءهم الباطلة، وابتغ فيما آتاك الله من مقتضيات استعدادك، وما تفضل عليك امتنانا لك؛ لرضاء الله والفوز بشرف لقاء الله { إن الله } المصلح لأحوال عباده { كان عليما } في حضرةة علمه الحضوري بقابليتك وبمقتضياتها { حكيما } [الأحزاب: 1] في إفاضة ما يعينك وينبغي لك، ويليق بشأنك.
{ و } بعدما جعلت ربك وقاية نفسك، واتخذته وكيلا لشأنك وأمرك { اتبع ما يوحى إليك من ربك } تأييدا لك، وتدبيرا لأمورك وأحوالك، ولا تلتفت إلى هذيانات من عاداك، ولا تبال بمكرهم وحيلهم { إن الله كان } الرقيب عليك وعليهم { بما تعملون } من المخائل الفاسدة، والتلبيسات الباطلة المتعلقة لمقتك وهلاكك { خبيرا } [الأحزاب: 2] يكفيك مؤنة شرورهم ومكرهم، ويغلبك عليهم ويظهر دينك على الأديان كلها.
{ وتوكل على الله } أيها المتحصن بكنف حفظه وجواره، وثق بكرمه ولطفه { وكفى بالله } أي: كفى بالله المراقب عليك في جميع أحوالك { وكيلا } [الأحزاب: 3] لك يراقبك ويحفظظ من شرور من قصد مقتك، وهجومهم عليك، ومكرهم معك، وكن في نفسك متوجها إلى ربك، مخلصا فيه، مائلا بوجه قلبك إلى قبلة وجهه الكريم، ولا تفلتفت إلى من سواه ولا تخطر ببالك غيره؛ إذ لا يسع في القلب الواحد إلا هم واحد.
ولهذه الحكمة العلية { ما جعل } وخلق { الله } العليم الحكيم، المتقن في أفعاله { لرجل } واحد { من قلبين } مشعرين مدركين { في جوفه } حتى لا يتفتت ميله، ولا يتعدد قبلة مقصده ومرماه، وإن خلق له عينين وأذنين ويدين وغيرهما { و } كذا { ما جعل } الله العليم الحكيم { أزواجكم اللائي تظاهرون منهن } وتقولون لهن: أنت علي كظهر أمي { أمهاتكم } حقيقة؛ ليترتب عليها أحكام الأمهات من التحريم، وعدم القربان والفراش معها وغيرها { وما جعل } أيضا { أدعيآءكم } أي: الأجانب الذين تدعونهم أبناء من إفراط المحبة والمودة { أبنآءكم } حقيقة؛ حتى يترتب عليهم أحكام الأبناء من الميراث والمحرمية، وحرمة زوجتهم وابنتهم وغير ذلك من الأحكام.
{ ذلكم } أي: الأمور الثلاثة المذكورة { قولكم } أي: مجرد قول صدر عن ألسنتكم وتكلمتكم { بأفواهكم } لا حقيقة لها سوى الاشتهار { والله } المدبر لأموركم، المصلح لأحوالكم { يقول الحق } أي: الحكم الثابت المتحقق عنده سبحانه، المترتب عليه أحكامه إرشادا لكم، وإصلاحا لحالكم { و } كيف لا { هو } بمقتضى ألوهيته وربوبيته { يهدي السبيل } [الأحزاب: 4] السوي والصراط المستقيم إلى عباده الذين انحرفوا عن سبل السلامة، وطرق الاستقامة في الوقائع والأحكام.
[33.5-8]
وبعدما سمعتم حقيقة القول في أدعياءكم وحقيته { ادعوهم } أي: سموهنم أدعياءكم بأسمائهم، وانسبوهم حين دعائكم وندائكم:إيها { لآبآئهم } المولدين لهم حقيقة لا إلى الداعي إن علموا آباءهم الأصلية النسلية { هو } أي: انتسابهم إلى آبائهم { أقسط عند الله } وأقوم بين المؤمنين، وأقرب إلى الصدق، وأبعد عن الكذب والفرية؛ إذ كثيرا ما اشتهر دعي باسم من تبناه فأراد أن يأخذ منه الميراث، فعليكم ألا تنسبوهم إلا لآبائهم الحقيقيين { فإن لم تعلموا آباءهم } لتنسبوهم إليهم { فإخوانكم في الدين ومواليكم } أي: فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم فيه كسائر المؤمنين، فخاطبوهم مثل خطاب بعضكم بعضا، فقولوا له: يا أخي، ويا صاحبي، ووليي في الدين وغير ذلك.
{ وليس عليكم } أيها المؤمنون { جناح } إثم ومؤاخذة { فيمآ أخطأتم به } أي: بقولكم هذا ونسبتكم هذه إذا صدرت عنكم هفوة على سبيل الخطأ والنسيان، سواء كان قبل ورورد النهي أو بعده { ولكن } تؤاخذون في { ما تعمدت قلوبكم } وصدرت عنكم هذا قصدا؛ إذ قصدكم به يؤدي إلى الافتراء، وتضييع حقوق المؤمنين { وكان الله غفورا } في حق من أخطأ ونسي ثم ذكر فتاب { رحيما } [الأحزاب: 5] عليه يقبل توبته، ويغفر ذاته.
ثم أشار سبحانه إلى تأديب كل من الأمم مع نبيه المؤيد من عنده سبحانه بأنواع التأييدات، والمعجزات الخارقة للعادات، المبعوث إليهم؛ لإرشادهم وتكميلهم، وأمرهم بحسن الأدب معهم والمحافظة على خدمتهم وحرمتهم.
وكيف لا يحسنون الأدب من الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - إذ كل نبي بالنسبة إلى أمته كالأب المشفق العطوف معهم، بل هو خير آبائهم يرشدهم إلى ما هو أصلح لهم في دينهم الذي هو حياتهم الحقيقية، فلهم أن يكونوا معه في مقام التذلل والانكسار التام، والانخفاض المفرط بأضعاف ما وجب عليهم من حقوق الولد النسبي؛ إذ آثار تربية الأنبياء مؤبدة مخلدة، وآثار تربية هؤلاء الآباء متناهية منقطعة، وإن ترتب على تأديبهم وانخافضهم معه من المثوبة الأخروية، فإنما هي راجعة إلى تربية نبيهم.
ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وأكملهم في التربية والإرشاد، فيكون أبوته أيضا أكمل، وإشفاقه ومرحمته لأمته التي هي أفضل الأمم أتم وأوفر؛ لذلك قال سبحانه: { النبي } أي: هذا النبي المؤيد المبعوث إلى كافة الأمم، المتمم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، المكمل لمعالم الدين مراسم المعرفة واليقين { أولى بالمؤمنين } وأحق لهم أن يرجحوا جانبه على نفوسهم، ويختاروا غبطته { من أنفسهم } إذ نسبة تربيته إلى أجسادهم كنسبة تربية الأب المشفق المحافظ ابنه عن جميع ما لا يعنيه، المراقب له في جميع أحواله؛ ليوصله إلى الحياة الأبدية، والبقاء الأزلية السرمدية.
ونسبة تربيته نفوسهم المدبرة لأبدانهم، وإن كانت هي أيضا بتوفيق الله وإقداره إنما هي مقصورة إلى حفظ أجسامهم؛ لئلا تنهم وتنخرم، ولا تزول عنها الحياة المستعارة، وشتان ما بين النسبتين { وأزواجه أمهاتهم } أي: وبعدما ثبت أن تربيته صلى الله عليه وسلم شاملة، وأبوته كاملة صارت أزواجه اللاتي في حجوره صلى الله عليه وسلم وحضانته أمهات المؤمنين في الدين، وحرمتهن أعظم وأولى من حرمة أمهاتهم النسبية؛ إذ هن أتباع له صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فيسري الأدب معه إليهن، وهن أيضا في أنفسهن من الكمالات اللائقة لأنواع الحرمات والكرامات، ومن جملتها: لياقتهن بشرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
فعليكم أيها المؤمنون ألا تنكحوا أزواجه أبدا؛ إذ هن أمهاتكم { و } بعدما سمعتم أيها السامعون المؤمنون أن النبي خير آبائكم في الدين، وأزواجه فضليات أمهاتكم أيضا فيه، وسائر المؤمنات والمؤمنين إخوانك وأخواتكم في الدين، لا تظنوا أن حكم أبوته صلى الله عليه وسلم وأمومتهن - رضي الله عنهن - وأخوة المؤمنين تسري في أحكام الميراث والعصوبة أيضا، بل { أولوا الأرحام } والأقارب المنتمين إليكم بالقرابة النسبية على تفاوت طباقتهم ذكورا أو إناثا { بعضهم أولى } وأحق شرعا { ببعض } أي: بأخذ الميراث من بعض؛ يعني: هم أصحاب الفروض والعصبات يأخذون متروكات المتوفى عنهم، ويحرزونها؛ لقرابتهم النسبية على مقتضى والعصبات يأخذون متروكا المتوفى عنهم، ويحرزونها؛ لقرابتهم النسبية على مقتضى سهامهم المقدرة { في كتاب الله } المنزل عليكم، الموافق لما في حضرة علمه ولوح قضائه من المنبي وأزواجه.
وأجانب { من المؤمنين والمهاجرين } وإن كانوا إخوانا في الدين لا يأخذون من أموالهم شيئا بلا قرابة نسبية { إلا أن تفعلوا } أي: المؤمنون منكم، وتخرجون من أموالهم على الوجه المشروع المستحسن { إلى أوليآئكم } في الدين مع كونهم أجانب لكم { معروفا } أي: وصية مشروعة مستحسنة عقلا وشرعا، غير مؤدية إلى إحراز التركة وتحريم الورثة، وهي التي لا تكون أزيد من ثلث المال { كان ذلك } أي: إخراج الوصية على الوجه المعروف { في الكتاب } الذي يتلى عليكم، وفيما قبلة من الكتب المتلوة على الأمم الماضين { مسطورا } [الأحزاب: 6] مثبتا، فللموصي له أن يأخذها على مقتضى ما ثبت في حكم الله وكتابه.
{ و } كيف لم يحسنوا الأدب أولئك المؤمنون الماضون مع أنبيائهم، وهؤلاء معك، مع أنا ما بعثنا الأنبياء والرسل؛ إلا لإرشاد المؤمنين، وهدايتهم إلى توحيدنا، وإيصالهم إلى زلال تفريدنا، وعلى ذلك أخذنا العهود والمواثيق المؤكدة من الأنبياء تأكيدا وإلزاما، اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين؛ ليحافظوا على ما أمروا { إذ أخذنا من } عموم { النبيين } المبعوثين إلى الأمم الماضين { ميثاقهم } أي: عهودهم الوثيقة المؤكدة { و } خصوصا { منك } يا أكمل الرسل { ومن نوح } النجي { وإبراهيم } الخليل { وموسى } الكليم { وعيسى } الصفي الخالص عن كدر الناسوت من قبل الأب؛ لأنه { ابن مريم } لم يمسها ذكر من بني نوعها، بل إنما ولدته بلا أب إرهاصا لها، ومعجزة لابنها.
خص هؤلاء سبحانه بالذكر اهتماما بشأنهم - صلوات الله عليهم - { وأخذنا منهم } كرره تأكيدا ومبالغة؛ أي: كل واحد منهم، وممن لم نذكر أساميهم من ذوي الغزائم الخالصة { ميثاقا غليظا } [الأحزاب: 7] أي: عهدا وثيقا مؤكدا على ألا تتهاونوا، ولا تتكاسلوا في إرشاد العباد وإبعادهم عن الجور والفساد، وإيصالهم إلى ما أعددنا لهم من المراتب العلية والدرجات السنية.
وأنزلنا عليهم الكتب والصحف المشتملة على الأوامر والأحكام المقربة لتوحيدنا، والعبر والنواهي المعبدة عن الكفر والضلال، وأمرناهم أيضا بتيين الأوامر والنواهي إلى أممهم وتنبيهها عليهم؛ ليتفطنوا على فطرتهم التي جبلوا عليها في عالم الغيب؛ وليتميز عندهم الحق الحقيق بالاتباع من الباطل الزاهق الزائل.
كل ذلك { ليسأل } سبحانه في النشأة الأخرى عن أنبيائه ورسله - صلوات الله عليهم - عن أحوال العباد { الصادقين } الممتثلين بأوامر الله، المجتنبين عن نواهيه { عن صدقهم } وأخلاصهم في أعمالهم ونياتهم فيها، وأحوالهم ومواجيدهم واعتقادهم، وتلقيهم لقبول الحق والمحافظة عليه؛ ليشهد الأنبياء لهم فيفوزوا إلى ما أعد لهم من المراتب والمقامات، وأنواع السعادات والكرامات، مع أن علمه سبحانه بحالهم بغني عن شهادتهم؛ ليسأل أيضا سبحانه عن عناد العباد المصرين على الجور والفساد، المجترئين على الله بالخروج عن حدوده وعن مقتضيات أحكامه؛ ليشهدوا - صلوات الله عليهم - فيساقوا صاغرين مهانين إلى ما أعد الله لهم من الدركات والهوية الجهنمية { و } اعلموا أن الله سبحانه { أعد للكافرين } الجاحدين لأوامر الله ونواهيه المنزلة في كتبه على رسله { عذابا أليما } [الأحزاب: 8] لا عذاب أشد إيلاما منه.
[33.9-12]
ثم نادى سبحانه المؤمنين الموحدين، المواظبين على الطاعات بارتكاب الأوامر واجتناب المنهيات؛ كي يصلوا إلى ما أعد لهم ربهم من المثوبات المكرمات فقال: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: تعداد نعم الله عليكم، وإحصاء فواضله المتوالية المتتالية المتسقة { اذكروا } في عموم أوقاتكم وأحوالكم { نعمة الله } الفائضة { عليكم } على تعاقب الأزمان، وتلاحق الآناء والأحيان، سيما نعمة إنجائكم من أعدائكم ونصركم عليهم، مع كونكم آيسين منه، أذكروا يا أهل يثرب { إذ جآءتكم جنود } متعددة وأحزاب متعاقبة متلاصقة قاصدين لمقتكم واستئصالكم، وهم قريش وغطفان، ويهود بني قريظة وبني النضير، وكانوا زهاء اثني عشر ألفا، وأنتم قليلون فحفرتم الخندق على المدينة، ثم خرجتم تجاه الأعداء ثلاثة آلاف، والخندق بينكم وبينهم فقعدتم متقابلين، ومضى عليها قريب شهر لا حرب بينكم إلا بالترامي بالنبل والحجارة فاضطررتم واضطربتم، فأوجستم في نفوسكم خيفة، وصرتم متذبذبين متزلزلين لا إلى القرار ولا إلى الفرار.
وبعدما أبصرناكم كذلك فاجأنا بإرسال الريح والملائكة إمدادا لكم، وتأييدا { فأرسلنا عليهم ريحا } أي: الصبا، فهبت عليهم إلى حيث تقلع أوتادهم، وتسقط الخيام عليهم، وتطفئ نيرانهم، وتكفي قدورهم، وتجيل خيولهم، وكانت في ليلة شاتية باردة في غاية البرودة { و } أرسلنا عليهم أيضا { جنودا } من الملائكة ظهرت جوانب معسكرهم، بحيث { لم تروها } في تلك الليلة المظلمة، بل لم تروها جندا مثلها أصلا، فقال حينئذ صناديدهم وكبراؤهم: النجاء النجاء، فإن محمدا قد بدأ بالسحر فانهزموا من غير قتال، فنجوتم سالمين عناية من الله، وإنجازا لوعده، ومعجزة لرسوله صلى الله عليه وسلم { وكان الله } المطلع لأحوال عباده { بما تعملون } من حفر الخندق، والتزلزل والتذبذب، والرعب الخفي، وبما يعملون من التحزب والتوافق على استئصالكم { بصيرا } [الأحزاب: 9] رائي عليما منكم أمارات التذبذب والتزلزل.
وكيف لا يتزلزلون { إذ جآءوكم } وهم غطفان { من فوقكم } أي: من أعلى الوادي من قبل المشرق { و } جاءوكم قريش { من أسفل منكم } أي: من أسفل الوادي من قبل المغرب، وأحصرتم حينئذ؛ إذ ليس معكم ما يقابل أحد الجانبين، فكيف بكليهما { وإذ زاغت الأبصار } حينئذ منكم، ومالت عن مستوى نظرها، وتقلقلت حيرة وشخوصا { و } اضطربتم في تلك الحالة إلى حيث { بلغت القلوب الحناجر } من غاية الرغب؛ لأن رئتكم قد انتفخت من الرعب المفرط فارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهي منتهى الحلقوم الذي هو مدخل الطعام والشراب.
{ و } حينئذ { تظنون } أيها الظانون المرعوبون { بالله } الذي وعدكم الغلبة على الأعداء، وإظهار دينكم وأعلاءه على الأديان كلها { الظنونا } [الأحزاب: 10] أي: أنواعا من الظنون، بعضها صالح وبعضها فاسد، على تفاوت طبقاتكم في الإخلاص وعدمه، فمنكم من يظن أن الله منجز وعده الذي وعده لرسوله من إعلاء دينه ونصره على الأعداء؛ إذ لا خلف لوعده سبحانه، ومنكم من يتردد ويتحير بين الأمرين إلى حيث لا يرجح أحدهما؛ لذلك يخاف من ضعف الثقة بالله، وعدم رسوخه في الإيمان.
وبالجملة: { هنالك ابتلي المؤمنون } وجربوا واختبروا؛ كي يتيمز المخلص منهم من المنافق، والثابت الراسخ من المتردد المتزلزل { و } لذلك { زلزلوا زلزالا شديدا } [الأحزاب: 11] من شدة الفزع والهول المفرط إلى حيث كاد أن يخرج أرواحهم من أجسادهم.
{ و } اذك يا أكمل الرسل { إذ يقول المنافقون } حينئذ { و } المؤمنون { الذين } بقي { في قلوبهم مرض } من أمارات الشقاق، ولم يصفوا بعد؛ لحداثة عهدهم حتى يتمكنوا على الوفاق، ويتمرنوا بالاتفاق { ما وعدنا الله ورسوله } من الظفر على الأعداء، وانتشار هذا الدين في الأقطار والأنحاء { إلا غرورا } [الأحزاب: 12] قولا باطلا، وزورا زاهقا زائلا، وبالغوا في ذلك حيث قال متعب بن قشير: بعدنا محمد بفتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز للقتال مع هؤلاء الفرق، فظهر أن وعده ما هو إلا غرور باطل.
[33.13-17]
{ و } اذكر لهم يا أكمل الرسل { إذ قالت طآئفة منهم } أي: من منافقي المدينة، والذين في قلوبهم مرض وضعف اعتقاد ويقين من المؤمنين: { يأهل يثرب } أي: أصحاب المدينة { لا مقام لكم } أي: لا يحسن إقامتكم الآن ومقاومتكم في مقابلة هذه الأحزاب؛ أذ هم ذوو عدد وعدد كثيرة، وأنتم شرذمة قليلون بالنسبة إليهم { فارجعوا } عن دين محمد، وتشتتوا عن حوله؛ حى تسلموا من يد الأعادي { و } بعدما سمعوا قول أولئك المنافقين آمرين بالرجوع والارتداد صاروا مترددين متزلزلين في دينهم؛ حتى { يستئذن فريق منهم النبي يقولون } معتذرين معللين للرجوع والذب عن حول النبي: { إن بيوتنا عورة } غير حصينة، خالية عن المحافظ، فأذن لنا حتى نرجع إلى بيوتنا ونستحفظها { و } الحال أن بيوتهم { ما هي بعورة } بل هي حصينة محفوظة لا خلل فيها، بل { إن يريدون } أي: ما يريدون ويقصدون من هذا القول { إلا فرارا } [الأحزاب: 13] عن الزحف، وإعراضا عن الدين.
{ و } من كما ضعفهم في الدين، وعدم تثبتهم ورسوخهم ي الاعتقاد واليقين: { لو دخلت عليهم من أقطارها } وحصنت جميع جوانبها، بحيث لا يمكن الظفر علكيها إلا لهؤلاء الأحزاب ولا لغيرهم من عساكر الأعداء { ثم } ب عدما تحصنت عليهم بيوتهم كذلك صاروا آمنين من ظفر العدو مطلقا { سئلوا الفتنة } أي: الارتداد عن الإيمان والإسلامن والنصر على المؤمنين { لآتوها } وأعطوها ألبتة هؤلاء الجهلة الضعفة، المتماثلين إلى الكفر ومؤاخاة الكفرة عن صميم فؤادهم، ولجاءوا بالردة عن الدين والقتال مع المسلمين على الفور { وما تلبثوا } وتوقفوا { بهآ } أي: بإعطاء الفتنة والردة بعدما سئلوا عنها { إلا يسيرا } [الأحزاب: 14] أي: آنا واحدا إلا زمانا مقدرا ما يفهمون سؤال السائل واقتراحه.
{ و } كيف لا يعطونها وهم { لقد كانوا } أي: بنو حارثة وبنو سلمة { عاهدوا الله } أي: عهدوا العهد الوثيق مع الله { من قبل } أي: قبل حفر الخندق، وذلك في يوم أحد حين أرادوا أن يفشلوا عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أو تخلفوا عنه يوم بدر، فلما رأوا ما أعطى الأحديون والبدريون من الكرامة العظيمة آجلا وعاجلا قالوا معاهدين: لئن أشهدنا الله قتالا فالنقاتلن، وحلفوا { لا يولون الأدبار } أصلآ، فالآن قد تذبذبوا وتضعفوا، وكادوا أن يولوا { و } لم يعلموا أنه { كان عهد الله } الذين عاهدوا معه سبحانه من قبل { مسئولا } [الأحزاب: 15] عنه وعن نقضه ووفائه، وهم مجزيون بمقتضى ما ظهر منهم من النقض والوفاء؟!.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما تحقق عندك قصد فرارهم وذبهم عنك: { لن ينفعكم الفرار } أبدا، بل { إن فررتم } من ضعف يقينكم، ووهو اعتقادكم { من الموت } حتف الأنف، كما يفر الناس من الطاعون والوباء والزلزلة وغير ذلك { أو القتل } في يم الوغاء { وإذا } أي: بعدما تفرون حينئذ { لا تمتعون } تمتيعا كثيرا مؤبدا، بل ما تمتعون { إلا قليلا } [الأحزاب: 16] في زمان قليل؛ إذ لكل منكم أجل، ولكل أجل قضاء وانقضاء، ولا دوام إلا لمن هو متعال عن الأجل والقضاء والانقضاء، منزه عنه الابتداء والانتهاء، وعن الإعادة والإبداء، مقدس عن تعديد الأزمنة وتحديد الأمكنة مطلقا.
وإن جادلوا معك يا أكمل الرسل، وعاندوا بالفرار والتحصن ننجي من العدو وإهلاكه بحيث لا تبقى لهم يد علينا { قل } لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام: { من ذا الذي يعصمكم } ويحفظكم ويحرزكم { من } قهر { الله } وعذابه { إن أراد بكم سوءا } أي: إصابة بلاء وشدة ومحنة { أو } من ذا الذي يمنع نعكم لطفه سبحانه إن { أراد بكم رحمة } عطفا ومحبة؟! { و } بالجملة: { لا يجدون } أولئك المتذبذبون المتضعفون { لهم } أي: لأنفسهم المراقب عليهم في جميع أحوالهم { من دون الله } يولي أمور تحصنهم وتحفظهم { وليا ولا نصيرا } [الأحزاب: 17] ينصرهم على أعدائهم، وبالجملة: جميع أعمال العباد وأفعالهم مفوضة إلى الله أولا وبالذات، مقهورة تحت قدرته الكاملة، فلهم أن يفوضوها إليه؛ ليسلموا من غوائل العناد والإصرار.
[33.18-20]
وإن اعتذروا بك، وتبرءوا عما كانوا وصاروا عليه، قل لهم: { قد يعلم الله } بعلمه الحضوري { المعوقين } المثبطين { منكم } عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلفين عنه في الحروب والمعارك، وهم المنافقون { و } يعلم أيضا { القآئلين } منكم أيها المنافقون من أهل المدينة { لإخوانهم } ممن في قلوبهم مرض من المؤمنين: { هلم إلينا } أي: قربوا أنفسكم نحونا؛ لتنجو عن المخاوف والمهالك { و } بعدما سمعوا منكم إخوانكم قولكم هذا { لا يأتون البأس } أي: الحراب والقتال { إلا قليلا } [الأحزاب: 18] أي: إتيانا قليلا، بل يثبطون ويسرفون، ويعتذرون بالأعذار الكاذبة.
وبعدما أتوا ما أتوا إلا { أشحة } أي: بخلاء { عليكم } أيها المؤمنون المخلصون لما معكم من المعاونة والنفقة في سبيل الله، أو خوف الظفر وفوت الغنيمة، أو من خوف العاقبة، وإنما فعلوا ذلك قبل القتال { فإذا جآء الخوف } وظهرت أمارات القتال والحراب { رأيتهم } أيها الرائي حين { ينظرون إليك } من شدة خوفهم وخشيتهم { تدور } أي: تتحرك وتضطرب { أعينهم } أي: آماقهم في أحداقهم { كالذي يغشى } أي: يحل ويدور { عليه من } أمارات { الموت } ولاح عليه علامات السكرات { فإذا ذهب الخوف } وزال الرعب والخشية، وانهزم العدو، واجتمعت الغنائم { سلقوكم } أي: جاءوكم مستلقين متسلطين عليكم { بألسنة حداد } ذربة قاطعة، باسطين أيديهم إلى الغنائم وقت قسمتكم، صائحين عليكم: لستم أولى منا وأحق بهذه الغنائم؛ لأنا شهدنا القتال معكم، بل نحن لا نقصر وأنتم قاصرون، فبم ترجحون أنتم علينا، وإنما سلقوكم بها حال كونهم { أشحة } بخلاء { على الخير } الذي وصل إليكم من الغنائم العظام؟!.
وبالجملة: { أولئك } البعداء الهالكون في تيه النفاق والشقاق { لم يؤمنوا } بتوحيد الله ، ولم يخلصوا الإيمان به وبرسوله وكتابه، بل: إنما آمنوا واعترفوا باللسان؛ لحقن الدماء والأموال خداعا ومكرا؛ ولذلك مكر الله المطلع على نياتهم بهم { فأحبط الله أعمالهم } الصالحة، وأبطلها عليهم بلا ترتيب الجزاء والمثوبات، كما لأعمال المخلصين من المؤمين { وكان ذلك } الإحباط والإبطال { على الله } القادر لجميع ما ثبت في لوح قضائه { يسيرا } [الأحزاب: 19] سهلا غير عسير عنده.
وإن استعسرتم أيها المحجوبون بالحجب الظلمانية الكثيفة، ومن كمال غيهم وضلالهم، ونهاية جبنهم ورعبهم من الأحزاب { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } ولم ينهزموا، مع أنهم ذهبوا منهزمين إلى حيث لم يبق منهم أحد { و } هم من كمال محبتهم ومودتهم مع الأحزاب { إن يأت الأحزاب } ويكروا بعد الفرار { يودوا } هؤلاء المنافقون إتيانهم إلى حيث تمنوا { لو أنهم بادون } ظاهرون { في } البدو { الأعراب } أي: فيما بينهم، خارجون عن أظهر المسلمين، لا حقون بالكفرة، معدودون من عدادهم حتى { يسألون } كل قادم من قبلكم { عن أنبآئكم } وأخباركم، وما جرى عليكم أيها المؤمنون من الوقائع الهائلة والمصيبات المهولة { و } من كمال ودادتهم مع الكفرة: { لو } فرض أنهم { كانوا فيكم } وقت كر الكفرة عليكم { ما قاتلوا } من المنافقين من قبلكم مع أعدائكم { إلا قليلا } [الأحزاب: 20] منهم، وهو أيضا على سبيل الرياء والسمعة، ومقتضى ما زعموا من جلب النفع أو دفع الضر، لا لرضاء الله وإعلاء دينه ونصرة نبيه.
[33.21-24]
ثم قال سبحانه تحريكا لحمية المؤمنين: { لقد كان لكم } أيها المؤمنون المخلصون، الطالبون التخلق بأخلاق الله، الهاربون عن أخلاق أعدائه { في رسول الله } المبعوث؛ لإرشادكم وإهدائكم { أسوة حسنة } أي: خصلة حميدة بديعة يجب التأسي والاتصاف بها { لمن كان يرجوا الله } أي: لقاءه ومطالعة وجهه الكريم { و } يرجو أيضا { اليوم الآخر } الموعود يه هذه الكرامة العظيمة، وبواسطة هذا الرجاء وغلبة هذه الأمنية العظيمة في خاطره { وذكر الله كثيرا } [الأحزاب: 21] في عموم الأعيان والأحياز؛ لتلذذه بذكره سبحانه؛ حتى ينال ما وعد من الفوز بشرف اللقاء، ومن كان كذلك، وهمه ذلك فهو مؤتس بالرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الخصلة المحمودة، والديدنة المسعودة المقبولة عند الله التي هي الرضا بجميع ما جرى عليه من القضاء.
ومن علامات الثبات على العزيمة، وتحمل الشدائد، ومقاساة الأحزان، وارتكاب المتاعب والمشاق في إعلاء دين الله وكلمة توحيده، والتوكل نحوه في الضراء والسراء، وكظم الغيظ عند هجوم الغضب، والعفو عند القدرة وغير ذلك من الخصائل الحميدة والأخلاق الجميلة المرضية { و } من شدة تأثير هذه الخصائل الجميلة في قلوب المؤمنين { لما رأى المؤمنون } المخلصون { الأحزاب } حواليهم { قالوا } متذكرين لوعد الله، متثبتين على دينه، متشمرين لإعلاء كلمة توحيده: { هذا } الوقت وقت إنجاز { ما وعدنا الله ورسوله } من النصر والغلبة على الأعداء، والفوز بأنواع الغنائم والعطاء عاجلا وآجلا بقوله سبحانه:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم...
[البقرة: 214] وقوله عليه السلام:
" سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم العاقبة لكم عليهم "
، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر ".
{ وصدق الله ورسوله } في جميع ما جاءنا من قبل الله ورسوله من الوعد والوعيد، وأنواع النعم والعطاء، والمحن والبلاء { و } من كمال تثبتهم وتفويضهم على الله، وتوكلهم نحوه: { ما زادهم } إلمام الخطوب وحدوث الوقائع، ونزول المحن والبليات { إلا إيمانا } بالله وكمال قدرته وعلمه وإرادته، وسائر صفات الذاتية والفعلية { وتسليما } [الأحزاب: 22] لعموم ما جرى عليهم من صولجان قضائه بلا تلعثم وتذبذب في إيمانهم واعتقادهم.
ومن غاية خلوصهم في إيمانهم وتسليمهم { من المؤمنين } المشمرين لإعلاء دين الله ونصرة رسوله على العزيمة الكاملة الصادقة { رجال } أبطال كاملون في الإخلاص والشجاعة والوفاء { صدقوا } في جميع { ما عاهدوا الله عليه } أي: نجزوا مواثيقهم، ووفوا عموم عهودهم التي عهدوا مع الله ورسوله من الثبات على العزيمة، والتصبر في المعركة، وعدم التزلزل من المحل الذي عين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في صف القتلا، ولم يجنبوا ولم يضعفوا أصلا.
{ فمنهم من قضى نحبه } ووفى نذره بأن قاتل مع أعداء الله على مقتضى ما عاهد ونذر حتى استشهد ووصل إلى مرامه ومبتغاه، كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر - رضون الله عليهم أجمعين - { ومنهم من ينتظر } الشهادة، كعثمان وطلحة فقاتلوا مع الأعداء وقتلوهم، ونجواو منهم سالمين منتظرين إلى قتال آخر؛ ليستشهدوا فيه { و } من كمال تثبتهم وتمكنهم في تعيينهم، وإخلاصهم في إيمانهم: { ما بدلوا } من النذور والعهود التي أتوا بها عازمين عليها جازمين، ولا أضمروا في أنفسهم، كالمنافقين { تبديلا } [الأحزاب: 23] شيئا حقيرا من التبدل والنقص، فكيف بالعظيم الكثير؟! بل زادوها وأكدوها.
كل ذلك { ليجزي الله } المجازي لأعمال عباده { الصادقين } المخلصين منهم { بصدقهم } أي: جزاء حسنا يناسب صدقهم وإخلاصهم، أو بواسطة صدقهم وإخلاصهم { ويعذب المنافقين } منهم، وليجازيهم بمقتضى كفرهم ونفاقهم تعذيبا مخلدا مؤبدا { إن شآء } وتعلق إرادته ومشيئته بتخليدهم في العذاب { أو يتوب عليهم } ويوفقهم على الإيمان والإخلاص، إن علق إرادته بإيمانهم وإنقاذهم من العذاب الأبدي { إن الله } القادر المقتدر على جميع ما أحاط تحت قدرته { كان غفورا } ساترا لذنوب من وفقهم على التوبة من عصاة عباده { رحيما } [الأحزاب: 24] يقبل توبتهم، ويرحم عليهم بعدما أخلصوا فيها.
[33.25-27]
{ و } من كمال لطف الله على المؤمنين، ووفور رحمته وإحسانه عليهم { رد الله } عنهم كيد أعدائهم { الذين كفروا } يعني: الأحزاب المزدحمين حواليهم، المتفقين على مقتهم { بغيظهم } أي: مع كمال غيظهم في مقت المؤمنين، ووفور تهورهم وجرأتهم عليك؛ لذلك طردهم سبحانه خائبين خاسرين، بحيث { لم ينالوا خيرا } مما أملوا في نفوسهم من الظفر على المؤمنين واستئصالهم { و } من كمال رأفته سبحانه عل المؤمنين: { كفى الله المؤمنين القتال } أي: مؤنة قتال الأحزاب بريح الصبا وجنود الملائكة، بحيث لم يقدم أحد من المؤمنين لقتالهم فانهزموا إلى حيث لم يلتفت أحد منهم خلفه، ولم يعاون أخاه { و } ليس ببدع من الله أمثال هذه الكرامات لأنبيائه وأوليائه؛ إذ { كان الله } المراقب لأحوال عباده { قويا } قديرا في نفسه يقوي أولياءه { عزيزا } [الأحزاب: 25] غالبا ينصرهم ويغلبهم على أعدائهم فضلا لهم وكرامة عليهم.
{ و } بعدما كفى الله المؤمنين مؤنة الأحزاب أراد أن يكفيهم مؤنة معاوينهم؛ لذلك { أنزل } سبحانه { الذين ظاهروهم } وعاونوهم؛ أي: الأحزاب { من أهل الكتاب } يعني: يهود قريظة والنضير { من صياصيهم } أي: حصونهم وقلاعهم، جميع صيصية، وهي ما يتحصن به من الجبل وغيره، وذلك أنه بعدما انهم الأحزاب، ورجعوا خائبين خاسرين إلى بلادهم، ورجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع أصحابه، وشرع يغسل رأسه، والأصحاب قد انتزعوا عن أسلحتهم، فجاءه جبريل معتجرا بعمامة من إستبرق، والنقع على ثناياه وعلى فرسه الذي اسمه حيزوم، وقال: وضعتم السلاح، إن الملائكة لم تضع أسلحتها منذ أربعين ليلة، إن الله يأمرك بالمسير إلى قريظة، وإني مزلزل حصونها، وكان صلى الله عليه وسلم قد غسل نصف رأسه فعصبه وأذن بالرحيل، فقال:
" من كان سامعا ومطيعا فلا يصلين العصر إلى في بني قريظة ".
وأعطى رايته عليا - كرم الله وجهه - فسار بالناس حتى دنا من الحصن فحاصرهم عليه السلام إحدى و عشرين، أو خمسا وعشرين ليلة، وأجهدهم الحصار وضعفوا { وقذف في قلوبهم الرعب } أي: الخوف مع كونهم متحصنين، فأرسل عليه السلام فقال لهم: أتنزلون بحكمي فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ، فرضوا بحكمه فنزلوا، فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" لقد حكمت بحكم الله يا سعد من فوق سبعة أرقعة "
فقتل منهم ستمائة وأكثر، وأسر منهم سبعمائة، كما قال سبحانه { فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } [الأحزاب: 26].
{ و } بعدما استأصلوا بالأسر والقتل { أورثكم } الله سبحانه إليكم أيها المؤمنون { أرضهم } أي: مزارعهم { وديارهم } التي تسكنون فيها مع ما فيه من الأمتعة والرخوة { وأموالهم } أي: مواشيهم ونقودهم وتجارتهم تفضلا عليكم، وامتنانا { و } كذا تفضل سبحانه عليكم، وأورثكم { أرضا لم تطئوها } أي: لم تتحركوا عليها، بل لم تبصروها ولم تسيروا إليها أصلا، وهي خيبر أو مكة، أو فارس أو الروم، أو كل أرض يفتح الله إلى يوم القيامة { و } لا تتعجبوا من كمال فضل الله وسعة جوده أمثال هذه الكرامات؛ إذ { كان الله } المتفرد بالقدرة الكاملة، والقوة التامة الشاملة { على كل شيء } من مقدوراته ومراداته { قديرا } [الأحزاب: 27] لا يعسر عنده مقدور دون مقدور، بل الكل في جنب قدرته على السواء،
فارجع البصر هل ترى من فطور
[الملك: 3] في مقدور حكيم قدير
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير
[الملك: 4].
[33.28-31]
ثم لما اشتكت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من العسرة في المأكل والمشرب والملبس، وسألن منه ثياب الزينة والزيادة في النفقة، واسعة في المعيشة، وليس معه صلى الله عليه وسلم من حطام الدنيا ما يكفي مؤنتهن على هذا الوجه اغتم رسول الله صلى الله عليه سلم، وتحزن حزنا شديا، فقال تعالى مناديا له: { يأيها النبي } المباهي بالفقرة والعسرة { قل لأزواجك } حين يسألن عنك أسباب التنعم والترفه، وسعة العيش على سبيل التخيير: { إن كنتن } أيتها الحرائر العفائق { تردن الحياة الدنيا وزينتها } يعني: مطاعمها الشهية، وملابسها البهية { فتعالين } وتراضين { أمتعكن } أي: أعطيكن المتعة حسب ما ترضين { وأسرحكن } أي: أطلقن بعد إعطائها { سراحا جميلا } [الأحزاب: 28] طلاقا بينا لا بدعيا بلا ضرر ولا إضرار.
{ وإن كنتن تردن الله ورسوله } أي: رضاء الله ورضاء رسوله { و } تطلبن { الدار الآخرة } أي: المثوبات المعدة يها، الجنان الموعدة عليها فعليكن أن تصبرن على ملاذ الدنيا ومشتهياتها، وسعة مطعوماتها ولين ملبوساتها؛ حتى تكن من زمرة المحسنات اللاتي تحسن في توجههن نحو الحق واللذة الأخروية، مائلات من أمتعة الدنيا ولذاتها وشهواتها، منصرفات عنها وعن أمتعتها وألبستها، سوى سد جوعة وستر عورة { فإن الله } المطلع لضمائر عباده { أعد للمحسنات } المرجحات جانب الله وجانب رسوله على مقتضى نفوسهن، واللذات الأخروية على الدنيا وما فيها { منكن أجرا عظيما } [الأحزاب: 29] يستحقر دونها الدنيا ما فيها من اللذات الفانية، والشهوات الغير باقية.
ثم لما نبه سبحانه عليهن طريق الأحسان، وعلمهن سبيل الفوز إلى درجات الجنان أراد أن يجنبهن ويبعدهن عن دركات النيران، فقال مناديا عليهن؛ ليقبلن إلى قبول ما يبتلى عليهن: { ينسآء النبي } - أضافهن سبحانه إياه صلى الله عليه وسلم؛ للتعظيم والتوقير - من شأنكن التحصن والتحفظ عن الفحشاء، والتحرز عن المكروهات مطلقا { من يأت منكن بفاحشة } وفعلة قبيحة، وخصلة ذميمة عقلا وشرعا { مبينة } أي: بينة ظاهرة فحشها بنفسها، أو ظاهرة واضحة قبحها شرعا وعرفا - على كلتا القراءتين - { يضاعف لها العذاب ضعفين } يعني: عذابكن ضعف عذاب سائر الحرائر لا أزيد منها؛ حتى لا يؤدي إلى الظلم المنافي للعدالة الإلهية، كما يضاعف عذاب سائر الحرائر بالنسبة إلى الإماء { وكان ذلك } التضعيف { على الله يسيرا } [الأحزاب: 30] يعذبكن أن تأتي إحداكنن بها.
{ ومن يقنت } ويطع على سبيل الخضوع { منكن لله ورسوله } ويداوم على إطاعتهما وانقيادهما بإتيان الواجبات، وترك المحظورات والمكروهات { وتعمل صالحا } من النوافل والمندوبات { نؤتهآ أجرها } أي: جزاء أعمالها وطاعاتها في يوم الجزاء { مرتين } مرة على مقابلة الأعمال المأتية ومقتضى الطاعات المرضية، ومرة على ترجيحها رضا الله ورضا رسوله على مشتهيات نفسها { وأعتدنا } تفضلا { لها } وامتنانا عليها وراء ما استحقت بالأعمال والطاعات { رزقا كريما } [الأحزاب: 31] صوريا في الجنة مما تشتهي نفسها وتلذ عينها، ومعنويا من الحالات الطارئة عليها عند اسغراقها بمطالعة جمال الله وجلاله.
[33.32-34]
ثم ناداهن سبحانه تعظيما لهن، وتنبيها عليهن فقال: { ينسآء النبي } الأفضل الأكمل من بين الأنبياء والرسل، كما أن صلى الله عليه وسلم ليس في الكرمة والنجابة كآحاد الناس، بل ليس كآحاد الأنبياء والرسل، كذلك { لستن } أيضا؛ لنسبتكن إليه صلى الله عليه وسلم { كأحد } أ ي: كواحدة { من النسآء } لأن فضيلته صلى الله عليه وسلم تسري إليكن، فعليكن ألا تغفلن عنها، ولا تذهلن عن مقتضاها ورعاية حقوقها، بل من شأنكن التحصن والتقوى، والتحرز من ملهيات الهوى مطلقا، فلكن { إن اتقيتن } يعني: إن أردتن أن تتصفن بالتقوى عن محارم الله { فلا تخضعن } أي: لا تلن وتلطفن { بالقول } وقت احتياجكن إلى التكلم مع آحاد الرجال من الأجانب، ولا تجبن عن سؤالهم هينات لينات مريبات، مثل تكلم النساء المريدات لأنواع الفسادات مع المفسدين من الرجال { فيطمع الذي في قلبه مرض } وميل إلى الفجور إليكن بعدما سمع منكن تليينكن في قولكن { و } بالجملة: { قلن } بعدما تحتجن إلى التكلم معهم ضرورة { قولا معروفا } [الأحزاب: 32] مستحسنا عقلا وشرعا، بعيدا عن الريبة المثيرة للطمع، خاليا عن وصمة الملاينة المحركة للشهوات.
{ وقرن } أي: اسكن { في بيوتكن } يعني: يا نساء النبي من شأنكن التقرر والتخلي في البيوت بلا تبرز إلى الملأ بلا ضرورة رعاية لمرتبتكن التي هي أعلى مرتبة عموم النساء { و } إناحتجتن إلى التبرز والخروج أحيانا { لا تبرجن } ولا تبخترن في مشيتكن مظهرات زينتكن، مهيجات لشهوات الناظرين { تبرج الجاهلية الأولى } أي: كتبختر النساء المثيرات لشهوات الرجال في الجاهلية القديمة التي هي جاهلية الكفر، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام.
خص سبحانه الأولى بالذكر، وإن كانت كلتاهما مذمومتان محظورتان شرعا؛ لأنها أفحش وأقبح وأظهر فسادا؛ لأن النساء فيها يتزين بأنواع الزينة، ويظهرن على الرجال بلا تستر واستحياء، بل بملاينة تامة وملاطفة كاملة على سبيل الغنج والدلال، وأنوع الحركات المطمعة للرجال { و } من حقكن يا نساء النبي الاجتناب عن مطلق المنكرات، والاشتغال بالطاعات والأعمال الصالحات، سيما المواظبة على الصلوات النوافل والمفروضات { أقمن الصلاة } المقربة لكن إلى الله على الوجه الذي علمتن من النبي صلى الله عليه وسلم { وآتين الزكاة } المطهرة لنفوسكن عن الشح، وأنواع المرض المتولدة من حب الدنيا وأمانيها إن بلغ أموالكن النصاب المقدر في الشرع.
{ و } بالجملة: { أطعن الله ورسوله } إطاعة مقارنة بكمال الخشوع والخضوع، والتذلل التام بالعزيمة الصحيحة الخالصة، الخالية عن شوب الرياء والرعونات مطلقا في جميع ما أمرتن بها، ونهيتن عنها { إنما يريد الله } المصلح لأحوال عباده الخلص بإتيان هذه المواعيظ والتذكيرات البليغة، والتنبيهات العجيبة البديعة { ليذهب عنكم الرجس } أي: يزيل القذر المستقبح المستهجن عقلا وشرعا بالمرة يا { أهل البيت } المجبولين على الكرامة والنجابة { ويطهركم } عن أدناس الطبيعة، وأكدار الهيولي المانعة عن الصفاء الجبلي الذاتي { تطهيرا } [الأحزاب: 33] بليغا، بحيث لا تبقى فيكم شائبة شين، ووصمة عيب أصلا، ذكر الضمير؛ لأن النبي وعليا وابنيه صلى الله عليه وسلم فيهم فغلب هؤلاء الذكور له على فاطمة وأزواج النبي، رضوان الله عليهم.
{ و } بعدما سمعتن يا نساء النبي ما يليق وينبغي بشأنكن { اذكرن ما يتلى } لإصلاح أحوالكن وتكميلكن في الدين { في بيوتكن } غير مخرجات لطلبه؛ إذ بيوتكن مهبط الوحي الإلهي، ومحل نزول الآيات المنزلة، فلكنذ أن تلازمن خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتشاهدن عليه من برحاء الوحي الموجب لقوة الإيمان وكمال اليقين والعرفان، فليس لكن أن تخرجن من بيوتكن، وتتعبن أنفسكن في طلب ما يتلى { من آيات الله } الدالة على توحيد ذاته، وكمال أسمائه وصفاته { والحكمة } المتقنة الدالة على متانة فعله ووثاقة تبديره { إن الله } المطلع للسرائر والخفايا { كان لطيفا } يعلم دقائق ما في ضمائر عباده ورقائقه { خبيرا } [الأحزاب: 34] ذو خبرة كاملة على سوانح صدورهمه، وخواطر قلوبهم، فعليهم أن يخلصوا الله في جميع ما أتوا به، واجتنبوا من الأوامر والنواهي وانقادوا له، ويسلموا إليه مفوضين أمورهم كلها.
[33.35-36]
{ إن المسلمين } المسلمين المخصلين، المفوضين أمورهم كلها إليه سبحانه { والمسلمات } المفوضات المخلصات { والمؤمنين } الموقنين الموحدين { والمؤمنات } الموقنات الموحدات { والقانتين } الخاضعين، المتذللين مع الله في جميع الطاعات والعبادات، بل في جميع الحالات { والقانتات } الخاضعات الخاشعات { والصادقين } في جميع الأقوال، المخلصين في جميع الأحوال والأعمال { والصادقات } أيضا كذلك { والصابرين } فلي البأساء والضراء لجميع ما جرى عليهم من القضاء { والصابرات } أيضا كذلك { والخاشعين } المتواضعين، المتضرعين نحو الحق بجوائجهم وجوارحهم { والخاشعات } أيضا كذلك { والمتصدقين } بما عندهم من فواضل الصدقات طلبا لمرضات الله، وهربا من سخطه { والمتصدقات } أيضا كذلك.
{ والصائمين } الممسكين نفوسهم مطلقا عما لا يرضى عنه سبحانه { والصائمات } الممسكات أنفسهم كذلك { والحافظين فروجهم } عن أمارات الزنا، ومقدما السفاح مطلقا { والحافظات } أيضا { والذاكرين } المشتغلين بذكر الله باللسان والجنان والأركان { الله } باسمه الجامع الشامل لجميع الأسماء والصفات لا على سبيل التعديد والإحصاء، ولا في جين دون حين، بل { كثيرا } مستوعبا لجميع الأعيان والأزمان، والأوقات والحالات { والذاكرات } أيضا كذلك { أعد الله } المصلح لأحوالهم، المطلع لما جرى في ظهورهم وبواطنهم ن الإخلاص على وجه التذلل والانكسار { لهم } أي: لهؤلاء المتصفين بالصفات المرضية، والأخلاق المحمودة المقبولة عند الله { مغفرة } سترا وعفوا لما صدر عنهم من الصغائر هفوة، ومن الكبائر أيضا بعدما تابوا عنها، وأخلصوا في التوبة والإنابة على وجه الندامة { وأجرا } جزيلا جميلا لصالحات أعمالهم { عظيما } [الأحزاب: 35] بأضعاف ما استحقوا بحسناتهم تفضلا عليهم وامتنانا.
ثم لما أراد رسول الله أن يزوج بنت عمته التي هي أميمة بنت عبد المطلب، المسماة زينب بنت جحش لزيد بن الحارثة الذي هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتيقه، فأبت هي وأمها أميمة، وأخوها عبد الله بن جحش، فأعرضوا عن تزويجها إليه، ولم يختاروا؛ لئلا يلحق العار عليهم من تزويج الشريفة بالمولى، فنزلت: { وما كان } يعني: ما صح وجاز { لمؤمن } أي: لواحد من المؤمنين { ولا مؤمنة } واحدة من المؤمنات بعدما أخلصوا الإيمان بالله ورسوله أن يتخلفوا عن حكمهما أصلا، سيما { إذا قضى الله } الحكيم المتقن في أفعاله.
{ و } نفذ { رسوله أمرا } من الأمور المقضية، وحكما من الأحكام المبرمة { أن يكون } ويبقى { لهم الخيرة } أي: الاختيار والترجيح بأن يختاروا { من أمرهم } المحكوم به، المقضي عليه شيئا يخالف الحكم الواقع منهما أو يوافقه، بل لهم؛ أي: يطيعوا وينقادوا لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو حكم الله حقيقة { ومن يعص الله ورسوله } بتغيير ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعاء الاختيار في المأمور به { فقد ضل } عن طريق الهداية { ضلالا مبينا } [الأحزاب: 36] وانحرف عن منهج الصواب والرشاد انحرافا عظيما، وبعدما نزلت الآية رضيت زينب وأمها وأخوها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكحها على زيد.
[33.37-39]
{ و } بعدما سمعت يا أكمل الرسل من زيد ما سمعت اذكر { إذ تقول للذي أنعم الله عليه } بأن وفقه للإيمان وقبول الإسلام، وشرفه بشرف خدمتك وصحبتك { وأنعمت عليه } بأن أعتقته ودعوته ابنا { أمسك عليك زوجك } بعدم لم يريك منها شيئا { واتق الله } المنتقم الغيور، واحذر عن بطشه بطلاق العفيفة، والمفارقة منها بلا وصمة عيب ظهرت عنها، وسمة نقص لاحت منها { و } أنت يا أكمل الرسل حينئذ { تخفي في نفسك } حين قولك لزيد هذا { ما الله } المظهر لما في الصدور { مبديه } مظهره ومعلنه من ميلك إلى زينب ونكاحها، وأرادتك لطلاق زيد وافتراقه عنها { و } سبب إخفائك هذا، وإظهارك ضد مطلوبك أنك { تخشى الناس } من أن يعيروك بمناكحة زوجة عتيقك ودعيتك، ويرموك بما لا يليق بشأنك، مع أنك بريء عنه { والله } المطلع على جميع ما ظهر وبطن { أحق } وأولى من { أن تخشاه } وتستحي منه؛ إذ هو سبحانه غيور ينتقم عمن يشاء، ويأخذه على من يشاء.
وهذا عتاب شديد وتأديب بليغ، قالت عائشة - رضي الله عنها: لو كتم النبي شيئا مما أنزل إليه لكتم هذه الآية، فطلقها زيد ومضى عليها العدة، قال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاذكرها علي فذهب، فقال: يا زينب إن نبي الله أرسنلي إليك بذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤمر من ربي، وقامت إلى الصلاة، فنزلت: { فلما قضى زيد منها } أي: من زينب { وطرا } أي: حاجة، وطلقها ومضت عدتها { زوجناكها } يعني: زوجناك يا أكمل الرسل زينب بلا نصب ولي من الجانبين على المعهود في الشرع، بل أبحنا لك الدخول عليها بلا عقد، وجعلناها زوجتك بلا مهر؛ لذلك كانت تباهي على سائر نسائه صلى الله عليه وسلم قائلة: إن الله تولى نكاحي، وأنتن زوجكن أولياؤكن.
فدخل صلى الله عليه وسلم بلا إذن، ولا عقد نكاح، ولا صداق، ولا شهود، وأطعم الناس خبزا ولحما، ثم قال سبحانه: { لكي لا } يعني: فعلنا ذلك؛ لكيلا { يكون على المؤمنين حرج } ضيق وإثم { في } تزوج { أزواج أدعيآئهم } الذين تبنوهم { إذا قضوا منهن وطرا } يعني: بعدما طقوهن وسرحوهن سراحا جميلا { وكان أمر الله } وحكمه المبرم، المثبت في لوح قضائه { مفعولا } [الأحزاب: 37] مقضيا نافذا كائنا على تعاقب الأحيان والأزمان.
ثم قال سبحانه تسلية لنبيه، وحطا عنه العار في أمثال هذه الأفعال الكائنة في قضاء الله، المقضية في حضرة علمه: { ما كان } أي: ما لحق وعرض { على النبي } المؤيد من عند الله بأنواع التأييدات المنتظرة على لاوحي الإلهام في جميع أفعاله وأعماله { من حرج } ضيق وإثم سآمة، ووخامة عاقبة { فيما فرض الله له } صلى الله عليه سولم؛ أي: في جميع ما قدر الله له، وكتب لأجله في لوح قضائه من الحوادث الكائنة الجارية عليه صلى الله عليه وسلم على تعاقب الأزمان والأوقات، ومن جملتها: هذا النكاح، وليس أمثال هذا ببدع منا مخصوص بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، بل { سنة الله } الحكيم العليم، المتقن في أفعاله المستمرة القديمة التي سنها سبحانه { في الذين خلوا } ومضوا { من قبل } من الأنبياء والرسل { وكان أمر الله } المثبت في لوح قضائه، وحكمه المبرم في حضرة علمه { قدرا مقدورا } [الأحزاب: 38] حتما مقضيا، مبرما محكوما به ألبتة.
وكيف لا يقضي ولا يحكم بالسنن المقدرة للأنبياء والرسل، وهم { الذين يبلغون رسالات الله } المحمولة عليهم إلى من أرسلوا إليهم من الأمم بلا تبديل ولا تغيير { ويخشونه } ويخافون عنه سبحانه في جميع أحواله { ولا يخشون أحدا إلا الله } يعني: من ديدنة الأنبياء والرسل، وخصلتهم الحميدة: ألا يخافوا من الناس ولا يستحيوا منهم، لا من لوم لائم، ولا من تعييره وتهديده بالقتل والضرب وغير ذلك، بل ما يخافون إلا الله الغيور المنتقم، المقتدر على أنواع العذاب العقاب { وكفى بالله حسيبا } [الأحزاب: 39] ظهيرا ومعينا يكفي مؤنة أعدائهم، ويدفع عنهم شرورهم، وجميع ما قصدوا عليهم من المقت والمكر، وأنواع الأذى والضرر.
[33.40-44]
ثم لما عير الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تزوج زوجة ابنه ودعيه، وهو زيد رد الله عليهم تعييرهم هذا وتشنيعهم فقال: { ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم } أيها الأجانب من المؤمنين على الحقيقة سواء كان زيدا أو غيره؛ حتى تسري حكم الحرمة في تزويج زوجته بعدما قضى الوطر عنها { ولكن } كان صلى الله عليه وسلم { رسول الله } الهادي لعباده أرسله إليكم؛ ليهديكم إلى طريق الرشاد على مقتضى سنته المستمرة في الأمم السابقة { و } لكن من شأنه أنه صار { خاتم النبيين } وختم المرسلين؛ إذ ببعثته صلى الله عليه وسلم كملت دائرة النبوة وتمت جريدة الرسالة، كما قال:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
، وقال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3] أي: ببعثته صلى الله عليه وسلم.
والسر فيه والله أعلم: إنه صلى الله عليه وسلم بعث على التوحيد الذاتي، وسائر الأنبياء إنما بعثوا على التوحيد الوصفي والفعلي، وبعدما بعث صلى الله عليه وسلم على توحيد الذات ختم به أمر البعثة والرسالة، وكمل أمر الدين؛ إذ ليس وراء الذات مرمى ومنتهى { وكان الله } المطلع على جميع ما ظهر وبطن { بكل شيء } جرى أو يجري في ملكه { عليما } [الأحزاب: 40] يعلم بعلمه الحضوري جميع ما لمع عليه نور وجوده، حكيما في بعثة الرسل في تنبيه من وفقه وجبله في سابق قضائه على فطرة التوحيد والإيمان، مختارا في ختم البعثة وتكميل الدين بعدما وصل غاية كماله وظهوره.
{ يأيها الذين آمنوا } بالله، وعرفوه حق معرفته وتوحيده، وكمال أسمائه وصفاته مقتضى إيمانكم وعرفانكم: المداومة على ذكره { اذكروا الله } الواحد الأحد، الفرد الصمد، المتصف بجميع أوصاف الكمال، المستجمع لجميع الأسماء الحسنى التي لا تعد ولا تحصى { ذكرا كثيرا } [الأحزاب: 41] مستوعبا لجميع أوقاتكم وحالاتكم، وبالغوا في ذكره؛ كي تصلوا من اليقين العلمي إلى العيني.
{ وسبحوه } أي: نزهوه عن جميع ما لا يليق بشأنه من لوازم الحدوث وأوصاف الإمكان { بكرة وأصيلا } [الأحزاب: 42] أي: في جميع آناء أيامكم ولياليكم، طالبين الترقي من اليقين العيني إلى اليقين الحقي.
وكيف لا تذكرون الله، ولا تسبحون له أيها المؤمنون، مع أن شكر المنعم المفضل واجب عقلا وشرعا؟! { هو الذي } سبحانه { يصلي } ويرحم { عليكم } أيها المؤمنون بذاته، وبمقتضيات أسمائه وصفاته { وملائكته } يستغفرون لكم بإذنه، وإنما يفعل بكم سبحانه هذه الكرامة العظيمة { ليخرجكم من الظلمات } ظلمة العدم الأصلي، وظلمة الطبيعة الهيولي، وظلمة الحجبة التعينية { إلى النور } أي: نور الوجود البحث، الخالص على ظلمات التعينات والكثرات مطلقا { وكان } سبحانه { بالمؤمنين } الموفقين على التوحيد الذاتي { رحيما } [الأحزاب: 43] يوفقهم إلى الإيمان بمقتضى رحمته الواسعة، ثم يصولهم إلى مرتبة التوحيد والعرفان، مترقيا من مضيق الإمكان إلى سعة فضاء الوجوب عناية لهم وتفضلا عليهم، ثم يشرفهم بشرف لقائه بلا كيف، ولا أين بعدما انخلعوا عن جلباب الناسوت، وتشرفوا بخلعة اللاهوت.
لذلك { تحيتهم } وترحيبهم من قبل الحق { يوم يلقونه } سبحانه: { سلام } أي: تسليم وتطهير عن رذائل التعينات، ونقائص الأنانيات والهويات المستتبعة لأنواع الضلالات والجهالات { وأعد لهم } سبحانه نزلا عليهم { أجرا كريما } [الأحزاب: 44] وجزاء عظيما ما لا عين رأت ولا أذن سمع، ولا خطر على قلب بشر.
[33.45-49]
ثم قال سبحانه: { يأيها النبي } المؤيد، المخصوص بأنوا الفضائل والكرمات { إنآ } من مقام عظيم جودنا ولطفنا { أرسلنك } إلى كافة البرايا وعامة العباد { شهدا } تشهد لهم الحقائق، وتحضرهم المعارف، وتوصلهم بالتنبيهات الواضحة إلى مرتبة الكشف والشهود؛ لكون أصل فطرتهم وجبلتهم مجبولة عليها { ومبشرا } تبشرهم بالتوحيد المسقط للإضافات المستتبعة لأنواع الكثرات المشوشة لنفوسهم { ونذيرا } [الأحزاب: 45] تنذرهم عن مقتضيات القوى البهيمية من الشهوية والغضبية الجالبة لأنواع الخذلان والحرمان.
{ وداعيا } دعوهم { إلى } توحيد { الله } المنزه عن التعديد والتجديد دعوة مسبوقة { بإذنه } سبحانه؛ أي: بوحيه وإلهامه { و } بالجملة: أرسلناك إلى عموم العباد { سراجا منيرا } [الأحزاب: 46] تضيء لهم، ويستضيئون منك في ظلمات الضلالات والجهالات المتراكمة من الحجب الظلمانية والكثافات الهيولانية، المتولدة من الكدورات الطبيعية، الباقية من ظلمة العدم.
{ و } بعدما سمعت يا أكمل الرسل سبب بعثتك وسره { بشر المؤمنين } الموقنين بتوحيد الله، المترقين من اليقين العلمي إلى العيني، الطالبين الوصول إلى اليقين الحقي { بأن لهم } أي: حق وثبت لهم عنده سبحانه { من } عناية { الله } معهم { فضلا كبيرا } [الأحزاب: 47] لا فضل أكبر منه، وهو الرضا والفوز بشرف اللقاء.
{ و } بعدما سمعت وظيفتك يا أكمل الرسل مع المؤمنين المسترشدين منك الطالبين هدايتك وشرف صحبتك { لا تطع الكافرين } المصرين على الكفر والعناد المجاهرين به { والمنافقين } الذي يخفون كفرهم وضلالهم عنك لمصلحة دنيوية ويظهرون عندك خلاف ما في نفوسهم، ولا تجلس معهم ولا تصاحبهم أصلا { و } إن آذوك في مرورك عنهم وملاقاتك معهم بغتة { دع أذاهم } أي: اتركهم وأذاهم ولا تلتفت إلى الانتقام عنهم، واصبر على مضضهم، فإن صبرك يقتلهم عن الغيظ، ويطفئ لهب غضبهم { وتوكل على الله } في دفع شرورهم، وثق إليه { وكفى بالله وكيلا } [الأحزاب: 48] حسيبا كافيا يكفي عنك مؤنة أعدائك، ويكفي عنك أذاهم عناية لك واهتماما بشأنك.
ثم لما أشار سبحانه إلى ما أباح على نبيه صلى الله عليه وسلم بلا حرج أراد أن يشير إلى ما أباح أيضا على عموم المؤمنين بلا حرج لهم فيه وضيق، وقال سبحانه مناديا لهم على وجه العموم: { يأيها الذين آمنوا } بالله، وصدقوا بجميع أوامره ونواهيه المنزلة من عنده، مقتضى إيمانكم { إذا نكحتم } وعقدتم { المؤمنات } اللاتي هن أحقاء بنكاحكم من المسلمات والكتابيات { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } أي تطئوهن وتجامعوهن { فما لكم } أي: ما لزم ووجب لكم فيما يتلى عليكم { عليهن من عدة تعتدونها } وتحصونها، كما للمدخلات بهن والمتوفات عنهن من المدة المقدرة في الشرع، وبعدما لم تلزم عليكم العدة أيها المطلقون { فمتعوهن } أي: أعطوهن المتعة المستحسنة عقلا وشرعا إن لم يكن صدقاتهن مقدرة، وإن كانت مقدرة فأعطونهن نصف ما قدر من المهر بلا تنقيص ومماطلة { و } بعد أن أعطيتموهن المتعة أو النصف من المهر المقدر { سرحوهن } وأخرجوهن من منازلكم { سراحا جميلا } [الأحزاب: 49] إخراجا لينا، بلا ضرر وإضرار، وتنقيص ما استحققن عليه.
[33.50]
ثم أشار سبحانه إلى تعداد ما أحل لحبيبه صلى الله عليه وسلم من الأزواج، فقال مناديا له تبجيلا وتعظيما: { يأيها النبي } المفضل المكرم من لدنا على سائر الأنبياء والرسل بالعنايات العلية والكرامات السنية { إنآ } من مقام عظيم جودنا { أحللنا } وأبحنا { لك } في شرعك ودينك { أزواجك اللاتي آتيت } وأعطيت { أجورهن } أي: مهورهن معجلا { و } أبحنا لك أيضا { ما ملكت يمينك } من الإماء المردودة إليك { ممآ أفآء الله } المنعم المفضل { عليك } ورده سبحانه من خيار المسببات وصفيات المغنم إليك، وصفية - رضي الله عنها - منهن { و } أحللنا لك أيضا في دينك { بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } من مكة حبا لك، وطلبا لمرضاة ربك، وما أبحنا لك ممن لم تهاجر معك.
{ و } أبحنا لك أيضا خاصة { امرأة مؤمنة } قيد بها؛ لأن الكافرة لا تليق بفراشه صلى الله عليه وسلم { إن وهبت نفسها للنبي } تبرعا بلا جعل ومهر، فعليه الخيار { إن أراد النبي أن يستنكحها } أي: يطلب أن يدخل عليها ويقبلها للفراش أحللناها { خالصة } خاصة { لك } يا أكمل الرسل؛ تكريما لك وتعظيما لشأنك { من دون المؤمنين } أي: لم نبحها لغيرك من أمتك، بل هي من جملة الأمور التي اختصصت بها، كالتزوج فوق الأربعة وغيرها، وإنما نخص أمثال هذا لك يا أكمل الرسل ولم نعممها من أمتك؛ لأنا من وفور حكتنا { قد علمنا } بعلمنا الحضوري من ظواهر أحوال المؤمنين وبواطنهم استعدادهم على { ما فرضنا } وقدرنا { عليهم } حتما { في } حقوق { أزواجهم } من المهر والولي والشهود، وجميع متمما النكاح ومكملاته.
{ و } علمنا أيضا منهم سبب ما قدرنا عليهم في حق { ما ملكت أيمانهم } من المسببات الزائدة، ألا يدخلوا عليهن إلا أن يتملكوا بوجه آخر، لكن أنزلنا عندك يا أكمل الرسل بعض ما أوحينا عليهم، وخصصناك بها دونهم { لكيلا يكون عليك حرج } ضيق في تحميلها، مع أنا نعلم من ظواهرك وبواطنك أنك لا تهمل شيئا من حقوق الله ولا حقوق عباده، ولا يقع منك ظلم على أحد من خلق الله؛ لذلك لم نضيق عليك أمر النكاح وضيقنا على المؤمنين { وكان الله } المراقب لأحوال عباده، المصلح لمفاسدهم { غفورا } يستر ويعفو عنهم بعضه ما يعسر عليهم التحرز في رعاية حقوق المؤمنين والمؤمنات { رحيما } [الأحزاب: 50] يرحمهم ويعين عليهم في حفظها ورعايتها.
[33.51-52]
ثم لما وسعنا يا أكمل الرسل أمر نكاحك، وأبحنا لك ما لم يبح لغيرك، فلك الخيار في أزواجك { ترجي } أي: تؤخر وتترك مضاجعة { من تشآء منهن وتؤوي } أي: تلصق وتضم { إليك من تشآء } منهم بلا حرج وضيق، بل { ومن ابتغيت } وطلبت نكاحها { ممن عزلت } وطلقت تطليقا ثلاثا أو أقل { فلا جناح } ولا إثم { عليك } أن تعيد إلى نكاحها بلا تحليل وتزويج للغير؛ إذ من جملة خواصك: تحريم مدخولتك على الغير مطلقا { ذلك } أي: تفويض أمورهن إليك { أدنى } وأقرب { أن تقر أعينهن } إذ نسبتك إليهن حينئذ على السواء، بلا ميل منكر وترجيح.
{ و } المناسب لهن أن { لا يحزن } بعد التفويض، بل { و } لهن أن { يرضين بمآ آتيتهن كلهن } إذ لا تتفاوت نسبتك إليهن أصلا؛ لأنك مجبول على العدل القويم والصراط المستقيم، سيما بين أزواجك المنتسبين إليك كلهن بنسبة واحدة { والله } المطلع لضمائر عباده { يعلم ما } يجري { في قلوبكم } وضمائركم أيها المؤمنون من الميل إلى بعض النساء دون بعض، ونبينا صلى الله عليه وسلم منزه عن هذا الميل وأمثاله { وكان الله } المراقب لأحوالكم { عليما } بما جرى عنه في صدوركم من الميل إلى الهوى { حليما } [الأحزاب: 51] ينتقم عليه ولكن لا يعجل.
ثم لما خير سبحانه حبيبه صلى الله عليهم في أمر نسائه، وفوض أمورهن كلها إليه صلى الله عليه وسلم، ورضين كلهن بحكمه بلا إباء ومنع، أراد سبحانه أنه يمنع وينهي حبيبه صلى الله عليه وسلم عن تطليقهن وتبديلهن والزيادة عليهم بعدما بلغن التسعة، فقال: { لا يحل لك } يا أكمل الرسل { النسآء } أي: تزويجهن { من بعد } أي: بعد أن يتفقن أولئك التسعة على حكمك وأمرك، وفوضن أمورهن إليكم { ولا } لا يحل لك أيضا { أن تبدل بهن } أي: تطلق بعضهن وتبدل بدلهن { من أزواج } أخر من الأجنبيات { ولو أعجبك حسنهن } أي: حسن الأجنبيات، لا يحل لك تزوجهن كما حل لك فيما مضى { إلا ما ملكت يمينك } من الإماء، فلا حرج عليك بدخولها { وكان الله } المطلع على مقادير أفعال عباده { على كل شيء } مما جرى في ملكه وملكوته { رقيبا } [الأحزاب: 52] يراقبه ويحافظه إلى أن يكمل، ثم يمنع عنه على مقتضى حكمته البالغة.
[33.53-54]
ثم أشار سبحانه إلى آداب المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم في استئذانهم منه، ودخولهم عليه وتناولهم الطعام عنده وبين يديه، وتكلمهم مع أزواجه صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الأدب، فقال: { يأيها الذين آمنوا } بالله ورسوله، مقتضى إيمانكم رعاية الأدب مع رسولكم صلى الله عليه وسلم، سيما من قبل بيوته ومحارمه ومساكنه { لا تدخلوا بيوت النبي } بغتة بلا استئذان منكم، بل بيوت سائر المسلمين أيضا { إلا أن يؤذن لكم } دعوة { إلى طعام } حاضر عنده حال كونكم { غير ناظرين إناه } أي: منتظرين لوقته { و } عليكم ألا تدخلوا بلا دعوة { لكن إذا دعيتم فادخلوا } واطعموا { فإذا طعمتم فانتشروا } واخرجوا على الفور وتفرقوا.
{ ولا } تتمكنوا بعد الطعام عنده { مستأنسين لحديث } يتحدث بعضهم مع بعض، أو تسمعونه منه صلى الله عليه وسلم أو من أهل بيته، أو لمهم آخر من مهماتكم { إن ذلكم } أي: اللبث على أي وجه { كان يؤذي النبي فيستحيي } صلى الله عليه وسلم { منكم } أن يخرجكم حسب مقتضى حميته البشرية؛ لأنه صلى الله عليه سولم حيي حليم، يصبر على أذاكم ولا يخرجكم عنوة { والله } المصلح لأحوال عباده، المنبه لهم مصالحهم { لا يستحيي من } إظهار كلمة { الحق } التي يجب إيصاله إلى المؤمنين؛ ليترسخ في قلوبهم ويتمرنوا عليه ويتصفوا به { وإذا سألتموهن } أي: أزواجه صلى الله عليهم وسلم { متاعا } وحوائج { فاسألوهن } متسترين { من ورآء حجاب } بحيث لا يقع نظركم إليهن { ذلكم } أي: الستر والتحجب من أزواج النبي { أطهر لقلوبكم } من أمارات الإثم ومخائل المعصية وسوء الأدب { وقلوبهن } أيضا ترغيما للشيطان، وتطهيرا لنفوسكم من غوائله وتلبيساته.
{ و } بالجملة: اعلموا أيها المؤمنون { ما كان } أي: ما صح وجاز { لكم } في حال من الأحوال { أن تؤذوا رسول الله } بشيء يكرهه ويستنزه عنه مطلقا { ولا أن تنكحوا أزواجه } المدخولة عليها { من بعده أبدا } سواء كن حرائر أم إماء { إن ذلكم } إي: إيذاءه صلى الله عليه وسلم ونكاح نسائه بعده { كان عند الله } المنتقم الغيور، المقتدر على أنواع الانتقام { عظيما } [الأحزاب: 53] مستجلبا لأليم العذاب وعظيم العقاب.
واعلموا أيها المؤمنون { إن تبدوا } تظهروا { شيئا } حقيرا مما يتعلق بإيذائه صلى الله عليه وسلم من قبل أزواجه في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته { أو تخفوه } في أنفسكم غير مجاهرين به { فإن الله } المطلع على مكنونات صدوركم { كان بكل شيء } ظهر على ألسنتكم أو خطر ببالكم { عليما } [الأحزاب: 54] لا يعزب عن علمه شيء من الدقائق والرقائق.
[33.55-58]
ثم لما نزلت آية التستر والحجاب قيل: يا رسول الله، الأبناء والآباء والأقارب والعشائر أيضا يتكلمون معهن من وراء الحجاب؟ نزلت: { لا جناح } أي: لا إثمولا ضيق { عليهن } أي: على أزواجه صلى الله عليه وسلم { في } اختلاط { آبآئهن } والتكلم معهن بلا سترة وحجاب { ولا أبنآئهن } أيضا { ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن } إذ الكل بعيد عن التهمة، مصون عن الريبة { ولا نسآئهن } يعني: النساء المؤمنات لا الكتابيات { ولا } جناح أيضا في { ما ملكت أيمانهن } من العبيد والإماء، وقيل: من الإماء خاصة دون العبيد، كما مر في سورة " النور ".
{ و } بالجلمة: يا نساء النبي المحفوظ، المصون عن أدناس الطبيعة مطلقا { اتقين الله } الغيور المنتقم، واحذرن عن محارمه ومنهياته مطلقا، وامتثلن بأوامره حتى تشاركن معه صلى الله عليه وسلم في أخص أوصافه { إن الله } المطلع لضمائركن { كان على كل شيء } خلج في خواطركن من الإثم واللمم { شهيدا } [الأحزاب: 55] حاضرا عنده، غير مغيب عنه إلى حيث لا يخفى عليه سبحانه خافية وإن دق ولطف.
ثم أشار سبحانه إلى تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، والاعتناء بشأنه وعلو منزلته ومكانه، فقال: { إن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { وملائكته } المهيمين عنده، الوالهين بمطالعة جماله، المتسغرقين بشرف لقائه { يصلون } يعتنون ويهتمون بإظهار فضله؛ تبجيلا وتعظيما { على النبي } الحقيق لأنواع التوقير والتمجيد، المستحق لأصناف الكرامة والتحميد { يأيها الذين آمنوا } بالله بوسيلة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتحققوا بتوحيده سبحانه بإرشاده صلى الله عليه وسلم أنتم أولى وأحق بتعظيمه وتصليته وتسليمه { صلوا عليه } مهما سمعتم اسمه وذكرتم بأنفسكم، وقولوا: اللهم صل على محمد { وسلموا } له { تسليما } [الأحزاب: 56] قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والآية تدل على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين كلما جرى ذكره في أي حال من الأحوال والأحيان اللائقة للدعاء.
ثم لما أشار سحبانه إلى علو شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وسمو برهانه، وأوجب على المؤمنين تعظيمه وتوقيره والانقياد إليه في جميع أوامره ونواهيه، أراد أن يشير إلى أن من قصد إيذاءه وأساء الأدب معه، يستحق اللعن والطرد، فقال: { إن الذين يؤذون الله ورسوله } حيث يأتون بالأفعال الذميمة القبيحة، المستكرهة عقلا وشرعا عنده صلى الله عليه وسلم فيؤذونه بها، ذكر سبحانه نفسه؛ تعظيما لشأن حبيبه صلى الله عليه وسلم وإلا فهو منزه عن التأذي والتأثر، أو لأن إيذاءه صلى الله عليه وسلم مستلزم لإذائه سبحانه { لعنهم الله } المنتقم عنهم، وطردهم عن سعة رحمته { في الدنيا } على ألسنة خلص عباده، وأبعدهم عن مجالسهم ومحافلهم { والآخرة } عن عز حضوره وسعة رحمته وجنته { وأعد لهم } في النار { عذابا مهينا } [الأحزاب: 57] مؤلما مزعجا، لا عذاب أسوأ منه وأشد.
ثم أردف سبحانه إيذاءه صلى الله عليه وسلم بإيذاء المؤمنين فقال: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات } بذمائم الأفعال والأقوال، وقبائح الحركات { بغير ما اكتسبوا } أي: بغير جريمة صدرت عنهم واستحقوا الجناية عليها { فقد احتملوا } وتحملوا هؤلاء المؤذين المفترين { بهتانا } جالبا لأنواع العقوبات { وإثما مبينا } [الأحزاب: 58] ظاهرا عظيما مستعقبا، مستتبعا لأسوأ الجزاء، وأشد العقاب والنكال؛ إذ رمي المحصنات من أفحش الجنابات.
[33.59-62]
ثم أشار سبحانه إلى آداب النساء، وصيانتهن عن الرجال واستحيائهن منهم؛ ليسلمن عن افتراء المفترين ورمي الرامين، فقال مناديا لحبيبه صلى الله عليه وسلم ليبلغ إلى أمته وأزواجه وأزواجهم أيضا: { يأيها النبي } المؤيد من عندنا، المبعوث إلى أرشاد البرايا ذكورهم وإناثهم { قل لأزواجك } أولا على سبيل الشفقة والنصيحة { وبناتك } أيضا { و } عموم { نسآء المؤمنين } إذا برزن لحوائجهن أحيانا { يدنين } ويغطين { عليهن } أي: على أيديهن وأرجلهن وجميع معاطفهن { من } فواضل { جلابيبهن } وملاحفهن، بحيث لا يبدو من أعضائهن شيء سوى العينين، بل عين واحدة؛ ليتميزن بها عن الإمامء والبغيات المريبات، المطمعات لأهل الفجور والفسوق { ذلك } التستر والتغطي على الوجه الأتم الأبلغ { أدنى } وأقرب { أن يعرفن } ويميزن أولئك الحرائر والعفائق عن الإماء والمربيات، وبعدما عرفن { فلا يؤذين } ولا يفترين بهتانا { وكان الله } المطلع لما اختلج في جوانحهن { غفورا } لهن بعدما تبن إلىالله وأنبن { رحيما } [الأحزاب: 59] يقبل توبتهن ويرحم عليهن إن أخلصن فيها.
ثم قال سبحانه مقسما مبالغا: والله { لئن لم ينته } ولم ينزجر { المنافقون } المفترون الرامون عن إيذاء المؤمنات الحرائر، المصونات المحفوظات، والسرايا العفائف بعدما تحفظن وتسترن على الوجه المذكور { و } لم يكف عنها المتعرضون { الذين في قلوبهم مرض } وضعف إيمان، واعتقاد وميل إلى الفسق والفجور { و } خصوصا { المرجفون } المجاهرون المترددون { في المدينة } بالأراجيف والأخبار الكاذبة والمفتريات الباطلة الغليظة، ويذيعونها فيها عنادا أو فسادا { لنغرينك بهم } ولنأمرنك بقتالهم وإجلائهم، ولنسلطنك عليهم بإقامة الحدود الشديدة والغريرات البليغة إلى حيث لا يمكنهم التمكن والإقامة فيها، فيضطروا إلى الجلاء { ثم } أي : بعدما وضعنا الحدود وأمرناك بإقامتها { لا يجاورونك فيهآ } أي: لا يستطيعون ولا يقدرون بمجاورتك في المدينة { إلا } زمانا { قليلا } [الأحزاب: 60] يستعدون فيه للبعد والجلاء والهرب من بين المسلمين والفرار عنهم.
وإلى أن يفروا ويهربوا أولئك المبعدون المطرودون حتى لا يؤاخذون ولا يؤسرون؛ إذ هم كانوا بين المؤمين { ملعونين } مطرودين، مبعدين عن روح الله وكنف جوار رسوله وجوار المؤمنين؛ لكونهم مؤذين متعرضين لعورات المسلمين، الباهتين المفترين إياهن ببهتان عظيم، والموصوفين بهذه الصفات المذمومة { أينما ثقفوا } ووجدوا { أخذوا } وأسروا { و } إن لم يمكن أسرهم { قتلوا تقتيلا } [الأحزاب: 61] شديدا إلى حيث استؤصلوا بالمرة.
واستئصال أمثال هذه الغواة المطرودين المردودين ليس ببدع، بل { سنة الله } القدير الحكيم، القديمة المستمرة، التي سنها سبحانه { في } حق المؤذين المفترين { الذين خلوا } ومضوا { من قبل } يا أكمل الرسل { ولن تجد لسنة الله } المستمرة الجارية على مقتضى حكمته المتقنة { تبديلا } [الأحزاب: 62] إذ لا يبدل حكمه، ولا يغير حكمته، بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
[33.63-68]
ثم نبه سبحانه على حبيبه صلى الله عليه وسلم بما سيسأل عنه الكافرون تهكما واستهزاء، وأشار إلى جواب سؤالهم؛ تعليما له صلى الله عليه وسلم وإرشادا، فقال: { يسألك } يا أكمل الرسل { الناس } الناسون عهودهم التي عهدوا مع الله في مبدأ فطرتهم { عن الساعة } التي جئت بهامن عند ربك، وأخبرت بقيامها بوحي الله وإلهامه، كما أخبر بها سائر الرسل والأنبياء السالفة - صلوات الله عليهم - مستهزئين معك، سائلين عن تعيين وقتها وقيامها، أقريب هو أم بعيد؟ { قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما اقترحوا عليك عنها: { إنما علمها } أي: علم قيامها وتعيين وقتها { عند الله } العليم الحكيم، لا يطلع عليها أحدا من خلقه، بل هي من جملة الغيوب اليت استأثر الله بها في غيبه، بل أخبر سبحانه بوقوعها حتما، وأبهم تعيين وقتها، فمجرد تحقق وقوعها يكفي في الخوف من أهوالها { و } بعدما أخبر سبحانه بوقوعها وأبهم في تعيين وقتها { ما يدريك } ويطلعك أيها المخاطب تعيينها، ومن أنى لك أن تبعدها أو تنكر وقوعها { لعل الساعة } الموعودة { تكون } شيئا { قريبا } [الأحزاب: 63] تقع عن قريب، فأنى لم تتزود لها، ولم تتهيأ أسبابها أيها المغرور في الدنيا الدنية وأمتعتها الفانية ولذاتها المتناهية؟!.
{ إن الله } المنتقم من عصاة عباده { لعن } رد وطرد عن ساحة عز قبوله { الكافرين } المصرين على إنكار يوم الجزاء والأمور الواقعة فيه { وأعد لهم } قهرا عليهم وزجرا { سعيرا } [الأحزاب: 64] مصعرا مملوءا من النار.
{ خالدين فيهآ أبدا } لا يتحولون عنها أصلا لا بأنفسهم ولا بواسطة غيرهم من شفعائهم { لا يجدون وليا } يولي أمرهم وينقذهم منها { ولا نصيرا } [الأحزاب: 65] ينصرهم ويعين عليهم لإخراجهم عنها.
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم تقلب } وتصرف { وجوههم في النار } أي: من جهة إلى جهة؛ تشديدا للعذاب عليهم { يقولون } حينئذ متمنين متحسرين: { يليتنآ أطعنا الله } كما أخبر علينا الرسل والأنبياء { وأطعنا الرسولا } [الأحزاب: 66] المبعوث إلينا، المنذر عن هذه العقوبات التي تلحق بنا اليوم، فلن نبتلى ونصيب بهذا العذاب المؤبد المخلد.
{ وقالوا } أيضا: متضرعين إلى الله على سبيل التمني والتناجي: { ربنآ } يا من ربانا بأنواع الكرامات وأحسن تربتنا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فكذبنا الكتب والرسل وأنكرنا عليهما عنادا { إنآ أطعنا } يا ربنا في إنكار كتبك وتكذيب رسلك { سادتنا وكبرآءنا } الذين هم أصحاب الثورة والرئاسة بيننا، فحل جميع أمورنا وعقدها بأيدي أولئك الرؤساء البعداء الضالين { فأضلونا السبيلا } [الأحزاب: 67] السوي المستقيم الموصل إلى توحيدك وتصديق رسلك وكتبك، وأنت أعلم منا يا ربنا بأنا ما ضللنا إلا بإضلال أولئك الطغاة الضالين المضلين.
{ ربنآ آتهم } جزاء لإضلالهم وانتقاما عنهم { ضعفين من العذاب } يعني: آتهم ضعف عذابنا، ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلاله إيانا { والعنهم } واطردهم ربنا وأبعدهم عن سعة رحمتك الواسعة { لعنا كبيرا } [الأحزاب: 68] طردا عظيما وتبعيدا بعيدا حيث لا يرجى نجاتهم، طردا كثيرا متواليا متتاليا مستمرا على التعاقب والترادف.
[33.69-71]
ثم وصى سبحانه عموم المؤمنين بألا يكونوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم مثل بني إسرائيل مع موسى - صلوت الرحمن عليه وسلامه - ولا يقصدوا أذاه صلى الله عليه وسلم كما قصدوا، ولا يرموه بشيء لا يليق بشأنه كما رموا به موسى عليه السلام؛ لأن معاشر الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا، بل عن الصغائر أيضا، فلا بد لمن آمن لهم ألا يرموهم بمكروه، ولا يليق بشأنهم مع أنه سبحانه أظهر براءتهم وطهارة ذيلهم، فبقي إثم الافتراء والمراء على المفترين، فينتقم سبحانه عنهم منها ويأخذهم بها.
فقال: { يأيها الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم مقتضى إيمانكم به أن { لا تكونوا } قاصدين أذاه صلى الله عليه وسلم بنسبة المكروه المنكر إليه، وبتعبيره وتشنيعه بأمر صدر عنه ولم تفهموا سره { كالذين آذوا موسى } صلوات الله وسلامه عليه، فاغتم منها وتحزن حزنا شديدا { فبرأه الله } المطلع على نجابة طينته وطهارى ذيله وأظهر طهارته { مما قالوا } أي: من مقولهم؛ يعني: مؤداة ومضمونه.
وذلك أن قارون استأجر بغية بجعل كثير على أن تمري موسى عليه السلام بنفسها، فرموه بها، ثم أحضروها في المجلس؛ لتفضحه عليه السلام على رءوس الملأ، فأقرت لعصمته عليه السلام وأظهرت ما أعطوها من الجعل، فدعا موسى عليه، ففعل بهم وبما معهم سبحاه ما فعل من الخسف على ما مر في سورة " القصص " أو قذفوه بعيب في بدنه من برص أو أدرة، فبرأه الله سبحانه بأن تذهب الحجر بثيابه بين الملأ وهو يمشي على عقب ثيابه عريانا يظهر، حتى يظهر براءته من العيب لهم { و } كيف لا يبرؤه سبحانه، ولا يظهر طهارته؛ إذ { كان } موسى عليه السلام { عند الله } الذي اصطفاه للنوبة والرسالة والتكلم معه { وجيها } [الأحزاب: 69] في كمال الوجاهة والقربة؛ لذلك اختاره بسمع كلامه بلا واسطة.
وبعدما سمعتم حكاية ما جرى على أولئك البغاة الغواة المؤذين المفترين { يأيها الذين آمنوا } بالله ورسوله { اتقوا الله } المنتقم الغيور، ولا تؤذوا رسوله صلى الله عليه وسلم { وقولوا } له بعدما تكلمتم معه في شأنه { قولا سديدا } [الأحزاب: 70] صحيحا سالما، بعيدا عن وصمة الأذى والتهمة والافتراء؛ حتى لا يلحقكم ما لحق على قوم موسى.
ولكم الإخلاص بالله ورسوله، وأخلصوا واستقيموا في الأفعال والأقوال وأطيعوا { يصلح لكم } سبحانه { أعمالكم } لتثمر لكم الثمرات العجيبة والدرجات الرفيعة عنده سبحانه { ويغفر لكم ذنوبكم } التي صدرت عنكم { ومن يطع الله } حق إطاعته ويخلص في أعماله { و } يطع { رسوله } إطاعة خالية عن وصمة الأذى والرعونات المؤدية إلى أنواع المكروهات والمنكرات { فقد فاز } ونال { فوزا عظيما } [الأحزاب: 71] هو الدخول بدار الخلود، والفوز بلقاء الخلاق الودود.
[33.72-73]
ثم لما أراد سبحانه بمقتضى تجلياته الحبيبة اللطيفة أن يطالع ذاته الكاملة المتصفة بصفات الكمال في مرآة مجلوة تصير نائبة عنها، خليفة لها، يتراءى فيها جميع أوصافه وأسمائه الذاتية على ما أشار إليه الحديث القدسي، عرض سبحانه أمانة الخلافة والنيابة على استعدادات المظاهر وقابليات المصنوعات فامتنع الكل عن حملها، وأبى عن قبولها كما قال سبحانه: { إنا } بمقتضى تجلياتنا الجمالية المنبعثة عن الشئون الحبية والتطورات اللطيفة { عرضنا الأمانة } أي: أمانة الخلافة والنيابة، وأردنا أن نحمل أعباء العبودية المشتملة على التخلق بالأخلاق الإلهية والتكليفات الشاقة، القالعة للأوصاف البهيمية والأدناس الإسكانية الراسخة في القوى الطبيعية؛ لتحصل التصفية والتزكية عن أكدار الهيولي المانعة عن الوصول إلى الملأ الأعلى { على } استعدادات { السموت } العلا { و } قابليات { الأرض } السفلى { والجبال } الأسنى، وعلى استعدادات ما بينهما من المركبات العظمى والمؤلفات الكبرى { فأبين } وامتنعن؛ أي: كل منهم { أن يحملنها } إذ ما أودع سبحانه في استعداداتهم وقابلياتهم ما يسع لحمل هذه الأمانة العظيمة والكرامة الكريمة.
{ و } لذلك { أشفقن منها } أي: خفن وخشين من حملها ألا يفين حقها { و } بعدما امتنعن وخفن جميعا عن حملها { حملها الإنسان } المجبول على صورة الرحمن، المنتخب من بين الأكوان بالقوة القدسية المودعة فيه، المقتضية لحملها { إنه } حينئذ من كمال شوقه ووفور تحننه وذوقه { كان ظلوما } على نفسه بارتكاب هذه التحميلات البليغة والتكليفات الشديدة الثقيلة من ققطع المألوفات الطبيعية، والمشتهيات البهيمية واللذات الحسية { جهولا } [الأحزاب: 72] ذهولا عن مقتضيات ناسوته وملائماتها بحسب القوى البشرية لغلبة القوى الروحانية الجالبة للسعادة الأزلية الأبدية على القوى الجسمانية المستتبعة للشقاوة السرمدية، فأين هذامن ذلك؟!
رزقنا الله المنعم المفضل ألا نظلم على نفوسنا، ونمنعها عن مقتضياتها وأمانيها، بمنه وجوده.
ومن جملة الأمانات المحمولة على الإنسان: حفظ السرائر ورعاية الآداب والحقوق الجارية بين ذوي الألباب من الرجال والنساء، وإنما حملها سبحانه عليهم ابتلاء لهم واختبارا { ليعذب الله } الحكيم المتقن في أفعاله { المنافقين } المخفين، الساترين كفرهم وشركهم والخيانات الصادرة عنهم لمصلحة دنيوية { والمنافقات } منهم كذلك { والمشركين } المصرين المجاهرين بكفرهم وشركهم وخياناتهم { والمشركات } أيضا كذلك تعذيبا شديدا؛ لعدم وفائهن على الأمانات المحمولة عليهم { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } أي: يوفقهم على التوبة والإنابة بعدما صدر عنهم شيء من الخيانة وعدم الوفاء بالأماننة التي ائتمنوا بها من حقوق الله وحقوق العباد، وبعدما تابوا وأنابوا على وجه الإخلاص والندامة، فقد أدوا حق الأمانة ووفوا بها على وجهها { وكان الله } المطلع لإخلاصهم { غفورا } لما صدر عنهم من الخيانة قبل التوبة { رحيما } [الأحزاب: 73] يقبل توبتهم ويرحم عليهم بعدما تابوا وأخلصوا.
رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لمرتبة الخلافة والنيابة، القاصد لحمل الأمانة الإلهية، المتحمل لأعباء العبودية بالقوة الذاتية القدسية والقابلية الفطرية، يسر الله عليك الأداء والوفاء بجميع حققه وعهوده وأماناته، وحقوق جميع عباده ورعاية لوازم الإخاء المصاحبة معهمه، وأطاقك سبحانه على حمل التكاليف من المفترضات والنوافل المسنونات، وأعانك على التخلق بأخلاقه، أن تتوجه بوجه قلبك إلى ربك وتتخذه وكيلا في أمرك الذي هو التخلق بأخلاقه سبحانه؛ ليتيسر لك مرتبة الخلافة ويتم عليك أمر النيابة.
فلك أن تعرف أولا شياطينك التي هي أمانيك النفسانية، المتولدة من القوى البهيمية، المانعة عن الوصول إلى الدرجات العلية، وتفصلها على وجه لا يشذ عنك منها شيء، وتلازم على زجرها ومنعها إلى أن تصير الكل منزجرة مقهورة للقوى الروحانية، بحيث لا يبقى لها قوة مقاومة ومقابلة مع الروحانيات أصلا.
ثم لك أن تنفي وتفني أوصافك وأخلاقك في أوصاف الحق وأخلاقه إلى أن تضمحل وتتلاشى أوصافك وأخلاقك في صافته وأخلاقه سبحانه، ويرتفع اسمك ورسمك عن البين، ويتصفى العين من الغين، والشأن عن الشين، ولم يبق البون والبين، واتصل العين بالعين، وحينئذ صرت ما صرت، وفزت بما فزت، وتمكنت في مقعهد صدق الخلافة والنيابة عند مليك مقتدر.
رزقنا الله التقرر والتمكن في مقعد الصدق بلا تلوين وتبديل.
[34 - سورة سبإ]
[34.1-4]
{ الحمد } المحيط، المستوعب لجميع المحامد الناشئة من ألسنة عموم ما لمع عليه برق الوجود، ثابت { لله } المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء المربية لعموم الأشياء الكائنة غيبا وشهادة { الذي } ثبت { له } ملكا وتصرفا وإظهارا وإعداما وإعادة جميع { ما في السموت } أي: علويات عالم الأسماء والصفات والأعيان الثابتة في الأزل { وما في الأرض } أي: سفليات عالم الطبيعة المنعكسة من العلويات وما بينهما من الكوائن والفواسد التي برزت بنور الوجود على مقتضى الوجود، من مكمن العدم إلى فضاء الظهور { و } بعدما ثبت أن الكل منه بدأ وإليه يعود في الانتهاء، ثبت { له الحمد } والثناء الصادر من عموم ألسنة المظاهر، المتوجه نحو المظهر الموجد طوعا لا غيره من الوسائل والأسباب العادية؛ إذ منتهى الكل إليه { في الآخرة } كما أن مبدأه منه في الأولى، فله الحمد في الأولى والأخرى { و } كيف لا { هو الحكيم } المتقن في أفعاله بالاستقلال بلا شريك وظهير { الخبير } [سبأ: 1] عن كيفية اتحاد المظاهر وإعدامها، أولا وآخرا، أزلا وأبدا.
إذا هو سبحانه بمقتضى علمه الحضوري { يعلم ما يلج في الأرض } أي: ظلمة الطبيعة القابلة لفيضان الاستعدادات، الفائضة من المبدأ الفياض { وما يخرج منها } من المعارف والحقائق الكامنة المختفية فيها على مقتضى تربية مربيها ومظهرا { و } كذا يعلم بعلمه الحضوري { ما ينزل من السمآء } أي: عالم الأسماء إلى أرض المظاهر والمسميات من الفيوضات والفتوحات، الشاملة لأنواع الكمالات { وما يعرج فيها } متصاعدة من المكاشفات والمشاهدات الحاصلة من تلك الفتوحات الهابطة { و } بالجملة: { هو الرحيم } لعباده بإفاضة أنواع الكرامات بمقتضى رحمته الواسعة { الغفور } [سبأ: 2] لذنوب أنانياتهم وتعيناتهم الباطلة بعدما رجعوا إليه وتوجهوا نحوه تائبين آيبين مخلصين.
رزقنا الله الوصول إلى محل القبول.
{ و } بعدما أخبر سبحانه بقيام الساعة في كتبه وعلى ألسنة رسله، سيما في كتابك يا أكمل الرسل وعلى لسانك { قال } الجاحدون المنكرون { الذين كفروا } بالحق، وستروه بالباطل وكذبوا الرسل وعاندوا معهم يا أكمل الرسل، مستهزئين: { لا تأتينا الساعة } الموعدة على لسانك أيها المدعي مع أنك أدعيت الصدق في جميع أخبارك وأقوالك، فكيف لا تأتي الساعة التي ادعيت إتيانها، وأخبرت بها؟! لعلك كذبت وافتريت إلى ربك { قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما استهزءوا معك، ونسبوك إلى الكذب والافتراء، وأنكروا بإتيان الساعة: { بلى } تأتي الساعة الموعودة علي وعلى حميع الرسل والأنبياء، لاشك في إتيانها وقيامها { و } حق { ربي } القادر المقتدر على إنجاز جميع ما وعد بلا خلف { لتأتينكم } الساعة الموعودة من عندهح إذ وعده سبحانه مقضي حتما جزما بلا شائبة شك وطريان غفلة عليه وسهو عنه، وكيف يطرأ عليه سبحانه سهو وذهول، وهو { عالم الغيب } بالعلم الحضوري، فالمغيبات حاضرة عنده غير مغيبة عنه؛ إذ { لا يعزب } ولا يغيب { عنه } سبحانه وعن حيطة حضرة علمه { مثقال ذرة } ومقدار خردلة لا من الكوائن { في السموت } أي: العلويات { ولا } من الكوائن { في الأرض } أي: السفليات، ولا من المكونات الحادثة بينهما { ولا أصغر من ذلك } المقدار { ولا أكبر } منه { إلا } وهو مثبت { في كتاب مبين } [سبأ: 3] هو حضرة علمه ولوح قضائه.
إنما أثبت وأحضر الكل في لوح قضائه { ليجزي } سبحانه المؤمنين { الذين آمنوا } بتوحيده، واعترفوا بتصديق رسله { وعملوا الصالحات } المقربة إليه سبحانه، المقبولة عنده، خير الجزاء ويعطيهم أحسن المواهب والعطاء { أولئك } السعداء المقبولون عنده المستحقون لأنواع الكرامات { لهم مغفرة } لما تقدم من ذنوبهم تفضلا عليهم { ورزق كريم } [سبا: 4] صوري في الجنة، ومعنوي عند وصولهم إلى شرف لقائه، بلا كيف وأين ووجهة وجهة ومكان وزمان.
[34.5-9]
{ و } ليجزي سبحانه أيضا أسوأ الجزاء وأشد العذاب والنكال الكافرين { الذين سعوا } واجتهدوا { في } إبطال { آياتنا } الدالة على توحيد ذاتنا وكمال أسمائنا وصفاتنا حال كونهم { معاجزين } قاصدين عجزنا عن إتيان الآيات البينات، منكرين لإيجادنا وإنزالنا إياها، مكذبين رسلنا الحاملين لوحينا، صارفين الناس عن تصديقهم وعن الإيمان بنا وبهم، وملتهم { أولئك } الأشقياء المردودون، المبعدون عن روح الله وسعة رحمته، المنهمكون في الغي والضلال { لهم عذاب } عظيم، أشد وأسوأ { من } كل { رجز أليم } [سبأ: 5] وعقوب مؤلمة؛ لعظم جرمهم وسعيهم في إبطال آياتنا الناشئة عن كمال قدرتنا ووفور حكمتنا، وإنما سعوا واجتهدوا في إبطال آياتنا؛ لجهلهم بنا وبها بما فيها من الهداية العظمى والسعادة الكبرى، وعدم تأملهم وتدبرهم في مرموزاتها ومكنوناتها؛ لذلك أنكروا بها اجتهدوا في إبطالها وتكذيبها جهلا وعنادا.
{ ويرى } يا أكمل الرسل العلماء العرفاء { الذين أوتوا العلم } من قبلنا فضلا منا إياهم المتعلق بأن الكتاب { الذي أنزل إليك من ربك } تأييدا لشأنك وترويجا لأمرك { هو الحق } المطابق للواقع، الحقيق بالمتابعة والإطاعة، الثابت المثبت نزوله عندنا بلا ريب وتردد { و } كيف لا يكون حقا { يهدي } بأوامره ونواهيه أو تذكيراته الضالين المنصرفين عن جادة العدالة { إلى صراط العزيز } الغالب، القادر المقتدر على انتقام المنحرفين عن منهج الرشاد { الحميد } [سبأ: 6] المستحق في ذاته لجميع المحامد الكرمات، لولا تحميد الناس له وتمجيدهم إياه، وصراطه هو التوحيد الذاتي المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال، المنبئ عن إسقاط عموم الإضافات.
{ و } بعدما سمع المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحوال الحشر والنشر والمعاد الجسماني، وأهوال الفزع الأكبر { قال الذين كفروا } أي: بعض لبعض على سبيل الاستهزاء والتهكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفهمين مستنكرين، متعجبين من قوله: { هل ندلكم على رجل } يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما أنكروه لاستبعادهم قوله إنكارهم على مقوله، وإنما يتحدثون به بينهم؛ لغرابته { ينبئكم } بالمحال العجيب ويخبركم بالممتنع الغريب معتقدا إمكانه، بل جازما بوقوعه ووجوده، وهو أنكم { إذا مزقتم } وفرقتم { كل ممزق } أي: تفريقا بليغا وتشتيتا شديدا، إلى حيث صرتم هباء تذهب به الرياح { إنكم } بعدما صرتم كذلك { لفي خلق جديد } [سبأ: 7] على النحو الذي كنتم عليها في حياتكم قبل موتكم بلا تفاوت، كما يتجدد الأعراض بأمثالها.
بعدما سمعتم قوله هذا، كيف تتفكرون في شأن هذا الرجل الذي يدعي النبوة والوحي والرسالة من عند الحكيم العليم، مع أنه صدر عنه أمثال هذه المستحيلات، أي شيء تظنون في أمره هذا؟!.
{ أفترى } وكذب عن عمد ونسبه { على الله كذبا } تغريرا وتلبيسا على ضعفاء الأنام؛ ليقبلوا منه أمثال هذه الخرافات، ويعتقدوه رسولا مخبرا عن المغيبات وعجائب الأمور وغرائبه { أم به جنة } خبط واختلال يعرض في دماغه، فيتكلم بأمثال هذه الهذيانات هفوة بلا قصد وشعور بها، كما يتكلم بأمثاله سائر المجانين، وسماه وحيا وإلهاما؟!.
ثم لما بالغ المشركون في قدحه صلى الله عليه وسلم وتجهيله، رد الله عليهم بأنه لا افتراء في كلامه صلى الله عليه وسلم وإخباره، ولا خبط في عقله؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم من أعقل الناس وأبعدهم عن الافتراء والمراء وأسلمهم عن الكذب وجميع الكدورات الطبيعية مطلقا { بل } الكافرون الضالون { الذين لا يؤمنون بالآخرة } والأمور التي أخبر الله بوقوعها فيها، ولا يصدقون أيضا بما نطق به الكتب والرسل، مخلدون في النشأة الأخرى { في العذاب } المؤبد المخلد { و } متوغلون في { الضلال البعيد } [سبأ: 8] عن الهداية أبد الآباد، لا نجاة لهم منها، ومن شدة غيهم وضلالهم تكلموا بأمثال هذه الهذيانات الباطلة بالنسبة إلى من هو منزه عن أمثالها مطلقا.
ثم أشار سبحانه إلى كمال قدرته واقتداره على انتقام المكذبين ليوم الحشر والجزاء والمفترين على رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الجزاء من الخبط والجنون، وغير ذلك من الأمور التي لا يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم، فقال مستفهما على سبيل التقريع والتوبيخ: { أ } عموا وفقدوا أبصارهم أولئك المعاندون { فلم يروا } ولم ينظروا ويبصروا { إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء } المحيط بهم خلفا ووراء { والأرض } الممهدة لهم بين أيديهم، يتمكنون عليها ويتنعمون بمستخرجاتها وبما نزل عليها من السماء، ولم تتفكروا وتتأملوا أن إحياء الموتى أهون من خلق السماوات العلا على إيجادهما أكمل من القدرة على إعادة المعدوم، فينكروا قدرتنا عليها مع أنهم يرون منا أمثال هذه المقدورات، ولم يخافوا من بطشنا وانتقامنا، ولم يعلموا أنا من مقام قهرنا وجودنا وجلالنا { إن نشأ } إهلاكهم واستئصالهم { نخسف بهم الأرض } كما خسفنا على قارون وأمثاله { أو نسقط عليهم كسفا } بالتحريك والتسكين على القراءتين؛ أي: قطعا { من السمآء } فنهلكهم بها { إن في ذلك } البيان على وجه التقريع والتعبير { لآية } دالة على قدرتنا وقهرنا على انتقام من خرج عن ربقة عبوديتنا { لكل عبد } تحقق بمقام العبودية وفوض أموره كلها إليها { منيب } [سبأ: 9] رجع إلينا وهرب عن مقتضيات قهرنا وجلالنا، بعدما عرف أن الكل منا بدأ، ويحولنا وقوتنا ظهر وعاد أيضا كما بدأ؛ إذ منا المبدأ وإلينا المنتهى، وليس وراءنا مقصد ومرمى.
[34.10-14]
{ و } من كما قدرتنا ووفور حكمتنا { لقد آتينا } عبدنا { داوود } المتحقق بمقام الخلافة والحكومة التامة { منا فضلا } له، وامتنانا عليه مما لم نقض بأمثاله إلى سائر الأنبياء وهو أنا أمرنا الجمادات والحيوانات بإطاعته وانقياده إلى أن قلنا مناديا لها: { يجبال أوبي } أي: أرجعي { معه } التسبيح، وسيري معه حيث سار، ولا تخرجي عن حكمه، فانقادت له الجبال إلى حيث متى سبح، سمع منها التسبيح والتذكير؛ وإلى حيث سار، سارت معه { و } كذا سخرنا له { الطير } وصارت تنقاد لحكمه وأمره كسائر العقلاء، فيحكم عليها ويأمرها، فامتثلت بأمره وأطاعت بحكمه بلا منع وإباء { و } من جملة فضلنا إياه: إنا { ألنا له الحديد } [سبأ: 10] بلا نار ومطرقة، حيث جعلناه لينا في يده كالشمعة، يبدله كيف يشاء بلا تعب ومشقة.
وبعدما ألنا له الحديد أمرنا { أن اعمل } يا دوود بإرشادنا وتعليمنا { سابغات } دروعا واسعات { وقدر } أي ضيق وكثف { في السرد } والنسخ بقدر الحاجة، لا يمكن مرور السهام عنها أصلا { و } بعدما آتيناه وأتباعه الملك والولاية التامة والنبوة العامة فضلا وامتنانا له أصالة ولأصحابه تبعا، قلنا لهم تعليما: { اعملوا } يا آل داوود { صالحا } من الأعمال والأخلاق مقبولا عندي، مرضيا لدي { إني } بمقتضى علمي وإطلاعي { بما تعملون } من عموم الأعمال { بصير } [سبأ: 11] أنقد كلا منها، أقبل صالحها وأرد فاسدهما.
{ و } أيضا من مقام فضلنا وجودنا سخرنا { لسليمان } بن داوود، عليهما السلام { الريح } العاصفة، وجعلناها مسخرة تحت حكمه وتصرفه، بحيث تحمل كرسي سليمان وجنوده عليها وتسير إلى حيث أشار وشاء { غدوها شهر } أي جريها في الغداة مسيرة شهر { ورواحها شهر } أيضا كذلك { و } أيضا من كمال جودنا إياه { أسلنا } وأذبنا { له عين القطر } أي: النحاس، فذاب في معدنه، ونبع منه نبوع العيون الجارية في كل شهر ثلاثة أيام، قيل: أكثر ما في الناس من النحس من ذلك.
{ و } سخرنا له أيضا؛ عناية منها معه { من الجن من يعمل بين يديه } مقهورا تحت حكمه وتصرفه { بإذن ربه } أمرهم سبحانه بإطاعته وانقياده بحيث لا ينصرفون ولا يستنكفون عن حكمه أصلا { و } شرط معهم سبحانه تأكيدا لإطاعتهم إياه، أنه { من يزغ } أي: يعدل ويمل { منهم } أي: من الجن { عن أمرنا } المبرم المحكم إياهم، وهو إطاعتهم نبينا سليمان عليه السلام { نذقه } في هذه النشأة { من عذاب السعير } [سبأ: 12] لأنه قد وكل سبحانه على الجن ملكا بيده سوط من نار، فمن مال منهم عن حكم سليمان ضربه به، فأحرقه ولا يراه الجني.
لذلك صارا مقهورين تحت حكمه، أمرهم ما يشاء حيث { يعملون له ما يشآء من محاريب } أي: مساجد لطيفة وحصون حصينة وأماكن منيعة، إنما سمي بها، يحرب عليها ويتلجأ إليها في الشدة ولدى الحاجة، ومن جملة ما علموا له من المساجد الحصينة العجيبة: بيت المقدس، في غاية الحسن والبهاء وكمال المنعة، ولم يزل على عمارته عليه السلام إلى أن خربه بختنصر { وتماثيل } هي الصور من الزجج ورخام ونحاص وصفر وشبهه، فكانوا يعملون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في البقاع الشريفة والمساجد والمعابد؛ ترغيبا للناس في دخولها والعبادة فيها وتنشيطا، وقد عملوا له في أسفل كرسيه أسدين، وفي فوقه نسرين، فإذا أراد الصعود عليه بسط له الأسدان ذراعيهما فارتقى، وإذا تمكن عليه أظله النسران بجناحيهما، وحرمة التصاوير شرع مجدد { وجفان } أي: صحاف عظيمة وقصاع كبيرة وسيعة { كالجواب } أي: كالحياض الكبار، ومن غاية كبرها يقعد على كل جفنة عند الأكل ألف رجل { وقدور راسيات } ثابتات على أثافيهن بحث لا تنزل عنها؛ لثقلها وكبرها، وقيل: أثافيها متصلة بها، وكانت يرتقى إليها بالسلالم.
وبعدما أعطى آل داوود من الجاه والثروة والعظمة ما لم يعط أحدا من العالمين، قيل لهم من قبل الحق؛ تنبيها عليهم وحثا لهم إلى مواظبة الشرك ومدوامة الرجوع نحو المفضل الكريم: { اعملوا } يا { آل داوود } عملا صالحا مرضيا عند الله، ولا سيما اشكروا { شكرا } مستوعبا لجميع جوارحكم وجوانحكم وأوقاتكم وحالاتكم بحيث لا يشذ عنكم وقت لم يصدر عنكم فيها شكر { و } اعلموا وإن بالغتم في أداء شكر نعم الله وبالغتم بمقتضى المرتبة القصوى منه، ما أديتم حق شكره؛ إذ { قليل من عبادي الشكور } [سبأ: 13] لأنه وإن استوفى واستوفر في أدائه إلى حيث يستوعب جميع أركانه وجوارحه وجوانحه وجميع خواطره وهواجس نفوسه وسره ونجواه، ومع ذل كلا يوفي حقه؛ لأن توفيقه وإقداره سبحاه عليه أيضا نعمة مستحقة للشكر، مستدعية له لا إلى نهاية، ولذا قيل: الشكور من يرى نفسه عاجزا عن الشكر؛ إذ لا يمكن الإتيان به على وجه لا يترتب عليه نعمة أخرى مستلزمة لشكر آخر.
ثم لما كان داوود عليه السلام أسس بيت المقدس ي موضع فسطاط موسى عليه السلام، فمات قبل تمامه، فوصى بإتمامه إلى سليمان عليه السلام، فاستعمل الجن فيه، فلم يتم أيضا، إذا أخبر من قبل الحق بأجله، فتغمم غما شديدا بعدم إتمام البيت، فأراد أن يعمي ويستر على الجن موته ليتموه، فأمرهم أن يعلموا له صرحا من قوارير له باب، فعملوا له صرحا كذلك.
فدخل عليه على مقتضى عادته المستمرة من التحنث والتخلي للعبادة شهرا وشهرين وسنة وسنتين، فاشتغل بالصلاة متكئا على عصاه، فقبض وهو متكئ عليها، فبقي كذلك إلى أن أكلت الأرضة عصاه، فخر، ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوما وليلة مقدارا منها، فقاسوا على ذلك، فعلموا أنه قد مات منذ سنة، وكان عمره حنيئذ ثلاثا وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، وابتدأ لعمارة البيت لأربع مضين عن ملكه.
أخبر سبحانه في كتابه هذا، وحكاه على الوجه الذي مضى، وأوجزه فقال: { فلما قضينا عليه } أي: على سليمان { الموت } فأخبرنا له بموته، فدعا نحونا بأن نعمي على الجن أمر موته؛ حتى يتموا عمارة البيت، فأعميناهم وسرتنا عليهم موته إلى أن تم عمارة البيت، وبعدما تم { ما دلهم } وما هداهم { على موته } وما أخبرهم عنه { إلا دابة الأرض } أي: الارضة { تأكل منسأته } أي: عصاه، وهو متكئ عليها { فلما } أكلتها انكسرت عصاه { خر } وسقط عليه السلام على الأرض، فحينئذ { تبينت الجن } أي: ظهر لهم وانكشفت عندهم أمر موته، وعلموا بعدما التبس الأمر عليه موته بخروره وسقوطه، فظهر حنيئذ للإنس أن الجن لم يكونوا مطلعين على الغيوب على ما زغموا في حقهم؛ لأنهم لو كانوا من المطلعين لعلموا موته أول مرة، ولم يعلموا مع { أن } أي: أنهم؛ أي: الحق { لو كانوا يعلمون الغيب } مطلقا، لعلموا أمر موته حين وقع، ولو علموا { ما لبثوا } واستقروا { في العذاب المهين } [سبأ: 14] الذي هو عذاب العمل المتضمن لأنواع المتاعب والمشاق، مع أنهم لم يرضوا به، ولكنهم لبثوا وعملوا سنة بعد موته، فظهر أنهم ما كانوا عالمين بالغيوب.
[34.15-18]
وبعدما ذكر سبحانه قصة آل داوود وسليمان ومواظبتهم على شكر نعم الله وأداء حقوق كرمه، أردف سبحانه بكفران أهل سبأ على نعمه سبحانه، وإنكارهم على حقوق كرمه، فقال: { لقد كان لسبإ } أي: لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان { في مسكنهم } أي: مواضع سكناهم، وهي باليمن، يقال لها: مأرب، بقرب صنعاء، مسيرة ثلاث مراحل { آية } عظيمة ونعمة جسيمة دالة على كمال معطيها وموجدها، وعلى اتصافه بالأوصاف الكاملة والأسماء الحسنى، وهي { جنتان } حافتان محيطتان { عن يمين وشمال } أي: جنة عجيبة عن يمين بلدهم، وأخرى عن يسارها.
وبعدما أعطيناهم هاتين الجنتين المشتملتين على غرائب صنيعنا وبدائع مخترعاتنا، قلنا لهم على طريق الإلهام: { كلوا } أيها المتنعمون المتفضلون من عندنا { من رزق ربكم } الذي رباكم بأنواع الكرامات { واشكروا له } نعمه، وواطبوا على أداء حقوق كرمه مع أن بلدتكم التي تسكنون فيها { بلدة طيبة } ماء وهواء، بريئة عن المؤذيات مطلقا { و } ربكم الذي رباكم فيها بأنواع الكرم { رب غفور } [سبأ: 15] ساتر عليكم فرطاتكم بعدما أخلصتم في شكر نعمه وأداء حقوق كرمه.
وبعدما نبهنا عليهم بشكر النعم والمداومة عليها، لم ينتبهوا ولم يتفطنوا، بل { فأعرضوا } عن الشرك، واشتغلوا بأنواع الكفران والطغيان والإنكار على المفضل المنان، المكرم الديان، وبعدما انصرفوا عنا وعن شكر نعمنا { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وهي الحجارة المركومة بالجص والنورة، وأنواع التدبيرات المحكمة للأبنية والأساس.
وذلك أنه كان لهم سد قد بنته بلقيس بين الجبلين، وجعلت لها ثلاث كوات بعضها فوق بعض، وبنت دونها بركة عظيمة، فإذا جاء المطر اجمتع عليها مياه أوديتهم، فاحتبس السيل من وراء السد، فيفتح الكوة العليا عند الاحتياج، ثم الثانية، ثم الثالثة السفلى، فلا ينفد ماؤها إلى السنة القابلة.
فلما طغوا وكفروا لنعم الله بعدما أمروا بالشكر على ألسنة الرسل، قيل: أرسل الله عليهم ثلاثة عشر نبيا، فكذبوا الكل وأنكروا لهم، سلط الله على سدهم الجرذ - قيل: هي من من الفأرة - فنقبت في أسفل السد بإلهام الله إياها، فسال الماء، فغرقت جنتهم ودفنت بيوتهم في الرمل، وكان ذلك من غضب الله عليهم على كفران نعمه.
{ و } بعدما أعرضوا عن شركنا، وأرسلنا عليهم من السيل ما أرسلنا { بدلناهم بجنتيهم } المذكورتين، المشابهتين للجنة الأخروية { جنتين } أخريين، سماهما سبحانه على سبيل التهكم والاستهزاء: { ذواتي أكل } وثمر { خمط } بشع سمج كزقوم أهل النار { و } ذواتي { أثل } طرفاء لا ثمر لها { وشيء من سدر } نبق { قليل } [سبأ: 16] أي: قليل النفع؛ إذ لا يسمن ولا يغني من جوع.
{ ذلك } الجزاء الذي { جزيناهم } من تبديل النعمة والجنة جحيما، واللذة ألما { بما كفروا } لنعمنا، وأنكروا لحقوق كرمنا؛ أي: بشؤم كفرانهم وطغيانهم، وكما غيروا الشكر بالكفران، بدلنا عليهم الجنان بالحرمان والخذلان، وبما كفروا لرسلنا وكذبوهم بلا مبالاة لهم وبدعوتهم، وبجميع ما جاءوا به من عندنا إياهم { وهل نجزي } بضم النون وكسر الزاي، بأمثال هذا الجزاء { إلا الكفور } [سبأ: 17] المعرض عن شكر نعمنا، الجاحد على حقوق لطفنا وكرمنا، والمبالغ في ستر الحق، المصر على الباطل الزاهق الزائل.
{ و } من كمال لطفنا وجودنا إياهم { جعلنا بينهم } أي: بين بلاد أهل سبأ { وبين القرى التي باركنا فيها } وكثرنا الخير على ساكنيها بتوسعة الأرزاق والفواكه والمتاجر، وهي: أرض الشام { قرى ظاهرة } متواصلة متظاهرة، يرى كل من الأخرى مترادفة على متن الطريق؛ تسهيلا لهم، ليتجروا بلا كلفة وتعب { وقدرنا } لهم { فيها السير } أي: في تلك القرى المترادفة على قدر مقيلهم ومبيتهم غاديا ورائحا، بحيث لا يحتاجون إلى حمل زاد وماء؛ لقرب المنازل والخصب والسعة، وبعدما أعطيناهم هذه الكرامات، قلنا لهم على ألسنة الرسل المبعوثين إليهم أو إلهاما لهم بلسان الحال: { سيروا فيها ليالي وأياما } على التعاقب والتوالي حيث شئتم لحوائجكم ومتاجركم { آمنين } [سبأ: 18] عن جميع المؤذيات، مصونين عن كيد الأعداء، شاكرين لنعمنا، غير كافرين عليها.
[34.19-23]
وبعد توجه الفقراء إلى ديارهم، وازدحموا لكمال الخصب والرفاهية والمعيشة الوسيعة وسهولة الطريق { فقالوا } متشكين إلى الله من مزاحمة الفقراء وإلمامهم عليهم، كافرين لنعمة التوسعة والسهولة: { ربنا باعد بين } منازل { أسفارنا } حتى نحتاج إلى حمل الزاد وشد الرواحل؛ ليشق الأمر على الفقراء، فيتنحوا عنا ولم يزدحموا علينا { وظلموا أنفسهم } بطلب هذا التعب، فأجاب الله دعاءهم، وخرب القرى التي بينهم وبين الشام، وانصرف الفقراء عنهم، وانقطع دعاؤهم لهم، فاشتد الأمر عليهم، وتشتتوا في البلاد، ولم يبق عليهم شيء من التوسعة والرفاهية، بل صاروا متفرقين مشتتين { فجعلناهم } أي: قصة أمنهم وفاهيتهم وجمعيتهم، بعدما عكسنا الأمر عليهم { أحاديث } لمن بعدهم، يتحدثون بينهم، متعجبين قائلين على سبيل التحسر في أمثالهم: " تفرق أيدي سبأ ".
{ ومزقناهم كل ممزق } أي: فرقناهم في البلاد تفريقا كليا إلى حيث لحق غسان منهم ب " الشام " ، وأنمار ب " يثرب " وجذام ب " تهامة " والأزد ب " عمان " { إن في ذلك } التبديل والتشتيت، وأنواع المحن والنقم بعد النعم { لآيات } دلائل واضحات على قدرة القدير الحكيم العليم، المقتدر على الإنعام والانتقام { لكل صبار } على المتاعب والمشاق الواردة عليه بمقتضى ما ثبت له في لوح القضاء، ومضى على الرضا بمقتضيات الحكيم العليم { شكور } [سبأ: 19] لنعم الله الفائضة عليه، مواظب أداء حقوقه.
ثم قال سبحانه مقسما: { و } الله { لقد صدق } - بالتشديد والتخفيف - { عليهم } أي: على هؤلاء الهالكين في تيه الخسران والكفران { إبليس } العدو لهم، المصر المستمر على عداوتهم من مبدأ فطرتهم { ظنه } الذي ظن بهم حين قال لأبيهم آدم:
لأحتنكن ذريته إلا قليلا
[الإسراء: 62] وقوله:
لا تجد أكثرهم شاكرين
[الأعراف: 17] وقوله :
ولأضلنهم ولأمنينهم
[النساء: 119] إلى غير ذلك، وبعدما أضلهم عن طريق الشكر والإيمان { فاتبعوه } كفروا النعم والمنعم جميعا { إلا فريقا من المؤمنين } [سبا: 20] الموقنين بتوحيد الله، المصدقين لرسله، المتذكرين لعداوته المستمرة، فانصرفوا عنه وعن إضلاله، فبقوا سالمين عن غوائله.
{ و } العجب كل العجب أنهم اتبعوا له وقبلوا إغواءه وإغراءه وتغريره، مع أنه { ما كان له عليهم من سلطان } حجة قاهرة غالبة ملجئة لهم إلى متابعته وقبول وسوسته من قبله، بل من قبلنا أيضا، وما ابتلينا وإغرينا هؤلاء البغاء بمتابعته - لعنه الله - { إلا لنعلم } ونميز ونظهر التفرقة بين { من يؤمن بالآخرة } وبجميع المعتقدات التي أخبرها الله بها { ممن هو منها } أي: من النشأة الأخرى، والأمور الكائنة فيها { في شك } تردد وارتياب، ولهذه التفرقة والتمييز، أتبعناهم إليه { و } لا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذه الابتلاءات والاختبارات من الله؛ إذ { ربك } الذي رباك على الهداية العامة { على كل شيء } من مقدوراته ومراداته الكائنة والتي ستكون، والجارية على سرائر عباده وضمائرهم، والتي ستجري { حفيظ } [سبأ: 21] شهيد، لا يغيب عنه إيمان مؤمن، وكفر كافر، وشكر شاكر، وشك شاك، وإخلاص مخلص.
وبعدما أثبت المشركون المصرون على كفران نعم الله أمثال هؤلاء الغواة المذكورين آلهة سوى الله سبحانه، وسموهم شفعاء وعبدوا لهم مثل عبادته سبحانه { قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { ادعوا } أيها الضالون المشركون الآلهة { الذين زعمتم } وأثبتهم { من دون الله } ليستجيبوا لكم في مهماتكم، ويستجلبوا لكم المنافع، ويدفعوا عنكم المضار، كما هو شأن الألوهية والربوبية، وكيف تدعونهم لأمثال هذه المهام مع أنهم { لا يملكون } لأنفسهم { مثقال ذرة } من الخير والشر والنفع والضر، لا { في السموت ولا في الأرض } لا استقلالا؛ إذ هم ليسوا قابلين للألوهية { و } لا مشاركة؛ إذ { ما لهم فيهما } أي: في خلقهما وإيجادهما { من شرك } مشاركة مع الله في ألوهيتهم؛ لأنهم من جملة مخلوقاته، بل من أدناها، ولا شركة للمخلوق مع خالقه { و } لا مظاهرة، إذ { ما له } سبحانه { منهم من ظهير } [سبأ: 22] ولا من غيرهم أيضا، معاون له في ألوهيته وربوبيته؛ إذ هو سبحانه منزه عن المعاونة والمظاهرة مطلقا.
{ و } كذلك ليس لهم عنده سبحانه شفاعة مقبولة حتى يشفعوا لهم ويخلصوهم من عذاب الله بعدما نزل عليهم؛ إذ { لا تنفع الشفاعة عنده } سبحانه من أحد من عباده { إلا لمن أذن له } بالشفاعة لغيره؛ لاتصافه بالكمال، أو بشفاعة الغير من الشرفاء له؛ لاستحقاقه بالكرامة وإن كان منغمسا بالرذالة، وبعدما وقعت الشفاعة وأذن بها من عنده سبحانه، ينتظر الشافعون المشفعون بعد وقوعها وجلين، خائفين مهابة من سطوة سلطنة جلاله سبحانه { حتى إذا فزع } وكشف الفزع، وأزيل الخوف والوجل { عن قلوبهم } أي: قلوب الشافعين والمشفوعين { قالوا } أي: بعضهم لبعض، أو المشفوعون للشافعين: { ماذا قال ربكم } في جواب شفاعتكم، أيقبلها أم يردها؟ { قالوا } أي: الشفعاء: القول { الحق } الثابت عنده، المرضي دونهن وهو سبحانه يقبل شفاعتنا في حقكم، وأزال عنكم عذابه { و } كيف لا يخافون من الله ولا يهابون - أي: الشفعاء - عن ساحة عز حضوره؛ إذ { هو } سبحانه { العلي } ذاته وشأنه، المقصور المنحصر على العلو، لا أعلى إلا هو { الكبير } [سبأ: 23] بحسب أوصافه وأسمائه؛ إذ الكبرياء رداءه، لا يسع لأحد أن يتردى به سواه.
[34.24-30]
{ قل } لهم أيضا على سبيل التبكيت والإلزام، مقرعا إياهم: { من يرزقكم من السموت } أي: عالم الأسباب { والأرض } أي: عالم المسببات، فيبهتون عن سؤالك { قل } يا أكمل الرسل بعدما بهتوا: { الله } إذ هو متعين للجواب وإن سكتوا عنه وتلعثموا مخافة الإلزام، أضمروا في قلوبهم هذا؛ إذ لا جواب لهم سواه، ولا رازق إلا هو ولا معطي غيره { و } بعدما بهتوا وانحسروا، واستولى الحيرة والقلق عليهم، قل لهم على سبيل المجاراة والمداراة: { إنآ } يعني: فرق الموحدين { أو إياكم } يعني: فرق المشركين؛ أي: كل منا ومنكم { لعلى هدى } أي: على الحق المطابق للواقع { أو في ضلال مبين } [سبأ: 24] ظاهر انحرافه، موصل إلى الباطل الزاهق الزائل، المضاد للحق الحقيق بالمتابعة والانقياد.
{ قل } لهم أيضا على سبيل المجاراة والمبالغة في المداراة معهم، بحيث تسند الجرم إلى أنفسكم والعمل إليهم؛ مبالغة في الإسكات والتبكيت: { لا تسألون } أنتم { عمآ أجرمنا } وجئنا به من الآثام { ولا نسأل } نحن أيضا { عما تعملون } [سبأ: 25] من الأعمال، بل كل منا ومنكم رهين ما اكتسبنا من العمل، فعليكم ما حملتم، وعلينا ما حملنا.
{ قل } يا أكمل الرسل أيضا على طريق الملاينة والملاطفة في الإلزام والتبكيت: { يجمع بيننا } وبينكم { ربنا } يوم نحشر إليه ونعرض عليه { ثم يفتح } أي: يحكم ويفصل { بيننا } ويرفع نزاعنا { بالحق } أي: العدل السوي بلا حيف وميل، فيساق المحقون نحو الجنة والمبطلون نحو النار { و } كيف لا يحكمل ويفصل سبحانه { هو الفتاح } لمعضلات الأمور، الحاكم لمعلقات القضايا { العليم } [سبأ: 26] الذي يكتنه عنده كل معلوم، ولا يشتبه عليه شيء منها.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما أشبعت الكلام على إسكاتهم وإلزامهم: { أروني } وأخبروني أيها المشركون { الذين ألحقتم به } أي: بالله سبحانه، وادعيتموه { شركآء } معه، مستحقين للعبادة مثله، وأخبروني عن أخص أوصافهم التي بها يستحقون الألوهية والمعبودية، لا تأمل أيضا في شأنهم والتدبر في حقهم، ثم رد عليهم سبحانه؛ ردعا لهم وزجرا عا هم عليه، وإرشادا لهم إلى ما هو الحق الحقيق بالاتباع، فقال: { كلا } أي: ارتدعوا أيها المشركون، المسرفون عن دعوى الشركة مع الله الواحد الأحد الصمد، الفرد الوتر، الذي ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا ظهير { بل هو الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والربوبية، بل هو في الوجود والتحقق { العزيز } الغالب القادر الظاهر على من دونه من الأظلال الهالكة المضمحلة، المتلاشية في شمس ذاته، المتشعشعة المتجلية حسب أسمائه وصفاته { الحكيم } [الحكيم: 27] المقتن في أفعاله المترتبة على علمه وإرادته وقدرته، يفعل ما يشاء إرادة واختيارا، ويحكم ما يريد استقلالا، ليس لأحد أن يتصرف في ملكه وملكوته.
{ و } بعدما ثبت ألا معبود في الوجود سوانا، ولا مستحق للعبادة غيرنا، فاعلموا أنا { مآ أرسلناك } يا أكمل الرسل بعدما انتخبناك من بين البرايا واصطفيناك منهم { إلا كآفة للناس } أي: رسالة عامة، شاملة لقاطبة الأنام؛ لتكفهم عن جميع الآثام، وتمنعهم عن مقتضيات نفوسهم ومشتهيات قلوبهم مما يعوقهم عن سبل السلامة وطرق الاستقامة، وبعدما أرسلناك إليه، صيرناك عليهم { بشيرا } تبشرهم إلى درجات الجنان، والفوز بلقاء الرحمن { ونذيرا } تنذرهم وتبعدهم عن دركات النيران وأنواع العذاب والحرمان { ولكن أكثر الناس } المجبولين على الكفران والنسيان { لا يعلمون } [سبأ: 28] حكمة الإرسال والإرشاد والهداية إلى سبيل الصواب والسداد؛ لذلك عاندوا معك وكذبوك وأنكروا بكتابك، وبجميع ما جئت به من عندنا عنادا ومكابرة.
{ ويقولون } لك منكريكن متهكمين، بعدما وعدتهم بقيام الساعة وبعث الموتى من قبورهم، وحشر الأموات من الأجداث: { متى هذا الوعد } الذي وعدتنا به، عينوا لنا وقت وقوع الموعود { إن كنتم صادقين } [سبأ: 29] في وعدكم ودعواكم، هذا يعنون بالخطاب رسول لاله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعا.
{ قل } يا أكمل الرسل في جوابهم بعدما اقترحوا على سبيل الإنكار: يناجي { لكم } أيها المنكرون للبعث بغتة { ميعاد يوم } أي: وعده أو زمانه بحيث { لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } [سبأ: 30] أي: لا يسع لكم متى فاجأكم أن تطلبوا التأخر عنه آنا أو التقدم عليه طرفة.
وبالجملة: قيام الساعة إذ حل عليكم، لا يمكنكم هذا، ولذا قيل: الموت هو القيامة الصغرى، وقال: صلى الله عليه وسلم:
" من مات فقد قامت قيامته ".
[34.31-33]
{ و } من كمال غيظ المشتركين معك يا أكمل الرسل وشدة إنكارهم على كتباك؛ بسبب اشتماله على الأوامر والنواهي الشاقة والتكاليف الشديدة، وبما أخبر فيه من قيام الساعة وأهوال الفزع الأكبر والطامة الكبرى { قال الذين كفروا } أي: ستروا الحق وأعرضوا عن مقتضاه: { لن نؤمن } ونصدق أبدا { بهذا القرآن } وبما فيه من الإنذارات والتخويفات، سيما حشر الأجساد وإعادة المعدوم بعينه { ولا } نصدق أيضا { بالذي بين يديه } من الكتب السالفة المشتملة على ذكر القيامة.
وذلك أنهم فتشوا عن أخبار اليهود والنصارى، وجميع من أنزل إليهم الكتب، فسمعوا منهم أنه ذكر في كتباهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم ووصف كتابه، وذكر الحشر والنشر، وجميع المعتقدات الأخروية؛ لذلك بالغوا في تكذيب الكتب رأسا، وصرفوا الناس أيضا عن تصديقها والإيمان بها وبمن أنزل إليهم، سيما بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { ولو ترى } أيها الرائي لرأيت أمرا فظيعا فجيعا { إذ الظالمون } الخارجون عن ربقة العبودية بتكذيب الرسل وإنكار الكتب وما فيها من أحوال النشأة الأخرى، سيما بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { موقوفون عند ربهم } محبوسون يوم العرض للسحاب { يرجع بعضهم إلى بعض القول } أي: يتجاورون فيما بينهم ويتراجعون في الأقوال، ويتلاومون ويتلاعنون فيها، حيث { يقول الذين استضعفوا } من الأتباع المتسمين بذل التبعية { للذين استكبروا } من المتبوعين المتعززين بعز الرئاسة: { لولا أنتم } موجودون مقتدون بيننا { لكنا مؤمنين } [سبأ: 31] موقنين بتوحيد الله، مصدقين لرسله وكتبه، وبجمي ما جرى على ألسنة الرسل والكتب.
ثم { قال الذين استكبروا } أي: المتبوعون المتعظمون بعز الرئاسة والثورة والسيادة { للذين استضعفوا } أي: الأتباع السفلة: { أنحن صددناكم عن الهدى } أي: لم نكن صادين، صارفين لكم عن الإيمان بالرسل والكتب { بعد إذ جآءكم } الرسل بالكتب المشتملة على الهدى والبينات، وعودم إلى الإيمان، ونحن ما صددنا إلا نفوسنا بلا تغرير وتضعيف منا إياكم { بل كنتم } حينئذ { مجرمين } [سبأ: 32] تاركين الإيمان والهداية تقليدا علينا لا صد منا.
{ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا } الضعفاء { بل مكر اليل والنهار }: لم يكن إضلالكم إيانا وتغريركم علينا وحيلتكم في تضليلنا دائما مستوعبا للأيام والليالي، ليس مخصوصا بوقت دون وقت؛ لأنكم رؤساء بيننا، أصحاب الثروة فينا، فتخدعون بنا قولا وفعلا، وتميل قلوبنا إلى ما أنتم عليه { إذ تأمروننآ أن نكفر بالله } وتوحيده وننكر رسله وكتبه { ونجعل له } أي: نثبت ونعتقد لله الواحد الأحد، المنزه عن الشريك { أندادا } شركاء معه في استحقاق العبادة والإطاعة والتوجه والرجوع في مطلق المهام.
{ و } بالجملة: { أسروا } أي: أظهروا وأخفوا { الندامة } على ما فات عنهم { لما رأوا العذاب } النازل عليهم بما صدره عنهم في النشأة الأخرى، أظهروا الندامة؛ تحسرا وتحزنا، أو أخفوها؛ مخافة التعيير والتقريع { و } بعدما أردنا تعذيبهم { جعلنا الأغلال } الممثلة لهم من تعديهم وظلمهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية { في أعناق الذين كفروا } بتوحيد الله، وأثبتوا له أندادا، وأنكروا لكتبه ورسله تابعا ومتبوعا، ضالا ومضلا، وقلنا لهم توبيخا وتعييرا: { هل يجزون } هؤلاء البعداء عن ساحة عز القبول { إلا ما كانوا يعملون } [سبأ: 33] أي: ما يجازون إلا بمقتضى أعمالهم وأفعالهم، وعلى طبقها على مقتضى العدل الإلهي.
[34.34-39]
{ و } كيف لا نأخذهم بشؤم أعمالهم وأفعالهم؛ إذ { مآ أرسلنا في قرية } من القرى الهالكة { من نذير } من النذر المبعوثين لإصلاح مفسادهم { إلا قال مترفوهآ } أي: متنعموها، للرسل من فرط عتوهم وعنادهم، اتكاء على ما عندهم من الجاه والثروة على سبيل التأكيد والمبالغة: { إنا بمآ أرسلتم به } أي: بجميع ما أرسلتم أيها المدعون للرسالة والهداية والدعوة العامة، وإقامة الحدود بين الأنام { كافرون } [سبأ: 34] جاحدون منكرون، لا نقبل منكم أمثال هذه الخرافات.
{ وقالوا } مفتخرين بما عندهم من الجاه والثروة: نحن أولى بما أدعيتم من النبوة والرسالة؛ إذ { نحن أكثر أموالا وأولادا } إذ بالأموال تنال كل مطلوب، وبالأولاد يظاهر على كل مملة ومكروه { و } بالجملة: { ما نحن بمعذبين } [سبأ: 35] لا في الدنيا لما سمعت من كرامة الأموال والأولاد، ولا في الآخرة أيضا إن فرض وقوعها؛ لأنا قوم أكرمنا الله بها في الدنيا، فكذا يكرمنا في الآخرة.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في الافتخار والمباهاة بما عندهم من حطام الدنيا ومتاعها: { إن ربي } القادر المقتدر على الإنعام والانتقام { يبسط } ويكثر { الرزق } الصوري الدنيوي { لمن يشآء } من عباده؛ اختبارا لهم وابتلاء { ويقدر } أي: يقل ويقبض على من يشاء؛ تيسيرا له وتسهيلا عليه حسابه { ولكن أكثر الناس } المجبولين على السهوا والنسيان { لا يعلمون } [سبأ: 36] حكمة قبضه وبسطه؛ لذلك يفرحون بوجوده ويحزنون بعدمه، ولم يتفطنوا أن وجوده يورث حزنا طويلا وعذابا أليما، وعدمه يوجب أنواع الكرمات ونيل المثوبات.
ثم قال سبحانه تقريعا على المفتخرين بالأموال والأولاد: { ومآ أموالكم ولا أولادكم } أيها المغرورون بهما، المحرومون عن اللذات الأخروية بسببهما، إلا وسيلة وواسطة { بالتي } أي: بالخلصة الحسنة التي { تقربكم } أيها المأمورون بالتقرب إلينا بالأعمال المقبولة { عندنا زلفى } أي: تقريبا مطلوبا لكم، مصلحا لأحوالكم وأعمالكم ومواجيدكم { إلا من آمن } منكم أيها المتمولون المتكثرون للأولاد، وأيقن بتوحيده سبحانه وصدق رسله وكتبه { وعمل } عملا { صالحا } مقبولا عند الله، متقربا إليه سبحانه ، بأن أنفق ماله في سبيل الله طلبا لمرضاته، وعلم أولاده علم التوحيد والأحكام والعقائد المتعلقة بدين الإسلام { فأولئك } السعداء المقبولون عند الله، المبسوطون من عنده بالرزق الصوري في هذه النشأة { لهم } في النشأة الأخرى { جزآء الضعف بما عملوا } أي: جزاؤهم من الرزق المعنوي أضعاف ما استحقوا بأعمالهم إلى العشرة، بل إلى ما شاء الله من الكثرة، بل { وهم في الغرفات } المعدة لأهل الجنة في الجنة { آمنون } [سبأ: 37] مصونون عن جميع المؤذيات والمكروهات.
ثم قال سبحانه: { و } الكافرون المنكرون المكذبون رسلنا وكتبنا { الذين يسعون } ويجتهدون { في } قدح { آياتنا } الدالة عظلمة ذاتنا، وكمال أسمائنا وصفاتنا، وعلى الأحكام الجارية بين عبادنا، المتعلقة لأحوالهم في النشأتين حال كونهم { معاجزين } قاصدين عجزنا عن إقامة الحدود بين العباد، واتخاذ العهود منهم، ووضع التكاليف والأحكام والآداب بينهم { أولئك } البعداء، الطاعنون لآياتنا الكبرى، الغافلون عن فوائدها العظمى { في العذاب } المؤبد المخلد { محضرون } [سبأ: 38] لا يتحولون عنها ولا يغيرون.
{ قل } يا أكمل الرسل للمسرفين المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية، متكئين بما عندهم من الأموال والأولاد الفانية الزائلة، مفتخرين بها تفوقا وتبجحا: { إن ربي } العليم، المطلع على جميع استعدادات العباد، الحكيم في إفاضة ما يليق لهم { يبسط } يزيد ويفيض { الرزق } الصوري { لمن يشآء من عباده } تارة على مقتضى مشيئته ومراده { ويقدر له } أي: ينقص ويقبض الرزق عنه مرة أخرى إرادة واختيارا على مقتضى حكمته ومصلحته التي استأثر الله بها في غيبه وحضرة علمه { و } بعدما سمعتم هذا اعلما أيها المبسوطون المنعمون { مآ أنفقتم من شيء } استخلفكم الله سبحانه عليه من الرزق، وأمركم بإنفاقه على فقرائه { فهو } سبحانه { يخلفه } ويعوض عنه بأضعافه وآلافه، إن صدر عنكم الإنفاق بالاعتدال بلا تبذير وتقتير { و } كيف لا يخلف سبحانه الرزق الصوري لخلص عباده مع أنه { هو } سبحانه { خير الرازقين } [سبأ: 39] بالرزق الصوري المعنوي، المخلص لهم عن مقتضيات بشريتهم ومشتيهات أهويتهم البهيمية.
[34.40-43]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن عبد الملائكة واتخذوهم أربابا من دون الله مستحقين للعبادة والرجوع في الملمات مثله سبحانه، وسموهم شفعاء { يوم يحشرهم } في المحشر { جميعا } العبادون والمعبودون { ثم يقول للملائكة } على رءوس الأشهاد، وتفضيحا للعابدين، وتقريعا لهم: { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [سبأ: 40] يعني: أهؤلاء المسرفون المشركون ي يعبدون إياكم كعبادتي، بل يخصونكم بالعبادة ويهتمون بشأنكم، هل تستبعدونهم وتسترضون عبادتهم وتوالون معهم، أم يعبدونكم من تلقاء نفوسهم؟!.
{ قالوا } أي: الملائكة خائفين من بطشه سبحانه، مستحيين، متضرعين نحو جنابه: { سبحانك } ننزهل يا مولانا عما لا يليق بشأنك { أنت ولينا من دونهم } وأنت المراقب علينا، المطلع على سرائرنا وضمائرنا، المتولي لجميع ما صدر عنا، وأنت تعلم يا مولانا ألا موالاة بيننا وبينهم؛ إذ لا يخفى عليك خافية، ومن أين يسع لنا ويتأتى من الرضا بأمثال هذه الجرأة والجرائم العظيمة، وأنت أعلم يا مولانا بمعبوداتهم التي اتخذوها هؤلاء الغواة الطغاة، الهالكون في تيه الجهل والغفلة؛ لعلو شأنك وشأن ألوهيتك وربوبيتك { بل كانوا يعبدون الجن } أي: الشياطين الداعين لهم إلى عبادتهم، الراضين بها؛ لأنهم يتمثلون بصور الملائكة، ويدعون الألوهية والربوبية لأنفسهم، ويأمرونهم بالعبادة لأنفسهم، بل { أكثرهم } أي: كل المشركين، وجملة المتخذين أندادا لله { بهم مؤمنون } [سبأ: 41] أي: بالشياطين، عابدون لهم، متوجهون نحوهم في عموم مهامهم.
{ فاليوم } تبلى السرائر، وظهر ما في الضمائر، ولا سلطان الوحدة الذاتية، وانقهر الأظلال الأغيار، وظهر أن الأمور كلها مفوضة إليه سبحانه، وإن كان قبل ذلك أيضا، كذلك { لا يملك بعضكم } أيها الأظلال المستهلكة في شمس الذات { لبعض نفعا ولا ضرا } لا جلبا ولا دفعا، ولا لطفا ولا قهرا { و } بعدما انقطع عنهم التصرف مطلقا، لا معنى ولا صورة، ولا مجازا ولا حقيقة { نقول } على مقتضى قهرنا وجلالنا { للذين ظلموا } وخرجوا عن ربقة عبوديتنا ومقتضيات حدودنا الموضوعة لإصلاح أحوال عبادنا: { ذوقوا } أيها الضالون المنهمكون في بحر العدوان والطغيان { عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } [سبأ: 42] في نشأتكم الأولى بعدما أخبرتم على ألسنة الرسل والكتب.
{ و } كيف لا نقول لهم ما نقول؛ إذ هم كانوا من غاية عدوانهم وظملهم على الله وعلى رسله وكتبه { إذا تتلى عليهم آياتنا } الدالة على إصلاح أحوالهم المتعقلة بالنشأتين مع كونها { بينات } واضحات في الدلالة على أهل مقاصدهم ومطالبهم { قالوا } من شدة شكيمتهم وغيظهم على رسول الله: { ما هذا } المدعي للرسالة والنبوة - يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم - { إلا رجل } حقير مستبد برأيه، مستبدع أمرا من تلقاء نفسه { يريد أن يصدكم } ويصرفكم { عما كان يعبد آبآؤكم } ويستتبعكم؛ أي: يجعلكم تابعين له، بل يستبعدكم بأمثال هذا التلبيس والتقرير { وقالوا } أيضا في حق القرآن: { ما هذآ } الذي جاء به { إلا إفك مفترى } أي: كذب مختلق غير مطابق للواقع، افتراه على الله؛ تلبيسا وتقريرا على ضعفاء الأنام { و } بالجملة: { قال الذين كفروا للحق } الصريح، وستروه بالباطل عدوانا وعنادا { لما جآءهم } أي: حين عاينوا به وعلموا أنه من الخوارق العجيبة، واضطروا خائبين حائرين عن جميع طرق الرد والمنع، غير أنهم نسبوه إلى السحر وقالوا: { إن هذآ } أي: ما هذا الذي سماه قرآنا { إلا سحر مبين } [سبأ: 43] ظاهر سحريته، عظيم إعجازه.
[34.44-48]
ثم أشار سبحانه إلى غاية تجهيل المشركين ونهاية تسفيههم، فقال: { ومآ آتيناهم } وأنزلنا عليهم { من كتب يدرسونها } وفيها دليل الإشراك وإثبات الآلهة، بل كل الكتب منزلة على التوحيد وبيان طريقه { و } كذلك { مآ أرسلنا إليهم قبلك } يا أكمل الرسل { من نذير } [سبأ: 44] ينذرهم عن التوحيد، ويدعوهم إلى الشرك، بل كل من أرسل من الرسل، فإنما هو على إرشاد التحيد والإنذار عن الشرك المنافي له.
ثم أشار سبحانه إلى تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدهم بالأخذ والبطش، فقال: { و } كما كذب هؤلاء المكذبون بك أكمل الرسل وبكتابك { كذب الذين من قبلهم } من الأمم رسلهم والكتب المنزل عليهم { و } هم؛ أي: هؤلاء الغواة المكذبون لك يا أكمل الرسل { ما بلغوا معشار مآ آتيناهم } أي: عشر ما أعطينا لأولئك المكذبين الماضين من الجاه والثروة والأمتعة الدنيوية وطول العمر، ومع ذلك { فكذبوا رسلي } فأخذناهم مع كمال قوتهم وشوكتهم { فكيف كان نكير } [سبأ: 45] أي: إنكاري وانتقامي إياهم بالتدمير والهلاك، مع إنكارهم على رسلي وكتبي بالتكذيب والاستخفاف.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما بلغ إلزامهم وتهديدهم غايته : { إنمآ أعظكم بواحدة } أي: ما أذكر لكم وأنبه عليكم إلا بخصلة واحدة كريمة، وهي: { أن تقوموا لله } وحده، وتوحدوه عن وصمة الكثرة مطلقا، وتواظبوا على أداء الأعمال الصالحة المقربة إليه، المقبولة عنده سبحانه، وتخلصوها لوجهه الكريم بلا شوب شركة ولوث كثرة وخباثة، رياء ورعونة، سمعة وعجب، واسترشدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم { مثنى } أي: اثنين اثنين { وفرادى } أي: واحد واحد؛ يعني: متفرقين بلا زخام مشوش للخاطر، مخلط للأقوال، حتى يظهر لكم شأنه صلى الله عليه وسلم ويتبين دونكم برهانه { ثم } بعدما ترددتم عليه صلى الله عليه وسلم على وجه التعاقب والتفريق { تتفكروا } فيما لاح عنكم منه صلى الله عليه وسلم، وتأملوا فيه حق التأمل والتدبر على وجه الإنصاف، معرضين عن الجدل والاعتساف؛ لينكشف لكم أنه { ما بصاحبكم } يعني: محمد صلى الله عليه وسلم { من جنة } أي: جنون وخبط يعرضه ويحمله على ادعاء الرسالة بلا برهان واضح يتضح له وينكشف دونه، كما زعم في حقه صلى الله عليه وسلم مشركوا مكة - لعنهم الله - كي يفتضح على رءوس الأشهاد، كما نشاهد من متشيخة زماننا - خذلهم الله - أمثال هذه الخرافات بلا سند صحيح.
وبعدما لم يساعدهم البرهان والكرامة افتضحوا، وهو صلى الله عليه وسلم مع كمال عقله ورزانة رأيه ومتانة حكمته، كيف يختار ما هو سبب الشنعة والافتضاح؟! تعالى شأنه صلى الله عليه وسلم عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
والمعنى: ثم بعدما جلستم عنده صلى الله عليهم وسلم على الوجه المذكور، تكلمتم معه على طريق الإنصاف، تتفكرون وتتأملون، هل تجدونه صلى الله عليه وسلم معروضا للخبط والجنون، أم للأمر السماوي الباعث له صلى الله عليه وسلم على أمثال هذه الحكم والأحكام والعبر والأمثال التي عجزت دونها فحول العقلاء وجماهير الفصحاء والبلغاء، البالغون أقصى نهاية الإدراك، مع وفور دعاويهم، وبمعارضتها والتحدي معها؟! بل { إن هو } أي: ما هذا الرسول المرسل إليكم المؤيد بالبراهين الواضحة والمعجزات اللائحة المثبتة لرسالته { إلا نذير لكم } من قبل الحق { بين يدي عذاب شديد } [سبأ: 46] أي: قبيل الساعة ، وقدام يوم القيامة المعدة لأنواع العذاب والنكال على عصاة العباد.
وإن اتهموك يا أكمل الرسل بأخذ الأجر والجعل على أداء الرسالة وتبليغ الأحكام، بل حصروا ادعاءك الرسالة ودعوتك على هذا فقط { قل } لهم على طريق الإسكات والإلزام: ما سألت منكم شيئا من الجعل أصلا، وإن فرض أني سألت منكم شيئا، فاعلموا أن { ما سألتكم من أجر } على إرشادكم وتكميلكم { فهو لكم } أي: هبة لكم، مردود عليكم { إن أجري } أي: ما أجري وجعلي على تحمل هذه المشاق والمتاعب الورادة في تبليغ الرسالة وإظهار الدعوة { إلا على الله } الذي أرسلني بالحق، وبعثني بالصدق، وهو المراقب المطلع على جميع أحوالي، الحكيم بإفاضة ما ينبغي ويليق بي وبشأني { و } كيف لا يطلع سبحانه على أحوال عباده؛ إذ { هو } بذاته { على كل شيء } ظهر من الموجودات ولاح عليه لمعة الوجود { شهيد } [سبأ: 47] حاضر دونه، غير بعيد عنه ومغيب عليه.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما تمادى مراءة أهل الضلال وتطاول جدالهم: لا أبالي باساتهدائكم واسترشادكم، ولا أبالغ في تمكيلكم، بل { إن ربي } العليم باسعتدادات عباده، الحكيم بإفاضة الإيمان والعرفان على من أراد هدايته وإرشاده { يقذف بالحق } أي: يلقيه وينزله على قلوب عباده الذين جبلهم على فطرة الإسلام واستعدادات التوحيد والعرفان، إذ هو سبحانه { علام الغيوب } [سبأ: 48] يعرف استعدادات عباده وقابلياتهم على قبول الحق، ويميزهم عن أهل الزيغ والضلال، المجبولين على الغواية الفطرية، والجهل الجبلي.
[34.49-54]
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما بينت لهم طريق الحق كلاما ناشئا عن محض الحكمة، خاليا عن وصمة الكذب مطلقا: { جآء الحق } الحقيق بالاتباع، وظهر الإسلام الجدير بالإطاعة والاستسلام، فلكم أن تغتنموا الفرصة وتنقادوا له مخلصين { و } نبههم ويا أكمل الرسل أيضا أنه بعدما ظهر نور الإسلام، وعلا قدره، وارتفع شأنه { ما يبدىء } ويحدث { الباطل } الذي زق واضمحل ظلمته بنور الإسلام، وغار مناره في مهاوي الجهل وأغوار الخذلان { و } صار إلى حيث { ما يعيد } [سبأ: 49] أصلا في حين من الأحيان.
سبحان من أظهر أنوار الإسلام ورفع أعلامه، وقمع الكفر وأخفض أصنامه.
ثم لما طعن المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيروه بأن تركت دين آبائك واخترعت دينا من تلقاء نفسك، فقد ضللت باختيارك هذا، بتركك ذاك عن منهج الرشاد، ورد الله سبحانه عليهم قولهم هذا وتعييرهم، آمرا لنبيه على وجه الامتنان: { قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما عيروك وطعنوا في شأنك ودينك: { إن ضللت } وانحرفت عن سبيل السلامة وجادة الاستقامة { فإنمآ أضل } وأنحرف { على نفسي } وبمقتضى أهويتها ومشتهياتها، وشؤم لذاتها وشهواتها { وإن اهتديت } إلى التوحيد والعرفان، ونلت إلى أسباب درجات الجنان { فبما يوحي إلي ربي } أي: بسبب وحيه وإلهامه إلي، وامتنانه علي بالهداية إلى أنواع الكرامات وأصناف اللذات الروحانية { إنه } سبحانه { سميع قريب } [سبأ: 50] يسمع مناجاتي، ويقضي جميع حاجاتي على وجهها إن تعلق إرادته ومشيئته بها بعدما جرى وثبت في حضرة علمه، ومضى عليها قضاؤه في لوحه بحيث لا يفوته شيء.
{ و } من كمال قرب الله سبحانه لعباده { لو ترى } أيها الرائي وقت { إذ فزعوا } أي: الكفرة والمشركون وقت حلول الأجل ونزول العذاب عليهم في يوم الساعة، لرأيت أمرا فظيعا { فلا فوت } أي: حين لا فوت لهم عن الله، لا منهم ولا من أعمالهم و أحوالهم شيء { و } إن تحصنوا بالحصون الحصينة والقلاع المنيعة والبروج المشيدة، بل { أخذوا } حيثما كانوا { من مكان قريب } [سبأ: 51] من الله، ولو كانوا في قعر الأرض، أو قلل الجبال، أو في قلب الصخرة، أو فوق السماء، أو في أي مكان من الأماكن المخفية، وبالجملة: أخذوا من مكان قريب بالنسبة إليه سبحانه؛ إذ هو سبحانه منزه عن الأمكنة، شهيد حاضر في جميعها، غير مغيب عنها.
{ و } بعدما اضطروا إلى الهلاك أو العذاب في يوم الجزاء { قالوا } بعدما انقرض وقت الإيمان ومضى أوانه: { آمنا به } أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم { وأنى لهم التناوش } أي: من أين يتأتى ويحصل لهم تناول الإيمان وتلافيه { من مكان بعيد } [سبا: 52] بمراحل عن الإيمان؛ إذ قد انقرض مدة التكليف والاختيار.
وحين كانوا قريبين، قادرين على تناوله وتعاطيه، لم يختاروه ولم يتصفوا بهن بل { وقد كفروا به } صلى الله عليه وسلم وأنكروا عليه على كتابه ودينه { من قبل } في النشأة الأولى، أو في زان الصحة؛ أي: قبل ما عاينوا بالعذاب والهلاك { و } هم قد كانوا في زمان الإيمان به صلى الله عليه وسلم وبكتابه { يقذفون بالغيب } أي: يرمونه ويرجمونه رجما بالغيب، ويقولون في حقه على سبيل التخمين والحسبان عدوانا وظلما: إنه كاهن، شاعر، مجنون، وكتابه أساطير الأولين، بلا كلام المجانين، مع أن أمثال هذه الخرافات بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه { من مكان بعيد } [سبأ: 53] بمراحل عن شأنه العلي العظيم، وكتابه الجلي الكريم، وإيمانهم في حالة اضطرارهم أبعد عن محل القبول بمراحل أيضا.
{ و } بعدما آيسوا عن قبول الإيمن وقت الاضطرار { حيل } وحجب { بينهم وبين ما يشتهون } من الإيمان والنجاة المترتبة عليه، ففعل بهم حينئذ { كما فعل بأشياعهم } وأشباههم { من قبل } من الكفرة المضاين الهالكين، الملتجئين إلى الإيمان وقت اضطرارهم وهجوم العذاب عليهم، كفرعون وقارون وغيرهما { إنهم } قد { كانوا } أمثال هؤلاء الغواة المنهمكين { في شك } أي: غفلة وتردد { مريب } [سبأ: 54] موقع أصحابه في ريب عظيم، وكفر شديد، وإنكار غليظ.
أعاذنا الله وجميع عباده عن أمثاله بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك، المتدرج في درجات اليقين من العلم إلى العين إلى الحق - وفقك الله إلى أعلى مطالبك، وأعانك في إنجائه - أن تتمكن في مقعد الصدق الذي هو مرتبة الرضا، معرضا عن الشك والتردد في مقتضيات القضاء، ومبرمات الأحكام المثبتة في حضرة العلم الإلهي، وأن تتوجه نحوه سبحانه في جميع حالاتك بذيل كرم نبيه المؤيد من عنده الذي أرشدك إلى توحيده، مسترشدا من آيات كتاب الله المنزنل على رسوله، المبين لسلوك طريق التوحيد واليقين، وأحاديث النبي الموضح لمغلقات الكتاب، المشير إلى رموزه وإشاراته.
فلك في كل الأحوال التبتل إلى الله، والتوكل نحوه، والتفويض إليه، فاتخذه سبحانه وكيلك في جميع حوائجك، وحسيبك في جميع مهماتك، يكفيك معينا، وكيف عنك شرور أعدائك مطلقا.
وإياك إياك أن تختلط مع أصحاب الغفلة وأرباب الثروة، المفتخرين بما عندهم من المال الجاه، والنسب العلي والحسب الذي يباهي صاحبه ويتفوق على أقرانه ويطلب الرئاسة والسيادة بسببه.
وإن أردت أن تجلس مع بني نوعك وتصاحب معهم، فاختر منهم من انقطع عن الدنيا وأمنايها، وتزهد عنها وما فيها، سوى سد جوعة وستر عورة وكن يحفظه عن البرد والحر، وصاحب معه مصاحبة الحائر التائه في بيداء، لا يدري أين طرفاها، متفكرين متدبرين للخروج منها، والنجاة عن أهوالها وأغوالها.
فلك أن تتذكر في عموم أوقاتك قوله صلى الله عليه وسلم، واجعله نصب عينيك في جميع حالاتك وهو:
" كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل، وعد نفسك من أصحاب القبور ".
جعلنا الله ممن امتثل به، وتذكر وعمل بمقتضاه، ووجد في نفسه حلاوة معناه بفضله ولطفه.
[35 - سورة فاطر]
[35.1-4]
{ الحمد لله } المحيط المشتمل على جميع ما صدر عن ألسنة عموم المظاهر حالا ومقالا ثابت { فاطر السموت } أي: الذي فطر؛ أي: أظهر وأبدع الأجرام العلوية من كتم العدم بعدما شق وفلق ظلمته بأشعة نور الوجود، المنعكسة من الصفات الأسنى والأسماء الحسنى الإلهية { والأرض } أي: الأجسام أيضا كذلك؛ ليتحقق الفاعل والقابل ويتكون منهما من الكوائن والفواسد ما شاء الله بحوله وقوته { جاعل الملائكة } أي: الذي جعل الملائكة الذين هم سدنة سدته العلية وخدمة عتبته السنية { رسلا } أي: وسائل ووسائط بينه سبحانه وبين خواص عباده من الأنبياء والرسل والأولياء المؤيدين من عنده سبحانه بالرتبة العلية والدرجة الرفيعة، يبلغون إليهم من قبل الحق ما تفضل بهم سبحانه من الوحي المتعلق بخير الدارين ونفع النشأتين؛ ولذلك صيرهم سبحانه { أولي أجنحة } متعددة مفتاوتة يسرعون بها نحو مصلحة بعثهم الله إليها وأمرهم بتبليغها { مثنى وثلاث ورباع } أي: لبعضهم أجنجة انثني اثنين، ولبعضهم ثلاثة ثلاثة، ولبعضهم أربعة أربعة إلى ما شاء الله، بلا انحصار في عدد دون عدد، بل { يزيد } سبحانه { في الخلق } أي: في جميع مخلوقاته { ما يشآء } بلا حد وحصر؛ إذ لا ينتهي قدرته دون مقدور، بل له أن يتصرف فيه إلى مالا يتناهى، كما روي:
" أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح ".
وهذا دليل على أن ذكر العدد ليس للحصر، فالآية تدل على أن له سبحانه أن يتصرف في ملكه وملكته كما شاء وكيف شاء ومتى شاء، فيجوز أن يخلق أنواعا لم يخلقها قبل من أي جنس كان، ويخلق أيضا في فردع نوع أمورا عجيبة من الملاحة والصباحة وحسن الصوت والصورة، وكمال العقل ورزانة الرأي، وخواص غريبة لم يخلقها قبل لأفراد أخر من هذا النوع.
ولهذا يتفاوت أشخاص الإنسان في المعارف والحقائق وجميع الأمور المتعلقة بالعقل المتفرعة على الإدراك بحسب الأدوار والأعصار، بل في زمان واحد أيضا؛ إذ بعضهم في نهاية البلادة، وبعضهم في كمال الجلادة، وبعضهم في كمال الحسن واللطافة، وبعضهم في نهاية الكثافة والقباحة.
وبالجملة: له سبحانه التصرف في ملكه وملكوته بالاستقلال والاختيار بلا فترة وفتور في علمه وقدرته وإرادته، إذ هو سبحانه منزه عن السآمة والملال، وأوصافه بريئة عن وسمة الفترة والكلال { إن الله } القادر المقتدر بالقدرة التامة { على كل شيء } تعلق به إرادته ومشيئته { قدير } [فاطر: 1] لا بد أن يتكون باختياره بلا تخلف كل ما لمع عليه برق إرادته.
ومن كمال قدرته سبحانه أنه { ما يفتح الله } المدبر لأحوال عباده { للناس } الناسين حقوق تربيته وتدبيره سبحانه { من رحمة } فائضة لهم بمقتضى جوده تفضلا عليهم من النبوة والرسالة والولاية والكرامة والعلم والمعرفة والرشد والهداية، وغير ذلك من الكمالات الفائضة من عنده سبحانه { فلا ممسك لها } أي: لا مانع لها يمنعها عنهم { وما يمسك } ويمنع سبحانه من أمر بمقتضى قهره وجلاله { فلا مرسل له } يرسله إليهم { من بعده } أي: بعد منعه سبحانه { و } كيف يسع لأحد ما يمنعه؛ إذ { هو العزيز } المقصود، المنحصر ذاته على العزة والغلبة، لا عزيز دونه { الحكيم } [فاطر: 2] المستقل في المنع والإرسال إرادة، لا يسأل عن فعله، ولا مبدل لقوله: ولا معقب لحكمه.
ثم نادى سبحانه أهل النعمة وخاطبهم؛ ليقبلوا عليه ويواظبوا على شكر نعمه فقال: { يأيها الناس } المجبولون على الغفلة والنسيان { اذكروا نعمت الله } الفائضة { عليكم } واشكروا له؛ أداء لحقوق كرمه، وتفكروا في آلائه ونعمائه { هل من خالق غير الله } المتوحد بوجوب الوجود ودوام البقاء { يرزقكم من السمآء والأرض } أي: من امتزاج العلويات بالسفليات، واختلاط الفواعل والأسباب مع القوابل والمسببات المسخرة تحت قدرة العليم الحكيم؛ لينكشف لكم ويتبين أنه { لا إله } يعبد بالحق ويتوجه إليه، ويسند الحوادث إلى حكمه والنعم الفائضة إلى فضله وجوده { إلا هو } الله الحق الحقيق بالإطاعة والرجوع، لا مرجع سواه ولا مقصد إلا هو { فأنى تؤفكون } [فاطر: 3] وكيف تصرفون عن توحيد، وتردون عن بابه أيها الآفكون المجرمون.
{ و } بعدما بعثت يا أكمل الرسل لإرشاد أهل الضلال وتبليغ الرسالة إليهم، فلك أن تتصبر على المتاعب والمشاق الواردة في حملها { إن يكذبوك } هؤلاء الضالون بعدما دعوتهم إلى الحق، فتأس إخوانك الرسل واصبر على أذى تكذيبهم { فقد كذبت رسل } عظام كثير { من قبلك } أمثالك، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا { و } هم قد علموا أنه { إلى الله } الواحد الأحد، القادر المقتدر على الإنعام والانتقام، لا إلى الوسائل والأسباب العادية { ترجع الأمور } [فاطر: 4] الكائنة من التصديق والتكذيب والصبر والأذى، وغير ذلك من الحوادث؛ إذ كلها مستندة إلى الله أولا وبالذات، حاضرة في حضرة علمه، ثابتة في لوح قضائه، يجازي كلا من المحقين والمبطلين، المصدقين والمكذبين على مقتضى علمه وخبرته.
[35.5-8]
{ يأيها الناس } المهمكون في بحر الغفلة والنيسان، التائهون في تيه الغرور والخسران { إن وعد الله } الذي وعده في النشأة الأخرى لعموم عباده شقيهم وسعيدهم، مطيعهم وكافرهم { حق } ثابت، لازم إنجازه على الله بلا خلف، فلكم أن تتزودوا لأخراكم وتهيئوا أمر عقباكم؛ كي تصلوا إلى ما أعد لكم مولاكم { فلا تغرنكم } وتعوقنكم { الحياة الدنيا } ولذاتها الفانية وشهواتها الزائلة عن الحياة السرمدية، والبقاء الأبدي واللذات الأزلية { ولا يغرنكم بالله الغرور } [فاطر: 5] يعني لا يلبس عليكم الشيطان المكار الغرار الغدار بأن يوقع في قلوبكم أن رحمة الله واسعة وفضله كثير ولطفه عام، وأن الله سبحانه مستغني عن طاعتكم وعبادتكم، وأن فعل الإيلام لا يتصور من الحكيم العلام، إلى غير ذلك من الحيل العائقة لكم عن التقوى والتزود للنشأة الأخرى.
{ إن الشيطان لكم } يا بني آدم { عدو } قديم، مستمر عداوته من زمان أبيكم { فاتخذوه } أي: الشيطان، أنتم أيضا { عدوا } لأنفسكم عداوة مستمرة بحيث لا تصغوا إليه ولا تقبلوا منه قوله، ولا تلتفتوا إلى تغريره وتلبيسه أصلا، فإنه يواسيكم ويغريكم إلى مشتهيات نفوسكم، ويوقعكم في فتنة عظيمة، كما أوقع أباكم آدم عليه السلام فعليكم أن تجتنبوا عن غوائله، حتى لا تكونوا من حزبه { إنما يدعوا حزبه } على الغواية والضلال { ليكونوا من أصحاب السعير } [فاطر: 6] المعد لأصحاب الشقاوة الأزلية مثل الشيطان وأحزابه وأتباعه.
نجنا بفضلك من سخطك، وأعدنا بلطفك من تغرير عدونا وعدوك.
ثم قال سبحانه كلاما جمليا، شاملا لعموم العباد؛ تذكيرا وعظة، مشتملا على الوعد والوعيد بكلا الفريقين: { الذين كفروا } أي: ستروا الحق وأعرضوا عنه في النشأة الأولى عنادا ومكابرة { لهم عذاب شديد } إي: إحراق بالنار في النشأة الأخرى؛ جزاء لما اقترفوا في النشأة الأولى؛ إذ لا عذاب أشد من الإحراق { والذين آمنوا } بتوحيد الله، وصدقوا رسله المؤيدين من عنده بالصحف والكتب المنزلة إليهم، المبينة لسلوك طريق التوحيد والعرفان { وعملوا الصالحات } المأمورة لهم في تلك الكتب والصحف { لهم } في النشأة الأخرى { مغفرة } ستر وعفو لما صدر عنهم من الذنوب قبل الإيمان والتصديق { وأجر كبير } [فاطر: 7] وجزاء عظيم على ما عملوا بعده بمقتضى الأمر الإلهي المبين في الكتب المنزلة من عنده.
{ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } يعني: أيزعم أن من زين وحسن له الشيطان عمله السويء القبيح في الوقاع فخيله حسنا بحسب زعمه الفاسد واعتقاده الباطل، كمن كان عمله حسنا في الواقع حقا في نفس الأمر واعتقده أيضا كذلك، حتى يكونا متساويين في استحقاق الأمر الجزيل والجزاء الجميل؟! كلا وحاشا { فإن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء، المقتدر على جميع ما يشاء { يضل } عن صراط توحيده بمقتضى قهره وجلاله { من يشآء } من عصاة عباده { ويهدي من يشآء } منهم الإضلال والضلال، والإرشاد والهداية إنما هي مستمدة أولا وبالذات إلى مشيئة الله وإرادته، لا مدخل لأحد من خلقه فيها أصلا { فلا تذهب نفسك } أي: لا تتعب ولا تهلك نفسك { عليهم } أي: على غواية من أردت أو أحببت هدايته { حسرات } أي: حال كونك متحسرا ومتأسفا تحسرا فوق تحسر، وتحزنا فوق تحزن على ضلالهم وعدم قبولهم الهداية، والمعنى: أفمن زين له سوء عمله، فحسنه على نفسه واعتقده حقا جهلا مع أنه باطل في نفسه، وبذلك ضل عن طريق الحق وانحرف عن سوء السبيل، وبعد بمراحل عن الهداية، وأنت يا أكمل الرسل أذهبت وأهلكت نفسك حسرة عليهم وضجرة لما لم يهتدوا ولم يؤمنوا، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبالجملة: { إن الله } المراقب على جميع حالاتهم { عليم بما يصنعون } [فاطر: 8] يجازيهم على مقتضى علمه بسوء صنيعهم، ولا تتعب نفسك عليهم بما يفوتون على نفوسهم من الرشد والهداية.
[35.9-11]
{ و } كيف لا يعلم سبحانه ضمائر عباده واستعداداتهم مع أنه { الله } المدبر لعموم أفعالهم وأحوالهم وحوائجهم، هو { الذي أرسل } بلطفه ومقتضى جوده { الرياح } العاصفة { فتثير } وتهيج { سحابا } هامرة، مركبة من الأبخرة والأدخنة المتصاعدة، القابلة لأن تتكون منها مياها بمجاورة الهواء البارد والرطب { فسقناه } بعدما تم تركيبه عناية منا { إلى بلد ميت } يابس في غاية اليبس بحيث لا اخضرار له أصلا { فأحيينا به } أي: بالمطر الحاصل من السحاب { الأرض بعد موتها } أي: جفافها ويبسها { كذلك } أي: مثل إحيائنا الأرض اليابسة بعد يبسها وجمودها { النشور } [فاطر: 9] أي: أحياؤنا الأموات الجامدة ونشرهم من قبورهم؛ بإعادة الروح المنفصل منهم إلى أبدانهم التي تفتت أجزاؤها، بإرسال نفحات نسمات لطفنا ورحمتنا لتثير سحاب العناية الماطرة قطرات ماء الحياة المسوقة إلى أراضي الأبدان اليابسة والجامدة بالموت الطبيعي، إنما أحييناهم وأخرجناهم من الأجداث؛ إظهارا لقدرتنا، وتتميما لحكمتنا واستقلالنا في آثار تصرفنا في ملكنا وملكوتنا، وتعززنا وكبريائنا في ذاتنا.
وبالجملة: { من كان يريد العزة } الكاملة، التي لا يعقبها ذل أصلا، فله أن يسترجع إلى الله ويتوجه نحو توحيده { فلله العزة } والغلبة والسلطنة الكاملة والبسطة الشاملة { جميعا } ومن أراد أن يتعزز بعزة الله، فله في أوائل سلوكه إلى الله أن يتذكر سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا إلى أن ينتهي تذكره إلى التفكر الذي هو آخر العمل وصار متفكرا في ذاته، مستكشفا عن أستار جبروته سبحانه، إلى أن صار مستحضرا له، مكاشفا إياه، مشاهدا آثار أوصافه وأسمائه على صفائح الأكوان بلا مزاحمة الأغيار، وبالجملة: فله أن يشتغل بالتذكر في أوائل الحال؛ إذ { إليه يصعد الكلم الطيب } من الأسماء الحسنى والصفات العظمى الناشئة من ألسنة المخلصين المتفكرين في آلاء الله ونعمائه.
{ والعمل الصالح } المقرون بالإخلاص والتبتل { يرفعه } أي: يرفع العمل المنبئ عن الإخلاص، والكلم الطيب إلى درجات القرب من الله، فمن كان إخلاصه في عمله أكمل، كان درجات كلماته المرفوعة نحوه سبحانه أرفع وأعلى عند الله { والذين يمكرون } مع الله المنكرات { السيئات } يعني به سبحانه: المكر السيئ الذي مكر به المشركون - خذلهم الله - مع حبيبه صلى الله عليه وسلم { لهم } في النشأة الأخرى { عذاب شديد } جزاء لما مكروا به { و } إن كان { مكر أولئك } الماكرين { هو } أي: مكرهم في نفسه { يبور } [فاطر: 10] يفسد ويبطل، ويعود وباله ونكاله عليهم بلا أثر لمكرهم بالممكور به صلى الله عليه وسلم.
{ و } كيف لا يعود ضرر مكرهم إليكم أيها المشركون؛ إذ { الله } الذي قصدتم المكر معه ومع من اختاره واصطفاه { خلقكم } وقدر وجودكم { من تراب } جامد، لا حسن لها ولا شعور { ثم من نطفة } مهينة، مستحدثة من أجزاء النبات المتكون من الأرض { ثم جعلكم } وصيركم حيوانا { أزواجا } ذكورا وإناثا؛ لتتوالدوا وتكثروا { و } يربيكم على الوجه الأحسن الأصلح؛ إذ هو عليم بجميع ما يعنيكم وما لايعنيكم وبكل ما جرى عليكم إلى حيث { ما تحمل من أنثى ولا تضع } حمله { إلا بعلمه } وإذنه سبحانه، وهو معلوم له لا يغيب عنه { و } بعد وضع الحمل { ما يعمر من معمر } يبلغ عمر نهايته { ولا ينقص من عمره } بأن لم يصل إليها { إلا في كتاب } أي: مثبت مسطور في حضرة العلم الإلهي ولوح القضاء { إن ذلك } أي: حفظه وثبته { على الله } العليم الحكيم { يسير } [فاطر: 11] وإن كان عندكم عيسر، بل متعذر ممتنع؛ إذ لا يسع لكم استحضار آنكم ولحظتكم، فيكف أحوال يومكم وشهركم وحولكم؟! فيكف أحوال طفوليتكم وكونكم جنينا؟!.
[35.12-14]
ثم مثل سبحانه كلا الفريقين المؤمن والكافر بالبحرين العذب والمالح، فقال: { وما يستوي البحران } في النفع والفائدة الحاصلة منهما؛ إذ { هذا } أي: المؤمن المصدق لبحر الإيمان والعرفان، المترشح من بحر الوحدة الذاتية { عذب } حلو في كمال الحلاوة { فرات } يكسر غليل أكباد المتعطشين في سراب الدنيا ببرد اليقين { سآئغ شرابه } أي: سهل انحداره للمجبولين على فطرة التوحيد.
{ وهذا } أي: الكافر المتوغل في بحر الغفلة { ملح } لا مصلح يصلح من يذوق منه، بل { أجاج } مر مفسد للمزاج، من ذاق منه هلك هلاكا أبديا بحيث لا نجاة له، بل { و } البحر الأجاج له نفع، ولا نفع للكفر والضلال أصلا؛ إذ { من كل } من البحرين { تأكلون لحما طريا } مثل السمك وغيرها { وتستخرجون } منهما { حلية } أي: أنواعا من التزيينات اللاتي { تلبسونها } وإنما أباح لكم سبحانه أيها المكلفون منافع بره وبحره { وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [فاطر: 12] أي: رجاء أن تشكروا نعمه، وتزيدوا على أنفسكم مزيد كرمه.
ومن كمال فضل الله عليكم ورحمته أنه { يولج الليل } أي: يدخل ظلمته { في } في { النهار } فيطول أجزاء النهار بإيلاج أجزاء الليل في الصيف؛ تتميما لمصالح معيش عباده { و } كذا في الشتاء { يولج النهار } أي: أجزاء منه { في الليل } فيطوله بأجزائه؛ تسكينا للقوى النامية، وتمكينا لها؛ ليجددها للخدمة المفوضة إليها { وسخر الشمس والقمر } أيضا؛ تتميما لمصالح عباده إلى حيث { كل } منهما { يجري } ويدور بإذن الله وإلهامه { لأجل مسمى } هي من مبدأ دوره إلى منتهاه، أو إلى انقراض نشأة الدنيا { ذلكم } المتصرف بالاستقلال والاختيار، المدبر بكمال العلم والخبرة ووفور الحكمة والدرية، هو { الله ربكم } الذي أظهركم من كتم العدم، ورباكم بأنواع النعم والكرم، كيف لا يربيكم سبحانه بعدما أبدعكم؛ إذ لا متصرف في الكائنات إلا هو { له الملك } لا مالك له سواه ولا مدبر غيره.
{ و } المحجوبون { الذين تدعون } وتدعون { من دونه } من التماثيل الباطلة والأظلال الهالكة العاطلة تعنتا وعنادا، مع أو ما يسمون أولئك الجاهلون آلهة سواه سبحانه، ويسندون الأمور إليهم مكابرة { ما يملكون من قطمير } [فاطر: 13] أي: ليس لهم أن يتصرفوا في قشرة رقيقة ملتفة على ظهر النواة، وهذه مثل في القلة عند العرب فيكف في غيرها؛ إذ الألوهية مسبوقة بوجوب الوجود بالصفات الكاملة الذاتية والأسماء الحسنى التي لا تعد ولا تحصى.
وليس لهؤلاء الأظلال الهالكة وجود في أنفسها، ومن أين يتأتى منهم الألوهية؟! بل هم من أدنى الممكنات وأدون المكونات؛ لكونهم جمادات لا شعور لهم أصلا إلى حيث { إن تدعوهم } وتلتجئوا نحوهم { لا يسمعوا دعآءكم } إذ ليس لهم قابلية السماع والاستماع { ولو سمعوا } يعني: لو فرض أنه سمعوا على سبيل الفرض المحال { ما استجابوا لكم } إذ ليس لهم القدرة والإرادة والأوصاف الكاملة اللازمة للألوهية والربوبية { و } مع عدم نفعهم إياكم أنتم أيها الجاهلون { يوم القيامة يكفرون } ويؤاخذون { بشرككم } وإشراككم؛ أي: اتخاذكم إياهم شركاء مع الله، وهم يتبرءون عنكم وأنتم عنهم { ولا ينبئك } ويخبرك أيها المخاطب النبيه الفطن أحوال النشأة الأخرى، وما سيجري بينك وبين شركائك من البراءة والملاعنة { مثل خبير } [فاطر: 14] وهو الله العليم الحكيم، الذي لا يعزب عن إحاطة حضرة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، لا في الأولى ولا في الأخرى، وعنده مفاتح الغيب ومقاليد الأمور لا يعلمها إلا هو.
[35.15-18]
ثم نادى سبحانه عموم عباده على سبيل الاستغناء عنهم وعن أعمالهم وعن محامدهم وأثنيتهم الجارية على ألسنتهم، فقال: { يأيها الناس } الناسون عهود الله ومواثيقه التي واثقكم بها ربكم مع أنكم تنسون نعمه، وتذهلون عن حقوق كرمه { أنتم الفقرآء } المحتاجون بالذات المقصورون على الافتقار { إلى الله } الذي أظهركم من كتم العدم ولم تكونوا شيئا مذكورا، ورباكم بأنواع النعم، سيما العقل المفاض، الذي هو مذكركم عن مبدئكم ومنشئكم، فلم تشكروا نعمة مبدعكم ومربيكم أيها الغافلون الجاهلون مع أنكم محتاجون إليه.
{ والله } المنزه بذاته عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين { هو الغني } المنحصر على الغنى الذاتي، بحيث لا احتياج له ولا استكمال أصلا؛ إذ كمالاته سبحانه كلها بالفعل بحيث لا ترقب في شئونه مطلقا { الحميد } [فاطر: 15] المحمود في نفسه على الوجه الذي يليق بشأنه؛ إذ لا يتأتى عن مصنوعاته الحمد الحقيقي بذاته، وإنما أظهركم أيها الأظلال الهالكة بمقتضى جماله ولطفه؛ لتواظبوا على عبادته وعرفانه، كي تصلوا إلى توحيده صاعدين من حضيض الإمكان إلى أوج الوجوب الذاتي علما وعينا وحقا، فأنتم تتكاسلون وتتمايلون إلى أهوية نفوسكم البهيمية ومشتهيات قواكم البشرية، أما تخافون وتتأملون أيها المغرورون؟!.
{ إن يشأ } سبحانه { يذهبكم } عن فضاء البروز بالمرة إلى كمون العدم { ويأت } بدلكم { بخلق جديد } [فاطر: 16] أي: بمخلوق سواكم؛ تتميما لحكمة العبادة والمعرفة.
{ و } اعلموا أيها الهالكون في تيه الغفلة أنه { ما ذلك } التبديل والإتيان { على الله } القادر المقتدر على إظهار جميع ما لاح عليه برق علمه وإرادته { بعزيز } [فاطر: 17] غير متعذر، بل عنده ويجنب سرعة نفوذ قضائه سهل يسير.
{ و } بعدما عرفتم قدرة الله وسمعتم كمال استغنائه، فلكل منكم الإتيان بمأموراته والاجتناب عن منهياته؛ إذ { لا تزر } تحمل نفس { وازرة } آثمة عاصية { وزر } نفس عاصية { أخرى وإن تدع } تطلب نفسه { مثقلة } بالأوزار والمعاصي { إلى حملها } أي: حمل بعض من الأوزار المحمول عليها { لا يحمل منه شيء } أي: لا يحمل أحد شيئا من أوزاره، وإن رضي بحملها على مقتضى العدل الإلهي { ولو كان } المدعو للحمل { ذا قربى } أي: من قرابة الداعي، بل كل واحد من النفوس يومئذ رهينة ما اقترفت من المعاصي، ما حملت إلا عليها وما حوسبت بها إلا هي.
ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم في شأن عباده: { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } يعني: ما تفيد إنذاراتك التي تلوت يا أكمل الرسل على هؤلاء الغفلة إلا القوم الذين يخافون من الله، ومن عذابه وعقابه حال كونهم غائبين عنه، سامعين له، خاشعين من نزوله، خائفين من حلوله بغتة { و } مع ذلك { أقاموا الصلاة } المأمورة، المقربة لهم إلى جانب قدسه، المخلصين فيها، المطهرين نفوسهم عن الميل إلى ما سوى الحق { ومن تزكى } وظهر نفسه عن الميل إلى البدع والأهواء { فإنما يتزكى لنفسه } إذ نفع تزيكته عائد إليه، مفيد له في أولاه وأخراه { و } بعد تزكيته عن لوازم بشريته ومقتضيات بهيميته العائقة عن الوصول إلى مبدأ فطرته { إلى الله } المنزه عن مطلق النقائص، المبرء عن جملة الرذائل { المصير } [فاطر: 18] أي: المنقلب والمآب يعني: مرجع الكل إلأيه، ومقصده دونه سبحانه.
[35.19-26]
{ و } لكن { ما يستوي } في القرب والرتبة بالنسبة إليه سبحانه { الأعمى } الغافل الجاهل عن كيفية الرجوع والتوجه { والبصير } [فاطر: 19] العارف العالم بأمارات الصعود والعروج.
{ ولا الظلمات } المتراكمة المتكاثفة بعضها فوق بعض، وهي: ظلمة الطبيعة وظلمة الهيولي وظلمة التعينات، والهويات الممتزجة المتكاثفة إلى حيث يصير حجابا غليظا وغشاء كثيفا يعمي أبصار المجبولين على الإبصار، والاعتبار على متقضى الشئون القهرية الجلالية { ولا النور } [فاطر: 20] المتشعشع المتجلي من وحدة الذات حسب شئونه اللطيفة الجمالية.
{ ولا الظل } الإلهي، والمروح لأرواح أرباب المحبة والولاء بنفحات نسائم أنواع الفتوحات والكرامات { ولا الحرور } [فاطر: 21] أي: السموم المهلكة المنشأة من فوحان الأماني الإمكانية، الممتزجة بيحموم الطبيعة المتصاعدة من أبخرة الأهوية ونيران الشهوات.
{ و } بالجملة: { ما يستوي } عند الله العليم الحكيم { الأحيآء } بحياة المعرفة والإيمان واليقين والعرفان، حياة أزلية أبدية سرمدية، لا أمر لها حتى تنقضي ولا حدوث لها حتى تنعدم { ولا الأموات } بموت الجهل والضلال، وأنواع الغفلة والنسيان، الهالكين في هوية الإمكان، الخالدين في زاوية نيران الخمول والحرمان { إن الله } العليم الحكيم المتقن في أفعاله { يسمع } ويهدي { من يشآء } من عباده؛ عناية لهم وامتنانا عليهم إلى صراط توحيده { ومآ أنت } يا أكمل الرسل { بمسمع } هاد مرشد { من في القبور } [فاطر: 22] أي: من كان راسخا متمكنا في هاوية الجهل المركب، وجحيم الإمكان وأحداث الغفلة والنسيان؛ إذ هم مجبولون على الغواية الفطرية الجهالة والجبلية لا يتأتى لك إهداؤهم وإرشادهم أصلا.
بل { إن أنت } أي: ما أنت أيها المختار لتبليغ الرسالة { إلا نذير } [فاطر: 23] لهم من قبلنا، فلك أن تبلغ الإنذارات والوعيدات الهائلة النالزة منا إياهم، ولا تجتهد في هدايتهم وقبولهم؛ إذ ما عليك إلا البلاغ الحساب.
{ إنآ أرسلناك } من كمال لطفنا معك ملتبسا { بالحق } الصدق المطابق للواقع، داعيا لعموم عبادنا إلى توحيدنا { بشيرا } بما أعددنا لهم من المراتب العلية والمقامات السنية { ونذيرا } لهم أيضا بما أعتدنا من دركات النيران الموجبة لزفرات القلوب وحسرات الجنان { و } إرسالنا إياك ليس ببدع منا، بل { إن من أمة } أي: ما من أمة من ألامم الماضية { إلا خلا } ومضى { فيها نذير } [فاطر: 24] ينذرهم عا لا يعنيهم.
{ و } بعدما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت { إن يكذبوك } أولئك الكفرة المصرون على الشرك والعناد، وأنكروا بك وبكتابك، لا تبال بهم وبإنكارهم { فقد كذب } الكفرة { الذين } مضوا { من قبلهم } أي: قبل هؤلاء المشركين رسلهم مع أنه { جآءتهم رسلهم } المبعوثون إليهم حال كونهم مؤيدين { بالبينات } أي: الدلائل الواضحات من المعجزات المثبتة لنبوتهم ورسالاتهم { وبالزبر } والصحف المنزلة إليهم، المشتملة على أصول أديانهم وبيان طرقهم { وبالكتاب المنير } [فاطر: 25] المظهر لسرائر التوحيد بحججه وبراهنيه القاطعة وحكمه وأحكامه الساطعة آثارها.
{ ثم } بعدما كذكبوا رسلهم وأنكروا الكتب التي جاءوا بها من عندنا على مقتضى وحيينا، وأصروا على كفرهم وشركهم { أخذت } بمقتضى عزتي وقدرتي { الذين كفروا } أي: أعرضوا عن الحق مستكبرين، مصرين على الباطل { فكيف كان نكير } [فاطر: 26] أي: إنكاري بالنسبة إلى إنكار أولئك الهلكى، العاجزين في تيه الغفلة والضلال، وإهلاكي إياهم بحيث لم يبق منهم أحد يخلفهم، ويحيي اسمهم ورسمهم.
[35.27-30]
{ ألم تر } أيها الرائي المعتبر { أن الله } المقتدر بالقدرة الكاملة كيف { أنزل } وأفاض { من } جانب { السمآء } أي: سماء الأسماء والصفات الذاتية { مآء } محييا لأموات الأراضي المائتة الجامدة، الباقية على صرافة العدم { فأخرجنا به } أي: بالماء المفاض، المترشح من بحر الذات على أرض الطبيعة { ثمرات } فواكه متنوعة من المعارف والحقائق والخواطف والواردات المختطفة على قلوب أرباب المحبة والولاء حسب حالاتهم ومقاماتهم { مختلفا ألوانها } وكيفيتها علما وعينا وحقا { ومن الجبال } التي هي الأوتاد والأقطاب القابلة لفيضان تلك الكرامات والفتوحات { جدد } أي: ذوو طرق وسبل إلى كعبة الذات، وعرفات الأسماء والصفات { بيض } مصفى في غاية الصفا، بلا خلط ومزج لها بألوان التعينات والهويات أصلا { و } بعضها { حمر مختلف ألوانها } باختلاف مراتب قربهم وبعدهم عن المرتبة الأولى { و } بعضها { غرابيب سود } [فاطر: 27] أي: متناه في السواد والظلمة، بحيث لا يبقى فيها شائبة شبه بالمرتبة الأولى، بل هي مباين لها، مناقض إياها بحيث لا يبقى المناسبة بينهما أصلا.
قيل: يشير سبحانه بالجدد البيض إلى طائفة الصوفية الذين هم صفوا بواطنهم عما سوى الحق من الأمور المنصبغة بصبغ الأكوان وألوان الإمكان، وبالحمر المختلف الألوان إلى طائفة المتكلمين الذين بحثوا عن ذات الله وصفاته، متشبثين بالدلائل العقلية والنقلية الغير المؤيدة بالكشف والشهود، المفيدة للظلن والتخمين إلا نادرا، وبالغرابيب السود إلى طائفة الفقهاء الذين كثفت حجبهم وغلظت أغشيتهم وأعطيتهم إلى حيث لم يبق في فضاء قلوبهم موضع يليق لقبول انعكاس أشعبة أنوار الحق، بل سودوها وصبغوها إلى حيث أخرجوها عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.
{ و } أخرجنا به أيضا؛ أي: من الآثار تربية الماء وإحيائها أموات الأراضي { من الناس } المنهمكين في الغفلة والنسيان { والدوآب } المنسلخة عن رتبة الإدراك والشعور المتعلق بالمبدأ والمعاد { والأنعام } المشغوفة بتوفير اللذات الجسمانية والمشتهيات النفسية { مختلف ألوانه كذلك } أي: أجناسه وأنواعه وأصنافه وأشكاله وهيئاته، وبالجملة: { إنما يخشى الله } ويخاف من بطشه { من عباده } الذين أبدعهم وأظهرهم من كتم العدم بإفاضة رشاشات رشحات بحر وجوده بمقتضى جوده { العلماء } العرفاء بالله وبأوصافه الكاملة الفائضة عليهم، وأسمائه الحسنى الشاملة، المتحققون بمرتبة التوحيد، المنكشفون بسر سريان الوحدة الذاتية على عموم المظاهر؛ إذ أخشى الناس من الله أعرفهم بشأنه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم:
" إني أخشاكم الله وأتقاكم به "
، وكيف لا يخشى العارفون منه سبحانه { إن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { عزيز } غالب على انتقام من أراد انتقامه من عباده { غفور } [فاطر: 28] ذنوب من تاب إلى الله ورجع نحوه عن ظهر قلب.
ثم أشار سبحانه إلى خواص عباده، وبنبههم على ما هو المقبول منهم عنده سبحانه من أعمالهم، وحثهم عليها امتنانا لهم، فقال: { إن الذين يتلون كتاب الله } المنزل على رسوله { وأقاموا الصلاة } المفروضة، المكتوبة في الأوقات المحفوظة، المأمورة إياهم في كتاب الله { وأنفقوا } طلبا لمرضاتنا { مما رزقناهم } وسقنا إليهم من الرزق الصوري والمعنوي { سرا } خفية من الناس؛ اتقاء عن وصمة الرياء والسمعة، ومن الفقراء المستحقين أيضا؛ صونا لهم عن أن يتأذوا حين أخذوا { وعلانية } أيضا بعدما اقتضى المحل إعلامه، ولم يتأت منه الإخفاء { يرجون } من الله بالأفعال المذكورة { تجارة } من الأحوال والمقامات { لن تبور } [فاطر: 29] أي: لن تهلك وتفسد وتفنى أصلا.
وإنما فعلوا ذلك { ليوفيهم } ويوفر عليهم سبحانه { أجورهم } التي يستحقون بأعمالهم بها { ويزيدهم } عليها { من فضله } ما لا يعد ولا يحصى من الكرامات؛ امتنانا لهم، وكيف لا يوفيهم ويزيدهم سبحانه { إنه } عز شأنه وجل برهانه { غفور } في ذاته لفرطات عباده، يغفر لهم ذنوبهم { شكور } [فاطر: 30] يقبل منهم يسير طاعاتهم التي أتوا بها مخلصلين، فكيف بعسيرها؟!.
[35.31-35]
{ والذي أوحينآ إليك } يا أكمل الرسل { من الكتاب } الجامع لما في الكتب السالفة، الحاوي لمعظمات أصول الدين { هو الحق } المنزل من عندنا، المثبت في حضرة علمنا { مصدقا لما بين يديه } وما يقدم عليه من الكتب والصحف المنزلة من عندنا، المبينة لحكمنا وأحكامنا { إن الله بعباده لخبير } أي: مطلع لجميع أحوالهم الظاهرة والباطنة حتى استعداداتهم وقابلياتهم { بصير } [فاطر: 31] بما جرى وسيجري عليهم في أولاهم وأخراهم.
{ ثم } بعدما اصطفيناك يا أكمل الرسل بالرسالة العامة، وأيدنا أمرك بإنزال القرآن المعجز، الموجز، المشتمل لجميع فوائد الكتب السماوية مع زيادات خلت عنها الكل { أورثنا الكتاب } المنزل إليك، وأبقيناه بعدك بين القوم { الذين اصطفينا من عبادنا } واخترناهم بإرسالك إليهم وبعثتك بينهم، فجعلناهم في اقتباس نور الهداية والتوحيد من مشكاة النبوة، والرسالة الختمية المحمدية، الحاوية لمراتب جميع الرسل الذين مضوا قبله صلى الله عليه وسلم أصنافا ثلاثة: { فمنهم } من كمال شوقه إلى مبدئهم الأصلي وغاية تحننهم نحو الفطرية الجبلية التي فطر الناس عليها في بدء الأمر { ظالم لنفسه } البشرية، بحيث يمنع عنها جميع حظوظها النفسانية ومقتضيات قواها الجسمانية إلى حيث اتصل بعضهم من كمال احتماء نفسه عن متقضياتها البهيمية بالملأ الأعلى قبل انقراض النشأة الاولى، وهم شطار الأولياء الذين صرفوا همهم بالوصول إلى مبدئهم الأصلي ومنزلهم الحقيقي.
{ ومنهم مقتصد } معتدل، مائل عن كلا طرفي الإفراط والتفريط، بحيث لا يمنع نفسه عن ضرورياتها والمقومة لها ولا يكثرها عليها، بل يمنعها عن الزيادة على الضروري في عموم الحوائج، وبالجملة: يقتصد في الأعمال والأفعال والأقوال وجميع الأحوال، وهم الأبرار من الأولياء { ومنهم سابق بالخيرات } مواظب على الطاعات، مشمر دائما بالأعمال الصالحات وفواضل الصدقات، والإنفاق على طلب المرضاة للفقرءا والمهاجرين في سبيل الله، المنصرفين عن الدنيا وما فيها { بإذن الله } وعلى مقتضى ما ثبت في كتابه ونطق به لسان رسوله، وهم الأخيار المحسنون من الأولياء { ذلك } الإيراث والتوريث والإعطاء والاصطفاء { هو الفضل الكبير } [فاطر: 32] من الله إياهم في أولاهم، والفوز العظيم، والنوال الكريم لهم في أخراهم.
جعلنا الله من خدامهم ومحبيهم، ومقتفي أثرهم.
ومن جملة فضل الله إياهم في أخراهم: { جنات عدن } معدة لهم نزلا ومنزلا من عند الله { يدخلونها } فريحن مسرورين آمنين فائزين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { يحلون فيها } تزيينا وتفضلا { من أساور } جزاء ما اقترفوا بأيديهم من الحسنات { من ذهب } خالص مقابلة إخلاصهم في أعمالهم { ولؤلؤا } أي: يحلون أيضا من أنواع اللآلئ بدل ما يتقون نفوسهم من الميل إليها في نشأتهم الأولى { ولباسهم فيها حرير } [فاطر: 33] بدل ما يلبسون من الخشن في طريق المجاهدة والسلوك نحو الحق في النشأة الأولى.
{ و } بعدما وصلوا إلى مقام القرب، بل اتصلوا برفع أنانيتهم وهوياتهم الباطلة عن البين إلى ما انقلبوا { قالوا } بألسنة استعداداتهم موافقا لقلوبهم: { الحمد } أي: جنس الحمد والثناء الشامل لجميع محامد جميع الحامدين قولا وفعلا وحالا مقالا، مختص { لله } المستحق بالاستحقاق الذاتي والوصفي { الذي أذهب } وأزال { عنا الحزن } المورث لنا من لوازم تعيناتنا وإمكاننا { إن ربنا } الذي ربانا بأنواع الكرامة، ونجانا عن مضيق الإمكان المورث لأنواع الخذلان والخسران { لغفور } لذنوب أنانياتنا { شكور } [فاطر: 34] يقبل منا، يقربنا إلى فضاء توحيده بتوفيقه وتأييده.
إذ هو { الذي أحلنا } وأقمنا بفضله ولطفه { دار المقامة } أي: منزل الإقامة والخلود { من فضله } بنا ولطفه معنا؛ إذ لا موجب منا يوبجها لنا، ولا يجب عليه سحبانه أيصالنا إليها آمنين مترفهين بحيث { لا يمسنا فيها نصب } تعب وعناء مثل ما مسنا في الابتلاء { ولا يمسنا فيها لغوب } [فاطر: 35] أي: فترة وكلال تعقبب النصب.
[35.36-38]
نفى سبحانه بعد نفي الملزوم؛ مبالغا وتأكيدا، ثم أردف سبحانه وعد المؤمنين بوعيد الكافرين على مقتضى سنته المستمرة في كتابه، فقال: { والذين كفروا } بالله وأعرضوا عن كتبه ورسله، وأنكروا بالبعث والحشر وإعادة المعدوم { لهم نار جهنم } أي: معدة مسعرة لهم؛ ليعذبوا بها في النشأة الأخرى تعذيبا شديدا إلى حيث { لا يقضى } ولا يحكم { عليهم } بالموت من عنده سبحانه { فيموتوا } كي يستريحوا، بل كلما أشرفوا على الهلاك يعادوا ويعذبوا { ولا يخفف عنهم من عذابها } أبدا، ولا يمهلون ساعة حتى يتنفسوا، بل صاروا معذبين على التعاقب والتوالي أبدا بلا فرجة أصلا، كأبناء الدنيا المعذبين في دار الحرمان بنيران الإمكان إلى حيث تستوعب جميع أوقاتهم وأزمانهم، بحيث لا يسع لهم التنفس والتفرج أصلا { كذلك } أي: مثل ما نجازي أولئك المصرين على الكفر والعناد { نجزي كل كفور } [فاطر: 36] لحقوق نعمنا، منكر لمقتضيات جودنا وكرمنا.
{ وهم } من شدة فزعهم وهولهم { يصطرخون فيها } ويستغيثون من الله، صارخين، متحسرين، قائلين من كمال الضجرة والحسرة: { ربنآ } يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم، فكفرناك وأعرضنا عنك وعن كتبك ورسلك { أخرجنا } وأعدنا منها إلى الدنيا كرة أخرى { نعمل صالحا } مقبولا عندك، مرضيا لك { غير } العمل { الذي كنا نعمل } عنادا ومكابرة، فالآن ظهر لنا الحق بطلان ما كنا نعمل من الأعمال الفاسدة الغير المطابقة لكتبك ودين رسلك، فلو أخرجتنا وأعدتنا لآمنا بك وبكتبك ورسلك، وبجميع ما جاءوا به من عندك.
وبعدما تمادوا وتطالوا في بث الشكوى، قيل لهم من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع: { أ } تطلبون المهلة منا وتستمهلون عنا { ولم نعمركم } ونمهلكم أيها المسرفون المفرطون في الدنيا طويلا إلى حيث يسع في جميع { ما يتذكر فيه من تذكر } أي: وقت وسيع، يتذككر فيه من كان بصدد التذكر والتنبه، وهو من وقت البلوغ إلى سيتن سنة غالبا، ولم تتذكروا في تلك المدة لا من تلقاء أنفسكم مع أنكم مجبولون على فطرة التذكر { و } مع ذلك { جآءكم النذير } المذكر، المنذر لكم عن أمثال ما أنتم عليه الآن، فأنكرتم له ولم تتذكروا أيضا بقوله، حتى ظهر عليكم أمارات الشيب المذكر المخبر لكم للرحيل إلى السفر الطويل، ومع ذلك لم تتزودوا لها، فالآن قد انقضى وقت التذكر والتدبر، ومضى أوان التدارك والتلاقي، تطلبون العود والخروج؟! هيهات هيهات، إن وقت التفقد قد فات { فذوقوا } العذاب المخلد بدل تلك اللذات، فاعلموا الآن { فما للظالمين } الخارجين عن مقتضى حدود الله { من نصير } [فاطر: 37] ينصرهم في رفع العذاب، أو يشفع لهم عند الله لتخفيفه عنهم، بل هم خالدون في النار أبد الآباد، لا سبيل لنجاتهم أصلا.
ربنا بعدنا عن سخطك وغضبك، وأحينا وأمتنا على مقتضى إرادتك ورضاك وارزقنا في النشأة الأخرى لقياك، إنك على ما تشاء قدير.
وكيف يسع لأحد من المخلوقات أن يشفع عنده سبحانه لعصاة عباده أو ينصرهم في الأنقاذ عن عذابه بعدما ثبت جرائمهم في حضرة علمه وتعلق إرادته بأخذهم على ظلمهم؟!.
{ إن الله } المطلع على جميع ما لاح عليه برق الوجود { عالم غيب السموت } أي: بواطن ما في العلويات { والأرض } أي: بواطن ما في السفليات أيضا، وكيف يخفى عليه سبحانه ما في سرائر عباده وضمائرهم { إنه } سبحانه { عليم بذات الصدور } [فاطر: 38] أي: جميع مكنونات الصدور ومضمراتها، ومقتضيات استعداداتهم وقابلياتهم مطلقا؛ لأنه المراقب لهم في جميع حالاتهم.
[35.39-41]
فكيف تغفلون عنه سبحانه وتذهلون عن تذكره أيها الغافلون، مع أنه سبحانه { هو الذي جعلكم خلائف } عن ذاته وأظهركم على صورته وأعطاكم التصرف { في الأرض } وسلطكم على عموم ما عليها، وسخر لكم جميع ما فيها من المواليد؛ تتميما لخلافتكم وتكريما لكم على سائر مخلوقاته، وبعدما فعل بكم سبحانه من الكرامة و الإفضال وحسن الفعال ما فعل { فمن كفر } وأعرض عن الإيمان به سبحانه وبكتبه ورسله وبما جرى في لوح قضائه وحضرة علمه { فعليه كفره } أي: يحمل عليه وبال كفره وإعراضه، وينتقم عنه على مقتضاه بلا لحوق شين وعيب عليه سبحانه؛ إذ هو في ذاته منزه عن إيمان عباده وكفرهم، بل { ولا يزيد الكافرين كفرهم } أي: إصرارهم على الشرك واستنكافهم عن الإيمان بالله والكتب والرسل { عند ربهم } المطلع على سرائرهم وضمائرهم { إلا مقتا } أي: غضبا وبغضا شديدا منه سبحانه إياهم، وطردا لهم عن ساحة عز قبوله { و } بالجملة: { لا يزيد الكافرين كفرهم } وشركهم في النشأة الأولى { إلا خسارا } [فاطر: 39] نقصانا وحرمانا في النشأة الأخرى عما أعد للمؤمنين من أنواع الكرامات والمقامات العلية، لا خسران أعظم منه.
{ قل } يا أكمل الرسل للمشركين؛ تقريعا لهم وتبكيتا بعدما سجلنا عليهم المقت والطرد وأنواع الخسران والخذلان: { أرأيتم } وأبصرتم أيها المجبولون على الغواية والعناد { شركآءكم الذين تدعون } وتدعون آلهة { من دون الله } مشاركين له سبحانه في الألوهية والربوبية { أروني } وأخبروني أيها المكابرون المعاندون { ماذا خلقوا } وأوجدوا { من الأرض } أي: أي شيء خلقوا في الأرض بالاستقلال والاختيار حتى يتصفوا بالألوهية؟ { أم لهم شرك } أي: أروني هل لهم مشاركة مع الله { في السموت } أي: خلقها وإبداعها { أم آتيناهم كتابا } أي: أ روني هل أنزلنا عليهم كتابا دالا على مشاركتهم معنا في الألوهية والربوبية؟ { فهم } أي: أولئك المدعون المكابرون مطلعون، فائزون { على بينة منه } أي: حجج ودلائل واضحة من الكتاب دالة على شركة أولئك التمايل العاطلة مع العليم القدير الحكيم، فظاهر أنه ما أنزل إليهم كتابا كذلك { بل إن يعد الظالمون } أي: ليس الباعث لهم على ادعاء الشرك أمثال هذه المذكورات من الدلائل العقلية والنقلية، بل لا باعث لهم سوى الوعد الكاذب الذي يعد بعضهم بعضا، وبالجملة: ما يعد الظالمون الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية { بعضهم بعضا إلا غرورا } [فاطر: 40] وتغريرا من الشرفاء بالأراذل منهم، والرؤساء بالضعفاء، وتلبيسا من أصحاب الثروة على ذوي الأحلام السخيفة منهم؛ حفظا لجاههم وسيادتهم، والله المطلع بجميع حالات عباده يعلم تغريرهم وتلبيسهم ويمهلهم، ولا يعاجل بالانتقام لكمال حلمه.
{ إن الله } المتعزز برداء العظة والكبرياء { يمسك } ويضبط { السموت والأرض } ويمنعهما من { أن تزولا } بشرك المشركين، وافترائهم على الله بإثبات الشركاء له، وبشؤم عصيانهم وفسقهم فيما بينهم { ولئن زالتآ } ولم يمسكهما سبحانه { إن أمسكهما من أحد من بعده } أي: ما أمسكهما عن الزوال من أحد بعد الله سبحانه، لكنه سبحانه أمسكهما، ولم يعاجل بانتقام عصاة عباده { إنه } سبحانه { كان } في ذاته { حليما } لا يعاجل بالانتقاممم عند ظهور الجرائم { غفورا } [فاطر: 41] لمن تاب عنهما، وأناب إلى الله مخلصا.
[35.42-43]
{ و } من كمال حلم الله وإمهاله على المستوجبين لأنواع المقت والانتقام بعدما عهدوا مع الله ونقضوا عهودهم، وإن كفار قريش خذلهم الله { أقسموا بالله جهد أيمانهم } أي: اجتهدوا في تأكيدها، وبالغوا في تغليظها قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعوا أن من أهل الكتاب قوم كذبوا رسلهمه، فأنكروا عليهم ولم يقبلوا من الرسل قولهم، فأنكروا عليهم مقسمين: والله { لئن جآءهم } يعني: قريشا { نذير } مرسل من عند الله، ينذرهم عما لا يعنيهم ويرشدهم إلى ما يعنيهم { ليكونن } في الإطاعة والانقياد للنبي النذير البشير { أهدى من إحدى الأمم } أي: كل واحد وأحد من أهدى من كل واحد من النصارى واليهود وغيرهم من الأمم، فواثقوا عهودهم مع الله على ذلك { فلما جآءهم نذير } أي: نذير وبشير هو أكمل من سائر المرسلين المنذرين، وأفضل منهم؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { ما زادهم } مجيئه وبعثته { إلا نفورا } [فاطر: 42] أي: نفرة عن الحق وإعراضا عن أهله، وتباعدا عن قبول قوله ودينه.
وإنما أنكروا له وأعرضوا عنه وعن دينه صلى الله عليه وسلم { استكبارا } أي: طلبوا كبرا وخيلاء { في الأرض ومكر السيىء } أي: طلبوا أيضا أن مكروا المكر السيئ، وأصل التركيب هذا، فعدل إلى صورة المضاف إلى السيئ اتساعا؛ تأكيدا ومبالغة، والمكر السيئ: كل عمل قبيح صدر عنهم أو الشرك أو إرادة قتله صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تمكروا وتعينوا ماكرا فإن الله يقول: { ولا يحيق } - أي: يحل ويحيط - { المكر السيىء إلا بأهله } "
وهو الماكر، فلحق بوال الشرك للمشركين وكذا وبال كل قبيح مكوره عائد إلى فاعله { فهل ينظرون } أي: ما يملهون ويتنظرون أولئك المشركون؛ يعني: أهل مكة { إلا سنت الأولين } أي: سنة الله فيهم بأن عذب سبحانه مكذيبهم ومصريهم على الإنكار والتكذيب، وبعدما ثبت في علم الله ولوح قضائه تعذيبهم فلا بد أن يقع حتما { فلن تجد لسنت الله } وهي: نزول العذاب على المكذبين { تبديلا } إن تعلق مشيئته به وثبت في لوح قضائه؛ إذ لا يبدل الحكم دونه سبحانه { و } أيضا { لن تجد لسنت الله تحويلا } [فاطر: 43] بأن ينتقل عذاب المكذبين العاصين إلى المصدقين المطيعين البريئين من العصيان والطغيان.
[35.44-45]
{ أ } ينكرون سنة الله في الأمم الماضية الهالكة بتعذيب الله إياهم بسبب تكذيب الرسل والإنكار عليهم { ولم يسيروا في الأرض فينظروا } بنظرة العبرة { كيف كان عاقبة } القوم { الذين } مضوا { من قبلهم } مكذبين لرسله { و } الحال أ نهم قد { كانوا أشد منهم } أي: من هؤلاء المكذبين لك يا أكمل الرسل { قوة } وقدرة، وأكثر شوكة وأموالا وأولادا { و } مع ذلك { ما كان الله } المتعزز برداء العز والعلاء على جميع ما جرى في ملكه من الأشياء { ليعجزه من شيء } بأن يفوت عنه شيء حقير ويعزب عن حضرة علمه ذرة يسير لا { في السموات } أي: العلويات { ولا في الأرض } أي: السفليات، وكيف يفوت عن خبرته سبحانه شيء { إنه } في ذاته { كان عليما } لا يعزب عن حضرة علمه شيء { قديرا } [فاطر: 44] على إظهار ما في خزانة علمه بلا فترة وفتور، وفطور وقصور.
{ و } من كمال حلم الله على عباده، ونهاية رأفته ورحمته منهم أنه { لو يؤاخذ الله } المطلع لجميع ما جرى في ملكه من الجرائم الموجبة للأخذ والانتقام { الناس } الذين كلفوا من عنده سبحانه بترك الجرائم والآثام المانعة من الوصول إلى المبدئ الحقيقي { بما كسبوا } أي: شؤم ما اكتسبوا لأنفسهم من المعاصي التي منعوا عنها { ما ترك } سبحانه { على ظهرها } أي: على ظهر الأرض { من دآبة } أي: متحركة من المكلفين غير مأخوذة بجرم، بل بجرائم كثيرة عظيمة؛ إذ قلما يخلوا إنسان عن طغيان ونسيان { ولكن يؤخرهم } أي: يؤخر أخذهم سبحانه ويمهلهم { إلى أجل مسمى } معين مقدر للأخذ والانتقام، وهو يوم القيامة { فإذا جآء أجلهم } الموعود المعين عند الله، المعلوم له سبحانه فقط، بلا إفشاء وإطلاع منه لأحد من أنبيائه ورسله، أخذوا حينئذ بما اقترفوا من الجرائم والمعاصي بلا فوت شيء منها { فإن الله } المراقب، المحافظ على جميع ما جرى في ملكه وملكوته { كان بعباده } في جميع أوقات وجودهم، بل باستعداداتهم وقابلياتهم، وما جرى عليهم فيها { بصيرا } [فاطر: 45] شهيدا مطلعا يجازيهم على مقتضى إطلاعه وخبرته بأعمالهم ونياتهم فيها.
ربنا أصلح لنا عواقب أمورنا ويسر علينا كل عسير.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك، المتشمر لإعداد زاد يوم الميعاد، وفقك الله على إتمامه أن تلف شملك وتجمع همك للركون إلى الآخرة التي هي دار الخلود والقرار، وتجتهد في رفع الموانع والشواغل العائقة عن هذا الميل، وفلك أن تنقطع عن مألوفاتك ومشتهياتك التي هي أسباب الأخذ والبطش الإلهي، وتنخلع عن لوازم تعيناتك المشتملة على أنواع الفتن والمحن حسب ما يسر الله عليك، معرضا عن الدنيا الدنية ومستلذاتها البهية ومشتهياتها الشهية؛ إذ لا قرار لها ولا مدار لما يترتب عليها، بل كلها زائدل فإن، مورث لأنواع الحسرات في النشأة الأولى، ولأشد العذاب والزفرات في النشأة الأخرى.
والمؤيد من عند الله بالعقل المفاض المميز بين الصلاح والفساد، وبين الفاني والباقي، والمرشد والهادي إلى فضاء التوحيد، والمتذكر له، كيف يختار الفاني على الباقي واللذات الجسمانية الزائلة سريعا، الجالبة للأحزان الطويلة على اللذات الروحانية القارة المستتبعة للحالات العلية، والمقامات السنية التي لا يعرضها انقراض ولا انقضاء ولا نفوذ ولا انتهاء؟!.
رب اختم بفضلك عواقب أمورنا بالخير والحسنى، إنك على ما تشاء قدير وبرجاء الراجين جدير.
[36 - سورة يس]
[36.1-9]
{ يس } [يس: 1] يا من تحقق بينبوع بحر اليقين، وسبح فيه سالما عن الانحراف والتلوين.
{ و } حق { القرآن الحكيم } [يس: 2] المحكم نظمه وأسلوبه، المتقن معناه وفحواه.
{ إنك } يا أكمل الرسل وخاتم الأنبياء، المبعوث إلى كافة البرايا { لمن المرسلين } [يس: 3] المتمكنين.
{ على صراط مستقيم } [يس: 4] موصل إلى التوحيد الذاتي، بلا عوج وانحراف.
وكيف لا يكون القرآن العظيم حكيما مع أنه { تنزيل } أي: منزل من عند { العزيز } الغالب، القادر على جميع المقدورات على الوجه الأحكم الأبلغ { الرحيم } [يس: 5] في إنزاله على الأنام؛ ليوقظهم عن نوم الغفلة ونعاس النيسان.
إنما أنزل الحكيم المنان عليك يا أكمل الرسل هذا القرآن { لتنذر } أنت { قوما } لم يبعث فيهم نذير من قبلك { مآ أنذر آبآؤهم } الأقربون أيضا؛ إذ هم ليسوا من أهل الكتاب وتابعي الملة؛ لتمادي مدة فترة الرسل بعد عيسى - صلوات الله عليه وسلامه - أو المعني { لتنذر قوما } [يس: 6] بالذي أنذر به آباؤهم الأبعدون.
وبعدما قد تطاول أيام الفترة، انطقع عنهم أثر الإنذار، وصار كأن لم يكن شيئا مذكورا، بالجملة { فهم غافلون } [يس: 6] أي: القوم الذين قد أرسلت إليهم يا أكمل الرسل، ذاهلون عن الإنذار والمنذر، بل عن مطلق الرشد والهداية؛ إذ هم متولدون في زمان فترة الرسل.
وكيف لا ينذرهم سبحانه ولا سيرسل إليهم من يصلح أحوالهم { لقد حق القول } وسبق الحكم من الله، ومضى القضاء منه سبحانه { على أكثرهم } أي: أكثر أهل مكة بالكفر والعذاب، وعدم الوصول إلى خير المنقلب والمآب، وبعدما قد ثبت في حضرة علمه سبحانه كفرهم وضلالهم { فهم لا يؤمنون } [يس: 7] بالله، ولا يصدقون برسوله وكتابه.
وكيف يؤمنون أولئك المصرون على الكفر والعناد المقضيون من عدنا بالشقاوة الأزلية { إنا } بمقتضى قهرنا وجلالنا { جعلنا في أعناقهم } التي هي سبب التفاتهم وتمايلهم نحو الحق وآلة انعطافهم للإطاعة والانقياد بالدين القويم { أغلالا } وصيرناهم مغلولوين من الأيدي إلى الأعناق، بحيث لا يمكنهم الطأطأة والانخفاض أصلا، ولا بد للتدرين والانقياد من التذلل والخضوع، وكيف يمكنهم هذا { فهى إلى الأذقان } أي: أغلالهم منتهية إلى لحيتهم { فهم مقمحون } [يس: 8] رافعون رءوسهم، مضطرون برفعها بسبب تلك الأغلال الضيقة، بحيث لا يسع لهم التفات يمنة ويسرة، وفوقا وتحتا.
بل { وجعلنا } لهم من كما ضبنا إياهم { من بين أيديهم } أي: قدامهم { سدا } حجابا كثيفا { ومن خلفهم } أيضا { سدا } غطاء غليظا كذلك، فصاروا محفوفين بين الحجب الكثيفة المانعة عن إبصار نور الهداية والتوحيد، وبالجملة: { فأغشيناهم } أي: أعمينا عيون بصائرهم التي هي سبب رؤية الآيات ودرك الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة { فهم لا يبصرون } [يس: 9] الشواهد الظاهرة والآيات الباهرة حتى يرشدهم إلى الهداية والإيمان، فحرموا عن قبول الحق، وانصرفوا عن صراطه، فهلكوا في تيه الغواية والضلال، أعاذنا الله وعموم عباده عن ذلك.
[36.10-12]
{ و } بعدما سجلنا عليهم الكفر وحكمنا شقاوتهم حكما مبرما، لا يفيدهم إنذارك يا أكمل الرسل وإرشادك إياهم، بل { سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [يس: 10] إذ ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة غليظة مانعة عن قبول الحق والتذكر به وإبصار علاماته، وبالجملة: هم مقضيون في سباق علمنا ولوح قضائنا بالعذاب الأليم والضلال البعيد، فلا تتعب نفسك يا أكمل الرسل في هدايتهم وإرشادهم، إنك لا تهدي من أحببت من قرابتك وأرحامك، ولكن الله يهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، إن الله عليم بما يصنعون من الكفر والإصرار.
{ إنما تنذر } ويقبل منك الإنذار المصلح والإرشاد المفيد { من اتبع الذكر } أي: سمع القرآن سمع قبول، وامتثل بأوامره ونواهيه عن تدرب تام وتأمل صادق، واتعظ بتذكيراته، واعتبر عن عبره وأمثاله { وخشي الرحمن } أي: خاف عن قهره وانتقامه واجتنب عن سخطه وغضبه ملتبسا { بالغيب } أي: قبل نزول العذاب وحلوله، معتقدا أنه سبحانه قادر على جميع أنواع الانتقامات { فبشره } يا أكمل الرسل بعدما سمع بالآيات سمع قبول ورضا، وامتثل بما فيها مخلصا، خائفا، راجيا { بمغفرة } لفرطاته المتقدمة { وأجر كريم } [يس: 11] لأعماله الصالحة الخالصة بلا فوت شيء منها، بل بأضعافها وآلافها عناية منا إياه وتفضلا عليه.
وكيف يفوت عن إحاطة علمنا شيء من حقوق عبادنا { إنا } من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا { نحن نحيي } ونهدي حسب اقتضاء تجلياتنا اللطيفة والجمالية { الموتى } الهالكين بموت الجهل والضلال، التائهين في بيداء الوهم والخيال حيارى سكارى، مدهوشين، محبوسين، مسجونين في مضيق الإمكان بحياة العلم الإيمان والتوحيد والعرفان { ونكتب } في لوح قضائنا وحضرة علمنا جميع { ما قدموا } وأسلفوا لأنفسهم من خير وشر، وحسنة وسيئة، بحيث لا يشذ منها شيء لنجازيهم بها على مقتضاها { و } نكتب أيضا { آثارهم } من السنن المستحسنة والأخلاق المحمودة والآداب المرضية المقبولة، وكذا أيضا ما سنوا ووضعوا من أسوأ العادات والأخلاق وأخسها { و } بالجملة: { كل شيء } صدر ويصدر من عبادنا { أحصيناه } وفصلناه بحيث لا يشذ عن حيطة إحصائنا وتفصيلنا شيء من نقير وقطمير، بل الكل مكتوب مثبت { في إمام مبين } هو لوح قضائنا وحضرة علمنا.
[36.13-19]
{ واضرب لهم مثلا } أي: مثل أكمل الرسل للمشركين المصرين على الشرك والطغيان مثلا من الذين خلوا من قبلهم، مصرين على الضلال والعناد أمثالهم، بحيث لا ينفعهم إنذار منذر وإرشاد مرشد؛ يعني: { أصحاب القرية } المصرين على الشرك والعناد، المنهمكين في بحر الغفلة والغرور، والقرية: هي " أنطاكية " والمبشر المنذر هو عيسى - صلوات الرحمن عليه وسلامه - اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ جآءها } أي: القرية { المرسلون } [يس: 13] تترى من قبل عيسى عليه السلام ليشردوا أهلها إلى الإيمان والتوحيد.
{ إذ أرسلنآ } وأمرنا لنبينا عيسى عليه السلام أولا بالإرسال { إليهم اثنين } هما يونس ويحيى، وقيل: غيرهما، فلما جاءا إليهم وأظهرا دعوتهم، وكانوا من عبدة الأوثان { فكذبوهما } أي: فاجئوا في تكذيبهما بلا تراخ ومهلة وتأمل وتدبر، وبعدما كذبوهما لم يقبلوا منهما دعوتهما، بل ضربوهما وحسبوهما، واستهزءوا بقولهما ودعوتهما { فعززنا } أي: قويناهما وأيدنا أمرهما { بثالث } أي: برسول ثالث، وهو: شمعون { فقالوا } أي: الرسل بعدما صاروا جماعة: { إنآ إليكم مرسلون } [يس: 14] من قبل عيسى، المرسل من قبل الحق، ينذركم عما أنتم عليه من الباطل الفاسد، وهو عبادة الأوثان، وندعوكم إلى دعوة الحق الحقيق بالألوهية والربوبية، المستحق للعبدية، نرشدكم ونهديكم إلى دينه المنزل من قبل ربه.
وبعدما سمع المشركون منهم ما سمعوا { قالوا } في جوابهم مستبعدين منكرين: { مآ أنتم } أيها المدعون لرسالة الواحد الأحد الصمد، الفرد الوتر، الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] { إلا بشر مثلنا } لا مناسبة لكم مع مرسلكم الذي هو من جنس البشر، فلا بد من المناسبة بين المرسل والرسل { و } دعواهكم الإنزال والإرشاد من عند الإله المنزه عن المكان والجهة ما هي إلا غرور وتلبيس { مآ أنزل الرحمن } المستغني عن الزمان والمكان، المنزه ذاته عن سمات الحدوث والإمكان { من شيء } إذ امثال هذه الأفعال إنما هي من لوازم الأجاسم وأوصاف الإمكان، وهو سبحانه على الوجه الذي وصفتم شأنه مقدس عن أمثاله { إن أنتم إلا تكذبون } يعني: ظهر من دعواكم واستنادكم أمثال هذه الأفعال إلى ربكم أنه ما أنتم في دعواكم هذه إلا كاذبون، مفترون على ربكم ما هو منزه عنه.
وبعدما تفطن الرسل منهم الإنكار والإصرار المؤكد { قالوا } في جوابهم أيضا على سبيل المبالغة والتأكيد؛ تتميما لأمر التبليغ والرسالة: { ربنا } الذي أرسلنا إليكم بوحيه وإلهامه { يعلم } بعلمه الحضوري { إنآ إليكم لمرسلون } [يس: 16] من عنده على مقضتى إرادته واختياره؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء، ولا يقع إلا ما يريد.
{ و } ما لنا شغل بإيمانكم وقبولكم، ولا بكفركم وشرككم، بل { ما علينآ } على مقتضى وحي الله إلينا { إلا البلاغ المبين } [يس: 17] أي: التبليغ الصريح الظاهر والبيان الواضح الموضح لرسالته إياكم، بلا فوت شيء منها وتقصير وتهاون بها، وإهداؤكم وإيمانكم مفوض إليه سبحانه في مشيئته، لا علم لنا به.
وبعدما سمعوا منهم المبالغة والتأكيد، انصرفوا عن المقاومة والمكالمة نحون التهديد بالقتل والرجم، حيث { قالوا } متطيرين متشائمين من نزولهم ومجيئهم، مستبعدين دعوتهم، منكرين له: { إنا تطيرنا بكم } أي: تشاءمنا منا بقدوكم؛ إذ منذ قدمتم ما نزل القطر علينا، أخرجوا من بيننا وارجعوا إلى أوطانكم سالمين، وانتهوا عن دعوتكم هذه الا تتفوهوا بها بعد، والله { لئن لم تنتهوا } عن هذياناتكم ومفترياتكم { لنرجمنكم } بالحجارة ألبتة { و } بالجملة: لو لم تنتهوا ولم تكفوا { ليمسنكم منا عذاب أليم } [يس: 18].
وبعدما سمعتم أيها الغرباء كلامنا هذا، فلكم الإصغاء والقبول والعمل بمقتضاه، وإلا فقد لحق بكم ما لحق.
{ قالوا } أي: الرسل، بعدما سمعوا منهم ما سمعوا وتفرسوا بغلظتهم وتشددهم في الإنكار والجحود: { طائركم معكم } أي: سبب شؤمكم إنما هو من أنفسكم وبسوء صنيعكم وأعمالكم { أ } لم ينتبهوا ولم يتفطنووا أنكم { ئن ذكرتم } وقبلتم قولنا، واتصفتم بما ذكرنا من الإيمان والتوحيد، لم يلحقكم شيء من المكروه، ومتى لم تتعظوا ولم تتصفوا لحقكم ما لحقكم بشؤم أنفسكم، فتتطيرون بنا عدوانا ولظما { بل أنتم قوم مسرفون } [يس: 19] مجاوزون في الإلحاد والعناد عن سبيل الهداية والرشاد، ومن كمال إسرافكم وإفراطكم تطيرتم بدين الله ودعوة رسله إليه.
[36.20-27]
{ و } بعدما سمعوا من الرسل ما سمعوا، صمموا العزم إلى قتلهم واجتمعوا ليرجموهم، وانتشر الخبر بن أظهر المدينة، وسعى من يسمع نحوهم حتى { جآء } حينئذ { من أقصا المدينة رجل } من السامعين، وهو حبيب النجار، وكان مؤمنا موحدا، يعبد الله، وكان قد لقي الرسولين الأولين حين دخلا المدينة أولا، فسلم عليهما وتكلم معهما، فقال لهما: من أنتمما؟ قال: رسولا عيسى النبي عليه السلام، إنما أرسلنا لندعوكم إلى طريق الحق وننقذكم من عبادة الأوثان، فقال: أمعكما آية؟ قالا: ونبرئ الأكمة والأبرص، فجاء بابنه المريض منذ سنين فمسحاه، فقام الابن سالما، نشفي المريض، فآمن لهما وصدقهما وانفصل عنهما مؤمنا، واشتغل بعبادة الله.
فدخلا البلد، وأظهرا الدعوة لأهلها وأنكروا عليهما، واتفقوا بقتلهما، فأخبر الحبيب بذلك، فجاء على الفور حال كونه { يسعى } ويذهب سريعا، فلما وصل المجمع ورآهم مجتمعين عليهما، فسألهما على رءوس الملأ: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى النبي عليه السلام ندعوكم إلى توحيد الحق، قال: هل تسألان الأجر والجعل لرسالتكما؟ قال: لا، ما أجرنا إلا على ربنا، ثم التفت نحو القوم { قال يقوم } ناداهم وأضافهم على نفسه؛ ليقبلوا منه كلامه، وكان مشهورا بينهم بالورع واعتدال الأخلاق: { اتبعوا المرسلين } [يس: 20] المبعثوين إليكم بالحق؛ ليرشدوكم إلى طريق الحق وتوحيده، إنما جمعل المرسلين مع أنهما اثنان؛ لأن الحبيب منهم حقيقة.
{ اتبعوا من لا يسألكم أجرا } أي: اتبعوا هاديا بالحق على الحق إلى الحق، خالصا لوجه الحق بلا غرض نفساني من جعل وغيره، كالمشتيخة المزورين الذين يجمعون بتلبيساتهم وتغريراتهم أموالا كثيرة من الحمقى المتماثلين نحو أباطليهم وتزويراتهم { و } كيف لا تتبعون أيها العقلاء الطالبون للهداية والصواب { هم مهتدون } [يس: 21] مصيبون، متصفون بالرشد والهداية قولا وفعلا .
ثم لما سمع القوم من الحبيب ما سمعوا، عيروه وشنعوا عليه، وقالوا له: لست أنت أيضا على ديننا ودين آبائنا، بل ما أنتم إلا على دين هؤلاء المدعين { و } بعدما ما تفرس الحبيب منهم الإكار عليه أيضا، قال كلاما ناشئا عن محض الحكمة والفطنة على وجه العظة والتذكر لنفسه؛ ليتعظوا به على سبيل الالتزام؛ إذ هو أسلم الطرق في العظة والتذكير، وأدخل في النصيحة والتنبيه: { ما لي } أي: أي شيء عرض علي ولحق بي { لا أعبد } وأتوجه على وجه التذلل والانكسار للمعبود { الذي فطرني } على فطرة العبودية؛ أي: أبدعني وأظهرني من كتم العدم ولم أك شيئا مذكورا، ورباني بأنواع اللطف والكرم وأفاض علي من موائد لطفه وإحسانه، سيما العقل المفاض المرشد إلى المبدأ والمعاد { و } كيف لا أعبد وأتوجه نحوه؛ إذ { إليه } سبحانه الموصوف بالأسماء الحسنى ونعوت الجلال والجمال، لا إلى غيره من الأوثان والأصنام الحادثة، الهالكة في ذواتها، العاطلة عن الأوصاف الكاملة، المنحطة عن رتبة الألوهية والربوبية { ترجعون } [يس: 22] أنتم أيها الأظلال الهالكون، التائهون في بيداء ظهوره، حيارى هائمين رجوع الأضواء إلى شمس الذات، والأمواج إلى بحر الوحدة الذاتية.
{ أ } أنكروا المعبود على الحق، المظهر لما في الوجود { أتخذ من دونه آلهة } باطلة من الأوثان، عاطلة عن التصرفات مطلقا، منحطة عن رتبة العبودية، فكيف عن الربوبية والألوهية؟! وسميتهم شفعاء مغيثين لدى الحاجة مع أنه { إن يردن الرحمن } القادر المقتدر على أصناف الإنعام والانتقام { بضر } أي: مصيبة وسوء يتعلق مشيئته على إنزاله إلي { لا تغن } ولا تدفع { عني شفاعتهم شيئا } من بأس الله وعذابه، بل لا تنفعني شفاعتهم أصلا { ولا ينقذون } [يس: 23] بالمعاونة والمظاهرة عن عذابه سبحانه أيضا.
وبالجملة: { إني } بواسطة اتخاذهم شركاء لله، شفعاء عنده { إذا لفي ضلال مبين } [يس: 24] وغواية عظيمة ظاهرة؛ إذ اختيار ما لا ينفع ولا يضر على الضار النافع المعطي المانع، أو ادعاء مشاركتهم معه وشفاعتهم عنده سبحانه من أشد الضلالات وأردأ الجهالات.
{ إني } بعدما تفطنت بوحدة الحق واستقلاله في الوجود والآثار { آمنت بربكم } الذي هو ربي ورب جميع ما في حيطة الوجود وتحت ظله من الأكوان غيبا وشهادة، واعترفت بتوحيده واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته بعدما كوشفت بوحدة ذاته { فاسمعون } [يس: 25] أيها العقلاء السامعون، المدركون مضمون قولي، واتصفوا بما فيه، وتذكروا به إن كنتم تعلمون.
فلما سمعوا منه توصيته وتذكيره، أخذوا في قتله وهلاكه، فوطئوه بأرجلهم إلى حيث يخرج أمعاءه من دبره، وهو في تلك الحالة زاد انكشافه بربه، واستولى عليه سلطان الوحدة وجذبته العناية الإلهية، وأدركته الكرامة القدسية حيث { قيل } له من قبل الحق حينئذ: اخرج من هوؤتك وانخلع من أنانيتك { ادخل الجنة } أي: فضاء الوحدة التي لا فيها وصب ولا نصب ، ولا عناء ولا تعب، فخرج وانخلع، فدخل على الفور واتصل، ثم بعدما وصل إلى ما وصل { قال } متمنيا، متحسرا لقومه بعدما لحق بفضاء الوصال: { يليت قومي يعلمون } [يس: 26].
{ بما غفر لي ربي } وانكشف علي وجذبني نحوه بعدما ستر عني أنانيتي ومحا مني هويتي { وجعلني من المكرمين } [يس: 27] المكرمين: الآمنين الفائزين المستبشرين الذين
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62].
[36.28-35]
{ و } بعدما قتلوه ورفعناه عناية منا إياه، وأدخلناه في جنة وحدتنا مغفورا مسرورا، وكشفنا عنه غطاءه، أخذنا في انتقام قومه عنه، فأهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جبريل عليه السلام بأمرنا إياه { مآ أنزلنا على قومه } أي: قوم الحبيب، وهم أهل أنطاكية { من بعده } أي: بعد قتله؛ لننتقم عنهم لأجله { من جند من } جنود { السمآء وما كنا منزلين } [يس: 28] أي: ما ثبت منا، وما جرى في لوح قضائنا إنمال الملائكة لإهلاكهم كما جرت سنتنا لإهلاك سائر الأمم الهالكة.
بل { إن كانت } أي: ما كانت علة هلاكهمه { إلا صيحة واحدة } أي: ما وقعت وصدرت منا لإهلاكهم إلا صيحة واحدة - على القراءتين بالرفع والنصب - وذلك أنا بمقتضى قهرنا وجلالنا أمرنا جبريل عليه السلام بأن يأخذ بعضادة باب مدينتهم، فأخذ وصاح عليهم مرة واحدة { فإذا هم خامدون } [يس: 29] أي: فاجئوا جميعا على الخمود والجمود بعدما سمعوا الصيحة الهائلة؛ يعني: صاروا كالرماد بعدما كانوا أحياء كالنار المشتعلة الساطعة.
ثم قال سبحاه من قبل عصاة عباده، المأخوذين بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام: { يحسرة } وندامة وكآبة عظيمة وحزنا شديدا { على العباد } المصرين على العناد بعدما عاينوا العذاب الدنيوي أو الأخروي النازل عليهم حتما بسبب إنكارهم على الرسل والمرسل جميعا، وتكذيبهم بجميع ما جاءوا به من عند ربهم، ولس لهم حنيئذ قوة المقاومة والمدافعة؛ لذلك صاروا حيارى، سكارى، هائمين، متحسرين بلا ناصر ومعين وشفيع حميم من نبي ورسول كريم؛ إذ { ما يأتيهم من رسول } في نشأتهم الأولى يصلح أحوالهم وأعمالهم لئلا يترتب عليهم الوبال والنكال الموعود في النشأة الأخرى { إلا كانوا } من غاية كبرهم وخيلائهم { به } أي: بالرسول المصلح المرشد لهم { يستهزئون } [يس: 30] ويستحقرونه ويستنكفون عن قبول دينه ودعوته، وينكرون عليه كهؤلاء المسرفين المشركين معك يا أكمل الرسل.
{ أ } يستهزئون معك - يعني: أهل مكة - وينكرون بدينك وكتابك { لم يروا } ولم يخبروا ولم يعلموا { كم أهلكنا } أي: كثرة إهلاكنا واستئصالنا { قبلهم من القرون } الماضية، ولم يعتبروا مما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وإنكارهم على رسله مع { أنهم } أي: الأمم الهالكة السالفة { إليهم لا يرجعون } [يس: 31] أي: لا يرجعون إلى هؤلاء المفسدين، المسرفين في تكذيبك وإكارك يا أكمل الرسل في نشأتهم هذه، بل مضوا وانقرضوا إلى حيث لم يعودوا إلى ما كانوا، وهؤلاء أيضا سينقرضون إثرهم، ولم لم يتنبهوا ولم يعتبروا مما جرى عليهم مع أنهم إن أخذوا صاروا كأن لم يكونوا شيئا مذكورا أمثالهمه؟!.
{ و } بالجملة: { إن كل } أي: ما كل من الفرق والأحزاب المنقرضة عن الدنيا عن التعاقب والترادف مردودون إليها، مجتمعة في وقت من الأوقات، بل { لما جميع لدينا محضرون } [يس: 32] يعني: لا يجتمعون إلا عندنا ولا يحضرون جميعا إلا لدنيا في يم العرض والجزاء، وفي حضرة علمنا ولوح قضائنا.
وبالجملة: لا اجتماع لهم بعد انقراضهم ما داموا مسجونين في سجن الإمكان، مقيدين بسلاسل التعينات وأغلال الهويات والأنانيات، بل متى خلصوا عن مضيق الطبيعة وانخلعوا عن لوازمها، حضروا واجتمعوا، بل وصلوا واتصلوا، وحنيئذ لم يبق الفرق، وصاروا ما صاروا .
لا إله إلا هو ولا موجود سواه، هذا على قراءة " لما " بالتشديد، وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف " إن " حينئذ مخففة من الثقيلة، و " ما " في " لما " مزيدة للتأكيد، واللام للفرق بين المخففة والنافية، والمعنى: أنه - أي: الشأن - كل من الأمم الهالكة السالفة مجموعون ألبتة لدينا، محضرون عندنا يوم الجزاء، أو في حضرة لاهوتنا بعد انخلاعهم عن لوازم ناسوتهم.
{ وآية } عظيمة منا، دالة على كمال قدرتنا على جمعهم وإحضارهم يوم الجزاء { لهم } أن يستدلوا بها على صدقها { الأرض الميتة } اليابسة الجامدة، التي { أحييناها } وأحضرناها في وقت الربيع بإنزال قطرات الماء المترشحة من بحر الحياة عليها { وأخرجنا منها حبا } أي: جنسا من الحبوبات التي يقتاتون بها { فمنه يأكلون } [يس: 33] وبه يعيشون وينعمون، كذلك في النشور أحيينا الأبدان المائتة الجامدة البالية، المتلاشية في أراضي الأجداث بإنزال الرشحات الفائضة من بحر حياة الوجود بمقتضى الجود، فأعدناهم أحياء كما أبدعناهم أولا من العدم.
{ و } أيضا من جملة الآيات التي تدعل على كمال قدرتنا: إنا { جعلنا فيها } أي: في الأرض { جنات } بساتين ومتنزهات مملوءة { من نخيل وأعناب } ومن سائر ما يتفكهون به؛ تتميما لتنعمهم وترفههم { وفجرنا } أي: أخرجنا وأجرينا { فيها } أي: في خلال البساتين { من العيون } [يس: 34] والينابع الجارية التي لا صنع لهم في إجرائها وإخراجها؛ عناية منا إياهم، إبقاء لنضارتها ونزاهتها.
كل ذلك { ليأكلوا من ثمره } أي: من ثمر ما ذكر وقوته، ويقوموا أمزجتهم بأنواع ما وهبنا عليهم من النعم حتى يقوموا ويواضبوا على شكرها؛ أداء لحقوقنا إياهم { و } كذا علمناهم وأقدرناهم على عموم { ما عملته أيديهم } من العقارات والمزارع والبساتين وإجراء الأنهار والقنوات وحفر الآبار { أ } ينكرون على كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا { فلا يشكرون } [يس: 35] نعمنا الفائضة إياهم على التعاقب والتوالي ولا ينسبونها إلينا، بل ينسبونها إلى الوسائق والأسباب العادية جهلا وعنادا، وطغيانا كفرا.
[36.36-40]
{ سبحان } القادر المقتدر القيوم المطلق المنزه عن الشيبه والنظير، المبترئ عن الشريك والوزير، والمستقل في التصرف والتدبير { الذي خلق الأزواج } وقدر الأصناف المتوالدة المتزايدة { كلها مما تنبت الأرض } من الشجر والنبات بأجناسهما وأنواعهما وأصنافهما { ومن أنفسهم } ذكورهم وإناثهم أنواعا وأصنافا وأشخاصا، وكذا من جميع ما يعلمون من أجناس الحيوانات وأصنافها وأنواعها { ومما لا يعلمون } [يس: 36] من المخلوقات التي لا اطلاع لهم عليها؛ إذ ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعا؛ لأن الفردية والوترية والصمدية كوجود الوجود، والقيومية المطلقة من أخص أوصاف الربوبية والألوهية، لا شركة فيها للمصنوع أصلا؛ إذ لا يتوهم التعدد والكثرة في الوجود الذي هو الواجب قطعا.
{ و } أيضا { آية } عظيمة منا إياهم { لهم } أن يتأملوا فيها ويستدلوا بها على كمال قدرتنا وأحكامنا وعلمنا وإرادتنا { اليل } المظلم؛ أي: العدم الأصلي، حين { نسلخ } ننزع ونظهر { منه } أي: من الليل المظلم { النهار } المضيء؛ أي: نور الوجود الفائض منا إياهم حسب امتداد أظلال أسمائنا وصفاتنا عليهم { فإذا هم مظلمون } [يس: 37] مستقرون في ظلمة العدم لولا إفاضة الوجود عليهم.
{ و } أيضا من جملة آياتنا العظام: { الشمس } المضيئة، المشرقة على صفائح الكائنات كإشراق نور الوجود المطلق، الفائض على هياكل الموجودات حسب التجليات الإلهية { تجري } وتسري بلا قرار وثبات بمقتضى أمرنا وحكمنا { لمستقر لها } بقدرناه إياها منتهى ومنزلا بمقتضى حكمتنا المتقنة المرتبتة على تجلياتنا الحبية، المنتشئة من ذاتنا المتصفة بالأوصاف اللطيفة الجمالية { ذلك } الجري والسراية على هذا النظام الأبلغ الأبدع { تقدير العزيز } القادر الغالب المتقدر على عموم المقادير { العليم } [يس: 39] باستعداداتها وقابلياتها.
{ والقمر قدرناه } أي: عينا حسب قدرتنا الغالبة وحكمتنا البالغة لمرآة القمر الخالية عن النور الذاتي، القابلة لأن يكتسبه من قرص الشمس حسب المقابلة والمحاذاة بينهما، كذلك جعلنا له { منازل } متفاوتة في الوضع، فعند تمام المقابلة والمحاذاة يبدو بدرا كاملا بلا نقصان في قرصه أصلا، ثم ينقص شيئا فشيئا، يوما فيوما { حتى عاد } القمر في أخر المنازل الثمانية والعشرين التي وضت له في علم التنجيم والتقويم لاستفادته النور من الشمس { كالعرجون القديم } [يس: 39] أي: كعذق النخل العتيق الذي عليه الشماريخ المعوجة المصفرة من طول المدى.
وكذا عينا بمقتضى قدرتنا وحكمتنا لسير كل واحد منهما حسب الفصول الأربعة مقدارا من الزمان، بحيث لا يتخلف سيرهم عنه؛ لينتظم أمر المعاش؛ لذلك { لا الشمس ينبغي لهآ } أي: لا يصلح ويتيسر لها { أن تدرك القمر } أي: تسرع في سيرها إلى أن تدرك القمر، بل هي بطيئة السير، تقطع البروج الاثنى عشر في سنة والقمر سريع السير يقطعها في كل شهر { ولا اليل سابق النهار } أي: لا يسع ويتيسر له أن يسبق ويدخل في الهار، بل لكل منهما مدة مخصوصة مقدرة من عند الحكيم الع ليم، لا يسع لهما التجاوز عنها { و } لذلك { كل } أي: كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارات { في فلك } مخصوص معين من الأفلاك السبعة المتسعة { يسبحون } [يس: 40] ويسيرون فيه ويدورون فيه على الانبساط والاستقلال، بلا توهم السبق والإدراك.
[36.41-46]
{ و } أيضا { آية } عظيمة منا إياهم { لهم } أي: يتسدلون بها أيضا على كمال قدرتنا، ويواظبون على شكر نعمتنا، وتلك الآية { أنا } من كمال تربيتنا وتدبيرنا إياهم { حملنا } أولا عند طوفان نوح عليه السلام { ذريتهم } أي: آباءهم وأسلافهم، فإن اسم الذرية كما يطلق على الأبناء يطلق على الآباء أيضا باعتبار أنهم كانوا أبناء لآباء أخر { في الفلك المشحون } [يس: 41] المملوء منهم ومن سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء عناية منا إياهم وإبقاء لنسلهم.
{ وخلقنا لهم } أي: قدرنا وجعلنا لهم اليوم منا إياهم { من مثله } أي: سقنا من جنسة، وهو { ما يركبون } [يس: 42] في متجارهم وأسفارهم في البحر.
{ وإن نشأ } إفنائهم واستئصال نوعهم بالمرة { نغرقهم } بالطوفان { فلا صريخ لهم } أي: لا مغيث لهم حنيئذ ينصرهم وينجيهم من الغرق { ولا هم } بأنفسهم { ينقذون } [يس: 43] وينجون من تلك المهلكة.
{ إلا رحمة منا } أدركتهم وأنجتهم من الغرق { و } أملهناهم أيضا بعد إنجائنا إياهم { متاعا إلى حين } [يس: 44] أي: تمتيعا لهم ولأخلاقهم وذرياتهم إلى قيام الساعة كي نختبرهم، هل يصلون إلى ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد والهداية والإيمان مع أنا أرسلنا إليهم الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين؟!.
{ و } هم - أي: أسلافهم - مثل هؤلاء الضالين { إذا قيل لهم } إصلاحا لأحوالهم { اتقوا ما بين أيديكم } مما جرى على أسلافكم من الوقائع الهائلة والنوائب الشديدة السالفة، والواصلة إليهم بشئوم مفاسدهم وطغيانهم على الله وعلى أنبيائه ورسله بالخروج عن إطاعتهما وانقيادهما { و } احذروا عن { ما خلفكم } من العذاب الموعود لعصاة العباد، المتمردين على ربقة العبودية وصراط التوحيد، الضالين عن جادة السلامة بترك مقتضيات الحدود الإلهية { لعلكم ترحمون } [يس: 45] من عند الله بتقواكم عن محارمه ومحظوراته.
{ و } هم أيضا أمثالكم أيها المفرطون في الإعراض عن الحق في سبيله، بل { ما تأتيهم من آية } مشيرة لهم إلى ما يعينهم ويليق بحالهم، رادعة عما لا يعنيهم { من آيات ربهم } الصادرة عن محض الحكمة والعدالة { إلا كانوا عنها معرضين } [يس: 46] مكذبين لها، مستهزئين بمن جاء بها أمثالكم.
[36.47-50]
{ و } هم أيضا من كمال قسوتهم وبغيهم أمثالكم { إذا قيل لهم } إمحاضا للنصح وتنبيها لهم على حض الخير: { أنفقوا مما رزقكم الله } من فواضل نعمكم إلى الفقراء الفاقدين لها؛ لتتصفوا بالكرم وتفوزوا بمرتبة الإيثار { قال الذين كفروا } وكذبوا منهم بآيات الله بعدما سمعوا الأمر الإلهي الوارد على الإنفاق من ألسن المؤمنين { للذين آمنوا } إلى المصدقين الممتثلين بأوامر الله ونواهيه إيمانا واحتسابا على سبيل الإنكار والاستبعاد: { أنطعم } أي: تأمروننا أيها الجاهلون الضالون أن نعطي ونطعم { من لو يشآء الله } القادر المقتدر على إطعام عباده جملة { أطعمه } وبعدما لم يشأ مع قدرته لم يطعمهم، فأنتم من تلقاء أنفسكم تأمروننا بالإطعام، وبالجملة: { إن أنتم } أي: ما أنتم بدينكم وأمركم بما لا يشاء ولا يرضى منه سبحانه { إلا في ضلال مبين } [يس: 47] وغواية عظيمة ظاهرة، ادعيتم الإيمان بالله، وأمرتم بخلاف مشيئته وإرادته.
{ و } مهما سمعوا من المؤمنين أمثال هذه الأوامر الجالبة لروح الله ورحمته في اليوم الموعود { يقولون } على سبيل الاستهزاء والتهكم: { متى هذا الوعد } الذي أوعدنا به، عينوا لنا وقته { إن كنتم صادقين } [يس: 48] في دعواكم، يعنون بها صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم قال سبحانه في جواب هؤلاء الضالين المبطلين: { ما ينظرون } وينتظرون هؤلاء المنكرون المعاندون { إلا صيحة واحدة } هائلة { تأخذهم } بغتة { وهم } حين وقوعها { يخصمون } [يس: 49] أي: يختصمون ويتخاصمون بعضهم مع بعض في العقود والمعاملات.
ومتى فاجأتهم الصيحة الفظيعة الفجيعة { فلا يستطيعون } ولا يقدرون { توصية } وإيصاء كما هو المعروف بين الناس في حال النزع؛ أي: لا يمهلهم الفزع المهلك مقدار أن يأتوا بالوصية { ولا } يمهلهم أيضا { إلى أهلهم يرجعون } [يس: 50] أي: ينقلبون إلى بيوتهم، ويتكلمون مع أهليهم.
[36.51-54]
وبالجملة: متى سمعوا الصيحة الأولى ماتوا فجأة بلا إمهال لهم ساعة { و } بعدما ماتوا بالصيحة الأولى، وصاروا كسائر الأموات { نفخ في الصور } مرة أخرى بعد الصيحة الأولى { فإذا هم } أي: جميع الأموات، صاروا أحياء قائمين هائمين، خارجين { من الأجداث } أي: القبور { إلى ربهم } الذي يناديهم للعرض والجزاء { ينسلون } [يس: 51] يذهبون ويسرعون طوعا وكرها؛ إذ لا مرجع لهم سواه، ولا ملجأ إلا هو.
ثم لما أفاقوا من ولههم وحيرتهم ورأوا مقدمات العذاب والنكال { قالوا } أي: بعضهم لبعض متحيرين متحسرين: { يويلنا } وهلكنا، تعال فهذا أوانك { من بعثنا من مرقدنا } أي: قبرنا الذي كنا فيه مستودعين؛ أي: كل منا مستودع على صاحبه، وإن كان هناك عذاب أيضا، لكن لا تفضيح، أو المعنى: من أيقظنا عن نومنا الذي كنا عليه قبل النفخة الثانية المجيئة، وبعد النفخة الأولى المهيئة، إنما قالوا تحسرا وتحزنا.
ثم قيل لهم حينئذ من قبل الحق: { هذا ما وعد الرحمن } أي: يومكم هذا هو اليوم الموعود الذي وعده الرحمن، وأخبره على ألسنة رسله وكتبه؛ لينقذكم من عذابه بمقتضى سعة رحمته { وصدق المرسلون } [يس: 52] في جميع ما جاءوا من قبل ربهم من الأمور المتعلقة بالنشأة الأخرى، وأنتم من كمال بغيكم وبغضكم على الله ورسوله في النشأة الأولى أنكرتم الرحمن وكذبتم الرسل الكرام، فاليوم يلقاكم ما كذبتم به.
ثم قال سحبانه تقريعا وتوبيخا على المشركين المنكرين لقدرته وكمال عزته وسطوته واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته، وإظهارا لعلو شأنه وسمو برهانه بأن أمثال هذه المقدورات في جنب قدرتنا الكاملة في غاية اليسر والسهولة؛ لذلك { إن كانت } أي: ما كانت الفعلة منا في أمر البعث وقيام الساعة وحشر الأموات { إلا صيحة واحدة } صادرة بأمرنا فجأة، وهي الصيحة الثانية ، أو ما وقعت الفعلة منا وبأمرنا إلا صيحة واحدة { فإذا هم جميع } أي: كل الأموات مجموعون { لدينا محضرون } [يس: 53] عندنا، مع أنه صدر عنا في إحضارهم وجمعهم إلا صيحة واحدة دفعية.
{ فاليوم } أي: بعد حضر الكل لدينا واجتمع عندنا للعرض والحساب وتنقيد الأعمال، وجزاء الأفعال الصادرة عنهم في دار الاختبار { لا تظلم نفس شيئا } ولا تنقص من أجور أعمالها الصالحة { و } لا تزاد أيضا على فاسدها على مقتضى عدلنا، بل { لا تجزون إلا ما كنتم تعملون } [يس: 54] أي: بمقتضى عملهم، إن كان خيرا فخير وإن شرا فشر.
[36.55-62]
ثم فصل سبحانه أحوال الأنام في النشأة الأخرى، فقال: { إن أصحاب الجنة } وهم الواصلون إلى مقر التوحيد والمعرفة علما وعينا وحقا { اليوم } أي: يوم القيامة المعد للجزاء { في شغل } عظيم من أنواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات القالعة لعرق التقليدات، والتخمينات التي هي من لوازم الإمكان الذي هو من أسفل دركات النيران { فاكهون } [يس: 55] فرحون، متلذذون أبدا بلا انقراض وانقضاء أصلا.
بل { هم } في شهودهم { وأزواجهم } التي هي نتائج أعمالهم الصالحة { في ظلال } أي: ظلال الأسماء والصفات الإلهية { على الأرآئك } أي: المعارج العلية والدرجات السنية { متكئون } [يس: 56] متمكنون راسخون، لا يتحولون منها ولا ينقلبون.
بل { لهم فيها } عناية منا إياهم { فاكهة } كثيرة من تجددات المعارف والحقائق وتلذذات المكشوفات والشهودات على مقتضى التجليات الإلهية { و } بالجملة: { لهم } فيها { ما يدعون } [يس: 57] ويتمنون من مقتضيات التجليات المتشعشعة حسب الشئون والتطورات الإلهية التي لا نهاية لها، بلا تناه وتكرر.
وقيل لهم من قبل الحق حينئذ: { سلام } أي: تسليم وترحيب لهم وتكريم { قولا } ناشئا { من رب رحيم } [يس: 58] أي: مرب مشفق لهم، يربيهم بمقتضى سعة رحمته على فطرة التوحيد، ويوصلهم إلى مقر الوحدة الذاتية بعدما رفعوا الشواغل المانعة عن التوجه إليها، ورفضوا العلائق العائقة عن التمكن دونها والتحلي بها.
{ و } قيل حينئذ للمشركين المصرين على الشرك والعناد: { امتازوا } وتميزوا { اليوم أيها المجرمون } [يس: 59] المفرطون المسرفون في الإعراض عن الله بمتابعة الشيطان المضل المغوي عن طريق توحيدهمه.
ثم قرعهم سبحانه وعاتبهم؛ زجرا لهم وطردا على وجه العموم؛ لئلا يأمن المؤمن مع اطمئنانهم على الإيمان ورسوخهم في العرفان { ألم أعهد إليكم يبني ءادم } ولم آخذ منكم موثقا وثيقا في مبدأ فطرتكم وبألسنة استعداداتكم وقابلياتكم { أن لا تعبدوا } أي: بألا تعبدوا { الشيطان } ولا تطيعوا منه ولا تقبلوا منه قوله ووساوسه المبعدة المحرفة لكم عن طريق توحيدي، إنما أحذركم يا ابن آدم عن إطاعته وانقياده { إنه لكم عدو مبين } [يس: 60] ظاهر العداوة يريد أن يصدكم عما جبلتم عليه بإغرائه وإغوائه.
{ وأن اعبدوني } ووحدوني، واعتقدوا كمال أسمائي وأوصافي واستقلالي في عموم تدبيراتي وتصرفاتي في ملكي وملكوتي، وامتثلوا أمري ولا تشركوا معي في الوجود شيئا من مظاهري ومصنوعاتي { هذا } المعهود الموثوق { صراط مستقيم } [يس: 61] موصل إلى توحيدي، فاتخذوه سبيلا، ولا تركنوا إلى الذين ضلوا عن طريقي وظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودي وأوامري وأحكامي وحكمي وتذكيراتي.
{ و } كيف تعبدون الشيطان وتتبعون أثره وتنقادون أمره إيها العقلاء المجبولين على فطرة الهداية والرشاد؛ إذ { لقد أضل } وأغوى هذا الغاوي المغوي { منكم } يا بني آدم { جبلا كثيرا } وجماعة متعددة من بني نوعكم، فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل ونقضوا بإغوائه وإغرائه المواثيق والعهود، فحرموا بذلك عن الجنة الموعودة لهم، فاستحقوا جهنم البعد ونيران الخذلان { أ } تعبدون الشيطان وتقتفون أثره { فلم تكونوا تعقلون } [يس: 62] أي: لم تستعملوا عقولكم في فظاعة أمره وشدة عداوته ووخامة عاقبة متابعته، وفيما يترتب على إضلاله من العذاب المخلد والنكال المؤبد، فتختارون متابعته وتقبلون منه تغريره، وتتركون طريق التوحيد، أفلا تعقلون أيها المسرفون المفرطون؟!.
[36.63-68]
وقيل لهم حينئذ مشيرا إلى منقبلهم ومثواهم: { هذه جهنم التي كنتم } أيها الضالون، الغاوون، المغرورون { توعدون } [يس: 63] في النشأة ا لأولى بألسنة الرسل والكتب.
{ اصلوها } وادخلوها { اليوم بما كنتم تكفرون } [يس: 64] أي: بشؤم ما تنكرون بذات الله وكمال أسمائه وصفاته، وبما تكذبون كتبه ورسله، وتعرضون عنهم وعن دعوتهم ظلما وعدوانا.
وبعدما عاينوا العذاب وأنواع النكال، وعلموا أن أسبابها ما هي إلا أفعالهم الصادرة عنهم في دار الاختبار عزموا على الإنكار، وقصدوا أن يقولوا معتذرين: والله ما كنا يا ربنا مشركين لك، مكذبين كتبك ورسلك، فيقول الله تعالى: { اليوم نختم على أفواههم } ونمنعها عن الكلام؛ حتى لا تتفوهوا بالأعذار الكاذبة { وتكلمنآ أيديهم } لتكلمن بما صدر عنهم ظلما وعداونا { وتشهد } أيضا { أرجلهم بما كانوا يكسبون } [يس: 65] بها من المعاصي والسعي في طلب المنهيات والمحرمات.
وبالجملة: أنطق الله القدير العليم الخبير الحكيم جميع جوارحهم وأركانهم، فاعترف كل منها بما اقترف به صاحبه.
وي الحديث - صلوات الله وسلامه على قائله:
" يقال للعبد: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا، ثم قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق كل بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول للجوارح بعدما أقرت واعترفت: بعدا لكنذ وسحقا، فعنكن كنت أناضل "
انتهى الحديث.
والسر في إنطاق الله سبحانه الأعضاء والجوارح بما صدر عنها هو الإشارة إلى أن الالتفات إلى السوى والأغيار مطلقا مضر لذوي الألباب والاعتبار، وسبب تفضيح وتخذيل لدى الملك الجبار الغيور القهار، فلا تذهب إلا إلى الله، ولا تصحب إلا مع الله، ولا تعتمد إلا بالله، ولا تتوكل إلا على الله، فاتخذه سبحانه وكيلا، وكفاك سبحانه حسيبا وكفيلا.
رزقك الله وإيانا حلاوة صحبته، وجنبك وإيانا عن الالتفات إلى غيره بمنه وجوده.
ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته واختباره: { و } كما ختمنا على أفواههم حينئذ وطبعنا على قلوبهم قبل ذلك حينما قبلوا دعوة الرسل { لو نشآء } أن نعيمهم ونذهب بأبصارهم { لطمسنا على أعينهم } وصيرناها مطموسة ممسوحة كسائر أعضائهم، بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق { فاستبقوا } وبادروا { الصراط } والطريق المعهود لهم، وهم قد مروا عليها مرارا كثيرة { فأنى يبصرون } [يس: 66] فكيف يبصرون بعدما صاروا مطموسين.
بل { ولو نشآء } أي: نسقطهم عن ربقة التكليف ودرجة الاعتبار { لمسخناهم } وأخرجناهم عن رتبة الإنسانية إلى الحيوانية، بل عن الحيوانية إلى الجمادية أيضا، إلى أن صاروا جامدين خامدين { على مكانتهم } كالجمادات الأخر بحيث لا يسع أن يتحولوا عنها أصلا { فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون } [يس: 67] يعني: لو نشاء مسخناهم وأخرجناهم عن رتبة الخلافة والنيابة وفطرة التكليف والتوحيد، لصيرناهم جمادات لا قدرة لهم على الذهاب والإياب أصلا.
وبالجملة: هم بسبب أعمالهم الفاسدة وأفعالهم القبيحة وأوصافهم الذميمة وأخلاقهم الغير مرضية أحقاء أن يفعل لهم ما ذكرنا، لكن سبقت رحمتنا واقتضت حكمتنا أن نمهلهم زمانا إلى أن يتنبهوا أو يتولد منهم من يتنبه ويتفطن.
{ و } كيف لا نقدر على الطمس والمسخ مع أنا بمقتضى قدرتنا وقوتنا { من نعمره } منهم، ونطيل عمره في الدنيا { ننكسه في الخلق } ونضعفه بالآخرة إلى أن نرده إلى أرذل العمر؛ لكيلا يعلم بعد علم شيئا، ثم نميت الكل ونصيرهم ترابا وعظاما، ولا شك أن من قدر على الإحياء والإماتة والتطويل والتنكيس، قادر على المسخ والتطميس، فمن أين يتأتى لهم أن ينكروا قدرتنا واختيارنا في أفعالنا، واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا؟! { أفلا يعقلون } [يس: 68] ويتأملون آثار قدرتنا الكاملة الظاهرة على الآفاق والأنفس أولئك العقلاء المتأملون حتى يتفطنوا ويتيقنوا بها.
[36.69-76]
ثم لما قال كفار مكة خذلهم الله: إن محمدا شاعر، وما جاء به مفترى إلى ربه من جملة الأشعار والقياسات المخيلة المشتملة على الترغيبات والتنفيرات والمواعيد والوعيدات، وإدعاء النبوة والوحي والمعجزة ما هو إلا قول باطل وزور ظاهر.
رد الله عليهم قولهم هذا على وجه المبالغة والتأكيد فقال: { وما علمناه الشعر } أي: ما جعلنا فطرته الأصلية واستعداده الجبلي قابلة على القياسات الشعرية المبنية على محض الكذب والخيال والمرغب أو المنفر، بل ما جعلناها إلا منزهة عنها، بريئة عن أمثالها، طاهرة عن أدناس الطبيعة مطلقا، خالصة عن شوائب الإمكان ولوث الجهل والتقليد، متحلية باليقين والبرهان المنتهي إلى الكشف والعيان، ثم إلى الحق الذي هو منتهى الأمر في باب العرفان، بل { وما ينبغي له } ويليق بشأنه وبشأن كتابه أن ينسب هو وهو إلى الشعر والشعراء اللذين هما أبعد بمراحل عن ساحة جلالهما، بل { إن هو } أي: ما الكلام المنزل على خير الأنام { إلا ذكر } عظة وتذكير ناشئ عن العلم والحكمة المتقنة الإلهية مشير إلى التوحيد الذاتي، منبه عليه { وقرآن مبين } [يس: 69] مشتمل على أحكام ظاهره وآيات واضحة وبينات لائحة، محتوية على الأوامر والنواهي الإلهية، والحدود والقوانين الموضوعة بالوضع الإلهي بين عباده؛ ليوصلهم إلى طريق توحيده، منزلة على رسوله المستعد لحمله وقبوله.
{ لينذر } أنت يا أكمل الرسل بالتبليغ، إن قرئ على صيغة الخطاب، أو القرآن إن قرئ على الغيبة { من كان حيا } بحياة الإيمان، موفقا من عندنا باليقين والعرفان، معدودا عن عداد السعداء في حضرة علمنا ولوح قضائنا { و } ألا { يحق القول } ويجب الحكم منا بلحوق العذاب { على الكافرين } [يس: 70] المصرين على الكفر والعناد المائتين بموت الجهل والإ نكار.
{ أ } ينكرون أولئك المنكرون المشركون توحيدنا، ويكفرون نعمنا الفائضة عليهم على التعاقب والتوالي { ولم يروا } ولم يعلموا { أنا } بمقتضى جودنا { خلقنا لهم } بمحض قدرتنا وحكتمنا { مما عملت أيدينآ } بلا صنع لهم وتسبب ومظاهرة { أنعاما } أجناسا وأنواعا وأصنافا { فهم لها مالكون } [يس: 71] متصرفون فيها، ضابطون لها، قاهرون عليها.
{ و } كيف لا يملكون ولا يتصرفون فيها بأنواع التصرفات مع أنا قد { ذللناها } وسخرناها؛ أي: أجناس الأنواع مع كمال قوتها وقدرتها { لهم } ولم نجعلها آبية وحشية عنهم، بل مقهورة لهم مذللة لحكمهم؛ لذلك { فمنها ركوبهم } أي: مراكبهم التي يركبون عليها كالإبل والخيل { ومنها يأكلون } [يس: 72] من لحومها وشحومها.
{ و } مع ذلك { لهم فيها } أي: في الأنعام { منافع } كثيرة من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونتائجها { ومشارب } من ألبانها { أفلا يشكرون } [يس: 73] نعم الله الفائضة عليهم، المهمة لهم، المقوية لأمزجتهم.
{ و } من علامة كفرانهم بنعم الله، ونسيانهم حقوق كرمه أنهم { اتخذوا من دون الله } الواحد الأحد الصمد، المستقل بالألوهية والربوبية أولياء وسموهم { آلهة } مستحقة للعبادة والرجوع في المهمات وكشف الملمات { لعلهم ينصرون } [يس: 74] بهم وبشفاعتهم عن بأس الله وبطشه مع أنهم لكونهم جمادات { لا يستطيعون } ولا يقدرون { نصرهم } أي: نصر عابديهم، بل { وهم } أي: العابدون { لهم } أي: للمعبودين { جند محضرون } [يس: 75] حولهم، حافظون لهم، مزينون إياهم بأنواع التزينات، وبالجملة: هم منسلخون عن مقتضى العقل بعبادتهم إياهم واتخاذهم أولياء شفعاء، وتسميتهم آلهة دون الله.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل حالهم وحال معبوداتهم { فلا يحزنك قولهم } بأنك شاعر أو مجنون، وبأن كتابك شعر، ومن أساطير الأولين، وبأنك كاذب في دعوى الرسالة والنبوة، وبأن إخبارك بالعبث زور باطل { إنا نعلم } بمقتضى حضرة علمنا الحضوري { ما يسرون } في ضمائرهم من الكفر والإنكار بتوحيدنا واستقلالنا بالتصرف في ملكنا وملكوتنا { وما يعلنون } [يس: 76] من الفسوق والعصيان، والخروج عن مقتضى حدودها ظلما وعدوانا، فجازيهم على مقتضى علمنا بهم وبأعمالهم.
[36.77-83]
ثم لما بالغ الكفرة المنكرون المصرون في إنكار البعث وتكذيبه، وجادلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وجه العناد والمكابرة، حتى أتى أبي بن خلف، أتى بعظم بال، وفته عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال متعجبا على سبيل الإنكار مستبعدا:
أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما
[المؤمنون: 82] كذلك إنا مخرجون مبعوثون
هيهات هيهات لما توعدون
[المؤمنون: 36].
رد الله سبحانه لمن أنكر قدرته على البعث فقال: { أ } ينكر المنكر قدرتنا على إعادة الروح إلى الجمادات { ولم ير الإنسان } المجبول على الدارية والشعور، ولم يتذكر ولم يعلم { أنا خلقناه } وقدرنا وجوده أولا { من نطفة } مهينة، وهي أرذل من التراب { فإذا هو } اليوم بعدما سويناه رجلا كاملا في العقل والرشد { خصيم مبين } [يس: 77] ومجادل زعيم، ظاهر المراء والمجادلة معنا، منكرا لقدرتنا، مع أنه كان جمادا أرذل في غاية الرذالة والحقارة.
{ و } ما يستحقي منا ومن قدرتنا حتى { ضرب لنا مثلا } موضحا لنفي قدرتنا { و } قد { نسي خلقه } أي: خلقنا إياه، ومن كمال نسيانه وضلاله { قال } متعجبا على سبيل الإنكار: { من يحيي العظام } البالية { و } الحال أنه { هي رميم } [يس: 78] بالية في غاية البلى إلى حيث تتفتت أجزاؤها وتطيرت بالرياح.
{ قل } يا أكمل الرسل في جوابهم بعدما بالغوا في الإنكار والاستبعاد: { يحييها } أي: العظام، ويعيد الروح إليها { الذي أنشأهآ } أي: المحيي، القادر المقتدر على خلقها وإبرائها { أول مرة } من كتم العدم إنشاء إبداعيا بلا سبق مادة ومدة { و } إن استبعدوا واستحالوا جميع الأجزاء المنبثة المفتتة، الممتزجة بعضها مع بعض إلى حيث يستحيل امتيازها وافتراقها أصلا، قل: { هو بكل خلق } ومخلوق من نقير وقطمير { عليم } [يس: 79] بعلمه الحضوري، لا يغيب عن حيطة علمه ذرة، ولا يشبته عليه شيء من معلوماته، فله سبحانه أن يميز أجزاء كل شخص شخص، ويركبها على الوجه الذي كان عليه في النشأة الأولى، ثم يعيد الروح عليه، فاصر حيا كما كان، وما ذلك على الله بعزيز.
وكيف لا يقدر العليم الحكيم على امتياز أجزاء الأنام والتئامها وإعادة الروح إليها هو { الذي جعل لكم } بمقضتى علمه وقدرته { من الشجر الأخضر } الرطب الذي يتقاطر منه الماء { نارا } مع أن بين النار والماء من التضاد، وكيف تنكرون إخراج النار من الشجر الرطب { فإذآ أنتم منه توقدون } [يس: 80] حينا كثيرا.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: شجرتان معروفتان يقال لأحدهما: المرخ، وللآخر: العفار، فمن أراد منهما النار، قطع منهما عضنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ على العفار، فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى.
ولهذا قال الحكماء: لكل شجر نار إلا العناب.
ثم أشار سبحانه أيضا إلى كمال قدرته واختياره فقال: { أ } ينكر المنكرون قدرتنا على البعث وحشر الموتى { وليس } القادر المقتدر { الذي خلق } وأوجد { السماوات } أي: العلويات وما فيها { والأرض } أي: السفليات وما عليها { بقادر على أن يخلق مثلهم } ويعيدهم أحياء كما كانوا { بلى } من قدر على خلق السماوت العلا والأرضين السفلى، قادر على بعث الموتى وحشرهم في النشأة الأخرى { و } كيف لا يقدر { هو الخلاق } المبالغ في تكثير الخلق والإيجاد، إبداء وإعادة { العليم } [يس: 81] بجميع المعلومات، أزلا وأبدا على التفصيل بحيث لا يخرج عن حيطة حضوره ذرة من ذرائرها ما كان ويكون، بل الكل عنده ممتاز محفوظ.
ولا تستبعدوا أيها الجاهلون بالله وبعلمه، وقدرته وسائر أوصافه الكاملة وأسمائه الشاملة أمثال هذا، بل هي بالنسبة إليه سبحانه سهل ويسير.
وكيف لا يسهل عليه سبحانه أمثال هذا { إنمآ أمره } وشأنه { إذآ أراد شيئا } أي: تعلق إرادته بتكوين شيء من معلوماته ومقدوراته { أن يقول له } بعد تعلق إرادته: { كن } المؤدي لأمره وحكمه { فيكون } [يس: 82] المأمور المحكوم بلا تراخ ومهلة، والتعقيب إنما نشأ من العبارة وإلا فلا تأخير ولا تعقيب في سرعة نفوذ قضائه سبحانه.
وإياك ومحتملات الألفاظ، فإنها بمعزل عن أداء كيفية أمر الله وشأن حكمه وقضائه على وجهه، ومتى سمعت ما سمعت من كمال قدرة الله ومتانة حكمته وحيطة علمه وإرادته { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } وله التصرف بالاستقلال والاختيار في ملكه وملكوته؛ يعني: تنزه ذات من بيده مقاليد الملك والملكوت من أن يعجز عن إعادة الأموات أحياء بعدما أبدعهم عن العدم كذلك، ولم يكونوا حينئذ شيئا مذكورا، تعالى شأنه عما يقولون حقه علوا كبيرا { و } كيف لايقدر سبحانه على البعث والإحياء؛ إذ { إليه } لا إلى غيره؛ إذ لا غير معه في الوجود ولا إله سواه موجود ومشهود { ترجعون } [يس: 83] رجوع الأمواج إلى الماء، والأضواء إلى الذكاء، سبحانه من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتدبر المتأمل في كيفية رجوع الكائنات إلى الوحدة الذاتية وإيناط المظاهر والمصنوعات إلى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي - أزال الله عن بصر بصيرتك سبل الحول، وأعانك على رفع الحجب وكشف العلل - أن تصفي باطنك عن الميل إلى الغير مطلقا، بحيث يصير باطنك مملوءا بمحبة الله، فتترسخ تلك المحبة فيه وتتمون إلى أن خفي عليك خواطرك وهواجس نفسك، ثم تسري من باطنك إلى ظاهرك، فيشغلك عن جميع مشتهياتك ومستلذاتك، ومتقضيات قواك وجوارحك، فيمتلئ منها ظاهرك وباطنك، فحينئذ لم يبق لك التفات إلى الغير مطلقا، فصرت حيرانا، مدهوشا، مستغرقا بمطالعة وجهه الكريم، وبعدما صرت كذلك، جذبك الحق عنك وسترك عليك إن إبت فيه وفنيت، فحينئذ حق لك أن تقول بلسان استعدادك بعدما فنيت آثار رسومك في الله: إن لله وإنا إليه راجعون { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون } [يس: 83].
[37 - سورة الصافات]
[37.1-10]
{ والصافات } أي: وحق الأسماء والصفات الإلهية الصافين حول الذات الأحدية المنتظرين لشئونه وتجلياته؛ إذ هو سبحانه في كل آن في شأن، ولا يشغله شأن عن شأن { صفا } [الصافات: 1] لا يتحولون منه أصلا، بل هائمون دائمون والهون مستغرقون، منتظرون بماذا يأمرهم ربهم من التدابير المخزونة في حضرة علمه ولوح قضاءه.
ومتى تعقلت إرادته بمقدور من مقدوراته ومراداته المأمورة إياهم وحينئذ زاجرات { فالزاجرات } المدبرات على الفور لما يأمرهم الحق من التدبيرات المتعلقة بنظام الكائنات غيبا وشهادة { زجرا } [الصافات: 2] أي: تدبيرا تاما كاملا، حسب المأمور والمقدور بلا فتور وقصور.
وبعدما صدر أمره سبحانه، وجرى قضاءه بقوله:
كن
[غافر: 68] فهم حينئذ التابعون لامتقال المأمور المقضي، بلا فترة وتسويف { فالتليت } التابعات لإنفاذ قضائه سبحانه القارئات المبلغات { ذكرا } [الصافات: 3] منه، ووحيا من لدنه سبحانه لمن أمرهم الحق بتليغه إياهم، وهم الأنبياء والرسل المؤيدون بالوحى والإلهام، المصطفون من بين البرايا بالخلافة والنيابة عن الله، المتحملون لأعباء النبوة والرسالة.
يعني: وبحق هؤلاء الملائكة الذين هم من سدنة حضرة اللاهوت، وخدمة عتبة جناب الرحموت، والمتظرون لما صدر عنه سبحانه من الأمور المتعلقة بالملك والملكوت { إن إلهكم } الذي أظهركم وأبدعكم من كتم العدم، ولم تكونوا أيها العكوس المستهلكة في شمس الذات شيئا مذكورا، لا حسا ولا عقلا ولا وهما { لواحد } [الصافات: 4] أحد صمد فرد وتر، ليس له شريك في الوجود ولا نظير في الظهور والشهود.
فهو وحده بوحده ذاته وكمال أسمائه وصفاته { رب السموت } العلا { والأرض } السفلى { وما بينهما } من الكوائن والفواسد الممتزجة منهما إلى ما لا يتناهى، ولا مربي للمذكورات سواه، ولا مظهر للكائنات إلا هو { و } هو سبحانه { رب المشارق } [الصافات: 5] أي: الاستعدادات القابلة لشروق شمس ذاته المتأثرة من أشعة أسمائه وصفاته.
وبعدما ثبت استقلالنا وتوحيدنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا ولا هوتنا وجبروتنا { إنا } من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا { زينا السمآء الدنيا } أي: القربى لكم أيها المكلفون، حيث ترون ما فيها { بزينة الكواكب } [الصافات: 6] أي: بزينة هي الكواكب، أو البدل على كلا القراءتين بتنوين وبلا تنوين، تزيينا تبتهجون بها حين تنظرون إليها، وتتأثرون سعدا ونحسا إقبالا وإدبارا.
{ و } جعلناها { وحفظا } أي: بعدما زينا السماء بها صيرناها صائنة حفظا لها { من } وصول { كل شيطان مارد } [الصافات: 7] خراج عن إطاعة الله، مائل عن توحيده إياها.
كي { لا يسمعون } أي : مردة الشياطين ولا يصغون { إلى الملإ الأعلى } أي: إلى الأذكار والاستغفار وسائر الأسرار الجارية على ألسن الملائكة، إذ هم؛ أي: الشياطين والجن أشبه المخلوقات إلى الملائكة، وإنما منعهم سبحانه عن الإصغاء إليهم؛ لأ،هم من كمال عداوتهم مع بني آدم يعكسون عليهم ما يسمعون، فيضلونهم به عن الصراط المستقيم، أو يدعون الألوهية والربوبية لأنفسهم، ويحتجون بما يسمعون من الملائكة ترويجا وتغريرا، ويلبسون الأمر على ضعفة الأنام، فيحرفونهم عن جادة التوحيد والإسلام { و } لذلك { يقذفون } ويطردون أولئك الماردون { من كل جانب } [الصافات: 8] من جوابن السماوات وآفاقها.
{ دحورا } طردا بليغا وزجرا شديدا { و } مع ذلك الطرد الزجر { لهم } أي: للشياطين { } في النشأة الأخرى { عذاب واصب } [الصافات: 9] مؤبد دائم، لا ينفك عنهم في حين من الأحيان.
{ إلا من خطف الخطفة } أي: يطرد الماردون، ولا يسمعون إلا من اختطف واختلس من الملائكة الخطفة على سبيل المسارقة { فأتبعه } أي: تبعه ولحقه على الفور حين اختطافه واختلاسه { شهاب ثاقب } [الصافات: 10] أي: كوكب مضيء كجذوة النار، يثقب الجني فيقتله، أو يحرقه، أو يخبله.
والقول بأن الشهب من الأمور الكائنة في الجو من الكواكب قول تخميني ابتدعه الفلاسفة من تلقاء نفوسهم، لا يعضده عقل، ولا يوافقه نقل.
وأما قولهم في ضبط الحركات الفلكية والأجرام العلوية، وتقويم الكواكب والبروج، وتقدير الأشكال والصور إلى غير ذلك من الأمورم المؤدية إلى الحس رما يؤدي إلى اليقين، أما في طبائع المكونات وحقائق الموجودات، وكيفية تراكيب الماهيات وغير ذلك من الأمور الحقيقية التي لا مجال للحس فيها ولا لعقل، ما هو إلا تخمين زائل وزور باطل؛ إذ لا يعرف كنه الأشياء إلا خالقها ومظهرها، لا يسع لأحد أن يتفوه عنها، وعن كيفيتها وكميتها وكمية التئامها على ما هي عليها والتركيبات الحقيقية.
وهم؛ أي: مرادة الشياطين بمجرد تلك الخطفة المختلسة يضلون كثيرا من الناس إلى حيث يستبعدونهم، ويأمرونهم بالإطاعة والانقياد إلى أنفسهم، والعبادة إياهم باتخاذهم أولياء آلهة من دوننا جهلا وعنادا.
[37.11-21]
{ فاستفتهم } أي: المشركين المتخذين الشياطين أولياء آلهة من دوننا، واستخبرهم يا أكمل الرسل على سبب التبكيت والتعبير تنصيصا على غيهم، وتصريحا بكفرهم واستحقاقهم العذاب المؤبد والنكال المخلد { أهم } أي: آلهتهم وشياطينهم { أشد خلقا } أي: إيجادا وتأثيرا { أم من خلقنآ } وأظهرنا بمقتضى قدرتنا الكاملة من المخلوقات المذكورة التي هي الملائكة الصافات، والسماوات المطبقات، والكواكب المتفاوتة في التأثيرات فيها،ت والأرض وما عليها من المركبات والمواليد، وبينهما من الممتزجات وغير ذلك من الاستعدادات القابلة لشروق شمس الذات، سيما { إنا خلقناهم } وقدرنا وجوده هؤلاء المتخذين لغيرنا أربابا أولا { من طين لازب } [الصافات: 11] لاصق منتن مهين لازم النتن و الهوان، ثم ربيناهم بانواع التربية إلى أن سويناهم رجالا عقلاء؛ ليعترفوا بتوحيدنا وبألوهيتنا وربوبيتنا، ويواظبوا على شكر نعمتنا، فعكسوا الأمر واتخذوا أولياء من دوننا، واعتقدوهم آلهة سوانا، وبالجملة: انقلبوا خاسرين.
أو المعنى: { فاستفتهم } وسلهم؛ أي: المشركين { أهم } في أنفسهم { أشد خلقا } وأعظم مخلوقا { أم من خلقنآ } من المخلوقات المذكورة سابقا مع أنهم لم يتخذوا إلها سوانا، ولم يعبدوا غيرنا، هؤلاء الحمقى كيف اتخذوا من دوننا أولياء، ويسمونهم آلهة شفعاء، مع أنهم أضعف بالنسبة إليهم، مخلوقين من أدون الأشياء وأرذلها؟! { إنا خلقناهم } وقدرنا وجودهم { من طين لازب } [الصافات: 11] مسترذل منتن تستكرهه الطبائع.
ومهما سمعت يا أكمل الرسل قولهم وإنكارهم للتوحيد وإشراكهم بالله أدون الأشياء مع ضعف خلقهم، وتأملت حالهم واستبعدت منهم هذا { بل عجبت } أنت - أو " عجبت " أنا على القراءتين - منهم أمثال هذا، مع أنهم مجبولون على فطرة الدراية والشعور، مرهون لهم العقل المفاض المشير لهم إلى التوحيد وتصديق البعث والحشر وجميع الأمور الأخروية { و } هم { يسخرون } [الصافات: 12] بكل متى سمعوا منك الأخبار والآيات الواردة في أمر البعث والحشر.
بل { و } هم من شدة قسوتهم وعمههم في سكرتهم { إذا ذكروا } ووعظوا بالإنذارات والتخويفات الشديدة المتعلقة للآخرة { لا يذكرون } [الصافات: 13] أي: لا يتأثرون ولا يتعظون.
{ و } لا يقتصرون على عدم القبول والتذكر بل { إذا رأوا } أي: علموا وسعموا { آية } معجزة نازلة في شأن البعث والنشور { يستسخرون } [الصافات: 14] بها، ويستهزئون بك يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا.
{ وقالوا } من شدة بغضهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل ومع كتابك: { إن هذآ } أي: ما هذا الذي جاء مفتريا إلى ربه { إلا سحر مبين } [الصافات: 15] أي: سحرية ما جاء به ظاهر، وهو في نفسه ساحر ماهر، لكن مضمون كلامه زور وباطل.
{ أ } نبعث ونحيى { ءذا متنا } وانفصل عنا روحنا، سيما { وكنا ترابا وعظاما } بالية رميمة { أءنا لمبعوثون } [الصافات: 16] بعدما صرنا كذلك.
{ أو آبآؤنا الأولون } [الصافات: 17] الأقدمون يبعثون ويحشرون
هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين
[المؤمنون: 36-37].
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في إنكار البعث، واستحالة نشأة النشور: { نعم } تبعثون أيها الضالون المنكرون، وإلى ربكم تحشرون، وعن أعمالكم تسألون، وعليها تحاسبون، وإلى جهنم تساقون { وأنتم } حينئذ { داخرون } [الصافات: 18] صاغرون ذليلون مهانون.
وكيف تنكرون قدرتنا على البعث وقيام الساعة؟! { فإنما هي } أي: الساعة والبعث بعدما تعلقت مشيئتنا { زجرة واحدة } أي: صيحة واحدة منشرة لهم عن قبورهم، زاجرة لهم نحو المحشر زجر الراعى الصائح للغنم، وبعدما سمع الأموات الصيحة؛ أي: النفخة الثانية في الصور { فإذا هم } قيام { ينظرون } الصافات: 19] حيارى سكارى تائهين والهين.
{ وقالوا } بعدما قاموا كذلك متحسرين متمنين الهلاك والويل: { يويلنا } وهلاكنا أدركنا { هذا } اليوم { يوم الدين } [الصافات: 20] والجزاء الذي وعدنا الله به على ألسنة رسله كتبه في النشأة الأولى، فنحن قد كنا ننكره ونكذبه ونستهزئ بمن جاء به وأخبر عنه عنادا ومكابرة، فالآن نبتلى به، يا حسرتنا على ما فرطنا في ترك الإيمان به وتصديق مخبره.
وبعدما قالوا ما قالوا، قيل لهم من قبل الحق على سبيل التقريع والتعبير إظهارا لكمال القدرة: { هذا يوم الفصل } والقضاء بالعدل { الذي كنتم به تكذبون (*) } أيها الضالون المنكرون المصرون على التعب والعناد.
[37.22-33]
ثم أمر سبحانه للملائكة المترصدين لأمره القائمين لحكمه: { احشروا } وسوقوا { الذين ظلموا } بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية، واجمعوهم للحشر { وأزواجهم } أي: أشباههم وأمثالهم وقرناءهم الذين اقتدوا واقتفوا أثرهم معهم { و } أحضروا له أيضا معهم { ما كانوا يعبدون } [الصافات: 22] { من دون الله } ظلما وعدوانا؛ أي: معبوداتهم الباطلة تتميما لإلزامهم { فاهدوهم } أي: قدموهم ودلوهم جميعا { إلى صراط الجحيم } [الصافات: 23].
وبالجملة: سوقوهم بأجمعهم عابدا ومعبودا إلى نيران الطرد وجحيم الخذلان { وقفوهم } واحبسوهم في الموقف ساعة { إنهم مسئولون } [الصافات: 24] عن أعمالهم التي جاءوا بها في نشأتهم الأولى محاسبون عليها.
وبعدما سئلوا وحوسبوا جوزوا بمقتضاها ثم سوقوا إلى النار، والسر في السؤال والله أعلم: تسجيل العذاب عليهم؛ لئلا ينسب سبحانه إلى الظلم والعوان ظاهرا، لئلا يجادلون معه سبحانه؛ إذ كان الإنسان أكثر شيء جدلا.
ثم قيل لهم من قبل الحق توبيخا وتقريعا: { ما لكم } أي: ما شأنكم، وأي شيء عرض عليكم أيها الضالون المضلون { لا تناصرون } [الصافات: 25] أي: لا ينصر بعضكم بعضا؛ أي: معبوداتكم لا تنصر بتخليص عابديهم مع أنكم اتخذتموهم أولياء واعتقدتموهم آلهة شفعاء، فلم لا ينصرونكم ولا ينقذونكم من عذابنا؟ ولم لا تمكرون ولا تحيلون أنواع الحيل والخداع؟ ولم لا تعتذرون بالأعذار الكاذبة؛ لإنقاذكم من عذابنا كما تزعمون في النشأة الأولى؟!.
وهم حينئذ من شدة الهول هائمون حائرون { بل هم اليوم مستسلمون } [الصافات: 26] منقادون خاضعون، ومن خوف اشتداد العذاب عليهم خائفون خاشعون { وأقبل بعضهم على بعض } حين يساقون نحو النار { يتسآءلون } [الصافات: 27] أي: يتخاصمون ويتلاومون.
{ قالوا } أي: الضعفاء السفلة منهم لرؤسائهم: { إنكم } أيها الضالون المضلون كنتم من شدة شغفكم، وحرصكم على تضليلنا، ومنعنا عن تصديق الرسل وقبول دعوتهم { كنتم تأتوننا عن اليمين } [الصافات: 28] أي: عن أقوى جوانبنا، أو عن أقوى الطرق الموصلة إلى مطلوبكم منا، وهو المال وحطام الدنيا، فتعطوننا منها، وتحرفوننا عن سبل السلامة وطرق الاستقامة.
{ قالوا } أي: الرؤساء في جواب الضعفاء: ما قولكم هذا إلا افتراء منكم إيانا ومراء، كيف نؤثر نحن في قلوبكم بحيلنا ومركنا، أو بعطائنا المال إليكم والإحسان عليكم لو كنتم مؤمنين، والإيمان من أفعال القلوب { بل لم تكونوا } في أنفسكم { مؤمنين } [الصافات: 29] مصدقين، فتميلون على ما كنا عليه طبعا وهوى، فتفترون اليوم علينا مراء.
{ و } إن ادعيتم إكراهنا إياكم حينئذ فقد كذبتم؛ إذ { ما كان لنا عليكم من سلطان } وغلبة إلى حد تخافون عن قهرنا وإهلاكنا ، لو لم تكفروا { بل كنتم } في أنفسكم كما كنا { قوما طاغين } [الصافات: 30] طغيتم وبغيتم على الله كما طغينا وبغينا.
وبالجملة: إنا وإياكم لفي ضلال مبين { فحق } أي: لزم وثبت وجرى { علينا } وعليكم { قول ربنآ } وحكمه المبرم المثبت في لوح قضائه وحضرة علمه، بأنا وأنتم من الأشقياء المردودين المستحقين لأنواع العذاب والنكال { إنا لذآئقون } [الصافات: 31] بأجمعنا اليوم ما كتب لنا ربنا من العذاب.
وبالجملة: سلمنا أنا أضللناكم عن الهدى بمكرنا وخداعنا { فأغويناكم } عن التوحيد والإيمان { إنا كنا } أيضا { غاوين } [الصافات: 32] أمثالكم، فلحق بنا ما لحق بكم، إلى متى تعييروننا وتخاصموننا؟!.
وبعدما تطاول وتمادى جدالهم وتخاصمهم، قيل لهم من قبل الحق: { فإنهم } بأجمعهم ضالا ومضلا، تابعا ومتبوعا { يومئذ في العذاب } المؤبد المخلد { مشتركون } [الصافات: 33] كما كانوا مشتركين في أسبابه وموجباته في النشأة الأولى.
[37.34-39]
{ إنا } من كمال قهرنا وجلالنا { كذلك } أي: مثل ذلك الفعل الهائل الذي هو سوقهم جميعا إلى النار { نفعل بالمجرمين } [الصافات: 34] المتخذين لنا شركاء من دوننا، الخارجين عن ربقة عبوديتنا بالالتفات والتوجه إلى غيرنا.
وكيف لا نفعل به مع المجرمين المشركين كذلك؟! { إنهم } من غاية عتوهم وعنادهم { كانوا إذا قيل لهم } تذكيرا وتنبيها: { لا إله } في الوجود يعتد به ويرجع إليه في الخطوب { إلا الله } الواحد الأحد الأحد الصمد الفرد، الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] هم حينئذ { يستكبرون } [الصافات: 35] ويعرضون عن كلمة التوحيد ومقتضاها، ويمتنعون عنها وعن معناها.
{ ويقولون } حنيئذ من غاية تعنتهم، وإصرارهم على الشرك على سبيل الإنكار والاستبعاد { أئنا } مع كمال عقلنا ورشدنا { لتاركوا آلهتنا } الذين كنا نحن وآباؤنا وأسلافنا لها عابدين كافين { لشاعر مجنون } [الصافا: 36] يتكلم بكلام المجانين، وقد جاء بأباطيل من تلقاء نفسه، مشتملة على أساطير الأولين؛ يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم لما تمادوا في طعنه وطغيانه صلى الله عليه وسلم، وبالغوا في قدح القرآن وإنكاره، ردع الله عليهم على أبلغ وجه وأوضح بيان، فقال سبحانه إضرابا عن قولهم: { بل جآء } محمد صلى الله عليه وسلم ملتبسا { بالحق } داعيا على الحق إلى الحق { و } علامة حقيته وصدقه أنه { صدق المرسلين } [الصافا: 37] المنزلين من عندنا على الحق اليقين.
{ إنكم } أيها الضالون المكذبون به صلى الله عليه وسلم ، وبكتابنا المنزل عليه من عندنا { لذآئقو العذاب الأليم } [الصافات: 38] المعد لكم وأمثالكم في قعر الجحيم.
{ و } اعلموا أنكم { ما تجزون إلا ما كنتم تعملون } [الصافات: 39] أي: مثلما عملتم وبمقتضاه، بلا زيادة عليه ونقصان، عدلا منا وقهرا على من انحف عن جادة توحيدنا.
[37.40-49]
{ إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 40] الموفقين على الإيمان والأعمال الصالحة، خالصا لوجه الله الكريم.
{ أولئك } السعداء المقبولون عند الله، المرضيون لديه سبحانه { لهم } من فضل الله إياهم { رزق معلوم } [الصافات: 41] معد، معين عنده سبحانه صوريا ومعنويا، عينيا وعلميا، كشفيا وشهوديا على ما علموا من صالحات الأعمال والأخلاق والحالات.
بل لهم تفضلا عليهم ومزيدا لتكريمهم { فواكه } كثيرة يتلذذون بها حسب ما يشتهون { و } بالجملة: { هم مكرمون } [الصافات: 42] عند ربهم، متنعمون { في جنات النعيم } [الصافات: 43] المشتملة على الرزق الصوري والمعنوي، متكئين { على سرر } رفيعة حسب رفعة درجاتهم في الإيقان والعرفان والكشف والعيان { متقابلين } [الصافات: 44] متواجهين مع قرنائهم.
{ يطاف عليهم } تشريفا لهم وتجديدا لذوقهم وحضورهم { بكأس } مملوء { من } ماء { معين } [الصافات: 45] هو خمر الجنة، سمي به؛ لأنه عان ونبع من بحر اللاهوت، وترشح من عين الحياة المنتشئة من حضرة الرحموت.
{ بيضآء } لا لون له يدركها النظر ويخبر عن كيفيتها الخبر { لذة للشاربين } [الصافات: 46] أي: لذيذة للعارفين المتعطشين بزلان التوحيد وبرد اليقين، لا يدرك كيفيتها إلا من يذوقها، ومن يذوقها لا يظمأ منها أبدا، ولا تخرج نشوتها عنه أمدا، بل يطلب دائما مزيدا.
إذ { لا فيها غول } أي: غائلة خمار وصداع يترتب عليها كما يترتب على خمور الدنيا { ولا هم عنها ينزفون } [الصافات: 47] يسكرون إلى حيث يذهب عقولهمه ويفسد أمزجتهم ويختل خواطرهم، وينسون مطالبهم ويضلون عن مقصدهم كما في خمر الدنيا، بل يزيد منها شوقهم وذوقهم ويتكامل طلبهم.
{ وعندهم } من الأرواح المزدوجة معهم، المقبولة عندهم { قاصرات الطرف } عليهم، ولا يلتفتن إلى غيرهم { عين } [الصافات : 48] أي: حسان العين والحواجب والأجفان والآماق.
{ كأنهن } في صفاء البدن وبياضه { بيض مكنون } [الصافات: 49] مصون محفوظ عن الغبار، مخلوط بأدنى صفرة كلون الفضة، وهو أحسن ألوان جسد الإنسان.
[37.50-61]
وبعدما يشربون من المعين وشملهم كيفيتها، أخذوا يتحدثون { فأقبل } والتفت { بعضهم على بعض يتسآءلون } [الصافات: 50] ويتقاولون مما جرى عليهم في النشأة الدنيا، وما ادخروا فيها للنشأة الأخرى من المعارف والحقائق والأعمال والأحوال والمواجيد، والأخلاق والعبر والأمثال.
{ قال قآئل منهم } على سبيل التذكر والتحاكي عن إنكار المنكرين يوم البعث والنشور { إني كان لي قرين } [الصافات: 51] في دار الدنيا، منكر لهذه النشأة، وأنا معتقد لها، منتظر لقيامها.
{ يقول } يوما على سبيل النصح والإكار والاستبعاد: { أءنك } أيها المجبول على الدراية والشعور { لمن المصدقين } [الصافات: 52] والمعتقدين الموقنين.
{ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أ } تعتقد أنت وتصدق { ءنا لمدينون } [الصافات: 53] أي: مجزيون بأعمالنا التي كنا نعمل، مسئولون عنها، محاسبون عليها؟!.
كلا وحاشا، ما هي إلى حياتنا في الدنيا وما نحن مبعوثين، ثم { قال } لقرنائه في الجنة، مستفهما عن حال قرينه المنكر للبعث: { هل أنتم مطلعون } [الصافات: 54] يعني: هل أنتم تريدون وتطلبون أيها المسرورون في الجنة أن تطلعوا عن ذلك القرين في النار، قالوا له: أنت أحق بإطلاع حاله؛ إذ هو مصاحبك وقرينك.
{ فاطلع } بعد نظر من الكوى المفتوحة في الجنة نحو النار { فرآه } أي: قرينه المنكر { في سوآء الجحيم } [الصافات: 55] أي: وسطه معذبا بأنواع العذاب.
{ قال } له بعد ما رآه في النار مقسم على سبيل التأكيد والمبالغة: { تالله إن كدت لتردين } [الصافات: 56] يعني: والله إنك أيها الجاهل المفرد، قد قاربت من إهلاكي بإغرائك وإغوائك ونصحك إلي، وتذكيرك على ما يدل على إنكار البعث واستدلالك على استحالته.
{ ولولا نعمة ربي } وتوفيقه إياي بالعصمة والثبات على عزيمة الإيمان والتوحيد { لكنت } مثلك { من المحضرين } [الصافات: 57] معك في وسط الجحيم؛ يعني أنا أيضا من جملة أهل النار مثلك.
ثم أخذ يباهي على قرينه بالنعيم المقيم واللذة المستمرة، بلا تريان موت وعذاب، فقال مستفهما: { أ } تعلم أنا في الجنة مخلدون منعمون { فما نحن بميتين } [الصافات: 58] أي: مائتين متحولين عنها، بل لا موت لنا { إلا موتتنا الأولى } التي متنا عن الدنيا { وما نحن بمعذبين } [الصافات: 59] أيضا أمثالكم.
{ إن هذا } الخلود والتنعم والسرور بلا طريان ضد عليه { لهو الفوز العظيم } [الصافات: 60] والكرم الجسيم من الله العليم الحكيم إيانا.
ثم قيل من قبل الحق؛ ترغيبا للمؤمنين على الطاعات وحثا لهم إلى الإيتان بالأعمال الصالحات، وتطييبا لقلوبهم بترتب أمثال هذه الحسنات على أعمالهم وأخلاقهم ومواجيدهم وحالاتهم، وبالجملة: { لمثل هذا } الفوز العظيم والنول الكريم { فليعمل العاملون } [الصافات: 61] في النشأة الأولى، لا للحظوظ الفانية واللذات الزائلة الدنيوية، المقتضية لأنواع الآلام والحسرات.
[37.62-74]
ثم قال سبحانه: { أذلك } المذكور من الرزق المعلوم واللذة المسترة والنشر الدائم بلا صداع ولا خمار، والحياة الأبدية والمسرة السرمدية { خير نزلا } لأهل الجنة { أم شجرة الزقوم } [الصافات: 62] لأهل النار، هي ثمرة شجرة مرة كريهة الرائحة والطعم، يستكرهه طباع أهل النار، إلا أنهم يتناولون منها للضرورة.
ثم لما عبر سبحانه عن نزل أهل الجحيم بالزقوم، فسمعها كفار أهل مكة، قالوا: كيف يكون في النار شجرة، ومن شأنها إحراق ما يجاروها؟!.
فاستهزءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش: إن محمدا يخوفنا بالزقوم، والزقوم بلسان بربر: الربد والتمر، فأدخلهم أبو جهل في بيته، فقال يا جارية زقيمنا، فأتتهم بالزبد والتمر، فقال: تزمقوا، فهذا ما يوعدكم به محمد صلى الله عليه وسلم.
رد الله سبحانه قولهم واستهزاءهم بقوله: { إنا جعلناها } أي: الشجرة المذكورة { فتنة } وابتلاء { للظالمين } [الصافات: 63] وسببا لازدياد العذاب وتشديد النكال عليهم؛ إذ هم يتقاولون فيهم ويحملونها إلى لغة أخرى، ويتخذون لها محملا جيدا، ويستهزئون بسببها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيستحقون أسوأ العذاب والعقاب، ويطمعون منها حين دخولهم في النار.
{ إنها شجرة تخرج } وتنبت { في أصل الجحيم } [الصافات: 64] أي: منبتها في قعرها وأغصانها في دركاتها.
{ طلعها } أي: ثمرتها التي تطلع منها أو تحصل { كأنه رءوس الشياطين } [الصافات: 65] في القبح والهجنة، هذا من قبيل التشبيه المحسوس بالمتخيل، كتشيبه الطيور الحسنة بالملائكة؛ يعني: يستكره من رؤيتها الطباع استكراهها من رءوس المردة من الجن المصورة على أقبح الصور وأهولها.
{ فإنهم } أي: أولئك المنكرون المستهزئون، وجميع من في النار من الكافرون { لآكلون منها } إذ لا مأكول لهم فيها سواها { فمالئون منها البطون } [الصافات: 66] أي: يملئون بطونهم منها؛ لشدة الجوع، أو يجبرون لأكلها؛ زجرا عليهم وتشديدا لعذابهم؛ إذ هي أحر من النار وأبرد من الزمهرير.
{ ثم إن لهم } بعد ما ملئوا بطونهم منها مع كمال حرارتها واشتداد العطش عليهم { عليها لشوبا من حميم } [الصافات: 67] أي: لخلطا ومزاجا من ماء حار في غاية الحرارة بعد أن يخرجهم الخزنة من الجحيم، ويوردهم إليها ورود البهائم في الماء، يشربون منها فيقطع أمعاءهم.
{ ثم إن مرجعهم } بعد ما أصدرهم، فأخرجهم الخرنة من الماء { لإلى الجحيم } [الصافات: 68] ألبتة؛ إذ لا مرجع لهم سواها، وإنما ابتلوا من العذاب المؤبد والعقاب المخلد.
{ إنهم ألفوا } أي: صادفوا ووجدوا { آبآءهم ضآلين } [الصافات: 69] منحرفين عن سبيل السلامة وجادة الاستقامة التي هي التوحيد والإسلام.
{ فهم } أي: هؤلاء الأخلاف بعدما وجدوا أسلافهم كذلك { على آثارهم يهرعون } [الصافات: 70] ويسرعون على الفور، ويعملون مثل عملهم؛ تقليدا لهم بلا تدبر وتأمل.
{ ولقد ضل قبلهم } أي: قبل قومك يا أكمل الرسل { أكثر الأولين } [الصافات: 71] من الأمم السالفة.
{ ولقد أرسلنا فيهم } أي: في الأولين الماضين { منذرين } [الصافات: 72] مثل ما أرسلناك إليهم بالإنذارات البليغة، فلم يفدهم إنذار أولئك المرسلين كما لم يفد إنذارك إلى هؤلاء المسرفين، فأخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة.
{ فانظر } أيها المعتبر الخبير { كيف كان عاقبة المنذرين } [الصافات: 73] بعدما لم ينذروا بالإنذارات البليغة الواصلة إليهم من قبل الرسل، ولم يتنبهوا منها إلى الطريق المستبين، انقلبوا ضالين خاسرين صاغرين.
{ إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 74] الذين تنبهوا منها إلى الصراط المستقيم، بل تفطنوا إلى الحق اليقين، فانصرفوا عن العذاب الأليم إلى النعيم المقيم؛ لذلك انقلبوا بنعمة من الله وفضل عظيم.
[37.75-82]
ثم أخذ سبحانه في تعداد أهل الضلال الجاحدين على الرسل المنذرين بعدما أجمل فقال: { ولقد نادانا نوح } حين أردنا إهلاك قومه بالطوفان نداء مؤمل ضريع لاستخلاصه واستخلاص من آمن معه من قومه، فأجبناه { فلنعم المجيبون } [الصافات: 75] نحن لأوليائنا المخلصين.
{ و } لهذا { نجيناه وأهله } أي: من آمن معه { من الكرب العظيم } [الصافات: 76] أي: من الغم الذي لحقه دائما من أذى قومه وضربهم عليه، ومن أنواع زجرهم وشتمهم، أو من كرب الطوفان.
{ وجعلنا ذريته } أي: من تناسل منه ومن أبنائه { هم الباقين } [الصافات: 77] إلى قيام الساعة.
روي أنه مات من بعدما نزل من السفينة من كان معه من المؤمنين، ولم يبق إلا هو وبنوه وأزواجهم، فتناسلوا إلى انقراض الدنيا، كما قال سبحانه { وتركنا عليه } أي: أبقينا عليه ذكرا جميلا، وثناء جزيلا { في الآخرين } [الصافات: 78] أي: في الأمم المتخلفة منهم، يذكرونه بالخير، ويقولون تكريما له وترحيبا: { سلام } أي: تسليم وتكريم من الله ومن خواص عباده { على نوح في العالمين } [الصافات: 79] أي: في النشأة الأولى والأخرى.
{ إنا } بمقتضى لطفنا وجدونا لخلص عبادنا { كذلك } أي: مثل ما جزينا نوحا على إحسانه وإخلاصه { نجزي } جميع { المحسنين } [الصافات: 80] من عبادنا، لو أنابوا إلينا، وتوجهوا نحونا على وجه الإخلاص.
وكيف لا نبقي له ذكرا جميلا ولا نجزيه جزاء جزيلا؟! { إنه من عبادنا المؤمنين } [الصافات: 81] الموقنين بتوحيدنا، المتوكلين علينا، المفوضين أمورهم إلينا، المخلصين فيما جاءوا به من الأعمال والأفعال.
{ ثم } إنا بمقتضى لطفنا فعلنا معه ما فعلنا من الإنعام والإحسان، ونجيناه من كرب الطوفان { أغرقنا الآخرين } [الصافات: 82] أي: كفار قومه بها، واستأصلناهم إلى حيث لم يبق منهم أحد على وجه الأرض، سوى أصحاب السفينة وأشياعه المؤمنين معه، ومن تشعب وتناسل منهم.
[37.83-98]
{ وإن من شيعته } أي: من جملة من شايعه في التوحيد والإيمان، بل من أجله من تابعه على أصول الدين ومعالم اليقين { لإبراهيم } [الصافات: 83] المتصف بكمال العلم والحلم والمعرفة واليقين وإن طال الزمان بينهما.
قيل: كان بين نوح وإبراهيم - عليهم السلام - ألفان وستمائة وأربعونة سنة.
اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ جآء ربه بقلب سليم } [الصافات: 84] سالم عن جميع الميول الباطلة والآراء الفاسدة.
{ إذ قال } جدك إبراهيم الخليل، صلوات الرحمن عليه وسلامه { لأبيه وقومه } حين انكشف بالتوحيد الإلهي، وتمكن من مرتبة الشهود العيني والحقي، مستفهما على سبيل الإنكار والتوبيخ؛ غيره على الله وإظهارا لمقتضى الخلة: { ماذا تعبدون } [الصافات: 85] أي: لأي شيء تعبدون هذه الأصنام الباطلة العاطلة عن لوازم الألوهية والربوبية، أيها الجاهلون بتوحيد الله وبكمال أوصافه وأسمائه.
{ أإفكا آلهة دون الله تريدون } [الصافات: 86] أي: أتريدون أيها المعاندون أن تثبتوا آلهة متعددة سوى الله الواحد الأحد، الصمد القيوم المطلق، المستحق للألوهية والربوبية استحقاقا ذاتيا ووصفيا على سبيل الإفك والمراء والكذب والافتراء؟!.
{ فما ظنكم } أيها المجاهلون المكابرون { برب العالمين } [الصافات: 87] أتظنون أن له شريكا في الوجود، أو له نظيرا في الشهود وسواه موجود؟! والله ما ظنكم هذا إلا خيال باطل وزيغ زائل.
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا، انصرفوا عنه وأنكروا عليه وعلى ربه، فأراد عليه السلام أن يكايدهم في أصنامهم، ويخادع في كسرها، وقد قرب حيئنذ يوم عيدهم.
وكان من عادتهم الإتيان بالقرابين والهدايا عند أصنامهم ومعابدهم، فيتقربون بها، ويتخذون منها أنواعا من الأطعمة، فيطبخونها عنده في ليلة العيد، ثم يخرجون صبح العيد إلى الصحراء، فيتعيدون فيها بأجمعهم، ثم ينصرفون منها، فينزلون في معابدهم وعند أصنامهم، ويمهدون موائد كثيرة من الأطعمة المهيأة، فيأكلون منها ويتبركون بها، وكان عادتهم كذلك.
ثم لما اجتمعوا على المعبد عند الأصنام، قالوا له: أخرج أنت أيضا معنا غدا يا إبراهيم إلى الصحراء، نعيد فيها ونرجع { فنظر } إبراهيم عليه السلام حينئذ { نظرة في } دفتر { النجوم } [الصافات: 88] وهم كانوا يعملون بالأحكام النجومية معتقدون لها، وهو عليه السلام مشهور بضبطها.
{ فقال إني } اليوم { سقيم } [الصافات: 89] الآن، أو سأسقهم عن قريب بالطاعون، وهم قد يفرون من المطعون فرارهم من الأسد.
{ فتولوا عنه } وانصرفوا من عنده بعدما سمعوا منه القول الموحش { مدبرين } [الصافات: 90] رهبا ورغبا، فخرجوا من الغداة إلى الصحراء، ولم يخرج عليه السلام معهم.
ثم لما بقي الأصنام خاليا عن الخدام، وقد طبخ عندها أنواع الطعام { فراغ } أي: مال وانصرف عليه السلام { إلى آلهتهم فقال } أولا على سيل التهكم والاستهزاء: { ألا تأكلون } [الصافات: 91] أيها المعبودون من هذه الأطعمة المطبوخة المهيأة.
ثم قال: { ما لكم لا تنطقون } [الصافات: 92] أي: ما عرض ولحق لكم، لا تتكلمون معي أيتها الآلهة المستحقون للعبادة والرجوع في المهمات؟!.
وبعدما استهزأ مع هؤلاء الأصنام الصم البكم الجامدين بما استهزأ { فراغ عليهم } أي: ضربهم { ضربا باليمين } [الصافات: 93] أي: بكمال القوة والغلظة، فكسرها تكسيرا، وفتت أجزاءها تفتيتا.
ثم لما أخبروا بانكسار أصنامهم وانفتاتها حين كانوا في الصحراء في معيدهم، ظنوا بأجمعهم، بل جزموا أنه ما فعل هذا بآلهتهم إلا إبراهيم { فأقبلوا إليه } عازمين جازمين على انتقامه ومقته { يزفون } [الصافات: 94] أي: يسرعون ويعدون ويتحيرون ويتبخترون.
ثم لما وصلوا إليه حصروا عن التكلم معه من غاية غيظهم ونهاية زفرتهم؛ لسبقهم عليه السلام بالتكلم حيث { قال } مقرعا عليهم: { أتعبدون } أيها الجاهلون الضالون { ما تنحتون } [الصافات: 95] وتصنعون بأيدكم، وتعتقدونه إلها خالقا موجدا، مظهرا لكم من كتم العدم، وتعبدونه ظلما وزورا، فمن أين يتأتى لهؤلاء الجمادات العاطلة لوازم الخلق والإيجاد والإظهار، أفلا تعقلون.
بل { والله } الواحد الأحد الصمد، المستقل بالألوهية والربوبية { خلقكم } بالإرادة والاختيار { وما تعملون } [الصافات: 96] أي: جميع أعمالكم وأفعالكم التي صدرت عنكم، ومن جملتها: صنعكم ونحتكم للأصنام والأوثان.
ومن هذا ظهر أن جميع أفعال العباد مثل ذواتهم مستندة إلى الله أولا وبالذات
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق: 37].
ثم لما سعموا منه عليه السلام ما سمعوا، وانصرفوا عن مقالته ومكالمته، وهموا العزم إلى قتله.
{ قالوا } أي: بعضهم حين كانوا متشاورين في كيفية قتله بعدما أقر رأيهم عليه: { ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم } [الصافات: 97] أي: في النار المسعرة؛ حتى تنتقموا عن آلهتكم، فبنوا حائطا من الحجر سمكه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون، وملؤوه من الحطب، وأوقدوا فيه نارا، فنفخوا فيها بالمنافخ حتى تسعرت، ثم طرحوه بالمنجنيق فيها.
بالجملة: { فأرادوا به } وقصدوا له { كيدا } لينتقموا عنه مستعلين عليه { فجعلناهم الأسفلين } [الصافات: 98] المقهورين، الخاسرين، الخائبين عما فعلوا معه عناية منا إياه وفضلا وامتنانا عليه، حيث جعلناها له بردا وسلاما وروحا وريحانا، فانقلبوا بعدما رأوا حاله في النار على هذا الوجه صاغرين محزونين، فجعلناهم الأسفلين.
[37.99-110]
وبعد ما خرج الخليل - صلوات الرحمن عليه وسلامه - مها اختار الجلاء والخروج من بينهم بوحي الله إياه وإلهامه { و } لهذا { قال } حين خروجه: { إني ذاهب إلى ربي } وإلى كنف حفظه وجواره وسعة رحمته { سيهدين } [الصافات: 99] بلطفه إلى منزل يمكنني التوجه فيه إليه ويطمئن فيه قلبي، فذهب إلى الشام بإلهام الله إياه، وتوطن في الأرض المقدسة.
وبعدما توطن فيها ناجى مع الله، فطلب منه سبحانه الولد المحيي لاسمه، فقال: { رب } يا من رباني على أنواع النعم والكرامات { هب لي } ولدا صالحا مرضيا لك مقبولا عندك، معدودا { من } عبادك { الصالحين } [الصافات: 100] الموفقين من عندك على الصلاح والفوز بالفلاح.
وبعدما تضرع نحونا راجيا من رحمتنا { فبشرناه بغلام } هو إسماعيل عليه السلام { حليم } [الصافات: 101] ذو حلم كامل، وتصير تام على متاعب العبودية وشدائد الاختيارات الإلهية.
ثم لما ولد له إسماعيل عليه السلام، ورباه إلى أن ترقى من الطفولية، وظهر منه الرشد الفطري والفطنة الجبلية، إلى أن بلغ سبع سنين أو ثلاث عشرة، هي أول الحلم وعنفوان الشباب.
وبالجملة: { فلما بلغ معه السعي } للحوائج والمهمات المتعلقة لأمور المعاش، وصار يذهب ويجيء مع أبيه إلى الاحتطاب وسائل الأشغال، وكان أبوه ينتصر به في الأمور ويستظهر، وكان مشفقا له، رحيما عليه بحيث لا يفارقه أصلا من كمال عطفه وتحننه.
ثم لما بلغ عليه السلام في عطف ولده وارتباط قلبه به مع أنه متمكن في مقام الخلة مع ربه، غار عليه سبحانه فاختبر خلته، حتى رأى في المنام بإلقاء الله في متخيلته أن الله يأمره بذبح ولده إظهارا لكمال خلته، واصطبار ولده على البلاء، وإظهار حمله عند المصيبة، فانتبه عن منامه هؤلا من الواقعة الهائلة، فخيلها من أضغاث الأحلام، فاستغفر ربه وتعوذ من الشيطان، ثم نام فرأى أيضا كذلك، ثم استيقظ كذلك خائفا مرعوبا، ثم استغفر ونام، فرأى ثالثا مثلما رأى، فتفطن بنور النبوة أنه من الاختبارات الإلهية.
فأخذ بامتثال المأمور خائفا من غيرة الله وكمال حميته وجلاله ، كيف يطيق أحد أن يتخذ سواه محبوبا، سيما من اختاار الله لخلته واصطفاه لمحبته، فأمر ابنه بأن يأخذ الحبل والسكين؛ ليذهب إلى شعب الجبل للاحتطاب كما هو عادتاهما، فذهبا وقد اشتغل في صدره نار المحبة والخلة والإلهية، فشرع يظهر رؤياه لابنه ليختبره كيف هو.
{ قال يبني } ناداه وصغره تحننا وعطفا: { إني أرى في المنام أني أذبحك } بأمر الله إياي، تقربا مني إليه سبحانه، وهديا نحوه { فانظر } يا بني وتأمل { ماذا ترى } أي: أي أمر تفكر وتفتي في هذه الواقعة الهائلة أتصبر على بلاء الله أم لا؟.
وبعدما سمع ابنه ما سمع من الرؤيا { قال } معتصما بحبل التوفيق، راضيا بما جرى عليه من قضاء الله مسلما نحوه، مستقبلا مناديا لأبيه لينبئ عن كمال إطاعته له وانقياده لحكم ربه: { يأبت افعل ما تؤمر } من قبل الحق، فاذبحني في سبيل الله تقربا منك نحوه، وطلبا لمرضاته، ولا تلفت إلى لوازم الأبوة والنبوة، وكن أنت صابرا لبلاء الله بذبح ولدك بيدك بإذنه وفي سبيله { ستجدني } أيضا { إن شآء الله } وتعلق إرادته بأن اصبر على بلائه الذي هو قتل أبي إياي بيده { من الصابرين } [الصافات: 102] المتكنين على تحمل الشدائد والمصيبات الآتية من قبل الحق.
وبعدما تشاورا وتقاولا، فوضا الأمر إليه سبحانه، وانقادا لحكمه، ورضيا بقضائه طوعا ورغبة { فلما أسلما } أي: سلما واستسلما؛ أي: كل منهما أمره إلى ربه ووصلا الموقف والمنجر، توجه الخليل نحو الحق ناويا التقرب إليه سبحانه { وتله للجبين } [الصافات: 103] أي: صرع ابنه على شقه الأيمن امتثالا لأمر ربه مثل صرع البهائم حال الذبح، بعدما شد بالحبل يده ورجله، فأخذ الشفرة فأمرها على حلقه، فلم تمض ولم تعمل، فأخذ حجرا المحد فأحدها، ثم أمرها، ولم تمض أيضا، وهكذا فعل مرارا لم تعمل شيئا فتحير في أمره، قال له ابنه حنيئذ: يا أبت أكبني على وجهي فاذبحني من القفا؛ لئلا يمنعك من ذبحي رؤيتك وجهي ففعل كذلك فمل تمض.
{ و } بعدما جربناهما ووجدناهما على كمال التصبر والرضا بما جرى عليهما من القضاء { ناديناه } من مقام عظيم جودنا إياه ولطفنا { أن } أي: بأن قلنا له مناديا: { يإبراهيم } [الصافات: 104] المختص بخلتنا الراضي بمصيبتنا، قد صدقت الرؤيا وامتثلت بالمأمور، ورضيت بذبح ولدك لرضانا، واختبرناك به فوجدناك متمكنا على مرتبة الخلة والتوحيد، فقد أتيت مخلصا ما طلبنا منك، كان لك من الفضل والعطاء منا جزاء لفعلك ما لم يكن لأحد من بني نوعك؛ لإخلاصك في أمرك وصحة عزيمتك وخلوص طويتك في نيتك.
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير لعباده بمقتضى عظيم جودنا: { قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك } أي: مثل ما جزينا إبراهيم ونجيناه من الكرب العظيم { نجزي } جميع { المحسنين } [الصافات: 105] المخلصين في حسناتهم ونياتهم، في جميع أعمالهم وحالاتهم.
ثم قال سبحانه: { إن هذا } المأمور لإبراهيم الأواه الحليم من ذبح ولده في طريق الخلة مع ربه { لهو البلاء المبين } [الصافات: 106] الظاهر صعوبته وشدته على عموم المكلفين.
وبعدما عزم عليه بالعزيمة الخالصة الصحيحة، وأقدم على امتثاله عن محض الاعتقاد وصميم الفؤاد إلى حيث لو لم نمنع مضاء شفرته، مع أنه بالغ في إمرارها بقوة تامة، وأحدها مرارا لذبحه ألبتة، فمنعناها بعدما ظهر إخلاصه لدينا.
{ و } بعدما منعنا مضاء شفرته { فديناه } أي: الذبح الذي هو ابنه { بذبح } أي: بما يذبح فيه فيتم تقربه إلينا، وينال من لدنا ما نعد له من الثواب والجزاء { عظيم } [الصافات: 107] أي: عظيم القدر؛ إذ ما يفديه الحق لنبيه أعظم مما يفديه العباد.
قيل: لما سمع إبراهيم نداء الهاتف، التفت فإذا هو جبريل عليه السلام، ومعه كبش أملح أقرن، فقال له: هذا فداء ابنك بعثه الله إليك، فاذبحه دونه، وهذا قد رعى في الجنة أربعين خريفا لتلك المصلحة، فأخذ إبراهيم الكبش، فأتى به المنحر من منى فذبحه عنده، وفاز بمبتغاه من الله ما فاز عاجلا وآجلا، مما لا مجال للعبارة والإشارة إليه سبيلا.
{ و } من جملة ما جزينا إبراهيم عاجلا: إن من كمال خلتنا معه { تركنا عليه } وأبقينا له في الآخرين؛ أي: في الأمم الذين يلون ويأتون بعده إلى قيام الساعة ثناء حسنا وذكرا جميلا، حيث يقولون دائما { في الآخرين * سلام } [الصافات: 108-109] وترحيب منا وبركات من الله، ورحمة نازلة دائما مستمرة { على إبراهيم } [الصافات: 109].
ثم قال سبحانه حثا للمؤمنين: { كذلك } أي: مثل ما جزينا إبراهيم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة { نجزي } عموم { المحسنين } [الصافات: 110] إن أحسنوا وأخلصوا في نياتهم وحسناتهم.
[37.111-122]
وكيف لا نجزي خليلنا؟! { إنه من } خلص { عبادنا المؤمنين } [الصافات: 111] الموحدين الموقنين بذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وأسمائنا، واستقلالنا في ملكنا وملكوتنا.
وبعدما ابتليناه أولا بذبح الولد، وفديناه عن ولده غناية منا إياه وإلى ولده { وبشرناه } بولد آخر مسمى { بإسحاق } وجعلناه { نبيا } من الأنبياء، معدودا { من } زمرة { الصالحين } [الصافات: 112] لمرتبة الكشف واليقين.
{ و } بالجملة: { باركنا عليه } أي: كثرنا الخير والبركة على إبراهيم { و } كذا { على } ابنه { إسحاق } كثرنا نسلهما إلى أن جعلنا { ومن ذريتهما محسن } في الأعمال والأخلاق والأحوال، ذو نفع كثير على عباد الله وفقراء سبيله { وظالم لنفسه } أي: تارك لحظوظ نفسه من الدنيا { مبين } [الصافات: 113] ظاهر في الترك، مبالغ فيه إلى حيث يمنع عنها ضروريتها أيضا، منجذبا نحو عالم اللاهوت، منخلعا عن لوازم الناسوت، مائلا نحو الحق بجميع قواه وجوارحه، طالبا الفناء فيه والبقاء ببقائه، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم والوصي - كرم الله وجهه - وابناه وأولادهما بطنا بعد بطن سلام الله عليهم أجمعين؛ حيث لا يلتفتون إلى حطام الدنيا ومزخرفاتها، إلا مقدار سد جوعة ولبس خرقة خشن.
{ و } من ذريتهما المكرمين المؤيدين من عندنا: موسى وهارون { لقد مننا } أيضا { على موسى وهارون } [الصافات: 114] أخيه منة عظيمةز
{ و } ذلك أنا { نجيناهما وقومهما } أي: من آمن لهما من بني إسرائيل { من الكرب العظيم } [الصافات: 115] الذي هو غلبة فرعون وغرق اليم.
{ ونصرناهم } أي: هما وقومهما على فرعون وملئه { فكانوا هم الغلبين } [الصافات: 116] عليهم بعدما صاروا مغلوبين منهم.
{ و } بعدما صيرناهم غالبين { آتيناهما } أي: موسى وهارون { الكتاب المستبين } [الصافات: 117] وهو: التوراة الذي هو أبين الكتب وأوضحها في ضبط الأحكام الإلهية المتعلقة بنظام الظاهر، { وهديناهما } أيضا { الصراط المستقيم } [الصافات: 118] الموصل إلى الحق اليقين في مراتب التوحيد.
{ و } من كمال تكرمنا إياهما { تركنا عليهما } أي: أبقينا ذكرهما بالخير { في الآخرين } [الصافات: 119] اللاحقين لهما من الأمم؛ حيث يقولون في حقهما عند ذكرهما: { سلام } من الله وتحية منا { على موسى وهارون } [الصافات: 120] وذلك من جملة امتنانا عليهما وتكريمنا إياهما إنا من كمال جودنا ولطفنا { إنا كذلك نجزي المحسنين } [الصافات: 121] المحسنين في حسناتهم وجميع حالاتهم.
وكيف لا نجزيهما خير الجزاء وأحسنه؟! { إنهما من عبادنا المؤمنين } [الصافات: 122] الموقنين بتوحيدنا، المصدقين لاستقلالنا في ملكنا وملكوتنا.
[37.123-132]
{ وإن إلياس } ابن ياسين من أولاد هارون أخي موسى { لمن المرسلين } [الصافات: 123] من عندنان المؤيدين بوحينا وإلهامنا.
اذكر يا أكمل الرسل { إذ قال لقومه } حين انحرفوا عن سبيل السلامة وطرق الاستقامة بالظلم على عباد الله والخروج عن حدوده { ألا تتقون } [الصافات: 124] وتحذرون عن بطش اله أيها المفسدون المفرطون في الإشراك بالله والدعوة إلى غير الله.
{ أتدعون } أيها الجاهلون { بعلا } أي: صنما مسمى به في المهمات والملمات { وتذرون أحسن الخالقين } [الصافات: 125] أي: تتركون الدعوة والرجوع إلى الحق الحقيق بالإطاعة والانقياد، المستحق للعبودية والرجوع إليه في الخطوب.
{ الله } بالرفع على الاستئناف، والنصب على البدل، وكذلك { ربكم ورب آبآئكم الأولين } [الصافات: 126] برفع البائين ونصبهما على الخبر والبدل على القراءتين؛ أي: مربيكم ومظهركم في كتم العدم وأسلافكم أيضا، فتعدلون عن عبادته، وتعبدون ما لا ينفعكم ولا يضرطم ظلما وزورا.
وبعدما سمعوا منه دعوته إلى التوحيد، ورفض عبادة آلهتهم، وقدحه إياها { فكذبوه } تكذيبا، ولم يلتفتوا إلى قوله ودعوته بل طردوه، وعزموا أن يقتلوه { فإنهم } بشؤم تكذيبهم رسول الله، وإبائهم عن دعوته إلى التوحيد، واتخاذهم الأصنام والأوثان آلهة دون الله، شركاء معه في استحقاق العبادة والرجوع إليه في الوقائع { لمحضرون } [الصافات: 127] في العذاب الأليم، مؤبدون في نار الجحيم أبد الآبدين.
{ إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 128] منهم، المبادرين إلى الإيمان بعدما سمعوا دعوة الرسل بلا ميل منهم إلى الإنكار والتكذيب.
{ وتركنا عليه } أي: على إلياس أيضا ذكرا جميلا { في الآخرين } [الصافات: 129] حيث يقولون حين ثنائهم عليه وتكريمهم أياه: { سلام على إل ياسين } [الصافات: 130] وهو لغة في إلياس؛ كجبريل في جبرائيل، وسينين في سيناء.
{ إنا كذلك نجزي المحسنين } [الصافات: 131] المستحفظين عل أحكامنا ومقتضيات أوامرنا ونواهينا.
وكيف لا نجزيه أحسن الجزاء؟! { إنه من } جملة { عبادنا المؤمنين } [الصافات: 132] المتكنين في مقر التوحيد واليقين، الفائزين بمقام الكشف والشهود.
[37.133-144]
{ وإن لوطا } أيضا { لمن } جملة { المرسلين } [الصافات: 133] الفائزين بمرتبة الحق اليقين.
اذكر يا أكمل الرسل للمعتبرين المؤمنين وقت { إذ نجيناه } أي: لوطا { وأهله } أي: أولاده وأهل بيته { أجمعين * إلا عجوزا } [الصافات: 134-135] وهي: امرأته بقيت { في الغابرين } [الصافات: 135] الهالكين بالعذاب المنزل عليهم بشؤم فعلتهم الشنيعة، المتناهية في القباحة والشناعة.
{ ثم } بعدما نجيناه وأهله { دمرنا الآخرين } [الصافات: 136] من قومه وأهلكناهم أجمعين.
{ وإنكم } يا أهل مكة { لتمرون عليهم } أي: على أطلاعهم ومنازلهم المنقلبة بشؤم فعلتهم وقت ترحالكم إلى الشام، وهي على متن الدرب { مصبحين } [الصافات: 137] إن كنتم سائرين في أسفاركم في الليالي، { وباليل } إن كنتم سائرين في أيامكم، يعني: إن سرتم ليلا تصبحون عندها، وإن سرتم نهارا تمسون دونها.
وبالجملة: هي على طريقكم أيها المجبولون على العبرة والعظة { أفلا تعقلون } [الصافات: 138] وتتفكرون فيما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وإنكارهم على رسل الله؛ ليعتبروا منهم ومن أطلالهم ورسومهم المندرسة المنكوسة، ولا تفعلوا مثل أفعالهم.
{ وإن يونس } ابن متى أيضا { لمن المرسلين } [الصافات: 139] من عندنا، المتحملين لأعباء رسالتنا.
اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ أبق } وهرب من نزول العذاب الموعود على قومه حين دعاهم إلى الإيمان والتوبة، فلم يجيبوا له ولم يقبلوا منه دعوته، فدعا عليهم، وبعدما قرب حلول العذاب عليهم. خرج من بينهم هاربا، حتى لا يحلقه ما يحلقهم، فلما وصل البحر ركب { إلى الفلك المشحون } [الصافات: 140] المملوء من الناس والأحمال والأثقال، فاحتسبت السفينة على أهلها فاضطربوا، فقال البحارون: إن في السفينة عبدا آبقا، فبادروا إلى القرعة ما على ما هو عادتهم في أمثاله، وبعد خروج القرعة باسم واحد من أهلها، طرحوه في الماء فأخذت في الجري والذهاب.
{ فساهم } أي: قارع حينئذ أهلها، فخرجت القرعة باسم يونس { فكان من المدحضين } [الصافات: 141] المغلوبين المغرقين بمقتضى القرعة.
وبعدما خرجت القرعة باسمه ، تفطن أنه من الاختبارات الإلهية، فقال: أنا العبد الآبق، فرمى نفسه في الماء خوفا من غضب الله وكمال غيرته وحميته، وتوطينا على مقتضى قضاء الله، مفوضا أمره إليه سبحانه.
وبعدما وصل إلى جوف الماء { فالتقمه الحوت } بإلهام الله إياه على الفور، وابتلعه { وهو مليم } [الصافات: 142] نفسه، نادم على فعله الذي فعله بلا نزول وحي من ربه؛ لذلك أخذ حنيئذ سبح له سبحانه عام لا يليق بشأنه.
وبالجملة: { فلولا أنه كان من المسبحين } [الصافات: 143] المنكشفين بوحدة الحق، وتنزهه عن سمات الكثرة مطلقا.
{ للبث } واستقر { في بطنه } أي: بطن الحوت { إلى يوم يبعثون } [الصافات: 144] وصار له بطنه كالقبر لسائر الأموات، وبالجملة: لا ينجو منه أبدا.
[37.145-156]
ولما كان من أهل التسبيح والتقديس، المنكشفين بوحدتنا واستقلالنا في شئوننا وتطوراتنا { فنبذناه } أي: طرحنا يونس { بالعرآء } أي: الساحل الخالي عن شيء يغطيه ويظله من شجرة وغيرها عناية منا إياه ونجاة له.
وذلك بأن ألهمنا الحوت أولا حين سقوطه في البحر بالتقامه، فالتقمه بلا لحوق ضر له من الماء، ثم ألهمناه أن يخرج رأسه من الماء حتى يتنفس في بطنه، إلى أن بلغ الساحل.
قيل: كان في بطنه يوما أو بعض يوم، وقيل: ثلاثة أيام، أوسبعة وعشرين، أو أربعين.
فلما بلغ الساحل أخرجه من بطنه، ولفظه الموج إلى الساحل العاري عن الظل، والشمس في غاية الحرارة { وهو } حينئذ { سقيم } [الصافات: 145] ضعيف، صار بدنه كبدن الطفل حين ولد.
{ و } بعدما لم يكن له متعهد، وليس هناك مظلة ولا شيء يحفظه من الذباب { أنبتنا عليه } في الحال من كمال رحمتنا وعطفنا معه { شجرة من يقطين } [الصافات: 146] وهي: شجرة تنبسط على وجه الأرض، ولها أوراق عظام بلا ساق تقوم عليه - قيل: هي الدباء - فغطيناه بأورقها وربيناه بظلها؛ إذ ظلها من أكرم الأظلال وأحسنها هواء، وألهمنا أيضا إلى وعلة - وهي المعز الوحشي - حتى جاءت عنده صباحا ومساء، وهو شرب لبنها، إلى أن قوي وقوم مزاجه على الوجه الذي كان.
{ و } بعدما ربيناه كذلك { أرسلناه } من مرة أخرى { إلى مئة ألف أو يزيدون } [الصافات: 147] أي: الناظرون في بادئ النظر؛ يعني: حكم الناظر عليهم على التخمين والظن، فيقول: إنهم مائة ألف أو أكثر، وهؤلاء هم الذين قد هرب منهم أولا، وهم أصحاب " نينوى " هي قرية من قرى الموصل.
{ فآمنوا } وقبلوا منه دعوته بعدما أرسل إليهم ثانيا { فمتعناهم } مؤمنين مصدقين موحدين { إلى حين } [الصافات: 148] أي: إلى انقضاء آجالهم.
ثم لما أثبت مشركو مكة - خذلهم الله - لله المنزه عن الأنداد والأشباه ولدا، بل أوضع الأولاد وأدناها، وهي الأنثى، ونسبوا الملائكة الذين هم من أشرف المخلوقات المنزهون عن لوازم الأجسام مطلقا إلى الأنوثة، التي هي بمراحل عنها، حيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، ولم يكن له ابن، وتمادوا على هذا إلى حيث اتخذوها مذهبا، وبالغوا في ترويجه.
رد الله عليهم أبلغ وجه وآكده، حيث أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالاستفتاء والاستفسار عن قولهم هذا، ونسبتهم هذه فقال: { فاستفتهم } ورسلهم؛ أي: كفار مكة يا أكمل الرسل، واستخبرهم على سبيل التوبيخ والتقريع { ألربك } أي: أيثبتون لربك الواحد الأحد الصمد، الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] { البنات } أي: أوضع الاولاد وأرادها { ولهم } أي: لأنفسهم { البنون } [الصافات: 149] تعالى سبحانه عما يقولون.
{ أم خلقنا الملائكة } أي: أتظنون وتعتقدون أنا خلقنا الملائكة الذين هم من سدنة سدتنا السنية، وخدمة عتبتنا العلية { إناثا وهم } وحين خلقنا إياهم { شاهدون } [الصافات: 150] حاضرون، يشهدون أنوثتهم ويبصرونها، مع أنها لا مجال للعقل إلى الاطلاع بأنوثتهم، ولم ينقل منا أحد من الرسل والأنبياء، مع أنه لا سبيل للحواس الأخر إلى دركها سوى البصر، ومن أين يتأتى لهم الحضور حينئذ؟!.
ثم قال سبحانه على وجه التنبيه والاستبعاد: { ألا } أي: تبهوا أيها المؤمنون الموقنون بوحدة الله، ووجوب وجوده، وتقدسه عن لوازم الإمكان مطلقا { إنهم } أي: أولئك الضالون المغمورون في الجهل والطغيان { من إفكهم ليقولون * ولد الله } [الصافات: 151-152] الواحد الأحد المستغني لذاته عن الأهل والولد، قولا باطلا ظلما وزروا { وإنهم لكاذبون } [الصافات: 152] فيما يقولون، مقصورون على الكذب المحض بلا مستند عقلي أو نقلي.
{ أصطفى البنات } أي: أتعتقدون أيها الجاهلون بقدر الله ووحدة ذاته المستغنية عنه ملطق المظاهر والمحال، فيكف عن لوازم الحدوث والإمكان الذي هو أمارات الاستكمال والنقصان، إنه سبحانه مع كمال تعاليه وتقدسه، اصطفى واختار لنفسه البنات المسترذلة الدنية { على البنين } [الصافات: 153] الذين هم أشرف بالنسبة إليهن، وأكمل خلقا وخلقا، وكمالا وعلما، ورشدا ويقينا؟!.
{ ما لكم } وما شأنكم ولحق بكم أيها المفسدون المفرطون { كيف تحكمون } [الصافات: 154] على الله ما لا يرتضيه العقل، ولا يقتضيه النقل؟!.
{ أفلا تذكرون } [الصافات: 155] ولا تتذكرون أن ذاته سبحانه منزه عن أشرف الأولاد فكيف عن أردئها؟!.
{ أم لكم سلطان } حجة وبرهان نقلي { مبين } [الصافات: 156] واضح في الدلالة على مدعاكم هذا؟!.
[37.157-170]
{ فأتوا بكتابكم } النازل عليكم من قبل الحق المثبت لدعواكم { إن كنتم صادقين } [الصافات: 157].
{ و } من إفراطهم في حق الله، وجعلهم بكمال ذاته وصفاته وأسمائه { جعلوا } وأثبتوا { بينه } سبحانه { وبين الجنة } الذين هم مخلوقون من النار { نسبا } أي: نسبة بالمصاهرة، ويزعمون - العياذ بالله - أنه سبحانه تزوج منهم امرأة، فحصلت منها الملائكة { و } والله { لقد علمت الجنة إنهم } أي: أولئك المفترين على الله بأمثال هذه المفتريات البعيدة عن جنابه مراء { لمحضرون } [الصافات: 158] في العذاب المخلد، والنكال المؤبد بقولهم هذا، ونسبتهم هذه.
{ سبحان الله } وتقدس ذاته { عما يصفون } [الصافات: 159] به هؤلاء المعاندون الجاهلون.
{ إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 160] منهم، وهم الذين ينكشفون بقدر الله، ووحدة ذاته، واستقلاله في وجوب الوجود ولوازم الألوهية والربوبية، بلا شائبة شركة وتوهم مظاهرة ولوث إمكان وشين نقصان.
وبعدما ثبت تنزهه سبحانه من مضمون ما تنسبون بذاته أيها المفترون والمفرطون { فإنكم } أيها المعزولون عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي { و } أيضا { ما تعبدون } [الصافات: 161] من دون الله من الأصنام والأوثان.
{ مآ أنتم } وآلهتكم { عليه } أي: على الله { بفاتنين } [الصافات: 162] أي: مفسدين معرضين، صارفين عموم الناس عن عبادته وإطاعته سبحانه بإغوائكم وإغرائكم ضعفة الأنام، وتغريركم إياهم بعبادة الأصنام.
{ إلا من هو صال الجحيم } [الصافات: 163] أي: الذين حق عليهم القول وجرى عليهم حكمه سبحانه، ومضى قضاؤه بأنهم من أصحاب النار وأهل الجحيم، لا بد لهم أن يصلوها ويدخلوها بلا تردد وتخلف؛ يعني: ما يفيد إضلالكم وإغراؤكم إلا لهؤلاء المحكومين بالنار في أزل الآزال دون المجبولين على فطرة الإسلام والتوحيد.
ثم لما اتخذ بعض المشركين الملائكة آلهة، واعتقدوهم بنات الله، وعبدوا لهم كعبادته سبحانه، رد الله عليهم حاكيا عن اعتراف الملائكة بالعبودية، فقال سبحانه من قبل الملائكة: { و } كيف يلي بنا أن نرضى بما افترى المشركون علينا من استحقاق العبادة والشركة في الألوهية؛ إذ { ما منآ } أحد { إلا له مقام } في العبودية والتوجه نحن الحق { معلوم } [الصافات: 164] معين مقدر من عنده سبحانه، لا يسع له أن يتجاوز عنه بلا إذن منه سبحانه، بل يلازم كل منا مقامه لمقدر له من ربه، متوجها إليه سبحانه، منتظرا لأمره وحكمه بلا غفلة وفترة.
{ وإنا } معشر الملائكة { لنحن الصآفون } [الصافات: 165] على الاستقامة حول عرش الرحمن كصفوف الناس في المساجد، لا يسع لأحد منا أن يتعدى من مكانه مستقبلا أو مستدبرا { وإنا لنحن المسبحون } [الصافات: 166] المنزهون المقدسون لله الواحد الأحد الصمد عن توهم الكثرة والشركة مطلقا، الراسخون المتمكنون في مرتبة التنزيه والتقديس، فكيف يتأتى منا أن نرضى بمفتريات أهل الزيغ والضلال بنا؟! عصمنا الله عموم عباده عن زيغ الزائغين وضلالهم.
{ وإن كانوا } أي: قد كان أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال يعني: كفار قريش خذلهم الله { ليقولون } [الصافات: 167] على سبيل التمني والتحسر تشنيعا وتعييرا على من مضى من الأمم السالفة: { لو أن عندنا } ونزل عليها { ذكرا } كتابا { من الأولين } [الصافات: 168] أي: من جنس كتبهم كتابا سماويا منزلا من الله مثل كتبهم.
{ لكنا } حينئذ { عباد الله المخلصين } [الصافات: 169] أخلصنا العبادة له، ولا نتجاوز عن مقتضى ما جاءنا من عنده في كتابه، ولا نتعدى عن حكمه وحدوده وأحكامه، ولا نهمل عن عظته وتذكيراته، ونعتبر من قصصه وأمثاله، وبالجملة: نتعامل معه أحسن المعاملة لا كمعاملة سائر أصحاب الكتب.
ثم لما نزل عليهم ما هو أفضل الكتب تربية، وأكملها رشدا، وأشملها حكما، وأتمها وأبلغها حكمة وبرهانا، وأوضحها بيانا وتبيانا، فكفروا به، وأنكروا نزوله، وأعرضوا عنه وعن أحكامه، واستهزءوا بمن أنزل إليه وكذبوا رسالته { فكفروا به فسوف يعلمون } [الصافات: 170] آجلا وعاجلا جزاء ما يفعلون ويستهزئون، ويذوقون وبال ما ينكرون ويعرضون، ألا أنهم هم المفسدون لأنفسهم ولكن لا يشعرون، فسيعلمون أي منقلب ينقلبون.
[37.171-182]
{ و } كيف لا يعلمون ولا يذوقون العذاب أولئك المسرفون { لقد سبقت } أي: حقت وثبتت منا { كلمتنا } المشتملة على الوعد والنصر { لعبادنا المرسلين } [الصافات: 171] وهي قوله سبحانه:
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي
[المجادلة: 21].
وقوله أيضا: { إنهم } أي: الرسل والأنبياء { لهم المنصورون } [الصافات: 172] المقصورون على النصر والغلبة على الأعداء، القاهرون القادرون على من غلبهم وظلمهم واستهزأ معهم عنادا ومكابرة.
وكيف لا يغلبون أولئك الأولياء على الأعداء، إنهم من جندنا وحزبنا { وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 173] القاهرون على جنود الأعداء وأحزابهم المسلطون عليهم.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل مضمون وعدنا على عموم الأولياء من الرسل والأنبياء { فتول عنهم } أي: كفار قريش، وأعرض عن محاربتهم ومخاصمتهم { حتى حين } [الصافات: 174] أي: إلى حين حلول العذاب الموعود المعهود من لدنا.
{ وأبصرهم } العذاب إذا نزل عليهم عاجلا، وهو عذاب يوم بدر { فسوف يبصرون } [الصافات: 175] أجله في يوم الجزاء بأضعاف ما لحقهم عاجلا وآلافه.
{ أ } ينكرون قدرتنا على العذاب الآجل مع نزول العذاب العاجل عليهم يوم بدر { فبعذابنا } الآجل في الجزاء { يستعجلون } [الصافات: 176] ويقولون: متى هذا؟ بعدما سمعوا فسوف يبصروه آجله زيادة في الجزاء بأضعاف ما لحقهم، أما يستحيون من الله، فيستعجلون عذابه، ولم يتفطنوا مما جرى عليهم عاجلا، ولا يخافون من نزوله وحلوله بغتة.
{ فإذا نزل } العذاب الموعود لهم آجلا { بساحتهم } أي: بفناء دراهم، وهذا كناية عن قربه وإلمامه بغتة { فسآء } وبئس حينئذ { صباح المنذرين } [الصافات: 177] إذا أصبحوا مفاجئين على أنواع العذاب والنكال، فلم يستعجلون بها أولئك الجاهلون الهالكون في تيه الضلال والطغيان؟!.
{ و } بعدما تمادوا في الغفلة والطغيان، وبالغوا في العتو والعصيان { تول عنهم } يا أكمل الرسل { حتى حين } [الصافات: 178] أي: حين إلمام العذاب الموعود.
{ وأبصر } أياهم بعدما ألم ونزل { فسوف يبصرون } [الصافات: 179] أي: أي شيء يترتب على إنكارهم، وتكذيبهم يوم الجزاء أولئك الضالون.
وإنما كرره سبحانه ما كرره تأكيدا ومبالغة في التهديد والتوعيد، تسلية لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال: { سبحان ربك } يا أكمل الرسل، وتنزهت ذاته عن معتقدات أهل التشبيه مطلقا، وما نسبوا إليه سبحانه من أمارات الإمكان وعلامات النقصان، وكيف ينسبون إلى { رب العزة } والقدرة والغلبة والكبرياء والاستقلال التام والاستيلاء العام، المنزه ذاته عن الإحاطة، وصفته عن العد والإحصاء، تعالى شأنه عن التحديد والتوصيف { عما يصفون } [الصافات: 180] به أولئك المسرفون المفرطون من إثبات الولد والإيلاد والاستيلاد.
{ وسلام } من الله وبركاته { على } عباده { المرسلين } [الصافات: 181] من عنده؛ لتبيين توحيده وتقديسه وتعاليه عن إحاطة مطلق المدارك والعقول.
{ والحمد } من ألسنة جميع من يتأتى منه الحمد والثناء حالا ومقالا { لله } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن اتخاذ الأهل والولد { رب العالمين } الصافات: 182] الذين ظهورا من شئونه وتطوراته حسب أسمائه وصفاته، ورباهم أيضا على حسبها إظهارا لكمال قدرته وعموم إحاطته.
وعن المرتضى الأكبر المتحقق بمقام التسليم والرضا - كرم الله وجهه - أنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } [الصافات: 180-182].
خاتمة السورة
عليك أليها الرائي المتحقق بجلال الحق، وكمال كبريائه، واستغنائه عن عموم مظاهره ومصنوعاته، واستيلائه على جميع ما ظهر وبطن من الأمور الكائنة المنعكسة من بروق تجلياته حسب أسمائه وصفاته المندرجة في شمس ذاته، أن تلاحظ شئون الحق على هياكل الموجودات، وتطالع ظهورها على صحائف الكائنات التي هي بالحقيقة كالمرايا لظهور آثار الأسماء والصفات الإلهية، وتتفكر فيخلق السفليات والعلويات، وتتأمل في كيفية ارتباطاتها ورجوعها إلى الوحدة الحقيقية الحقية، وكيفية سريان الوحدة الذاتية عليها بلا حلول واتحاد واتصال وانفصال وحصول وامتثال، وكذا عن كيفية انبساط أظلال الوجود الإلهي على ذرائر الأكوان، وامتداداتها على مرايا الإعدام على سبيل التجدد والتقضي بلا طريا ضد وحلول فترة وانقطاع أصلا.
ومن تأمل ظهور الحق على الآفق والأنفس على الوجه الذي تلا، فقد تحقق بعزة الله، وانكشف له وحدته المحتوية على عموم الكثرات بلا توهم كثرة في ذاته المستغني عن التعدد مطلقا، فحينئذ ارتفع عن بصر شهوده غير الحق وشئونه، ولا يرى في فضاء وجوده سوى الله موجودا ومشهودا، فتمكن حينئذ في مقام التوحيد، وأخذ في التنزيه والتقديس والتسليم والتكبير والتحميد، قائلا بلسان استعداده: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين } [الصافات: 18-181] المنبهين على مرتبة التوحيد، { والحمد لله رب العالمين } [الصافات: 182] آمين.
[38 - سورة ص]
[38.1-5]
{ ص } أيها الصفي، الصافي مشربه عن الأمور المنافية لتوحيد الحق وإيجاده وصرافة وحدته الذاتية، والصدوق الصادق في ادعاء الرسالة والنبوة بمقتضى الوحي الإلهي وإلهامه، والصبور الصابر على متاعب الدعوة والتبليغ وحمل أعباء الرسالة.
{ و } حق { القرآن ذي الذكر } [ص: 1] والبيان وأنواع الدلائل والبرهان، المنزل من عندنا عليك يا أكمل الرسل؛ لتبيين أحكام دين الإسلام، وتحقيق شعائر الإيمان، والتنبيه على مرتبة التوحيد والعرفان المنتهي إلى الكشف والعيان، ما الكفار المنكرون بك وبكتابك ودينك مطلعون بعيب ونقصان في دينك وكتابك يتشبثون به.
{ بل الذين كفروا } وأعرضوا عنا وعنك وعن كتابك لا سند لهم أصلا لا عقلا ولا نقلا، بل هم { في عزة } كبر وخيلاء عند نفوسهم { وشقاق } [ص: 2] خلاف لنا ولك بعيد عن توحيدننا وتصديقك.
وبعدما سمعت حالهم لا تبال بهم وبخلافهم ومرائهم وكبرهم وخيلائهم، اذكر { كم } أي: كثير { أهلكنا } أمثالهم { من قبلهم من } أهل { قرن } مغمورين في الكبر والخيلاء، متمكنين في الخلاف والشقاق أمثالهم { فنادوا } واستغاثوا متضرعين إلينا، راجين منا عفونا إياهم حين أخذناهمم بظلمهم بغتة { ولات حين مناص } [ص: 3] أي: ليس حينئذ وقت تأخير ونجاة لهم وخلاص، فلم نجبهم لذلك؛ لمضي وقت الاختبار والاعتبار، بل أهلكناهم واستأصلناهم
إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
[النور: 44].
{ و } من شدة شقاقهم وخلافهم { عجبوا } وتعجبوا؛ أي: أهل مكة { أن جآءهم } وأرسل عليهم { منذر منهم } أي: من جنسهم وبني نوعهم؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { وقال الكافرون } من كمال تعجبهم وشدة إنكارهم واستبعادهم، وضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا بأنه ما حملهم على هذا القول إلا كفرهم وإنكارهم: { هذا } أي: محمد صلى الله عليه وسلم فيما أظهره في صورة المعجزة الخارقة للعادة { ساحر } يسميه معجزة تغريرا وتلبيسا، وفيما نسبه إلى الوحي والإنزال { كذاب } [ص: 4] مبالغ في الكذب مستغرق فيه.
ثم لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشق ذلك على قريش، وفرح المؤمنون، فازدحم صناديدهم عند أبي طالب، وقالوا له: أنت شيخنا وسيدنا، وقد لعمت ما فعل هؤلاء، فأتيناك لتقضي بينننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأحضره معهم، فقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤل، فلا تم ل كل الميل على قومك.
" فقال صلى الله عليه وسلم: " وماذا يسألون ".
قالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، وعلى هذا نعاهد معك عند عمك؟
فقال صلى الله عليه وسلم: " أتعطونني كلمة واحدة، وتملكون بها العرب وتدين بها العجم؟ ".
فقال أبو جهل: لتعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا لا إله إلا الله ".
فنفروا من ذلك، وقاموا قائلين على سبيل الإنكار والاستبعاد: { أجعل الآلهة إلها واحدا } فمن أنى يسع الإله الواحد للخلق الكثير؟ { إن هذا } الذي يطلب هذا المدعي { لشيء عجاب } [ص: 5] أي: عجيب بديع ابتدعه من تلقاء نفسه.
[38.6-11]
{ و } بعدما تنفروا من قوله، وتعجبوا من طلبه { انطلق الملأ منهم } أي: أشرافهم قائلين: { أن امشوا واصبروا } أي: اثبتوا { على } عبادة { آلهتكم } ولا تصالحوا معه { إن هذا } الذي حدث بيننا وابتدع فينا { لشيء يراد } [ص: 6] بنا من شؤم الزمان وريبه.
وما لنا إلا الصبر والثبات إلى أن تتجلى الغياهب وترتفع النوائب، مع أنا { ما سمعنا بهذا } أي: بالتوحيد الذي يقوله هذا الداعي { فى الملة الآخرة } التي هي النصرانية؛ إذ النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة، ولم ينقل منهم توحيد الإله، ولا من الذين مضوا قبلهم من أرباب الملل السالفة، وبالجملة: { إن هذا } أي: ما هذا التوحيد الذي ظهر به { إلا اختلاق } [ص: 7] أي: كذب اخترعه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الوحي افتراء ومراء ، قاصدا به التغرير والتلبيس على ضعفه الأنام.
{ أ } تعتقدون أيها العقلاء المتدبرون أنه { ءنزل عليه } أي: على يتيم أبي طالب { الذكر } أي: الوحي والقرآن { من بيننا } من أنه مثلنا ومن بني نوعنا، بل أدون منا، ونحن أشرف منه، وأكبر سنا، وأكثر أموالا وأولادا، وأكرم جاها وثروة، وأعلى سيادة ورئاسة، إنما يقولون هذا على سبيل الإنكار والاستبعاد لا أنهم معتقدون على الوحي والإنزال { بل هم في شك } وريب عظيم { من ذكري } ووحيي إليه، بل إلى جميع المرسلين { بل لما يذوقوا عذاب } [ص: 8] أي: إنما قالوا هذا، وشكوا في الوحي وارتابوا؛ لأنهم لم يذوقوا عذابي، ولو أنهم ذاقوه لما قالوا، فمن أين يقولون هذا ويحكمون أن الوحي لو نزل لنزل على رؤسائنا وسادتنا.
أهم يعلمون الغيب { أم عندهم } أي: عند أولئك البعداء والمهمكين في بحر الغفلة والضلال { خزآئن رحمة ربك } يا أكمل الرسل ومقاليد نعمه ومفاتيح كرمه؛ ليكون لهم الخيرة في أمره سبحانه، فيعطونها على من يشاء، ويمنعونها عمن يشاء، فكيف يحكمون على { العزيز } الغالب على أمره في تصرفات مكله وملكوته بالاستقلال والاختيبار { الوهاب } [ص: 9] على من شاء وأراد بلا مشاورة ومظاهرة.
{ أم لهم ملك السموت والأرض وما بينهما } أي: يدعون أن لهم التصرف في العلويات والسفليات والممتزجات، وإن ادعوا ذلك لأنفسهم { فليرتقوا } وليصعدوا { فى الأسباب } [ص: 10] التي هي معارج الوصول إلى منشأ الوحي والإلهام، ومنبع النزول والإنزال، فليأتوا بالوحي إلى من أرادوا واختاروا.
وبالجملة: من أين يتأتى لأولئك الكفرة العجزة المقهورين الصاغرين الخيرة في أمره سبحانه وحكمه بمقتضى قضائه، حتى يتفوهوا عنه عن أفعاله وأحكامه؛ إذ لا يسع لأحد من أقوياء عباده أن يسأل عن فعله مع أن أولئك الحمقى { جند ما } أي: شرذمة قليلة في غاية القلة { هنالك } أي: وضعوا ونصبوا أنفسهم بمعاداتك في أبعد الأمكنة وأعلى المرتبة، مع أنهم { مهزوم } مغلوب { من } جمع { الأحزاب } [ص: 11] الذين تحزبوا على رسل الله وأنبيائه، مع كمال شدتهم وقوتهم ووفور شوكتهم وصولتهم، فانهزموا واستؤصلوا إلى حيث لم يبق منهم أحد على وجه الأرض .
[38.12-20]
إذ { كذبت قبلهم قوم نوح } مع كمال قوتهم وقدرتهم نوحا، فأغرقناهم أجمعين بالطوفان { وعاد } مع نهاية عتوهم وعنادههم هودا، وأهلكناهم بالريح العاصفة { وفرعون ذو الأوتاد } [ص: 12] أي: صاحب الدولة الثابتة التي ادعى بسببها الألوهية لنفسه موسى، فأغرقناهم وجنودهم في اليم.
{ وثمود } المتناهي في القوة والشدة صالحا، فأهكلناهم بالصيحة { وقوم لوط } المتبالغ في الجحود والإنكار على الله وحدوده لوطا، فقبلنا عليهم ديارهم، وأمطرنا عليهم الحجارة فأهلكناهم بها { وأصحاب لئيكة } شعيبا، فاستأصلناهم كذلك { أولئك } البعداء المنحرفون عن صوب السداد والصواب هم { الأحزاب } [الأحزاب: 13] الذين كذبوا الرسل، وتحزبوا عليهم، وقاتلوا معهم مع كونهم أشداء أقوياء، فانهزموا عنهم بنصرنا إياهم، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغري.
وبالجملة: { إن كل } أي: ما كل من الأمم السالفة المذكورة { إلا كذب الرسل } المذكورين { فحق } أي: لذلك لزم ولحق عليهم { عقاب } [ص: 14] أي: أنواع عذابي ونكالي عاجلا وآجلا.
{ وما ينظر } وينتظر { هؤلآء } المعاندون معك، المنكرون لدينك، المكذبون لرسالتك وكتابك { إلا صيحة واحدة } ينفخها إسرافيل في الصور بإذن منا فيسمع هؤلاء الضالون، فيموتون على الفور بلا توقف؛ إذ { ما لها من فواق } [ص: 15] قرار وقوف مقدار خروج النفس ورجوعه.
وهكذا كناية عن سرعة نفوذ قضاء الله، حين حلول عذابه عليهم إلى حيث لا يسع فيه تمييز التقدم والتأخر أصلا، بل ينزل بغتة.
{ و } بعدما سمع كفار مكة أوصاف أهوال يوم الجزاء، وافتراق الناس فيها فرقا وأحزابا، بعضهم أصحاب يمين، وبعضهم أصحاب شمال، فيعطى لكل فرد كتابا كتب فيه أعمالهم الصالحة والفاسدة، فيحاسب كل على أعماله، فيجازى على وفقها { قالوا } مستهزئين متهكمين؛ يعني: أهل مكة بعدما سمعوا أهوال يوم الجزاء وأفزاعها: { ربنا عجل لنا قطنا } أي: صحيفة أعمالنا، وقسطنا من العذاب المترتب عليها { قبل يوم الحساب } [ص: 16] ونحن نرضى بها وبالعذاب المترتب عليها بلا حساب.
وبعدما قالوا كذلك، واستهزءوا مع الرسول، وضحكوا من قوله، ونسبوه إلى الخبط والجنون، أمر سبحانه حبيبه بالتصبر على مقاساة ما جاءوا به مما لا يليق بشأنه، فقال: { اصبر } يا أكمل الرسل { على ما يقولون } لك، وفي شأنك أولئك الجاهلون عنادا أو مكابرة، ولا تلتفت إلى هذياناتهم، ولا تحزن من أباطيلهم والمستهجنة، فعليك يا أكمل الرسل أن توطن نفسك على الصبر المأمور، ولا تتجاوز عن مقتضاه، ولا تتعب نفسك بالقلق والاضطراب والمجادلة معهم والمخاصمة إياهم إلى أن نكف عنك شرورهم، ولا تفلتفت إلى هواجس نفسك، حتى لا تقع في محل الخطاب والعتاب { واذكر عبدنا داوود } وما جرى عليه من العتاب الإلهي من عدم حفظه نفسه عن مقتضيات ومشتهياتها حتى ابتلاه الله سبحانه بما ابتلي مع أنه { ذا الأيد } أي: صاحب القدرة والقوة في الحفظ وحفظ النفس عن محارم الله ومنهياته، وكيف لا يكون كذلك { إنه أواب } [ص: 17] رجاع إلى الله وإلى مرضاته سبحانه في جميع حالاته.
ومن كمال رجوعه إلينا وحفظه لمرضاتنا { إنا } من مقام لطفنا وجودنا { سخرنا الجبال } له، وجعلناها تحت حكمه إلى حيث سارت { معه } حيث شاء { يسبحن } بمشايعته وموافقته حين يسبح { بالعشي والإشراق } [ص: 18] أي: بالليل والنهار؛ يعني: ما دام يميل ويتوجه إلى ربه، مالت الجبال معه ازديادا لثوابه وتكثيرا لفضائله.
{ و } كذا سخرنا له { الطير } أي: جنس الطيور يستمعن قوله { محشورة } على فنائه مسخرة لحكمه - على قراءة النصب - " الطير محشورة " عنده محكومة لأمره يسبحن بمشايعته بالغدو والآصال كتسبيح الجال على قراءة الرفع، وبالجملة: { كل } أي: كل واحد من داوود والجبال والطيور { له أواب } [ص: 19] أي: رجاع إلى الله، مسبح له سبحانه، مقدس عما لا يليق بجانبه على الدوام والاستمرار.
{ و } من كمال جودنا ولطفنا معه { شددنا } له { ملكه } الظاهر؛ أي: قوينا استيلاءه وتسليطه على الأنام، وألقينا هيبته على قلوبهم إلى حيث لم يخرجوا عن الحدود الموضوعة في شرعه خوفا من اطلاعه.
وسبب هيبته أن تحاكم عنده رجلان، فادعى أحدهما على الآخر بأن غصب منه بقرة عدوانا وظلما، فأنكر الآخر، ولم يكن للمدعي بينة، فأريناه في منامه أن يقتل المدعى عليه، ويحكم بالبقرة للمدعي، فلما استيقظ كذب نفسه واستغفر، فنام فأريناه مثل ذلك، واستيقظ فاستغفر ثانيا، فنام فرأى ثالثا مثل ذلك، فتيقن أنه من الله ، فهم أن يقتله تنفيذا لما ألهم إليه، فقال للمدعى عليه: أتقتلني بلا بينة.
فقال عليه السلام: نعم والله لأنفذن حكم الله تعالى فيك، فلما تفطن الرجل منه الجزم في عزمه، اضطر إلى الاعتراف، حيث قال: لا تعجل يا نبي الله حتى أخبرك، والله ما أخذت بهذا الذنب ظلما وزورا، ولكني قتلت والد هذا المدعي اغتيالا وخداعا.
فتقله عليه السلام: وعظمت هيبته في قلوب الناس، حتى انزجروا عن مطلق المحرمات والمنهيات خوفا من اطلاعه، وقالوا: لا نعمل شيئا إلا علمه، فيقضي علينا بمقتضى علمه، هذا تأييدنا وتقويتنا إياه بحسب الظاهر والسلطنة الصورية.
{ و } أما بحسب الباطن والحقيقة { آتيناه الحكمة } المتقنة التي يتصرف بها في حقائق الأمور، ويطلع على سرائرها بنور النبوة والولاية الموروثة له من أسلافه الكرام، الموهوبة إياه من الحكيم العلام تأييدا له وتقوية لشأنه { و } آتيناه أيضا { فصل الخطاب } [ص: 20] أي: قطع الخصومات على التفصيل الذي وقع بين المتخاصمين بلا حيف وميل إلى جانب على ما هو مقتضى العدل الإلهي بالخطاب المفصول الموضح الواضح المقتصد بلا اقتصار مخل وإطناب ممل، وبالجملة: بلا إغلاق يشتبه مضمونه على المتخاصمين.
[38.21-24]
{ وهل أتاك } وحصل عندك يا أكمل الرسل { نبؤا الخصم } أي: خبر الملكين المكلفين المصورين بصورة الخصمين اللذين جاءوا للحكومة عند أخيك داوود عليه السلام، حين اعتزل في محرابه للعبادة على ما هو عادته في تقسيم أيامه ثلاثة أقسام: يوم لعيش النساء، ويوم لقطع الخصومات بين الأنام، ويوم للتوجه نحو الحق والمناجاة معه سبحانه في محرابه.
وكان في محرابه والباب مغلق عليه، والحراس على الباب فجاءا - أي: الملكان - في صورة رجلين متخاصمين على الباب، فمنعهما البواب، فأخذا يستعليان المحراب.
اذكر نبأهما وقت { إذ تسوروا } أي: صعدوا على حائط { المحراب } [ص: 21] واستعلوا على سوره بقصد الدخول عليه.
اذكر وقت { إذ دخلوا على داوود } من غير الباب بأن شق لهما الجدار، فدخلا عليه { ففزع } داوود { منهم } واستوحش من دخولهم لا من الطريق المعهود، وبعدما تفرسوا منه الرعب والفزع { قالوا } له تسلية وتسكينا: { لا تخف } منا ، ولا تحزن من إلمامنا إياك؛ إذ نحن { خصمان } تحاكمنا إليك حتى تقضي بيننا، وقد { بغى } أي: ظلم واستولى { بعضنا على بعض } أي: أحدنا على الآخر { فاحكم } أيها الحاكم العدل العالم { بيننا بالحق } أي: بالعدل السوي { ولا تشطط } أي: لا تجر ولا تتجاوز عن مقتضى القسط الإلهي { و } بالجملة: { اهدنآ إلى سوآء الصراط } [ص: 22] أي: أعدل الطرق وأقوم السبل في سلوك طريق النجاة.
ثم أخذوا في تقرير المسألة، فقال أحدهما: { إن هذآ أخي } في الدين ورفيقي في سلوك طريق التوحيد واليقين { له تسع وتسعون نعجة } وهي الأنثى من الضأن، كنى بها العرب عن المرأة { ولي نعجة واحدة } فقط، { فقال } لي عدوانا وظلما: { أكفلنيها } أي: اجعلني كافلا لها، مالكا إياها، حتى صارت نعاجي مائة، ولم تبق لك نعجة { و } لم يقتصر على مجرد القول، بل { عزني } وغلب علي { في } مضمون { الخطاب } [ص: 23] المذكور بحجج لا أقدر على دفع، ولا أسمع المقاومة معه.
وبعدما سمع كلام المدعي وتأمل في تقريره، قال للمدعى عليه: هل تصدقه فيما ادعاه عليك؟ قال: بلى.
ثم التفت عليه السلام نحو المدعي، متعجبا مستبعدا عما جرى عليه من الظلم والعدوان حيث { قال }: تالله { لقد ظلمك } هذا الظالم ظلما صريحا { بسؤال نعجتك } ليأخذها منك ويضيفها { إلى نعاجه } ليكثرها بها ويخلطها عليه حرصا منه إلى تكميل مشتهاة نفسه الأمارة { و } لا تستبدع هذا الأمر، ولا تستبعد منه هذا، بل { إن كثيرا من الخلطآء } الذين خلطوا أموالهم وتشاركوا فيها { ليبغي } أي: يظلم ويتعدى { بعضهم على بعض } ظلما وزورا { إلا الذين آمنوا } من الخلطاء بالله، واستقاموا على صراطه الموضوع من عنده على العدالة الاستقامة { وعملوا الصالحات } المرضية عنده سبحانه، سيما في الأمور المتعلقة لحقوق عباده، ولكن { وقليل ما هم } أي: هم قليل في الدنيا في غاية القلة والندرة، و " ما " مزيدة لكمال القلة والإبهام.
ثم التفت عليه السلام إلى المدعى عليه، فقال له بعدما سمع منه اعترافه: إن رمت هذا، ضربنا منك هذا، إشارة إلى طرف أنفه، فقال المدعى عليه: أنت أيها الحاكم أحق بذلك الضرب، فنظر عليه السلام ولم ير أحدا { و } حنيئذ { ظن } بل تيقن { داوود أنما فتناه } وابتليناه بالذنب { فاستغفر ربه } عما جرى عليه من افتتان الله إياه { وخر } ساجدا من خشية الله، بعدما كان { راكعا } مكسور الظهر، منكوس الرأس عن ارتكاب الذنب { وأناب } [ص: 24] إلينا على وجه الندم والخجل مستحييا عنا، مستوحشا عن سخطنا وغضبنا إياه.
[38.25-29]
{ فغفرنا له ذلك } الذنب بعدما أخلص في الإنابة والرجوع إلينا، بل جميع ذنوبه التي صدرت عنه { و } كيف لا نغفر { إن له } أي: لداوود عليه السلام { عندنا } وفي ساحة قربتنا وعزتنا { لزلفى } لقربة ومنزلة رفيعة { وحسن مآب } [ص: 25] أي: خير مرجع ومنقلب من مقامات القرب ودرجات الوصول.
وأسر في ابتلاء الله إياه أنه لما رأى في كتب التواريخ أوصاف أسلافه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أضمر في نفسه أن يؤتى له مثل ما أتى إياهم من الخير الحسنى، فأوحى إليه أنهم قد ابتلوا فصبروا، فأعطي لهم ما أعطي فقال داود عليه السلام: يا رب لو ابتليت لصبرت أيضا مثلهم، فأوحى أنك تبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاستحفظ الأوقات.
فلما جاء الموعد دخل محرابه وأغلق الباب على نفسه، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب في غاية الحسن والبهاء ووقعت بين رجليه، فأراد أخذها؛ ليري بني إسرائيل عجائب صنع الله وبدائع قدرته، فطارت وجلست في كوة هناك فأراد أخذها فذهبت فنظر من الكوة فإذا هو بامرأة حسناء من أجمل النساء تغتسل فتعجب منها، فالتفت وأبصرت ظله فنفضت شعرها، فغطى جميع بدنها، فازداد داوود عجبا فوق العجب.
وبالجملة: قد ابتلي عليه السلام بمحبة تلك المرأة، وكان عمره حينئذ سعبين سنة، فسأل عنها، فقيل: هي امرأة أوريا بن حنان، فأوجس في نفسه قتله ليتزوج امرأته، وكان أوريا حينئذ مع ابن أخت داود في جيش، فأرسل إلى ابن أخته أن يقدم أوريا قدام التابوت، وكان من عادته من يقدمه قدام التابوت لا يحل له الرجوع حتى يفتح أو يقتل، فقدمه ففتح، فأمره أن يقدمه إلى أخرى، فقدمه ففتح أيضا، ثم أمر أن يقدمه ثالثا، فقدمه إلى جيش عظيم فقتل.
وبعدما انقضت عدة امرأته تزوجها داود عليه السلام، وهي أم سليمان عليه السلام، فعاتبه سبحانه بما عاتبه، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب، والعهدة على الراوي، وأنكر بعضهم هذه القصة؛ لأن الأنبياء معصومون عن أمثاله.
وعن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: من تحدث بحديث داوود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وهي حد الفرية على الأنبياء، والعلم عند الله.
ثم لما عاتب سبحانه داود عليه السلام بما عاتب، وقبل توبته بعدما اتسغفر وأناب، أراد سبحانه من كمال خلوصه في توبته رجوعه نحو الحق عن صميم طويته أن يشرفه بخلعة الخلافة، فقال مناديا له، إظهارا لكمال اللطف والكرم معه: { يداوود } المتأثر عن عتبنا، التائب إلينا، المنيب نحونا عن محض الندم والإخلاص { إنا } بعدما طهرناك عن لوث بشريتك، وغفرنا لك ما طرأ عليه من لوازم هويتك ولواحق ناسوتك { جعلناك خليفة في الأرض } التي هي محل الكون والفساد، وأنواع الفتن والعناد، فلك أن تستخلف عليها نيابة عنا.
{ فاحكم بين الناس } المستحكمين لك، المتمردين إليك في الوقائع والخطوب ملتبسا { بالحق } السوي بلا ميل إلى كلا طرفي الإفراط والتفريط على الوجه الذي وصل إليك في كتابنا صريحا أو استنبط منه ضمنا { و } عليك أن { لا تتبع الهوى } في حكوماتك وقطعك للخصومات بين الأنام؛ يعني: عليك أن ترجع في جميع الأحكام إلى كتابنا، ولا تميل في حال من الأحوال إلى ما تهواه نفسك ويقتضيه رأيك ويشتهيه قلبك، إن كان مخالفا لما في الكتاب، وإن اتبعت إليه بعدما نهيناك { فيضلك } اتباعك أياه { عن سبيل الله } الموصل إلى توحيده، المبني على القسط والاعتدال { إن الذين يضلون عن سبيل الله } الواحد الأحد الصمد الذي استوى على عروش عموم ما لمع عليه بروق تجلياته بالقسط والاستقامة { لهم عذاب شديد } يوم يرجعون إلى الله، ويحشرون إلى عرصات العرض { بما نسوا يوم الحساب } [ص: 26] أي: بسبب فطرتهم الأصلية، وعهدهم الذي عهدوا مع الله فيها، وإنكارهم على تنقية الحق أعمالهم في يوم البعث والجزاء، وضلالهم عن الإيمان به وبجميع ما فيه من الأمور الأخروية.
{ و } كيف لا نبعث الأموات، ولا نحاسب أعمالهم التي أتوا بها في دار الاختبار؛ إذ { ما خلقنا السمآء } وجميع ما فيها ومن فيها { والأرض } وجميع من عليها وما عليها { و } كذا { ما بينهما } من الممتزجات الكائنة فوق الأرض وتحت السماء { باطلا } عبثا بلا طائل ومصلحة تقتضيها الحكمة الباعثة على إظهارها، مع أنا ما كنا من العابثين اللاعبين.
وما يليق بشأننا أن ينسب أفعالنا إلى البطلان، والخلو عن الحكمة { ذلك } أي: القول ببطلان أفعالنا، وخلائها عن الفائدة، وعرائها عن الحكمة والمصلحة { ظن الذين كفروا } بالحق العليم الحكيم، وأعرضوا عن الإيمان وأنكروا توحيده، فاستحقوا بذلك الظن أسوأ العذاب وأشد النكال { فويل } عظيم وعذاب أليم { للذين كفروا من النار } [ص: 27] إذ هم في أوحش أمكنة جهنم وأهولها وأعمقها.
{ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } أي: بل ظنوا وزعموا من شدة جهلهم وسخافة فطنتهم، أنا نسوي في الرتبة بين أرباب الهداية والإيمان وأصحاب الضلال والطغيان { أم نجعل المتقين كالفجار } [ص: 28] بل زعموا، واعتقدوا مساواة أهل المغفرة والتقوى مع أصحاب الغفلة والهوى، المنهمكين في أودية الضلالات بمتابعة اللذات والشهوات.
ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل العظة والتذكير: هذا { كتاب } جامع لفوائد الكتب السالفة، مشتمل على زوائد خلت عنها تلك الكتب { أنزلناه إليك } أيها الجامع لجميع مراتب الوجود من مقام عظيم جودنا معك، ومع من تبعك من المؤمنين { مبارك } كثير الخبر والبركة على من أمتثل بأوامره، واجتنب عن نواهيه، وانكشف بما فيه من الرموز والإشارات المنبهة إلى التوحيد وإسقاط الإضافات، والتخلق بصفات الحق وأخلاقه، والاتصاف بمقتضيات أسمائه الحسنى، وإنما أنزلناه { ليدبروا } أي: ليتدبر المتدبرون المتفكرون في أساليب { آياته } الكريمة، واتساق تراكيبه البديعة، وإفاضاتها المعاني العجيبة المنتشئة المترشحة من بحر الذات حسب شئون الأسماء والصفات الظاهرة آثارها على وفق التجليات الحبية، { وليتذكر } ويتعظ بعدما تأمل وتدبر { أولوا الألباب } [ص: 29] المستكشفون عن حقائق الموجودات، ولباب الكائنات والفاسدات المعرضين عن قشورها.
[38.30-40]
{ و } بعدما كرمناه بتشريف خلعة الخلافة { وهبنا لداوود } ولدا خلفا عنه، وارثا لملكه وخلافته، محييا اسمه ومراسم دينه ومعالم ملته؛ يعني: { سليمان نعم العبد } سليمان؛ لأنه مقبول عندنا، مقرب من حضرتنا، مكرم لدينا، وكيف يكون كذلك { إنه أواب } [ص: 30] رجاع إلينا، ملتجئ نحونا في عموم الأوقات وشمول الحالات على وجه الخلوص والتفويض التام.
اذكر يا أكمل الرسل كمال رجوعه وإخلاصه في وقت { إذ عرض عليه بالعشي } وهو مشمر إلى الغزو ومهيئ لأسبابه، متمكن على كرسيه لضبط العسكر وآلات القتال بالعشي { الصافنات } من الخيل، وهي التي تدور سريعا كالرحى على طرف حافر من حوافره، إن أراد الركاب تدويره، وهي من أكمل أوصاف الخيل وأحمدها عند أصحاب القتال؛ لأن المبارز كثيرا ما يحتاج إلى تدوير فرسه يوم الوغى { الجياد } [ص: 31] سريعة الجري والعدو.
وذلك أنه جلس على كرسيه يوما بعدما فرغ من ورده في الظهيرة؛ لإعداد أسباب الغزو والقتال الذي قصد أن يخرج إليه يومئذ، فأمر بعرض الخيول عليه، فأشغله الالتفات والتجه نحو الخيول عن ورد عصره، فتذكر والشمس قد غربت، فاغتم غما شديدا، وتحزن تحزنا بليغا إلى حيث لم يطرأ عليه مثله.
{ فقال } من شدة أسفه وضجرته متأوها لائما على نفسه: { إني أحببت } الخيل { حب الخير } أي: كحب الخير والتوجه المقرب إلى الله، لذلك ألهاني { عن ذكر ربي حتى توارت } الشمس { بالحجاب } [ص: 32] وفات عني وردي الذي كا نقبل الغروب.
وبعدما وقع ما وقع من الغفلة، تسارع إلى التدارك والتلافي، فأخذ يقطع عرق الباعث إلى الإلهاء والإغفال، فقال للشرطة: { ردوها } أي: الصافنات { علي } وكروها إلي، فأعدوها معرضين ثانيا { فطفق } سليمان، وأخذ السيف الصارم بيده، يمسح ويمضي { مسحا } وإمضاء ملاصقا { بالسوق } وهي جمع: ساق { والأعناق } [ص: 33] يعني: أخذ بقطع قوائمها ورءوسها، ليزول حبها عن قلبه، ويتصدق بها طلبا لمرضاة ربه، وجبرا لما انكسر من ورده.
وعن المرتضى المجتبى - كرم الله وجهه -: أن الضمير في { ردوها } راجع إلى الشمس؛ يعني: أمر سليمان الموكلين على الشمس بإذن الله ووحيه أياه، أن يردوا الشمس بعدما غربت؛ ليأتي سليمان بورده، فأتى بما أتى، وذلك من كمال كرم الله معه.
{ و } مع كونه مقبولا عندنا ممدوحا لدينا { لقد فتنا } وابتلينا { سليمان } بفتنة عظيمة، وأخذنا منه ملكه بجريمة صدرت من أهل بيته بأدنى ملابسة له ورضا من جانبه.
وذلك أنه عليه السلام غزا " صيدون " من الجزائر، فقتل ملكها فأصاب ابنته اسمها جرادة، وهي من أجمل النساء وأحسنها شكلا، فأعجب سليمان بحسنها وخصها لنفسه، وهي أحب عليه من سائر نسائه، وكانت من شدة حزنها وكآبتها على أبيها لا يرقى دمعها، ولا يزال همها، فأمر عليه السلام الشياطين فمثل لها صورة أبيها، فكانت تغدو إليها و تروح مع ولائدها يسجدون لها، على ما هي عادتها في حياته وملكه.
ومضى عليها أربعون يوما، فاستشعر بها آصف بن برخيا فأخبره، فكسر الصورة وضرب المرأة والولائد، فخرج عليه السلام إلى الصحراء باكيا متألما مستحييا من ربه، وكان من عادته عليه السلام إذا دخل الخلاء أعطى خاتمه الذي فيه ملكه إلى أمة له اسمها أمينة، فأعطاها يوما فتمثل بصورة سليمان شيطان امسه صخر، فجاء فطلب الخاتم من أمينة فأخذه فتختم به، وجلس على كرسيه، واجتمع الخلق عليه، وقضى ما قضى ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه، وغير سليمان عن هيئته وسلطنته، فأتى أمينة بطلب الخاتم فطردته وأنكرت عليه، فعرف أن الفتنة قد أدركته.
فأخذ يدور حول البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوما عاد ما عبد في بيته الصورة، وبعد انقضاء المدة المذكورة، طار الشيطان من كرسيه وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة فوقعت في يد سليمان من قضاء الله ومزيد كرمه وعطائه عليه، فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به، فعاد ملكه عليه، وخر ساجدا وأناب إلى الله متضرعا كما أخبر سبحانه.
وبعدما فتناه بفتنة عظيمة وهي عبادة غيرنا في بيته برضاء منه، وأخذناه عليها وأخرجناه من ملكه بفقد الخاتم عنه { وألقينا على كرسيه } وأجلسنا بدله عليها { جسدا } تمثالا وصورة لا حقيقة لها، { ثم } بعدما ابتليناه بما ابتليناه قد { أناب } [ص: 34] إلينا مخلصا متضرعا، فقبلنا توبته عناية منا إياه؛ حيث { قال } في مناجاته معنا، وعرض حاجاته إلينا: { رب } يا من رباني بمقتضى لطفك وجودك، وأعطيتني من مواهبك ما لم تعط أحدا من خلقك { اغفر لي } ذنبي، واعف زلتي بسعة رحمتك وجودك { و } بعدما غفرتني ومحوت عني معصيتي { هب لي ملكا } كما وهبتني قبل هذا، وخصصتني به بمقتضى جودك وإحسانك علي؛ إذ { لا ينبغي } ويليق بشأنك وبمزيد لطفك وإحسانك أن تعطيه { لأحد من بعدي } إذ لا راد لفظلك، ولا مانع لعطائك { إنك أنت } المحسن { الوهاب } [ص: 35] المقصور المنحصر على إعطاء المواهب والكرامات، بلا عوض ولا غرض؛ إذ لا معطي سواك ولا مفضل غيرك.
وبعدما توجه إلينا وتضرع نحونا على وجه الإنابة والخضوع والتذلل والخشوع، آتينا ملكه، وأجرينا حكمه كما كان { فسخرنا له الريح } بعدما انتقمنا عنه، وجعلناها مقهورة له، محكومة بحكمة؛ حيث { تجري بأمره } منقادة بحكمه { رخآء } لينة هينة، بلا تضعضع وتزعزع يتعب منه الراكب { حيث أصاب } [ص: 36] أي: يجري بأمره أي صوب أراد، وجانب قصد.
{ و } أيضا سخرنا له { الشياطين } وجعلناهم منقادين لحكمه { كل بنآء } منهم يبني له أبنية عجيبة، وقصورا مشيدة منيعة، وحصونا محكمة، لا يسع للإنس أن يعمل مثلها { و } كل { غواص } [ص: 37] منهم يغوصون لأجله في لجج البحار، ويستخرجون لخزائنه من اللآلئ النفيسة ما لا يعد ولا يحصى.
{ وآخرين } من الشياطين، وهم المردة الممتنعون عن الإطاعة والانقياد، جعلناههم { مقرنين } مشدودين محبوسين { في الأصفاد } [ص: 38] أي: القيود والأغلال المضيقة بمقتضى أمره وحكمه.
ثم قال سبحانه امتنانا عليه، وتنبيها على تعظيمه وتكريمه: { هذا } المذكور من الحكومة والخلافة والتسخيرات السالفة { عطآؤنا } عليك يا من اصطفيناك لوارثة النبوة والخلافة { فامنن } منه لمن شئت، واجعل حق المستحقين محفوظا به { أو أمسك } لنفسك، ولا تعط أحدا؛ يعني: لكل الخيار في المنع والإعطاء { بغير حساب } [ص: 39] عليك، وسؤال عن فعلك، إذ أمره مفوض إليك.
{ و } كيف لا يفوض لأمر ما أعطيناه إياه إلينا { إن له } أي: لسليمان عليه السلام { عندنا } وفي ساحة عز حضورنا { لزلفى } درجة قريبة من درجات الوصال { وحسن مآب } [ص: 40] أي: خبر مرجع ومنقلب من مراتب التمكن في التوحيد، والتقرب في مقر القبول.
[38.41-48]
{ واذكر } يا أكمل الرسل { عبدنآ أيوب } هو ابن عيص بن اسحاق، وامرأته ليا بنت يعقوب، أضافه سبحانه إلى نفسه لكمال رضاه منه ولطفه معه؛ حيث صبر على ما مضى عليه من بلائه وجرى عليه من قضائه، كما شكر على آلائه ونعمائه، ولم ينقص من إخلاصه جالتي السراء والضراء.
اذكر يا أكمل الرسل كمال تصبر أخيك أيوب، وإخلاصه في توجهه إلينا للمتذكرين المعتبرين من أمتك؛ كي يتذكروا من قصته، ويتخلقوا بشيء من تصبره وتمكنه في مقر التفويض والتسليم { إذ نادى ربه } الذي رباه بين الخوف والرجاء وأنواع العناء والعطاء؛ لكمال اصطباره ووقاره بما جرى عليه من مقتضيات ربه، قائلا حين اضطراره إلى الالتجاء نحو ربه والتضرع إليه: { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ص: 41] أي: نفخ في، وأحاط نفخه جميع أجزاء بدني؛ بحيث لم يبق في عضو لم يلحقه ضرر من شؤم نفخه، وعذاب شديد مؤلم مزعج، فاضطرني هجوم الأعداء والعناء وتزول أنواع المحن والبلاء إلى بث الشكوى نحوك يا مولاي، فأنا عبدك، وعلى عهدك ما استطعت، ما توفيقي إلا بك وثقتي إلا عليك، فارحمني بسعة رحمتك؛ إذ لا راحم سواك ولا مغيث غيرك.
وبعدما استغاث إلينا مخلصا مضطرا راجيا من الإجابة والقبول، أدركته العناية، وشملته الرحمة والكرامة من لدنا، حيث قلنا له ملهمين أياه، مستقبلين إجابته: { اركض } واضرب { برجلك } على الأرض، فركض امتثالا للأمر الوجوبي فنبعت عين جارية، ثم قلنا له تعليما وتنبيها: { هذا } الماء { مغتسل بارد } يبرد ويبرأ ظاهر جسدك من الحرارات العارضة لبدنك من شؤم نفس عدوك الذي خلق من عنصر النار { وشراب } [ص: 42] شاف لباطنك من الذي أعرض عليك من انحراف مزاجك بسبب خروج أخلاطك عن الاعتدال الفطري بشؤوم نفخه.
وبعدما سمع أيوب ما سمع اغتسل منه، فشرب وبرأ من المرض ظاهرا وباطنا { و } بعدما حصل له الصحة والنظافة منا إياه ، سقط نحونا ساجدا حامدا شاكرا، مناجيا معنا، مخلصا متضرعا { وهبنا له } تتميما لكمال لطفنا وعنايتنا معه { أهله } أي: جميع من مات من أولاده بسقوط السقف عليهم { ومثلهم معهم } أي: وهبنا له إحسانا عليه وامتنانا منا مثل أهله مع أهله، وإنما فعلنا معه ذلك بعدما ابتليناه واخبترناه؛ ليكون { رحمة منا } إياه { وذكرى لأولي الألباب } [ص: 43] الذين يتذكرون بقصته، ويتخلقون بأخلاقه؛ ليفوزوا بما فاز.
وبعدما صححناه من الأسقام ووهبنا له أهله وماله، وزدنا عليه مثله تفضلا منا إياه، أمرناه ثانيا تعليما له بأن يتدارك قسمه وحلفه الذي حلف في مرضه، حين ذهبت امرأته ليا أو رحمة بنت إفرائيم بن يوسف لحاجة، فأبطأت، فحلف: إن برئت عن مرضي لأضربنك مائة جلدة.
{ و } قلنا له تعليما: { خذ بيدك } لحلفط { ضغثا } حزمة مشتملة على مائة من إغصان صغار، فاضرب به - أي: بالضغث - امرأتك بحيث وصل أثر جميع ما في الحزمة من الأغصان إليها { فاضرب به ولا تحنث } حينئذ في حلفك، فحللنا يمينك بها، عناية منا لك ولأمرأتك، فصارت رخصة باقية في حدود الشرائع إلى الآن.
وكيف لا نزيل شكواه، ولا نحسن إليه، ولا نجزيه أحسن الجزاء؟ { إنا وجدناه } عبدا { صابرا } لجميع ما هجم عليه من أنواع البلاء المتعلقة بماله وأولاده وبدنه { نعم العبد } عبدنا أيوب الصبور المسلم المفوض بلا جزع وتزعزع، فكيف يجزع ويتزعزع { إنه أواب } [ص: 44] رجاع الينا، متشمر نحونا في عموم أوقاته وحالاته، طلبا للفناء فينا والبقاء ببقائنا.
روي أن أيوب عليه السلام كان متمولا منعما عظيما، وكان له جميع أنواع متاع الدنيا، ومع ذلك شاكرا راضيا منفقا في سبيل الله لفقراء الله طلبا لمرضاته، وبعدما بالغ في شكر نعم الله وأداء حقوق كرمه، حسد عليه إبليس فقال مناجيا إلى الله: نظرت في عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكر لك، ولو ابتليته بالفاقة لم يكن كذلك، فقال سبحانه: " سلطتك يا ملعون علا ماله " فقال: إبليس لعفاريت: أيكم أشد وأقوى على إتلاف ماله؟ فقام أحدهم وتحول إعصارا من نار فأحرق إبله، وجميع من كان معها من الراعي، وصاح أحدهم منهم على أغنامه ورعاتها فهلكوا بالمرة، وآخر جاء بريح عاصفة على حرثه فنسفت ولم يبق منهما شيء.
فتمثل إبليس بصورة راع، وآخر من أعوانه بصورة حارث، وأتياه وهو يصلي وقالا: أقبلت نار فغشيت إبلك فأحرقتها ومن معها، وصاح على غنمك شيطان فهلكت بالمرة، وهبت على حرثك ريح فنسفت وصار كأن لم يكن، فقال أيوب: الحمد لله إنها مال الله أعارينها وهو أولى بها، وقد كنت قدما قد وطنت نفسي ومالي على القضاء.
وبعدما آيس إبليس من هذا الطريق قال: إلهي إنك متعته بأولاد فشكر لك لأجلها، فهل أنت مسلطي على أولاده؛ إذ هي من أعظم المصيبات لا يصبر عليها أحد من الناس؟ فقال: " نعم " ، فأتاهم اللعين وهم مجتمعون في قصر عند معلم أ>يب، فلم يزل يزلزلها ويحركها حتى أسقطها عليهم فأهلكهم بالمرةن فتمثل اللعين بصورة معلهم فأتاه وهو صريخ جزوع، فقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا، ونكسوا إلىحيث سال دمهم ودماغهم وشقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم، فقال أيوب عليه السلام متأوها: ليت أمي لم تلدني، ثم أفاق واستغفر عن ضجرته سريعا.
ورجع خاسئا وقنط اللعني من هذا أيضا، وقال: إليه إنما صبر أيوب عليه السلام على إهلاك أمواله وأولاده، ولازم توجهه نحوك؛ لأنك متعته بصحة البدن وسلامة الجسد، وهل أنت مسلطي على جسده؟ قال سبحانه: " سلطتك على غير لسانه وقلبه، فأتاه فوجده ساجدا، فنفخ في منخره نفخة اشتغل منها جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، فوقعت فيه حكة فلم يزل يحكه حتى قرح جسده وأنتن لحمه، فأخرجه أهل القرية منها، ورفضوه من كان من أرحامه سوى امرأته " رحمة " فتمثل لها إبليس في صورة رجل، فقال لها: أين بعلك؟ هو ذلك يحك قروحه وتردد الديدان في جسده.
فلما سمعتها خيلت أنها كلمة جزع صدرت منه، فذكر لها تغريرا ما كان فيه من النعيم ثم أتى بسخلة، فقال لها: ادفعيها إلى أيوب عليه السلام ليذبح لي حتى يبرأ من السقم فجاءت مع السخلة تصرخ يا أيوب إلى متى يعذبك ربك أين الأموالم والأولاد والوجه الحسن؟! اذبح هذه واسترح، فقال أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك، أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد الصحة من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمنذ كم ابتلينا؟ قالت: سبع سنين وأشهرا، قال: ويلك ما أنصفت لنصبرن في هذا البلاء ثمانين سنة كما لنا في الرخاء، أما تستحين من الله؟! أمرتني أن أذبح لعدو الله، لا أذوق شيئا مما تأتيني به بعد اليوم، اعزلي عني ودعي معي ربي.
فلما ذهبت امرأته ورأى أيوب ليسي عنده طعام ولا شراب ولا صديق، اضطر إلى بث الشكوى مع المولى فسقط ساجدا، وقال مناجيا صارخا ضارعا: { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ص: 41] وسمع حنيئذ من الهاتف: ارفع رأسك فقد استجبت لك، فرفع رأسه وأوحي إليه من قبل ربه { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } [ص: 42].
{ واذكر } يا أكمل الرسل { عبادنآ } الذين هم أجدادك وأسلافك { إبراهيم و } ابنه { إسحاق و } سبطه { يعقوب } واذكر من شمائلهم الجميلة وخصائلهم الحميدة؛ ليتعظ من سماعها ذوو الاعتبار من المؤمنين، ويقتدون بمآثرهم؛ لأنهم كانوا { أولي الأيدي والأبصار } [ص: 45] أي: ذوي القوة في الطاعة والبصيرة في مراسم الدين ومعالم اليقين، ولهم التمكن في مقر التوحيد، والوصول إلى درجات التجريد والتفريد.
ولا بد للذين يلونهم أن يقتدوا بهم، ويسترشدوا من أخلاقهم وآثارهم، ويتصفوا بأوصافهم؛ كي يفوزوا بمعارفهم، وينكشفوا بمكاشفتهم ومشاهدتهم؛ لأنهم قدوة أصحاب التوحيد، وزبدة أرباب الشهود.
وكيف لا { إنآ } من مقام عظيم جودنا معهم { أخلصناهم } وجعلناهم مخصوصين { بخالصة } أي: بخصلة خالصة صافية عن كدر التعلقات الناسوتية، خالية عن شوب مقتضيات القوى الشهوية البشرية، العائقة عن التحقق بمرتبة اللاهوتية ألا وهي { ذكرى الدار } [ص: 46] الدار الآخرة التي هي مقام التمكن في التوحيد والانكشاف بسرائر الوحدة الذاتية، وسريانها في ملابس الأسماء والصفات المقتضية للتعدد والتكثر.
{ و } بالجملة: { إنهم عندنا لمن المصطفين } المنتخبين لحمل أعباء الرسالة { الأخيار } [ص: 47] المنتخبين الصالحين للاتصاف بسرائر التوحيد واليقين؟ أي: أولئك الأنبياء العظام الساعين لطلب الخير في طريق الدين ومرتبة اليقين.
{ واذكر } يا أكمل الرسل جدك { إسماعيل } ابن إبراهيم الخليل، وتذكر تصبره ورجوعه ورسوخه في مقام التفويض والتسليم، راضيا بما جرى عليه من متقضيات ربه، مع أ،ه لم يبلغ الحلم { واليسع } هو ابن أخطوب، استخلفه إلياس النبي على بني إسرائيل، ثم استنبئ { وذا الكفل } هو ابن عم اليسع المذكور، أو بشر بن أيوب، قيل: إنما لقب به؛ لأنه فر إليه مائة من بني إسرائيل، فآواهم وكفلهم { وكل من الأخيار } [ص: 48] أي: كل واحد من الأنبياء المذكورين معدود من الأخيار الأبرار، مثبت في حضرة علمنا ولوح قضائنا مع زمرتهم.
[38.49-54]
{ هذا } الذي يتلى عليكم من الأمر بتذكير أولئك الثقات الكرام { ذكر } جميل وإثبات شريف وكمال لهم، إنما ذكرناهم وأمرناك بذكرهم تنبيها على جلال قدرهم وعظم شأنهم { و } بالجملة: { إن للمتقين } المجتنبين عن محظوراتنا، المتصفين بمأموراتنا، الطالبين لمرضاتنا، الهاربين من سخطنا وانتقاماتنا { لحسن مآب } [ص: 49] عندنا، وخير منقلب ومتاب في كنف جوارنا وساحة عز قبولنا.
{ جنات عدن } عطف بيان " لحسن مآب " ، وهي عبارة عن درجات القرب إلى الوحدة الذاتية، وتجددات التجليات الشهودية على أرباب الكشف والعيان، ولكمال تخفظهم عن مقتضيات القوى ومشتهيات الهوى، وخلوصهم في التوجه نحو المولى، صارت الجنات ودرجات القرب والوصول { مفتحة لهم الأبواب } [ص: 50] أي: مفتوحة الطرق، واضحة السبل بالنسبة إليهم، يدخلون فيها من كل باب بلا منع وحجاب.
وبعد دخولهم فيها، وتحققهم عندها صاروا { متكئين فيها } متمكنين على أرائك القبول وسرر الإخلاص، ولهم فيها ما تشتهي قلوبهم من المعارف المتجددة بتجدد التجليات الحبية المنبعثة من حضرة الرحموت؛ إذ { يدعون فيها بفاكهة كثيرة } من أنواع ما يتفكهون ويتلذذون علما وعينا وحقا { وشراب } [ص: 51] يشربون من رحيق الحق ولا يروون.
{ و } يصور { عندهم } أعمالهم المقبولة وأحوالهم المرضية ومقاماتهم العلية في سلوك طريق التوحيد أزواج أبكار { قاصرات الطرف } عليهم، لا ينظرن إلى غيره { أتراب } [ص: 52] أحداث كلهن مستويات في السن، ليس فيهن صغر ولا كبر، بل كلهن على كمال اللطافة والعدالة؛ إذ كل ما فيها على كمال الاعتدال.
وبعدما تمكنوا فيها وترفهوا بنعيمها، قيل لهم من قبل الحق امتنانا عليهم وتشويقا: { هذا } الذي بين يديكم من النعيم المقيم واللذة الدائمة { ما توعدون } بألسنة الكتب والرسل { ليوم الحساب } [ص: 53] أي: لأجله أو فيه؛ إذ لا وصول إليها إلا بعد الحساب.
ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على الإنعام والانتقام: { إن هذا } المذكور { لرزقنا } المعد لخواص عبادنا، المنجذبين إلينا بانخلاعهم عن لوازم هوياتهم الباطلة، وعن مقتضيات تعيناتهم العاطلة من المأكل والمشرب والمناكح الفانية، فنستبدل لهم بدلها { ما له من نفاد } [ص: 54] أي: رزقا معنويا لا انقطاع له أصلا.
[38.55-64]
خذ { هذا } أيها المتشمر نحو الحق، والراغب إلى ما عنده من موائد الإنعام والإفضال، وكما فضلنا على المطيعين بأنواع التعظيم والتنعيم، وكرمناهم بأنواع الكرامة والتكريم، انتقمنا عن العاصين الجاحدين { وإن للطاغين } الذين طغوا علينا بخروجهم عن مقتضيات حدودنا الموضوعة فيهم، المنبهة إلى مبدئهم ومعادهم { لشر مآب } [ص: 55] وأسوا منقلب ومئاب على عكس المطيعين المتقين.
يعني: { جهنم } البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان { يصلونها } ويدخلون فيها بأنواع حسراتهم والزفرات بين أصناف العقارب والحيات، وأنواع الحشرات المصورة لهم من سيئات أعمالهم التي أتوا بها في دار الاختبار ونشأة الاعتبار، وبالجملة: { فبئس المهاد } [ص: 56] والفراش مهد أصحاب الجحيم وفراشهم.
{ هذا } منقلبهم ومآبهم، ثم بعدما دخلوا في النار، قيل لهم من قبل الحق لخرنة جهنم: { فليذوقوه } أي: كل واحد منهم نزلا لهم شرابا، هو { حميم } وهو الماء الحار الذي يشوي وجوههم ويخرق أمعاءهم، يسخنه نيران شهواتهم التي أتوا بها على خلاف ما أمر الله وحكم عليه { وغساق } [ص: 57] الماء البارد الزمهريري الذي يتجمد في فيهم، وفي أجوافهم، يبرده كمال بلادتهم وجهلهم بالله الحكيم العليم، وبما وضع سبحانه من الحدود والأحكام الصادرة عن محض الحكمة المتقنة المتعلقة لإصلاح أحوالهم، { وآخر } أيضا { من شكله } أو من جنس الشراب المذوق ومثله، أو " وأخر " من أنواعه على القراءتين { أزواج } [ص: 58] أصناف وأنواع، بعضها أسوأ من بعض؛ ليكون عذابا فوق عذاب.
ثم لما اقتحم القادة من أصحاب النار، وأدخلوا أنفسهم عليها خوفا من الموكلين الذين يسوقوهم نحوها بمقامع من حديد، وازدحم عيبهم أتباعهم على الفور، فضيقوا على القادة مكانهم، وصرخوا على الخزنة من تضييقهم، قال الخزنة لهم بعدما سمعوا صيحتهم وصراخهم: { هذا فوج مقتحم } بعدكم، معقبين عليكم مضيقين عليكم، فالتفتوا أثرهم أهؤلاء أتباعنا { معكم لا مرحبا بهم } ولا يوسع عليهم { إنهم } أيضا { صالوا النار } [ص: 59] أي: داخلوها أمثالنا.
ثم لما سمع الأتباع قول قادتهم هذا: { قالوا } على سبيل المعارضة والمخاصمة: { بل أنتم } أيها الضالون المضلون حقا أن يقال لكم: { لا مرحبا بكم } إذ { أنتم } بشؤم إضلالكم وإغرائكم { قدمتموه } اي: الكفر الذي هو سبب دخول النار، وابتدأتموه أولا، ثم أغريتمونا بتغريركم وتضليلكم، حتى كفرنا بسعيكم، وابتلينا بها أمثالكم { لنا فبئس القرار } [ص: 60] أي: بئس مقرنا ومقركم جنهم الطرد والحرمان.
وبعدما بالغ الأتباع في تعيير القادة وتشنيعهم، تضرعوا نحونا داعين على رؤسائهم؛ حيث { قالوا ربنا } يا من ربانا على فطرة التوحيد، وأشركناك بشؤم هؤلاء المشركين المضلين، ونرجو من عدلك { من قدم لنا هذا } ودلنا عليه بتغريره { فزده عذابا ضعفا } أي: ضعف عذابنا { في النار } [ص: 61] إذ نحن ضالون، وهم ضالون مضلون.
{ وقالوا } أي: الرؤساء القادة بعدما توغلوا في ألوان العذاب على سبيل التحسر والتقريع على أنفسهم: { ما لنا } أي: أي: شيؤء عرض لنا، ولحق بأبصارنا { لا نرى رجالا } فقراء أراذل بيننا، أحاطتهم أنواع الفاقة والعناء كذلك { كنا نعدهم من الأشرار } [ص: 62] الأراذل الساقطين عن درجة الاعتبار، وبالغنا في طردهم.
حيث { أتخذناهم سخريا } واستهزأنا معهم تهكما وتقريعا، لا نرى اليوم منهم أصلا في النار، أهم مايدخلون النار كما هو دعواهم { أم } هم أيضا داخلون، لكن { زاغت عنهم الأبصار } [ص: 63] أي: مالت عن رؤيتهم أبصارنا، واحتجبوا منا؛ يعنون بهؤلاء الرجال: فقراء المسلمين الذين استرذلوهم واستهزءوا معهم.
ثم قال سبحانه على سبيل المبالغة والتأكيد: { إن ذلك } الذي حكينا عن أهل النار { لحق } مطابق للواقع، لا بد أن يتكلموا به حين دخولهم فيها، وهو { تخاصم أهل النار } [ص: 64] في النار على الوجه الذي ذكر.
[38.65-74]
ثم لما بالغ سبحانه في حقية ما حكى عن أهل النار، أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بأن بلغ للأنام التوحيد المبعد لهم عن النار والعذاب المؤبد فيها، فقال: { قل } يا أكمل الرسل للمشركين المستحقين لعذاب النار إنقاذا لهم عنها، وإن قبلوا منك قولك: { إنمآ أنا منذر } لكم بإذن الله ووحيه عن أمثال ما ذكر من العذاب في النشأة الأخرى { و } أعلموا أنه { ما من إله } يعبد بالحق، ويرجع إليه في الخطوب، ويلتجأ نحوه في النوائب والمصائب { إلا الله الواحد } الأحد الصمد الحي القيوم الذي لا شريك له في الوجود، ولا شيء غيره في الشهود { القهار } [ص: 65] للأغيار مطلقا؛ إذ
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون
[القصص: 88] رجوع الأظلال إلى الشمس، والأمواج إلى البحر.
وهو بتوحيده واستقلاله { رب السموت والأرض وما بينهما } أي: مظهر كل ما في العلو والسفل وما في حشوهما، والمحاط بهما؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود، وكيف لا وهو { العزيز } الغالب على أمره في خلقه وحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ إذ هو { الغفار } [ص: 66] الستار المحاء لهويات الأغيار، وهياكل الأظلال الغير القار.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما بينت لهم توحيد الحق، واستقلاله في تصرفاته وتدابيره: { هو } أي: الذي بلغت لكم بوحي الله من إحاطة الحق، وشموله لجميع ما لمع عليه بروق تجلياته { نبأ عظيم } [ص: 67] وخبر خطير، يخبركم به الحق، وينبهكم عليه من كمال إعطافه وإشفاقه؛ لينقذكم به عن عذابه المترتب على كفركم وشرككم.
{ أنتم } من كمال توغلكم في الجهل والظلال { عنه معرضون } [ص: 68] مع أنه أنفع لكم وأصلح بحالكم، وهو سبحانه أعلم بشأنكم منكم، ويمقتضى علمه بحالكم، أنزل كتابه عليكم ليرشدكم إلى جهة معرفته ووجهة توحيده، ومالي إلا تبليغ ما أوحي إلي كسائر الرسل.
إذ { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى } أي: الملائكة السامويين { إذ يختصمون } [ص: 69] وقت خلافة آدم ونبوته ونيابته، فألهمني الله بوحيه ما جرى عليهم من الحجج والمعارض، وإفحامهم بعد جدالهم واصطفاء الله إياه، وأمرهم بسجوده تكريما وتعظيما.
وبالجملة: { إن يوحى } إي: ما يوحى { إلي } من عند ربي { إلا أنمآ أنا نذير مبين } [ص: 70] أي: إنما أنا منذر لكم عن أن يفتنكم الشيطان وجنوده المرتكزة في هياكلكم، فيضلوكم عن سبل السلامة وطرق الاستقامة الموصلة إلى وحدة ذات الحق وكمال أسمائه وصفاته.
اذكر يا أكمل الرسل { إذ قال ربك } الذي رباك على مقتضى الجمعية المنتهية إلى الوحدة الذاتية التي جئت لإظهارها وإيضاح منهجها { للملائكة } المهيمين بمطالعة وجهه الكريم على سبيل المشورة معه؛ ليظهر كرامة آدم وجلالة قدره: { إني } بمقتضى بدائع صنعتي وغرائب قدرتي { خالق } أي: مظهر موجد { بشرا } أي: جسدا متخذا { من طين } [ص: 71] ليكون مرآة يتراءة فيها عموم أوصافي وأسمائي.
{ فإذا سويته } وعدلت قالبه على الوجه الذي جرى في حضرة علمي ولوح قضائي { ونفخت فيه } بعد تعديله { من روحي } أي: أفيض عليه من حياتي ومن مقتضيات أسمائي وصفاتي؛ ليستحق بخلافتي ونيابتي، ويظهر فيه ومنه آثار أسمائي وصفاتي { فقعوا له } وخروا عنده؛ لتعظميه وتكريمه { ساجدين } [ص: 72] متذللين له، واضعين جباهكم على تراب المذلة دونه.
ثم لما سمع الملائكة منه سبحانه ما سمعوا { فسجد } له { الملائكة كلهم أجمعون } [ص: 73] امتثالا للأمر الوجوبي { إلا إبليس } المعدود من عدادهم، والمنخرط في سلوكهم { استكبر } عن سجوده وتعظيمه { وكان من الكافرين } [ص: 74] بترك الانقياد للأمر الإلهي.
[38.75-81]
ثم لما امتنع إبليس عن إطاعته وتعظيمه مع ورود الأمر الوجوبي من قبل الحق { قال } معاتبا عليه مناديا له سائلا عن سبب امتناعه: { يإبليس } المستكبر المتخلف عن أمرنا { ما منعك أن تسجد } أي: أي شيء منعك عن سجود التكريم { لما خلقت بيدي } وصورته بقدرتي، وبمقتضى صورتي، وبكمال حولي وقوتي؛ ليكون مرآتي ويليق بخلتي وخلافتي { أستكبرت } عن طاعة حكمنا وامتثال أمرنا { أم كنت } احتسبت نفسك { من العالين } [ص: 75] المتفوقين عليه، بحيث لا يجوز لنفسك أن تتذلل عنده وتنقاد له؟.
وبعدما سمع اللعين منه سبحانه الخطاب المشتمل على أنواع العتاب { قال } اللعين بعدما اختار الشق الثاني من الترديد: { أنا خير منه } صورة ومادة؛ إذ { خلقتني } بكمال قدرتك { من نار } هي أعلى العناصر وأرفعها قدرا وإمكانا { وخلقته من طين } [ص:76] هي أسفل العناصر وأرذلها قدرا وأدناها مكانا، والأمر بسجود الأفضل الأعلى للأرذل الأدنى غير موافق ومطابق لحكمتك المتقنة.
ثم لما خرج إبليس عن ربقة الإطاعة التعبدية، وأتى بالحجة الإقناعية الجدلية { قال } سبحانه مغاضبا عليه من كمال غيرته وقهره: أنى يطيق أحد من مظاهره ومصنوعاته أن يخالف أمره ويحتج عليه؟ { فاخرج منها } أي: من مرتبة الملكية وأعلى مرتبة العبودية { فإنك رجيم } [ص: 77] مرجوم مطرود عن سعة رحمتنا، وشرف عز حضرتنا، { وإن عليك لعنتي } أي: طردي وتبعيدي عن ساحة عز قربتي، مستمرة عليك { إلى يوم الدين } [ص: 78] وبعد ذلك عذابك مؤبد أبد الآبدين.
ثم لما قنط إبليس عن روح الله وسعة رحمته { قال } بعدما آيس مناجيا: { رب } يا من رباني على فطرة الإطاعة، فعصيت أمرك بشؤم عجبي ونخوتي { فأنظرني } وأمهل علي، بعدما بعدتني عن كنف قربك وجوارك، وطردتني عن محل كرامتك وجودك { إلى يوم يبعثون } [ص: 79].
{ قال } سبحانه: { فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } [ص: 80-81] وهو النفخة الأولى.
[38.82-88]
وبعدما أنظره سبحانه وأنجح مسئوله { قال } إبليس مقسما مبالغا في التهديد لبني آدم: { فبعزتك } وجلالك { لأغوينهم } أي: لأضلن بني آدم عن جادة التوحيد { أجمعين } [ص: 82] إذ لا يسع لهم أن يسدوا مداخلي فيهم، وطرق مخادعتي إياهم.
{ إلا عبادك منهم المخلصين } [ص: 83] وهم الموقنون المخلصون، الذين أخلصوا في عموم أعمالهم وأحوالهم معك، واعتصموا بحبل توفيقك، راجعين رحمتك وضوانك، هاربين من سخطك بلا ميل لهم إلى ما يلهيهم عن ربهم.
{ قال } سبحانه في جوابه إظهارا لكمال الاستغناء والقدرة { فالحق } ما قلت لك في هذه النشأة يا معلون، من الطرد والتبعيد، وإنظارك فيما بينهم للاختبار والاعتبار { والحق أقول } [ص: 84] أي: أقول الحق أيضا فيما يترتب على إغوائك وإغرائك إياهم، واتباعهم لك، وما يترتب على متابعتهم في النشاة الأخرى.
وهو هذا: والله { لأملأن جهنم } المشتملة على الأودية السبعة، المملوءة من نار الخذلان والحرمان، المعدة لأصحاب الشقاوة الأزلية من المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية ، الضالين عن صراطه السوي { منك } أي: من جنسك الذي هم من الجن { وممن تبعك منهم } أي: من جنس الإنس { أجمعين } [ص: 85] تابعا ومتبوعا، ضالا ومضلا.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما بلغت ما يوحى إليك من الحق الصريح على وجهه بلا خلط وخبط وزيادة ونقصان كلاما ناشئا عن محض الحكمة والعدالة: { مآ أسألكم } أيها المكلفون { عليه } أي: على تبليغي إياكم ما أمرت بتبليغه { من أجر } أي: جعل ومال على عادة أصحاب التلبيس من المتشيخين، اللذين هم من أعونة إبليس وأنصاره { ومآ أنآ } أيضا { من المتكلفين } [ص: 86] المتصفين بخصائل ليست فيهم على سبيل التلبيس والتدليس.
بل { إن هو } أي: ما هذا القرآن المنزل علي { إلا ذكر } أي: عظة وتذكير { للعالمين } [ص: 87] من الثقلين المكلفين بالهداية والإيمان والتوحيد والعرفان.
{ ولتعلمن } أيها المتذكرون بتذكيراته، والمعرضون عنها { نبأه } أي: صدق إخباره ومواعيده ووعيداته، وما يترتب عليها وعلى قصصه وأحكامه، وما ينكشف من حكمه ورموزه وإشارته { بعد حين } [ص: 88] أي: بعد انخلاعكم عن لوازم ناسوتكم، واتصافكم بخلع اللاهوت في النشأة الأخرى، حين تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، وترتفع الجب والأستار، فاعتبروا الآن يا أولي الأبصار، وذوي الاعتبار ما فيه من السرائر والأسرار.
خاتمة السورة
عليك أيها السائلك المتأمل في مرموزات القرآن، والمتدبر في درك إشاراته الخفية تحت أستار ألفاظه وأحكامه المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن، وتصفية السر عن التوجه نحو الغير مطلقا، أن تعرف أولا ما في نفسك من أعونة الشيطان وجنوده الأمارة بالسوء، المزعجة لك إلى قبول مأموراتها المقتضية للبعد عن جادة العدالة التوحيدية الإلهية، التي هي صراط الله الأقوم، وتجاهد معها مهما أمكنك وأعانك الحق ووفقك لتسخيرها إلى أن صارت مغلوبة لك مقهورة تحت قهرك، حسبما يسر الله ووفقك على غلبته.
ثم بعد ذلك نبع من صدرك ينابيع الحكمة المترشحة من بحر الوحدة الذاتية، وجرى على لسانك ما أراد الله جريه وشاء، بعدما أفناك عنك، وأبقاك ببقائه، وصار سبحانه قلبك وسمعك وبصرك وجميع قواك، وحينئذ اجتامع الفرق، وارتبق الفتق، واتحد الظهور والبطون، وانطوى الأزل والأبد، واتصل الأول والآخر والظاهر والباطن.
وبالجملة: هو بكل شيء عليم ليس كمثله شيء ولا معه حي، وهو الحي القيوم السميع العليم.
[39 - سورة الزمر]
[39.1-4]
{ تنزيل الكتاب } المبين لطريق التوحيد، المنبه على وحدة الحق وكمالات أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى { من الله } المدبر لجميع ما جرى في ملكه وملكوته؛ إلا لا منزل في الوجود سواه سبحانه { العزيز } الغالب في أمره بالاستقلال والاختيار { الحكيم } [الزمر: 1] المتقن في فعله حسب علمه المحيط وقدرته الشاملة وإرادته الكاملة.
وبعدما بين سبحانه أمر التنزيل عموما أشار إلى التنزيل المخصوص المتمم المكمل لأمر التنزيل والإنزال مطلقا فقال: مشيرا إلى عظم قدر المنزل إليه، وجلالة شأنه، ورفع رتبته ومكانه: { إنآ } من مقام عظيم جودنا { أنزلنآ إليك } يا أكمل الرسل تعظيما لشأنك وتأييدا لأمرك { الكتاب } الجامع لجميع ما في الكتب السالفة، مع زوائد خلت عنها كلها ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع بلا شوب شك وريب في نزوله منا { فاعبد الله } الذي اصطفاك لرسالته وخصصك بكتابه، هذا حال كونك شاكرا لنعمه، معترفا بكرمه { مخلصا } في عبوديتك وعبادتك إياه، مجتنبا عن مداخل الشرك ورعونات الرياء مطلقا؛ إذ { له الدين } [الزمر: 2] أي: لا مستحق للإطاعة الخالصة والانقياد الصافي سواه، ولا يعبد بالحق إلا إياه.
وبعدما أمر سبحانه بالعبادة والإخلاص في الإطاعة والانقياد، نبه على عموم عباده بالإخلاص في الطاعات، والخلوص في نيات العبادات، فقال: { ألا لله الدين الخالص } أي: تنبهوا أيها المجبولون على فطرة التوحيد أن الدين الذي كلفكم الحق عليه، واوجبه عليكم، هو الدين الخالص عن أمارات الشرك ومقتضيات الهوى، الصافي عن شوب العجب والسمعة وشين الرياء، وبعدما وضح أن الدين الخالص لله، ولا مستحق له سواه.
{ والذين اتخذوا من دونه أوليآء } أي: والمشركون الذين ادعوا الولاؤة لغير الله، واستحقاق الإطاعة والانقياد لسواه، قالوا في تعليل اتخاذهم حين سئلوا عنه ونجوا عليه { ما نعبدهم } أي: هؤلاء الغرانيق العلا التي هي الأصنام والأوثان، وجميع ما يعبد من دونه سبحانه { إلا ليقربونآ إلى الله زلفى } أي: تقريبا كاملا؛ لأنهم كملة مقبولون عنده، مكرمون لديه سبحانه، فنتوسل بهم ؛ لنصل إلى قرب الحق وجواره.
لا تبالوا أيها الموحدون المتمسكون بحبل التوفيق الإلهي بقولهم هذا، ولا تلتفوا إلى أبطاليهم الزائغة { إن الله } المطلع لما في ضمائرهم من الشرك والعناد على سبيل الرشاد والثبات { يحكم بينهم } وبينكم بمقتضى علمه وخبرته { في ما هم فيه } من الشرك { يختلفون } معكم أيها الموحدون بأن يدخلهم في النار بأنواع المذلة والهوان، ويوصلكم إلى الجنة بالمغفرة والرضوان، وكيف لا يدخل سبحانه المشركين النيران بأنوع الخزي والهوان { إن الله } الحكيم المتقن في أفعاله { لا يهدي } أي: لا يوفق على الهداية والرشاد { من هو كاذب } في حق الله ومقتضى ألوهيته وربوبيته، واستقلاقه في ملكه وملكوته { كفار } [الزمر: 3] بنعمه الموهوبة له من فضله وكرمه.
حيث أثبت له سبحانه شريك وولدا مع أنه { لو أراد الله } الواحد الأحد الصمد، المستقل في الألوهية والوجود، المنزه عن الأهل والولد { أن يتخذ ولدا } ويختار صاحبة { لاصطفى } واختيار { مما يخلق } أي: من بين سائر مخلوقاته في جميع شئونه وحالاته { ما يشآء } أولى وأنسب له، وأليق بشأنه من مريم وعيسى، فكيف من الأصنام والأوثان { سبحانه } أي: تعالى شأنه وتنزه ذاته الواحد الأحد الصمد الذيل لم يلد ولم يولد عن إيجاد الصاحبة والولد، بل { هو الله الواحد } من جميع الوجوه، المستقل بالألوهية والوجود { القهار } [الزمر: 4] لعرق السوى والأغيار مطلقا قطعا لعرق الشركة عن أصله.
[39.5-6]
وبمقتضى توحيده سبحانه وقهره، وإظهار كمالات المندمجة في وحدة ذاته باعتبار شئونه وتطوراته اللازمة للحي الأزلي الأبدي { خلق السموت والأرض } أي: قدر وأعد الأسماء الذاتية الفعالى، المنعكسة من شئونه الذاتية والأوصاف القابلة المنفعلة من تلك الأسماء المظهرة لآثارها ملتبسا { بالحق } المطابق للواقع، ولا ينبغي أن يرتاب فيه أحد بعدما انكشف بسرائر الوجود والتوحيد حسب الود الإلهي، وبمقتضى هذا الازدواج المعنوي الجاري بين الأوصاف والأسماء الإلهية { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } أي: يغشي ويغيب سبحانه على وجه التلفيف والتخليط أضواء الأسماء والصفات بظلام الهيولي والتعينات في النشأة الأولى، فكذلك يغطي ويغيب في النشأة الأخرى حجب الطبائع وأظلال الهويات بأشعة أنوار الذات المنتشئة منها، بمقتضى الشئون والتطورات المثبتة للأسماء والصفات الإلهية.
{ و } بعدما كمل أمر الظهور والإظهار، وانبسط على عروش ما ظهر وبطن بالاستيلاء والاستقلال { سخر الشمس } أي: جذب وقبض نحوه سبحانه بمقتضى الجاذبة المعنوية الحبية الكاملة الوجود المطلق، الفائض على هياكل الموجودات المنعكسة من الأسماء والصفات الإلهية { والقمر } أي: الهويات القابلة لانعكاس شمس الذات المستخلفة عنها، إظهارا لكمال قدرته ومتانة حكمته؛ لذلك { كل } من كل أهل العناية { يجري } يكون ويدوم في مكانه ومكانته من التعينات موقوف { لأجل مسمى } أي: إلى حلول أجل معين مقدر من عند ربه بمقتضى جذبه وعنايته، فإذا حل الأجل، انقطع الجري والسير وارتفع السلوك.
{ ألا } أي تنبهوا أيها الأظلال الهالكة في شمس الذات { هو } أي: الموصوف بهذه الصفات الكاملة { العزيز } المنيع ساحة عز ذاته عن أن يحوم حول سرادقات عزه وجلاله بإدراك العقول المتحيرة والأوهام المدهوشة، لكنه { الغفار } [الزمر: 5] الستار لغيوم تعيناتكم بإشراق شمس الذات، وانقهار جميع ما لمع عليه نور الوجود على مقتضى جلاله وتفرده في نعوت كماله.
{ خلقكم } أي: أظهركم وأوجدكم بالتجليات الجمالية { من نفس واحدة } وهي طبيعة العدم القابلة لانعكاس أشعبة نور الوجود { ثم جعل } وإظهر { منها زوجها } إبقاء للتناسل، وتتميما للأزدواجات الغير المتناهية حسب الأسماء والصفات المتقابلة، الغير المتناهية الإلهية، إظهارا لكمال القدرة.
{ و } بعدما أتم سبحانه أمر إيجادكم وإثباتكم { أنزل لكم } أي: قسم وقضى لأجلكم تتميما لأمور معاشكم عناية منه وتكريما { من الأنعام } المناسبة لتغذيتكم وتقوية أمزجتكم { ثمانية أزواج } ذكرا وأنثى على مقتضى جبلتكم لتدوم بدوامكم، وهي الأصناف الثمانية المذكورة في سورة الأنعام، هذا في ظهوركم وبروزكم في عالم الشهادة، وفي عالم الغيب والبطون { يخلقكم } ويقدر موادكم { في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } أي: تقديرا بعد تقدير أعجب وأغرب من سابقه؛ بأن قدركم أولا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم سواك إنسانا، ونفخ فيكم روحا من روحه، وبالجملة: أظهركم بعدما أخفاكم مدة { في ظلمات ثلاث } هي أصلاب آبائكم وحجب تعيناتكم وبطون أمهاتكم.
{ ذلكم } الذي فعل بكم هذه الأفعال الجميلة المتقنة { الله } المستقل بالألوهية والتصرف في ملكه وملكوته { ربكم } الذي رباكم وأحسن تربيتكم لا مربي لكم سواه؛ إذ { له الملك } الملكوت خاصة لا يشارك في ملكه، ولا ينازع في سلطانه وشأنه، فظهر أنه { لا إله } يعبد له ويرجع إليه في الخطوب { إلا هو } الواحد الأحد الصمد الحقيق بالحقية، المستحق بالألوهية والربوبية { فأنى تصرفون } [الزمر: 6] وتعدلون أيها المشركون المنحرفون عن جادة توحيده.
[39.7-8]
مع أنكم أيها الأظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال { إن تكفروا } بالله، وتنكروا ظهوره واستيلاءه على ما ظهر وبطن بالاستقلال { فإن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { غني عنكم } وعن إيمانكم وإطاعتكم { و } غاية ما فيه أنه عز شأنه { لا يرضى } ولا يحب { لعباده } الذين ظهروا منه سبحانه بمقتضى أوصافه وأسمائه { الكفر } والجحود بذاته سبحانه، عطفا لهم وترحما عليهم؛ لأنهم جبلوا على فطرة الإيمان والعرفان، وإلا فهو سبحانه أعز وأعلى من أن يفتقر إلى إيمان أحد وإطاعته، أو يتضرر بكفره وإنكاره { وإن تشكروا يرضه لكم } أي: وكذا غني عنكم وعن شرككم نعمه الفائضة عليكم؛ إذ لا يعلل فعله سبحانه بالأغراض والأعواض، لكن يرضى عنكم لو شكرتم نعمه، ويزيد عليكم بأضعافها لإتيانكم بالمأمور وامتثالكم أمره، مع أن نفع شرككم عائد إليكم.
{ و } بالجملة: لا بد لكل واحد من المكلفين أن يمتثلوا بما أمروا من عنده سبحانه، حتى يصلوا ما وعدوا من المثوبات والكراما، واجتنبوا عما نهوا أيضا عنه؛ ليخلصوا من المهالك والدركات؛ إذ { لا تزر } تحمل نفس { وازرة } مرتكبة بحمل أثقال الأوزار والآثام { وزر } نفس { أخرى } كما لا تتصف بحسناتها { ثم } بعد انقضاء النشأة الأولى { إلى ربكم مرجعكم } كافة كما كان منشأكم { فينبئكم } ويخبركم سبحانه بعد رجوعكم إليه { بما كنتم تعملون } أي: بجميع ما جرى عليكم من سيئاتكم وحسناتكم، بلا فوت شيء منها، ويجازيكم على مقتضاها، وكيف لا يخبركم ويحاسبكم بأعمالكم { إنه } بذاته { عليم بذات الصدور } [الزمر: 7] أي: بجميع الأمور الكائنة المكنونة في صدور عباده؛ أي: بما خفي في ضمائرهم ونياتهم، فكيف بما صدر عن جوارحهم وآلاتهم.
وبعدما نبه سبحانه إلى أحوال عباده، شرع يعد مساوئهم وأخلاقهم الذميمة الناشئة من بشريتهم وبهيمتهم، فقال: { وإذا مس الإنسان } أي: لحقه وأحاط به { ضر } مؤلم مزعج { دعا ربه } متضرعا نحوه { منيبا إليه } إذ لا مرجع له سواه، ملحا لكشفه وإزالته { ثم إذا خوله } سبحانه وأزال عنه كربه وضره، وأعطاه وأفاض عليه متعهدا له، متفقدا حاله { نعمة } موهوبة له { منه } أي: من لدنه سبحانه تفضلا وتكريما إياه { نسي } ونبذ وراء ظهره { ما كان يدعو إليه من قبل } عن شدة ضره، وسورة كربه.
{ و } مع ذلك لم يقتصر على النبذ والنيسان، بل { جعل } وأثبت { لله } الصمد المنزه عن الضد والند { أندادا } وادعاهم شركاء له سبحانه، وإنما جعل وفعل كذلك { ليضل } الناس الناسين عهود ربهم { عن سبيله } ويحرفهم عن طريق توحيده، ساعيا في إغوائهم وإضلالهم، مجتهدا فيه.
{ قل } يا أكمل الرسل نيابة عنا مهددا إياه: { تمتع } أيها الضال المضل { بكفرك } هذا في نشأتك هذه { قليلا } زمانا قليلا، ومدة يسيرة { إنك } ألبتة في النشأة ا لأخرى { من أصحاب النار } [الزمر: 8] أي: من ملازميها، ومن جملة ما فيها.
[39.9-10]
ثم قال سبحانه: { أمن هو قانت } أي: يتعجب المشرك المثبت لنا شركاء وأندادا من تهديدنا إياه بالنار وعذابها، فيظن أن من هو قائم على أداء العبادات، مواظب عليها { آنآء اليل } أي: في خلاله وأطراف النهار { ساجدا } متذللا واضعا جبهته على تراب المذلة من خشيتنا { وقآئما } على قدميه مدة متطاولة تعظيما لأمرنا، مع أنه { يحذر الآخرة } أي: العذاب الأحق فيها بمقتضى جلالنا وسخطنا { ويرجوا رحمة ربه } على مقتضى لطفه وجلاله وجماله كهؤلاء الكفرة بالله، الجهلة بشأنه، المتخذين له سبحانه أندادا ظلما وزورا، مع تعاليه عنه سبحانه.
وبعدما تفرست يا أكمل الرسل منهم هذا الظن والتسوية { قل } لهم على سبيل التبكيت والإلزام، مستفهما أياهم على سبيل التوبيخ والتقريع: { هل يستوي } المكلفون { الذين يعلمون } الحق بذاته وأسمائه وأوصافه، ويعبدون له سبحانه بمقتضى علمهم به، وبأوامره ونواهيه { والذين لا يعلمون } ذاته ولا شيئا من أوصافه وأسمائه، ولا يعبدون له أيضا؟ كلا وحاشا، من أين تتأتى المساواة ، فشتان ما بين العالم والجاهل، والعابد والعاصي، إلا أنه { إنما يتذكر أولوا الألباب } [الزمر: 9] أي: ما يتذكر ويتعظ بأمثال هذه المواعظ والتذكيرات المنبهة على سرائر التوحيد، إلا أولو الألباب الناظرون إلى لب الأمور، المعرضون عن قشوره.
{ قل } يا أكمل الرسل نيابة عنا مناديا لخلص عبادنا: { يعباد } أضافهم إلى نفسه اختصاص وتكريما { الذين آمنوا } منكم بوحدة ذاتي وظهوري حسب شئوني وتطوراتي بمقتضى أسمائي وصفاتي، مقتضى إيمانكم التقوى عن مقتضيات الهوى { اتقوا ربكم } واجتنبوا عن محارمه ومنهياته، واتصفوا بمأموراته، واعلموا أنه { للذين أحسنوا } الأدب مع الله { في هذه الدنيا } التي هي نشأة الاعتبار والاختيار { حسنة } وبأضعافها وآلافها أيضا في الآخرة التي هي دار القرار، فاعتبروا يا أولي البصائر والأبصار.
فعليكم الإتيان بالإحسان في كل حين وأوان وزمان ومكان { و } لا تفتروا عنه، وعن المواظبة عليه بتفاقم الأحزان وتلاطم أمواج الفتن في الأوطان؛ إذ { أرض الله } المعدة لأداء العبادات والاشتغال بالطاعات { واسعة } فسيحة، فعليكم الجلاء لأجل الفراغ والخلاء، فتهاجروا إليها متحملين ما لحقكم من الشدائد والمتاعب في الانتقال، صابرين على مفارقة الأوطان والخلان، ومصادفة الكروب والأحزان، واعلموا { إنما يوفى الصابرون } المتحملون لأنواع الشدائد والمشاق في طريق الإيمان { أجرهم } ويوفر عليهم الحسنات وأنواع المثوبات والكرامات { بغير حساب } [الزمر: 10] إلى توفية وتوفير لا يمكن ضبطه بالعد والإحصاء تفضلا عليهم وتكريما.
وفي الحديث صلوات الله على قائله:
" تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج، فيوفون بها أجورهم، ولا ينصب لأهل البلاء، بل يصب عليهم الأجر، وحتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ".
[39.11-16]
ثم قال سبحانه آمرا لحبيبه بالتوصية والتبليغ لعموم عباده كلاما ناشئا عن محض الحكمة، خاليا عن رعونات الرياء، متمحضا للنصح والتكميل: { قل } يا أكمل الرسل { إني أمرت } من قبل ربي { أن أعبد الله } حق عبادته، وأطيعه حق إطاعته { مخلصا له الدين } [الزمر: 11] والانقياد الصادر مني، لأتسبب بإطاعتي وانقيادي على وجه الإخلاص كي أعرفه حق معرفته، ويفيض على قلبي زلال توحيده وكرامته.
{ وأمرت } أيضا من عنده { لأن أكون أول المسلمين } [الزمر: 12] أي: أسبق المسلمين المفوضين أمورهم كلها إليه، منخلعين عن لوازم بشريتهم ومقتضيات أهوية هويتهم. ثم { قل } يا أكمل الرسل { إني } مع كمالم وثوقي بكرم الله وسعة رمته ووفور فضله وجوده علي { أخاف } خوفا شديدا { إن عصيت ربي } وخرجت عن عروة إطاعته وانقياده { عذاب يوم عظيم } [الزمر: 13] فظيع؛ لعظم ما فيه من الجزاء المترتب على الجرائم العظام.
وبعدما بلغت ما بلغت { قل } يا أكمل الرسل على وجه الحصر والتخصيص: { الله أعبد } لا غير؛ إذ لا غير معه { مخلصا له ديني } [الزمر: 14] حسب وعي وطاقتي.
{ فاعبدوا } أيها المنهمكون في بحر الغي والضلال { ما شئتم من دونه } سبحانه بمقتضى أهويتكم الفاسدة وآرائكم الكاسدة، واعلموا أنه ما يترتب على عبادة غير الله إلا الخيبة والخسران { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } بعبادة غير الله والانحراف عن جادة توحيده، { و } خسروا { أهليهم } أيضا بالإغواء الإضلال { يوم القيامة } المعدة لجزاء الأعمال { ألا ذلك هو الخسران المبين } [الزمر: 15] والحرمان العظيم، نعوذ بك منه يا ذا القوة المتين.
وكيف لا يكون خسران المشركين مبنيا وحرمانهم عظيما؛ إذ { لهم من فوقهم ظلل } وأطباق { من النار ومن تحتهم ظلل } كذلك بالنسبة إلى من في الطبقة السفلى؛ لأن دركات النيران مثل دركات الإمكان متطابقة بعضها فوق بعض، فيكون سكانها أيضا كذلك { ذلك } العذاب الذي سمعت وصفه { يخوف الله به عباده } في دار الاختبار، ويحذرهم عنه، ثم ناداهم؛ ليقبلوا إليه ويعتبروا من تخويفه، فقال: { يعباد فاتقون } [الزمر: 16] واحذروا من بطشي وتعذيبي.
[39.17-20]
{ و } المؤمنون الموحدون { الذين اجتنبوا الطاغوت } المبالغ في الطغيان والعدوان، وهي الشيطان المضل المغوي، واستنكفوا { أن يعبدوها } ويقبلوا منها وسوستها، ويصغوا إلى إغوائها وتغريرها { و } مع ذلك { أنابوا } ورجعوا { إلى الله } في النشأة الأولى على وجه الإخلاص والخوضع، نادمين عما صدر عنهم من الجراءة والجريمة { لهم البشرى } في النشأة الأخرى بالدرجة العظمى.
{ فبشر } بها يا أكمل الرسل { عباد * الذين يستمعون القول } [الزمر: 17-18] الحق الذي صدر منا، ولا يمترون فيه، بل { فيتبعون أحسنه } ويتمثلون بما أمروا به، ويجتنبون عما نهوا عنه { أولئك } السعداء الموفقون على استماع قول الحق والامتثال به، هم { الذين هداهم الله } إلى طريق توحيده، ووفقهم إلى الفناء فيه والبقاء ببقائه { و } بالجملة: { أولئك هم أولوا الألباب } [الزمر: 18] الواصلون إلى لب اللباب.
ثم قال سبحانه على وجه التنبيه والتأديب: { أفمن حق عليه كلمة العذاب } أتسعى وتجتهد يا أكمل الرسل في تخليص من ثبت منا في سابق قضائنا وحضرة علمنا الحكم بتعذيبه؛ يعني: أبا لهب وولده وأتباعه { أفأنت تنقذ من في النار } [الزمر: 19] أي: أتظن وتعتقد في نفسك أنك تقدر على إنقاذ من هو مخلد في نار جهنم بمقتضى قهرنا وجلالنا، فلا تتعب نفسك فيما ليس في وسعك؛ إذ لا بدل قولنا، ولا يغير حكمنا.
{ لكن } المؤمنين { الذين اتقوا ربهم } في جميع شئونهم وحالاتهم، خائفين من قهره وغضبه، راجين رحمته { لهم } عند ربهم { غرف } درجات علية { من فوقها غرف } درجات أعلى منها، كأنها منزال { مبنية } على الأرض، بعضها فوق بعض على تفاوت طبقاتهم في مراتب القرب { تجري } على التعاقب والتوالي { من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات على مقتضى الجود والإلهي، وما كان ذلك إلا { وعد الله } الذي وعدها لخلص عباده الذين سلكوا في سبيله، متعطشين إلى زلال توحيده، فله أن ينجزه حتما؛ إذ { لا يخلف الله } القادر المتقدر على جميع ما شاء وأراد { الميعاد } [الزمر: 20] الذي وعده للعباد سيما لأهل العناية منهم.
[39.21-22]
أتتعجب وتستبعد من الله إنجاز المواعيد الموعودة من عنده؟! { ألم تر } أيها المعتبر الرائي { أن الله } القادر المقتدر بالإرادة والاختيار { أنزل } وأفاض بمقتضى جوده المعهود { من السمآء } أي: عالم الأسماء والصفات { مآء } أي: حياة مترشحة من عين الوجود، وبحر الذات { فسلكه ينابيع } أي: أدخله في ينابيع التعينات، والهويات المنعكسة من تلك السماء والصفات، وأجراه { في الأرض } أي: الأرض الطبيعية القابلة لقبول الآثار الفائضة { ثم } بعد إخراجه عليها { يخرج به } يمقتضى حكمته المتقنة { زرعا } أي: هياكل أنواعا، وأصنافا مثمرة ثمر العقائد والمعارف والحقائق { مختلفا ألوانه } حسب اختلاف الاستعدادات الفائضة عليها من عنده.
{ ثم يهيج } أي: بعدما ظهر منها ما ظهر، وترتب عليها ما ترتب، يجف وييبس إلى حيث يذهب نضارتها ورواؤها المترتب على الإمداد الإلهي { فتراه } حنيئذ { مصفرا } مشرفا على الانهدام والانعدام { ثم يجعله } يقبض ما فيه من رشاشات الحياة { حطاما } فتاتا ورفاتا، تذروه رياح الآجال، وتعيده إلى ما عليه من العدم { إن في ذلك } المذكور { لذكرى لأولي الألباب } [الزمر: 21] أي: تذكيرا بليغا، وبرهانا قاطعا على وجوب وجود من هو منبع الجود، ومبدأ جميع الموجود، لا يطرؤه زوال، ولا يعرضه انتقال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، إلا أنه يتذكر به، ولا يتنبه منه إلا أولوا الألباب، الناظرون بنور الله على لب الأمور، المعرضون عن قشوره.
ثم قال سبحانه: { أفمن شرح الله صدره للإسلام } يعني: أيستوي من وسع الله قلبه بنزول توحيده، ووفقه لقبل شرائع الإسلام ومعالم الدين المبين لدلائل التوحيد واليقين { فهو } بواسطة تشرح الله وتوفيقه أياه { على نور } انكشاف تام يقين كامل { من ربه } بحيث يفنى فيه، ويبقى ببقائه، وينظر بنوره، ومن طبع الله على قلبه، وختم على سمعه وبصره، فأعماه عن إبصار آيات وجوب وجوده، وأصمته عن استماع دلائل توحيده؟! كلا وحاشا.
بل { فويل } عظيم، وعذاب شديد معد { للقاسية } المضيقة المكدرة { قلوبهم من } سماع { ذكر الله } واستماع ما نزل من عنده من الآيات العظام الدالة على وحدة ذاته ووجوب وجوده { أولئك } الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول والحضور { في ضلال مبين } [الزمر: 22] وجهل عظيم، وغفلة شديدة، وغشاوة غليظة، لا نجاة لهم منها.
وبالجملة: لا يرتفع عن عيون بصائرم حجبهم الكثيفة أصلا
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
[39.23-24]
فكيف يتيسر لأحد أن يعرض عن ذكر الله وعن استماع كلامه؟! مع أنه: { الله } الذي دبر أمور عباده، وأرشدهم إلى طريق معاده؛ حيث { نزل } تتميما لترتبيهم { أحسن الحديث } وأبلغه في الإفادة والبيان { كتابا } جامعا لما في الكتب السالفة { متشابها } بعض آياتها ببعض في حسن النظم، واتساق المعنى { مثاني } أي: ثنى سبحانه، وكرر الأحكام فيه تأكيدا ومبالغة، أمرا ونهيا، وعدا ووعيدا، وثوابا وعقابا، عبرا وأمثالا، قصصا وتذكيرا.
وجعله في كمال الإيجاز والإعجاز والتأثير؛ بحيث { تقشعر } أي: تنقبض وتضطرب على الاستمرار { منه } أي: من سماعه { جلود الذين يخشون } مهابة { ربهم } في جميع حالاتهم، خوفا من سلطة سلطنة جلاله { ثم تلين جلودهم و } تطمئن { قلوبهم إلى ذكر الله } رجاء من سعة رحمته، بمقتضى لطفه وجماله.
وبالجملة: { ذلك } أي: الكتاب الرفيع الشأن، الواضع البرهان { هدى الله } الهادي لعباده { يهدي به } ويوفق على الهداية والرشاد بمقضتى ما فيه { من يشآء } من عباده، ويضل به وعن الاستفادة بما فيه من يشاء إرادة واختيار { ومن يضلل الله } بمقتضى قهره وجلاله { فما له من هاد } [الزمر: 23] إذ لا يبدل قوله، لا ينازع حكمه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
{ أفمن يتقي } أي: يصل ويدخل { بوجهه سوء العذاب يوم القيامة } أي: أشده وأسوأه؛ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أيديهم، يسبحون إلى النار بحيث لا يصل منهم إليها أولا إلا وجوههم، كمن آمن منه وسلم عن مطلق المكاره؟! كلا وحاشا { وقيل } حينئذ { للظالمين } الخارجين من مقتضى الحدود الإلهية ظلما وعدوانا على سبيل التوبيخ والتقريع: { ذوقوا } أيها المنهمكون في بحر الغفلة والشهوات جزاء { ما كنتم تكسبون } [الزمر: 24] في دار الاختبار، بمقتضى أهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة.
[39.25-29]
وليس هذا التكذيب والجزاء المترتب عليه مخصوصا بهؤلاء الكفرة المكذبين لك يا أكمل الرسل، بل كل من { كذب الذين } مضوا { من قبلهم } من المشركين رسلهم المبعوثين إليهم { فأتاهم العذاب } فجأة { من حيث لا يشعرون } [الزمر: 25] مقدماته وأماراته أصلا.
{ فأذاقهم الله } المنتقم منهم { الخزي } أي: الذل والهوان، والخيبة والخسران { في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة } المعد لهم فيها { أكبر } أي: أشد وأفزع { لو كانوا يعلمون } [الزمر: 26] شدته وفطاعته لما ارتكبوا ما يؤول إليه ويوقعهم فيه.
{ و } الله { لقد ضربنا للناس } الناسين عهودنا ومواثيقنا { في هذا القرآن } المتكفل لأهداء عموم الضالين { من كل مثل } ينبههم على معالم الدين ومراسم التوحيد و اليقين { لعلهم يتذكرون } [الزمر: 27] رجاء أن يتعظوا بما فيه، ويتفطنوا بسرائره ومرموزاته.
مع أن جعلناه { قرآنا عربيا } أوضح بيانا، وأعظم شأنا، وأجل تبيانا وبرهانا { غير ذي عوج } أي: بلا اختلال واختلاف في معناه، موجب للتردد والالتباس والشك والارتياب { لعلهم يتقون } [الزمر: 28] عن محارمنا، ويحذرون عما نهيناهم عنه، ومع ذلك لم يتقوا، بل لم يتنبهوا ولم يتفطنوا أصلا.
ولهذا { ضرب الله } ضرب المطلع على جميع ما في استعدادات عباده وقابلياتهم { مثلا } موضحا لحال الموحد منهم والمشرك، وشبه كلتا الطائفتين برجلين مملوكين { رجلا } مملوكا { فيه شركآء } أي: له أرباب متشاركون فيه، كلهم { متشاكسون } أي: مشتاخصون متخالفون في استخدامه، متنازعون في شأنه، يتجاذبونه على مقتضى أهويتهم وأمانيهم بكمال الاستيلاء الغلبة، هذا مثل المشركين بالنسبة إلى معبوداتهم الباطلة.
{ ورجلا } أي: مملوكا آخر { سلما لرجل } أي: مسلما مخصوصا لمالك فقط بلا شوب شركة فيه، ونزاع في أمره، هذا مثل الموحد بالنسبة إلى ربه الواحد الأحد الصمد، الذي لا تعدد فيه ولا كثرة أصلا { هل يستويان } ويتماثلان { مثلا } هذان الرجلان المملوكان { الحمد لله } الذي لا شركة في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، بل ولا نزاع لأحد في حكمه، يفعل ما يشاء بالإرادة والاختيار، ويحكم ما يريد بالاستقلال { بل أكثرهم لا يعلمون } [الزمر: 29] وحدته واستقلاله في التصرفات الواردة، باعتبار شئونه وتطوراته، لذلك يشركون به غيره ظلما وجهلا.
[39.30-35]
ثم قال سبحانه: { إنك ميت } يعني: كيف لا يستقل سبحانه بالوجوه والآثار المرتبة عليه، مع أنك يا أكمل الرسل وأشرف الكائنات وأفضلهم معطل في ذاتك وفي نشأتك هذه عن استناد ما ظهر منك إليك؛ إذ لا وجود لك من ذاتك { وإنهم } أي: غيرك من أشخاص بالطريق الأولى { ميتون } [الزمر: 30] معطلون عن آثار الوجود مطلقا في هذه النشأة، بل كلكم أنتم وعموم العباد مسخرون تحت حكمه وأمره، ما عليكم إلا الامتثال والانقياد.
{ ثم إنكم } أيها الموحدون والمشركون جميعا { يوم القيامة } المعدة للحساب والجزاء { عند ربكم } المطلع على جميع ما جرى عليكم { تختصمون } [الزمر: 31] بعضكم مع بعض فيما أنتم عليه في نشأتكم الأولى، ثم تحاسبون وتجازون بمقتضاه، فستعملون حنيئذ أي منقلب ينقلبون.
ثم قال سبحانه على سبيل الاستبعاد والتقريع: { فمن أظلم } وأضل طريقا { ممن كذب على الله } وأنكر وجوده واستقلاله فيه، وفي الآثار المترتبة عليه { وكذب بالصدق إذ جآءه } يعني: بالقرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مبينا لتوحيد الحق، واستقلاله في الوجود { أليس } يبقى { في جهنم } البعد والحرمان { مثوى للكافرين } [الزمر: 32] الساترين بغيوم هوايتهم الباطلة شمس الحق الظاهرة في الآفاق بالاستقلال والاستحقاق، مع أنه معد لهؤلاء المردة المطرودين عن ساحة العز القبول.
{ و } الموحد { الذي } من قبل ربه { جآء بالصدق } بلا افتراء ومراء { وصدق به } إيمانا واحتسابا بلا شوب شك وتردد فيه { أولئك } السعداء الصادقون المصدقون { هم المتقون } [الزمر: 33] الذين يحفظون عن الميل إلى ما لا يرضى منهم سبحانه.
وبسبب اتصافهم بالتقوى عن محارم الله { لهم ما يشآءون } من اللذات الروحانية { عند ربهم } الذي رباهم بأنواع الكرامة، ووفقهم للهداية إلى جنابه، والعكوف حول بابه تفضلا عليهم وتكريما { ذلك } الذي سمعت من الكرامات { جزآء المحسنين } [الزمر: 34] الذين يحسنون الأدب مع الله بحسب ظواهرهم وبواطنهم، ويأخذون ما نزل من عنده من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة الخالصة عن شوب الرياء والرعونات المنافية لإخلاص العبودية.
{ ليكفر الله عنهم } بسبب أخلاصهم في عزائمهم { أسوأ } العمل { ويجزيهم أجرهم } فكيف أسهله وأصغره { الذي عملوا } أي: يعطيهم جاء أعمالهم في الآخرة { بأحسن الذي كانوا يعملون } [الزمر: 35] أي: أحسن من حسناتهم، وأوفر منها؛ لخلوصهم فيها.
[39.36-38]
{ أليس الله } القديم العليم { بكاف عبده } المتوكل عليه، المفوض أمره إليه ليكفيه ما ينفعه، ويكف عنه ما يضره { و } هم من جهلهم بالله وكمال علمه وقدرته { يخوفونك } يا أكمل الرسل؛ يعني: قريشا { بالذين } أي: بأصنامهم الذين يدعونهم آلهة { من دونه } سبحانه جهلا وعنادا، ويقولون لك على سبيل النصيحة: لا تذكرهم بسوء، فإنا نخاف عليك أن يخبلوك، ويفسدوا عقلك، وما ذلك إلا من نهاية جهلهم بالله، وغوايتهم عن طريق توحيده { ومن يضلل الله } بمقضتى قهره وجلاله { فما له من هاد } [الزمر: 36].
{ ومن يهد الله فما له من مضل } إذ هو فاعل على الإطلاق بالختيار والاستحقاق لا يجرى في ملكه إلا ما يشاء { أليس الله } العليم القدير { بعزيز } منيع غالب على أمره { ذي انتقام } [الزمر: 37] شديد على من أراد انتقامه من أعدائه.
ثم أشار سبحانه إلى توضيح توحيده تعريضا على المشركين، وتسجيلا على غوايتهم وغباوتهم، فقال مخاطبا لحيبيه صلى الله عليه وسلم: { ولئن سألتهم } يا أكمل الرسل؛ يعني: كفار قريش { من خلق السموت والأرض } أي: العلويات والسفليات، وما بينهما من الممتزجات، ومن أوجدها وأحدثها وأظهر ما فيها من العجائب والغرائب { ليقولن } ألبتة: { الله } المتفرد بالخلق والإيجاد، المتوحد بالألوهية والربوبية؛ إذ لا يسع لهم العدول عنه لظهوره.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما سمعت منهم قولهم هذا، إلزاما لهم وتبكيتا: { أفرأيتم } عيانا أو سمعتم بيانا من { ما تدعون من دون الله } من هؤلاء المعبودات الباطلة، وتدعونها آلهة شركاء مع الله قوة المقاومة وقدرة المخاصمة معه سبحانه مثلا { إن أرادني الله } وجرى حكمه على أن يمسني { بضر هل هن } أي: آلهتكم { كاشفات ضره } سبحانه عني على سبيل المعارضة { أو أرادني برحمة } فائضة من عنده علي { هل هن ممسكات رحمته } يمنعونها عني، ويدفعون وصولها إلي؟!.
وبعدما بهتوا وسكتوا عند سماع هذه المقالة نادمين { قل } يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد واليقين، خاليا عن أمارات الريب واليقين والتخمين { حسبي الله } الواحد الأحد الصمد الكافي لمهام عموم عباده، الرقيب عليهم في جميع حجالاتهم؛ إذ { عليه } لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية { يتوكل المتوكلون } المفوضون أمورهم كلها إليه، حيث يتخذونه وكيلا، ويعتقدونه كافيا وحسيبا.
[39.39-42]
{ قل } لهم أيضا على سبيل التوبيخ والتهديد: { يقوم اعملوا على مكانتكم } وحالكم ما شئتم من الأعمال { إني عامل } أيضا على مكانتي وحالي { فسوف تعلمون } [الزمر: 39] مآل ما يعلمون وغايته.
واعلموا أن { من يأتيه } منا ومنكم { عذاب يخزيه } ويرديه في الدنيا { و } هو دليل على أنه { يحل } وينزل { عليه } في الآخرة { عذاب مقيم } [الزمر: 40] دائم مؤبد، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، ونحن نتربص أيضا.
ثم قال سبحانه على وجه التأديب لحبيبه: { إنآ } من مقام عظيم جودنا { أنزلنا عليك } يا أكمل الرسل { الكتاب } الجامع المشتمل على عموم مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم؛ لتكون هاديا { للناس بالحق } مبلغا إياهم جميع ما فيه من الوعد والوعيد { فمن اهتدى } ووفق على قبول ما فيه من الأوامر والنواهي { فلنفسه } أي: نفع هدايته واهتدائه عائد إلى نفسه { ومن ضل فإنما يضل عليها } كذلك { و } بعدما وضع الأمر لديك، لا تتعب نفسك في إهدائهم؛ إذ { مآ أنت عليهم بوكيل } [الزمر: 41] ضمين لإهدائهم وتكميلهم، بل ما عليك إلا البلاغ، وعلينا الحساب.
وكيف لا يكون حساب العباد على الله، ولا يكون في قبضة قدرته؛ إذ { الله } المستوي على عروش ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام والقدرة الكاملة الشاملة { يتوفى الأنفس } ويقطع إمداده بالحياة عليها بمقتضى النفس الرحماني { حين موتها } أي حين تعلق إرادته سبحانه بقطع علقة عنها، وإرجاعها إلى ما كانت عليه من العدم { و } كذا تتوفى الأنفس { التي لم تمت } أي: لم تحكم عليها بقطع العلقة والإمداد عنها { في منامها } أي: يفصل عنها ما هو مبدأ الآثار والأفعال، وما يترتب عليه التمييز والشعور، ويبقى رمق منه عنها { فيمسك } ويقبض سبحانه بعد الفصل والتوفي الانفس { التي قضى عليها الموت } في لوح قضائه وحضرة علمه { ويرسل الأخرى } أي: يعيدها إلى أبدانها، ويمهلها { إلى أجل مسمى } معين مقدر عنده؛ الإمداد والارتباط.
وعن المرتضى الأكبر كرم الله وجهه: يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد، فبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة.
ولهذا قيل: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتتعارف ما شاء الله، فإذا أرادت الرجوع إلى الأجساد، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وبه ورد الحديث صولات الله على قائله:
" إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن امسكت نفسي فأرحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفط به عبادك الصالحين ".
{ إن في ذلك } التوفي والفصل، والإمساك والإرسال { لآيات } دلائل واضحات وشواهد لا ئحات على قدرة الصانع الحكيم القدير العليم { لقوم يتفكرون } [الزمر: 42] في مقدوراته سبحانه، ويشاهدون آثار قدرته عليها.
[39.43-46]
وبعدما سمع قريش كمال قدرة الله، واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته حسب إرادته واختياره، ينبغي لهم أن يوحدوه سبحانه، ويتخذوه وكيلا، ويجعلوه حسيبا وكفيلان مع ذلك لم يتخذوه { أم اتخذوا } أي: بل اتخذوا من تلقاء أنفسهم { من دون الله } أولياء من الأصنام والأوثان، وسموهم { شفعآء } عنده سبحانه، لذلك يعبدونهم كعبادته { قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { أولو كانوا } أي: أتتخذون الأصنام والأوثان شفعاء أيها الحمقى، وتستشفعون منهم، ولو كانوا { لا يملكون شيئا } من جلب النفع ودفع الضر { ولا يعقلون } [الزمر: 43] ويدركون مقاصدهم أصلا؟! وما هو إلا وهم باطل، وخروج عن مقتضى العقل الفطري.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما لاح عندك غباوتهم وضلالهم على وجه العظة والتذكير؛ لعلهم يتنبهوا: { لله الشفاعة جميعا } أي: مطلق الشفاعة، مختصة لله، مستندة إليه أصالة، كائنة من عنده، لا يسع لأحد من أهل العناية أن يشفع لمجرم عنده سبحانه إلا بإذنه، وكيف لا يكون كذلك؛ إذ { له ملك السموت والأرض } أي: ماظهر من العلويات والسفليات، وما بينهما من الممتزجات، بلا تصرف فيها بالاستقلال والاختيار، بلا مزاحمة أنداد وأغيار { ثم } لو وقعت شفاعة من أحد ممن أذن له الرحمن، ورضي له قولا، فإنما هي أيضا آيل إليه سبحانه؛ إذ { إليه } لا إلى غيره من العكوس والأظلال { ترجعون } [الزمر: 44] رجع الأضواء إلى الشمس.
{ و } من شدة قساوة المشركين وجهلهم بالله { إذا ذكر الله } الواحد الأحد الصمد المستقل بالألوهية والربوبية { وحده } على ما كان بلا مشاركة أحد معه في الثبوت والوجود { اشمأزت } أي: انقبضت وضاقت { قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } بالانكشاف التام في النشأة الأخرى، والمفني لأظلال السوى والعكوس مطلقا { وإذا ذكر } آلهتهم { الذين } يدعونهم { من دونه إذا هم يستبشرون } [الزمر: 45] أي: فاجؤوا عند ذكر آلهتهم إلى البسط والاستبشار.
{ قل } يا أكمل الرسل عند يأسك عنهم وعن إيمانهم وتنبههم، مسترجعا إلى ربك، مفوضا أمور عباده إليه ، سيما هؤلاء المعاندين: { اللهم فاطر السموت والأرض } ومظهرهما من كتم العدم بالإرادة والاختيار، يا { عالم الغيب والشهادة } على التفصيل؛ بحيث لا يعزب عن حيطة علمك مثقال ذرة من ذرائر ما لمع عليه برق وجودك بمقتضى جودك { أنت } بذاتك حسب شئونك وتطوراتك { تحكم } وتقضي { بين عبادك } هؤلاء وبيني { في ما كانوا فيه يختلفون } معي في أمور الدين القويم المنزل من عندك، والكتاب المبين طريق توحيدك.
[39.47-49]
ثم قال سبحانه تسجيلا على عدم قابليتهم واستعدادهم لقبول الحق وفيضان أسرار التوحيد { ولو أن للذين ظلموا } أي: بعدما جبلوا على فطرة الشقاوة من عند الله الحكيم لو حق وثبت لهم ملك { ما في الأرض } من الزخارف الإمكانية { جميعا ومثله } بل أضعافه وآلافه { معه لافتدوا به } في سبيل الله، راجين النجاة { من سوء العذاب } المعد لهم { يوم القيامة } جزاء لأعمالهم لما حصل لهم هذا، ولا نجاة لهم منه أصلا؛ إذ لا يبدل قولنا ولا نغير حكمنا، بل { وبدا } أي: لاح وظهر { لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } [الزمر: 47] من قبله؛ إذ هم عند الإتيان بفواسد الأعمال والعبادات على معبوداتهم، زاعمين جزاء ترتب جزاء الخير عليها، وقد انعكس الأمر عليهم.
{ و } حين ظهر عليهم عكس المطلوب { بدا لهم سيئات ما كسبوا } أي: تحقق عندهم كون أعمالهم التي أتوا بها سيئات كلها { و } حينئذ { حاق } وأحاط { بهم } خجالة { ما كانوا به يستهزئون } [الزمر: 48] من الأمور الدينية والمعتقدات الأخروية الجارية على ألسن الرسل والكتب في النشأة الأولى، ولم ينفعهم الندم والخجالة حينئذ؛ لانقضاء التدارك والتلافي.
ثم أشار سبحانه إلى تزلزل الإنسان، وعدم ثباته على العزيمة الخالصة نحو ربه فقال: { فإذا مس الإنسان ضر } منا مؤلم مزعج إلى التوجه والتحنن إلينا { دعانا } واستكشف عنا الضر على سبيل الإلحاح والاقتراح { ثم } بعد كشفنا عنه ضره { إذا خولناه } أي: أعطيناه ووسعنا عليها { نعمة } تفضلا { منا } وتكريما؛ لنختبر كيف يشكر على دفع الضر وحصول النعمة بعده { قال } حينئذ على سبيل الكفران: { إنمآ أوتيته } من النعم { على علم } مني بوجوه كسبه وجمعه وأرباحه وأخذه.
أو المعنى: ما أوتيت وأعطيت بما أوتيت إلا سبب علمي بوجوه جمعه وتحصيله، لا من حيث لا أحتسب، هكذا يقول من الهذيانات الدالة على الكفران والطغيان، مع أن نعمته ما هي إلى نعمة في نفسها { بل هي فتنة } ابتلاس منا إياه، واختبار لننظر أيشكر أم يكفر؟ { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الزمر: 49] ولا يفهمون فتنتنا واختبارنا، لذلك ينهمكون في بحر الكفران والطغيان.
[39.50-53]
وليس هذا مخوصا بهؤلاء الكفرة التائهين في تيه الغفلة والكفران، بل { قد قالها } أي: الكلمة المخصوصة التي من جملة: { إنمآ أوتيته على علم } [الزمر: 49] الكافرون المسرفون { الذين } مضوا { من قبلهم } مثل قارون وغيره { فمآ أغنى } أي: كفى ودفع { عنهم ما كانوا يكسبون } [الزمر: 50] من الزخارف شيئا من عذاب الله حين أحاط بهم ونزل عليهم العذاب، فكذلك ما أغنى عن هؤلاء امتعتهم شيئا من العذاب حين حلوله.
{ فأصابهم } أي: الكفرة الماضين في النشأة الأولى { سيئات ما كسبوا } مثل الخسف والكسف والغرق وغيرها { والذين ظلموا من هؤلاء } الكفرة المستخلفين منهم، القائلين بقولهم؛ يعني: قريشا { سيصيبهم } عن قريب { سيئات ما كسبوا } أمثال أولئك الهالكين { وما هم } أي: هؤلاء { بمعجزين } [الزمر: 51] الله القادر المقتدر على أنواع التعذيب والانتقام، فقتل صناديدهم يوم بدر، وقحطوا سبع سنين، ثم وسع عليهم رزقهم، ليتنبهوا أن مقاليد الأمور بيده، وخزائن الرزق من عنده، ومع ذلك لم يعلموا.
{ أولم يعلموا } ولم يتنبهوا { أن الله } المتكفل بأرزاق عباده { يبسط الرزق لمن يشآء } من عباده { ويقدر } أي: يقبض عمن يشاء منهم إرادة واختيارا على مقتضى علمه بتفاوت استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية الفائضة عليهم من الحكيم الوهاب { إن في ذلك } القبض والبسط المستلزمين للدقائق والرقائق الغير المحصورة في الأمور الإلهية { لآيات } براهني واضحات على حكمة القدير العليم { لقوم يؤمنون } [الزمر: 52] بذات الله، وكمال أوصافه وأسمائه.
وبعدما تنبهوا على حقية الحق وتفطنوا دلائل توحيده { قل } لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا، مناديا لهم على وجه الاختصاص، مضيفا لهم إلينا عطفا ولطفا: { يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } طول دهرهم قبل انكشاف الأغطية والسدل عن عيون بصائرهم: { لا تقنطوا } ولا تيأسوا { من } فيضان { رحمة الله } عليكم بعد انكشافها ورفعها { إن الله } المطلع على ضمائر عباده ونياتهم { يغفر } ويستر { الذنوب } التي صدرت عنكم حين غفلتكم { جميعا } وكيف لا يغفرها سبحانه { إنه } بمقتضى ذاته وأوصافه وأسمائه { هو الغفور } المقصود على العفو والستر لعموم عباده، سيما على أهل التوحيد منهم { الرحيم } [الزمر: 53] لهم يوصلهم بعد رفع الحجب عنهم إلى مقر التجريد والتفريد.
[39.54-58]
{ و } بعدما سمعتم سعة رحمة الحق وجميل عفوه ومغفرته { أنيبوا } أي: تقربوا وتوجهوا أيها المجبولون على فطرة الإسلام { إلى ربكم } الذي رباكم لمصلحة المعرفة والتوحيد { وأسلموا له } وانقادوا لأوامره، واجتنبوا عن نواهيه بالعزيمة الخالصة عن كدر الرعونات وشين الشهوات { من قبل أن يأتيكم العذاب } الموعود في يوم الجزاء { ثم } بعد نزوله وإتيانه { لا تنصرون } [الزمر: 54] إذ حينئذ لا يسع لكم التدارك والتلافي؛ لانقضاء زمان التوبة والرجوع.
{ و } بالجملة: إن أردتم النجاة من العذاب { اتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم } أيها المكلفون على الدين المستبين، ألا وهو القرآن الكريم المنزل على خير الأنام وأفضل الرسل الكرام، وامتثلوا بجميع ما فيه من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة { من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة } فجأة { وأنتم لا تشعرون } [الزمر: 55] علاماته حتى تتداركوا وتحذروا منها.
وبالجملة: احذروا من يوم هائل مهول مخافة { أن تقول } فيه { نفس } وازرة منكم، مقصرة عن الإنابة والرجوع حين حلول العذاب عليها: { يحسرتا } ويا ندامتنا { على ما فرطت في جنب الله } أي: في جانبه ورعاية حقه في إطاعته وانقياده { وإن كنت لمن الساخرين } [الزمر: 56] أي: فرطت في حقه سبحانه، والحال أني حينئذ من الساخرين بالأنبياء الهادين والعلماء الراشدين المنبهين علي، وبالجملة: فندمت حينئذ، ما ينفع الندم.
{ أو تقول } متحسرا على كرامة أهل العناية: { لو أن الله هداني } ووفقني على التوبة والإنابة نحوه كسائر أوليائه { لكنت من المتقين } [الزمر: 57] المتحفظين نفوسهم عن الإفراد في حق الله ورعاية جانبه.
{ أو تقول } متمنيا مستبعدا { حين ترى العذاب } يحل عليها، ويحيط بها: { لو أن لي كرة } أي: رجوعا إلى الدنيا مرة أخرى { فأكون } حينئذ { من المحسنين } [الزمر: 58] الذين يحسنون الأدب مع الله، ويصدقون رسله وكتبه، وإنما تقول حينئذ ما تقول من كمال تحسرها على ما فات منها، وشدة هولها مما نزل عليها.
[39.59-63]
ثم قيل لها من قبل الحق ردا لقولها: { بلى } هداك الله؛ إذ { قد جآءتك آياتي } لهدايتك وإرشادك على ألسنة رسلي { فكذبت بها } وبهم { واستكبرت } عليها وعليهم { وكنت } حيئنذ بتكذيبك واستكبارك { من الكافرين } [الزمر: 59] الذين ستروا الحق الحقيق بالإطاعة والاتباع، وأظهروا الباطل الزائغ الزاهق الزائل، فاتخذوه معبودا، وعبدوا له ظلما وزورا، عنادا واستكبارا.
{ و } لا تبالوا أيها الموحدون بعتوهم واستكبارهم في هذه النشأة؛ إذ { يوم القيامة } التي تبلى السرائر فيها { ترى } فيها أيها الرائي { الذين كذبوا على الله } بإثبات الولد والشريك له، افتراء ومراء { وجوههم مسودة } أي: تراهم حال كونهم مسودة الوجوه؛ لأنهم حينئذ ملازموا النار وملاصقوها، تستبعد وتستغرب أيها المعتبر الرائي حالتهم هذه { أليس } يبقى { في جهنم } البعد والخذلان، وجحيم الطرد والحرمان { مثوى للمتكبرين } [الزمر: 60] الذين يتكبرون على الله وعلى أوليائه بأنواع الفسق والعصان والكذب والطغيان، مع أنه ما هي إلا معدة لهؤلاء البغاة الطغاة الهالكين في تيه الكبر والعناد.
{ وينجي الله } المفضل المحسن بمقتضى لطفه وجماله من أهوال يوم القيامة وأفزاعها { الذين اتقوا } عن محارم الله { بمفازتهم } أي: بفوزهم وفلاحهم المورث لهم فتح أبواب السعادات وأنواع الخير والبركات { لا يمسهم السوء } أي: ينجيهم؛ بحيث لا يعرضهم شيء يسؤهم في النشأة الأخرى { ولا هم يحزنون } [الزمر: 61] فيها أصلا.
وكيف لا ينجي سبحانه أولياءه؛ إذ { الله } المحيط بجميع ما ظهر وبطن { خالق كل شيء } ومظهره من العدم بامتداد أظلال أسمائه وصفاته عليه { وهو على كل شيء } من مظاهره ومصنوعاته { وكيل } [الزمر: 62] يولي أمره، ويحفظه عما يضره.
إذ { له } وفي قبضة قدرته { مقاليد السموت والأرض } أي: مفاتيح العلويات والسفليات، وما يتولى بينهما، ويتصرف فيهما بالإرادة والاختيار، ما شاء بلا منازع ومخاصم { والذين كفروا بآيات الله } وأنكروا دلائل توحيده واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه باختياره { أولئك } الأشقياء الضالون عن طريق التوحيد، المنحرفون عن جادة العدالة { هم الخاسرون } [الزمر: 63] المقصورون على الخسران والحرمان، لا يرجى نجاتهم منه أصلا.
[39.64-67]
ثم إن أرادوا - يعني: قريشا - أن يخدعوك ويلبسوا عليك الأمر، بأن أمروك باستلام بعض آلهتهم ليؤمنوا بإلهك { قل } قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التعيير والتوبيخ: { أفغير الله } الواحد الأحد الصمد الحقيق بالإطاعة والعبادة { تأمروني } أي: تأمرونني { أعبد أيها الجاهلون } [الزمر: 64] بالله وباستحقاقه للعبادة والانقياد، وبالأصالة والاستقلال.
ثم قال سبحانه مقسما على سبيل التأكيد والمبالغة في التأديب، تحريكا لحمية صلى الله عليه وسلم، وتثبيتا على محبته { و } الله { لقد أوحي إليك } يا أكمل الرسل { وإلى } الرسل { الذين } مضوا { من قبلك لئن أشركت } أنت من كمال ودادتك وخلتك، وكل واحد منهم أيضا مع كمامل محبتهم وخلوصهم، وأتيت أنت وهم بشيء يلوح منه الإشراك المنافي للتوحيد { ليحبطن عملك } وعملهم؛ أي: ليضيعن ألبتة صالح عملك الذي جئبت به ليفيدك { ولتكونن } حينئذ { من الخاسرين } [الزمر: 65] خسرانا مبينا.
فعليك ألا تصاحب مع المشركين، ولا تقبل منهم قولهم، ولا تمتثل أمرهم { بل الله فاعبد } أي: بل إن أردت العبادة والإطاعة، فاعبد الله خاصة خالصة، ولا تلتفت إلى غيره { وكن } في شأنك هذا { من الشاكرين } [الزمر: 66] الصارفين لنعم الله إلى خلق لأجله؛ إذ هم جبلوا على فطرة العبادة والعرفاتن، بالنسبة إليه سبحانه حتى يتخذوه وكيلا حسيبا.
{ و } بالجملة: المشركون الذين اتخذوا أولياء من دونه سبحانه، وادعوا الوجود له وشركتهم معه سبحانه { ما قدروا الله } أي: ما وسعوا الحق باعتبار ظهوره بهذا الاسم المخصوص المستجمع لجميع الأسماء والصفات، والمعبر به عن الذات الأحدية كاسمه العليم، لذلك لم يعرفوا { حق قدره } وقدر ظهوره وبطونه، ولو وسعوا له، وعرفوا حق قدره، لما أثبتوا له شريكا؛ إذ كل من تحقق بوحدة الحق وكيفية سريانه على هياكل الأظلال والعكوس والمنعكسة، ولم يبق عنده شائبة شك في ألا تعدد في ذاته سبحانه، ولا تكثر بل يتجلى ويتجدد في كل آن بشأن، ولا شك أن كل ما ظهر من الشئون فان
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن: 27].
{ و } من جملة ما انعكس من بعض شئونه سبحانه { الأرض جميعا } أي: جميع ما يتولد من الطبيعة والهيولي المنعكسة من التجليات الإلهية حسب اقتضاء أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فيها { قبضته } أي: مقبوضة في كف قدرته { يوم القيمة } التي هي الطامة الكبرى التي انقهرت دونها أظلال السوى مطلقا، مندكة في نفسها، معدومة في حد ذاتها، لا وجود لها { و } كذا { السموت } حينئذ { مطويات } معطلات عن مقتضياتها التي هي الأفعال والحركات، ساقطات في زاية العدم على ما كانت عليها مقتضياتها التي هي الأفعال والحركات، ساقطات في زاوية العدم على ما كانت عليها أزلا وأبدا؛ أي: تنزه ذاته وتقدسمت أساؤه { بيمينه } وقدرته { سبحانه وتعالى } شأنه { عما يشركون } [الزمر: 67] له غيره ظلما وزروا.
[39.68-70]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمشركين يوم { نفخ في الصور } لرد الأمانات التي هي الوجودات المترشحة من بحر الذات على هياكل الهوايات { فصعق } أي: خر وسقط مغشيا من فزعه { من في السموت } أي: جميع العلويات { ومن في الأرض } أي: جميع السلفيات خوفا من انقطاع الأمور الإلهية بمقتضى النفس الرحماني { إلا من شآء الله } من المعتبرين الفانين في الله، الباقين ببقائه، فإنهم قد قامت قيامتهم { ثم نفخ فيه أخرى } إيقاظا لهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان { فإذا هم قيام } أي: فاجؤوا على القيام، بعدما صاروا مغشيا عليهم { ينظرون } [الزمر: 68] حينئذ حيارى سكارى مبهوتين هائمين، كأنهم صرعى مخبولين.
{ و } بعد ذلك { أشرقت الأرض بنور ربها } أي: صارت الطبيعة والهيولي منورة بنور الله على ما كانت عليه قبل الفتح، وحينئذ عرضوا على الله { ووضع الكتاب } أي: مكتوب أعمال كل من النفوس الزكية والخبيثة بين أيديهم، وحوسبوا بمقتضى ما فيه { و } بعدما تم حسابهم وتنقيد أعمالهم { جيء بالنبيين } المبعوثين كل منهم إلى أمة من الأمم؛ ليشهدوا على أممهم بما كانوا عليه في النشأة الأولى { والشهدآء } أي: وجيء بالشهداء أيضا؛ يعني: أنطق الله أركانهم وجوارحهم التي أتوا بها ما أتوا من خير وشر فيشهدون.
{ و } بعد انكشاف أحوالهم وضبط أعمالهم { قضي بينهم بالحق } على مقتضى العدالة الإلهية بلا حيف وميل { وهم } حينئذ { لا يظلمون } [الزمر: 69] بالزيادة والنقصان ثوابا وعقابا.
{ و } بالجملة: { وفيت كل نفس } جزاء { ما عملت } من خير وشر { و } كيف لا يوفى؛ إذ { هو } سبحانه { أعلم } وأحفظ منهم { بما يفعلون } أي: بجميع أفعالهم وأعمالهم الصادرة منهم، صالحها وفاسدها، نقيرها وقطميرها.
[39.71-72]
{ و } بعد ذلك { سيق } سوق البهائم إلى المسلخ { الذين كفروا } بالإعراض عن الحق وأهله { إلى جهنم } الطرد والخذلان { زمرا } فوجا بعد فوج، وطائفة إثر طائفة { حتى إذا جآءوها } يعني: جنهم { فتحت } لهم { أبوابها } أي: أبواب النيران المعدة لأهل الكفر والطغيان على تفاوت طبقاتهم فيه، { وقال لهم خزنتهآ } حينئذ على سبيل التوبيخ والتقريع: { ألم يأتكم } أيها الضالون المستحقون لهذا الوبال والنكال { رسل منكم } أي: من بني نوعكم مبعوثون إليكم من قبل الحق { يتلون عليكم آيات ربكم } أي: دلائل توحيده، وكمال قدرته على أنواع الإنعام والانتقام { وينذرونكم لقآء يومكم هذا } أي: يخوفونكم عن لقاء هذا اليوم الذي تدخلون فيه النار بأنواع الخيبة والخسران؟.
وبعدما سمعوا منهم ما سمعوا { قالوا } متحسرين متأوهين: { بلى } قد جاءت إلينا رسل ربنا بالحق، وتلوا علينا آياته المشتملة على أنواع الإنذار والنذير { ولكن } لم يفد بنا إنذارهم وتبشيرهم؛ إذ { حقت } أي: صدرت وثبتت منه سبحانه في سباق قضائه وحضرة علمه حتما { كلمة العذاب } وهي قوله:
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود: 119] { على الكافرين } [الزمر: 71] المعرضين عن الحق وآياته، وعن من بلغها إليهم بإذنه، لذلك أعرضنا عنها وعنهم، فوجبت لنا النار.
وبالجملة: أتوا بالعذر وما ينفعهم بل { قيل } لهم من قبل الحق: { ادخلوا } أيها الضالون المجرمون { أبواب جهنم } أي: كل فرقة منهم بباب يخصها في سابق القضاء، وكونوا { خالدين فيها } لا نجاة لكم منها { فبئس مثوى المتكبرين } [الزمر: 72] أي: الكافرين المستكبرين وأهله جهنم الخذلان وجحيم الحرمان والخسران، أعاذنا الله وعموم المؤمنين منها بفضله العظيم.
[39.73-75]
{ وسيق } أيضا سوق الحمام إلى المسرح { الذين اتقوا ربهم } عن محارم الله بمقتضى أوامره ونواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبهم { إلى الجنة } المعدة لفيضان أنواع اللذات الروحانية على أهلها { زمرا حتى إذا جآءوها } فرحين مسرورين، وتحننوا نحوها { و } قد { فتحت أبوابها } عناية من الله إياهم { وقال لهم } حينئذ { خزنتها } ترحيبا وتكريما: { سلام عليكم } أيها المهديون المهتدون الذين { طبتم } وطهرتم أنفسكم في دار الاختبار عن دنس الشهوات ورين المزخرفات { فادخلوها } أي: الجنة المشتملة على أنواع الكرامات وأصناف السعادات الآن، وكونوا { خالدين } [الزمر: 73] فيها أبد الآباد بلا نقل وتحويل، إلا إلى ما شاء الله لأهل العناية من الدرجات العلية التي لا تكتنه ولا توصف.
{ و } بعدما تمكنوا في مقر العز والحضور { قالوا } مسترجعين إلى الله، عادين موائد إنعامه وإفضاله على أنفسهم، قائمين لأداء حقوقها: { الحمد لله } والمنة لله { الذي صدقنا وعده } أي: جميع ما وعدنا الله به في النشأة الأولى بوحيه النازل على ألسنة أنبيائه ورسله من المعتقدات الاخروية.
{ وأورثنا الأرض } أي: المقر الموجود الذي بشرنا به الرسل الكرام، وهي الجنة الموروثة لأهل العناية من سوابق الإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة الصادرة منهم في دار الاختبار، ومكننا فيه؛ بحيث { نتبوأ من الجنة } وننزل { حيث نشآء } يعني: ينزل ويستريح كل منا حي شاء وأراد من المقامات البهية الدرجات العلية، بلا مضايقة وممانعة { فنعم أجر العاملين } [الزمر: 74] المخلصين المخلصين نفوسهم عن أودية الجهالات والضلالات بنور الآيات البينات، الواصلين إلى روضة الرضا وجنة التسليم، اللهم ارزقنا بلطفك العميم، واجعلنا من ورثة جنة النعيم.
{ و } بعدما تقرر أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة { ترى } أيها المعتبر المنكشف بكمال عظمة الله وجلاله { الملائكة } أي: الأسماء والصفات الإلهية، عبر عنها سبحانه بالملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم { حآفين } صافين محدقين محلقين { من حول العرش } أي: حول عرشه العظيم المستغني عن عروش مطلق المظاهر، والحال الكائنة في عالمي الغيب والشهادة؛ إذ هو سبحانه غني بذاته عن مطلق التعينات الطارئة على شئونه وتطوراته، لذلك { يسبحون } وينزهون أولئك المهيمون ذاته سبحانه عن سمات الحدوث والإمكان مطلقا دائما، ويواظبون { بحمد ربهم } على ما وهب هلم المعرفة بعلو شأنه وسمو برهانه، وباستغنائه في ذاته عن مظاهر أوصافه وأسمائه جميعا { وقضي بينهم بالحق } أي: هم يحمدونه ويثنون عليه سبحانه أيضا على عموم قضائه وحكمه، وأحكامه الجارية بين عباده بمقتضى العدل القويم.
{ و } بالجملة: { قيل } من قبل كل من يتأتى منه الرجوع إليه سبحانه والتوجه نحوه طوعا على الوجه الذي أمر به: { الحمد } المطلق المستوعب لجمع الأثنية والمحامد الصادرة من عموم المظاهر ثابت { لله } أي: للذات المستجمع لجميع أوصاف الكمال بالاستحقاق والاستقلال لكونه { رب العالمين } [الزمر: 75] بمقتضى توحيده وانفراده، فيكون جميع محامدهم مختصة به سبحانه؛ إذ لا مربي لهم سواه.
حققنا بكرمك بحق قدرك وبقدر حقك يا ذا القوة المتين.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي القاصد للتحقيق والإدراك بكمال عظمة الله وجلاله، أن تتأمل في أواخر هذه السورة، وتتعمق فيها وفي كشف سرائرها ومرموزاتها وإشاراتها الخفية وعباراتها المنبهة على وحدة الحق وحقيته؛ لينكشف لك أنه لا شغله شأن عن شأن، ولا يقدر تحقق وقيوميته زمان ومكان، بل هو كائن على ما كان في كل آن وشأن بلا زمان ومكان.
[40 - سورة غافر]
[40.1-5]
{ حم } [غافر: 1] يا حامل الوحي وحاميه، ويا ماحي الغير والسوى عن لوح الضمير مطلقا.
{ تنزيل الكتاب } الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، إليك يا أكمل الرسل تأييدا لك في أمرك وشأنك { من الله } أي: من الذات المعبر بهذا الاسم الجامع { العزيز } المنيع الغالب ساحة عز حضوره عن أن يحوم حول وحيه شائبة الريب والتخمين { العليم } [غافر: 2] الذي لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما جرى عليه قضاؤه.
{ غافر الذنب } أي: ساتر ذنوب الأنانيات، والهويات الحاصلة من انصباغ التعينات العدمية بصيغ الأسماء والصفات { وقابل التوب } أي: التوبة والرجوع على وجه الإخلاص والندم من إثبات الوجود لغيره سبحانه { شديد العقاب } على من خرج عن ربقة عبوديته بإسناد الحوادث إلى نفسه، أو إلى مثله في الحدوث والمخلوقية { ذي الطول } والغني عن توحيد الموحد وإلحاد المشرك الملحد؛ لأنه في ذاته { لا إله إلا هو } ولا موجود سواه يعبد له ويرجع إليه في الخطوب؛ إذ { إليه المصير } [غافر: 3] أي : مرجع الكل إليه سواء وحده الموحدون، أو ألحد في شأ،ه الملحدون المشركون.
ثم قال سبحانه توضيحا وتصريحا لما علم ضمنا: { ما يجادل } ويكابر { في } شأن { آيات الله } ودلائل توحيده واستقلاله في الآثار المترتبة على شئونه وتجلياته { إلا الذين كفروا } وستروا ظهور شمس الذات، وتحققها في صفحات الكائنات بغيوم هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } [غافر: 4] أي: لا يغررك يا أكمل الرسل إمهالنا إياهم، يتقبلون في بلاد الإمكان وبقاع الهيولي عن إمهالنا وعدم انتقامنا منهم بالطرد إلى هاوية العدم وزاوية الخمول.
وإن كذبوك يا أكمل الرسل في دعوتك وشأنك وعاندوا معك، فاصبر على أذاهم وتذكر كيف { كذبت قبلهم قوم نوح } أخاك نوحا، وكيف صبر هو حتى ظفر عليهم حين ظهر أمرنا، وجرى حكمنا بأخذهم واستئصالهم { و } كيف كذبت { الأحزاب } والأمم الكثيرة { من بعدهم } أي: بعد قوم نوح رسلهم المبعوثين إليهم للهداية والإرشاد.
{ و } بالجملة: { همت } وقصدت { كل أمة } من الأمم الماضية { برسولهم } المرسل إليهم { ليأخذوه } ويأسروه، بل ليقتلوه أو يستحقروه ويهينوه { وجادلوا } أولئك الهالكون المنهمكون في تيه الكبر والعناد معهم { بالباطل } الزاهق الزائل في نفسه { ليدحضوا به } ويزيلوا به { الحق } الحقيق بالإطاعة والاتباع { فأخذتهم } واستأصلهم بعدما أمهلتهم زمانا، يعمهون في طغيانهم، ويترددون في بنيانهم { فكيف كان عقاب } [غافر: 5] إياهم حين حل عليهم ما حل من العذاب.
[40.6-9]
{ وكذلك حقت } وثبتت { كلمة ربك } يا أكمل الرسل في لوح قضائه وحضرة علمه { على الذين كفروا } بك وبدينك وكتابك { أنهم أصحاب النار } [غافر: 6] أي: ملازموها وملاصقوها أبد الآباد، لا نجاة لهم منها، ف
ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
[النحل: 127].
ثم أشار سبحانه إلى حث المؤمنين الموحدين على الإيمان، ومواظبة الشكر على إنعام الله إياهم باليقين، فقال: { الذين يحملون العرش } وهم الكروبيون الذين سبقوا بحمل العرش الإلهي، وحفظ ما انعكس فيهم من تجلياته الجمالية بدوام المراقبة والمطالعة بوجهه الكريم { ومن حوله } من الملائكة الذين يطوفون حول العرش، ويقتفون أثر أولئك الحملة السابقين كلهم { يسبحون } وينزهون الحق عن سمات الحدوث والإمكان، ويقدسونه عن عروض السهو والنيسان؛ إذ كمال ما يدرك المدرك منه سبحانه إنما هو التسبيح والتقديس، وإلا فالأمر أعز وأعلى من أن يحيط به الآراء ويحوم حوله الأهواء، ويواظبون { بحمد ربهم } على ما أولاهم نعمة التوجه إليه والتحنن نحوه.
{ و } بالجملة: { يؤمنون به } سبحانه، ويوحدونه، ويعتقدون أوصافه العليا وأسماؤه الحسنى، وإن عجزوا عن كنه ذاته { ويستغفرون للذين آمنوا } أي: يطلبون العفو والستر منه سبحانه لذنوب إخوانهم الذين آمنوا بوحدة الحق وكمالات أسمائه وصفاته، مثل إيمانهم سواء كانوا سماويين أو أرضيين، قائلين مناجين مع ربهم حين استغفارهم: { ربنا } يا من ربانا على فطرة تسبيحك وتقديسك، ومداومة حمدك وثنائك، أنت بذاتك بمقتضى كرمك وجودك { وسعت كل شيء رحمة وعلما } أي: وسعت رحمتك، وأحاطت حضرة علمك على كل ما لمع عليه بروق تجلياتك وشروق شمس ذاتك { فاغفر } لسعة رحمتك وجودك { للذين تابوا } ورجعوا نحو بابل نادمي، وامح عن عيون بصائرهم سبل الغير والسوى في جنب بابك { واتبعوا } بالعزيمة الصادقة الخالصة { سبيلك } الذي أرشدتهم إليه بوحيك على رسلك { وقهم عذاب الجحيم } [غافر: 7] أي: احفظهم عن عذاب الطرد والحرمان المعد لأصحاب الخسران في جميع حجتهم الخذلان.
{ ربنا وأدخلهم } بفضلك ولطفك { جنات عدن } أي: متنزههات العلم والعين والحق { التي وعدتهم } في كتابك لعموم أرباب العناية من عبادك { و } كذا أدخل { من صلح } عندك لفيضان جودك وإحسانك { من آبآئهم وأزواجهم وذرياتهم } الذين تناسلوا منهم على فطرة التوحيد، وحلية الإيمان والعرفان { إنك } بذاتك وأسمائك وصفاتك { أنت العزيز } المنيع ساحة عز حضوره عن أن يحوم حوله شائبة وهم أحد من مظاهرك ومصنوعاتك { الحكيم } [غافر: 8] في جميع أفعالك الصادرة عنك على كمال الإحكام والإتقان.
{ وقهم } بمقتضى حكمتك المتقنة { السيئات } أي: الجرائم والآثام المستتبعة لإدخالهم إلى دركات النيران، { ومن تق السيئات يومئذ } أي: من تحفظه أنت بمقتضى لطفك وتوفيقك عن المعاصي في النشأة الأولى { فقد رحمته } ألبتة في النشأة الأخرى { وذلك } أي: وقايتك وحفظك إياهم عن أسباب الخذلان والحرمان { هو الفوز العظيم } [غافر: 9] والكرم العميم واللطف الجسيم.
[40.10-14]
ثم أشار سبحانه إلى تفضيح من كفر بالله، وكذب بما نزل من عنده من الأوامر والنواهي الجارية بمقتضى وحيه على ألسنة رسله وكتبه في النشأة الأولى، فقال: { إن الذين كفروا } بالله وأنكروا بوحدة ذاته وسريان وجوده الواحداني الذاتي على جميع مظاهر الكائنات حسب شئون الأسماء والصفات، بأن أشركوا فيه سبحانه، وأثبتوا وجودا لغيره، وادعوا ترتب الآثار عليه { ينادون } في الطامة الكبرى، والنشأة الأخرى حين ظهر الحق، واستقر على مقر العز والتمكين، وانقهر الباطل الزاهق الزائل، واضمحل التلون والتخمين { لمقت الله } أي: طرده وتحريمه لكم اليوم { أكبر } وأفظع { من مقتكم } وتحريمكم { أنفسكم } من موائد لطفه وإحسانه سبحانه.
وذلك { إذ تدعون } أي: وقت دعوة الأنبياء والرسل إياكم بإذن الله ووحيه { إلى الإيمان } به سبحانه وبتوحيده { فتكفرون } [غافر: 10] حينئذ، وتسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتكم الباطلة جهلا وعنادا، بل تشركون له غيره في الألوهية والوجود، وتعبدون له كعبادته سبحانه.
وبعدما سمعوا ما سمعوا من النداء الهائل المهول { قالوا } بلسان استعداداته متحسرين متضرعين: { ربنآ } يا من ربانا على فطرة معرفتك وتوحيدك، فكرناك وأشركنا بك غيرك، قد ظهر لنا اليوم حقية ما ورد علينا من قبل بعدما { أمتنا } وافنيتنا في هوتك مرتين { اثنتين } مرة في النشأة الأولى بانقضاء الأجل المقدرمن عندك، ومرة في النشأة الأخرى بعد النفحة { و } كذا { أحييتنا } وأبقيتنا ببقائك مرتين { اثنتين } مرة عند حشرنا من أجداث طبائعنا، ومرة بعد النفخة الثانية للعرض والجزاء.
وبعدما لاح علينا من دلائل توحيدك وكمال قدرتك ما لاح { فاعترفنا } الآن { بذنوبنا } التي صدرت عنا من غاية غفلتنا وجهلنا بك وبقدرتك، ووحدة ذاتك واستقلالك في آثارك الصادرة عنك { فهل } لنا اليوم مجال { إلى خروج } من عذابك الذي أعددت لنا بمقتضى عدلك حسب جرائمنا وآثمانا { من سبيل } [غافر: 11] إلى الخلاص والنجاة منه.
ثم بعدما تضرعوا من شدة هولهم وفظاعة أمرهم ما تضرعوا، نودوا من وراء سرادقات القهر والجلال: { ذلكم } أي: العذاب الذي أنتم فيه { بأنه } أي: بسبب أنه { إذا دعي } وذكر { الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { وحده } أي: على صرافة وحدته ، واستغنائه عن العالم وما فيه { كفرتم } وأنكرتم وجوده وكمال أوصافه وأسمائه، وكذبتم رسله المبعوثين إليكم للتبليغ والتبيين { وإن يشرك به } ويثبت له شركاء { تؤمنوا } وتقروا بالشركاء، وتعتقدوا وجودها، وتصدقوا من تفوه بها { فالحكم } المحكم والقضاء الحتم المبرم الآن { لله } المنزه ذاته عن أن يتردد فيه أو يشرك { العلي } الغني شأنه عن إيمان المؤمن وكفر الكافر { الكبير } [غافر: 12] المتعال وحدة ذاته عن أن يحوم حوله إقدام الإقرار والإنكار.
وكيف تنكرون له سبحانه، وتشركون فيه مع أنه سبحانه { هو } الله الكامل في الألوهية والربوبية { الذي يريكم آياته } الدالة على وحدة ذاته { وينزل لكم من السمآء } أي: سماء الأسماء المربية لكم من لدنه { رزقا } صوريا ومعنويا تتميما لتربيتكم وتكميلكم { وما يتذكر } ويتعظ منكم بآياته { إلا من ينيب } [غافر: 13] إليه، ويرجع نحوه طالبا الترقي من حضيض التقليد والتخمين إلى ذروة التحقيق واليقين.
وإذا سمعتم كمال تربيته وتكميله سبحانه { فادعوا الله } الواحد الأحد الصمد، وتوجهوا نحوه، واعبدوا حق عبادته أيها المكلفون بمعرفته وتوحيده حال كونكم { مخلصين له الدين } أي: الإطاعة والانقياد بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين { ولو كره الكافرون } [غافر: 14] المكابرون إطاعتكم إياه، ورجوعكم إليه على وجه الإخلاص والختصاص.
[40.15-20]
وكيف لا يدعون ويعبدون له سبحانه، مع أنه هو في ذاته { رفيع الدرجات } أي: درجات قربه ووصوله رفعية، وساحة عز حضوره منيعة لا يسع لكل قاصد أن يحوم حولها، إلا بتوفيق منه سبحانه وجذب من جانبه { ذو العرش } العظيم؛ إذ لا ينحصر مقر استيلائه وظهوره بمظهر دون مظهر ومجلى دون مجلى، بل له مجالي إلى ما شاء الله؛ إذ هو بمقتضى تجليه الجمالي { يلقي الروح } على وجه الأمانة ويمد الظل { من أمره } بمقتضى حبه الذاتي { على من يشآء من عباده } أي: استعدادات مظاهرة المسظلين بظلال أسمائه وصفاتخ، وبعد إلقائه ومدة إياهم، كلفهم بما كلفهم من الأوامر والنواهي المصححة للعبودية اللازمة للألوهية والربوبية، وإنما كلفهم بما كلفهم { لينذر يوم التلاق } [غافر: 15] أي: يخوفهم عن زمان الوصول والرجوع في النشأة الأخرى، والطامة الكبرى التي ترد فيها الأمانات إلى أهلها على وجهها.
إذ هو { يوم هم بارزون } خارجون من أجداث أجسامهم، راجعنن إلى الله جميعا بأرواحهم، محشورون عنده معرضون عليه؛ بحيث { لا يخفى على الله } المحيط بهم { منهم شيء } من أعيانهم وأعمالهم ونياتهم، وبعدما برزوا لله ورجعوا نحوه صائرين إليه، فانين فيه، قيل لهم من قبل الحق بعد فناء الكل إظهارا لكمال قدرته وجلاله: { لمن الملك اليوم } أي: ملك الوجود والتحقق والثبوت، فأجيب أيضا من قبله؛ إذ لا موجود سواه، ولا شيء غيره: { لله الواحد } من كل الوجوه { القهار } [غافر: 16] لنقوش استوى سبحانه على الملك المطلق بالإطاعة والاستحقاق على ما كان ويكون في ازل الآزال وأبد الآباد، أشار إلى سرائر ما ظهر منه في النشأة الأولى فقال: { اليوم } أي: يوم الجزاء والنشأة الأخرى { تجزى كل نفس بما كسبت } أي: طبق ما كسبت واقترفت في النشأة الأولى، التي هي نشأة التكلف والاختبار بلا ازدياد وتنقيص عليه؛ إذ { لا ظلم اليوم } أي: يوم الجزاء؛ لأنه إنما وضع لظهور العدالة الإلهية والقسط الحقيقي، بل تجزى فيه كل من النفوس بجميع ما صدرت عنها، خيرا وشرا نفعا وضرا { إن الله } المطلع على عموم ما ظهر وبطن من عباده { سريع الحساب } [غافر: 17] عليهم بلا فترة وتلبيس؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولا يطرأ عليه سهو ونيسان.
{ وأنذرهم } يا أكمل الرسل؛ أي: عموم المكلفين { يوم الأزفة } والمشارفة على العذاب الأبدي، حين أحضروا على شفير جهنم للطرح فيها { إذ القلوب } أي: قلوب أولئك المحضرين ترتفع حينئذ { لدى الحناجر } وتلتصق بحلاقيمهم من كمال هولهم واضطرابهم، وكانوا حينئذ { كاظمين } ومملوئين من الغم والحزن وأنواع الكآبة والخذلان، وبالجملة: { ما للظالمين } أي: لهؤلاء المسرفين المقصورين على الخيبة والخسران حينئذ { من حميم } قريب يدركهم، ويولي أمرهم، ويسعى في استخلاصهم { ولا شفيع يطاع } [غافر: 18] أي: شفيع يشفع ويقبل الشفاعة منه لأجلهم.
مع أنه سبحانه { يعلم } بعلمه الحضوري { خآئنة الأعين } أي: خيانتهم التي يتغامزن بعيونهم نحو محارم الله { و } يعلم أيضا { ما تخفي الصدور } [غافر: 19] أي: ما تخفي صدورهم من الميل إلى الشهوات المحرمة بلا مباشرة الآلات.
{ و } بالجملة: { الله } المطلع بظواهرهم وضمائرهم { يقضي } ويحكم بهم، ويجازي عليهم بمقتضى علمه وخبرته منهم { بالحق } بلا حيف وميل إظهارا لكمال عدالته { والذين يدعون من دونه } سبحانه من الأوثان والأصنام { لا يقضون } ولا يحكمون لا لهم ولا عليهم { بشيء } من نفع وضر؛ إذ هم جمادات لا شعور لها { إن الله } القادر المقتدر على أنواع الإنعام والانتقام { هو السميع } لجميع ما صدر من ألسنة استعداداته { البصير } [غافر: 20] بما ظهر على هياكل هوياتهم.
[40.21-22]
ثم أشار سبحانه إلى تقريع أهل الزيغ والضلال، وتفضيح أصحاب العناد والجدال، فقال مستبعدا مستنكرا إياهم: { أ } ينكرون قدرتنا عليهم وانتقامنا عنهم { ولم يسيروا } ويسافروا { في الأرض } الموروثة لهم من أسلافهم الذين أسرفوا على أنفسهم أمثالهم { فينظروا } بنظر التأمل والاعتبار؛ ليظهر عندهم { كيف كان عاقبة } المسرفين { الذين كانوا من قبلهم } مستقرين عليها، متمكنين فيها، مترفهين أمثالهم، بل { كانوا هم } أي: أسلافهم { أشد منهم } أي: من هؤلاء الأخلاف { قوة } وقدرة وأكثر أموالا { وآثارا في الأرض } أي: حصونا وقلاعا وقصورا وأخاديد، وغير ذلك مما صدر من ذوي الأحلام السخيفة، ومع ذلك ما أغنى عنهم شيئا من غضب الله وعذابه، بل { فأخذهم الله } المنتقم منهم { بذنوبهم } التي صدرت عنهم على سبيل البطر والغفلة، فاستأصلهم بالمرة { وما كان لهم } حينئذ { من } عذاب { الله } وبطشه { من واق } [غافر: 21] حفيظ لهم، يمنع عذاب الله عنهم.
{ ذلك بأنهم } أي: ما ذلك البطش والانتقام إلا بسبب أنهم من شدة عتوهم وعنادهم { كانت تأتيهم رسلهم } من قبل الحق مؤيدين { بالبينات } الواضحة والبراهين القاطعة من أنواع الآيات والمعجزات { فكفروا } بالله وبهم أمثال هؤلاء التائهين في بيدات الغفلة والغرور، وأنكروا على بيناتهم، ونسبوها إلى السحر والشعبذة، وظهروا على رسل الله بأنواع الخرافات والهذيانات { فأخذهم الله } القدير الحليم بكفرهم وعتوهم، بعدما أمهلهم زمانا، يترددون فيما يرمون ويقصدون فيه، وكيف لا يأخذهم سبحانه { إنه قوي } مطلق، وقدير كامل على من ظهر عليه وخرد عن ربقة عبوديته { شديد العقاب } [غافر: 22] صعب الانتقامم على من كذب وتولى على الرسل الكرام.
[40.23-26]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل { لقد أرسلنا } من مقام جودنا أخاك { موسى } الكليم { بآياتنا } الدالة على كمال قدرتنا { وسلطان مبين } [غافر: 23] أي: حجة واضحة دالة على صدقه في رسالته ودعوته.
{ إلى فرعون } الطاغي الذي بالغ في العتو والعناد، حيث تفوه ب " أنا ركبم الأعلى " { وهامان } المصدق لطغيانه، المعاون على عتوه وعدوانه { وقارون } المباهي بالثروة والغنى، وبعدما بلغ إليهم الدعوة، وأظهر عليهم المعجزة { فقالوا } بلا تردد وتأمل فيما سمعوا وشاهدوا منهم: ما هذا المدعي إلا { ساحر } في بينته { كذاب } [غافر: 24] في دعوته؛ أي: فاجؤوا على التكذيب والإنكار بلا مبالاة به وبشأنه، بمقتضى ما هم عليه من العتو والاستكبار.
{ فلما جآءهم } موسى ملتبسا { بالحق } مؤبدا { من عندنا } وآمن له بنو إسرائيل حين عاينوا منه الآيات الكبرى والمعجزات العظمى { قالوا } يعني: فرعون أصالة، وملؤه تعبا لأعوانهم وأتباعهم: { اقتلوا أبنآء الذين آمنوا معه } يعني: أعيدوا على بني إسرائيل الزجر الشنيع الذي أنتم تفعلون معهم من قبل { واستحيوا نسآءهم } للزواج والوقاع، تعييرا عليهم وتضعيفا لهم؛ يعني: هم قصدوا المكر والمقت على أولئك المؤمنين بقولهم هذا { و } ما يظن أنهم ممكورون وممقوتون؛ إذ { ما كيد الكافرين } ومكرهم حيث كادوا ومكروا { إلا في ضلال } [غافر: 25] أي: هلاك وبوار على أهل الحق، لذلك لم ينالوا على ما قصدوا، بل عاد عليهم، ولحق بهم أضعاف ما قصدوا إياهم، ومكروا لأجلهم.
{ و } بعدما ظهر أمر موسى الكليم وعلا قدره، وانتشر بين الناس حجته وبرهانه { قال فرعون } لملئه الذين قالوا له حين غلب موسى على السحرة، وقصد فرعون قتله فمنعه الملأ عن قتله، حتى لا يظهر بين الناس مغلوبيته من مسى، مع أنه ادعى الألوهية لنفسه: { ذروني } أي: ارتكوني على حالي، أنا { أقتل موسى وليدع ربه } أي: يمنعني عن قتله، أو يهلكني لأجله؛ يعني: لا أبالي به وبربه، بل { إني أخاف } عليكم لو لم أقتله { أن يبدل دينكم } وانقيادكم على سحره { أو أن يظهر في الأرض الفساد } [غافر: 26] أي: النهب والغارة في أطراف المملكة وأكناف البلاد، وإن لم يقدر على تغيير دينكم وعقائدكم.
[40.27-29]
{ و } بعدما وصل إلى موسى مقصد له العدو { قال موسى } متوكلا على الله مفوضا أمره إليه: { إني عذت } والتجأت { بربي وربكم } الواحد الأحد الصمد المراقب على حفظ عباده الخلص أيها المؤمنون { من } شر { كل متكبر } متناه في الكبر والخيلاء بمقتضى أهويته الباطلة وإرادته الفاسدة؛ إذ { لا يؤمن } ويصدق { بيوم الحساب } [غافر: 27] حتى يرتدع عن أمثال هذه الجرأة على رسل الله، وخلص عباده، فإنه سبحانه يكفي عني مؤمنة شره.
{ و } بعدما صمم فرعون عزمه لقتل موسى، وجزم لمقته وهلاكه { قال رجل مؤمن } موحد ماكان له اعتقاد بألوهية فرعون، وإن كان { من آل فرعون } لكن { يكتم إيمانه } مهم: { أتقتلون } أيها المسرفون المتكبرون { رجلا } موحدا بمجرد { أن يقول } حقا: { ربي الله } الاحد الأحد الصمد، المنزه عن الشريك والنظير،
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشورى: 11] { و } الحال أنه { قد جآءكم بالبينات } الواضحة المعجزات اللائحة من قبل { ربكم } الذي أوجدكم من كتم العدم { وإن يك كاذبا } في دعواه { فعليه كذبه } اي: وبال كذبه آيل إليه { وإن يك صادقا يصبكم } ألبتة { بعض الذي يعدكم } بمقتضى وحي الله وإلهامه، وبالجملة: { إن الله } الهادي إلى سبيل الرشاد { لا يهدي } ويوفق على الهداية كل { من هو مسرف } في فعله { كذاب } [غافر: 28] في قوله، فلا حاجة إلى قتله ودفعه؛ إذ قد يرهق عن قريب إن كانا كاذبا.
ثم ناداهم وخاطبهم مضيفا لهم إلى نفسه إمحاضا للنصح، واشتراكا معهم في الوبال النازل عليه، فقال: { يقوم لكم الملك اليوم } أي: ملك العمالقة مختص لكم اليوم بلا منازع ومخاصم، حال كونكم { ظاهرين } عالين غالبين { في } أقطار { الأرض } كلها، والحمد لله والمنة، فلا ترتكبوا فعلا جالبا لغضب الله عليكم، بل اتركوا قتله، وإلا { فمن ينصرنا } وينقذنا { من بأس الله } المنتقم الغيور وعذابه { إن جآءنا } ونزل علينا بسبب قتل الصادق الصدوق في الدعوى، المرسل من عند الله تبارك وتعالى، لو نزل بما كيف ندفعه؟.
قيل: هذا القائل المؤمن هو ابن عم فرعون، وهو عنده من المقربين.
ثم لما سمع فرعون من كلامه المشتمل على محض النصح { قال فرعون } معرضا له مطرحا إياه: { مآ أريكم } وأشير إليكم في رفع هذا المفسد المدعي { إلا مآ أرى } واستصوب في رأيي، واستقر عليه فكري، وهو أن يقتله ليدفع شره { و } اعملوا أيها الملأ { مآ أهديكم } بقولي هذا، وأمري بقتله { إلا سبيل الرشاد } [غافر: 29] الموصل إلى نجاتكم وخلاصكم من مفاسد هذا المدعي الساحر.
[40.30-33]
{ و } بعدما أكد فرعون أمر القتل، وبالغ في تصميم العزم { قال } الرجل { الذي آمن يقوم } ناداهم وأضافهم إلى نفسه إظهارا لكمال الاختصاص والشفقة: { إني } بمقتضى عقلي { أخاف عليكم } يوما هائلا شديدا { مثل يوم الأحزاب } [غافر: 30] الهالكين المستأصلين بحلول عذاب الله عليهم فيه؛ لأن دأبكم وديدنتكم في الخروج عن حدود الله ومقتضيات أوامره وأحكامه، والظهور على رسله وتكذيبهم إياهم.
{ مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود و } مثل المكذبين المسرفين { من بعدهم } ظهروا على رسل الله وكفروا به سبحانه { الذين } فلحقهم من العذاب ما لحقهم، وكذلك يحل عليكم ما حل عليهم، لو تقتفون أثرهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية { و } إلا { ما الله } العليم الحكيم { يريد ظلما للعباد } [غافر: 31] المتحرزين عن مطلق الجرائم والآثام المنافية للحدود الإلهية، فلا يعاقب من لا ذنب له، ولا يحل عليه عذابه.
ثم ناداهم القائل الموحد أيضا على سبيل التأكيد والمبالغة تتميما لما يخفى في صدره من ترويج الحق وتقوية الرسول المرسل به، فقال: { ويقوم إني أخاف عليكم يوم التناد } [غافر: 32] أي: العذاب الموعود في يوم القيامة، سميت به؛ لتفرق الناس فيه وفرار كل منهم عن أبيه وأخيه وأمه وبنيه.
وأخاف أيضا { يوم تولون } وتنصرفون عن موقف العرض والحساب { مدبرين } قهقرى هاربين فارين من كثرة الآثام والجرائم الجالبة لأنواع العذاب، تخيلوا أيها المسرفون وتحروا في نفوسكم { ما لكم } حينئذ { من } غضب { الله } ونزول عذابه عليكم { من عاصم } يعصمكم ويدفع عنكم عذابه { و } بالجملة: اعلموا أن { من يضلل الله } المضل المغوي بمقتضى قهره وجلاله، ويحمله على ما لا ينبغي له ولا يرضى منه سبحانه، بل إنما ابتلاه وحمله عليه فتنة واختبارا { فما له من هاد } [غافر: 33] أي: إنه ماله هاد يهديه إلى ما يعينه ويليق بحاله ويرضى منه سبحانه.
[40.34-35]
ثم قال القائل المذكور تسجيلا على غيهم وضلالهم: { و } كيف تستبعدون نبوة هذا المدعي ورسالته من عند الله مع أنه ليس ببدع منه، بل { لقد جآءكم } أي: على آبائكم وأسلافكم { يوسف } ابن يعقوب رسولا { من قبل } أي: من قبل هذا المدعي مؤيدا من عنده سبحانه { بالبينات } المبينة الموضحة لدعواه ورسالته { فما زلتم } أي: كنتم دائما مستمرا سلفا وخلفا { في شك } وتردد { مما جآءكم به } في أمر الدين وشأن التوحيد واليقين { حتى إذا هلك } أي: مات يوسف عليه السلام وانقرض زمانه { قلتم } من كمال تعنتكم وعنادكم على سبيل الجزم، بلا دليل وبرهان نزل عليكم عقلا ونقلا: { لن يبعث الله من بعده رسولا } مع أنكم شاكون في رسالته أيضا، بل في مطلق الرسالة والإنزال من الله الواحد القهار.
{ كذلك } أي: مثل ضلالكم هذا { يضل الله } المضل المغوي بمقتضى قهره وجلاله جميع { من هو مسرف } في الخروج عن مقتضى الحدود املوضوعة لحفظ القسط الإلهي والاعتدال الحقيقي { مرتاب } [غافر: 34] شاك فيما يثبته البينات الواضحة والمعجزات اللائحة.
وبالجملة: المسرفون المكابرون { الذين يجادلون في آيات الله } الدالة على توحيده، واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته { بغير سلطان } أي: حجة قاطعة وبرهان واضح { أتاهم } على سبيل الإلهام والوحي والبيان { كبر } وعظم حالهم وشأنهم هذا { مقتا } أي: ليكون سببا لمقتهم وهلاكهم { عند الله } أصالة { وعند الذين آمنوا } بالله وكمال قدرته على أنواع الإنعام والانتقام تبعا { كذلك } أي: مثل ما سمعت يا أكمل الرسل و { يطبع } ويختم { الله } العليم الحكيم { على كل قلب } مجبول على الشقاوة والضلال في أزل الآزال { متكبر جبار } [غافر: 35] يمشي على الأرض خيلاء ويضر بأهلها، وإنما أمهله سبحانه هكذا؛ ليوفر عليه عذابه المعد لأجله، ويخلده في نار القطيعة والحرمان أبد الآباد.
[40.36-39]
{ و } بعدما ظهر أمر موسى وانتشر دينه بين الناس، ودعوته إلى الله الواحد الأحد الموجد للسماوات العلا والأرضين السفلى، ومالت النفوس إليه لوضوح براهينه وسطوع معجزاته { قال فرعون } مدبرا في دفع موسى، متأملا في شأنه، مشاورا مع وزيره آمرا له، مناديا إياه: { يهامان } قد وقع ما نخاف منه من قبل { ابن لي صرحا } بناء رفيعا ظاهرا عاليا من جميع الأبنية والقصور { لعلي } بالارتقاء والعروج إليه { أبلغ الأسباب } [غافر: 36] المؤيدة لأمر موسى.
يعني: { أسباب السموت } أي: المؤثرات العلوية { فأطلع إلى إله موسى } وأسأل منه أمره: أهو صادق في دعواه أو كاذب؟ { وإني } بمقتضى عقلي وفراستي { لأظنه كاذبا } ساحرا مفتريا على الله ترويجا لسحره، وتقريرا لضعفاء الأنام.
قيل: أمر ببناء رصد؛ ليطلع على قوة طالع موسى وضعفه { وكذلك } أي: مثلما سمعت { زين لفرعون سوء عمله } أي: حسن الله له تدبيره الذي تأمل في دفع موسى بأمثال هذه الأفكار الفاسدة { وصد عن السبيل } السوي الموصل إلى توحيد الحق { و } بالجملة: { ما كيد فرعون } ومكره الذي دبره لدفع موسى { إلا في تباب } [غافر: 37] هلاك وخسار.
{ و } بعدما ألزمهم القائل بأنواع الإلزام، وأسكتهم بالدلائل القاطعة، اضطروا وتحيروا في شأن موسى ودفعه { قال } القائل { الذي آمن } له وكتم إيمانه منهم: { يقوم } ناداهم ليقبلوا إليه بكمال الرغبة: { اتبعون } واستصوبوا رأيي واقبلوا قولي { أهدكم سبيل الرشاد } [غافر: 38] وطريق الصدق والصواب.
{ يقوم } ما شأنكم وأمركم في دار القتنة والغرور ومنزل الغفلة والثبور { إنما هذه الحياة الدنيا متاع } مستار بلا مدار واعتبار { وإن الآخرة } المعدة لذوي البصائر وأولي الألباب { هي دار القرار } [غافر: 39].
[40.40-42]
واعلموا أيها المجبولون على فطرة التكليف أن { من عمل } في النشأة الأولى { سيئة } جالبة لغضب الله، مستتبعة لعذابه { فلا يجزى } في النشأة الأخرى { إلا مثلها } بمقتضى العدل الإلهي { ومن عمل صالحا } مستجلبا لنعم الله وموائد كرمه، سواء كان { من ذكر أو أنثى و } الحال أنه { هو مؤمن } موقن بتوحيد الله، مصدق برسله وكتبه { فأولئك } السعداء المقبولون عند الله { يدخلون الجنة } في النشأة الأخرى { يرزقون فيها } رزقا صوريا ومعنويا رغدا واسعا { بغير حساب } [غافر: 40] بلا تقدير وموازنة مثل أرزاق الدنيا.
{ و } قال القائل المذكور أيضا على سبيل الملاينة والمجاراة في صورة المناصحة والمقابلة، إيقاضا لهم عن سنة الغفلة، وتتميما للغرض المسوق له الكلام: { يقوم ما لي } أي: أي شيء عرض علي ولحق لي { أدعوكم } أنا من كمال عطفي ومرحمتي إياكم { إلى النجاة } من عذاب الله وحلول غضبه، وإلى دخول الجنة المشتملة على أنواع اللذات الجسمانية والروحانية المعدة لأهل التوحيد والإيمان { و } أنتم { تدعونني إلى النار } [غافر: 41] المعدة لأصحاب الخيبة والخذلان.
إذ { تدعونني لأكفر بالله } الواحد الأحد الصمد، المتفرد بالألوهية والربوبية، وأنكر وجوده { وأشرك به ما ليس لي به علم } أي: أشرك به شيئا لم يتعلق علمي بألوهيته وشركته مع الله لا يقينا ولا ظنا ووهما؛ إذ هو جماد ماله شعور { وأنا أدعوكم } بمقتضى الوحي الإلهي المنزل على رسول الله المؤيد بالعقل الفطري المفاض لخواص عباده من لدنه سبحانه { إلى العزيز } القادر الغالب في أمره بلا فتور وقصور { الغفار } [غافر: 42] الستار لنفوس السوى والأغيار مطلقا.
[40.43-46]
{ لا جرم } أي: حق وثبت { أنما تدعونني إليه } وتمدونني نحوه { ليس له دعوة } أي: لا يتأتى منه الدعوة والهداية والإرشاد، ولا { في الدنيا ولا في الآخرة } إذ لا يتيسر للجمادات دعوة الإنسان وتكميله مطلقا، { و } بعدما انقضى أمر آلهتكم وعدم لياقتهم بالألوهية والربوبية، ظهر { أن مردنآ } ومرجعنا؛ يعني: أنا وأنتم وسائر العباد والمظاهر عموما { إلى الله } الواحد الأحد الصمد الحقيق بالحقية، بلا توهم الشركة والنزاع رجوع الأظلال إلى الأضواء، والأمواج إلى الماء { و } ظهر أيضا { المسرفين } الخائضين في توحيده سبحانه بالهذيانات التي تركبها أوهامهم وخيالاتهم، بلا تأييد من وحي إلهي وعقلي فطري { هم أصحاب النار } [غافر: 43] ملازموها وملاصقوها أبد الآباد.
{ فستذكرون } أيها الممكرون الممقوتون حين تعاينون وتدخلون النار { مآ أقول لكم } على وجه النصح من شأن العذاب الموعود لكم في النشأة الأخرى، وبعدما سمعوا من الوعيدات الهائلة، أضمروا في نفوسهم عداوته والإنكار عليه، وقصدوا مقته { و } لما تفرس منهم السوء، قال مسترجعا إلى الله متوكلا نحوه: { أفوض أمري } أي: حفظي وحصانتي عن شروركم { إلى الله } المراقب على محافظة عباده المتوكلين عليه، المتوجهين نحو جنابه، يكفي بلطفه مؤنة شروركم عني وإساءتكم علي { إن الله } القادر العليم { بصير بالعباد } [غافر: 44] الخلص، ما في ضمائرهم من الإخلاص والاختصاص.
قيل: فر منهم إلى جبل، فأرسل فرعون جماعته لطلبه، فلحقوه وهو في الصلاة والوحوش حوله صافين حافين، يحرسون عما يضره، فلم يظفروا عليه، فرجعوا خائبين فقتلهم.
وبالجملة: { فوقاه الله سيئات ما مكروا } أي: حفظه الله الرقيب عليه من شدائد مكرهم وإساءتهم عليه { وحاق } وأحاط { بآل فرعون سوء العذاب } [غافر: 45] النازل إليهم من عند الله العزيز الغيور.
وهي: { النار } لتعذيب أصحاب الشقاوة الأزلية الأبدية، ولهذا { يعرضون عليها } أي: فرعون وآله على النار حال كونهم في برزخ القبر { غدوا وعشيا } دائما في جميع الأزمان قبل انقراض النشأة الأولى { ويوم تقوم الساعة } يحشرون من قبورهم صرعى مبهوتين، قيل لهم من قبل الحق بلا كشف وتفتش عن حالهم: { أدخلوا } يا { آل فرعون أشد العذاب } [غافر: 46] أي: أفزعه وأخلده، أو قيل للملائكة الموكلين عليهم لتعذيبهم: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وأسوأ النكال والوبال، وهو تخليدهم في نار القطيعة على القرائتين.
[40.47-52]
ثم قال سبحانه: { و } اذكر يا أكمل الرسل للمعتبرين من المكلفين وقت { إذ يتحآجون } ويتخاصمون؛ أي: أصحاب النار { في النار فيقول الضعفاء } منهم؛ أي: الأتباع والأراذل { للذين استكبروا } أي: لدى رؤسائهم ومتبوعيهم المستكبرين عليهم، المستتبعين لهم في النشأة الأولى: { إنا كنا لكم تبعا } في دار الدنيا، بل أنتم أضللتمونا عن متابعة الرسل والهادين { فهل أنتم } اليوم { مغنون } دافعون مانعون { عنا نصيبا } جزءا أو شيئا، قد صار حظنا { من النار } [غافر: 47] النازلة علينا بسبب اتباعنا إياكم، واقتفائنا أثركم، وتديننا بدينكم وخصلتكم.
{ قال الذين استكبروا } أي: الرؤساء المتبوعين { إنا } نحن وأنتم { كل } منا معذبون { فيهآ } أي: في النار، لا يسع أحد منا ومنكم، ليدفع شيئا منها { إن الله } المنتقم الغيور { قد حكم بين } عموم { العباد } [غافر: 48] بأن أدخل بعضا منهم في الجنة بفضله، وبعضا في النار بعدله، ولا معقب لحكمه، وهو شديد المحال.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لأصحاب العبرة ما { قال الذين } كفروا حال كونهم { في النار } محزونين متضرعين { لخزنة جهنم } وهي أعمق أماكن النار وأغروها: { ادعوا ربكم } أيها الخزنة حسبة لله، واستشفعوا منها سبحانه لأجلنا، وإن لم يغفر لنا، ولم يعف عن جرائمنا { يخفف عنا يوما } أي: مقدار يوم واحد { من العذاب } [غافر: 49] الدائم المستمر حتى نتنفس فيه ونستريح.
{ قالوا } أي: الخزنة في جوابهم تهكما وتوبيخا على سبيل التجاهل: { أولم تك } أيها الحمقى الهالكون في تيه البعد والضلال { تأتيكم رسلكم } المبعوثون إليكم { بالبينات } الواضحة الدالة على قبول الإنذارات الصادرة من الله أصالة ومنهم تبعا، وبعدما سمعوا من الخزنة ما سمعوا { قالوا } متأوهين متحسرين: { بلى } قد جاءنا نذير فكذبنا، وقلنا: ما نزل الله من شيء { قالوا } أي: الخزنة بعدما سمعوا منهم ما سمعوا: إن أنتم إلا في ضلال مبين { فادعوا } على حالكم بلا استشفاع منا؛ إذ نحن لا نجترئ بالشفاعة عنده، والاستغفار منه سبحانه لأمثالكم؛ إذ لا يقبل الدعاء منا ومنكم في أمثال هذه الجرائم الكبيرة.
{ و } بالجملة: { ما دعاء الكافرين } المصرين على كفرهم في النشأة الأولى التي هي دار الاختبار؛ لاستخلاصهم في النشأة الأخرى التي هي دار القرار { إلا في ضلال } [غافر: 50] ضياع وخسار، لا يسمع من أحد أمثال هذا الدعاء، ولا يجاب له.
ثم قال سبحانه وعدا للمؤمنين وحثا لهم على تصديق رسل الله وكتبه: { إنا } من مقام عظيم جودنا ولطفنا { لننصر } ونعاون { رسلنا } الذين هم حملة وحينا، وحفظة ديننا { والذين آمنوا } لهم، واسترشدوا منهم طريق الهداية، واجتنبوا بسببهم عن الغي والضلا { في الحياة الدنيا } التي هي نشأة الفتن والاختبارات الإلهية، بتوفيقهم على العمل الصالح، وردعهم عن المفاسد والمنكرات، وننصرهم أيضا نصرة تامة { ويوم يقوم الأشهاد } [غافر: 51] أي: يوم القيامة التي تقوم فيها الشهود والعدول من الملائكة والنبيين والمؤمنين لنصرة المؤمنين ومقت الكافرين.
{ يوم لا ينفع الظالمين } الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية في نشأة الدنيا { معذرتهم } التي آتوا بها يومئذ؛ إذ قد انقضى حينئذ وقت التلافي والتدارك، ومضى زمان الاختبار، بل { ولهم اللعنة } أي: الطرد والتبعيد عن ساحة عز الحضور { ولهم } أيضا { سوء الدار } [غافر: 52] المعدة لأصحاب الخسار والبوار، وهي جهنم البعد والخذلان، أعاذنا الله منها.
[40.53-56]
ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه، وتوطينا له على تحمل أعباء الرسالة الجالبة لأنواع المكروهات من النفوس المجبولة على الشقاوة والضلال والتبصر على أذياتهم: { و } الله { لقد آتينا } من كمال فضلنا وجودنا أخاك { موسى } الكليم { الهدى } أي: الشرائع والمعجزات الدالة على كمال الهداية والإرشاد إلى سبيل الرشاد والسداد { و } بعد انقراض موسى { أورثنا بني إسرائيل الكتاب } [غافر: 53] أي: التوراة المنزلة عليه.
وأبقيناها بينهم؛ لتكون { هدى } هاديا إلى ما هداهم موسى من الأمور الدينية { وذكرى } أي: عظة وتذكيرا يتذكرون به إلى ما يرمون من المقاصد الدينية والمعالم اليقينية، لا لكل أحد من العوام، بل { لأولي الألباب } [غافر: 54] الألباء المستكشفين عن سائر الأمور الدينية بمقضتى العقول المستقيمة المفاضة لهم من المبدأ الفياض.
ومع ذلك سمعت يا أكمل الرسل قصص أولئك الهالكين في تيه العتو والعناد، وما جرى بينهم وبين الرسل المبعوثين إليهم من التجار، والتنازع المفضي إلى أذى الأنبياء العظام والرسل الكرام، فصبروا على أذاهم إلى أن ظفروا عليهم بنصر الله إياهم وإعلاء دينه المنزل عليهم من عنده سبحانه.
{ فاصبر } أنت أيضا يا أكمل الرسل على ما أصابك من أذيات هؤلاء الجهلة المستكبرين المعاندين معك، وانتظر إلى ما وعدك الحق من النصر والظفر وإعلاء دين الإسلام، وإظهاره على الأديان كلها { إن وعد الله } العليم القدير الحكيم الخبير { حق } ثابت محقق إنجازه ووفاؤه، إلا أنه مرهون بوقته، فيسنصرك ويغلبك على أعدائك عن قريب، ويبقى آثار هدايتك وإرشادك بين أوليائك إلى النشأة الأخرى { واستغفر لذنبك } أي: اشتغل في عموم أوقاتك بالاستغفار لفرطاتك؛ ليكون استغفارك هذا سنة سنية منك لأمتك { وسبح } أيضا { بحمد ربك } في جميع حالاتك وأوقاتك؛ إذ كل نفس من أنفاسك يستلزم شكرا منك، سيما { بالعشي والإبكار } [غافر: 55] أي: في أول النهار وأواخره؛ إذ هما وقتان خاليان عن تزاحم الأشغال وتفاقم الآمال، وبالجملة: كن مع ربك في جميع أحوالك وأطوارك، يكفي مؤنة جميع من عاداك وعاندك.
ثم قال سبحانه: { إن } المشركين المعاندين { الذين يجادلون } ويخاصمون معك يا أكمل الرسل { في آيات الله } المنزلة عليك لتأييد دينك وشأنك على سبيل المكابرة والعناد { بغير سلطان } أي: حجة وبرهان { أتاهم } وفاض عليهم من ربهم على طريق الوحي والإلهام { إن في صدورهم } أي: ما في صدورهم وضمائرهم شيء يبعثهم على المجادلة { إلا كبر } وخيلاء مركوز في جبلتهم، تقية لثروتهم ورئاستهم على زعمهم الفاسد، مع أنه { ما هم ببالغيه } على مقتضى ما جبلوا في نفوسهم؛ إذ هم سيغلبون عن قريب في هذه النشأة الأولى، ويحشرون إلى جنهم البعد والخذلان في الأخرى { فاستعذ بالله } القوي القادر، والتجئ إليه سبحانه عن غدر كل غادر { إنه } سبحانه { هو السميع البصير } [غافر: 56] بنياتهم وأفعالهم، يكفيك مؤنة ما يقصدون عليك بمقتضى آرائهم الباطلة.
[40.57-60]
ومن أعظم ما يجادلون فيه أولئك المكابرون أمر السعة والمعاد الجسماني، وبعث الموتى من قبورهم وحشرهم إلى المحشر، والله { لخلق السموت والأرض } أي: إظهار العلويات والسفليات من كتم العدم على سبيل الإبداع في النشأة الأولى { أكبر } وأعظم { من خلق الناس } وإعادتهم أحياء في النشأة الأخرى { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [غافر: 57] قدرة الحق واقتداره على جميع ما دخل في حيطة علمه الشامل، وإرادته الكاملة؛ لقصورهم نظرهم عن إدراك الحق وصفاته
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
ثم أشار سبحانه إلى تفاوت طبقات عباده في العلم بالله والجهل به وبصفاته، فقال: { وما يستوي الأعمى } الغافل عن ظهور ذات الحق ومقتضيات أوصافه العظمى وأسمائه الحسنى { والبصير } العرف الكاشف بوحدة الحق، وظهوره سبحانه على هياكل جميع ما ظهر وبطن سبحانه حسب أسمائه وشئونه الذاتية { و } لا المصلحون المحسنون { الذين آمنوا } بالله واعتقدوا بتوحيده { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } المقبولة عنده سبحانه من الأعمال والأفعال المترتبة على الإيمان واليقين { ولا المسيء } أي: المسيئون الأدب مع الله، وهم الكفرة الذين لا يؤمنون بالله، ولا يتصفون بتوحيده، بل يستروحون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتهم الباطلة، وأظلال أنانياتهم الزائلة المضمونة في شمس الذات؛ لذلك عملوا عملا سيئا بمقتضى ما تهويه نفوسهم الخبيثة وأخلاقهم السخيفة ، لكن { قليلا ما تتذكرون } [غافر: 58] أي: ما تتذكرون وتتفطنون على عدم المساواة إلا تذكرا قليلا؛ لذلك تنكرون البعث والحشر.
وكيف تنكرونه؟! { إن الساعة } الموعودة على ألسنة عموم الأنبياء والرسل { لآتية } ألبتة؛ بحيث { لا ريب فيها } أي: في مجيئها ووقوعها بوضوح الدلائل العقلية الدالة على إمكان إعادة المعدوم، مع أنها مديدة بالوحي والإلهام على عموم الأنبياء والرسل الكرام { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [غافر: 59] بها، ولا يصدقون وقوعها وقيامها؛ لانحطاطهم عن مرتبة الخلافة المترتبة على فطرة التوحيد واليقين.
{ و } بعدما أشار سبحانه إلى مرتبة كلا الفريقين الموعد والمشرك، أشار إلى أن من توجه نحوه محننا، وقصد تجاه توحيده مجتهدا، ودعا إليه متضرعا، أجاب له وأنجح مطلوبه؛ حيث { قال ربكم } الذي رباكم على فطرة التوحيد والعرفان: { ادعوني } أيها المكلفون بمقتضى العقل المفاض حق دعوتي، وتوجهوا إلى مخصلين بلا رؤية الأسباب والوسائل في البين { أستجب لكم } دعوتكم، وأوصلكم إلى مقصدكم ومقصودكم الذي هو توحيد الذات، فعليكم ألا تستكبروا عن عبادتي وإطاعتي، وبالجملة: { إن } المسرفين { الذين يستكبرون } ويستكنفون { عن عبادتي } بمقتضى أرائهم الباطلة وأهوائهم الفاسدة { سيدخلون } في يوم الجزاء { جهنم } الحرمان والخذلان { داخرين } [غافر: 60] صاغرين ذليلين مهانين.
[40.61-65]
وكيف يستنكفون ويستكبرون عن عبادة الفاعل على الإطلاق، والمنعم بالاستقلال والاستحقاق مع أنه { الله } الواحد الأحد الصمد، المتصف بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، هو { الذي جعل لكم الليل } مظلما باردا { لتسكنوا } وتستريحوا بلا ضرر وإضرار { فيه } جعل لكم { و } لتكتسبوا فيه معايشكم، وتجمعوا حوائجكم { النهار مبصرا } المنعم المكرم على عباده { إن الله } عظيم وكرامة كاملة شاملة { لذو فضل } عموم { على } المجبولين على النسيان والكفران { الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } [غافر: 61] نعمه، ولا يواظبون على أداء حقوق كرمه، جهلا منهم بالله، وعنادا مع رسله الهادين إليه.
{ ذلكم الله } الذي أفاض عليكم موائد بره وإحسانه، وأظهر عليكم مقتضيات ألوهيته وربوبيته { ربكم } الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم، بعدما أوجدكم من كتم العدم؛ إذ هو { خلق كل شيء } ومظهره من العدم إظهارا إبداعيا بمقتضى اختياره واستقلاله، فلكم أن تتوجهوا إليه وتتحنثوا نحوه مخصلين؛ إذ { لا إله } يعبد له بالاستحقاق، ويرجع إليه في الخطول على الإطلاق { إلا هو } الذات الواحدة الموصوفة بالصفات الكاملة، المربية لجميع ما في الكون من العكوس والأظلال المنعكسة منها { فأنى تؤفكون } [غافر: 62] وتنصرفون عن عبادته أيها الآفكون المنصرفون؟!.
فأين تذهبون من بابه أيها الذاهبون الجاهلون، ما لكم كيف تحكمون أيها الضالون المحرومون؟! { كذلك } أي: مثل ما سمعت من المجادلة والمكابرة بلا برهان واضح وبيان لائح { يؤفك } ويصرف عن طريق الحق عموم المسرفين { الذين كانوا بآيات الله } ودلائل توحيده { يجحدون } [غافر: 63] وينكرون بلا تأمل وتدبر؛ لينكشف لهم ما فيها من المعارف والحقائق المودعة فيها، فكيف تجحدون بآيات الحكيم العليم أيها الجاحدون الجاهلون، مع أنه سبحانه هو المتفرد بالألوهية والربوبية؟!.
إذ { الله } الواحد الأحد الصمد { الذي جعل لكم الأرض } أي: عالم الطبيعة والهيولي { قرارا } تستقرون عليها بمقتضى هويتكم { و } رفع لكم { السمآء } أي: عالم الأسماء والصفات { بنآء } أي: سقفا محفوظا رفيعا، تستفيضون منها الكمالات اللائقة لاستعداداتكم وقابلياتكم الموهوبة لكم من عنده { و } بالجملة: { صوركم } من آباء العلويات وأمهات السفليات { فأحسن صوركم } بأن خلقكم على أعدل الأمزجة وأحسن التقويم؛ لتكونوا قابلين لائقين لخلافة الحق ونيابته.
{ و } بعدما صوركم فأحسن صوركم { ورزقكم من الطيبات } الصورية والمعنوية تقوية وتقويما لأشباحكم وأرواحكم { ذلكم الله } الذي سمعتم نبذا من أوصافه الكاملة ونعمه الشاملة { ربكم } الذي أظهركم من كتم العدم بمقتضى لطفه، فأنى تصرفون عنه وعن توحيده وعبادته أيها المسرفون الضالون، مع ألا رب لكم سواه؟! { فتبارك الله } الواحد الأحد الصمد، العلي ذاته، الجلي بحسب أسمائه وصفاته { رب العالمين } [غافر: 64] على الإطلاق بالاستقلال والاستحقاق لا يعرضه زوال، ولا يطرأ له انقراض واتقال.
بل { هو الحي } الأزلي الأبدي الدائم، المستغني عن مقدار الزمان ومكيال المكان مطلقا { لا إله } في الوجود سواه، ولا موجود يعبد بالحق { إلا هو } وبعدما سمعتم أيها المكلفون خواص أسمائه وصفاته سبحانه { فادعوه مخلصين } واعبدوه مخصصين { له الدين } أي: العبادة والانقياد؛ إذ لا مستحق للإطاعة والعبادة سواه، وبعدما رجعتم نحوه مخلصلين، وعبدتم له مخصصين، قولوا بلسان الجمع: { الحمد } المستوعب لجميع المحامد الناشئة من ألسنة عموم المظاهر ثابت { لله رب العالمين } [غافر: 65] لانفراده في الألوهية، واستقلاله في الربوبية بلا توهم الشركة والمظاهرة.
[40.66-68]
{ قل } يا أكمل الرسل لعموم المشركين على وجه التنبيه والإرشاد، بعدما وضح أمر التوحيد، واتضح سبيل الهداية والرشاد: { إني نهيت } من قبل ربي الذي سمعتم استقلاله في ألوهيته وربوبيته { أن أعبد } وانقاد الآلهة الباطلة { الذين تدعون } أنتم { من دون الله } الواحد الأحد الصمد، الفريد في الألوهية، الوحيد بالربوبية { لما جآءني البينت } أي: حين نزل علي الآليات المبينة الموضحة { من ربي وأمرت } أيضا من لدنه سبحانه { أن أسلم } أي: أعبد وأنقاد على وجه الإخلاص والاختصاص، بلا رؤية الوسائل والأسباب { لرب العلمين } [غافر: 66] إذ هو سبحانه منزه عن التعدد والتكثر مطلقا، ورجوع الكل إليه أولا وبالذات.
وكيف لا يعبدونه سبحانه، ولا ينقادون إليه بتوحيده مع أنه { هو } الخالق المصور { الذي خلقكم } قدر صوركم أولا { من تراب } مسترذل إظهارا لقدرته الغالبة الكاملة { ثم من نطفة } مهينة مستحدثة من التراب { ثم من علقة } خبيثة متكونة من النطفة { ثم يخرجكم } من بطون أمهاتكم { طفلا } كائنا من أجزاء العلقة، والروح المنفوخ فيها من لدنه سبحانه.
{ ثم } يربيكم بأنواع اللطف والكرم { لتبلغوا أشدكم } أي: كمال قوتكم وحولكم نظرا وعملا { ثم } أمهلكم وأعمركم زمانا { لتكونوا شيوخا } منحطين منسلخين عن كلتا القوتين معا { ومنكم من يتوفى } ويموت { من قبل } أي: قبل بلوغه إلى أشده أو شيخوخته { و } إنما فعل سبحانه كل ما فعل من الأطوار المتعاقبة { لتبلغوا أجلا } معينا مقدرا { مسمى } عنده بلا اطاع أحد عليه؛ لقبضكم نحوه ورجوعكم إليه { و } الحكمة الباعثة على جميع ذلك { لعلكم تعقلون } [غافر: 67] وتفهمون أن مبدأكم ومنشأكم منه، ومعادكم إليه، فتبعدونه حق عبادته كي تعرفوه حق معرفته.
وكيف لا تعبدون سبحانه، ولا تعرفونه أيها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور مع أنه { هو الذي يحيي } بامتداد أظلال أسمائه كل ما لاح عليه شمس وجوده { ويميت } يقبض تلك الأضلال بالإرادة والاختيار، وبالجملة: { فإذا قضى أمرا } أي : تعلقت إرادته ومشيئته بإحداث ما ظهر في عالم الأمر { فإنما يقول له } بعد تعلق مشيئته: { كن فيكون } [غافر: 68] بلا تراخ وتعاقب، مفهوم من منطوق هذا الكلام على ما هو المتبادر من أمثاله، بل كل ما لمع عليه برق إرادته، وصدر منه سبحانه ما يدل على نفوذ قضائه يكون المقضي؛ بحيث لا يسع بين القضاء والمقضي توهم المهلة والتراخي والترتيب أصلا.
[40.69-77]
ومع سرعة نفوذ قضاء الله، وظهور هذه الآثار العظيمة من قدرته الكاملة على الوجه المذكور { ألم تر } أيها الرائي { إلى } المشركين المسرفين { الذين يجادلون } ويكابرون { في آيات الله } الدالة على كمال علمه وقدرته، ومتانة حكمه وحكمته { أنى يصرفون } [غافر: 69] أي: إلى أين ينصرفون عن عبادته، ويعرضون عن ساحة عز الوحدة الذاتية؟.
سيما إلى المكابرين { الذين كذبوا بالكتاب } أي: بالقرآن الجامع الكامل المنزل عليك يا أكمل الرسل { وبمآ أرسلنا } أي: بجميع ما أرسلنا { به رسلنا } الذين مضوا من قبلك من الكتب والصحف المنزلة عليهم { فسوف يعلمون } [غافر: 70] وبال جدالهم وتكذيبهم في النشأة الأخرى.
وقت { إذ } تكون { الأغلال } الثقيلة معقودة { في أعناقهم } بسبب انصرافهم عن آيات الله، وعدم التفاتهم إلى رسله الحاملين { والسلاسل } في أيديهم وأرجلهم؛ لعظم جرائمهم وآثامهم الباعثة على أخذهم ومقتهم { يسحبون } [غافر: 71] ويجرون على وجوههم، { في الحميم } أي: الجحيم إلى ما شاء الله تفضيحا لهم { ثم في النار } المسعرة { يسجرون } [غافر: 72] يوقدون، ويطرحون فيها طرح الحطب الوقود للنار.
{ ثم قيل لهم } من قبل الحق توبيخا وتقريعا: { أين ما كنتم تشركون } [غافر: 73] أي: أين أصنامكم وأوثانكم، وعموم معبوداتكم التي ادعيتم شركتها مع الله في الألوهية، ويسميتوهم آلهة { من دون الله } لم لا تنقذكم من عذاب الله، ولم لا يشفعون لكم عنده سبحانه بمقتضى ما زعمتم في شأنكم؟.
وبعدما سمعوا ما سمعوا من التوبيخ والتقريع { قالوا } متحسرين متأوهين: { ضلوا } وغابوا { عنا } آلهتنا وشفعاؤنا التي كنا ندعو إليه ونستشفع منهم { بل } قد ظهر اليوم أنا { لم نكن ندعوا من قبل } في النشأة الأولى شيئا ينفعنا، ويدفع عنا من غضب الله { كذلك يضل الله } المنتقم المضل { الكافرين } [غافر: 74] الضالين؟ حيث لا ينكشفون بضلالهم إلا وقت حلول العذاب والوبال عليهم.
ثم قيل لهم مبالغة في توبيخهم وتعييرهم: { ذلكم } أي: إضلال الله إياكم { بما كنتم تفرحون في الأرض } وتمشون عليها خيلاء بطرين مسرورين، مستكبرين عن قبول آيات الله المنزلة على رسله، مكذبين لهم { بغير الحق } أي: بلا دليل عقلي قطعي، أو سمعي إقناعي، أو ظني، بل بمجرد الوهم الناشئ من كبركم وخيلائكم { وبما كنتم تمرحون } [غافر: 75] أي: تتوسعون، وتتوفرون على أنفسكم الفرح والسرور بمخالفتكم حدود الله وسنن أنبيائه ورسله عنادا ومكابرة.
ثم قيل لهم بعد تفضيحهم على رءوس الأشهاد: { ادخلوا } أيها المسرفون الضالون { أبواب جهنم } المعدة لكم بدل ما فوتهم على نفوسكم من الدرجات العلية الجنانية، وكونوا { خالدين فيها } أبد الآبدين { فبئس مثوى المتكبرين } [غافر: 76] ومأواهم جهنم البعد والخذلان، وجحيم الطرد والحرمان، أعاذنا الله وعموم المؤمنين.
وبعدما ظهر واتصح مآل حال الكفرة المستكبرين وعاقبة أمرههم { فاصبر } يا أكمل الرسل على أذاهم، و انتظر إلى هلاكهم الموعود، وثق بالله في إنجاز وعده { إن وعد الله } القدير الحكيم بإهلاك المشركين المكذبين المسرفين { حق } ثابت محقق ثبوته ألبتة، بلا خلف منه سبحانه؛ إذ الله لا يخلف المعياد مطلقا، إلا أن وعده سبحاه مرهون بأجل مقدر عنده.
ولا تحزن من تأخير الموعود، ولا تعجل لحلول الأجل المعهود { فإما نرينك } أي: فإن نرك ونبصرك، زيد " ما " في أول الفعل، والنون في آخره للتأكيد والمالبغة { بعض الذي نعدهم } من القتل والسبي والجلاء، فذاك تحقق وعدنا إياك { أو نتوفينك } ونميتنك قبل حلول إهلاكهم وتعذيبهم { فإلينا يرجعون } [غافر: 77] أي: لا تحزن من تأخير الموعود، وبعد توفيك أيضا؛ إذ نحن نعذبهم، وننتقم عنهم بعد رجوعهم إلينا في النشأة الأخرى بأضعاف ما في النشأة الأولى وآلافها.
وبالجملة: بعدما وعدنا لهم العذاب بانحرافهم عن سبيل الرشاد، مصرين على المكابرة والعناد، أنجزنا الموعود ألبتة سواء كان عاجلا أم آجلا.
[40.78-81]
{ و } ليس لك أن تتعب نفلك بتعجيل العذاب عليهم قل حلول الأجل المقدر من عندنا؛ إذ { لقد أرسلنا } من مقام جودنا { رسلا } كثيرا { من قبلك منهم من قصصنا } قصتهم { عليك } في كتابك { ومنهم من لم نقصص عليك } ولم نذكر قصتهم في كتابك؛ إذ ما يعلم جنود ربك وما جرى عليهم إلا هو.
{ و } بالجملة: { ما كان } أي: ما صح وجاز { لرسول } من الرسل { أن يأتي } ويعجل { بآية } مقترحة أو غير مقترحة من تلقاء نفسه { إلا بإذن الله } وبمقتضى مشيئته وإرادته سبحانه، بل أن ينتظر الوقت الذي عين سبحانه ظهورها فيه؛ إذ جميع الآيات والمعجزات موهوبة لله، مقسومة بين أنبيائه ورسله بمقتضى قسمته سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه، لا يسع لأحد منهم أن يعجل بها، أو يؤخر عن وقتها، بل { فإذا جآء أمر الله } العليم الحكيم بتعذيب المشركين وإثابة الموحدين { قضي بالحق } جميع المقتضيات الإلهية، سواء كانت من العقوبات والمثوبات { و } كما { خسر هنالك } أي: عند وقوع المقضي وظهوره { المبطلون } [غافر: 78] المستوجبون لأنواع العذاب والنكال، وربح حينئذ المستحقون لأصناف المثوبات واللذات الروحانية.
وكيف لا يكون مقاليد الأمور بيد الله وقبضته وقدرته؛ إذ { الله } المتفرد بالألوهية والربوبية هو { الذي جعل لكم الأنعام } مسخرة مقهورة لكم، محكومة تحت أمركم وحكمكم { لتركبوا منها } ما يليق بركوبكم تتميما لتربيتكم وحضوركم { و } جعل لكم أيضا { منها } أي: من النعام { تأكلون } [غافر: 79] لتقويم المزاج وتقوية البدن.
{ و } جعل { لكم فيها } أيضا { منافع } كثيرة كالألبان والصواف والأشعار والأوبار، وغير ذلك { ولتبلغوا } أي: لتصلوا، وتنالوا بالحمل والركوب { عليها } أي: على الأنعام { حاجة } مطلوبة لكم مركوزة { في صدوركم } ونفوسكم، ولولا ركوبكم وحملكم عليها، لم تصلوا إليها إلا بشق النفس { و } بالجملة: { عليها } أي: على الأنعام في البر { وعلى الفلك } في البحر { تحملون } [غافر: 80] يعني: سهل عليكم سبحانه أمور معاشكم في إقامتكم وأسفاركم تتميما لتربيتكم وحفظكم؛ لتواظبوا على شكر نعمه، وتلازموما لعبادته وعبوديته بالتبتل والإخلاص التام.
{ و } بهذا { يريكم } أيها المغمورون المستغرقون في بحار أفضاله وجوده { آياته } الدالة على وجوب وجوده، ووحدة ذاته واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه حسب أسمائه وصفاته { فأي } آية من { آيات الله } الدالة على كمال ألوهيته وربوبيته { تنكرون } [غافر: 81] أيها المسرفون المشركون.
[40.82-85]
{ أفلم يسيروا في الأرض } يعني: أينكر المشركون المصرون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية كمال قدرته سبحانه على أنواع الانتقام والعذاب، فلم يسيروا في الأرض التي هي محل الكون والفساد { فينظروا } عليها معتبرين من البلاقع والخربة والأطلال المندرسة { كيف كان عاقبة } الأمم الهالكة المسرفة { الذين } مضروا { من قبلهم } مع أنهم { كانوا أكثر منهم } عددا وعددا { وأشد قوة } أي: بسطة واستيلاء { و } أحكم { آثارا في الأرض } أي: أبنية وقصورا وقلاعا وحصونا مشيدة مرفوعة، ومع ذلك { فمآ أغنى } وأدفع { عنهم ما كانوا يكسبون } [غافر: 82] عليها من الأمور المذكورة شيئا من غضب الله وعذابه، بل لحقهم ما لحقهم من العذاب، بحيث لا شعور لهم بأماراته ومقدماته فاستأصلهم بالمرة.
{ فلما جآءتهم رسلهم بالبينات } أي: فهم في العتو والعناد كانوا كأمثال هؤلاء المسرفين، لما جاءهم رسلهم المبعوثون إليهم بالمعجزات والآيات الواضحات، المبينة لطريق الحق، لم يلتفتوا ولم يلقوا أسماعهم نحوها تعنتا واستكبارا، بل { فرحوا بما عندهم من العلم } أي: الجهل المركب المركوز في طباعهم من تقليد آبائهم على أوجه الأصرار، بلا التفات منهم إلى ما ظهر من الوحي الإلهي المنزل على رسلهم، بل كذبوهم واستهزءوا معهم { و } لهذا { حاق } وأحاط { بهم } وبال { ما كانوا به يستهزئون } [غافر: 83] حين دعوة الرسل وإرشادهم إلى طريق الحق بأنواع الوعد والوعيد، وكانوا على ما هم عليه من العناد مصرين مستكبرينز
{ فلما رأوا بأسنا } أي: عذابنا وبطشنا حل عليهم { قالوا } متذكرين دعوة رسلهم متسحرين على ما فوتوا على أنفسهم: { آمنا بالله وحده } على الوجه الذي هدانا إليه رسله { وكفرنا بما كنا به مشركين } [غافر: 84] من الأصنام والأوثان، وسائر ما عبدنا من دونه سبحانه.
{ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } إذ حينئذ قد انقضى زمان التدارك والتفلافي، وبالجملة: قد كانت هذه الديدنة المستمرة { سنت الله } العليم الحكيم { التي قد خلت } ومضت { في عباده } المستكبرين عن إطاعته وانقياده حين دعوة الرسل وإرشادهم { و } بعد حلول أوان اليأس ونزول العذاب { خسر هنالك } أي : عنده { الكافرون } [غافر: 85] المصرون على الإنكار والاستهزاء خسرانا عظيما في الدنيا، وفي الآخرة أعظم منه وأدوم، أعاذنا الله وعموم عباده المؤمنين من بأسه وبطشه مبنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي القاصد نحو الحق المتوجه إلى توحيده - وفقك الله على إنجاح مهامك، وأوصلك إلى منتهى مقصدك ومرامك - أن تكون على خبرة كاملة من آيات الله النازلة من عنده سبحانه؛ لإهداء عباده التائهين في فضاء وجوده وعبرة تامة سريان وحدته الذاتية على عموم هياكل ما لمع عليه بروق تجلياته الجمالية والجلالية المنتشئة من ذاته حسب شئونه وتطوراته المتفرعة على أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى.
فلك ألا تغفل في عموم أحوالك عن مطالعة جمال الله وجلاله في كل ذرة من ذرائر الأكوان على وجه الاستبصار والاعتبار، بلا شائبة شك وإنكار وتردد واستكبار؛ لئلا تلحق بالأخسرين الذين يؤمنون بالله وتوحيده، حين يك ينفعهم إيمانهم؛ لانقضاء نشأة التلافي والاختبار، وذلك حين يعرضون على الملك الجبار، ويساقون إلى النار بأنواع الخسار والبوار.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وقنا عذاب النار.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-5]
{ حم } [فصلت: 1] يا حافظ وحي اللهن المؤيد من عنده لحفظ حدوده بمقتضى أوارمه ونواهيه، هذا القرآن الجامع لمصالح عموم المظاهر والأكوان.
{ تنزيل } صارد { من الرحمن } أي: من الذات الأحدية بمقتضى اسم الرحمن المستوي به على عروش عموم الأكوان؛ لإصلاح حال كل ما لاح عليه شمس ذاته تتميما لتربيته إياه؛ إذ ما من رطب ولا يابس إلا وهو سبحانه مشتمل عليه ومتكفل لتربيته وتدبيره { الرحيم } [فصلت: 2] بإنزاله لخواص عباده؛ ليتنبهوا من رموزه وإشاراته إلى وحدة الحق كمال أسمائه وصفاته.
وإنما صار القرآن جامعا بين مرتبتي الظاهر والباطن والأول والآخر؛ لأنه { كتاب } شامل كامل { فصلت } بينت وأوحضت { آياته } المشتملة على دلائل التوحيد بشواهد القصص والأحكام، ومبنهات العز والحكم، ومحاسن الأخلاق والأعمال، ومقابيح المناهي من الأفعال والأحوال في النشأة الأولى والأخرى، ولهذا صار { قرآنا } فرقانا واضحا تبيانا { عربيا } بيانا؛ إذ لا لغهة أحسن منه وأشمل وأفضل وأكمل، وإنما فصلت وأوضحت { لقوم يعلمون } [فصلت: 3] أي: يوفقون من لدنه سبحانه على العلم اللدني والفطرة الأصلية التي هي المعرفة والتوحيد.
ولهذا صار { بشيرا } يبشر أهل العناية والسعاة والفوز العظيم الذي هو يحققهم بمقام الرضا والتسليم { ونذيرا } ينذر أصحاب الشقاوة والحرمان عن خلود النيران ولعذاب الأليم، ومع علو شأنه ووضح تبيانه وبرهانه.
{ فأعرض } عنه، وانصرف عن قبوله وسماعة سمع تدبر وتأمل { أكثرهم } أي: أكثر المكلفين المأمورين من عنده سبحانه بامتثال ما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام، وباتصاف ما ذكر فيه من الأخلاق والأعمال، وما رمز إليه من المعارف والأحوال { فهم } من شدة قساوتهم وغفلتهم { لا يسمعون } [فصلت: 4] ولا يلتفتون نحوه عتوا وعنادا، فكيف عن فحصه وقبوله، ودراية ما فيه من الرموز والإشارات.
{ و } من غاية عمههم وسكرتهم، ونهاية عتوهم، وإعراضهم عن استماع كلمة الحق والالتفات إليه { قالوا } على سبيل التهكم والتسخر: { قلوبنا } التي في وعاء الإيمن والاعتقاد { في أكنة } وأغيطة كثيفة وغشاوة غليظة { مما تدعونا إليه } من المعرفة والتوحيد، لا نتنبه ولا نتفطن بحقيته { و } أيضا { في آذاننا } التي هي وسائل العظة والتذكير { وقر } صمم مانع عن استماع آياتك الدالة على صدقك في دعواك المبينة المثبتة لدعواك.
{ و } بالجملة: حال { من بيننا وبينك } أيها المؤيد بالوحي والإلهام { حجاب } عظيم يمنعنا عما تدعونا إليه؛ بحث لا يتيسر لنا رفعه، ولا نقدر على انكشافه { فاعمل } أيها المدعي بمقتضى ما أوحاك إليك ربك وألهمك عليه { إننا } أيضا { عاملون } [فصلت: 5] بما تيسر لنا ووفقنا عليه؛ إذ كل ميسر لما خلق له.
[41.6-8]
وبعدما استنكفوا عنك، واستكبروا عليك وعلى دينك وكتابك { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض اليقين والتوحيد، خاليا عن وصمة التخمين والتقليد: { إنمآ أنا بشر مثلكم } أي: ما أنا إلا بشر مثلكم ما أدعي الملكية لنفسي، غاية ما في الباب أنه { يوحى إلي } أي: يوحي ربي إلي بمقتضى سنته السنية المستمرة في سالف الزمان { أنمآ إلهكم } الذي أظهركم من كتم العدم، وأخرجكم من فضاء الوجود { إله واحد } أحد صمد فرد وتر، لا تعدد فيه بوجه من الوجوه { فاستقيموا إليه } توجهوا نحوه مخلصين موحدين { واستغفروه } لفرطاتكم التي صدرت عنكم بمقتضى بشريتكم؛ ليغفر لكم ما تقدم منكم من طغيان بهيميتكم.
{ و } عليكم ألا تشاركوا معه سبحانه شيئا من مظاهره ومصنوعاته؛ إذ { ويل } عظيم وعذاب أليم معد عنده { للمشركين } [فصلت: 6] المشركين له غيره، الخارجين عن مقتضى توحيده واستقلاله في ألوهيته ظلما وزورا.
والمشركون المستكبرون عن آيات الله هم { الذين لا يؤتون الزكاة } المفروضة لهم من أموالهم تطهيرا لنفوسهم عن رذالة البخل، ولقلوبهم عن الميل إلى ما سوى الحق { و } سبب امتناعهم عن التخلية والتطهير، أنهم بمقتضى أهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة { هم بالآخرة } المعدة لتنقيد أعمال العباد { هم كافرون } [فصلت: 7] منكرون جاحدون، لذلك يمتنعون عن قبول التكاليف الشرعية، وعن الامتثال للأوامر الدينية المنزلة على مقتضى الحكمة الإلهية.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية: { إن الذين آمنوا } بوحدة الحق واستقلاله في الألوهية { وعملوا الصالحات } أي: أكدوا إيمانهم بصالحات الأعمال مخلصين فيها لمجرد امتثال أمر العبودية، بلا ترقب منهم إلى ما يترتب عليها من المثوبات { لهم } عند ربهم بدل إخلاصهم { أجر } وجزاء { غير ممنون } [فصلت: 8] أي: بلا منة معقبة للثقل والأذى، بل يحسن ويتفضل عليهم سبحانه من محض الرضا.
[41.9-12]
{ قل } يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله، وجحد توحيده على سبيل التوبيخ والتقريع: { أإنكم } أيها الجاهدون المسرفون { لتكفرون } وتنكرون { بالذي } أي: بالقادر العليم الحكيم الذي { خلق الأرض } أي: عالم الطبيعة والهيولي { في يومين } يوما لاستعداداتها القابلة لانعكاس أشعة نور الوجود، ويوما لاتصافها بها بمقتضى الجود الإلهي.
{ و } من كمال غفلتكم وضلالكم عن توحيد الحق وتوحده في ذاته { تجعلون له أندادا } تثبتون له شركاء في الوجود، مشاركين معه سبحانه في الآثار والتصرفات الواقعة في الكائنات، وتتوجهون نحوهم في الخطوب والملمات، مع أنه لا رب لهم سواه سبحانه، ولا مرجع لهم غيره، بل { ذلك } الواحد الأحد الصمد الذي ذكر نبذا من أخص أوصافه { رب العالمين } [فصلت: 9] أي: موجد جميع ما لاح عليه برق الوجود، ومربيها بمقتضى الجود.
{ و } كيف تنكرون وحدة الحق، واستقلاله في ملكه وملكوته مع أنه { جعل } بمقتضى حكمته { فيها } أي: في عالم الطبيعة { رواسي } اي: أقطابا وأوتادا رفعية الهمم عالية القدر مستمرة { من فوقها } أي: من عالم الأسماء والصفات { و } لهذا { بارك فيها } وكثر الخير والبركة عليها { و } من كما حكمته سبحانه { قدر فيهآ أقواتها } أي: قدر وأظهر في عالم الطبيعية جميع ما يحتاج إليه أهلها من الرزق الصوري والمعنوي تتميما لتربيتهم، وتكميلا لهم حسب نشأتهم.
كل ذلك صدر منه سبحانه { في أربعة أيام } يومين للنشأة الأولى المتعلقة بالظور والبروز، ويومين للنشأة والأخرى المتعلقة بالكمون والبطون، ولهذا كانت الأيام المذكورة { سوآء } أي: سبيلا وطريقا مستقيما { للسآئلين } [فصلت: 10] المستكشفين عن مدة بروز عالم الطبيعة عن مكمن الغيب.
{ ثم } أي: بعدما هبط ونزل من عالم الأسماء إلى مهبط الطبيعة والهيولي، وصعد إليها { استوى إلى السمآء } أي: سماء الأسماء، وتمكن عليها مستعليا مستغنيا فارغا عن الصعود والهبوط { و } الحال أنه { هي } أي: عالم الأسماء والصفات في أنفسها أيضا { دخان } حجاب بالنسبة إلى صرافة الذات؛ إذ لا تلخوا عن شوب الكثرة المستلزمة للظلمة، بعدما استقر عليها سبحانه، وتمكن { فقال لها } أي: لسماء الأسماء والصفات.
{ وللأرض } أي: الطبيعة والهيولي إظهارا للقدرة الشاملة والسلطنة الغالبة: { ائتيا } وتوجها نحو جانبنا، منسلخين عن هوياتكما الباطلة ووجوداتكما العاطلة الزائلة { طوعا أو كرها } أي: طائعتين أو كارهتين؛ إذ لا وجود لكما في أنفسكما، وبعدم سمعتا من النداء المهوول ما سمعتا { قالتآ } على وجه التصريح والتذلل، حسب استعداداتهما الف
رية وقابالياتهما الجبلية: { أتينا } نحو بابك يا ربنا { طآئعين } [فصلت: 11] من أين يتأتى منا الكره لحكمك، يا من لا وجود لنا إلا منك، لا تحقق إلا بك، نعبدك ونستعين منك عل العبادة عبادتك؛ إذ لا معبود لنا سواك، ولا مقصود إلا إياك.
{ فقضهن } أي: قضي سبحانه وقدر لإمدادهما { سبع سموت } على عدد الصفات السبع التي هي أمهات الأسماء الإلهية { في يومين } أي: يوم الظهور ويوم البطون، يوم ل تحصيل المادة، ويوم لتكميل الصورة { و } بعدما حكم وقضي سبحانه { أوحى } وألهم { في كل سمآء } من الأسماء المدبرة { أمرها } أي: أمورها التي طلب منها ووضع لأجلها { و } قال سبحانه بعدما رتبها عليها تتميما للتربية، وتكميلا للقدرة الكاملة الشاملة: { زينا السمآء الدنيا } أي: القرب إلى عالم الشهادة المشتملة على الآثار والأعمال، الصادرة من المظاهر والأظلال { بمصبيح } مقتبسة مسرجة من أشعة أنوار الذات { و } جعلناها { حفظا } أي: وقاية ورقيبا لأرباب العناية من وساوس شيطان الأوهام، والخيالات المترتبة على القوى الطبيعية المائلة بالذات إلى السفل { ذلك } الذي سمعت من الخلق والإيجاد على النظام البديع والترتيب العجيب { تقدير } الحكيم { العزيز } الغالب على إيجاد جميع ما دخل في حيطة إرادته { العليم } [فصلت: 12] بإظهارها على عموم الصور الممكنة لظهورها.
[41.13-16]
وبعدما ظهر من دلائل توحيد الحق ما ظهر، ولاح من آثار قدرته الكاملة ما لاح { فإن أعرضوا } أي: الكفرة الجهلة المستكبرون عنك يا أكمل الرسل، وعن جميع ما جئت لهم من الآيات البينات لدلائل توحيد الذات، وكمال الأسماء والصفات الإلهية { فقل } لهم على وجه التحذير والتنبيه: { أنذرتكم } أيها التائدون في تيه الغفلة والضلال، أتى بالماضي لتحقق وقوعه { صاعقة } أي: بلية عظيمة نازلة عليكم من شدة قساوتكم، وإعراضكم عن الحق وأهله كأنها صاعقة في الحول والشدة { مثل صاعقة عاد وثمود } [فصلت: 13].
وقت { إذ جآءتهم الرسل } المبعوثون إليهم؛ لتكميلهم وإرشادهم، والمبلغون لهم الوحي الإلهي { من بين أيديهم ومن خلفهم } أي: في حضورهم وغيبتهم بواسة وبغير واسطة، المنبهون عليهم، القائلون لهم: عليكم أيها المجبولون على فطرة التوحيد { ألا تعبدوا } ولا تتوجهوا بالعبودية الخالصة { إلا الله } الواحد الأحد الصمد، الحقيق بالإطاعة والانقياد؛ إذ لا معبود لكم سواه، ولا مقصد إلا هو.
وبعدما سمعوا من رسلهم ما سمعوا { قالوا } متهكمين مستهزئين: { لو شآء ربنا } الذي ادعيتم ربوبيته وألوهيته بالانفراد والاستقلال { لأنزل } بمقتضى قدرته الكاملة التي ادعيتم له { ملائكة } يخرجوننا من أودية الجهالات وبادية الضلال والغفلات، وبالجملة: { فإنا } بأجمعنا { بمآ أرسلتم به } أي: بجميع ما جئتم به وادعيتم الرسالة فيه { كافرون } فصلت: 14] منكرون جاحدون، إن أنتم إلا بشر مثلنا بلا مزية لكم علينا، ومن أين يتأتى لكم هذا؟!.
ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله : { فأما عاد فاستكبروا } على عباد الله { في الأرض } التي هي محل الاختبار الإلهي { بغير الحق } أي: بلا انقياد وإطاعة إلى دين ونبي يرشدهم إلى طريق الحق { و } من كمال تعنتهم وبطرهم { قالوا } على وجه الشرف والمباهاة: { من أشد } على وجه الأرض { منا قوة } وأكثر عددا وعددا، وأتم بسطة واستيلاء؟!.
وقالوا هذا حين تخويفهم الرسل بإلمام العذاب عليهم، وهم كانوا أعظم الناس جسما وأوفرهم قوة وقدرة، لذلك اغتروا بما عندهم من القوة والثروة، فكذبوا الرسل وقالوا لهم: نحن ندفع العذاب الذي ادعيتم نزوله أيها الكاذبون بوفور حولنا وقوتنا { أولم يروا } يعني: أيغترون على قوتهم وجسامتهم وينكرون كمال قدرة الله وشدة انتقامه، ولم يعلموا { أن الله } القدير العزيز { الذي خلقهم } وإظهرهم من كتم العدم، ولم يكونوا شيئا مذكورا { هو } سبحانه بذات وكمال أسمائه وصفاته { أشد منهم قوة } وأكمل حولا وقدرة، وأحكم بطشا وانتقاما { و } هم وإن جزموا حقية رسلنا المبعوثين إليهم، وآياتنا المنزلة عليهم في ظواهرهم وبواطنهم، لكن { كانوا بآياتنا يجحدون } [فصلت: 15] وينكرون بحسب الظاهر عنادا ومكابرة، اغترارا بما معهم من الثروة والجسامة.
وبعدما تمادوا على غيبهم، وأصروا على عتوهم وضلالهم { فأرسلنا } بمقتضى قهرنا وجلالنا { عليهم ريحا صرصرا } باردة شديدة البرد، عقيمة عن المطر، تعميهم بنقعها، وتصميهم بصريرها { في أيام نحسات } لا سعود فيها؛ يعني: إنما بدلنا مسعودات ايامهم بالمنحوسات { لنذيقهم عذاب الخزي } أي: المذلة والهوان اللازم على العذاب حيث كان ونزول { في الحياة الدنيا } التي هم مغرورون فيها، مسرورون بلذاتها وشهواتها { و } الله { لعذاب الآخرة } المعدة للانتقام والجزاء { أخزى } أي: أشد خزيا، وأتم تذليلا وتصغيرا بأضعاف عذاب الدنيا وآلافها { و } بالجملة: { هم لا ينصرون } [فصلت: 16] ولا يشفعون فيها بدفع العذاب عنهم لحظة، بل يخلدون في العذاب ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[41.17-21]
{ وأما ثمود فهديناهم } بإرسال الرسل أياهم؛ ليرشدوهم إلى النجاة، وينقذوهم من الضلال، وبعدما بلغهم الرسل ما بلغهم من آيات الهداية والرشاد، كذبوهم وأنكروا هدايتهم { فاستحبوا العمى } والضلال بمقتضى عميهم وغفلتهم { على الهدى } المنزل عليهم من عندنا على ألسنة رسلنا، وبعدما أصروا على ما هم عليه من الغواية { فأخذتهم } فجأة { صاعقة العذاب الهون } المخزي المذل النازل من نحو السماء على صورة الصاعقة السريعة الجري والحركة، فاستأصلهم بالمرة { بما كانوا يكسبون } [فصلت: 17] أي: بشؤم ما يقترفون من المعاصي والآثام الجالبة إياهم شدة غضب الله وعذابه.
{ و } من كمال قدرتنا على الإنعام والانتقام { نجينا } من تلك الصاعقة المهولة المهلكة القوم { الذين آمنوا } برسلنا واهتدوا هدايتهم، مع أنهم كانوا فيهم مجارين معهم { و } بسبب تخليصنا إياهم أنهم { كانوا يتقون } [فصلت: 18] عن محارمنا ومنهياتنا، مع كونهم مصتفين بكمال الإيمان والتوحيد.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن عاندك من المشركين { يوم يحشر } ويساق { أعدآء الله } بعد العرض والحساب { إلى النار } المعدة لجزائهم { فهم } حينئذ { يوزعون } [فصلت: 19] أي: يدفعون؛ يعني: حبس أولهم ومقدومهم على أخرهم؛ لئلا ينقطع تلاحقهم وأجتماعهم.
{ حتى إذا ما جآءوها } أي: حضروا النار، وازدحموا حولهم مجتمعين صائحين فزعين مجادلين منكرين بصدور أسباب العذاب عنهم، مع أنهم يحاسبون أولا ثم يساقون نحو النار، ولإسكاتهم وتبكيتهم عن الجدال والمراء { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } أي: أعترشفت جوارحهم وقواهم { بما كانوا يعملون } [فصتل: 20] ويقترفون بها من المحرمات والمنهيات، بأن يلهمهم الله الاعتراف والتنطق بلسان الحال والمقال؛ إذ الكل مما أحاطت به قدرته سبحانه.
{ و } بعدما سمعوا من قواهم ما سمعوا من الاعتراف { قالوا } موبخين مقرعين { لجلودهم } وجوارحهم المعترفة بذنوبهم: { لم شهدتم علينا } مع أنا لا نعذب إلا بكم ومعكم؟ من أين تجترئون على أنفسكم بالعرض على العذاب المؤبد أيها الحمقى الجهلاء { قالوا } ما كنا مختارين في هذه الشهادة والاعتراف، بل { أنطقنا الله } القادر المقتدر العليم الحكيم { الذي أنطق كل شيء } بآيات وجوب وجوده، ودلائل توحيده بمقتضى جوده، وليس تعجبا من قدرته سبحانه إنطاقنا بما اقترفتم بنا من المعاصي والآثام المخالفة لأمره وحكمه، غيره منه سبحانه، وقهرا على من خرج عن ربقة عبوديته بترك أوامره وأحكامه.
{ و } كيف لا يغار ويقهر سبحانه عليكم أيها المفسدون المسرفون مع أنه { هو } بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته { خلقكم } وأظهركم من كتم العدم خلقا إبداعيا { أول مرة } بلا سبق مادة ومدة، وشركة من أحد ومظاهرة { وإليه } أيضا آخر مرة كذلك { ترجعون } [فصلت: 21] رجوع العكوس والأظلال إلى الأضواء، والأمواج إلى الماء، فمن أين تستنكفون عن عبوديته، وتخرجون عن حكمه وأمره؟!.
[41.22-25]
ثم قال سبحانه تذكيرا لما هم عليه عن ارتكاب المعاصي توبيخا لهم وتقريعا: { وما كنتم تستترون } أي: لم تكونوا مسرين مستترين عند ارتكاب الفواحش والمحظورات مخافة { أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } عند الله في يوم الجزاء؛ لإنكاركم به، بل إنما تشترون وتكتمون معاصيكم وقبائحكم مخافة فضاحتكم واشتهاركم بين الناس بالمذام { ولكن ظننتم } بالله ظن السوء، وهو { أن الله } المطلع لسرائر الأمور وخفاياتها { لا يعلم كثيرا مما تعملون } [فصلت: 22] في خلواتكم، لذلك اجترأتم على اقتراف المعاصي والآثام المحرمات.
{ وذلكم } أي: هذا الذي نسبتم إلى الله بقولهم هذا { ظنكم } السوء، وزعمكم الفاسد { الذي ظننتم بربكم } العليم الخبير بجميع ما صدر عنكم، وهذا { أرداكم } وأهلككم في تيه الجهل والضلال، وبعدما فوتم على أنفسكم أسباب السعادة والهداية، واخترتم بدلها ما يوجب الشقاوة والضلال { فأصبحتم من } زمرة { الخاسرين } [فصلت: 23] وانقلبتم صاغرين مهانين، وصرتم في النار خالدين.
وبعدما دخلوا في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان { فإن يصبروا } على فوحاتها والتهاباتها الشديدة { فالنار مثوى } منزلا { لهم } أبدا، لا نجاة لهم منها أصلا { وإن يستعتبوا } ويبثوا الشكوى والعتبى، ويظهروا الكآبة وعدم الطاقة { فما هم من المعتبين } [فصلت: 24] المجابين بإزالة العتبى والشكوى، بل كلما أظهروا العتاب ضوعف لهم العذاب.
{ و } كيف يزال عتابهم، ولا يضاعف عليهم عذابهم؛ إذ قد { قيضنا } وقدرنا { لهم } فيما هم عليه من الكفر والشقاق، وأنواع الفسوق والنفاق { قرنآء } أخدانا وإخوانا من الشياطين يوحون إليهم ما يبعدهم عن الحق وأهله { فزينوا لهم } وحسنوا لطباعهم { ما بين أيديهم } من اتباع الشهوات، واركتاب المناهي والمحظورات { و } إنكار { ما خلفهم } من الأمور الأخروية مواعيدها وموعوداتها.
{ و } سبب ارتكاب المعاصي وإصفاؤهم، قول قرنائهم { حق } وثبت { عليهم القول } وكلمة العذاب المؤبد منا، وليس هذا مخصوص بقوم دون قوم بل جرت سنتا كذلك { في } كل { أمم } مفسدة مشركة { قد خلت } ومضت { من قبلهم } أي: قبل هؤلاء المشركين المسرفين سواء أكانوا { من الجن والإنس } أي: المكلفين منها، وإنما استحقوا العذاب المؤبد والنكال المخلد بسبب { إنهم كانوا خاسرين } [فصلت: 25] خسرانا مبينا؛ لاستبدالهم أسباب السعادة والهداية بالشقاوة والضلال.
[41.26-29]
{ و } من شدة غيهم وضلالهم والمفضي إلى الخسران العظيم { قال الذين كفروا } بك وبدينك وبكتابك - يا أكمل الرسل - حين تلاوتك وتبليغك عليهم آيات القرآن { لا تسمعوا لهذا القرآن } ولا تلفتوا إلى محمد حين قرأ، بل { والغوا فيه } بالصياح، وإنشاد الأشعار، وخلط الأصوات والخرفات { لعلكم تغلبون } [فصلت: 26] محمدا، وتدفعون قراءتهم، وتخجلونه فيسكت.
وهم من شدة شكيمتهم وغيظهم، وإن بالغوا في تخجيلك وتخذيلك يا أكمل الرسل لا تبال بهم وبفعلهم هذا { فلنذيقن } لهولاء { الذين كفروا } بك وأساءوا الأدب معك { عذابا شديدا } منتقمين عنهم في النشأة الأولى { ولنجزينهم } في النشأة الأخرى { أسوأ } وأشد وأقبح من { الذي كانوا يعملون } [فصلت: 27] معك بأضعافها وآلافها.
{ ذلك } العذاب الأسوأ الأشد { جزآء } أعمال { أعدآء الله } الذين عاندوا معك يا أكمل الرسل، واستهزءوا بك وبكتابك، بطرين بما معهم من الجاه والثروة، وهي { النار } المسعرة المعدة لدخولهم ونزولهم؛ إذ { لهم فيها } أي: في النار { دار الخلد } أي: إقامة على وجه الخلود، وإنما صارت كذلك ليكون { جزآء بما كانوا بآياتنا يجحدون } [فصلت: 28] وينكرون بها، ويكذبكون بمن أنزل إليه ويستهزئون.
{ و } بعدم استقر أهل النار في النار بأنواع السلاسل والأغلال { قال الذين كفروا } بالله ورسله وكتبه في النشأة الأولى، متحسرين متأسفين، متضرعين إلى الله، مناجين له: { ربنآ } يا من ربانا على فطرة الإسلام والتوحيد، فكفرنا بك وأشركنا معك غيرك في ألوهيتك بإضلال قرنائنا الضالين المضلين { أرنا } الشياطين { الذين أضلانا } عن طريق توحيد كتبك ورسلك الكائنين { من الجن والإنس } أي: المضلين اللذين أضلانا من هذين الجنسين بأنواع الوساوس والزخارف، والتغريرات والتزيينات { نجعلهما تحت أقدامنا } لننتقم عنهم جزاء ما فوتوا عنا سعادة الدارين وصلاح النشأتين، وإنما نرجو منك هذا يا مولانا { ليكونا من الأسفلين } [فصلت: 29] المستتبعين لنا، كما كنا كذلك بالنسبة إليهم، وإنما قالوا ما قالوا تحسرا وتضجرا.
[41.30-33]
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته في كتابه: { إن } الموحدين { الذين قالوا } في السراء والضراء والسر والعلن: { ربنا الله } الواحد الأحد الفرد الصمد الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] { ثم استقاموا } وتثبتوا على ما أقروا، واعترفوا بأعمالهم وأحوالهم وبيناتهم المترتبة عليها عموم أفعالهم { تتنزل } على إعانتهم وشرح صدورهم وتهذيب أخلاقهم { عليهم الملائكة } المترصدون لأم الله، القائمون لحكمه، قائلين لهم مبشرين إياهم: { ألا تخافوا } على فرطاتكم التي صدرت عنكم قبل انكشافكم بسرائر التوحيد واليقين { ولا تحزنوا } بما جرى عليكم من مقتضيات بشرياتكم { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [فصلت: 30] بألسنة أنبيائكم ورسلكم الهادين المهدين.
وبعدما وفقناكم على انكشاف سرائر توحيدنا، والتخلق بأخلاقنا { نحن أوليآؤكم } نولي عموم أموركم؛ بحيث نكون سمعكم وبصركم وجميع قواكم وجوارحكم { في الحياة الدنيا } حسب اسمنا الظاهر { وفي الآخرة } أيضا كذلك حسب اسمنا الباطن { ولكم } منا وراء ذلك تفضلا وإحسانا { فيها } أي: في الآخرة { ما تشتهي أنفسكم } من اللذات الروحانية حسب استعداداتكم الفطرية وقابلياتكم الجبلية الفائضة عليكم بمقتضى جودنا الواسع { ولكم } أيضا { فيها ما تدعون } [فصلت: 31] تطلبون وتتمنون وقت دعائكم في نشأة الدنيا حسب عقولكم وهوياتكم.
كل ذلك صار { نزلا } معدا لكم قبل نزولكم فيها تفضلا عليكم وإحسانا لكم { من غفور } ستار لأنانياتكم، محاء لذنوب هوياتكم { رحيم } [فصلت: 32] موصل لكم بمقتضى سعة رحمته وجوده إلى زلال توحيده.
{ ومن أحسن قولا } وأصلح عملا، وأكمل إيمانا واعتقادا، وأتم معرفة وتوحيدا { ممن دعآ } أي: أشد وهدى { إلى الله } الواحد الأحد الصمد، المستقل بالألوهية والربوبية، المتفرد بالوجود والديمومية { وعمل } عملا { صالحا } مطابقا موافقا لصفاء مشرب التوحيد، مجتنبا عن رعونات العجب والرياء، وتخمينات التقليد والهوى { و } بالجملة: { قال } بعدما نال أولا ما نال، وفني فيما فني: { إنني من } زمرة { المسلمين } [فصلت: 33] المسلمين المنقادين، المفوضين إلى الله جميع ما لاح عليهم من بروق تجلياته الجمالية والجلالية، وما لي أيضا إلا التسليم والرضا بعموم ما جرى عليه القضاء.
[41.34-38]
ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والإرشاد لعموم العباد: { ولا تستوي الحسنة } أي: لا تستوي جنس الحسنات بل هي متفاوتة في الحسن والبهاء { ولا السيئة } أي: وكذا لا تستوي جنس السيئات أيضا بعضها أسوأ من بعض { ادفع } أيها السالك القاصد سلوط طريق التوحيد من جادة العدالة المنكشفة لأكمل افرسل وأفضل الأنبياء الهادين، المرشدين إلى بحر الوحدة الذاتية من جدوال الأسماء والصفات المترشحة منها حسب تموجاتها وتطوراتها المتفرعة على شئونها الذاتية { بالتي } أي: بالخصلة الحسنة التي { هي أحسن } الحسنات أسوأ السيئات، ودوام عليها، وتخلق بها حتت تستوي وتستقيم أنت على جادة العدالة الإلهية.
وبعد استقامتك وتحققك في هذه المرتبة { فإذا الذي } كان { بينك وبينه عداوة } مستمرة ناشئة من القوى البهيمية من كلا الطرفين، صار صديقك وخليلك إلى حيث { كأنه ولي } حفيظ لك، رقيب على حضانتك عن جميع ما يؤذيك ويرديك، فكيف يؤذيك؛ إذ هو { حميم } [فصلت: 34] مشفق كريم رءوف، رحيم لك، لا يخاصمك أصلا.
{ و } لكن { ما يلقاها } أي: الخصلة الحميدة الحسنة التي هي دفع الإساء بالإحسان، والمكروه بالمعروف، والقهر باللطف { إلا الذين صبروا } أي: الأبطال المتحملون الذين صبروا على كظم الغيظ وتحمل المتاعب والمشاق المتعاقبة على نفوسهم؛ لتحققهم بمقام الرضا والتسلي بما جرى عليهم من القضاء، وتمكنهم في مقر التوحيد المسقط للإضافات، المستلزمة لأنواع الاختلافات والانحرافات { و } بالجملة: { ما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم } [فصلت: 35] ونصيب كامل من الكشف والشهود بأسرار الوجود بمقتضى الجود الإلهي.
{ و } بعدما أرشد سبحانه عموم عباده إلى طريق النجاة، وعلمهم الخصلة المحمودة المخلصة لهم عن أدوية الضلالات والجهالات، وأوصاهم بأا أوصاهم من الصبر والثبات على تحمل المشاق والمكروهات، خاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم بما خاطب حثا له ولمن تبعه واسترشد منه على دفع ما يمنعهم عن الاتصاف بتلك الخصال الحميدة، ويعوقهم منها بالإضلال والإغواء، فقال: { إما ينزغنك } ويعرضن عليك يا أكمل الرسل { من الشيطن } المضل المغوي { نزغ } نخس يحرك غضبك وحمية بشريتك، ويوقعن فيك بوسوسته فتنة تبعثك على الإساءة والانتقام بترك تلك الخصلة المحمودة { فاستعذ } بالله أي : بادر إلى الإعادة والالتجاء { بالله } المقلب للقلوب، وفوض أمورك كلها إليه سبحانه على وجه التبتل والإخلاص؛ لتأمين من غوائله وتلبيساته { إنه } سبحانه { هو السميع } لمناجاتك { العليم } [فصلت: 36] بحاجاتك وخلوص نياتك فيها.
ثم قال سبحانه ردا على المشركين، المتخذين شركاء الله من مظاهره ومصنوعاته ظلما وزورا، يعبدونهم كعبادته: { ومن آياته } أي: من جملة الدلائل الداتلة على قدرة الصانع الحكيم { اليل } المظلم { والنهار } المبصر المضيء { و } كذا { الشمس } المشرق في النهار { والقمر } والمنير في الليل، قل لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والتذكير: { لا تسجدوا } أي: لا تعبدوا ولا تتذللوا أيها الأظلال الهالكة في شمس الذات { للشمس } المستهلكة أمثالكم في شروق ذاته سبحانه { ولا للقمر } المستنير منها بالطريق الأولى.
بل { واسجدوا } وتذللوا بوضع جباهكم وجوارحكم على تراب المذلة { لله } الواحد الأحد القدير العزيز { الذي خلقهن } أي: أظهرهن، وأوجده من كتم العدم على سبيل الإبداع بلا سبق مادة وزمان، بل بمجرد امتداد أظلال أسمائه وبسط عكوس صفاته على مرآة العدم، فعليكم الإطاعة والإنقياد إليه، والتوجه نحوه على وجه الإخلاص والاختصاص فاعبدوه { إن كنتم إياه } سبحانه { تعبدون } [فصلت: 37] أيها العابدون المخلصون.
وبعدما بلغت إليهم يا أكمل الرسل ما بلغت من الحق الحقيق بالقبول والاتباع { فإن استكبروا } واستنكفا عن سجود الله، وأصروا على ما هم عليه عن سجود الله، اعرض عنهم وعن نصحهم، ولا تبال لهم وبشأنهم { فالذين عند ربك } يا أكمل الرسل من الملائكة المهيمين، المستغرقين بمطالعة جماله وجلاله، والمحدين المفنين هوياتهم في هوية الله { يسبحون له } ويقدسون ذاته عن شوب الشركة مطلقا، قولا وفعلا، وخاطرا وناظرا { باليل والنهار } أي: في عموم الأوقات والحالات { وهم } من كمال شوقهم وتحننهم { لا يسئمون } [فصلت: 38] أي: لا يملون ولا يفترون منها أصلا.
[41.39-42]
ومع ذلك هو سبحانه غني عن عبادتهم فكيف عن عبادة هؤلاء الحمقى، المنغمسين في بحر الجهالات التائهين في بادية الضلالات وأودية الشهوات والغفلات { و } أيضا { من } جملة { آياته } الدالة على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته: { أنك } يا أكمل الرسل، وإنما وجه سبحانه أمثال هذه الخطابات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه يصلح عموم الناس؛ لكمال لياقته بمطالعة آيات الله، وخبرته منها { ترى الأرض } أي: الطبيعة العدمية الجامدة اليابسة { خاشعة } ذليلة ساقطة عن درجات الاعتبار { فإذآ أنزلنا } من مقا م وجودنا ورششنا { عليها المآء } المحيي المترشح من بحر الوجود، الذي هو الحي الأزلي والقيوم السرمدي { اهتزت } أي: تحركت وارتعدت اهتزازا شوقيا { وربت } أي: زادت ونمت، مع أنها لا شعور فيها، بل لا وجود لها أصلا.
وبالجملة: { إن } القادر المقتدر الحكيم { الذي أحياها } مع أنها لم تكن في ذاتها شيئا مذكورا { لمحى الموتى } مرة أخرى بعدما كانت أحياء بالطريق الأولى، وبالجملة: { إنه } سبحانه { على كل شيء } دخل في حيطة علمه وإرادته { قدير } [فصلت: 39] بلا فتور وقصور.
ثم قال سبحانه تهديدا على منكر الآخرة، وقدرة الله على إعادة الموتى وحشر الأموات: { إن } المسرفين { الذين يلحدون } أي: يميلون وينحرفون { في آياتنا } الدالة على عظمة ذاتنا وكمال قدرتنا على أنواع الانتقام { لا يخفون علينآ } أي: لا يشتبه حالهم علينا، بل نحن منكشفون بهم وبجميع ما جرى في ضمائرهم، واختلج في خواطرهم من الميل والانحراف، فيجازيهم على مقتضى إلحادهم وانحرافهم بأشد العذاب وأسوأ الجزاء.
{ أفمن يلقى في النار } أي: قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع " إن من يلقى في النشأة الأخرى في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان { خير } عندهم { أم من يأتي آمنا } من العذاب مسرورا { يوم القيامة } بأنواع الفتوحات والكرامات الموهوبة له من ربه تفضلا عليه وإحسانا، وبالجملة: قل يا أكمل الرسل للملحدين المصرين على الميل والإلحاد على سبيل التبكيت والتهديد: { اعملوا ما شئتم } من الخوض في آيات الله، والميل عن دلائل توحيده { إنه } سبحانه { بما تعملون بصير } [فصلت: 40] يجازيكم عليه بلا فوت شيء منه، ثم عرض عنهم ودعهم
في خوضهم يلعبون
[الأنعام: 91].
ثم قال سبحانه على وجه التخيص بعد التعميم: { إن } المشركين المفرطين { الذين كفروا } وأنكروا الرسل تفضيلا منا إياه وتكريما { بالذكر } أي: القرآن الكامل الشامل لما في الكتب السالفة، المنزل على أكمل الرسل تفضلا منا إياه وتكريما { لما جآءهم } أي: حين جاءهم به الرسول المؤيد من عندنا، المرسل إليهم ليشردهم به إلى سبيل الهداية والرشاد، وهم يعاندون في تكذيبه ويكابرون في إنكاره وقدحه عتوا استكبارا، كيف يفرطون في علو شأنه، ويكابرون في سمو برهانه { وإنه } أي: القرآن { لكتاب عزيز } [فصلت: 41] منيع ساحة عزته ورتبته، وعلو قدره ومكانته عن أن يحوم حوله شائبة الجدل والعناد.
إذ { لا يأتيه الباطل } الزائغ الزائل في خلال أوامره وأحكامه لا { من بين يديه } بأن يتصف حكمه وأحكامه حين نزوله وظهوره بعدم المطابقة لما في الواقع، وما في علم الله ولوح قضائه { ولا من خلفه } بأن يلحقه نسخ وتبديل كالكتب السالفة؛ إذ هو { تنزيل من حكيم } كامل في الإتقان والإحكام، عليم بأساليب الحكم والأحكام { حميد } [فصلت: 42] في ذاته، يحمده كل الأنام على ما أفاض عليهم من موائد الإفضال والإنعام.
[41.43-46]
ثم أخذ سبحانه يسلي حبيبه صلى الله عليه وسلم ويزيل عنه أذى الكفرة الجهلة المعاندين معه بمقتضى آرائهم الباطلة وأهويتهم الفاسدة العاطلة فقال: { ما يقال لك } أي: ما يقول لك كفار قومك ليس { إلا } مثل { ما قد قيل للرسل } الذين مضوا { من قبلك } من قبل قومهم، فصبروا على أذاهم حتى ظفروا عليهم وانتصروا، فاصبر أنت أيضا على أذى هؤلاء المعاندين حتى تظفر عليهم، وبعدما ظفرت يؤمنوا بك، ويصروا على عنادهم { إن ربك لذو مغفرة } على المؤمنين بك، يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، إن أخلصوا في إيمانهم { وذو عقاب أليم } [فصلت: 43] على من تولى واستكبر، وأصر على كفره ولم يؤمن.
وبعدما قدح كفار مكة في شأن القرآن، وقالوا: هلا نزل بلغة العجم كالكتب السالفة، مع أنه لم يعهد منه سبحانه إنزال كتاب بلغة العرب قط، ورود الله عليهم هذا بقوله: { ولو جعلناه } أي: الذكر المنزل عليك يا أكمل الرسل { قرآنا أعجميا لقالوا } في شأنه من شدة بغضهم وشكيمتهم معك { لولا فصلت } أي: هلا أضحت وبينت { آياته } بلسان نفقهها وندركها، مع أنه إنما أنزل إليك وإلينا ونحن لا نفهم لغة العجم، ثم يأخذون في القدح والاستهزاء بوجه آخر، ويقولون: { ءاعجمي وعربي } يعني: أينزل كلام أعجمي من قبل الحق على سبيل الوحي على نبي عربي، لا شعور له بكلام العجم أصلا ليرشد الأعراب به ويبين له ما فيه؟! كلا وحاشا، ما هذا إلا كذب مفترى، وبالجملة " لا يسكتون أولئكك المعاندون عن القدح والطعن فيه بحال.
وبعدما وضح حالهم في التعنت والعناد { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المجادلة والعناد: { هو } أي: القرآن { للذين آمنوا } به، وامتثلوا بأوامره ونواهيه، وتنبهوا من رموزه وإشارته، واعتبروا من عبره وأمثاله وقصصه وأخباره { هدى } يهديهم إلى الحق الصريح، ويوصلهم إلى محض اليقين والتحقيق { وشفآء } لما في النفوس من الجهل، والأمراض العضال المورثة لهم من تقليد آبائهم وتخمينات وأوهام صناديدهم ورؤسائهم { و } المكابرون { الذين لا يؤمنون } ولا يصدقون نزوله، بل يكذبونه ويستهزئون مع من أنزل إليه، هو بالنسبة إليهم { في آذانهم وقر } مستقر وصمم شديد يصمهم عن استماع آياته الدالة على تهذيب الظاهر والباطن، بل { وهو عليهم عمى } يعمي بصائرهم وأبصارهم عن رؤية الحق الظاهر في الأنفس والآفاق.
وبالجملة: { أولئك } البعداء عن ساحة عز الحضور { ينادون } إلى مقصد التوحيد { من مكان بعيد } [فصلت: 44] بمراحل عن الوصول إليه؛ يعني: هم وإن جبلوا على نشأة التوحيد صورة، إلا أنهم حطوا عنها ولحقوا بمرتبة البهائم، بل صاروا أبعد منها وأنزل لذلك ينادون من مكان بعيد إن نودوا.
{ و } إن عاندوا معك يا أكمل الرسل، واختلفوا في كتابك بالتصديق والتكذيب لا تبال بهم وبردهم وقبولهم، فإنا { لقد آتينا } من كمال جودنا أخاك { موسى الكتاب } أي: التوراة المشتمل على ضبط ظاهر الأحكام وبواطنه، حفظا لهم وضبطا لأمور معاشهم ومعادهم، ومع ذلك { فاختلف فيه } أي: في حق التوراة وشأنه، فقلبه بعضهم، ورده الآخر مثلما يفعل هؤلاء الغواة بكتابك هذا، وليس هذه الديدنة ببدع من هؤلاء الجهلة، بل هي من عادتهم المستمرة وشيمتهم القديمة.
{ و } بالجملة: { لولا كلمة } موعودة معهودة { سبقت من ربك } من أخذ الظالم منهم على ظلمه في يوم الجزاء { لقضي بينهم } أي: بأخذهم سبحانه بظلمهم، ويستأصلهم اليوم بالكلية بلا إمهال لهم لاستئصالهم بالأخذ والانتقام، لكن ثبت حكمه سبحانه على ما وعد وقضى؛ إذ ما يبدل القول لديه { وإنهم } من كمال تماديهم في الغفلة والإعراض عن الحق واقتداره على وجوه الانتقام { لفي شك } عظيم { منه } أي: من قضاء الله وحكمه المبرم في يوم الجزاء { مريب } [فصلت: 45] فيه ريبا منتهيا إلى الإنكار والتكذيب.
وبالجملة: لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبريبهم، وإنكارهم وطغيانهم، فاعلم أنه { من عمل } من عموم عبادنا عملا { صلحا فلنفسه } أي: صلاحه عائد إلى نسه، راجع إلى إصلاح حاله في معاده ومعاشه { ومن أسآء فعليها } أي: رجع وبال إساءتها أيضا على نفسها { و } بالجملة: { ما ربك } المنزه في ذاته عن طاعة المطيع وعصيان العاصي { بظلم للعبيد } [فصلت: 46] أي: لا ينقص من أجورهم المطيعني، ولا يزيد عن جزاء العاصين، بل يتفضل على أهل الطاعة فوق ما استحقوا بأعمالهم أضعافا وآلافا عناية منه وفضلا، ويقتصر على أصحاب المعصية والضلال بجزاء ما افترقوا لأنفسهم عدلا منه وقهرا.
[41.47-50]
وكيف لا يتفضل حين الجزاء على أرباب العناية، ولا يعدل على أصحاب الغواية حين الجزاء؛ إذ { إليه } لا إلى غيره من أظلال الوسائل والأسباب { يرد } ويرجع { علم الساعة } أي: العلم المتعلق بوقت قيامها، وكيفية ما جرى فيها من الأهوال والأفزاع؛ إذ هي من جملة الغيوب التي استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها { و } أيضا يرجع إلى علمه سبحانه { ما تخرج من ثمرات } أي: من أجناس الثمار مع اختلاف أنواعها وأصنافها متى تخرج { من أكمامها } أي: أوعيتها التي فيها أنوارها الحاصلة منها الأثمار؛ إذ هي أيضا من جملة الأمور الغيبية المستأثرة بها سبحانه { و } كذا { ما تحمل } وتحبل { من أنثى } أي: فوائد المل والحبل { ولا تضع } حملها بمكان من الأمكنة { إلا بعلمه } سبحانه؛ إذ هو العالم لا غيره بما في الأرحام ومدة بقائه فيها وخروجه منها، لا اطلاع لأحد عليها.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله، وأثبت الوجود لغيره والشركة في ألهويته وربوبيته عدوانا وظلما { يوم يناديهم } الله لهم حين إرادة الانتقام عنهم، موبخا لهم ومقرعا أياهم: { أين شركآئي } الذين تزعمون شركتهم معي وشفاعتهم عندي، أحضروهم؛ لينجوكم من عذابي ويشفعوا لكم لدي، وبعدما سمعوا النداء الهائل { قالوا } متأسفين متحزنين: { آذناك } وأعلمناك يا مولانا اليوم، وإن كنت أعلم منا بحالنا إنا { ما منا } أي: ما أحد منا اليوم { من شهيد } [فصلت: 47] يشهد على شركة شركائنا الذين ادعينا شركتهم معك ظلما وزورا.
{ و } بعدما تقولوا ما تقولوا من شدة الأسف ونهاية الحسرة والضجرة { ضل } وغاب { عنهم } وخف عن أبصارهم وبصائرهم { ما كانوا يدعون } ويعبدون إليه { من قبل وظنوا } بل تيقنوا حينئذ { ما لهم من محيص } [فصلت: 48] مهرب ومخلص من عذاب الله، فتندموا وما ينفعهم الندم، ورجعوا إلى الله حينئذ وما يفيدهم الرجوع؛ لانقضاء مدة التدارك والاختبار.
ومن العادة القديمة والديدنة المستمرة أنه { لا يسأم } أي: لا يمل ولا يفتر { الإنسان } المجبول على جلب الإحسان { من دعآء الخير } لنفسه وجذب المنفعة إلى ذاته حريصا عليها، مولعا لاقتنائها وجمعها { وإن مسه الشر } وعرض عليه الضر حينا من الأحيان { فيئوس } من قدرة الله على دفع الضر عنه، نوجلب النفع إياه بعدما أزال عنه ابتلاء { قنوط } [فصلت: 49] من فض الله عليه وسعة رحمته وجوده.
{ و } من غاية يأسه وقنوطه عن مقتضى فضلنا وجودنا { لئن أذقناه رحمة } ووفرناها عليه؛ بحيث تسري في جميع أجزائها مع كونها تفضلا { منا } بلا اقتراف { من } جانبه سوى أنه { بعد ضرآء مسته } لحقته أوائلها؛ إذ المساس يحصل بمجرد الملاقاة { ليقولن } معرضا عن الله: { هذا لي } وأنا أستحق بها لاحتمال الشدائد ولكمال فضلي وعلمي، أو هذا لي بمقتضى ذاتي { و } بالجملة: { مآ أظن الساعة } الموهومة الموعودة { قآئمة } أتية { ولئن } فرضت وقوعها وقيامها على الوجه الذي زعم الرسل المدعون، ونطقت الكتب المزورة المفترية { رجعت إلى ربي } كما زعموا { إن لي } أي: ثبت وتحقق لي { عنده } سبحانه { للحسنى } أي: الحالة التي هي أحسن الحالات وأكمر الكرامات؛ لاستحقاقي بها واقتضاء ذاتي: إياها، وإنما يقول ما يقول استهزاء وتهكما.
{ فلننبئن } ونخبرن حين الجزاء الكافرين { الذين كفروا } بوفور قدرتنا على وجوه الانتقام { بما عملوا } من الجرائم العظام وكبائر الآثام { ولنذيقنهم } ونحيطن عليهم { من عذاب غليظ } [فصلت: 50] مؤلم فظيع فجيع، لا يمكنهم الخلاص عنه.
[41.51-54]
{ و } من شدة طغيان الإنسان ونهاية كفرانه وعدوانه: إنا { إذآ أنعمنا } وأكرمنا من مقام جودنا { على الإنسان } المجبول على النسيان { أعرض ونأى بجانبه } أي: تباعد عنا، ولم يشكر على نعمنا، ولم يلتفت إلى موائد كرمنا { وإذا مسه الشر } ولحقه الضر { فذو دعآء عريض } [فصلت: 51] كثير ممتد عرضا وطولا، وهو كناية عن إلحاحهم ولجاجهم في طلب الكشف والتفريج من الله عند نزول البلاء وإلمام المصيبة.
{ قل } يا أكمل الرسل لمنكري القرآن والقادحين فيه عدوانا وظلما: { أرأيتم } أخبروني { إن كان } القرآن منزلا { من عند الله } بحسب الواقع مع أنه لا شك فيه { ثم كفرتم به } بلا تأمل وتدبر في دلائل صدقه، وبراهين إعجازه لفظا ومعى { من أضل } سبيلا وأخطأ رأيا وطريقا { ممن هو في شقاق بعيد } [فصلت: 52] وخلاف شديد عن الحق وقبوله، وبالجملة: من أضل منكم أيها القادحون المنكرون له مع وضوح محجته وسطوع برهانه.
ثم أشار سبحانه إلى وحدة ذاته وظهوره حسب أسمائه وصفاته في عموم مظاهره ومصنوعاته، وحيطته عليها، وشموله إياها؛ ليكون دليلا على حقية كتباه، وصدوره منها، فقال: { سنريهم } أي: المجبولين على فطرة التوحيد، المخلوقين على نشأة الإيمان والعرفان، الموقنين على كمال الكشف والعيان { آياتنا } أي: دلائل توحيدنا الدالة على وحدة ذاتنا الظاهرة { في الآفاق } أي: ذرائر الأكوان الخارجة عن نفوسهم المدركة بآلاتهم وحواسهم، سميت بها؛ لطلوع شمس الحقيقة الحقية منها، وظهورها عليها { وفي أنفسهم } أي: ذواتهم التي هي أدل دليل على معرفة الحق ووحدة الحق.
لذلك قال أصدق القائلين وأكمل الكاملين: " من عرف نفسه فقد عرف ربه ".
وإنما نريهم ما نريهم { حتى يتبين لهم } ويظهر دونهم وينكشف عليهم { أنه } أي: الأمر الظاهر في الآفاق والأنفس { الحق } الحقيق بالتحقق والثبوت لصرافة وحدته الذاتية والقرآن المعجز أيضا، ومن جملة مظاهره وصفاته.
ثم لما أشار سبحانه إلى وحدة ذاته بالنسبة إلى عموم عباده، أراد أن ينبه على المستكشفين من أرباب المحبة والولاء، الوالهين في مطالعة وجهه الكريم، فخاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو الحري بأمثال هذه الخطابات، فقال مستفهما على سبيل التعجب: { أولم يكف بربك } أي: أتشكون في وجود مربيك يا أكمل الرسل ومربيهم، وظهوره وتحققه، ولم يكف دليلا { أنه } بذاته وعموم أسمائه وصفاته { على كل شيء } مما لاح عليه برق وجوده ورشاشة نوره { شهيد } [فصلت: 53] حاضر غير مغيب عنه.
وبالجملة: أو لم يكف لهم دليلا على تحقق الحق وحضوره مع كل شيء من مظاهره ومصنوعاته.
ثم نور سبحانه ما نبه عليه على سبيل التعجب والتلويح تأكيد ومبالغة وزيادة إيضاح، فقال: { ألا إنهم } بعدما أضاء لهم شمس الذات من مرايا الكائنات { في مرية } شك وارتياب { من لقآء ربهم } فيها ومطالعة وجهه الكريم عنها { ألا إنه } بذاته حسب شئونه وتطوراته المتفرعة على أسمائه وصفاته { بكل شيء } من مظاهره ومصنوعاته { محيط } [فصلت: 54] بالاستقلال والانفراد، إحاطة ذاتية بلا شوب شركة؛ إذ لا موجود سواه، ولا إله إلا هو.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المترقب لشهود الحق من ذرائر عموم الجمال والمظاهر الظاهرة في الآفاق والأنفس أن تصفي ضميرك أولا من وساوس مطلق الأوهام، والخيالات العائقة من التوجه إلى صرافة الوحدة، وتجلي خلدك عن الإضافات الصارفة عنه.
فلك أيضا أن تكون في نفسك متوجها إلى ربك الذي هو حصة لا هوتك، ونشأة جبروتك، خاليا عنك وعن لوازم ناسوتك وعوارض بشريتك بالمرة، بحيث لا شعور لك عما جرى على هويتك أصلا.
وبالجملة: كن فانيا في الله، باقيا ببقائه، ناظرا بنوره إلى وجهه الكريم تفز بنعيم الجنات وعظيم اللذات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
[42 - سورة الشورى]
[42.1-6]
{ حم * عسق } [الشورى: 1-2] يا حامل وحي الله، وماحي الوجود عن غيره يا عالم سرائر قدرة الله، وعارف سريان سر وحدته الذاتية على قلوب خلص عباده من الأنبياء والأولياء.
{ كذلك } أي: مثل ما ذكر في هذه السورة من سرائر التوحيد والأخلاق المرضية الإلهية { يوحي إليك } يا أكمل الرسل في كتابك هذا { وإلى الذين } مضوا { من قبلك } من الأنبياء والرسل في كتبهم وصحفهم { الله } المتوحد بذاته المحيط بعموم مظاهره ومصنوعاته، المستقل بأمر الإرسال والإنزال والوحي والإلهام { العزيز } الغالب في أمره وشأنه { الحكيم } [الشورى: 3] المتقن في أفعاله وتدبيراته الجارية في ملكه وملكوته.
إذ { له ما في السموت وما في الأرض } ملكا وتصرفا، إيجاد وإعداما { و } بالجملة: { هو العلي } المستقل بالعلو في مطلق ملكه وملكوته { العظيم } [الشورى: 4] في شأنه وأمره، لا علو ولا عظمة إلا له، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا حكم ولا حكمة إلا منه.
ومن كمال عزته وعظمته { تكاد السموت } السبع { يتفطرن } بالياء والتاء، أو بالياء والنون معناه على كلتا القراءتين: يتشققن { من فوقهن } أي: من فوق السماوات أو من فوق الأرضين السبع من كمال خشية الله ورهبته، خوفا من تجليه عليهم باسمه القهار المفني للأغيار مطلقا { والملائكة } أيضا من خشيتهم من كمال غضبه وقهره سبحانه { يسبحون بحمد ربهم } تعديدا لنعمه إياهم بإفاضة الشعور والإدراك على حقوق ربوبيته ومقتضيات ألوهيته، والتمكن والاقتدار على مواظبة عبوديته ومشاهدة آثار سلطنته وعظمته { ويستغفرون } أيضا بإذنه وبمقتضى أمره { لمن في الأرض } من خلص عباده الموحدين المجبولين على صورته، المجعلوين لخلافته ونيابته { ألا } أي: تنبهوا أيها الأظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال { إن الله } الذي أظهركم من كتم العدم، ورباكم بأنواع اللطف والكرم { هو الغفور } الستار لذنوب أنانياتكم، المحاء لآثام هوياتكم إن تبتم وأخلصتم فيها { الرحيم } [الشورى: 5] لكم يقبل توبتكم يغفر زلتكم، ويوصلكم إلى ما جبلتم لأجله.
ثم قال سبحانه تهديدا على المشركين المتخذين لله المتوحد في ذاته، المستقل في وجوده أندادا { والذين اتخذوا من دونه } سبحانه { أوليآء } يوالونهم كولايته سبحانه، ويتوجهون نحوهم مثل توجهه، ولا تلتفت يا أكمل الرسل إليهم، ولا تبال بشأنهم؛ إذ { الله } المحيط بذواتهم وأفعالهم وصفاتهم { حفيظ عليهم } عليم بأعمالهم ونياتهم فيها، ويحاسبهم عليها ويجازيهم بمقتضاها { ومآ أنت عليهم بوكيل } [الشورى: 6] كفيل يخلصهم عن مفاسد أعمالهم ومقابح أفعالهم، بل ما أنت إلا مبلغ ونذير.
[42.7-10]
وبعدما بلغت وأنذرت لم يبق من أمرك شيء { وكذلك أوحينآ } أي: ومثل ما أوحينا إلى من قبلك من الأنبياء كتبا، وأوحينا { إليك } يا أكمل الرسل أيضا { قرآنا عربيا } نظما وأسلوبا { لتنذر أم القرى } يعني: أهل مكة { ومن حولها } من أقطار الأرض وأنحائها، كما أنذر الأنبياء أقوامهم فيما مضى من مطلق الأمور المنافية لسلوك طريق التوحيد وسبيل الهداية والرشاد { وتنذر } خاصة { يوم الجمع } أي: الخذلان والحرمان الحاصل لهم يوم الحشر والاجتماع على المحشر، والوقوف بين يدي الله، الذي { لا ريب فيه } أي: في إتيانه ووقوعه، وبعدما اجتمعوا فيه حيارى سكارى هائمين، يساقون بعدما يحاسبون منهم { فريق في الجنة } مسرورون مقبولون { وفريق في السعير } [الشورى: 7] محزونون مطرودون.
{ ولو شآء الله } الهادي لعباده وأراد هدايتهم جميعا { لجعلهم أمة واحدة } مقتصدة معتدلة على مقتضى صرافة الوحدة الذاتية واعتدالها، { ولكن } راعى سبحانه متقضيات أوصافه وأسمائه المتقابلة، وشئونه المتخالفة لذلك { يدخل من يشآء في رحمته } ويوصله إلى فضاء وحدته بمقتضى جوده وحكمته عناية منه وفضلا، وولاية لهم ونصرا { والظالمون } الخارجون عن مقتضى عناية الله، وولايته بمقتضى قهره وانتقامه إياهم إظهارا لكمال قدرته { ما لهم من ولي } يواليهم، ويشفع لهم عنده سبحانه { ولا نصير } [الشورى: 8] ينقذهم من عذابه، فظهر ألا ولاية ولا نصرة إلا لله، ولا غالب إلا هو، وإن زعموا آلهة سواه.
{ أم اتخذوا } أي: بل أثبتوا { من دونه } سبحانه { أوليآء } واعقتدوهم شركاء له سبحانه أو شفعاء لهم عندهم، ولا تنفعهم موالاتهم واتخاذهم بل تضرهم وتغويهم { فالله } المستقل بالألوهية والربوبية { هو الولي } المقصور على الولاية، لا ولي في الوجود سواه { وهو } بكمال قدرته { يحيي الموتى } ويميت الأحياء بالإرادة والاختيار، لا فاعل في الوجود إلا هو { و } بالجملة: { هو } باستقلاله واختياره { على كل شيء } من مقدوراته ومراداته { قدير } [الشورى: 9] بلا فتور وقصور.
{ و } بعدما ثبت أن الولاية والقدرة منحصرة لله، لا فاعل في الوجود سواه، فاعلموا أيها المكلفون بسلوك طريق الحق وتوحيده أن { ما اختلفتم فيه من شيء } أي: من شعائر الدين ومعالم التوحيد واليقين واختلافكم فيه؛ إذ هل هو مفيد لكم في سلوككم، أم مفسد له { فحكمه } مفوض { إلى الله } وأمره موكول إلى كتبه ورسله، فعليكم التعبد والامتثال بما أمرتم به ونهيتهم عنه على ألسنة الرسل والكتب؛ إذ لا مدبر لأموركم سواه، ولا متصرف في الوجود إلا هو.
{ ذلكم } الذي سمعتم وصفه واستقلاله في ملكه وملكوته { الله ربي } وربكم، فاعبدوه حق عبادته، وفوضوا أموركم كلها إليه، وإن خوفتموني بغيره مع أنه لا غير في الوجود معه، فأنا { عليه } لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية { توكلت } واتخذته وكيلا، يدفع عني مؤنة جميع من عاداني { وإليه } لا إلى الوسائط { أنيب } [الشورى: 10] وأرجع في مطلق الملمات والخطوب.
[42.11-13]
وكيف لا أتوكل عليه ولا أنيب؛ إذ هو بذاته حسب شئونه وتطوراته { فاطر السموت والأرض } ومظهرها من كتم العدم، ومدبر ما يتكمون بينهما من الطبائع والهيولي وصور المواليد، ومن جملة تدبيراته سبحاه: إنه { جعل } وخلق { لكم } أيها المجبولون على فطرة التوحيد وإبقاء لتناسلكم وتوالدكم { من أنفسكم } ومن بني نوعكم { أزواجا } أيضا من جنسكم وصنفكم إبقاء لكم وإدامة لبقائكم { ومن الأنعام } أيضا { أزواجا } تربية لكم وتتميما لمعاشكم.
وبالجملة: { يذرؤكم } يبثكم ويكثركم { فيه } أي: في عالم الظهور ونشأة الشهادة بهذا التدبير البديع، لتعلموا أو تعرفوا أنه { ليس كمثله } أي: ليس مثله سبحانه { شيء } يناسبه في الوجود ويماثله في التحقق والثبوت، والمراد يقينا بالمثل المنفي هو ذاته؛ أي: لا يماثله ذاته، فكيف غيره من قولهم: مثلك لا يبخل؛ بمعنى: أنت لا تبخل، والمراد: نفي التعدد عنه سبحانه مطلقا على سبيل المبالغة والتأكيد، فثبت حينئذ ألا موجود سواه، ولا تحقق لغيره { و } متى ثبت هذا ظهر أنه { هو السميع البصير } [الشورى: 11] أي: هو بذاته المنحصر على صفة السمع والبصر، وجميع الأوصاف الذاتية الكاملة الشاملة آثارها عالمي الغيب والشهادة.
إذ { له } لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الظاهرة في أظلال المظاهر والمجالي { مقاليد السموت والأرض } أي: مفاتيح خزائن العلويات من الأسماء والصفات، والسفليات من مظاهر الطبائع، والمرايا العدمية القابلة لانعكاس شمس الذات من مشكاة الأسماء والصفات، هو بذاته { يبسط } ويقبض { الرزق } الصوري والمعنوي { لمن يشآء } من أضلاله وعكوسه { ويقدر } ويقبض عمن يشاء منهم، وبالجملة: { إنه } سبحانه بذاته حسب أسمائه وصفاته { بكل شيء } دخل تحت ظل وجوده بمقتضى فضله وجوده { عليم } [الشورى: 12] بعلمه الحضوري، لا يعزب عن حضوره شيء مما ظهر وبطن، وغاب وشهد.
ومن كمال استقلاله في تدابير مكله وملكوته وحيطة علمه وشمول قدرته: { شرع } أي: قضى ووضع { لكم } أيها الأظلال المنهمكون في بحر الحيرة والظلال { من الدين } القيوم والطريق المستقيم الموصل إلى توحيده { ما وصى به نوحا } أي: دينا شرعه سبحانه ووضعه على نوح؛ إذ هو أول من ظهر على نشأة التدين والتشريع في طريق التوحيد، وهو الدين الموصل إلى توحيد الأفعال { و } الدين { الذي أوحينآ إليك } يا أكمل الرسل من كمال جودنا هو الدين الموصل إلى توحيد الذات، لذلك ختم ببعثتك أمر الرسالة والتشريع، وبعدما عين سبحانه مبدأ التوحيد ومنتهاه، أشار إلى ما بينهما من المراتب، فقال: { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } أي: والأديان التي وضعناها على هؤلاء المشاهير، وغيرهم من جماهير الأنبياء والرسل المتشرعة وغير المتشرعة هو الموصل إلى توحيد الصفات.
وبالجملة: وصينا لعموم ذوي الأديان { أن أقيموا الدين } المنزل إليهم، واستقيموا في الإطاعة والامتثال به { ولا تتفرقوا فيه } أي: لا تختلفوا في أصل الدين الذي هو التوحيد الإلهي، وإن كانت الطرق والأديان والمناهج نحوه مختلفة باختلاف ذوي المراتب المترتبة اختلافاتهم إلى شئون الحق وتجلياته، فلك يا أكمل الرسل أن تدعو الناس إلى توحيد الحق، وإن كان { كبر على المشركين } أي: شق وعظم عليهم { ما تدعوهم } أي: دعوتك إياهم { إليه } أي: إلى التوحيد الذاتي؛ إذ لم يعهد هذا من غيرك من الأنبياء والرسل الماضين، لذلك شق عليهم حسدا وغيظا، فكيف يحسدون ويغيظون لك ولشأنك؛ إذ { الله } العليم الحكيم المطلع على استعدادات العباد وقابلياتهم { يجتبي } أي: يختار ويجذب { إليه } أي: إلى توحيده الذاتي { من يشآء } من المجبولين على فطرة التوحيد، { ويهدي إليه } ويوفق عليه ويرشد نحوه { من ينيب } [الشورى: 13] إليه سبحانه إنابة صادرة عن محض الإخلاص والتبتل والتفويض والتوكل.
[42.14-15]
{ و } بعدما ثبت أن أصل الأديان كلها هو التوحيد، وأن الأنبياء والرسل إنما جاءوا لإظهاره وتبيينه، ظهر أن الأمم الهالكة { ما تفرقوا } واختلفوا من مذاهبهم ومشاربهم { إلا من } بعدما { ما جآءهم العلم } أي: الوحي المشتمل على بيان التوحيد من قبل الحق على ألسنة الكتب والرسل، فتركوا مقتضى الوحي، وأنكروا عليه فاختلفوا { بغيا بينهم } أي: عدوانا وظلما وإعراضا عن الحق وأهله، وما ظهر بينهم هذا إلا مراء وافتراء.
{ و } بالجملة: { لولا كلمة سبقت من ربك } يا أكمل الرسل، وهي إمهال انتقامهم وتأخيره { إلى أجل مسمى } هو يوم القيامة { لقضي بينهم } وحكم عليهم حين اختلافهم وتفرقهم إليه، فاستؤصلوا فيه بالمرة { وإن } المختلفين المتفرقين { الذين أورثوا الكتاب } المنزل على أسلافهم { من بعدهم } أي: بعد انقراض أسلافهم { لفي شك منه } أي: من الكتاب أمثال أولئك الأسلاف الضلال { مريب } [الشورى: 14] موقع لهم في الريب والضلال، لذلك اختلفوا معك يا أكمل الرسل وأنكروا على كتابك ودينك.
ولو كان لهم علم بكتابهم ما ظهروا عليك، وما طعنوا في دينك وكتابك؛ إذ الإيمان بكتاب من كتب الله، ودين من أديانه، ورسول من رسله يوجب الإيمان بجميع الكتب والرسل بناء على الأصل الذي سمعت من التوحيد { فلذلك } الأصل الذي هو التوحيد الذاتي المسقط لعموم الإضافات والاختلافات { فادع } يا أكمل الرسل كل من تدعوه من المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام { واستقم } أنت في نفسك على جادة التوحيد { كمآ أمرت } من قبل ربك، ومكن إقدام عزمك عليها معتدلا حنيفا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط { ولا تتبع أهوآءهم } أي: أهوية أصاب الخلاف والاختلاف، الضالين المترددين في أودية الجهالات وأغوار الخيلات المنافية لصفاء مشرب التوحيد.
{ وقل } يا أكمل الرسل بعد صفاء سرك وخلاء خلدك عن الأكدار الموجبة للاختلاف: { آمنت بمآ أنزل الله } أي: بجميع ما أنزل لله { من كتاب } مبين موضح لطريق الحق وتوحيده { و } قل بعد ذلك أيضا إظهارا لدعوتك إياهم: { أمرت } من قبل ربي { لأعدل بينكم } وأبين لكم طريق العدالة الإلهية بمقتضى وحي الله وإلهامه إياي، فأنا مأمور بتبليغه وتبيينه إياكم وتربيتكم وتكميلكم؛ إذ { الله } المدبر لأمور عموم عباده { ربنا } الذي ربانا للإرشاد والتكميل { وربكم } أراد أن يربيكم بالهداية والرشاد، وإن لم نكن مأمورين من عنده سبحانه لإهدائكم وإرشادكم ما لنا معكم.
إذ { لنآ أعمالنا } أي: جزاء صالحها وفاسدها { ولكم } أيضا { أعمالكم } كذلك؛ إذ كل منا ومنكم مجزي بما عمل { لا حجة } أي: نزاع ولا خومة { بيننا وبينكم } بعدما بغلناكم ما أمرنا بتبليغه، وأوضحنا لكم طريق الحق، وبالجملة: { الله } أي: الذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات { يجمع بيننا } وبينكم، إن تعلق مشيئته بجمعنا { و } كيف لا يجمع بيننا سبحانه { إليه المصير } [الشورى: 15] أي: رجوع الكل إ ليه كما هو صدوره منه.
[42.16-19]
{ و } بعد وضوح محجة الحق ومنهج اليقين { الذين يحآجون } يجادلون ويخاصمون، متشبثين بأذيال الجدال والمغالطات الواهية الزائفة { في } توحيد { الله } سيما { من بعد ما استجيب له } أي: قبله العقل والنقل والكشف الصريح والذوق الصحيح { حجتهم } التي تمسكوا بها { داحضة } زائلة باطلة { عند ربهم } الذي رباهم لمصلحة المعرفة والتوحيد { وعليهم } بسبب عنادهم وجدالهم بالحق الصريح { غضب } نازل من الله { ولهم } في النشأة الأخرى { عذاب شديد } [الشورى: 16] لا عذاب أشد منه وأفزع.
فكيف يحاجون أولئك المعاندون في توحيده سبحانه مع أنه هو { الله } المدبر المصلح لأمور عباده { الذي أنزل } لإصلاحهم { الكتاب } أي: جنس الكتب النازلة من عنده لتبيين مناهج توحيده ملتبسا { بالحق } الصريح المعرى عن الباطل الزاهق الزائل مطلقا { و } أنزل على طبق الكتاب { الميزان } أي: جنس الشرائع والأديا التي توزن بها أعمال الأنام وإخلاصهم فيها، وثباتهم على جادة التوحيد والإسلام، فعليك يا أكمل الرسل وعلى من تبعك امتثال عموم ما أمر ونهى من أحكام كتابك، وأن تزن أنت ومن معك أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم بميزان الشرع القديم والدين المستقيم { و } بالجملة: { ما يدريك } أيها المجبول على الدراية والشعور { لعل الساعة } الموعودة التي تعذرت دونها التدارك والتلافي { قريب } [الشورى: 17] إتيانها وقيامها، وعند قيامها تتندمون وما ينفعكم الندم.
{ يستعجل بها } وبقيامها استهزاء وتهكما { الذين لا يؤمنون } ولا يصدقون { بها } عنادا ومكابرة، ويزعمون ألا يلحقهم ما يوعدون فيها من العذاب الروحاني والجسماني { والذين آمنوا } بها وبما فيها من المواعيد والوعيدات الهائلة، هم { مشفقون } خائفون { منها } ومن إلمامها بغتة قبل تهيئة الإعداد والزاد { و } ذلك؛ لأنهم { يعلمون } يقينا { أنها الحق } المحقق إتيانه وقيامها بلا ريب ومرية { ألا } أي: تنبهوا أيها المؤمنون بكمال قدرة الله ووفور حكمته { إن } المسرفين المكابرين { الذين يمارون } ويشكن { في } قيام { الساعة } الموعود قيامها من قبل الحق مراء ومجادلة { لفي ضلال بعيد } [الشورى: 18] بمراحل عن الهداية الموصلة إلى مقر التوحيد.
إذ هم محجوبون بالأغشية الكثيفة الإمكانية، والأغطية الغليظة الهيولانية، مع أنه { الله } المنزه ذاته عن سمة الحدوث والإمكان، المقدس أسماؤه وصفاته عن وصمة العيب والنقصان { لطيف بعباده } الخلص { يرزق من يشآء } منهم بالرزق المعنوي، الموصل إلى مبدئهم ومعادهم ترحما وتلطفا معهم { و } كيف لا { هو القوي } القادر المقتدر على عموم مقدوراته الصادرة منه بمقضتى حكمته { العزيز } [الشورى: 19] الغالب على مطلق مراداته الجارية منه حسب اختياره.
[42.20-22]
ثم لما أشار سبحانه إلى كمال تنزعه وتقدس ذاته عن وصمة النقصان مطلقا، وإلى كمال ترحمه وتلطفه مع خلص عباده، قال: { من كان } منهم { يريد حرث الآخرة } أي: يزرع في النشأة الأولى بذور الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة؛ ليحصد ما يترتب عليها من المثوبات والكرامات في النشأة الأخرى { نزد له في حرثه } ونضاعف ثوابها لأجله، ونعطه من اللذات الروحانية ما لا مزيد عليه تفضلا منا وتكريما { ومن كان } منهم { يريد حرث الدنيا } ونوى نماء بذوره فيها { نؤته منها وما له في الآخرة } ولذاتها الباقية { من نصيب } [الشورى: 20] لاختياره لذات الدنيا وشهواتها الفانية على ما في الآخرة من اللذات الروحانية؛ لذلك ما له حظ في الآخر ونصيب من لذاتها.
أهم بأنفسهم يحرمون نفوسهم من اللذات الأخروية والفتوحات الروحانية { أم لهم شركاء } من شياطين الجن والإنس ظاهرهم عليه؛ حيث { شرعوا } وزينوا { لهم من الدين } الباطل والديدنة الزائغة { ما لم يأذن به الله } الحكيم المتقن في أفعاله المدبر لعموم مصالح عباده على مقتضى حكمته، ولم يأمر بوضعه واتخاذه لا بالوحي ولا بطريق الإلهام، بل إنما أخذوا ما أخذوا من تلقاء أنفسهم، وعلى مقتضى أهويتهم الباطلة؛ لذلك لم يتم لهم إلا الخيبة والخذلان والحسرة والحرمان.
{ و } بالجملة: { لولا كلمة الفصل } والقضاء صاردة من الله بتأخير أخذهم لظلمهم وإمهال انتقالهم إلى يوم الجزاء { لقضي } وحكم اليوم { بينهم } أي: بين أهل الهداية والضلال، فيلحق لكل منهم جزاء ما اقترفوا من الحسنات والسيئات { و } بالجملة: { إن الظالمين } الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية، ومتابعة آرائهم وإخوانهم من الشياطين { لهم عذاب أليم } [الشورى: 21] في النشأة الأخرى، وهو حرمانهم عما أعد لنوع الإنسان المصور على صورة الرحمن من الكرامات السنية والمقامات العلية، لا عذاب أشد منه وأفزع.
ومن كمال حرمانهم وخسرانهم: إنهم حنيئذ { ترى } أيها الرائي { الظالمين } الخارجين عن مقتضى الحدود عدوانا وظلما { مشفقين } خائفين مرعوبين { مما كسبوا } أي: من لحوق وبال ما اكتسبوا من الآثام والمعاصي { و } الحال أنه { هو واقع بهم } لاحق لهم، وما ينفعهم الإشفاق وعدمه؛ لانقضاء نشأة التدارك والتلافي.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة: { والذين آمنوا } أي: وترى أيضا أيها الرائي المؤمنين الذين آمنوا بوحدة الحق حين أخبرهم الرسل ودعاهم إليه حسب استعداداتهم الفطرية وقابليتهم الجبلية { وعملوا الصالحات } أي: وأكدوا إيمانهم وتوحيدهم بصالحات أعمالهم وأخلاقهم؛ ليدل على توحيد الأفعال والصفات أيضا، هم في النشأة الأخرة لكمال إطاعتهم وانقيادهم متنعمون { في روضات الجنات } أي: منتزهات اليقين العلمي والحقي والعيني، ومع ذلك حاصل حاضر { لهم ما يشآءون } من اللذات المتجددة والفيوضات المترادفة من الفتوحات وأنواع الكرامات { عند ربهم } الذي أوصلهم إلى كنف قربه وجواره { ذلك } الذي أعد لأرباب العناية والتوحيد { هو الفضل الكبير } [الشورى: 22] والفوز العظيم الذي يستحقر دونه عموم اللذات والكرامات.
[42.23-26]
{ ذلك } المذكور من الفضل والفوز هو { الذي يبشر الله } المنعم المفضل به { عباده الذين آمنوا } بوحدة ذاته { وعملوا الصالحات } المفيضة الموصلة لهم إلى توحيد أفعاله وصفاته { قل } يا أكمل الرسل بعدما بينت لهم طريقي الهداية والضلال، وبلغت ما يوصل بوحي إليك للإرشاد والتكميل إياهم: { لا أسألكم } أي: على تبليغي وتبشيري إياكم { عليه أجرا } جعلا منكم ونفعا دنيويا { إلا المودة في القربى } أي: ما أطلب منكم نفعا دنيويا بل أطلب منكم محبة أهل بيتي ومودتهم؛ ليدوم لكم طريق الاستفادة والاسترشاد منهم؛ إذ هم مجبولون على فطرة التوحيد الذاتي مثلي.
روي أنها لما نزلت، قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرابتك؟ قال:
" علي وفاطمة وأبنهائمها ".
وكفاك شاهدا على ذلك ظهور الأئمة الذين هم أكابر أولي العزائم في طريق الحق وتوحيده، صلوات الله على أسلافهم وسلامه عليهم وعلى أخلافهم، ما تناسلوا بطنا بعد بطن.
{ ومن يقترف } ويكتسب متابعة الرسول وأهل بيته { حسنة } دينية حقيقة { نزد له فيها } أي: فيما يترتب عليها من الكرامات الأخروية { حسنا } أي: زياة حسن تفضلا منا وإحسانا { إن الله } المطلع لضمائرهم عباده ونياتهم { غفور } لذنوب من أحب أهل بيت حبيبه لرضاه سبحانه { شكور } [الشورى: 23] يوفي عليهم الثواب، ويوفر عليهم أنواع الكرامات.
أينكرون مطلق رتبة النبوة والرسالة؟! أولئك المنكرون المعاندون { أم يقولون افترى } محمد صلى الله عليه وسلم { على الله كذبا } واختلق آيات مفتريات ترويجا لمدعاه، وما قولهم هذا وزعمهم بك يا أكمل الرسل بأمثاله إلا قول باطل، وزعم زاهق زائغ { فإن يشإ الله } الغني بذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته { يختم على قلبك } كما ختم على قلوبهم، ويضلك عن طريق توحيده مثل ما أظلهم { و } بعد ذلك { يمح الله الباطل } لو تعلق مشيئته { ويحق } ويثبت { الحق } الحقيق بالإطاعة والاتباع { بكلماته } التي هي آيات القرآن بلا سفارتك ورسالتك، وبالجملة: { إنه } سبحانه { عليم } يعلمه بعلمه الحضوري { بذات الصدور } [الشورى: 24] فيظهر عليهم ما هو مكنون في صدورهم وضمائرهم، ويجازيهم بمقتضاهز
{ و } كيف لا يعلم سبحانه بمكنونات صدورهم { هو الذي يقبل التوبة } الصادرة عن محض الندم والإخلاص اللذين هما من أفعال القلوب { عن عباده } المسترجعين نحوه بكمال الخشية والخضوع { و } بعد قبول التوبة عنهم { يعفوا } ويتجاوز { عن } مطلق { السيئات } الصادرة عنهم على سبيل الغفلة { و } بالجملة { يعلم } منكم جميع { ما تفعلون } الشورى: 25] بظواهرهم وبواطنكم.
{ ويستجيب } أي: بحيث يقبل توبة { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ترحما لهم وإشفاقا، بعدما رجعوا نحوه تائبين نادمين عما فعلوا { ويزيدهم من فضله } بدل إخلاصهم واستحيائهم منه سبحاه من الكرامات ما لا يكتنه وصفه { والكافرون } الساترون بأباطيل هوياتهم، وما صدر منها من الجرائم والآثام شمس الحق الحقيق بالكشف والظهور { لهم عذاب شديد } [الشورى: 26] حين رجعوا إلى الله، وحشروا نحوه مهانين صاغرين.
[42.27-31]
بالجملة: كفر عموم الكفرة واستكبارهم وضلالهم، إنما نشأ من كفرانهم بنعم الله وطغيانهم لأجلها على الله وعلى خلص عباده، كما أشار إليه سبحانه بقوله: { ولو بسط الله الرزق } الصوري المستجلب المستتبع لأنواع العتو والاستكبار { لعباده } المجبولين على الكفران والنسيان بمقتضى بشريتهم وبهيميتهم { لبغوا في الأرض } بغيا فاحشا، واستكبروا على عباد الله، وظهروا على أوليائه، ومشوا على وجه الأرض خيلاء مفتخرين بمالهم من الجاه والثروة والرئاسة، فسرى بغيهم واستكبارهم على الله وعلى أنبيائه ورسله، فكفروا لذلك ظلما وعدوانا { ولكن } جرت سنته سبحانه، واقتضت حكمته على أنه { ينزل } ويفيض { بقدر } أي: مقدارا وتقدير { ما يشآء } على من يشاء بمقتضى حكمته ومشئته، وبالجملة: { إنه } سبحانه { بعباده } أي: باستعداداتهم وعموم أحوالهم { خبير بصير } [الشورى: 27] يعلم منه ما خفي عليهم وما ظهر دونهم.
{ و } كيف لا يعلم سبحانه سرائر عباده وضمائرهم { هو الذي ينزل الغيث } بمقتضى علمه وحكمته { من بعد ما قنطوا } وآيسوا من نزوله { و } بتنزيله وإمطاره { ينشر رحمته } الواسعة على جميع أقطار الأرض وأرجائها عناية منه سبحانه إلى سكانها من أجناس المواليد وأنواعها وأصنافها { و } كيف لا يرحم سبحانه على مظاهره؛ إذ { هو الولي } المولي لعموم أمورهم المنحصرة على ولايتهم؛ إذ لا ولاية إلا له { الحميد } [الشورى: 28] المستحق لجميع المحامد بذاته؛ إذ عموم المظاهر وذرائر الأكوان حامدة له سبحانه طوعا ورغبة حالا ومقالا.
{ ومن آياته } الدالة على كمال ولايته وتدبيره وتربيته { خلق السموت والأرض } أي: إظهار الكائنات العلوية والسفلية بامتداد أظلال أسمائه وصفاته { وما بث } وبسط { فيهما } وركب منهما { من دآبة } ذي حياة وحركة { وهو } سبحانه { على جمعهم } أي : جمع الأظلال والعكوس إلى شمس الذات، وقبضهم عليها بعد بثهم وبسطهم منها { إذا يشآء } ويريد { قدير } [الشورى: 29] بلا فترة وتقصير.
{ و } اعلموا أيها الأظلال الهالكة في أنفسها { مآ أصبكم من مصيبة } مضرة مؤلمة { فبما كسبت أيديكم } أي: بسبب اقترافكم المعاصي والآثام { و } مع ذلك { يعفوا } سبحانه { عن كثير } [الشورى: 30] من المعاصي، لا يعقبها بمصيبة تخفيفا لكم وتسهيلا.
{ و } لو أراد سبحاه تعقيب كل معصية بمصيبة { مآ أنتم بمعجزين } له { في الأرض } أي: ليسي لكم أن تفوتوا شيئا مما قضى سبحانه عليكم من المصائب المستتبعة لجرائمكم وآثامكم إن شاء، { و } الحال أنكم عاجزون في أنفسكم، مقهورون تحت قبضة قدرته؛ إذ { ما لكم من دون الله من ولي } يولي أموركم ويحفظكم منها { ولا نصير } [الشورى: 31] ينصركم ويدفع عنكم ما يؤذيكم ويعينك على متبغاكم.
[42.32-36]
{ و } أيضا { من آياته } الدالة على ولايته الكاملة، وتدبيراته الشاملة { الجوار } أي: السفن الجارية { في البحر كالأعلام } [الشورى: 32] أي: كالجبال الرواسي في العظمة والثقل.
{ إن يشأ } سبحانه { يسكن الريح } المجرية لهن { فيظللن } ويبقين تلك السفن حينئذ { رواكد } سواكن { على ظهره } أي: ظهر البحر ولججه، فضاع جميع من فيها وما فيها { إن في ذلك } الإجراء والإرسال { لآيات } دلائل واضحات على تولية الحق وتدبيره { لكل صبار } حبس نفسه في مقام الرضا بما قسم له ربه { شكور } [الشورى: 33] بما ظهر عليه من آله ونعمائه.
{ أو } إن يشأ يرسلهن إرسالا عنيفا بالرياح العاصفة حتى { يوبقهن } أي: يغرقهن، ويهلك بعض من فيهن { بما كسبوا } أي: بشؤوم أعمالهم التي اقترفوها من البخل والحسد والحرص المفرط والأمل الطويل، وغير ذلك من الأخلاق المذمومة { ويعف عن كثير } [الشورى: 34] أي: ومع ذلك يتجاوز سبحانه عن إهلاك أكثرهم، وينجيهم من ورطة الهلاط بحسن أعمالهم وخلوص نياتهم تفضلا منه سبحانه إياهم وتكريما لهم.
كل ذلك ليختبر سبحانه عباده، وينتقم عنهم، ويميز منهم أهل الرضا والتسليم عن غيرهم { ويعلم الذين يجادلون } أي: وليعلم المجادلون المكابرون { في آياتنا } ومقتضياتها عنادا وعدوانا { ما لهم من محيص } [الشورى: 35] مهرب ومخلص من عذابنا إن تعلقت إرادتنا بانتقامهم وإهلاكهم.
وإن استظهر أهل الجدال بالأموال والأولاد، واستكبروا بها وافتخروا عليها، قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: { فمآ أوتيتم } وأعطيتم { من شيء } حقير قليل، ما هي إلا من حطام الدنيا ومتاعها { فمتاع الحياة الدنيا } فانية بفنائها، تتمتعون بها فيها مدة يسيرة، ثم تمضون مع حسرة كثيرة وندامة طويلة { وما عند الله } من اللذات الروحانية والكرامات المعنوية { خير } من الدنيا وما فيها، بل من آلافها وأضعافها { وأبقى } أقدم وأدوم { للذين آمنوا } بوحدة الحق وانكشفوا بكمالات أسمائه وأوصافه، وتحققوا بشهود شئونه وتجلياته { و } هم بعدما تمكنوا في مقام الرضا والتسليم، وتوطنوا في أعظم سواد الفقر، وأعلى درجات عالم اللاهوت { على ربهم } لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية { يتوكلون } [الشورى: 36] يوفضون أمورهم ويسلمون، غاضبين عيون بصائرهم وأبصارهم عن الالتفات إلى ما سوى الحق مطلقا، لذلك ما يرون بنوره من مرايا مظاهره ومجاليه إلا لمعات وجهه الكريم.
[42.37-42]
{ و } بالجملة: { الذين يجتنبون كبائر الإثم } وهي الآثام والجرائم المؤديان إلى الشرك الجلي والخفي { والفواحش } أي: الصغائر المنتهية إلى الكبائر بالرسوخ والإصرار { و } أيضا ومن جملة أخلاق هؤلاء المؤمنين المحسنين { إذا ما غضبوا هم يغفرون } [الشورى: 37] يبادرون إلى العفو والستر، وكظم الغيظ، وإصلاح البين، وإخراج الغل والحقد عن نفوسهم.
{ والذين استجابوا } أي: أجابوا، وقبلوا دعوة من دعاهم إلى الطاعات والعبادات ومطلق الخيرات والحسنات، لا لغرض دنيوي بل { لربهم } طلبا لمرضاه وهربا عن سخطه وانتقاماته { و } مع ذلك { أقاموا الصلاة } أي: أداموا الميل والرجوع إلى الله في جميع حالاتهم { أمرهم } أي: عموم أمورهم المتعلقة لمعاشهم ومعادهم { شورى بينهم } أي: هم متشاورون فيها مع إخوانهم، بلا استبدادهم لهم فيها برأيهم ولا انفراد بعقلهم { و } من معظم أخلاقهم أنهم { مما رزقناهم } أي: أبحنا لهم وأضفنا إليهم من الرزق الصوري { ينفقون } [الشورى: 38] في سبيلنا للفقراء والمساكين، طالبين منا مرضاتنا ومثوباتنا.
{ و } من جملة أخلاقهم وأجلها: إنهم هم { الذين إذآ أصابهم } ولإخوانهم في الدين { البغي } والعدوان من بغي باغ ظالم وعدو عاد { هم ينتصرون } [الشورى: 39] يبادرون إلى الغلبة والانتصار غيرة على الله، وحمية لحمى حدوده الموضوعة على مقتضى العدالة القويمة الإلهية عن الظلم والعدوان، وإظهارا لما أودع الحق فيهم من فضيلة خصلة الشجاعة المحمودة عند الله، وعند عموم أرباب المروءة من الأنبياء والأولياء؛ إذ كلا طرفيها وهما الجبن والتهور، مذمومان عقلا وشرعا، والشجاعة المقتصدة بينهما محمودة جدا.
ثم قال سبحانه تعليما لعابده طريق هدايته ورشاده: { وجزآء سيئة } أصابتك من أحد من بني نوعك { سيئة مثلها } لا أزي منها؛ أي: إذا أساءك أحد بسيئة، فأنت أيها المكلف تسيئه بمثلها جزاء وعقوبة، سمى الجزاء سيئة؛ للازدواج والمشاكلة، هذا بحسب الرخصة الشرعية، وأما بحسب العزيمة { فمن عفا } وتجاوز عن الجاني والمسيء خالصا لوجه الله وطلبا لمرضاته { وأصلح } بالصلح والإحسان ما أفسده بالجناية والإساءة { فأجره } قد وقع { على الله } وجزاؤه مفوض إلى كرمه يجازيه بمقتضى فضله وجوده ما شاء الله، وبالجملة: { إنه } سبحانه بمقتضى عدالته الذاتية { لا يحب الظالمين } [الشورى: 40] المجاوزين عن الحدود الإلهية سيما في العقوبات والجنايات.
{ ولمن انتصر } وغلب على الظالم { بعد ظلمه } أي: بعدما ظلم منه منتقما عليه { فأولئك } المنتصرون المنتقمون { ما عليهم من سبيل } [الشورى: 41] بالمعاتبة والمعاقبة؛ لأنهم منتقمون بالرخصة الشرعية.
بل { إنما السبيل } بهما { على } المسرفين { الذين يظلمون الناس } أي: يبتدئون بالظلم، ويظهرون بينهم بالعدوان والطغيان { ويبغون } أي: يطلبون بظلمهم فسادا { في الأرض بغير الحق } بلا خصة شرعية { أولئك } البعداء المجاوزون عن الحدود الشرعية { لهم } في النشأة الأخرى { عذاب أليم } [الشورى: 42] هو إحراقهم بنار القطيعة، لا عذاب أشد منه وأفزع.
[42.43-46]
{ ولمن صبر } من المظلومين، ولم ينتصر، ولم ينتقم من الظالم كظما وهظما { وغفر } أي: عفا وتجاوز مسترجعا إلى الله، طالبا الأجر منه سبحانه { إن ذلك } العفو والصفح عند القدرة { لمن عزم الأمور } [الشورى: 43] أي: من الأمور التي آثرها أولو العزائم الصحيحة من أرباب العناية، وهم الذين يرون من الله جميع ما يرون منحة أو محنة، ويوطنون نفوسهم على الرضا بما جرى عليهم من القضاء.
{ ومن يضلل الله } يمقتضى قهره وجلاله ويغويه عن طريق توحيده { فما له من ولي } سواه ينسره ويدفع عنه ما يخذله { من بعده } أي: من بعد خذلان الله أياه { و } بعدما ردهم سبحانه إلى دار الانتقام بأنواع الخيبة والخسران { ترى } أيها الرائي { الظالمين } المغرورين بما هم عليه من الجاه والثروة والمفاخر بالأموال والأولاد في دار الدنيا { لما رأوا العذاب } النازل عليهم المحيط بهم من جميع جوانبهم { يقولون } حينئذ أي: بعضهم لبعض من شدة اضطرابهم واضطراهم: { هل إلى مرد } رجعة إلى الدنيا وعود إليها { من سبيل } [الشورى: 44] حتى نعود ونستعد ليومنا هذا.
{ و } هم في هواجس أنفسهم يتكلمون بهذا الكلام تحسرا وتضجرا { تراهم } أيها الرائي حين { يعرضون عليها } أي: على النار { خاشعين } خاضعين { من الذل } والصغار المفرط الشامل لهم { ينظرون } نحو النار { من طرف خفي } أي: بنظرة حفية من تحت الأهداب بلا تحريك الأجفان من كمال رعبهم وخشيتهم منها، كنظر من يؤمر بقتله إلى سيف الجلاد.
{ وقال الذين آمنوا } حين رأوا أعداءهم معذبين: { إن الخاسرين } المسرفين المفسدين { الذين خسروا أنفسهم } بالظلم والضلال { وأهليهم } بالضد والإضلال، لذلك استحقوا العذاب المخلد { يوم القيامة } والنكال المؤبد فيها { ألا } أي: تنبهوا أيها الأظلال المستظلون تحت لواء العدالة الإلهية { إن الظالمين } الخارجين عن مقتضاها بإغواء الغوائل الإمكانية التسويلات الشيطانية { في عذاب مقيم } [الشورى: 45] وعقاب دائم أليم.
{ وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله } وينقذونهم من عذابه، والحال أنه قد أضلهم الله بمقتضى قهره وجلاله { ومن يضلل الله } المنتقم الغيور { فما له من سبيل } [الشورى: 46] إلى الهداية والنجاة من وبال ما يترتب على الغي والضلال.
[42.47-48]
وبالجملة: { استجيبوا } أيها المكلفون بالإجابة والقبول { لربكم } الذي رباكم على فطرة التوحيد، وتوجهوا نحوه مخصلين، وأجيبوا داعيه محمدا صلى الله عليه وسلم، مصدقين { من قبل أن يأتي يوم } يحل فيه العذاب عليكم، مع أنه { لا مرد له } أي: لا رفع ولا رد للعذاب النازل فيه { من الله } وبعدما قضى سبحانه وحكم حتما { ما لكم من ملجأ يومئذ } سواه، وقد جرى حكمه بتعذيبكم { وما لكم من نكير } [الشورى: 47] وما يتيسر لكم حينئذ إنكار أسباب العذاب وموجباته؛ إذ تشهد عليكم يومئذ أعضاؤكم وجوارحكم بما اقترفتم بها من الجرائم والآثام.
وبالجملة: قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير أمثال هذه المواعظ والتذكيرات نيابة عنا، فإن امتثلوا وقبلوا، فقد اهتدوا { فإن أعرضوا } أي: فاعلم أنا ما أرسلناك يا أكمل الرسل { عليهم حفيظا } يحفظهم عن جميع ما يضرهم ويغويهم، بل { إن عليك } أي: ما عيك { إلا البلاغ } وقد بلغت، وبعد تبليغك ما بقي عليك من حسابهم من شيء.
ثم أشار سبحانه إلى وهن عزائم الإنسان وضعف عقائده، فقال: { وإنآ } عنها، ولم يلتفتوا إليها عنادا ومكابرة { فمآ أرسلناك } من مقام عظيم جودنا { إذآ أذقنا الإنسان } تفضلا { منا } بلا سبق استحقاق منه { رحمة } شاملة محيطة بجميع أعضائه وجوارحه { فرح بها } وانبسط بحلولها { وإن تصبهم } حينا من الأحيان { سيئة } من السيئات مؤلمة لهم، مع أنها { بما قدمت أيديهم } أي: بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام الجالبة لأنواع المضرات { فإن الإنسان كفور } [الشورى: 48] مسرع إلى الكفران، مبادر إلى النيسان، كأنه لم ير منا الإحسان والإنعام قط.
[42.49-53]
فيكف يكفرون لوفور نعمة الحق وشمول رحمته مع أنه { لله } المحيط بكل المظاهر الموجد المظهر لها { ملك السموت والأرض } اي: العلويات والسفليات وما بنيهما من الممتزجات؛ لذلك { يخلق } ويوجد { ما يشآء } إرادة واختيارا حيث { يهب } بمقتضى جوده وفضله { لمن يشآء } من عباده { إناثا } محضا من الأولاد، قدمهن للتدرج من الأدنى إلى الأعلى، ونكرهم؛ لأن النكارة مطلوبة فيهن { ويهب } أيضا { لمن يشآء } منهم { الذكور } [الشورى: 49] الخلص، عرفهم؛ لأنهم أولى بالتعريف وأجرى بالمعرفة.
{ أو يزوجهم } ويخلط لهم { ذكرانا وإناثا } مجتمعين ممتزجين { ويجعل من يشآء } منهم { عقيما } بلا إيلاد واستيلاد، ذكرا كان أو أنثى إظهارا لكمال قدرته، وإشعارا بأنه لا تأثير للوسائل والأسباب العادية، حتى ينسب تناسلهم وتوالدهم إلى اجتماع الأزواج والزوجات منهم، كما هو المتبادر إلى الأحلام السخيفة، وبالجملة: { إنه } سبحانه { عليم } باستعدادات عباده وقابلياتهم { قدير } [الشورى: 50] على إفاضة ما ينبغي لمن ينبغي كما ينبغي، بمقتضى كرمه وجوده إرادة واختيارا، بلا إيجاب والتزام من جانبه سبحانه.
ثم لما شنع اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيروه وطعنوا في نبوته، مستهزئين معه؛ حيث قالوا له تهكما: ألا تكلم الله وتنظر إليه لو كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه.
فقال صلى الله عليه وسلم:
" لم ينظر موسى إلله تعالى "
إذ هو سبحانه أجل وأعلى من أن تنظر إليه العيون، وتدركه الأبصار ومحيط به الآراء والأفكار.
أنزل سبحانه هذه الآية تصديقا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، فقال: { وما كان } أي: ما صح وجاز { لبشر } أي: لجنسه، ليس في وسعه واستعداده { أن يكلمه الله } مشافهة بلا سترة وحجاب؛ إذ لا مناسبة بين المحدوج والمحبوس في مضيق الجهات، وبين غير المحدود والمستغني عن الحدود والجهات حتى تقع المكالمة بينهما { إلا وحيا } أي: تكلما ناشئا عن وحى إلهامي أو منامي { أو } تكلما مسموعا { من ورآء حجاب } أي: وراء تعين من التعينات، كما سمع موسى كلامه سبحاه من وراء حجاب الشجرة، فكذلك يسمع العارف المتحقق بمقام الفناء في الله كلامه سبحانه، من وراء تعينات عموم المظاهر الناطقة بتسبيحه سبحانه حالا ومقالا { أو } تكلما بالسفارة والترجمان بأن { يرسل رسولا } من سدنة ذاته التي هي الملائكة الحاملون لكمالات أسمائه وصفاته { فيوحي } الملك { بإذنه } سبحانه { ما يشآء } ويسمعه من كلامه سبحانه لمن يشاء من عباده.
وبالجملة: { إنه } سبحانه { علي } في شأنه المختص به، وكمالاته اللائقة له، متعال عن أن يحوم حول سرادقات عز سلطانه أحد من خلقه، فيكف أن يتكلموا معه بلا سترة وحجاب { حكيم } [الشورى: 51] في كمال تمنعه وكبريائه ونهاية تعززه وترفعه؛ بحيث تكلم تارة بالوحي والإلهام، وتارة من وراء الحجب والأستار، وتارة بطريق السفارة الرسالة.
{ وكذلك } أي: ومثل ما أوحينا إلى من تقدمك من الأنبياء والرسل، وتكلمنا معهم بإحدى الطرق الثلاث { أوحينآ إليك } أيضا يا أكمل الرسل لنتكلم معك { روحا } منا تكريما لك وتعظيما لشأنك، وتخصيصا لك من بين سائر الأنبياء لظهوره على نشأة التوحيد الذاتي، ناشئا { من أمرنا } المتعلق لتدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا، ألا وهو القرآن المنتخب من حضرة علمنا ولوح قضائنا، سميناه روحا؛ لأنه يحيي به أموات مطلق التعينات، وخصصناك به مع أنك { ما كنت تدري } وتعلم قبل نزوله { ما الكتاب } المبين للأحكام المتعلقة بتهذيب الظواهر والبواطن { ولا الإيمان } والإيقان المتعلق لتوحيد الحق وعرفانه، لكونك أميا عاريا عن طريق الاستفادة والتعلم مطلقا { ولكن } من محض جودنا وفضلنا اصفيناك لرسالتنا، واجتبيناك لخلافتنا ونيابتنا؛ لذلك أنزلناه إليك.
وبعد نزوله { جعلناه نورا } تلألأ وتشعشع بعد ظهور نشأتك { نهدي به } إلى توحيدنا { من نشآء من عبادنا } المجبولين على فطرة الإسلام { وإنك } أيضا بمقتضى خلافتك ونيابتك عنا { لتهدي } به عموم عبادنا وتدعوهم { إلى صراط مستقيم } [الشورى: 52] لا عود فيه ولا انحراف؛ لكونه { صراط الله الذي له } مظاهر { ما في السموت وما في الأرض } أي: العلويات والسفليات، وما ظهر منهما وفيهما وعليهما، وبالجملة: عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد؛ إذ هو سبحانه آخذ بيمين القدرة بناصية الكل، ويجذبه نحوه.
{ ألا } أي: تنبهوا أيها الأظلال المستمدون من الله في كل الأحوال { إلى الله } أي: إلى وجهه الكريم لا إلى غيره من وجوه الأسباب والوسائل العادية { تصير الأمور } [الشورى: 53] أي: إليه ترجع وجوه الصور المرتبة بعد ارتفاع الوجوه الهالكة عن البين واضمحلال الرسوم الباطلة عن العين.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب للتحقق في صراط الحق، والراكن نحوه بحزائمك الأقصى وعزائمك الأوفى أن تجعل قبلة مقصدك توحيد ربك، وتستقيم على جادته التي هي الدين القويم المحمدي، والسبيل السوي المصطفوي، الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
[فصلت: 42] وتقتفي أثر من سلف من خلص أتباعه الذين اهتدوا بمتابعته إلى مقر التوحيد واليقين بك، ووصلوا إلى عالم اللاهوت والتمكين بعدما انخلعوا عن جلباب ناسوتهم بالمرة، بتوفيق من الله وجذب من جانبه، وإرشاد حبيبه صلى الله عليه وسلم.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-8]
{ حم } [الزخرف: 1] يا حارس دين الله، وملازم طريق توحيده.
{ و } حق { الكتاب المبين } [الزخرف: 2] العظيم الذي انتخبناه من حضرة علمنا ولوح قضائنا.
{ إنا } من كمال فضلنا وجودنا { جعلناه قرآنا } فرقانا بيانا، وتبيانا { عربيا } أسلوبا ونظما { لعلكم تعقلون } [الزخرف : 3] وتفهمون ما فيه من الأسرار العجيبة والحكم البديعة والرموز والإشارا التي خلت عنها الكتب السالفة.
{ وإنه } أي: الشأن المندرج فيه، والمرموز إليه من جملة ما هو كائن مثبت { في أم الكتاب } الذي هو حضرة العلم ولوح القضاء، ولا يمكنكم الإطلاع عليها والاستفادة منها إلا بوسائل الألفاظ لكونه محفوظا { لدينا } محروسا عندنا، لا يتيسر لكم الوصول إلينا، ما دمتم محبوسين في مضيق الإمكان، مقيدين بسلاسل الزمان والمكان؛ إذ ساحة عز حضورنا { لعلي } منيع متعال عن أن يحوم حول سرادقات عزن أحد من خلقنا، ونحن { حكيم } [الزخرف: 4] في تكل المنعة والدفاع، لا نطلعكم على سرائرنا وأسرارنا، إلا من وراء الحجب والأستار.
ثم استفهم سبحانه مهددا مقرعا، مشيرا إلى ما أودع سبحانه في استعدادات عباده من قابلية الهداية والرشاد، بقوله: { أ } نهملكم أيها المجبولون على فطرة الهداية، ولم نرسل إليكم يرشدكم إلى ما جبلتم لأجله من قابلية الانكشاف لسرائر توحيدنا { فنضرب } أي: فنصرف { عنكم الذكر } أي: القرآن المبين لكم ما في نشأتكم وفطرتكم من الاطلاع والشعور على شئوننا وتجلياتنا الذاتية، وبالجملة: نعرض عنكم { صفحا } إعراضا وانصرافا كليا، مع كمال قابليتكم على الصلح وبالفوز بالفلاح { أن كنتم } أي: أنهملكم لئن كنتم { قوما مسرفين } [الزخرف: 5] منحطين عن الاعتدال الفطري القسط الجبلي الذي جبلناكم عليه؛ والمعنى: أنهمل مقتضيات حكمتنا المودعة فيكم، إن كنتم في أنفسكم قوما مسرفين في التمرد والإعراض؟.
{ وكم أرسلنا } أي: كثير أرسلنا { من نبي } هاد مرشد { في الأولين } [الزخرف: 6] أي: في الأمم الماضين المسرفين في التمرد والإعراض.
{ و } هم من شدة تعنتهم وإصرارهم { ما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون } [الزخرف: 7] أمثال هؤلاء المستهزئين معك يا أكمل الرسل.
وبعدما تمادوا في الغفلة والعناد، وبالغوا فيها مغرورين { فأهلكنآ } أي: أخذناهم بذنوبهم، واستأصلناهم مع كونهم { أشد منهم } أي: من هؤلاء المسرفين المستهزئين معك { بطشا } حولا وقوة، وأكثر أموالا وأولادا، وأكبر جاها وشدة { و } بعدما { مضى } وجرى { مثل الأولين } [الزخرف: 8] على ما جرى، ومضى مثل الأولين من قصصهم ووقائعهم الهائلة، وسيمضي ويجري عن قريب على هؤلاء أيضا مثلهم بالطريق الأولى.
[43.9-14]
{ و } كيف لا يجري عليهم ما جرى على أسلافهم مع أنهم أعظم جرما وأكبر إنكارا منهم، ومن إنكارهم أنهم { لئن سألتهم } أي: مشركي مكة يا أكمل الرسل: { من خلق السموت والأرض } وأوجدهما من كتم العدم { ليقولن خلقهن العزيز } الغالب على الخلق والإيجاد { العليم } [الزخرف: 9] المطلع على سرائر ما أوجد وإظهر.
ومع اعترافهم بأخص أوصاف الفاعل المختار، وإقرارهم باستناد الأمور المتقنة إلى أوصافه وأسمائه، أنكروا وحدة ذاته، وأشركوا معه غيره عتوا وعنادا، قل لهم يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في الإنكار والإصرار: كيف تنكرون وحدة الحق أيها الجاحدون المنكرون مع أن الله { الذي جعل لكم الأرض مهدا } تستقرون فيها، وتتوطنون عليها مترفهين متنعمين { وجعل لكم فيها سبلا } لمعاشكم، تطلبون منها حوائجكم، وطرقا تصلون منها إلى معادكم { لعلكم تهتدون } [الزخرف: 10] بها إلى وحدة ربكم.
{ و } كيف تنكروف وجود موجدكم { الذي نزل من السمآء } أي: من عالم الأسباب { مآء } محييا لأموات المسببات { بقدر } معتدل معتاد { فأنشرنا به } أي: أحيينا وأخضررنا بإجراء الماء المحيي { بلدة } جافا يابسا لا نبات فيها، ولا خضرة لها { ميتا كذلك } أي: مثل إخراجنا النبات من الأرض اليابسة بإنزال الماء { تخرجون } [الزخرف: 11] وتنشرون؛ أي: الموتى حال كونكم موتى من قبورهم بنفخ الروح فيكم تارة أخرى.
{ و } كيف تجحدون وتنكرون وجود الصانع الحكيم ووحدته مع أنه { الذي خلق } وأظهر { الأزواج كلها } أي: جميع أصناف المخلوقات من زوجات ممتزمجات { وجعل لكم } تتميما لأمور معاشكم وتسهيلا لها { من الفلك والأنعام ما تركبون } [الزخرف: 12] أي تركبونه.
{ لتستووا } وتتمكنوا { على ظهوره } أي: ظهور ما خلق لكم من المراكب { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } كيف أفاض عليكم من النعم أصولها وفروعها، وتواظبوا على شركها أداء لحق شيء منها { وتقولوا } عند استوائكم عليها: { سبحان الذي } أي: تنزه وتقدس عن شوب النقص والاستكمال ذات القرار العليم الحكيم، الذي { سخر لنا هذا } المركوب { وما كنا له مقرنين } [الزخرف: 13] مطيقين لتسخيره لولا إقراره وستخيره سبحانه لنا.
{ و } بالجملة: { إنآ } في عموم أوصافنا وأحوالنا وذواتنا { إلى ربنا } الذي أظهرنا بمد أظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا علينا، وربانا بمقتضى لطفه بالنعم الأوفى { لمنقلبون } [الزخرف: 14] راجعون إليه، صائرون نحوه بعد انخلاعنا عن لوازم ناسوتنا وارتفاع غشاوة تعيناتنا عنا.
وإنما أوصله به تنبيها على أن العبد العارف لا بد أن يكون في عموم انقلاباته وحالاته مسترجعا إلى الله، عازما نحو الفناء فيه، متذكرا لموطنه الأصلي ومقره الحقيقي.
[43.15-20]
{ و } من غاية غفلتهم عن الحق وجهلهم بحقوق ألوهيته وربوبيته: { جعلوا له } سبحانه واتخذوا { من عباده } بعضا، وادعوه { جزءا } له، وولدا ناشئا منه حيث قالوا: الملائكة بنات الله، والعزير ابن الله، والمسيح كذلك، وبالجملة: { إن الإنسان } المجبول على الجهل والنسيان { لكفور } متناه في الغفلة عن الله، والكفران بنعمه وحقوق كرمه { مبين } [الزخرف: 15] ظاهر البغي والطغيان على الله، والإلحاد عن دينه وطريق توحيده.
ومن شدة ظهور بغيهم وطغيانهم: أثبتوا له أولادا { أم اتخذ } أي: بل قالوا: اتخذ وأخذ { مما يخلق } سبحانه؛ أي: من مظاهره ومصنوعاته أخسها وأدونها؛ أعني: { بنات وأصفاكم } أي: أخلص أنفسكم { بالبنين } [الزخرف: 16].
{ و } كيف تثبتون لله الواحد الأحد الصمد بنات، وتختارون لأنفسكم بنين مع أنه { إذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } من إثبات البنات له { ظل } صار { وجهه مسودا } من كمال ضجرته وكآبتها { وهو } حينئذ { كظيم } [الزخرف: 17] مملوء من الغيظ والكرب.
{ أومن ينشأ } أي: أتثبتون للصمد المنزه عن الأهل والولد ولدا ناقصا يربى ويزين { في الحلية } والزينة، لعدم كماله الذاتي { و } الحال أنه { هو في الخصام } أي: المجادلة والمحاباة { غير مبين } [الزخرف: 18] معرب مظهر؛ لما يدعيه لنقصان عقله وركاكة رأيه وفهمه، وهن البنات الناقصات عقلا ودينا وخلقة، وبالجملة: أثبوا لله ما ينزهون أنفسه عنه، ويتغممون عند حصوله لهم.
{ و } من نهاية جهلهم وركاكة رأيهم { جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن } المستغرقون الوالهون بمطالعة وجهه الكريم، المستغفرون لعموم عباد الله من سعة رحمته وجوده { إناثا } ناقصات العقل والدين، منحطات عن زمرة الكاملين مع أنهم - أي: الملائكة - من أعزة عباد الله وأجلهم متمكنون عند كنف قربه وجواده، مسبحون له في عموم الأوقات والحالات { أشهدوا } وحضروا أولئك الحمقى { خلقهم } أي: خلق الله إياهم في بدء الأمر؛ إذ الأنوثة والذكورة من جملة الأمور التي لا اطعلا لأحد عليها إلا بالمشاهدة، أم شهدوا رجما بالغيب، ظلما وزورا { ستكتب } في النشأة الأولى { شهادتهم } التي شهدوا بها على خلص عباد الله، وافتراؤهم على الله الصمد المنزله من الاستيلاد { و } بالجملة: { يسألون } [الزخرف: 19] يوم القيامة عن جميع ما أتوا من المعاصي، سيما عن هذه الشهادة والافتراء، ثم يجازون بمقتضاها.
{ و } بعدما سفه المسلمون أهل الشرك وعيروهم باتخاذ الملائكة والأوثان والأصنام، وجميع المعبودات الباطلة آلهة من دونه الله، شركاء له في الألوهية، مع كونهم منحطين عن رتبة الألوهية والربوبية مطلقا { قالوا } مستدلين على أخذهم واتخاذهم: { لو شآء } وأراد { الرحمن } عدم أخذنا وعبادتنا إياهم { ما عبدناهم } ألبتة، لكن أراد سبحانه عبادتنا فعبدناهم؛ إذ لا يبدل قوله سبحانه ولا يغير حكمه ومشيئته، إنما قالوا ما قالوا تهكما واستهزاء، وعلى زعم المؤمنين، لا عن اعتقاد ويقين بمشيئة الله وتقديره، وعدم تغيير مراده سبحانه؛ لذلك جعلهم سبحانه بقوله: { ما لهم بذلك من علم } أي: ما صدر عنهم هذا الاستدلال عن علم بمقدماته واعتقاد بنتيجته، بل { إن هم } أي: ما هم في قولهم هذا واستدلالهم { إلا يخرصون } [الزخرف: 20] يتمحلون تمحلا باطلا، ويتزورون زورا ظاهرا.
[43.21-25]
أهم يدعون دليلا عقليا سواه على مدعاهم { أم } يدعون دليلا نقليا بأن { آتيناهم كتابا من قبله } أي: من قبل القرآن، مشتملا على اتخاذهم وادعائهم المذكور؟! { فهم به مستمسكون } [الزخرف: 21] متمسكون به في دعواهم هذه.
{ بل } ليس لهم لا هذا ولا ذاك سوى أنهم { قالوا } على وجه التقليد: { إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة } طريقة معينة { وإنا على ءاثارهم مهتدون } [الزخرف: 22] إلى ما اهتدوا تقليدا لهم واقتفاء بأثرهم.
{ وكذلك } أي: ومثل ما قال هؤلاء التائهون في تيه التقليد والضلال { مآ أرسلنا من قبلك } يا أكمل الرسل { في قرية } من القرى الهالكة { من نذير } من النذر الأولى { إلا قال مترفوهآ } ومتنعموهها على سبيل البطر والمفاخرة: { إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة } أي: طريقة معهودة معينة { وإنا على ءاثارهم مقتدون } [الزخرف: 23] لا نترك ديدنة آبائنا، بما اخترعتموه من تلقاء أنفسكم أيها المدعون.
{ قل } - المفسر بقراءة قال على قراءة الجميع غير حفص وابن عامر - يا أكمل الرسل بعدما سمعت منهم ما سمعت كلاما خاليا عن وصمة المراء والمجادلة، عاريا عن أمارات التقليد والتخمين: { أولو جئتكم } يعني: أتقلدن، وتتبعون آباءكم أيها المقلدون المسرفون، ولو جئتكم { بأهدى } أي: بدين أهدى، وأنفع لكم ي أولاكم وأخراكم { مما وجدتم عليه آبآءكم } أي: من أديان آبائكم وتقليداتهم، فتتركون الهداية وتتبعون الضلال.
وبعدما سمع من هؤلاء المقلدون والمسرفون ما سمع أسلافهم من النذر الأولى من الهداية والرشاد { قالوا } مصرين على ما هم عليه: { إنا بمآ أرسلتم به } أي: بجميع ما جئتم به أيها المدعون للرسالة { كافرون } [الزخرف: 24] منكرون جاحدون، لا نقل من أمثال هذا، ولا نترك دين آبائنا ومتابعتهم بمجرد ما ابتدعتموه مراء، ونسبتموه إلى الله افتراء.
وبعدما أصروا على ضلالهم، وتقليداتهم الموروثة له من آبائهم، لم ينفعهم إرشاد الرسل وإهداؤهم { فانتقمنا منهم } فأخذناهم صاغرين { فانظر } أيها المعتبر الناظر { كيف كان عاقبة المكذبين } [الزخرف: 25] المصرين على التكذيب والعناد مع رسل الله، وذوي الخطر من خلص عباده.
[43.26-32]
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمشركي مكة وقت { إذ قال } جدك { إبراهيم } الخليل صلوات الله عليه وسلامه { لأبيه وقومه } المغمورين في التقليدات الموروثة لهم من أسلافهم، بعدما انكشف بحقية الحق ووحدته، وبطلان الآلهة الباطلة التي أثبتوها شركاء الله ظلما وزورا { إنني برآء مما تعبدون } [الزخرف: 26] أي: أنا برئ من معبوداتكم التي أنتم تعبدونها من دون الله الواحد الأحد، المستحق للعبادة والإطاعة.
{ إلا الذي } أي: ما أعبد معبودا سوى الذي { فطرني } أي: أظهرني وأوجدني بمقتضى حوله وقوته، ووفور علمه وحكمته { فإنه } سبحانه بمقتضى سعة رحمته وتوفيقه { سيهدين } [الزخرف: 27] ويثيبني على جادة الهداية بأزيد مما هداني إيه من إجراء كلمة التوحيد على لساني.
{ وجعلها } سبحانه كلمة التوحيد { كلمة باقية } مستمرة { في عقبه } أي: أولاد إبراهيم وذرياته إلى يوم القيامة موروثة لهم { لعلهم يرجعون } [الزخرف: 28] إلى الله بكرامة هذه الكلمة، ويوحدونه حق توحيده؛ لذلك ما خلا زمان من الأزمنة من موحدي هذه الذرية، وممن يدعون منهم إلى الحق وطريق توحيده، وإن كان منهم أيضا من يشرك بالله كمشركي قريش خذلهم اللهز
كما قال سبحانه في شأنهم: { بل متعت هؤلاء } المسرفين المعاندين معك يا أكمل الرسل { و } كذا متعت { آبآءهم } كذلك بأنواع النعم وأصناف الكرم { حتى جآءهم الحق } أي: الطريق الموصل إكلى التوحيد الذاتي { ورسول } مرشد كامل { مبين } [الزخرف: 29] مظهر موضح لهم بطريق الهداية والرشاد.
{ ولما جآءهم الحق } الحقيق بالاتباع { قالوا } من فرط تعنتهم وعنادهم: { هذا } الذي جاء به هذا المدعي؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { سحر } وشعر اختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى ربه افتراء وتغريرا { و } بالجملة: { إنا به } وبدينه { كافرون } [الزخرف: 30] منكرون جاحدون.
{ وقالوا } إن كان نزوله من عند الله حقيقة { على رجل } ذي ثروة وجاه لائق بمرتبة النبوة والرسالة { من القريتين } أي: من إحدى القريتين؛ أي: مكة الطائف { عظيم } [الزخرف: 31] عند الناس بكثرة الأموال والأولاد والأتباع؛ ليكون له اليد والإستيلاء على سائر الناس.
إذ منصب النبوة منصب عظيم، يحتاج إلى ثروة ووجاهة ومكنة تامة ورئاسة ظاهرة، ولم يفهموا أن رتبة النبوة والولاية عبارةعن الغنى الذاتي المسقط لعموم الإضافات المنافية لصرافة الوحدة الذاتية، وهو لا يكون إلا بالتعري عن ملابس الأكوان ولوازم الإمكان، والتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية.
{ أهم } من شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل، ونهاية إنكارهم بكتابك: { لولا نزل هذا القرآن } بأخلاقهم السخيفة، وتدبيراتهم الركيكة { يقسمون رحمت ربك } يا أكمل الرسل، ويضعون رتبة النبوة والرسالة إلى من يقتضيه أوهامهم وخيالاتهم الباطلة ونفوسهم الخبيثة، بل { نحن } بوفور حكمتنا { قسمنا بينهم معيشتهم } التي يحتاجون إليها { في الحياة الدنيا } ومع تدبيرنا إياهم مصالح معاشهم، لا يحسنون تدبيرها فيما بينهم؛ ليصلح أمر ائتلافهم وتمدنهم فيها، فكيف يخوضون في مصالح العباد وتدبيراتها؟! ومن أين يتأتى لهم التفوة في الأوضاع الألوهية والتدابير الربوبية الناشئة عن كمال العلم والحكمة والإرادة الكاملة والقدرة الشاملة؟!.
{ و } من غاية قصورهم عن تدبيرات معاشهم { رفعنا } بمقتضى حكمتنا وتربيتنا إياهم { بعضهم فوق بعض درجات } بأن فضلنا بعضهم على بعض في الرزق الصوري وغيره؛ ليكون لهم الكبرياء والاستيلاء على البعض الآخر { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } أي: يستعمل البعض الأغنياء أجراء من البعض الفقراء، فيأمورهم بما قصدوا من الحوائج؛ ليتم أمر النظام والتمدن والتضام { و } بالجملة: { رحمت ربك } يا أكمل الرسل، وهي رتبة النبوة والرسالة { خير مما يجمعون } [الزخرف: 32] من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية؛ لاشتمالها على ضبط الظاهر والبواطن المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى.
[43.33-36]
ثم أشار سبحانه إلى دناءة زخارف الدنيا وأمتعتها، ورداءة ما فيها من اللذات الوهمية، وما يترتب عنها من الشهوات البهيمية، فقال: { ولولا } مخافة { أن يكون الناس } المجبولون على الكفران والنسيان { أمة واحدة } مائلة إلى الكفر، منحرفة عن الإيمان { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن } أي: بسطنا على الكافرين من الزخارف الدنيوية إلى حيث يتخذون { لبيوتهم سقفا } مصنوعة متخذة { من فضة و } كذا يعملون { معارج } ومراقي منها { عليها } أي: على سطوح بيوتهم { يظهرون } [الزخرف: 33] أي: يعلون ويصعدون بتلك المعارج المعمولة بالفضة عليها.
{ و } كذا يعملون { لبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون } [الزخرف: 34] ترفعا وتنعما.
{ و } بالجملة: لوسعنا عليهم حطام الدنيا إلى حيث جعلنا لهم { زخرفا } وزينة من الذهب والفضة يتزينون بها، ويتلذذون بلذاتها الفانية وشهواتها الزائلة الزائفة، المبعدة عن اللذات الباقية الأخروية، لكن لو فعلنا كذلك لمال إليها المسلمون، وتحسروا بما نالوا، فضعف رأيهم في اتباع الدين القويم والصراط المستقيم.
{ و } بالجملة: { إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } أي: ما كل ذلك المذكور من المزخرفات الدنيوية إلا متاع الحياة الدنيا الفانية، لا قرار لها، ولا مدار لما فيها، ولما يترتب عليها من اللذات والشهوات { و } النشأة { الآخرة } الباقية الدائمة لذاتها أزلا وأبدا { عند ربك } يا أكمل الرسل حاصلة { للمتقين } [الزخرف: 35] الذين يحفظون نفوسهم وعن التلطخ بقاذورات الدنيا، والركون إلى مزخرفاتها الفانية، سوى سد جوعة لبس خرقة وكن يدفعون بها ضرر الحر والبرد، ولا يميلون إلى ما سواها طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه.
{ ومن يعش } أي: يعرض ونصرف { عن ذكر الرحمن } أي: القرآن المبين له طريق الإيمان والعرفان؛ لفرط انهماكه باللذات والشهوات الفانية الدنيوية { نقيض له } ونسلط عليه { شيطانا } يضله ويغويه ويوسوس عليه، ويرديه، وبالجملة: { فهو } أي: الشيطان { له قرين } [الزخرف: 36] دائما، يزين عليه المعاصي والقبائح، ويغريه عليها، إلى أن يدخله في نار القطيعة والحرمان.
[43.37-42]
{ وإنهم } أي: جنود الشياطين وأتباعهم { ليصدونهم } أي: يذبونهم ويصرفونهم؛ أي: أتباعهم { عن السبيل } السوي، الموضوع بالوضع الإلهي، الموصل إلى توحيده { ويحسبون } من فرط عمههم وسكرتهم { أنهم مهتدون } [الزخرف: 37] لهداية قرنائهم من الشياطين، مع أنهم غاوون ضالون بإغوائهم وإضلالهم، ولم يعلموا إضلالهم.
{ حتى إذا جآءنا } أي: الغاشي الأعمى، وعلم ضلاله عنا، وغوايته عن طريقنا { قال } متحسرا متأسفا لقرينه المغوي: { يليت بيني وبينك بعد المشرقين } أي: بعد ما بين المشرق والمغرب { فبئس القرين } [الزخرف: 38] أنت أيها المضل، أضللتني عن الطريق القويم وابتليتني بالعذاب الأليم.
{ و } قيل لهم حينئذ من قبل الحق: { لن ينفعكم اليوم } تمنيكم وأسفكم { إذ } قد { ظلمتم } أنفسكم في نشأة التدارك والتلافي، والآن قد انقرضت، بل { أنكم } وقرناءكم اليوم { في العذاب } النازل عليكم { مشتركون } [الزخرف: 39] كما إنكم كنتم مشتركون في الأسباب الجالبة له في النشأة الأولى.
ثم لما كان صلى الله عليه وسلم يبالغ في إرشاد عشيرته ويتعب نفسه في إهدائهم، رد الله سبحانه على وجه التعجب والتأديب ردعا له عما كان عليه من المبالغة، فقاله مستفهما: { أفأنت تسمع الصم } أي: أأنت تتخيل لنفسك أنك تقدر على إسماع من جبل على الصمم في أصل فطرته { أو تهدي العمي } المجبول على العمى في مبدأ خلقته { و } بالجملة: { من كان في ضلال مبين } [الزخرف: 40] وغواية عظيمة جبلية، كيف تسعى لهدايته، وتبالغ في إرشاده وتكميله؛ إذ ليس في وسعك تغيير الخلقة، وإنما عليك الإنذار والتبليغ فقط، وإلى متى تتعب نفسك وتسعى؟!.
ثم سجل سبحانه على أخذ المشركين والانتقام عنهم بقوله: { فإما نذهبن بك } أي: أن نتوفينك يا أكمل الرسل، ونخرجنك عن الدنيا قبل انتقامنا منهم، وأخذنا إياهم { فإنا منهم منتقمون } [الزخرف: 41] ألبتة بعد مماتك ووفاتك.
{ أو نرينك } العذاب الموعود { الذي وعدناهم } للإعراض عنك، وعن دينك وكتابك، وبالجملة: { فإنا عليهم مقتدرون } [الزخرف: 42] قادرون على وجوه الانتقام إياهم حال حياتك أو بعدها.
[43.43-48]
وبعدما أكد سبحانه إنجاز الوعد الموعود عليهم، وبالغ فيه، أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالتمكن والتثبت على مقتضى الوحي المنزل من عنده، فقال: { فاستمسك بالذي أوحي إليك } من القواعد الشرعية الموضوعة بالوضع الإلهي، واعتمد عليه، ولا تلتفت إليهم، ولا تبال بإعراضهم { إنك على صراط مستقيم } [الزخرف: 43] موصل إلى توحيد ربك.
{ وإنه } أي: القرآن { لذكر } أي: عظة وتذكير { لك ولقومك } فعليكم أن تتعظوا به، وبما فيه من الحكم والأحكام، والعبر والرموز والإشارات { وسوف تسألون } [الزخرف: 44] عن قيامكم بها وامتثالكم بما فيها.
وإن عاند المشركين معك، واستهزءوا بك وبكتابك، ونسبوا دينك إلى البدعة والاختلاق، ف
ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
[النحل: 127] وينسبونك إليه، { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ } أي: أحبار قومهم وعلماء دينهم، وفتش أحوالهم عن آثارهم وأخبارهم وكتبهم الباقية بعدهم { أجعلنا من دون الرحمن } المنزه في ذاته عن الشركة والتعدد مطلقا { آلهة يعبدون } [الزخرف: 45] أي: هل حكمنا لهم، وأمرناهم باتخاذ آلهة سوى الحق، يعبد لهم كعبادة الله، بل ما اتخذوا آلهتهم إلا بمقتضى آرائهم الباطلة وأهويتهم الفسادة، وما عبدوا لهم إلا ظلما وزورا.
{ ولقد أرسلنا } أخاك { موسى بآيتنآ } الدالة على توحيدنا { إلى فرعون } الطاغي المستعلي على من في الأرض { وملإيه } المعاونين له في طغيانه { فقال } لهم بإذن منا وبمقتضى وحينا: { إني رسول رب العلمين } [الزخرف: 46] أرسلني إليكم لأرشدكم إلى طريق توحيدي، وأوضح لكم سبيل المعاد.
{ فلما جآءهم } مؤيدا { بآياتنآ } أي: بالخوارق والمعجزات الدالة على صدقه { إذا هم منها يضحكون } [الزخرف: 47] أي: فاجؤوا على الضحك والاستهزاء أول رؤيتهم بها بلا تأمل وتدبر فيها.
{ و } الحال أنه { ما نريهم من آية } من الآيات { إلا هي } أي: الآية المرئية في الحال { أكبر } وأظهر دلالة على كمال قدرتنا وصدق نبينا { من أختها } أي: من الآية السابقة عليها، ومع ذلك أنكروا عليها واستهزءوا { و } بعدما بالغوا في العتو والعناد { أخذناهم بالعذاب } العاجل من القحط والطاعون وغيرها { لعلهم يرجعون } [الزخرف: 48] رجاء أن يرجعوا عن إنكارهم إصرارهم عليه.
[43.49-56]
{ و } مع ذلك لم يرجعوا بل { قالوا } عند نزول البلاء وهجوم العناء مسترجعين نحوه، منهمكين معه: { يأيه الساحر } الماهر في السحر { ادع لنا ربك } الذي زعمت ألا منزل للمصيبة سواه، ولا كاشف أيضا إلا هو { بما عهد عندك } أي: بمقتضى ما وعد لك وعهد معك ألا يعذب من آمن بك وصدقك، فإنن انكشف الضر عنا بدعائك { إننا لمهتدون } [الزخرف: 49] بهدايتك مؤمنون لك، مصدقون بنبوتك ورسالتك، وبجميع ما دعوتنا إليه.
{ فلما كشفنا عنهم العذاب } بعد دعاء الأنبياء والرسل وتضرعهم نحونا، راجين منا العفو والتجاوز { إذا هم ينكثون } [الزخرف: 50] أي: فاجؤوا على نقض ما عهدوا، مبادرين على الإنكار والعناد بلا تراخ وتأخير.
{ و } من كمال عتو فرعون ونهاية عناده واستكباره { نادى فرعون } بنفسه يوما من الأيام حين كان { في } مجمع { قومه } مباهيا بما عنده من الجاه وسعة المملكة؛ حيث { قال يقوم } ناداهم؛ ليسمعوا منه ويصغوا إليه سمع قبول { أليس لي ملك مصر } مع كمال وسعته وكثرة مملكته { وهذه الأنهار } الثلاثة المنشبعة من النيل؛ هي نهر طولون، ونهر دمياط، ونهر نفيس { تجري من تحتي } أي: تحت تصرفي وملكي { أفلا تبصرون } [الزخرف: 51] أيها المجبولون على البصارة.
{ أم أنآ } أي: بل أنا { خير من هذا } الساحر المدعي { الذي هو مهين } رذيل مهان، لا عزة له ولا مقدار { و } مع رذالته وسفالته { لا يكاد يبين } [الزخرف: 52] يظهر ويعرب كلامه للكنة في لسانه.
{ فلولا ألقي عليه أسورة } أي: فلو كان مؤيدا من عند الله، ومكرما لديه كما زعم، هلا ألقي عليه أسورة { من ذهب } تدل على عزته وكرامته عنده وسيادته عند الناس؛ إذ العادة حينئذ أن أهل الرئاسة والسيادة يسورون ويطوفون بأسورة من ذهب { أو } هلا { جآء معه الملائكة } من عند ربه { مقترنين } [الزخرف: 53] معه مجتمعين، يعينونه فيما يعنيه.
وبالجملة: { فاستخف قومه } وسفههم وضعف أحلامهم بامتثال هذه الهذيانات الباطلة { فأطاعوه } وقبلوا منه جميع ما قال عتوا وعنادا { إنهم } في أنفسهم { كانوا قوما فاسقين } [الزخرف: 54] خارجين عن مقتضى العدالة الإلهية، لذلك انحرفوا عن سواء السبيل واتبعوا ذلك الفاسق الطاغي.
{ فلمآ آسفونا } وحملونا على القهر والغضب، وحركوا حمية الغيرة الإلهية بامتثال هذه الجرائم الفاحشة { انتقمنا منهم } بمقتضى قهرنا وجلالنا { فأغرقناهم أجمعين } [الزخرف: 55] في اليم، ومحنا رسومهم عن وجه الأرض.
{ فجعلناهم سلفا } قدوة وأسلافا قديمة { و } صاروا { مثلا للآخرين } [الزخرف: 56] من أخلافهم، يمثلون بهم، وبوقائعهم يتعظون.
[43.57-62]
{ ولما ضرب ابن مريم مثلا } يعني: لما ضرب بن الزبعرى مثلا بعيسى عليه السلام حين نزلت آية كرمية:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء: 98] حيث قال مجادلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تزعم أن النصارى من أهل الكتاب، وأنهم يعبدون عيسى، ويعتقدونه ابن الله، والملائكة أولى بالمعبودية من عيسى، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقو لما سمعوا مجادلته، ورأوا سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه فهموا منه إلزام الرسول وإفحامه، فأوجسوا في نفوسهم إعراضا، كما حكى عنهم سبحانه بقوله: { إذا قومك منه } أي: من كلام ابن الزبعرى { يصدون } [الزخرف: 57] ويعرضون عنك فرحا بأنك قد ألزمت من كلامه.
{ و } بعدما أعرضوا واعتقدوا إلزامك من ذلك الطاغي { قالوا } أي: بعضهم لبعض: { ءأ لهتنا } التي كنا نعبد نحن وأسلافنا أيضا أياهم { خير أم هو } يعنون: إن محمدا الذي ادعى الرسالة من عنده، وإنما قالوا ما قالوا له تهكما واستهزاء، كما قال سبحانه: { ما ضربوه لك } مثلا { إلا جدلا } مجادلة ومراء { بل هم } في أنفسهم { قوم خصمون } [الزخرف: 58] مجادلون مكابرون في الخصومة، وإجراء الباطل مجرى الحق وترويجه جدلا ومغالطة.
بل { إن هو } أي: ما عيسى { إلا عبد } من جملة عبادنا { أنعمنا عليه } بمقتضى فضلنا وجودنا، وأظهرنا على يده من المعجزات الباهرة والخوارق الظاهرة الدالة على كمال قدرتنا { وجعلناه مثلا } عجيبا وشأنا بديعا { لبني إسرائيل } [الزخرف: 59] يسري بينهم أمر وجوده بلا أب وظهور الخوارق العجيبة عنه، سيما في حال صباه وإرهاصات أمه كالمثل السائر، كل ذلك من كمال قدرتنا وعلمنا، ومتانة حكمتنا.
{ ولو نشآء لجعلنا منكم } أيضا وأنشأنا بدلكم { ملائكة } يسكنون { في الأرض } مكلفين بالعبادة والعرفان أمثالكم، وإذا انقرضت طائفة منهم { يخلفون } [الزخرف: 60] أمثالهم أمثالكم إلى ما شاء الله.
يعني: لا تتعجبوا من شأن عيسى وظهوره على الوج الأبدع الأغرب، بل تأملوا وتدبروا في كمال قدرة المبدع وفور حكمته وجوده؛ إذ هو سبحانه قادر على إظهار أمور عجيبة وشئون بديعة، لا تعد ولا تحصى، ومن جملتها: ظهور عيسى وما صدر منه من الخوارق، بل كل من وصل بعالم القلب، وحصل دور الكشف والشهود اليقيني الحقي، مترقبا من المشاهدات العادية والمحسوسات الألفية ظهر له ولاح عنده أن كل ما لمع عليه برق الوجود وتشعشع منه بمقتضى الجود، إنما هو على وجه غريب وشأن عجيب.
ثم قال سبحانه: { وإنه } أي: شأن الظهورات المنبهة عليها والتطورات المشارة بها { لعلم } دليل لائح وبرهان واضح { للساعة } الموعودة المعهودة { فلا تمترن بها } وبقيامها { و } بالجملة: { اتبعون } في جميع ما أنزلت لكم في كتبي وعلى ألسنة رسلي، وأطيعوا أمري وأمرهم { هذا } الذي أشرناكم إليه { صراط مستقيم } [الزخرف: 61] فاسلكوا فيه؛ لعلكم تهتدون على توحيدي وتفوزون بالفوز العظيم.
{ و } عليكم محافظة الحدود الشرعية والمعالم الدينية حتى { لا يصدنكم الشيطان } أي: لا يعرضنكم عنها، ولا يوقعنكم في فتنة عظيمة وبلية شديدة { إنه لكم عدو مبين } [الزخرف: 62] ظاهر العداوة شديد الخصومة، يضلكم عن جادة التوحيد، ويوقعكم في العذاب الشديد، أعاذنا الله وعموم عباده من فتنته.
[43.63-67]
{ و } كيف لا يكون عيسى عبدا من عبادنا، اذكر لهم يا أكمل الرسل { لما جآء عيسى } إلى بني إسرائيل من عندنا مؤيدا { بالبينات } الباهرة التي ما ظهر مثلها من نبي من الأنبياء { قال } مظهرا لهم الدعوة إلى طريق الحق وتوحيده: { قد جئتكم } من عند ربي { بالحكمة } البالغة { و } إنما جئتكم { لأبين } أوضح وأظهر { لكم } طريق العبودية والعرفان سيما { بعض الذي } أي: بعض المعالم الدينية التي { تختلفون فيه } وفي نزوله في كتب الله، وعدم نزوله فيها { فاتقوا الله } أولا حق تقاته { وأطيعون } [الزخرف: 63] فيما جئت لكم من عنده.
{ إن الله } المتوحد المتفرد بالألوهية والربوبية { هو ربي وربكم } دبر أمري وأمركم، وبينه في كتابه { فاعبدوه } بمقتضى وحيه وإنزاله، واعلموا أن { هذا صراط مستقيم } [الزخرف: 64] موصل إلى توحيده الذي جبلتم لأجله، إن كنتم مؤمنين موقنين.
وبعدما تم أمر الدعوة والتبليغ { فاختلف الأحزاب } وتفرقا تفرقا ناشئا { من بينهم } أي: من بين قومه المبعوث إليهم، بعدما دعاهم إلى طريق الحق وتوحيده، وهداهم إلى صراط مستقيم { فويل } عظيم وعقاب شديد يتوقع { للذين ظلموا } خرجوا عن مقتضى العبودية المأمورة لهم بالوحي الإلهي { من عذاب يوم أليم } [الزخرف: 65] مؤلم في غاية الإيلام.
{ هل ينظرون } أي: ما ينظرون وينتظرون { إلا الساعة } الموعودة قيامها { أن تأتيهم بغتة } فجأة بلا سبق مقدمة وأمارات { وهم } من غاية اشتغالهم بالملاهي الدنيوية { لا يشعرون } [الزخرف: 66] إيتانها إلا وقت وقوعهم في أهوالها.
{ الأخلاء } والأحباء { يومئذ } من شدة الهول والفزع { بعضهم لبعض عدو } إذ يتذكرون حينئذ ما جرى بينهم من المعاونة والمشاركة في الإعراض عن الله وكتبه ورسله، وعدم الانقياد والإطاعة للدين القويم { إلا المتقين } [الزخرف: 67] أي: الأحياء الذين تحابوا في الله، وتشاركوا في طريق توحيده.
[43.68-73]
ثم التفت يومئذ سبحانه إلى خلص عباده الذين اتقوا عن محارمه، طلبا لمرضاته، مناديا لهم على رءوس الأشهاد: { يعباد } ناداهم وأضافهم إلى نفسه اختصاصا لهم وتكريما: { لا خوف عليكم اليوم } لخوفكم عن مقتضى قهرنا وجلالنا في النشأة الأولى { ولا أنتم تحزنون } [الزخرف: 68] اليوم؛ لتصبركم على الشدائد ومقاساة الأحزان في طريق الإيمان في دار الابتلاء.
وهؤلاء البررة المبشرون هم { الذين آمنوا بآياتنا } المنزلة على رسلنا، وامتثلوا بمقتضاها { و } بالجملة: { كانوا مسلمين } [الزخرف: 69] منقادين مطيعين، مفوضين أمورهم كلها إلى الله، راضين بجميع ما قضى عليهم، وكتب لهم من المنح والمحن.
لذلك نودوا حينئذ من قبل الحق على سبيل البشارة والكرامة: { ادخلوا الجنة } المعدة لخلص أوليائنا الذي اتخذونا وكيلا { أنتم } أصالة { وأزواجكم } أي: نساؤكم المؤمنات المتوكلات الراضيات من الله بما قسم لهن المجتنبات عن محارم الله حال كونكم { تحبرون } [الزخرف: 70] تبهجون وتسرون فيها على وجه يظهر أثر البهجة والمسرة في وجوهكم، ويلوح من سيماكم.
وبعدما تقرروا في مقام العز والتكريم، وتمكنوا في مكمن التمجيد والتعظيم: { يطاف عليهم } أي: يطوف حولهم خدمة الجنة { بصحاف } جمع: صحفة، وهي القطعة الكبيرة المتخذة { من ذهب وأكواب } جمع: كوب، وهي الكوز التي لا عرى لها أيضا متخذة منها { و } بالجملة: { فيها } أي: في الجنة { ما تشتهيه الأنفس } من اللذات والشهوات المدركة بآلاتها { وتلذ الأعين } أي: من المحسوسات التي استحسنتها العيون واستلذذون بها، { و } بالجملة: { أنتم فيها خالدون } [الزخرف: 71] دائمون لا تتحولون منها أبد الآبدين.
{ وتلك الجنة التي } تفوزون بها { أورثتموها بما كنتم تعملون } [الزخرف: 72] من الأعمال المصورة بها، المنتجة لها، المأمورة لأجلها.
وبالجملة: { لكم فيها فاكهة كثيرة } من المستلذات الروحانية والجسمانية { منها تأكلون } [الزخرف: 73] ومنها تتفكهون جزاء بما كنت تعملون.
[43.74-80]
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة: { إن المجرمين } المنهمكين في بحر الجرائم والمعاصي { في عذاب جهنم خالدون } [الزخرف: 74] على عكس خلود أصحاب الجنة في الجنة.
بحيث { لا يفتر } ولا يخفف { عنهم } من عذابها { وهم فيه } أي: في العذاب الدائم { مبلسون } [الزخرف: 75] آيسون من الخلاص والنجاة.
{ و } بالجملة: { ما ظلمناهم } بإنزال العذاب عليهم { ولكن كانوا هم الظالمين } [الزخرف: 76] المقصورين على الخروج والعدوان على مقتضى الحدود الموضوعة فيهم؛ لحفظهم عن مثال هذا العذاب والنكال.
{ و } من شدة العذاب عليهم وقلة التصبر وفرط الفزع والجزع { نادوا } صائحين صارخين: { يمالك ليقض علينا ربك } أي: سل ربك أن يقضي علينا بالمقت والهلاك؛ إذ لا طاقة لنا اليوم بالعذاب وهوله وشدته، ثم لما بثوا شكواهم مرارا، وصاحوا فجعين فزعين تكرارا { قال } القائل في جوابهم من قبل الحق على سبيل الاستبعاد والتأبيد: هيهات هيهات { إنكم ماكثون } [الزخرف: 77] لا نجاة لكم عنها، لا بالموت ولا بالخلاص والتخيف، بل كلما نضجت جلودكم بدلنا لكم جلودا غيرها، وعذبناكم أشد العذاب.
وكيف لا نعذبكم أيها الجاهلون المسرفون { لقد جئناكم بالحق } أي: بالطريق الحق الثابت الحقيق بالإطاعة والاتباع فانصرفتم عنه، وأنكرتم عليه ولم تلتفتوا إليه، بل { ولكن أكثركم } بعدما تفطنوا { للحق } وحقيته { كارهون } [الزخرف: 78] لقبوله والامتثال بمقتضاه.
وهم مع كمال كراهتهم للحق وذبهم عنه لا يقتصرون عليها { أم أبرموا } أي: بل حكموا وقطعوا { أمرا } حكما مبرما، مكرا وخديعة لرد الحق وتكذيب أهله { فإنا } بمقتضى قهرنا وجلالنا { مبرمون } [الزخرف: 79] حاكمون حكما قطعيا بإنزال العذاب المخلد عليهم جزاء لمكرهم وخداعهم.
أيشكون ويترددون أنا لا نقدر على انتقامنا وأخذهم { أم يحسبون أنا لا نسمع } نعلم وندرك { سرهم } الذي يخفونه في ضمائرهم { ونجواهم } الذي يتناجون به في هواجس نفوسهم { بلى } إنا عالمون بجميع ما يجري في أسرارهم وضمائرهم، مطلعون بعموم ما صدر من استعداداتهم وقابلياتهم { و } مع إحاطة علمنا بهم ولأحوالهم { رسلنا لديهم يكتبون } [الزخرف: 80] جميع ما صدر عنهم، نقيره وقطميره، حتى نحاسبهم عليه، ونجازيهم بمقتضاه.
[43.81-84]
ثم لما شاع قول اليهود والنصارى بولديه عزير وعيسى، ومال إليه أولو الأحلام الضعيفة منهم ومن غيرهم، رد الله عليهم على أبلغ وجه وآكده، بأن أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالقول على سبيل الفرض والتقدير: { قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في هذه الفرية البعيدة عن الحق بمراحل مستحيلة في نفسها: { إن كان للرحمن ولد } أي: إن صح وجاز أن يكون له ولد متصف ببنوته { فأنا أول العابدين } [الزخرف: 81] لابنه؛ إذ أنا أعلم الناس بلوازم الألوهية وأحفظهم بحقوق الربوبية، إن كان له سبحانه ولد أنا أحق بعبوديته وتعظيمه من جميع بريته.
{ سبحان رب السموت والأرض رب العرش } أي: تنزه وتعالى شأن من هو مربي العلويات والسلفيات، المنبسط بالإحاطة التامة والاستيلاء الكامل الشامل على عموم عروش المظاهر بالاستقلال والانفراد { عما يصفون } [الزخرف: 82] أولئك الواصفون من نسبة الولد والمولود له، تعالى شأنه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وبعدما انكشفت يا أكمل الرسل بحقية الحق ووحدته وحميديته: { فذرهم يخوضوا } في أباطليهم ويستغرقوا في ظلالهم وغفلاتهم { ويلعبوا } بمقتضيات أوهامهم وخيالاتهم { حتى يلقوا } يلحقوا { يومهم الذي يوعدون } [الزخرف: 83] بملاقات ولحوق ما فيه من أنواع العقوبات والنكبات.
{ و } كيف يتخذون له سبحانه ولدا وينسبون له شريكا، مع أنه سبحانه { هو الذي في السمآء } أي: علام الأساء والصفات { إله } يعبد له ويرجع إليه مع صرافة وحدته الذاتية { وفي الأرض } أي: عالم الطبيعة والهيولي { إله } كذلك بلا تعدد وتغير في ذاته { و } بالجملة: { هو الحكيم } المقصور على الحكمة المتقنة البالغة لا حاكم سواه { العليم } [الزخرف: 84] المقصور على العلم الكامل الشامل، المحيط بجميع ما لاح عليه بروق تجليات الوجود وشروق شمس الذات.
[43.85-89]
{ وتبارك } أي: تعاظم وتعالى الذات القادر العليم الحكيم { الذي له ملك السموت والأرض } أي: العلويات والسفليات { وما بينهما } من المركبات والممتزجات، تدبيرا وتصرفا على وجه الاستقلال بالإرادة والاختيار { وعنده علم الساعة } الموعودة قيامها من عنده سبحانه { و } بالجملة: { إليه ترجعون } [الزخرف: 85] في النشأة الأخرى رجوع الأظلال إلى الأضواء والأمواج إلى الماء.
{ و } بعدما ثبت وحدة الحق واستقلاله في ملكه وملكوته { لا يملك } ولا ينفع المشركين المسرفين { الذين يدعون } ويعبدون { من دونه } سبحانه { الشفاعة } عنده من آلهتهم الذين زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله { إلا من شهد } أن الشفاعة؛ أي: إلا شفاعة من أقر { بالحق } واعترف بتوحيده { وهم } مع إقرارهم واعترافهم { يعلمون } [الزخرف: 86] وينكشفون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته.
{ و } الله يا أكمل الرسل { لئن سألتهم } أي: المشركين عن { من خلقهم } وأوجدهم من كتم العدم، وأظهر أشباحهم منه { ليقولن الله } الموجد المظهر للكل؛ إذ لا يمكنهم المكابرة والعناد في أمثال هذه الظواهر { فأنى يؤفكون } [الزخرف: 87] ويصرفون بعدما اعترفوا باستقلاله في الخلق والإيجاد.
وكيف يشركون معه غيره في استحقاق العبادة، والرجوع إليه في الخطوب والمهمات { وقيله } أي: من جملة قوله ومقوله صلى الله عليه وسلم في مناجاته مع ربه في شأن قومه حين آيس عن إيمانهم، بعدما بالغ في إرشادهم وتكميلهم مناديا متضرعا إلى الله، متعجبا من كمال قسوتهم وانهماكهم في الغي والضلال: { يرب إن هؤلاء } البعداء عن جادة الهداية والرشاد { قوم } متناه في الغفلة والإعراض عنك { لا يؤمنون } [الزخرف: 88] بتوحيدك ولا يقبلون دعوتي، ولا يسمعون قولي.
وبعدما تضرع وناجى مع ربه، قيل له من قبل الحق على سبيل الوحي والإلهام { فاصفح عنهم } يا أكمل الرسل، واعرض عن هدايتهم وإرشادهم، فإنهم مجبولون على الغواية، مطبوعون بالكفر والضلال { و } بعدما آيست منهم بأسا كليا { قل سلام } على سبيل التوديع والمتاركة { فسوف يعلمون } [الزخرف: 89] وبال ما تعملون وتدخرون لنفوسكم من الذخائر الجالبة لأنواع العقوبات، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد القاصد لتحقيق الحق الحقيق بالإطاعة والاتباع أن تصفي همك في جميع حالاتك عما سوى الحق، وتخلي قلبك عن الشواغل العائقة عن التوجه الحقيقي نحوه، وتستقيم على صراط التوحيد مستويا، مائلا عن كلا طرفيب الإفراط والتفريط، مقتصدا؛ إذ مرجع جميع الطرق والسبل السوية إلى العدالة الإلهية الفائضة منه سبحانه على استعدادات عموم القوابل والمجالي، حسب قابلياتهم الفطرية التابعة للتجليات الإلهية وشئونه المتفرعة على أسمائه وصفاته الذاتية، وتقتفي في تهذيبك وتصفيتك هذا أثر النبي المجبول على العدالة الإلهية وخلافته ونيابته.
وعليك الإعراض عمن أعرض عن الحق وأهله، وانحرف عن سواء السبيل.
جعلنا الله وعموم عباده من زمرة أهل الهداية واليقين، وجنبنا من الضلال عن الطريق المستبين.
[44 - سورة الدخان]
[44.1-9]
{ حم } [الدخان: 1] يا حافظ حدود الله ومراقب وحيه في عموم أوقاتك وحالاتك.
و { و } حق { الكتاب المبين } [الدخان: 2] الذي هو القرآن العظيم الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
[فصلت: 42].
{ إنآ } من مقام عظيم جودنا { أنزلناه } أي: ابتدأنا إنزاله إليك تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك { في ليلة مباركة } كثيرة الخير والبركة، هي ليلة القدر أو البراءة، وإنما أنزلناه مشتملا على الأحكام والمواعظ والعبر والأمثال والقصص والتواريخ والرموز والإشارات المنبهة على المعارف والحقائق { إنا كنا منذرين } [الدخان: 3] مخوفين بإنزال ما فيه من الأوامر والنواهي الوعيدات الهائلة على من انصرف عن جادة العدالة الإلهية وانحرف عن الطريق المستبين.
وإنما أنزلناه إليك في ليلتك هذه؛ إذ { فيها يفرق } يميز ويفصل عندك يا أكمل الرسل بعدما تمكنت في مقر العز والتمكين { كل أمر حكيم } [الدخان: 4] أي: محكم صادر عن محض الحكمة المتقنة الإلهية، ولهذا صار ما ذكر في كتابك هذا { أمرا } محكما مبرما نازلا { من عندنآ } على مقتضى كمال علمنا وقدرتنا ووفور حكمتنا؛ ليكون هداية لك وإرشادا لعموم عبادنا، المتابعين لك المهتدين بهدايتك { إنا كنا } في عموم الأوقات { مرسلين } [الدخان: 5] رسلا مبشرين ومنذرين، منزلين عليهم كتبا مبينة مصلحة لأحوال عبادنا، بعدما أفسدوا على أنفسهم.
وصار ذلك الإرسال والإنزال { رحمة } نازلة { من ربك } يا أكمل الرسل سنة سنية مستمرة بين عموم عباده حين ظهر الفساد فيهم، وبالجملة: أنه سبحانه { هو السميع } لمناجاة عباده نحوه بألسنة استعداداتهم { العليم } [الدخان: 6] لحاجتهم ونياتهم فيها.
وكيف لا يرحمهم ولا يصلح أحوالهم مع أنه هو بذاته { رب السموت والأرض وما بينهمآ } السياق يدل على أن التفسير على قراءة: { رب السموت } على قراءة ابن عامر وغيره من الكوائن المركبة منها، يعني: مربي الكل ومظهره بالاستقلال والانفراد إن { كنتم موقنين } [الدخان: 7] أي: من أرباب المعرفة واليقين، فاعرفوه كذلك ووقروه.
إذ { لا إله } ولا موجود في الوجود { إلا هو } بصرافة وحدته وتنزهه عن وصمة الشركة مطلقا هو { يحيي ويميت } أي: يظهر ويوجد ما يظهر، ويعدم ما يعدم، بمد ظله إليه وقبضه عنه؛ إذ هو سبحانه { ربكم ورب آبآئكم الأولين } [الدخان: 8] لا مربي لكم ولهم سواه، لو تأمل عموم العباد في دلائل توحيده سبحانه، ونظروا في آيات ألوهيته وربوبيته، لعرفوا يقينا وحدة ذاته { بل هم } أي: أكثرهم { في شك } أي: غفلة وتردد { يلعبون } [الدخان: 9] ويترددون في أودية الظنون والجهالات حسب آرائهم الفاسدة وأهويتهم الباطلة.
[44.10-16]
{ فارتقب } يا أكمل الرسل وانتظر لهم مترقبا بإلمام البلاء عليهم، بعدما أصروا على كفرهم وشركهم { يوم تأتي السمآء بدخان } مظلم { مبين * يغشى الناس } [الدخان: 10-11] يحيط بهم وينزل عليهم، فيتيقنوا أن { هذا عذاب أليم } [الدخان: 11] مؤلم ألم بهم.
فيتضرعون حينئذ نحو الحق صارخين قائلين: { ربنا اكشف } بفضلك وجودك { عنا العذاب إنا } بعدما كشف عنا { مؤمنون } [الدخان: 12] موقنون بوحدانيتك، مصدقون بكتابك ورسولك، وذلك أن قريشا لما بالغوا في استهزاء الرسول صلى الله عليه وسلم التهكم معه ومع ضعفاء المؤمنين ، دعا عليهم صلى الله عليه وسلم فقال:
" اللهم أعني عليهم بالسبع الشداد كسبع يوسف عليه السلام "
فأجاب الله دعاءه، فأخذه بالقحط، فأكلوا الميتة والجيفة، وهلك كثير منهم، فيغشاهم حينئذ دخان عظيم، يسمع كل منهم كلام صاحبه ولا يراه من ظلمة الدخان، وقالوا صارخين متضرعين: { هذا عذاب أليم * ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } وكانوا عليه حتى جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنك قدئ جئت بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا من الجهد، فدعا لهم، فكشف الله عنهم جهدهم، ومع ذلك لم يوفوا بعهدهم الذي عهدوا، ولذلك رد الله عليهم بقوله: { أنى لهم الذكرى } أي: من أين يتأتى منهم التذكر والاتعاض { وقد جآءهم } لتكميلهم وإرشادهم { رسول مبين } [الدخان: 13] ظاهر الفضل والعظمة أكمل من كل الرسل.
{ ثم تولوا عنه وقالوا } مدبرين وأعرضوا عن دعوته ودينه، مصرين على ما هم عليه { و } لم يقتصروا على مجرد التولي والإعراض، بل { قالوا } في شأنه كلاما يليق بعلو مكانه، حيث قال بعضهم أنه: { معلم مجنون } [الدخان: 14] يعلمه بعض الأعجمين مع أنه أمي، وقال البعض الآخر: أنه مجنون مخبط مختل العقل يتكلم بكلام المجانين، مع أنه أعقل الناس وأرشدهم.
ثم قال سبحانه على سبيل الإخبار والتنبيه لحبيبه صلى الله عليه وسلم بعدما دعا لهم بالكشف: { إنا } من مقام عظيم جودنا معك يا أكمل الرسل { كاشفوا العذاب } المحيط بهم بدعائك زمانا { قليلا } في دار الاختبار، إلا أنهم لم يوفوا بعهدهم الذي عهدوا معك لعراقتهم وانهماكهم في الكفر، ثم خاطبهم سبحانه مخبرا بما سيصدر عنهم فقال: { إنكم } وإن كشفنا العذاب عنكم أيها الضالون المكذبون { عآئدون } [الدخان: 15] راجعون إلى كفركم وضلالكم غب الكشف والفرج، مبادرون على ما كنتم عليه.
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم نبطش البطشة الكبرى } أي: يوم نأخذهم وننتقم عن جرائهم وآثامهم في يوم القيامة والطامة الكبرى، كيف ينقذون أنفسهم من عذابنا الذي لا مرد له حينئذ { إنا منتقمون } [الدخان: 16] منهم ألبتة يومئذ.
[44.17-24]
ثم قال سبحانه تسلية لحيبيه صلى الله عليه وسلم وتسكينا لقلبه بما أهمه من استهزاء قومه معه واستخفافهم عليه: { و } كما امتحنا قريشا بإرسالك إليهم مع إنا نعلم منهم أنهم لم يؤمنوا لك ولم يهتدوا بهدايتك، وأوقعناهم في فتنة عظيمة وبلية فظيعة { لقد فتنا قبلهم قوم فرعون } بإرسال أخيك موسى الكليم إياهم { وجآءهم رسول } مرسل من لدينا { كريم } [الدخان: 17] مكرم بأنواع الكرامات، مريد بالمعجزات، مبلغ لهم على مقتضى الوحي الإلهي { أن أدوا } أي: بأن أدوا { إلي عباد الله } حق الله، وأرسلوا معي عباده بني إسرائيل { إني لكم } من قبل ربى { رسول أمين } [الدخان: 18] مأمون مصون عن الكذب والافتراء، غير متهم به؛ لدلالة ما عندي من المعجزات على صدق دعوتي ورسالتي.
{ و } عليكم { أن لا تعلوا } ولا تتكبروا { على الله } وعلى قبول وحيه وتصديق رسوله { إني آتيكم بسلطان مبين } [الدخان: 19] حجة واضحة دالة على صدقي في دعواي { و } مع وضوح الحجة وسطوع البرهان أن تظهروا علي بالعناد والمكابرة اتكالا على شوكتكم وكثرتكم، فإنا لا نبالي بكم وبشوكتكم واستيلائكم، بل { إني عذت } التجأت ووثقت { بربي وربكم أن ترجمون } [الدخان: 20] وتقتلون أو تضربوني بالحجارة أو تشتموني باللسان.
{ وإن لم تؤمنوا لي } ولم تقبلوا قولي ودعوتي { فاعتزلون } [الدخان: 21] لا علي ولا لي، وبعدما كذبوه وقصدوا قتله ومقته: { فدعا ربه } وتضرع نحوه بقوله: { أن هؤلاء } المسرفون { قوم مجرمون } [الدخان: 22] منهمكون في الغي والضلال، لا ينفعهم نصحي، ولا يؤثر فيهم قولي ودعوتي.
وبعدما أيس عن إيمانهم، بل خاف عن مكرهم وطغيانهم، قلنا له: إن كان الأمر كذلك { فأسر بعبادي } أي: سر معهم { ليلا } وبعدما علموا خروجك { إنكم متبعون } [الدخان: 23] أي: يتبعكم فرعون وجنوده ليلحقوكم ويستأصلوكم.
وبعدما وصلتم غدوة، وهم على أثركم مدركون بكم، فاضرب حينئذ بعصاك البحر، فانفلق وتفرق من كمال قدرتنا، وادخل أنت ومن معك بلا خوف من الغرق، فاعبروا سالمين { و } بعد عبوركم { اترك البحر رهوا } ذا فجوة وانفلاق ولا تقصد إلى اجتماعه خوفا من عبورهم، ولا تضرب بالعصا ليجتمع { إنهم جند مغرقون } [الدخان: 24] بعد دخولهم ألبتة، لا تخف منهم ومن إدراكهم ، ففعل موسى عليه السلام كذلك، فعبروا سالمين، وترك البحر على هيئته، فاقتحمه فرعون وجنوده بأجمعهم اغترارا بعبورهم بافتراق البحر وانفلاقه، فلما دخلوا اتصل البحر فغرقوا بالكلية.
[44.25-33]
وبعدما هلكوا { كم تركوا } أي: كثيرا تركوا { من جنات } منتزهات { وعيون } [الدخان: 25] جاريات فيها { وزروع } كثيرة في حواليها { ومقام كريم } [الدخان: 26] أي: محافل مزينة ومنازل حسنة في خلالها { ونعمة } أي: أسباب تنعم وترفه من الأمتعة والنسوان { كانوا فيها } أي: في تلك الجنات { فاكهين } [الدخان: 27] متنعمين مترفهين، كذلك فعلنا بهم معهم من كمال قدرتنا، بعدما أردنا إهلاكهم وانتقامهم بسبب تكذيبهم واستكبارهم على رسولنا، وهكذا نفعل مع كل مكذب متكبر، لا يؤمن بيوم الحساب.
{ كذلك } بعدما تركوا الكل على ما كان وهلكوا { وأورثناها } أي: تلك الجنات وما يتفرع عليها من المستلذات المتروكات { قوما آخرين } [الدخان: 28] لا قرابة بينهم نسبيا ودينا، وهم بنو إسرائيل، وبعدما هلكوا واستؤصلوا.
{ فما بكت عليهم السمآء والأرض } أي: لم تكترثا، ولم تعتدا بهلاكهم واستئصالهم أصلا، مثل اعتدادهما لهلاك المؤمنين وفقدهم، قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من عبد مؤمن إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله فإذا فقداه وبكيا عليه ".
وعن المرتضى الأكبر كرم الله وجهه: إذ مات المؤمن بكى عليه مصله من الأرض ومصعد عمله من السماء، قال السدي: لما قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - بكت عليه السماء، وبكاؤها عبارة عن حمرة أطرافها.
{ و } هم من غاية انهماكهم في الغي والضلال واستئصالهم بالمقت والهلاك { ما كانوا منظرين } [الدخان: 29] ممهلين مؤخرين إلى وقت آخر، بل أخذتهم العزة بإثمهم حيث لا يمهلهم ولا يسوف عليهم ساعة.
{ ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين } [الدخان: 30] وهو استبعادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم استذلا لا لهم واستهانة عليهم، وإنما نجيناهم كرامة من إياهم وامتنانا عليهم، وكيف لا يهينهم العذاب النازل عليهم.
{ من فرعون } الطاغي المتجبر المتكبر على الأرض { إنه كان عاليا من } عموم { المسرفين } [الدخان: 31] في عصره، متبالغا في العتو والعناد، والغلبة على العباد أقصى غايته، وبالجملة: لقد أخترناهم أي: بني إسرائيل واصطفيناهم من بين سائر الأمم المعاصرين معهم على علم متعلق منا أنهم أحقاء بالرئاسة والسيادة وأنواع الثروة والجاه على العالمين؛ لكثرة ظهور الأنبياء والرسل فيهم ومنهم وبعد { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } [الدخان: 32] بعدما اخترناهم.
{ وآتيناهم من الآيات } العظام الدالة على كمال اختصاصهم بمزيد الشرف والكرامة { ما فيه بلاء مبين } [الدخان: 33] ظاهر، نختبر به إخلاصهم ورسوخهم على الإيمان.
[44.34-42]
ثم لما أوضح سبحاه تفضيح حال المجرمين المكذبين لرسول الله قال: { إن هؤلاء } المسرفين المكذبين لك يا أكمل الرسل يعني: قريشا خذلهم الله { ليقولون } [الدخان: 34] من غاية إنكارهم بقدرة الله، وبما أخبر بنه الرسول، ونطق به الكتاب: { إن هي } أي: ما الموتة التي تعرض لنا { إلا موتتنا الأولى } التي طرأ علينا في دار الدنيا وأزال حياتنا عنا { و } بالجملة { ما نحن بمنشرين } [الدخان: 35] مبعوثين من قبورنا أحياء، ثم نحشرهم للحساب الجزاء كما زعمتم أيها المفترون الكاذبون.
وإن أردتم تصديقنا إياكم في هذه الدعوى { فأتوا بآبآئنا } الذين انقرضوا عن الدنيا أحياء { إن كنتم صادقين } [الدخان: 36] في دعواكم، إنما قالوا ما قالوا تهكما واستهزاء.
وبعدما أصروا على عنادهم وبالغوا في إنكارهم، رد الله عليهم على أبلغ وجه وآكده بقوله مستفهما على سبيل التقريع والتوبيخ: { أهم } يعني: قريشا { خير } مالا وجاها، وثروة وسيادة { أم قوم تبع } اسم لمن ملك الحمير، ككسرى لملوك فارس، وقيصر لملوك الروم، والمراد: أبو كريب سعيد بن منبل، آمن بنبينا قبل بعثته، فتنحى عن قومه، معللين أنك قد تركت ديننا، فأخذهم الله بجرمهم هذا، وأهلكهم { والذين من قبلهم } من الأمم الهالكة كعاد وثمود { أهلكناهم } مع شدة قوتهم وبسطتهم وكثرة شوكتهم { إنهم كانوا مجرمين } [الدخان: 37] بالجرائم العيظمة الموجبة للمقت والهلاك، أمثال جرائمكم أيها المجرمون المسرفون.
{ و } بالجملة: { ما خلقنا السموت والأرض وما بينهما } من الممتزجات { لعبين } [الدخان: 38] عابثين بلا طائل { ما خلقناهمآ } وأظهرناها على هذا النمط البديع والنظام العجيب المشتمل على أنواع التغيرات من الكائنات والفاسدات { إلا بالحق } ليستدلوا بها على وحدة ذاتنا، وكمال علمنا وقدرتنا، ومتانة حكمتنا وحكمنا واستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملوكتنا { ولكن أكثرهم } لقصور نظرهم عن إدراك الحكم والأسرار { لا يعلمون } [الدخان: 39] ولا يشعرون إلا بالمحسوسات العادية، أولئك القاصرون عن النظر والاستدلال، القانعون باللذات الهيمية من هذا العجيب كالأنعام بل هم أضل سبيلا وأسوأ حالا منها.
اذكر لهم يا أكمل الرسل: { إن يوم الفصل } الذي يمتاز فيه المحق عن المبطل والهادي المهتدى عن الضال المضل { ميقاتهم } وموعد جزائهم وقطع خصوماتهم { أجمعين } [الدخان: 40] فيجزى كل منهم حسب ما حوسب، أن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
{ يوم لا يغني } لا يدفع ولا يرفع { مولى عن مولى } قرابة عن قرابة { شيئا } من الإغناء والدفع مما كتب له من الجزاء ثوابا كان أو عقابا { ولا هم ينصرون } [الدخان: 41] بعضهم ببعض على سبيل المظاهرة والمعاونة { إلا من رحم الله } بمقتضى فضله وجوده، أو قبل شفاعة أحد من حق أحد عناية منه وعفوا { إنه } سبحانه { هو العزيز } الغالب القادر على عموم مرادته ومقدوراته { الرحيم } [الدخان: 42] المشفق على عباده عند إنابتهم ورجوعهم نحوه، يقبل توبتهم ويعفو زلتهم.
[44.43-50]
ثم قال سبحانه: { إن شجرت الزقوم } المعدة لذوي الغفلة والضلال { طعام الأثيم } [الدخان: 44] المنهمك في الجرائم والآثام، وهو أبو جهل ومن مثله في العتو والعناد، وهي في الحرقة والبشاعة { كالمهل } أي: الذهب والذائب، أو دردي الزيت الأسود، وهو من شدة حرقته وحرارته { يغلي في البطون * كغلي الحميم } [الدخان: 45-46] أي: كالماء الحار إذا اشتد غليانه، كيف هو، هو مثله يغلي في بطون أهل النار، قال صلى الله عليه وسلم:
" أيها الناس اتقوا الله حق تقاته، ولو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم أبدا "
، فيكف حال من هو طعامه دائما ولم يكن له غذاء سواه، وبالجملة: هم مبتلون بهذا العذاب إلى حيث قطع أمعائهم.
ومع ذلك العذاب الهائل يقال من قبل الحق للزبانية الموكلين عليهم على الدوام: { خذوه } أي: المسرف الأثيم { فاعتلوه } أي: ادفعوه وسوقوه بشدة العنف والزجر { إلى سوآء الجحيم } [الدخان: 47] أي: واسطة { ثم صبوا فوق رأسه } مثل في جوفه { من عذاب الحميم } [الدخان: 48] ليستغرفوا بالعذاب الهائل استغراقا تاما، وقولوا له: عند صبكم وتعذيبكم على سبيل التهكم والتوبيخ: { ذق } أيها المتجبر الطاغي طعم العذاب الهائل { إنك } في نفسك وعلى مقتضى زعمك { أنت العزيز } المنيع { الكريم } [الدخان: 49] الغالب المقصور على الغلبة والكرم بين أهل الوادي، ثم قولوا لهم بعد تشديد العذاب عليهم تفظيعا لهم وتفضيحا: { إن هذا } العذاب والنكال الذي أنتم فيه الآن { ما كنتم به تمترون } [الدخان: 50] تشكون وتمارون في النشأة الأولى.
[44.51-59]
ثم ذكر سحبانه على مقتضى سنته المستمرة مستقر المؤمنين المتقين ومنزلتهم في النشأة الأخرى، قال: { إن المتقين } المجتنبين عن محارم الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم، بعدما انقرضوا عن نشأة الأختبار والابتلاء { في مقام أمين } [الدخان: 51] أي: مقر مأمور مصون عن طريان التغير والانتقال، محروس عن وصمة الغفلة والضلال، وبالجملة: { في جنات } منتزهات من العلم والعين والحق { وعيون } [الدخان: 52] جاريات من أنواع المعارف والحقائق والكشوفات والشهودات، ومن كمال تلذذهم وترفههم باللذات الروحانية { يلبسون } من ألبسة أرباب الكشف والشهود في مراقي درجات القرب والوصول { من سندس وإستبرق } أي: مما رق وغلظ من عروض المعارف والحقائق إلى أن صاروا { متقابلين } [الدخان: 53] في المحبة، متماثلين في الوجد والحضور.
{ كذلك } ينكشف لهم الأمر بعد انقراضهم عن نشأة الدنيا وعالم الحجبات { و } مع ذلك القرب والوصول والوجد والحضور { زوجناهم بحور عين } [الدخان: 54] مصورة من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والخصائل السنية التي تأدبوا بها عند ربه في النشأة الأولى.
{ يدعون } أي: يطالب بعضهم بعضا حين تمكنهم واستقرارهم { فيها بكل فاكهة } ملذة لأزواجهم واستعداداتهم من الفواكه الحاصلة لهم من شجرة اليقين العلمي والعيني والحقي { آمنين } [الدخان: 55] من غوائل الشيطان وتسويلاته وتزييناته كما في النشأة الأولى، وبالجملة: هم أحياء عند ربهم بحياته الأزلية الأبدية، باقون دائمون ببقائه السرمدي، بحيث { لا يذوقون فيها الموت } أي: طعم مرارة الموت المعطل عن التلذذ باللذات الروحانية { إلا الموتة الأولى } التي ذاقوها عند افتراقهم عن لوازم نشأة الإمكان وانقطاعهم عن مقتضيات عالم الناسوت { و } بالجملة: بعدما وصلوا إلى فضاء الوجود، وحصلوا في عالم اللاهوت { وقاهم } وحفظهم { عذاب الجحيم } [الدخان: 56] أي: عن عذاب بقعة الإمكان ونشأة الناسوت.
وبالجملة: إنما أعطوا ما أعطوا { فضلا من ربك } يا أكمل الرسل وبمقتضى كرمه وجوده بلا استحقاق منهم واستجلاب بطاعاتهم { ذلك } الذي بشر الله به عباده المتقين { هو الفوز العظيم } [الدخان: 57] والفضل الجسيم، لا فوز أعظم منه وأعلى.
{ فإنما يسرناه } وسهلناه أي: المذكور في القرآن من المعارف والحقائق والرموز والإشارات التي خلت عنها سائر الكتب { بلسانك } وبناء على لغتكت { لعلهم } أي: الأعراب { يتذكرون } [الدخان: 58] أي: يفهمونه ويتعظون بما فيه، كي يتفطنوا إلى كنوز رموزه وبعدما لم يؤمنوا بك ولم يقصدوا كتابك، فكيف التذكر والاتعاظ بما فيه، وبالجملة: { فارتقب } وانتظر يا أكمل الرسل ما ينزل عليهم من العذاب { إنهم مرتقبون } [الدخان: 59] منتظرون أيضا بما ينزل عليك من القهر والغضب على زعمهم الفاسد.
جعلنا الله من المتذكرين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المراقب لنفحات الحق ونسمات لطفه الموهبة من عالم قدسه في عموم أحوالك: أن تلازم بالتقوى عن محارم الله، والاجتناب عن منهياته المنافية لآداب العبودية، وتداوم على التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية، والاشتغال بالطاعات المقربة نحوه، والإعراض عن الملاهي الملهية عن التوجه إليه؛ لتكون من جملة المتقين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم والفضل الكريم.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-6]
{ حم } يا حاوي الوحي والإلهام ومزيل الشبه الحادثة من الأوهام وذي الأحلام.
{ تنزيل الكتاب } الجامع لجميع مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم على الإطلاق { من الله } المحيط لعموم الأنفس والأفاق { العزيز } المنيع ساحة عز حضوره عن أن يحيط به الإدراك { الحكيم } [الجاثية: 2] المتقن في أفعاله، بحيث لا يكتنه حكمته أصلا.
اعلموا أيها الأظلال الهالكة في شمس الذات { إن في } خلق { السموت } ورفعها وتنظيمها مطبقة { و } في خفض { الأرض } وبسطها ممهدة { لأيت } دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرة الصانع الحكيم ومتانة حكمته وتدبيراته { للمؤمنين } [الجاثية: 3] الموقنين بوحدة الحق وكمال أسمائه وصفاته، هذا في خلق الآفاق.
{ وفي خلقكم } أي: في خلق أنفسكم وإيجادكم من كتم العدم { و } كذا في أنفس { ما يبث } ينتشر ويتفرق على الأرض { من دآبة } مركبة من العناصر متحركة على وجه الأرض من أنواع الحيوانات والحشرات وأصنافها { ءايت } دلائل وشواهد واضحات { لقوم يوقنون } [الجاثية: 4] وحدة الحق وينكشفون بشؤونه وتجلياته التي لا تعد ولا تحصى.
{ و } كذا في { اختلاف الليل والنهار } وإيلاجهما وازديادهما وانتقاصهما في الفصول الأربعة حسب الأوضاع الفلكية وأشكالها، وارتفاع الشمس وانحطاطها { ومآ أنزل الله } المدبر لأمور عباده { من } جانب { السمآء من رزق } بعد تصعيد الأبخرة والأدخنة وتراكمها سحبا وصيرورتها ماء في غاية الصفاء { فأحيا به } بإنزال المطر { الأرض بعد موتها } يبسها وجفافها { و } في { تصريف الرياح } السائقة للسحب إلى الأراضي الميتة اليابسة، بعد تعلق إرادته سبحانه بإحيائها { ءايت } أنواع من الدلائل القاطعة والبراهني الساطعة على وحدة القادر العليم الحكيم { لقوم يعقلون } [الجاثية: 5] يستعلمون عقولهم في كيفية انبعاث هذه الأوضاع والحركات، وارتباط بعضهامع بعض، وترتب الأمور الغير المحصورة عليها، وانشعاب الحوادث الغير المتناهية منها.
وبالجملة: { تلك } الآيات المجملة الكلية { ءايت الله } أي: بعض آياته الدالة على نبذ من كمالاته، وإلا فلا يفي درك أحد من عباده لتفصيل كمالاتها كلها { نتلوها } ونقصها { عليك } يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك ملتبسة { بالحق } بلا ريب فيه وتردد، وإنما نتلوها عليك لتبين لهم بها طريق توحيدنا، وتنبههم على وحدة وكمالات أسمائنا وصفاتنا { فبأي حديث } أي: فهم بأي كلام وقول { بعد } نزول كتاب { الله وءايته } المنزلة من عنده المبينة لتوحيده { يؤمنون } [الجاثية: 6] يذعنون ويوقنون.
[45.7-11]
وبعدما وضح محجة الحق واتضح دلائل توحيده: { ويل } عظيم وهلائك شديد { لكل } مفتر كذاب { أفاك أثيم } [الجاثية: 7] منغمس في الإثم والعدوان، مغمور في العناد والطغيان، إلى حيث: { يسمع ءايت الله } الدالة على عظمة ذاته حين { تتلى عليه } مع كمال وضوحها وسطوعها { ثم يصر } يقيم ويديم على ما هو عليه من الكفر والضلال { مستكبرا } بلا علة وسند سوى العناد والاستكبار، ويصير من نهاية عتوه وعناده حين يسمعها { كأن لم يسمعها } اغترارا بما عنده من الجاه والثروة، وبالجملة: { فبشره } يا أكمل الرسل على إصراره وعناده { بعذاب أليم } [الجاثية: 8] في غاية الإيلام، وهو انحطاطه عن رتبة الخلافة الإنسانية؛ إذ لا عذاب عند العارف أشد من ذلك.
{ و } من نهاية استكباره واغتراره { إذا علم من ءايتنا } الدالة على ضبط الظواهر وتهذيب البواطن { شيئا } أي: آية { اتخذها } وأخذها من غاية تكبره وتجبره { هزوا } محل استهزاء وسخرية يستهزأ بها ويتهكم عليها { أولئك } البعداء الأفاكون الضالون، المنحرفون عن منهج الحق وصراطه { لهم عذاب مهين } [الجاثية: 9] في الدنيا بإعلاء كلمة الحق وإظهار دين الإسلام على الأديان كلها.
ومع تلك الإهانة العاجلة { من ورآئهم } أي: قدامهم { جهنم } البعد والخذلان، وسعير الطرد والحرمان { و } بالجملة: { لا يغني } ولا يدفع { عنهم } يومئذ { ما كسبوا } وجمعوا من الأموال والأولاد والثروة والجاه { شيئا } من الدفع والإغناء من غضب الله عليهم { و } كذا { لا } ينفعهم { ما اتخذوا من دون الله } الواحد الأحد الصمد، المستقل بالإلوهية، المتفرد بالربوبية { أوليآء } من الأصنام والأوثان، يدعون ولايتهم كولاية الله، ويعبدونهم كعبادته عدوانا وظلما، بل { ولهم عذاب عظيم } [الجاثية: 10] لا عذاب أعظم منه.
بالجملة: { هذا } الذي في كتابك يا أكمل الرسل { هدى } يبين طريق الهداية والرشاد لأهل العناية والتوفيق { و } المسرفون { الذين كفروا بآيت ربهم } المنزلة في كتابك هذا، والتي نزلت في الكتب السالفة { لهم عذاب } نازل ناشئ { من رجز } غضب عظيم من الله المقتدر على أنواع الانتقام { أليم } [الجاثية: 11] مؤلم أشد الإيلام.
[45.12-15]
وكيف تكفرون أيها الجاحدون المسرفون بآيات المنعم المفضل الكريم مع أنه: { الله الذي سخر لكم البحر } وسهل عليكم العبور عنه بأن جعله أملس مستوي السطح، ساكنا على هيئته { لتجري الفلك فيه بأمره } أي: بمقتضى تسخيره وحكمه { و } أنتم تركبون عليها { لتبتغوا } وتطلبوا { من فضله } بالتجارة والاصطياد والغوص، وغير ذلك من الأغراض { و } إنما سخر وسهل { لعلكم تشكرون } [الجاثية: 12] نعمه، وتواظبون على أداء حقوق كرمه.
{ و } بالجملة: { سخر لكم } وهيأ لتربيتكم وتدبير معاشكم مظاهر { ما في السموت وما في الأرض جميعا } إذ أنتم زبدة الكائنات، وخلاصة الموجودات كل ذلك لكم منتشئة منه سبحانه، مستندة إليه أولا وبالذات ، فعليكم ألا تسندوها إلى الوسائل والأسباب العادية { منه إن في ذلك لأيت لقوم يتفكرون } [الجاثية: 13] في آلاء الله، وسوابغ نعمائه، وكيفية ظهور العالم منه سبحانه وصدروه عنه، وارتباطه له.
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير: { قل } يا أكمل الرسل نيابة عنها: { للذين ءامنوا } تذكره للمؤمنين وتهذيبا لأخلاقهم: اغفروا واصفحوا واعفوا سيما المسيئين؛ ليكون العفو والغفران ديدنة راسخة في نفوسكم حتى { يغفروا للذين } أي: للكافرين الذين { لا يرجون أيام الله } أي: انعكاس الدول وتقبلها عليهم، اغترارا لما عندهم من الثروة والجاه، وإنما أمر سبحانه المؤمنين بالصفح والعفو عن المسيء { ليجزي } سبحانه جزاء حسنا { قوما } من المتخلقين بالعفو عند المقدرة، وكظم الغيظ عند الغضب { بما كانوا يكسبون } [الجاثية: 14] من الإحسان بدل الإساءة؛ لأن { من عمل } عملا { صلحا فلنفسه } أي: يعود نفعه إليه { ومن أسآء فعليها } وبال إساءته { ثم إلى ربكم ترجعون } [الجاثية: 15] جميعا، يحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم بمقتضاها، لكن ما أخذ الله سبحانه عباده إلا بعد أن يرسل عليهم رسلا مبشرين ومنذرين وينزل عليهم كتبا مبينة طريق الهداية والرشاد، فإن اهتدوا فقد فازا بصلاح الدارين وإن اعتدووا فقد ظلوا عن سواء السبيل، واستحقوا بالعذاب الأليم.
[45.16-20]
كما أخبر سبحانه حكاية عن ضلال بني إسرائيل وانحرافهم عن سواء السبيل: { ولقد آتينا } بمقتضى فضلنا وجودنا { بني إسرائيل الكتاب } أي: التوراة المبينة لهم طريق الهداية والرشاد { والحكم } أي: الحكمة المنبئة عن العدالة الإلهية في قطع الخصومات { والنبوة } أذ أكثر الأنبياء بعث منهم وإليهم { ورزقناهم من الطيبات } أي: الرزق الصوري والمعنوي { و } بالجملة { فضلناهم } بإفاضة النعم الجليلة عليهم { على العالمين } [الجاثية: 16] من أهل عصرهم.
{ وآتيناهم بينات } دلائل مبينات منبهات موضحات { من الأمر } أي: التوحيد الذاتي الذي أنت يأ أكمل الرسل تبعث عليه وعلى تبيينه، وبالجملة: { فما اختلفوا } في شأنك أي: { إلا من بعد ما جآءهم العلم } القطع في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم بأنك وكتابك ودينك يا أكمل الرسل على الحق، وما أنكروا لك إلا { بغيا } وطغيانا ناشئا بينهم حسدا وعدوانا بلا مستند عقلي أو نقلي، فاصبر يا أكمل الرسل على مضضهم، وغيظهم { بينهم إن ربك } الذي اصطفاك بكرامته، واجتباك لرسالته { يقضي } ويحكم { بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [الجاثية: 17] يعني: في شأنك ودينك وكتابك، بعدما عرفوا صدقك وحقية كتابك بالدلائل العقلية والنقلية بأنواع المؤاخذة والمجازاة.
{ ثم } اعلم يا أكمل الرسل إنا من مقام فضلنا وجودنا { جعلناك } تابعا مقتديا مقتفيا { على شريعة } وطريقة منبئة موضحة { من الأمر } الذي أنت تظهر عليه، وأتيت لتنبيهه، ألا وهي الحقيقة التي هي عبارة عن الوحدة الذاتية الإلهية { فاتبعها } أي: الشريعة الموصلة إلى الحقيقة بالعزيمة الخالصة { ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون } [الجاثية: 18] فكيف ينكشفون بسرائرها وحكمها، ولا تقبل منهم أباطيلهم الناشئة وآراءهم الفاسدة وأحلامهم السخيفة الكاسدة.
وبالجملة: { إنهم لن يغنوا عنك من } غضب { الله شيئا } إن تعلقت مشيئته بطردك ومقتك بسبب موالاتهم ومتابعتهم { و } بالجملة: { إن الظالمين } الخارجين عن مقتضى الحدود والإلهية، المنحرفين عن جادة العدالة الفطرية { بعضهم أوليآء بعض } لكمال مناسبتهم وموالاتهم؛ إذ الجنسية علة الانضمام وعلامة الالتئام بينهم، فعليك الإعراض والانصراف عنهم وعن موالاتهم { والله } المطلع على عموم ما في ضمائر عباده { ولي المتقين } [الجاثية: 19] الذين يتقون عن محارم الله، ويوالون ألوياء الله لله وفي الله.
{ هذا } الذي ذكر في كتابك من الأخلاق المرضية، والمنبهة على القسط الحقيقي والعدل الإلهي { بصائر للناس } يبصرهم طريق الهداية، ويوصلهم إلى التوحيد الذاتي، إن استقاموا عليها بالعزيمة الصادقة الصحيحة { وهدى } يهديهم إلى سواء السبيل { ورحمة } نازلة من قبل الحق { لقوم يوقنون } [الجاثية: 20] يوفقون للإيمان والإيقان والكشف والعيان.
[45.21-24]
ثم قال سبحانه: { أم حسب } الغافلون الضالون المسرفون { الذين اجترحوا } واكتسبوا طول عمرهم { السيئات } المبعدة لهم عن طريق الحق وسبيل الهداية { أن نجعلهم } ونصيرهم بعدما رجعوا إلينا { كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } المقربة لهم إلى الحق وتوحيده، أي: مثلهم بلا مزية لهم عليهم، بل ظنوا أنهم وهم { سوآء محياهم ومماتهم } السياق يدل على أن التفسير على قراءة بن عامر ونافع وغيرهما: { سوآء } يعني: حياة المشركين ومماتهم عندنا كحياة الموحدين المخلصين ومماتهم؟ كلا وحاشا { سآء ما يحكمون } [الجاثية: 21] أي: حكمهم هذا، وما حكموا به لأنفسهم أولئك الجاحدون الجاهلون.
{ و } كيف يحكم الحكيم المتقن في عموم أحكامه وأفعاله بمساواة المطيع والعاصي، مع أنه { خلق الله } المستوى بالعدل القويم على عروش عموم المظاهر { السموت والأرض } ملتبسة بالحق، أي: بالعدالة الصورية المنبئة عن العدالة المعنوية الحقيقية، وإنما خلقها كذلك { بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت } من خير وشر، بعدما أمر الحق بما أمر، ونهى عن ما منهى { وهم لا يظلمون } [الجاثية: 22] في أجور أعمالهم وجزائهم زيادة ونقصانا.
{ أفرأيت } أيها المعتبر الرائي إلى { من اتخذ } أي: إلى الجاحد الجاهل المعاند الذي اتخذ { إلهه هواه } أي: ما يهواه، وكيف أطاع من يتمناه وعبد إلى ما يحبه ويرضاه ولم يفوض أمره إلى مولاه { و } ما ذلك إلا أن { أضله الله } العليم الحكيم باسمه المذل المضل مع أنه أظهره سبحانه { على } صورة ذي { علم } وجبله على فطرة أولى المعرفة والتوحيد { وختم على سمعه } لئلا يسمع كلامه الحق من أهله { وختم } أيضا { وقلبه } لئلا يتفكر في آيات الله ودلائل توحيده { وجعل على بصره غشاوة } غليظة وغطاء كثيفا، لئلا يعتبر من عجائب مصنوعاته سبحانه وغرائب مخترعاته، مع انه خلقه سبحانه كذلك { فمن يهديه } ويرشده أي: ينقذه من الضلال { من بعد } إضلال { الله } إياه وإذلاله { أفلا تذكرون } [الجاثية: 23] وتتفطنون من تبدل أحواله أيها العقلاء المجبولون على فطرة العبرة والعظة من غاية غوايتهم وضلالهم، عن مقتضى كمال قدرة الله، وعدم تنبههم وتفطنهم بوحدة ذاته، وكمال أسمائه وصفاته، واستقلاله في تدبيراته وتصرفاته.
{ وقالوا } منكرين الحشر والنشر: { ما هي } أي: ما الحال والحياة { إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } فيها لا منزل لنا سواها، ولا سكن لنا غيرها { و } بالجملة: { ما يهلكنآ } ويميتنا فيها { إلا الدهر } أي: مر الزمان وكر الأعوام، لا فاعل سواه، ولا متصرف إلا هو { و } الحال أنه { ما لهم بذلك } الذي صدر عنهم { من علم } عقلي أو نقلي أو كشفي بل أن { إن هم } أي: ما هم باعتقادهم هذا { إلا يظنون } [الجاثية: 24] ظنا على وجه التقليد والتخمين بلا سند لهم يستندون إليه، سوى الألف بالمسحوسات والتقليد بالرسوم والعادات.
[45.25-29]
{ و } من نهاية جهلهم وغفلتهم عن الله وعن مقتضى ألوهيته وربوبيته { إذا تتلى عليهم ءايتنا } الدالة على كمال تربيتنا إياهم مع كونها { بينات } مبينات لهم طريق الهداية والرشاد، منبهات لهم إلى معياد المعاد { ما كان حجتهم } حين سمعوها { إلا أن قالوا } على سبيل الإنكار والاستبعاد { ائتوا بآبآئنآ } وأسلافنا الذين مضوا وانقرضوا أحياء كما كانوا { إن كنتم صادقين } [الجاثية: 25] في دعوى الحشر والنشر والميعاد الجسماني.
وبعدما أعرضوا عن الحق وانصرفوا عن الآيات البينات، وتشبثوا بأمثال هذه الحجج الواهية: { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما يحرك سلسلة حميتهم الفطرية، ومحبتهم الجبلية لو ساعدهم التوفيق والعناية من عندنا: { الله } المظهر للكل، المحيط به، المتصرف فيه على الإطلاق بالاختيار والاستحقاق { يحييكم } ويبعثكم في النشأة الأخرى كما أوجدكم وأظهركم من كتم العدم أولا في النشأة الأولى، يبسط ظله عليكم { ثم يميتكم } ويعدمكم بقبضه عنكم { ثم يجمعكم } أي: أنتم ومن انقرض من آبائكم { إلى يوم القيامة } الذي { لا ريب فيه } وفي وقوع ما فيه من الحساب والجزاء والسؤال والصراط والجنة والنار وسائر المعتقدات الأخروية { ولكن أكثر الناس } المجبولين على الكفران والنسيان { لا يعلمون } [الجاثية: 26] وقوعه وقيامه، بل ينكرون عليه لاعتيادهم بالأمور الحسية، وقصورهم عن مدركات الكشف والشهود.
{ و } كيف ينكرون جمع الله عباده في النشأة الأخرى؛ إذ { لله } المتوحد في الألوهية والربوبية { ملك السماوات والأرض } وملكوتهما، وله التصرف المطابق في ملكه وملكوته بالاستقلال، إرادة واختيارا { ويوم تقوم الساعة } المعدة للحشر والجزاء { يومئذ يخسر المبطلون } [الجاثية: 27] المنكرون حين يشهدون ربح المحقين المؤمنين بقيام الساعة، وبحقية جميع ما فيها من الوعد والوعيد.
{ وترى } أيها المعتبر الرائي حين تقوم الساعة ويحشر الناس إلى الحشر للحساب { كل أمة } من الأمم { جاثية } أي: كل فرد من أفراد الأمم { كل أمة تدعى إلى كتابها } بين يدي الله إلى صحيفة أعمالها التي كتب فيها جميع أحوالها وأفعالها الكائنة الحاصلة منها في النشأة الأولى، فيقال لهم حينئذ: { اليوم تجزون } كل منكم { ما كنتم تعملون } [الجاثية: 28] في نشأتكم الأولى، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وبالجملة: { هذا كتابنا } الذي فصلنا فيه أعمال كل منكم { ينطق عليكم } وذكركم { بالحق } على الوجه الذي صدر عنكم بلا زيادة ولا نقصان { إنا } بعدما كلفناكم على امتثال أوامرنا، والاجتناب عما نهيناكم عنه { كنا نستنسخ } ونأمر الملائكة الموكلين عليكم، المراقبين لأحوالكم وأعمالكم أن يكتبوا جميع { ما كنتم تعملون } [الجاثية: 29] أي: أعمالكم حسناتها وسيئاتها، صغائرها وكبائرها.
[45.30-32]
وبعدما تحاسبون على مقتضى كتبكم وصحائفكم: { فأما الذين آمنوا } أذعنوا وأيقنوا بوحدة الحق، وصدقوا رسله وكتبه { و } مع كمال إيمانهم ويقينهم { عملوا الصالحات } من الأفعال والأخلاق تقربا إلى الله، وتأدبا معه سبحانه بما يليق بعبوديته وتعظيم شأنه { فيدخلهم ربهم } الذي يوفقهم على الإيمان والتوحيد في سعة { رحمته } وفضل وحدته وفضل لطفه { ذلك } الذي بشر به عباده المؤمنين المخلصين { هو الفوز المبين } [الجاثية: 30] والفضل العظيم، لا فوز أعظم منه وأعلى.
{ وأما الذين كفروا } بالله وأنكروا وحدة ذاته، بل أثبتوا له شركاء ظلما وزورا، يقال لهم حينئذ من قبل الحق مستفهما على سبيل التوبيخ والتقريع: { أفلم تكن ءايتى تتلى عليكم } أي: ألم يأتكم رسلي، ولم يتلوا عليكم آياتي الدالة على عظمة ذاتي وكمال قدرتي على أنواع الانتقامات والوعيدات، فكذبتم بهاوبهم، بل { فاستكبرتم } على الرسل ومن قبول الآيات { و } بالجملة: { كنتم قوما مجرمين } [الجاثية: 31] مستكبرين، عادتكم الإجرام والعدوان.
{ و } من كمال استكباركم واغتراركم بما عندكم من الجاه والثروة { إذا قيل } لكم إمحاضا للنصح: { إن وعد الله } الذي وعدكم على ألسنة رسله وكتبه { حق } مطلقا، لا بد وأن يقع الموعود منه سبحانه ألبتة بلا خلف في وعده { و } لا سيما { الساعة } الموعودة آتية { لا ريب فيها } وفي قيامها، وإذا سمعتم كلمة الحق عن أهله { قلتم ما ندري } على وجه الاستبعاد والاستغراب { ما الساعة } الموعودة وما معنى قيامها والإيمان بها { إن نظن } أي: ما نظن بها وفي شأنها { إلا ظنا } ضعيفا، بل وهما مرجوحا سخيفا؛ إذ ما لنا علم بها سوى الاستماع من أفواه الناس { وما نحن بمستيقنين } [الجاثية: 32] بها حتى نؤمن لها وبقيامها، ونصدق بما فيها من المواعيد والوعيدات.
[45.33-37]
{ و } بالجملة: { بدا } وظهر { لهم } بعدما تبلى السرائر، وانكشفت الحجب والأستار { سيئات ما عملوا } مصرين عليه، وعرفوا وخامة عاقبته { و } حينئذ { حاق } وأحاط { بهم } جزاء { ما كانوا به يستهزئون } [الجاثية: 33].
{ وقيل } لهم حينئذ من قبل الحق { اليوم ننساكم } نترككم في النار خالدين { كما نسيتم } ونبذتم وراء ظهوركم { لقآء يومكم هذا } بل أنكرتم لقياه، وكذبتم الرسل المبلغين لكم أخباره، المنذرين لكم من أهواله { و } بالجملة: { مأواكم النار } أبدا، لا منزل لكم سواه { وما لكم من ناصرين } [الجاثية: 34] منقذين لكم منها بعدما استوجبتم بها بمفاسد أعمالكم ومقابح أفعالكم.
{ ذلكم } الذي وقعتم فيها وابتليتم بها { بأنكم } بسبب أنكم { اتخذتم ءايت الله } الدالة على الرشاد والهداية { هزوا } محل استهزاء، واستهزأتم بها بلا مبالاة بشأنها، وأنكرتم عليها بلا تأمل وتفكر في برهانها { و } أيضا بسبب أنكم { غرتكم الحياة الدنيا } ولذاتها وشهواتها، بحيث لا تلتفتون إلى العقبى ولذاتها الأبدية، بل تنكرون عليها عنادا ومكابرة { فاليوم لا يخرجون منها } أي: من النار المترتبة على ذلك الاتخاذ والغرور { ولا هم يستعتبون } [الجاثية: 35] أي: لا يمكنهم أن يعتذروا عند الله، ويتداركوا ما فوتوا على أنفسهم بالتوبة والإنابة؛ إذ قد انقرض أوانه ومضى زمانه.
وبعدما ثبت أن مرجع الكل إلى الله ومحياه ومماته بيده، وله أن يثيب ويعاقب عباده على مقتضى فضله وعدله { فلله } على وجه الاختصاص لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية { الحمد } المستوجب لجمع الأثنية، والمحامد الصادرة من ألسنة ذرائر مظاهره، لكونه { رب السموت } أي: العلويات { ورب الأرض } أي: السفليات، ورب ما يتركب منهما من الممتزجات، وبالجملة: { رب العالمين } [الجاثية: 36] أي: مربي الكل، هو بذاته علوا وسفلا، بسيطا ومركبا، غيبا وشهادة.
{ وله الكبريآء } والعظمة { في السماوات والأرض } تدبيرا وتصرفا، حلا وعقدا؛ إذ ظهور الكل من آثار أوصافه وأسمائه { وهو العزيز } الغالب على عموم تدابيره وتقاديره، إرادة واختيارا { الحكيم } [الجاثية: 37] المتقن في جميع مقدوراته ومراداته على الوجه الأبلغ الأحكم.
فعليكم أيها المجبولون على فطرة العبودية والعرفان: أن تحمدوه وتكبرا ذاته، وتشكروا نعمه؛ لتؤدوا شيئا من حقوق كرمه، إن كنتم مخصلين.
جعلنا من زمرة الحامدين المخلصين.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتحقق بمقام الرضا والتسليم، المنكشف بعظمة الله وكمال كبريائه وعلو شأنه وبهائه: أن تواظب وتلازم على أداء الشكر له، ملاحظا نعمه الفائضه المترادفة عليك، المتجددة آنا فآنا، بحيث تستغرق جميع أوقاتك وحالاتك بشكره سبحانه؛ إذ علامة العارف الواصل ألا رى في مملكة الوجود سواه سبحانه، ولا يتكلم إلا به ومعه وفيه وله، لا إله إلا هو، ولا نعبد إلا إياه.
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-5]
{ حم } [الأحقاف: 1] يامن حمل أعباء الرسالة بحولنا وقوتنا، ومال إلى جناب قدسنا بالميل الذاتي الحقيقي بعد مساعدة توفيقنا وجذب من جانبنا { تنزيل الكتاب } الذي أنزل إليك لتأييد أمرك، وضبط شرعك ودينك { من الله } المطلع لما في استعدادات عباده { العزيز } الغالب على جميع ما دخل في حيطة قدرته وإرادته { الحكيم } [الأحقاف: 2] في مطلق تدابيره الصادرة منه لضبط مصالح عباده.
ثم التفت سحبانه تهويلا وتفخيما لحكمه فقال: { ما خلقنا } وأظهرنا من كتم العدم { السموت } أي: آثار الأسماء والصفات الذاتية { والأرض } أي: عالم الاستعدادات القابلة لانعكاس أشعة أنواع الذات الفائضة عليها حسب الشئون والتطورات الجمالية والجلالية { وما بينهمآ } من الآثار المتراكمة من امتزاج الفواعل الأسمائية من الآثار الناشئة من قوابل المسميات والهيولي { إلا بالحق } أي: خلقا ملتبسا بالصدق المطابق للواقع { و } قدرنا بقاء ظهورها إلى { أجل مسمى } أي: وقت مقدر عندنا، محفوظ في خزانة حضرة علمنا ولوح قضائنا لا نطلع أحدا عليه، فإذا جاء الأجل المسمى انعدم الكل بلا تقدم وتأخر { والذين كفروا } وأنكر كمال قدرتنا واقتدارنا على إيجاد الأشياء وإعدامها وإبدائها وإعادتها { عمآ أنذروا } من أهوال يوم القيامة المعدة لانعدام الكل وانقهار الأظلال الهالكة في شروق شمس الذات { معرضون } [الأحقاف: 3] لذلك لا يترددون له، ولا يتهيئون أسبابه، ولا يستعدون لحلوله.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما أفرطوا في الإعراض عن الله وعن توحيده وأثبتوا له شركاء ظلما وزورا، مستفهما على سبيل الإلزام والتبكيت: { أرأيتم } أي: أخبروني { ما تدعون من دون الله } وتتخذون آلهة سواه وتعتقدونهم شركاء معه في الأرض { أروني ماذا خلقوا } أي: أي: شيء أوجدوا { من الأرض } حتى اتصفوا بالخالقية واستحقوا بالمعبودية والربوبية، وأخبروني هل تنحصر شركتهم مع الله بعالم العناصر والمسببات { أم لهم شرك } أيضا { في السموت } وعالم الأسباب { ائتوني بكتاب } نازل من قبل الحق { من قبل هذآ } القرآن يؤمر فيه باتخاذ هؤلاء الهلكى آلهة سوى الله، مستحقة بالعبادة { أو أثارة } ائتوني ببقية { من علم } دليل عقلي أو نقلي، قد بقى لكم من أسلافكم، يدل على إيثارهم واختيارهم آلهة شركاء معه سبحانه في ألهويته، وبالجملة: ائتوني بسند صحيح أن { كنتم صادقين } [الأحقاف: 4] في دعوى الشركة مع الله المنزه عن التعدد مطلقا.
{ و } بالجملة: { من أضل } طريقا وأسوأ سبيلا وأشد سفها وحماقة { ممن يدعوا من دون الله } السميع العليم البصير الحكيم القدير الخبير، المستقل في تصرفاته بالإرادة والاختيار { من لا يستجيب له } أي: أصناما لا يسمع دعاءه، ولا يجيب ولا يعلم بحاله، ولا يدبر له أموره، وإن دعاه وتضرع نحوه { إلى يوم القيامة } أي: أبدا ما دامت الدنيا بل { وهم } أي: مبعوداتهم الباطلة { عن دعآئهم } أي: عن دعاء عابديهم { غافلون } [الأحقاف: 5] ذاهلون، لا شعور لهم حتى يفهموا أو يجيبوا.
[46.6-9]
{ و } هم قد عبودهم معتقدين نفعهم، ولم يعلموا أنهم { إذا حشر الناس } وجمعوا في الحشر للحساب والجزاء { كانوا لهم أعدآء } أي: المعبودين للعابدين، بل { وكانوا } أي: المعبودين { بعبادتهم } أي: العابدين لهم { كافرين } [الأحقاف: 6] منكرين جاحدين.
{ و } هم كانوا من شدة غيهم وضلالهم عنا وعن توحيدنا { إذا تتلى عليهم آياتنا } الدالة على وحدة ذاتنا وكمال أسمائنا وصفاتنا مع كونها { بينات } واضحات مبينات، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها { قال الذين كفروا للحق } الصريح المبين { لما جآءهم } أي: حين جاءهم ليهديهم ويبين لهم طريق الحق وتوحيده { هذا } المتلو { سحر مبين } [الأحقاف: 7] ظاهر كونه سحرا باطلا، وهذا التالي ساحر عظيم، إنما قالوا هكذا ونسبوا إلى ما نسبوا؛ لعجزهم عن إتيان مثله، مع إنهم من أرباب اللسن ووفور دواعيهم بالمعارضة معه.
{ أم يقولون افتراه } أي: بل انصرفوا عن سبته إلى السحر إلى أفحش من ذلك، وهو الافتراء فيقولون: اختلفه هذا المدعي من تلقاء نفسه ونسبه إلى ربه تغريرا وترويجا { قل } لهم أكمل الرسل بعدما نسبوا كتابك إلى الفرية كلاما ومفصحا لهم عن حقيقة الأمر وحقيته لو تأملوا فيه: { إن افتريته } واختلقته من عندي ونسبته إلى الله زورا وبهتانا، فيأخذني العزيز بإثم الافتراء ألبتة، وإن أخذني { فلا تملكون } ولا تدفعون { لي من الله شيئا } حين أخذني وانتقم، وبالجملة: { هو } سبحانه { أعلم } بعلمه الحضوري { بما تفيضون } وتخوضون { فيه } أي: في كلامه بما يليق به وبشأنه سبحانه من نسبته إلى السحر والافتراء وتكذيبه بأنواع وجوه المراء { كفى به } أي: كفى الله { شهيدا بيني وبينكم } أي:بيننا يجازينا على مقتضى علمه وخبرته بي وبكم { وهو الغفور } المبالغ في الستر والعفو لمن استغفر له { الرحيم } [الأحقاف: 8] لمن تاب ورجع نحوه نادما عن ما صدر عنه، يقبل توبته ويمحو زلته.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما اقترحوا عليك من الآيات التي تهواها نفوسهم ليلزموك ويعجزوك: { ما كنت بدعا } رسولا بديعا { من } بين { الرسل } مبتدعا أمرا غريبا مدعيا الإتيان، بل { و } الله { مآ أدري } وأعلم بحال نفسي { ما يفعل بي } وكيف يصنع معي { ولا بكم } أي: وكيف بما يصنع بكم، بل أن { أتبع } أي: ما أتبع { إلا ما يوحى إلي } من قبل ربي ويطلعني عليه { و } بالجملة: { مآ أنا إلا نذير } من قبل احق { مبين } [الأحقاف: 9] مبين موضح مظهر لكم بإذنه ما أوحى إلى من وحيه، وما لي إلا التبليغ والإنذار، والتوفيق من الله العليم الحكيم.
[46.10-12]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما أقر رأيهم على أن القرآن مختلق من عندك، افتريته على الله، أو سحر نسبته إلى مالله تغريرا وترويجا: { أرأيتم } أخبروني أن { كان } القرآن { من عند الله } العليم العلام { وكفرتم به } بلا مستند لكم في تكذيبه وإنكاره { و } الحال أنه قد { شهد شاهد } حبر ماهر { من بني إسرائيل } عالم بالتوراة { على مثله } أي: على مثل ما في القرآن، يعني: أقر واعترف عبد الله بن سلام أنه قرأ في التوراة أحكاما وأوامر مثل في القرآن، ووجد فيها من أوصاف القرآن ما يلجئه إلى الإيمان به { فآمن } به وصدق من أنزل إليه، وامتثل بما فيه { واستكبرتم } أنتم عن الإيمان والقبول، بل كذبتم به، وأنكرتم عليه ألستم قوما ضالين ظالمين؟! { إن الله } المطلع على ما في استعدادات عباده { لا يهدي القوم الظالمين } [الأحقاف: 10] الخارجين عن مقتضى حدوده إلى زلال هدايته وتوحيده.
{ و } من شدة شقاقهم ونفاقهم { قال الذين كفروا للذين آمنوا } أي: لأجلهم وفي حقهم { لو كان } الإيمان وبما أتى به محمد من الدين { خيرا } مما نحن عليه { ما سبقونآ إليه } بأنواع الكرامة والجاه والثورة إذا هو ومن تبعه كلهم أراذل سقاط رعاة فقراء، فاقدين لوجه الكفاف، ونحن أغبياء ذوو الحظ من الناس، إنما قالته قريش حين افتخروا على المؤمنين وقصدوا إضلالهم وإذلالهم { و } لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبعنادهم بك وبكتابك { إذ لم يهتدوا به } أي: بالقرآن { فسيقولون } من جهلهم وضلالهم: { هذآ إفك قديم } [الأحقاف: 11] وأساطير الأولين.
{ و } عليك يا أكمل الرسل أن لا تلتفت إلى هذياناتهم وأباطيلهم؛ إذ جاء { من قبله } أي: قبل كتابك { كتاب موسى } أي: التوراة حال كونه { إماما } مقتدى لقاطبة الأنام { ورحمة } شاملة فوائدها على كافة الخواص والعوام { وهذا } الكتاب الذي نزل عليك يا أكمل الرسل { كتاب مصدق } لجميع ما مضى من الكتب السالفة { لسانا عربيا } أسلوبا ونظما، إنما جاء كذلك { لينذر } التفسير هنا على قراءة ابن عامر ونافع وغيرهما بما فيه من الوعيدات الهائلة { الذين ظلموا } خرجوا عن مقتضى العدالة الإلهية بمتابعة آرائهم الباطلة المنحرفة عن صراط الحق الحقيق بالإطاعة والاتبا { و } ليصير { بشرى } بما فيه من أنواع المواعيد الدالة على كرامة الحق وإحسانه { للمحسنين } [الأحقاف: 12] من خلص عباده.
[46.13-15]
إن المحسنين { إن الذين قالوا } بعدما تحققوا بمقام العبودية { ربنا الله } الواحد الأحد الصمد المستقل بالألوهية والربوبية { ثم } بعدما تمكنوا من مقر التوحيد وتمرنوا عليه { استقاموا } فيه ورسخوا بمحافظة الآداب الشرعية والعقائد الدينية الموضوعة لتأييد أرباب المعرفة، وتمكينهم على جادة التوحيد؛ لئلا يطرأ عليهم التزلزل والانحراف عن صراط الحق وسواء سبيله { فلا خوف عليهم } بعدما وصلوا إلى مقر التمكين { ولا هم يحزنون } [الأحقاف: 13] عن التردد والتلوين، وبالجملة: { أولئك } السعداء المقبولون عند الله { أصحاب الجنة } المعدة لأرباب العناية { خالدين فيها } بلا تبديل ولا تحويل، وإنما جوزوا { جزآء بما كانوا يعملون } [الأحقاف: 14] من الإحسان مع الله بمراعاة الأدب معه سبحانه بملازمة الطاعات والعبادات على وجه الإخلاص والتسليم، ومع عمود عباده بحسن المعاشرة والمصاحبة وأداء حقوق المؤاخاة والموالاة.
ثم اشار سبحانه إلى معظم أخلاق المحسنين المستحقين بخلود الجنة بالفوز العظيم فيها، فقال: { ووصينا الإنسان } أي: ومن جملة ما ألزمنا على الإنسان الاتصاف به والمحافظة عليه حتما إكرامه { بولديه إحسانا } لهما وحسن الأدب معهما، أداء لحقوق تربيتهما وحضانتهما له، وكيف لا يحسن إليهما؛ إذ { حملته أمه } لأجله حين حبلت به { كرها } مشقة عظيمة، وألما شديدا، وحملا ثقيلا { و } حين { وضعته } أيضا { كرها } أشد من شمقة الحمل، وأكثر ألما منها { و } ليست مشقتها ومقاساتها زمانا قليلا، بل { حمله } أي: من حمل أمة إياه في بطنها { وفصله } أي: مدة فطامه عن لبنها كلاهما { ثلثون شهرا } وهي مدة طويلة، ثم بعد فطامه أيضا تلازم حفظه وحضانته { حتى إذا بلغ أشده } وكمل عقله ورشده { وبلغ أربعين سنة } إذ القوة العاقلة إنما تكاملت دونها، لهذا قيل: لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين إلا نادرا؟
{ قال } بعدما تذكر نعم الحق الفائضة عليه من بدء فطرته إلى أوان رشده وكماله مناجيا مع ربه مستمدا منه: { رب أوزعني } أي: أولعني وحرصني بتوفيقك إياي { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي } طل دهري وأواظب على أداء حقوقها حسب طاقتي وقدر قوتي { و } كذا أشكر نعمتك التي أنعمت { على والدي } إذ أداء حقوقهما، وما لزم عليهما من حقوق نعمك عليك واجبة علي { و } كذا حرصني بمقتضى كرمك وجودك { أن أعمل صلحا } مطلقا على الوجه الذي { ترضه } عني { و } بالجملة: { أصلح لي } بمقتضى كرامتك علي عملي، واجعل بفضلك صلاحي ساريا { في ذريتي } ليكونوا صلحاء مثلي، وارثين مستحقين لكرامتك وعنايتك بهدايتهم وصلاحهم { إني تبت } ورجعت { إليك } عن جميع ما لا يرضيك من عملي؛ إذ أنت أعلم مني بحالي { من المسلمين } إليك يا رب { وإني } [الأحقاف: 15] المنقادين لك، المطيعين لحكمك، المفوضين أمورهم كلها إليك؛ إذ لا مقصد لنا غيرك ولا مرجع سواك.
[46.16-19]
{ أولئك } السعداء المولعون على شكر نعم الله وأداء حقوق الوالدين، وحسن المعاشرة معهما، والإحسان إليهما، هم { الذين نتقبل عنهم } التفسير جرى على قراءة ابن عامر ونافع مغيرهما: " يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن... الآية " ، ولكن سياق " ويتجاوز " سبحانه لا تدل إلا على قراءة المطوعي - بفتح الياء - وهي قراءة شاذة ولكنها تذكر ضمن القراءات الأربع عشرة " يتقبل عنهم " بقبلو حسن { أحسن ما عملوا } مخلصين فيه، طالبين رضاء الله، مجتنبين عن سخطه { ونتجاوز } ويتجاوز سبحانه { عن سيئاتهم } بعدما تابوا، ورجعوا نحوه نادمين، وهم { في أصحاب الجنة } ومعهم، آمنون فائزون لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، إنجازا لما وعد لهم الحق { وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } [الأحقاف: 16] في النشأة الأولى.
وبعدما وصى سبحانه بما وصى من رعاية حقوق الوالدين، وما يترتب عليها من الفوز العظيم عقبه بضده، وهو عقوق الوالدين، وما يترتب عليها من العذاب الأليم فقال: { والذي } أي: والمسرف المتناهي الذي { قال لوالديه } من فرط سرفه وعصيانه وشدة عقوقه عليهما حين دعواه إلى الإيمان والتوحيد، واجتهد أن يخلصاه من ظلمة الشرك والتقليد، وعن أهوال يوم القيامة وأفراغها: { أف } أي: أتضجر { لكمآ أتعدانني } وتخوفانني من العذاب والنكال بعد أن { أخرج } من قبري حيا { و } الحال أنه { قد خلت } ومضت { القرون } الماضية { من قبلي } ولم يخرج أحد منهم من قبره حيان فإنا أيضا لا أخرج أمثالهم، والحال أنه هو يصر على هذا { وهما } من مال تحننهما وترحمهما { يستغيثان الله } ويطلبان الغوث والتوفيق منه سبحانه لأجل إيمانه قائلين له على وجه المبالغة في التخويف: { ويلك } أي: ويل وهلاك ينزل عليك أيها المسرف لو لم تؤمن { آمن } بالله، وبجميع ما جاء من عنده في النشأة الأولى والأخرى أن { وعد الله } بعموم المواعيد والوعيدات الصادرة منه سبحانه على ألسنة رسله وكتبه { حق } لا خلف فيه، سينجزه الله القادر المقتدر على وجوه الانتقام والإنعام { فيقول } بعدما سمع منهما ما سمع من شدة إصراره وإنكاره: { ما هذآ } الذي جئتما به على سبيل العظة والتذكير { إلا أساطير الأولين } [الأحقاف: 17] أي: أباطليهم الزائغة، لمجرد الترغيب والترهيب.
وبالجملة: { أولئك } الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول هم { الذين حق } أي: ثبت وتحقق { عليهم القول } والحكم من الله المطلع بما في صدور عباده من الغل والغواية، بأنهم أصحاب النار المعدودون { في } زمرة { أمم } هالكة مستحقة لعذاب { قد خلت } ومضت { من قبلهم من الجن والإنس } أي: من جنسهما، وبالجملة: { إنهم } بأجمعهم { كانوا خاسرين } [الأحقاف: 18] مضيعين على أنفسهم كرامة مرتبة الخلاقة والنيابة الإلهية الموعودة في النشأة الإنسانية.
{ و } اعلما أن { لكل } من المحقين والمبطلين { درجت } من الثواب والعقاب متفاوتة شدة وضعفا، ورفعة ودناءة، منتشئة { مما عملوا } مترتبة عليه خيرا كان أو شرا، حسنات أو سيئات { و } كل منهم متعلق بعمله، يشاكل عليه { ليوفيهم أعملهم } ويوفى عليهم جزاءهم المترتب عليها درجات أو دركات { وهم لا يظلمون } [الأحقاف: 19] بالزيادة والنقصان على أجور ما كسبوا.
[46.20-21]
{ و } اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يعرض } المسرفون { الذين كفروا } بالحق وأعرضوا عنه وعن أهله { على النار } المسعرة المعدة للكافري المعرضين لهم حينئذ على التوبيخ التشنيع أنتم { أذهبتم طيبتكم } من اللذائذ وتلذذهم بها { في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } فيها { فاليوم تجزون } بدلها { عذاب الهون } المخزي المضل { بما كنتم تستكبرون في الأرض } على عباد الله { بغير الحق } يعني: بدل تعززكم وتعظمكم بها في دار الدنيا وكبركم وخيلائكم على ضعفاء العباد { وبما كنتم تفسقون } [الأحقاف: 20] وتخرجون عن مقتضى الحدود الإلهية ظلما وزروا.
{ واذكر أخا عاد } أي: اذكر يا أكمل الرسل لمشركي مكة قصة قوم عاد مع أخيهم هود عليه السلام إذ { أنذر قومه } إمحاضا للنصح لهم وهو يسكنون { بالأحقاف } أي: الرمال المعوجة الغير المستوية على شاطئ البحر { و } الحال أنه { قد خلت النذر } والرسل المنذرين { من بين يديه } أي: قبل هود عليه السلام { ومن خلفه } أي: بعده، كلهم متفقون في المنذر به، وهو { ألا تعبدوا } أي: لا تعبدوا { إلا الله } الواحد الأحد الحقيق بالإطاعة والعبادة ولا تشركوا مع شيئا من مصنوعاته، ولا تتوجهوا ولا تسترجعوا في الخطوب إلا إليه وانصرفوا عن عبادة غيره { إني } بسبب عبادتكم غير الله واتخاذكم آلهة سواه { أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [الأحقاف: 21] هائل شديد.
[46.22-25]
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا من التوحيد { قالوا } له متهكمين معه مشنعين عليه { أجئتنا } مدعيا ملتزما { لتأفكنا } وتصرفنا { عن آلهتنا } أي: عن عبادتهم وإطاعتهم، ونؤمن بك وبإلهك، وبالجملة: لا نؤمن بك ولا نصدقك في قولك { فأتنا بما تعدنآ } وتخوفنا من العذاب على الشرك الآن { إن كنت من الصادقين } [الأحقاف: 22] في دعواك أنه آت لا محالة.
وبعدما استهزؤوا معه واستعجلوا بالعذاب الموعود { قال } هود: إني أعلم بمقتضى الوحي الإلهي أنه آت، ولا أعلم متى يأتي؛ إذ لم يوح إلى وقت إتيانه بل { إنما العلم } بوقت نزوله { عند الله } المطلع على عموم الغيوب { و } إنما { أبلغكم مآ أرسلت به } وأمرت بتبليغه من عنده؛ إذ ما على الرسول إلا البلاغ { ولكني أراكم } بسبب إعراضكم عن الحق وأهله وإصراركم على الشرك الباطل والضلال والزائل { قوما تجهلون } [الأحقاف: 23] عن كمال عظمة الله وعزته، ومن مقتضيات قوته وقدرته.
وبالجملة: قال هود عليه السلام ما قال، وهم كانوا على شركهم وإصرارهم كما كانوا { فلما رأوه } يوما من الأيام { عارضا } سحابا ذا عرض على الأفق { مستقبل أوديتهم } أي: متوجها لأمكنتهم التي كانوا متوطنين فيها، وكانوا حينئذ، قد حبس عليهم القطر، فلما رأوها حينئذ { قالوا } فرحين مستبشرين: { هذا عارض } مبارك توجه نحو بلادنا هو { ممطرنا } مطرا عظيما، وهم استدلوا بسواده إلى كثرة مائه، وبعدما استبشروا في ما بينهم، قال هود: { بل هو ما استعجلتم به } واستبشرتهم باستقباله { ريح } عاصفة لا راحة فيها بل { فيها عذاب أليم } [الأحقاف: 24] لا عذاب أشد منه.
إذ { تدمر } وتهلك { كل شيء } ذي حياة { بأمر ربها } وبمقتضى مشيئته، وبعدما وصلت الريح دمرتهم تدميرا إلى حيث استأصلهم { فأصبحوا لا يرى } منهم { إلا مساكنهم } أي: سوى دورهم الخربة وأطلالهم المندرسة، وليس هذا مخصوصا بهم بل { كذلك نجزي } عموم { القوم المجرمين } [الأحقاف: 25] الخاريجن عن ربقة عبوديتنا بارتكاب الجرائم والآثام.
[46.26-28]
ثم أشار سبحانه إلى توبيخ مشركي مكة ومجرميهم على وجه التأكيد والمبالغة، فقال سبحانه مقسما: { و } الله يا أهل مكة { لقد مكناهم } أي: عادا { فيمآ } أي: في الأمور التي أن { مكناكم فيه } أي: ما مكناكم وأقدرناكم فيه من كثرة الأموال والأولاد والحصون والقلاع والقصور الرفيعة والمنازل الوسيعة { وجعلنا لهم سمعا } ليسمعوا به آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا { وأبصارا } ليشهدوا بها آثار قدرتنا ومتانة حكمتنا الدالة على كمال علمنا { وأفئدة } ولينكشفوا بها على وحدة ذاتنا ويتفطنوا بها باستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا، ومع ذلك { فمآ أغنى } ودفع { عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } أي: شيئا من الإغناء، أي: ما أفاد لهم هذه الآلات العجيبة الشأن شيئا من الفائدة التي هي إنقاذهم عن الجهل بالله، وعم الضلال في طريق توحيده؛ إذ { كانوا يجحدون } وينكرون بمقتضى جهلهلم المركب في جبلتهم أمثالكم أيها الجاحدون بآيات الله ودلائل توحيده، ويستهزئون بها وبمن أنزلت إليه من الرسل { و } لذلك { حاق } وأحاط { بهم } وبال { ما كانوا به يستهزئون } [الأحقاف: 26] عاجلا، وسيلحقهم وينزل عليهم وعليكم أيضا أيها المسرفون آجلا بأضعافه وآلافه.
{ ولقد أهلكنا } وخربنا { ما حولكم من القرى } الهالكة كعاد وثمود؛ لتعتبروا منها، وتتعظوا بما لحق بأهلها من أنواع البليات { وصرفنا الآيات } الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا وكررناها مرارا { لعلهم يرجعون } [الأحقاف: 27] إلينا منخلعين عن مقتضى وجوداتهم الباطلة وهياتهم العاطلة، مع ذلك لم يرجعوا، ولم ينخلعوا.
{ فلولا نصرهم } أي: هلا نصرهم ومنعهم عن الهلاك والإهلاك شفعاؤهم { الذين اتخذوا من دون الله } الفرد الصمد، وقربوا لهم { قربانا } لأنهم اتخذوهم { آلهة } شركاء مع الله في الألوهية والربوبية، لذلك تقربوا إليهم، وتوجهوا نحوهم في عموم الملمات، مع أنه ما ينفعهم لدى الحاجة إليهم وإلى تصرفهم { بل ضلوا } وغلبوا { عنهم } فأنى ينصرهم ويدفع عنهم ما يضرهم { وذلك } الذي اعتقدوا في شأنهم { إفكهم } أي: صرفهم عن الحق وإعراضهم عنه وميلهم إلى الباطل وإصرارهم فيه { وما كانوا يفترون } [الأحقاف: 28] أي: افتراؤهم على الله بإثبات الشريك له، والمشاركة معهم.
[46.29-32]
{ و } اذكر لمن عاندك وكذلك إلزاما لهم وتبكيتا وقت { إذ صرفنآ } وأملنا { إليك } يا أكمل الرسل تأييدا لك ولشأنك { نفرا } جماعة { من الجن } حال كونهم { يستمعون } منك { القرآن } حين تلوته في صلاتك وتهجدك { فلما حضروه } أي: القرآن وسمعوه، تعجبوا من حسن نظمه واتساقه، وكمال بلاغته وفصاحته { قالوا } أي: بعضهم لبعض: { أنصتوا } ولا تخالطوا أصواتكم حتى نسمع على وجهه؛ إذ هو كلام عجيب في أعلى مرتبة البلاغة { فلما قضي } وتم قراءته وفهموا معناه وفحواه { ولوا } ورجعوا { إلى قومهم } حال كونهم { منذرين } [الأحقاف: 29] بما يفهمون منه من الإنذارات والوعيدات القوم الذين بلغوا حد التكليف من إخوانهم ينذرونهم بها عن الضلال والانحراف عن طريق الحق.
إذ: { قالوا } أي: النفر المستمعون مبشرين لقومهم: { يقومنآ إنا سمعنا كتابا } عجيبا سماويا، وعربيا نظما وأسلوبا { أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه } أي: جميع الكتب السالفة السماوية شأنه أنه { يهدي إلى } توحيد { الحق وإلى طريق مستقيم } [الأحقاف: 30] موصل إليه بلا عوج وانحراف، وهذا الكتاب العجيب الشأن، الجلي البرهان، منزل إلى داع من العرب اسمه محمد صلى الله عليه وسلم يدعو قاطبة الأنام إلى دين الإسلام بوحي الله العليم العلام.
{ يقومنآ أجيبوا داعي الله } يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم واقبلوا منه دعوته إلى توحيد الحق ودين الإسلام { وآمنوا به } وبكتابه الذي أنزل إليه لتبيين دينه وتأييد أمره { يغفر لكم } سبحانه { من ذنوبكم } أي: من جميعها أن تبتم ورجعتم إليه مخلصين { ويجركم من عذاب أليم } [الأحقاف: 31] هو عذاب النار؛ إذ لا عذاب أشد منها وأفزع.
{ و } بالجملة: { من لا يجب داعي } ولا يؤمن به سبحانه، وبجميع ما جاء داعية من عنده، بل كذب الداعي وأنكر دعوته ولم يقبل منه { فليس } هو أي: المنكر { بمعجز في الأرض } حتى يهرب عن انتقامه سبحانه، ويفر من غضبه من مكان على مكان، أو يستر عنه سبحانه ويخفى نفسه في أقطار الأرض، بل له الإحاطة والاستيلاء بعموم الأمكنة والأنحاء { وليس له } أي: للمنكر المعاند { دونه } سبحانه { أوليآء } يوالونه وينقذونه من غضب الله وعذابه بعدما نزل عليه، وبالجملة: { أولئك } المنكرون المكابرون الذين لا يجيبون داعي الله، ولا يقبلون منه دعوته عنادا ومكابرة { في ضلال مبين } [الأحقاف: 32] وغواية ظاهرة، يجازيهم سبحانه بمقتضى ما صدر عنهم من الغي والضلال.
[46.33-35]
ثم أشار سبحانه إلى توبيخ منكري الحشر والنشر وإعادة الموتى أحياء وتقريعهم، فقال مستفهما على سبيل التبكيت والإلزام: { أولم يروا } يعني: أيشكون ويترددون أولئك الشاكون المترددون في قدرة الله على إعادة المعدوم ونشر الأموات أحياء من قبورهم وحشرهم إلى المحشر للحساب والجزاء، ولم يعلموا { أن الله } العليم الحكيم القادر المقتدر { الذي خلق } أظهر وأوجد { السموت والأرض } أي: العلويات السفليات خلقا إبداعيا من كتم العدم { و } مع ذلك { لم يعي بخلقهن } أي: لم يفتر ولم يضعف بإظهارهن ابتداء مع غاية عظمتهن وسعتهن { بقادر } يعني: أليس القادر المقتدر على الإبداع والإبداء بقادر { على أن يحيي الموتى } ويعيدهم أحياء بعدما أماتهم { بلى } أنه سبحانه { على كل شيء } دخل في حيطة علمه وإرادته { قدير } [الأحقاف: 33] بلا فتور ولا قصور. { و } اذكر يا أكمل الرسل لمنكري الحشر { يوم يعرض الذين كفروا } بالبعث والجزاء { على النار } المعدة لهم، فيقال لهم حينئذ تفضيحا وتهويلا وتوبيخا وتقريعا: { أليس هذا } العذاب الذي أنتم فيه الآن، وكذبتم به من قبل في نشأة الاختبار { بالحق قالوا } متأسفين متحسرين: { بلى } هو الحق { و } حق { ربنا } الذي ربانا على فطرة الإسلام، وأنذرنا عن إتيان هذا العذاب في هذه الأيام، فكفرنا به ظلما وزورا، وأنكرنا عليه عنادا واستكبارا، وبعدما اعترفوا وندموا في وقت لا ينفعهم الندم والاعتراف { قال } قائل من قبل الحق: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } [الأحقاف: 34] إذا لم يفدكم اعترافكم هذا، بعدما انقضى نشأة التدارك والتلافي.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل مآل حال الكفرة المصرين على العتو والعناد { فاصبر } يا أكمل الرسل على تحمل أعباء الرسالة ومتاعب التبليغ وأذيات أصحاب الزيغ والضلال { كما صبر } عليها { أولوا العزم من الرسل } العازمين عليها وعلى تبليغها بالعزيمة الخالصة والثبات التام؛ ليبينوا للناس طريق التوحيد ويرشدهم إلى سبيل الاستقامة والرشاد { ولا تستعجل لهم } أي: للمعاندين من قريش بحلول العذاب الموعود عليهم، فإنه سينزل عليهم حتما عند حلول وقته { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب من نهاية شدته وهوله وغاية طوله، تذكروا أنهم { لم يلبثوا } في الدنيا { إلا ساعة } واحدة { من نهار } يعني: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وقاسوا بالنسبة إلى طول يوم القيامة بساعة بل أقصرها منها.
هذا الذي ذكر من المواعظ والتذكيرات في هذه السورة { بلاغ } كاف لأهل الهداية والإرشاد إلى أن اتعظوا بها، ويتذكروا منها، وإن لم يتعظوا بها، هلكوا في تيه الجهل والغواية مثل سائر الهالكين { فهل يهلك } وما يستأصل بالقهر الإلهي { إلا القوم الفاسقون } [الأحقاف: 35] الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية النازلة من عنده سبحانه على أنبيائه ورسله، المبعوثين إلى الهداية والتكميل.
جعلنا الله ممن تذكر بما في كتابه من المواعظ والتذكير، وامتثل بما فيه من الأوامر والنواهي.
خاتمة السورة
عليك أيها العازم على سلوك طريق التوحيد: أن تقصد نحوه بالعزيمة الخالصة الصافية عن كدر الرياء ورعونات الهوى، وتتصبر على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والرياضاتت القالعة لمقتضيات القوى البشرية بجملتها ومشتهيات القوى البهيمية برمتها، فلك أن تقتدي في سلوكك هذا أثر أولى العزائم من الرسل الكرام والأنبياء العظام والكمل من الأولياء الذين هم ورثة الأنبياء؛ لتفوز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا.
[47 - سورة محمد]
[47.1-11]
{ الذين كفروا } بالله وتوحيده، وأنكروا على نبوة حبيبه صلى الله عليه وسلم ورسالته عنادا ومكابرة { و } مع كفرهم وانصرافهم بأنفسهم عن الهداية { صدوا } وصرفوا سائر الناس { عن سبيل الله } وطريق توحيده الذي هدي إليه صلى الله عليه وسلم وبعث لتبيينه، وإرشاد عمود عباد الله نحوه منه حسدا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى من تبعه { أضل } أحبط وأضاع سبحانه { أعملهم } [محمد: 1] أي: صوالح أعمالهم التي أتوا بها طمعا للكرامة والمثوبة من لدنه سبحانه بعدما كفروا به سبحانه وبرسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا تثمر الأعمال الصالحة إلا بالإيمن والتصديق بالله وبرسوله.
{ والذين آمنوا } بالله وبرسوله { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } المقربة لهم إلى الله { وآمنوا بما نزل على محمد } أي: بجميع ما نزل عليه { و } صدقوا أن جميع ما نزل به { هو الحق } الصدق المطابق للواقع، النازل { من ربهم } بلا شك وتردد { كفر } وأزال { عنهم } سبحانه { سيئاتهم } أي: وبالها وعذابها { وأصلح } اللاحق المستتبع إياها بها { بالهم } [محمد: 2] أي: أحسن حالهم في الدين والدنيا بحسب النشأة الأولى والأخرى، ويجازيهم أحسن الجزاء.
{ ذلك } أي: إضلال الكفرة وإصلاح المؤمنين { بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } وتركوا الحق الحقيق بالاتباع { وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق } النازل { من ربهم } لإصلاح حالهم في النشأتين ويرشدهم إلى ما هو خير لهم { كذلك } أي: مثل ذلك الذي سمعت من الإضلال والإصلاح بالنسبة إلى كلا الفريقين { يضرب الله للناس أمثالهم } [محمد: 3] وبين لهم أحوالهم المتواردة عليهم في أولاهم وأخراهم.
وبعدما سمعتم أيها المؤمنون وخامة عاقبة الكفرة وضياع أعمالهم وإحباطها { فإذا لقيتم الذين كفروا } على أي وجه وأي حال { فضرب الرقاب } أي: فعليكم أن تضربوا رقابهم مهما أمكن، وأن تقتلوهم بلا مبالاة وبدمائهم { حتى إذآ أثخنتموهم } أي: أغلظتم وبالغتم في قتلهم، فأسروا بقاياهم { فشدوا الوثاق } والنكال على أسرائهم، واحفظوهم مقيدين موثقين { فإما منا بعد وإما فدآء } أي: تمنون عليهم منا فتطلقونهم، أو تفدون منهم فداء على إطلاقهم وتخلون سبيلهم، وبالجملة: افعلوا أيها المؤمنون مع المشركين كذلك { حتى تضع الحرب أوزارها } أي: تضع أهل الحرب من كلا الجانبين آلات الحراب والقتال، وذلك لا يحصل إلا بالمؤاخاة والاتئلاف التام، وتدين الجميع بدين الإسلام { ذلك } أي: الأمر من الله ذلك، فافعلوا معهم كذلك.
{ ولو يشآء الله } القادر المقتدر على أنواع الانتقام { لانتصر } وانتقم { منهم } أي: من المشركين بلا اقتتالكم وحرابكم { ولكن } إنما يأمركم سبحانه بالقتال { ليبلوا } ويختبر { بعضكم } أيها الناس المؤمنون { ببعض } أي: بقتال بعض منكم، وهو الكافرون؛ لينال المؤمنون بقتالهم وجهادهم الثواب الجزيل والأجر الجميل، ويستوجب الكافر بمعاداة المؤمن بالعقاب العظيم والعذاب الأليم، كل بتقدير العليم الحكيم، ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله: { و } اعلموا أيها المؤمنون أن { الذين قتلوا } منكم { في سبيل الله } باذلين مهجهم في ترويج دينه { فلن يضل } ويضيع { أعمالهم } [محمد: 4] التي أتوا بها طلبا لمرضاة الله، وتثبيتا لقلوبهم على الإيمان بما نزل من عنده.
بل { سيهديهم } ربهم ويرشدهم سبحانه بعدما استشهدوا إلى زلال هدايتهم { ويصلح بالهم } [محمد: 5] بإيصالهم إلى غاية ما جبلوا لأجله.
{ ويدخلهم الجنة } التي { عرفها لهم } [محمد: 6] حين أمرهم بالجهاد، ألا وهي الحياة الأزلية الأبدية الإلهية الموعودة للشهداء من عنده سبحانه بقوله:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
[آل عمران: 169].
{ يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله } يعني: دينه ورسوله { ينصركم } على أعدائكم { ويثبت أقدامكم } [محمد: 7] في جادة توحيده وصراط تحقيقهز
{ والذين كفروا } بالله، وأعرضوا عن نصرة دينه ورسوله { فتعسا } أي: زلقا وعثورا وانحطاطا { لهم } عن رتبة الإنسانية وعن جادة العدالة الإلهية { وأضل أعمالهم } [محمد: 8] وأضاعها بحيث لا تفيدهم شيئا أصلا.
{ ذلك } العثور والانحطاط لهم { بأنهم كرهوا } أي: أنكروا واستكرهوا { مآ أنزل الله } المدبر المصلح لأحوال عباده في كتابه من الأوامر والنواهي المهذبة لظواهرهم وبواطنهم { فأحبط أعملهم } [محمد: 9] بسبب كفرهم وكراهتهم.
{ أف } ينكرون قدرة الله على الإحباط والإضلال { لم يسيروا في الأرض } التي هي محل الاختبارات الإلهية وانتقامه { فينظروا } بنظر العبرة والاستبصار؛ ليصبروا { كيف كان عاقبة } المجرمين { الذين } مضوا { من قبلهم } مع أنهم ذوو ثروة كبيرة، ورئاسة عظيمة، ووجاهة كاملة، كيف { دمر الله عليهم } واستأصلهم بحيث لم يبق منهم على وجه الأرض أحد { وللكافرين أمثالها } [محمد: 10] أي: سيؤول ويعود عاقبة هؤلاء الكفرة المعاندين معك يا أكمل الرسل إليها وإلى أمثالها، بل أفظع وأشد منها ألبتة.
كل { ذلك بأن الله } المطلع على ضمائر عباده { مولى الذين آمنوا } بوحدة الحق وتحققوا في مقر توحديه، لذلك يواليهم وينصرهم على أعاديهم، ويحفظهز عما لا يعنيهم { وأن الكافرين } المصرين على الكفر والعناد { لا مولى لهم } [محمد: 11] لينصرهم ويدفع عنهم ما يرديهم.
[47.12-19]
وبالجملة: { إن الله } العليم الحكيم { يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات } منتزهات من المعارف والحقائق { تجري من تحتها الأنهار } الجارية من العلوم اللدنية، المنتشئة من منبع الوحدة الذاتية، تتلذذون بها تلذذا معنويا حقيقيا { والذين كفروا } بوحدة الحق وكمالاته المترتبة على شئونه وتجلياته { يتمتعون } بالحطام الدنيوية ويتلذذون باللذات البهيمية { ويأكلون كما تأكل الأنعام } وتتلذذ بلا شعور لهم باللذة الأخروية { و } بالآخرة { النار } المعدة المسعرة صارت { مثوى لهم } [محمد: 12] ومحل قرارهم واستقرارهم.
{ وكأين } أي: كثيرا { من قرية } من القرى الهالكة { هي أشد قوة } أي: أهلها، وأكثر أموالا وأولادا { من } أهل { قريتك التي أخرجتك } أي: أهلها منها { أهلكناهم } واستأصلناهم بسبب إخراجهم رسل الله من بينهم، وتكذيبهم والاستبكار عليهم { فلا ناصر لهم } [محمد: 13] يظاهرهم ويدفع انتقاما عنهم، فكذا ننتقم عن هؤلاء المشركين المستكبرين عليك يا أكمل الرسل، المخرجين لك وقومك من بينهم ظلما وعداونا؛ يعني: مشركي مكة - خذلهم الله - ونغلب المؤمنين عليهم، ونظهر دينك على الأديان كلها.
وكيف لا ننصرك ونظهر دينك؟ { أفمن كان على بينة } حجة واضحة، آتية له { من ربه } مبينة له امر دينه { كمن زين } أي: حبب وحسن { له سوء عمله } بلا مستند عقلي أو نقلي، بل { واتبعوا أهواءهم } [محمد: 14] بمقتضى آرائهم الباطلة وأمانيهم الزائغة الزائلة.
كلا وحاشا، بل { مثل الجنة } وشأنها العجيبة { التي وعد المتقون } بها، المجتنبون عن محارم الله، المتحرزون عن مساخطه على الوجه الذي بينهم الكتب وبلغهم الرسل، الممتثلون بجميع ما أمروا من عنده سبحانه إيمانا واحتسابا عند ربهم، هكذا { فيهآ أنهار من مآء } هي: العلوم اللدنية المجيبة لهم بالحياة الأزلية الأبدية { غير ءاسن } أي: خالص صاف عن كدر التقليدات والتخمينات، الحادث عن مقتضيات القوى البشرية المنغمسة بالعلائق الجسمانية { وأنهار من لبن } من المحبة الذوقية الإلهية، المنتشئة من الفطرية الأصلية التي فطروا عليها في بدء ظهورهم { لم يتغير طعمه } وذوقه بالميل إلى الهوى، ومن مزخرفات الدنيا { وأنهار من خمر } جذبة إلهية وشوق مفرط مسكر لهم، محير لعقولهم من غاية استغراقهم بمطالعة جمال الله وجلاله، بحيث لا يكتنه لهم وصفه بكونه من الأمور الذوقية { لذة للشاربين } حسب تفاوت أذواقهم ومواجيدهم { وأنهار من عسل } هي: اليقين الحقي الذي لا شيء أحلى منه وألذ عند العرف المتحقق به { مصفى } من شوب الإثنينية اللازمة لمرتبتي اليقين العلمي والعيني.
{ و } بالجملة: { لهم فيها من كل الثمرات } المستلزمة لأنواع اللذات الروحانية، وأكبر من الكل أن لهم فيها { ومغفرة } ستر ومحو لأنانياتهم الباطلة ناشئة { من ربهم } الذي رباهم على الكرامة من عنده بعدما جذبهم تحت قباب عزه، ومكنهم من كنف جواره، هؤلاء المكرمون بهذه الكرامة العظمى { كمن هو خالد في النار } أي: كالكافر الطاغي الباغي، الذي خرج عن ربقة العبودية بمتابعة الأهوية الأمارة وأمانيها، وظهر على الحق وأهله بأنواع الإنكار والاستكبار، وبسبب هذا صار مخلدا في نار القطيعة، مؤبدا فيها لا نجاة له عنها { و } هم من شدة عطشهم وحرقة أكبادهم إذا استسقوا { سقوا مآء حميما } حارا في غاية الحرارة { فقطع أمعآءهم } [محمد: 15] بعدما شربوا منه؛ وذلك لعدم الفهم واعتيادهم بالعلم اللدني وبرد اليقين العلمي والعيني والحقي.
{ ومنهم } أي: من المستوجبين بخلود النار أبد الآباد { من يستمع إليك } يا أكمل الرسل حين دعوتك وتذكرك وجلسوا في مجلسك صامتين محبوسين { حتى إذا خرجوا من عندك } وانصرفوا عن مجلسك { قالوا } من كمال غفلتهم وذهولهم عنك وعن كلامك وكمالاتك وعدم إدراكهم بما فيها وإصغائهم إليها { للذين أوتوا العلم } أي: أصحابك المتذكرين عن كلامك، الموفقين على التصديق والإذعان بك وبكتابك: { ماذا قال } أي: أي شيء قال صاحبكم { آنفا } في هذا المجلس؟ مع أنهم معهم { أولئك } الأشقياء البعداء عن ساحة عز القبول هم { الذين طبع الله على قلوبهم } وختم على سمعهم وأبصارهم { و } لهذا { اتبعوا أهوآءهم } [محمد: 16] وتركوا إهداءه صلى الله عليه وسلم ولم يقتبسوا النور من مشكاة النبوة، ولم يلتفتوا إلى هداية القرآن، بل استهزءوا معه ومع الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ و } المؤمنون { الذين اهتدوا } بهدايته صلى الله عليه وسلم { زادهم } استماع القرآن { هدى } على هدى { وآتاهم تقواهم } [محمد: 17] وبين لهم ما يعنيهم على سلوك طريق التوحيد ويجنبهم عما يغويهم عن منهج الحق وصراط التحقيق.
وبالجملة: { فهل ينظرون } وماينتظرون في عموم أوقاتهم وحالاتهم { إلا الساعة } الموعودة أن { تأتيهم بغتة } فجأة، وكيف لا تأتيهم الساعة { فقد جآء } وظهر { أشراطها } أي: بعض علاماتها وأماراتها التي من جملتها: بعثة الرسول الحضرة الختمية المحمدية؛ إذ ظهوره متمما لمكارم الأخلاق، ومكملا لأمر التشريع والإرشاد من دلائل انقضاء نشأة الكثرة، وطلوع شمس الوحدة الذاتية من آفاق ذرائر الكائنات، وكيف ينتظرون الساعة ولا يهيئون أسبابها قبل حلولها، وإن تأتهم بغتة { فأنى لهم إذا جآءتهم ذكرهم } [محمد: 18] أي: كيف يفيدهم التذكر والاتعاض وقت إذ جاءت الساعة فجأة؟ ومن أين يحصل لهم التدارك والتلافي حيئنذ؟.
وبعدما سمعتم حال الساعة وحلول الساعة بغتة { فاعلم أنه لا إله إلا الله } المؤمنون } أي: فاثبت أنت يا أكمل الرسل على جادة التوحيد الذاتي، وتمكن على صراط الحق في عموم أوقاتك وحالاتك، واشهد ظهور شمس الذات على صفائح عموم الذرات، وشاهد انقهار جميع المظاهر والمجالي في وحدة ذاته، واهد جميع من تبعك من المؤمنين إلى هذا المشهد العظيم { واستغفر } في عموم أوقاتك { لذنبك } الذي صدر عنك من الالتفات إلى ما سوى الحق والعكوس والإظلال { و } استغفر أيضا { للمؤمنين والمؤمنات } إذا أنت كفيلهم وهاديهم إلى طريق التوحيد { و } بالجملة: { الله } المحيط بعموم أحوالكم ونشأتكم { يعلم } بعمله الحضوري { متقلبكم } أي: موضع تقلبكم وانقلابكم في دار الاختبار ونشأة التلون والاعتبار { ومثواكم } [محمد: 19] أي: موضع إقامتكم وتمكنكم في دار الإقامة والقرار، فعليكم أن تستعدوا لأخراكم في أولاكم وتهيئوا أسباب عقباكم في دنياكم.
[47.20-29]
{ و } من معظم زاد يوم المعاد: الجهاد مع جنود أعداء الله في الأنفس والآفاق؛ لذلك { يقول الذين آمنوا } من كمال حرصهم وشغفهم على القتال، وترويج كلمة التوحيد وإعلا دين الإسلام: { لولا } وهلا { نزلت سورة } مشتملة على الأمر بالجهاد حتى نجاهد في سبيل الله، ونبذل غاية وسعنا في ترويج دينه { فإذآ أنزلت سورة محكمة } على مقتضى ما تمناها المخلصون { وذكر فيها القتال } أي: أمر فيها على البت، واستبشر المؤمنون المخلصون بنزولها، واستعدوا لامتثالها وقبول ما فيها { رأيت } يا أكمل الرسل حينئذ المنافقين { الذين في قلوبهم مرض } راسخ وضعف مستقر مستمر { ينظرون إليك } حين تلاوتك وتبليغك إياهم ما يوحى إليك من ربك { نظر المغشي عليه من الموت } يعني: صاروا حين سمعوا الأمر القتال من كمال نفاقهم وشقاقهم كأنهم أشرفوا على الموت وظهرت عليه أماراته، وشخصت أبصارهم من أهواله جبنا من القتال وبغضا عليك { فأولى لهم } [محمد: 20] أي: قرب منهم وحاق بهم ما يكرهون ويخافون منه أولئك الأشقياء المردودون.
والأليق بحالهم في هذه الحالة: { طاعة } أي: انقياد وإطاعة { وقول معروف } قبول مستحسن عند ذوي المروءات والفتوات لو صدر عنهم لكان خيرا لهم وأليق بحالهم لو كانوا مؤمنين، وبالجملة: { فإذا عزم الأمر } أي: جد ولزم أمر القتال { فلو صدقوا الله } المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم فيما اظهروا من الحرص والجرأة على القتال { لكان } الصدق والعزيمة { خيرا لهم } [محمد: 21] في أولاهم وأخراهم.
وإن لم يصدقوا ولم يثبتوا على ما أملوا من طلب القتال { فهل عسيتم } ويتوقع منكم أيها المسرفون الكاذبون إن { توليتم } وأعرضتم عن امتثال المأمور أن { تفسدوا في الأرض } المعدة للإصلاح والسداد { وتقطعوا } [محمد: 22] عن المؤمنين المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام مع أنكم مجبولون أيضا عليها.
وبالجملة: { أولئك } الأشقياء المعرضون عن الهداية والرشاد، هم { الذين لعنهم الله } العليم الحكيم، وطردهم عن س احة عز حضوره { فأصمهم } بهذا عن استماع دلائل توحيده { وأعمى أبصارهم } [محمد: 23] عن مشاهدة آيات ألوهيته وربوبيته الظاهر على الأنفس والآفاق.
{ أ } يصرون أولئك المسرفون على الإعراض والانصراف عن الهدى { فلا يتدبرون } ويتصفحون { القرآن } ولا يتأملون ما فيه من المواعظ والتذكيرات المفيدة لهم، الموصلة إلى الهداية والنجاة من أهوال يوم القيامة حتى ينزجروا عن ارتكاب المعاصي، وينصرفوا عن الميل إليها { أم على قلوب } أي: بل مختومة على قلوبهم { أقفالهآ } [محمد: 24] مطبوعة عليها، لا تأثر لهم من القرآن ومواعيده، مع أنهم آمنوا له قبل نزوله على ما وجدوا في كتبهم نعته وعرفوا أحكامه، ومع ذلك أنكروا عليه وارتدوا عنه.
{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم } سيما { من بعد ما تبين } وظهر { لهم الهدى } والرشاد وجزموا بحقيته، وحقية ما فيه من الأحكام والعبر والمواعظ، وبالجملة: { الشيطان } المضل المغوي { سول لهم } أي: حسن وزين لهم الارتداد عن الحق تغريرا وتلبيسا بعدما وضح لهم حقيته { وأملى لهم } [محمد: 25] بتسويلاته خلاف ما ظهر عليهم من ألسنة كتبهم ورسهلم.
{ ذلك } التسويل والتغرير، وما يترتب عليه من الإعراض والانصراف عن الحق { بأنهم } أي: بسبب أن اليهود والنصارى { قالوا للذين كرهوا } أي: المنافقين الذي كرهوا { ما نزل الله } من السور المشتملة على أمر القتال؛ حثا لهم على المخالفة والقعود { سنطيعكم } ونعاون عليكم { في بعض الأمر } لو أظهرتم المخالفة؛ يعني: إن أخذواكم وقصدوا الانتقام عنكم نحن نعاونكم، إنما قالوا ما قالوا في خلواتهم { والله } المطلع لعموم أحوالهم { يعلم إسرارهم } [محمد: 26] كما يعلم إعلانهم، هذا من جملة ما احتالوا ومكروا مع الله ورسوله.
{ فكيف } يحتالون ويمكرون { إذا توفتهم الملائكة } المأمورون لقبض أرواحهم { يضربون } حينئذ { وجوههم } جزاء ما توجهوا بهذا نحو الباطل { وأدبارهم } [محمد: 27] جزاء ما انصرفوا بها عن الحق.
{ ذلك } التوفي على وجه العبرة { بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله } من الإعراض عن طريق الحق ومتابعة أهله { وكرهوا } بمقتضى أهويتهم الفاسدة { رضونه } أي: ما رضي عنه سبحانه من الأوامر والنواهي المنزلة على ألسنة رسله وكتبه بعدما خالفوا أمر الل وأمر رسوله { فأحبط } سبحانه بمقتضى قهره وجلاله { أعملهم } [محمد: 28] أي: صوالح أعمالهم، ولم يترتب عليها الجزاء الموعود كما يرتب على صالحات أعمال المطيعين.
{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض } مستقر، وحسد مؤبد، وشكيمة شديدة مع الله ورسوله والمؤمنين { أن لن يخرج الله } ولن يبرز أبدا { أضغانهم } [محمد: 29] وأحقادهم التي أضمروها في نفوسهم.
[47.30-38]
{ و } لم يعلموا أنا { لو نشآء } تفضيحهم { لأريناكهم } وأبصرنا عليك يا أكمل الرسل ما أظمروا في نفوسهم { فلعرفتهم } حينئذ { بسيماهم } بمجرد إبصارك إياهم؛ لظهور ما في صدورهم من الغل على وجوههم { ولتعرفنهم } ألبتة نفقهم { في لحن القول } الباطل الذي صدر عنهم مشغوشا مزخرفا، وبعدما نزل هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفهم، ويستدل بكلامه على فساد ضميره { و } بالجملة: { الله } المطلع بعموم أحوال عباده { يعلم أعمالكم } [محمد: 30] ونياتكم فيها ومقاصدكم عنها، فيجازيكم على مقتضى علمه.
ثم قال سبحانه مقسما: { و } الله { لنبلونكم } ونختبرنكم أيها المجبولون على فطرة الإسلام بالتكاليف الشاقة والأوامر الشديدة { حتى نعلم } أي: نفرق ونميز { المجاهدين } المتجهدين { منكم } ببذل الوسع والطاقة على امتثال المأمور، والصابرين المرابطين قلوبهم بحبل الله وتوحيده، الموطنين نفوسهم بالرضا بجميع ما جرى عليهم من القضاء { والصابرين ونبلوا } أيضا { أخباركم } [محمد: 31] التي صدرت عنكم وقت تكليفنا إياكم؛ إذ الأخبار منبئة عن الضمائر والأسرار.
وبالجملة: { إن الذين كفروا } بالله، وأعرضوا عن مقتضيات تكاليفه الصادرة عن الحكمة البالغة { و } مع كفرهم وضلالهم في أنفسهم { صدوا } وصرفوا { عن سبيل الله } ضعفاء عباده { و } مع ذلك { شآقوا الرسول } المرسل من عنده سبحانه، المبعوث إليهم للإرشاد والتكميل، لا من شبهة صدرت عنه تدل على كذبه وافترائه { من } بعدما { ما تبين لهم الهدى } أي: ثبت عندهم هدايته عقلا ونقلا، ومع ظهور صدقه وهدايته كذبوه عدوانا وظلما، وبواسطة هذه الجرأة على الله ورسوله { لن يضروا الله } المنزه في ذاته عن أن يكون معروضا للنفع والضر { شيئا } من الضرر والإضرار، بل { وسيحبط } ويضيع سبحانه بأمثال هذه الجرائم والآثام { أعمالهم } [محمد: 32] الصادرة عنهم لتثمر لهم الثواب، فاقلب الأمر عليهم، فيثمر لهم العذاب.
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم إطاعة الله وإطاعة رسوله { أطيعوا الله } المظهر لكم من كتم العدم، المنعم عليكم بأنواع النعم وأصناف الكرم { وأطيعوا الرسول } الهادي، المرشد لكم إلى توحيد الحق وكمالات أسمائه وأوصافه { ولا تبطلوا أعمالكم } [محمد: 33] بالإعراض عن الله، والانصراف عن متابعة رسوله.
{ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا و } الحال أنه { هم كفار } مصرون معاندون على ما هم عليه طول عمرهم { فلن يغفر الله } [محمد: 34] أبدا لإشراكهم بالله وخروجهم عن ربقة عبوديته بمتابعة أهويتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة.
وبعدما أطعتم الله ورسوله أيها المؤمنون، وأخلصتم في إطاعتكم وانقيادكم ثقوا واعتصموا بحبل توفيقه ونصره { فلا تهنوا } ولا تضعفوا عن الجهاد والمقاتلة { و } لا { تدعوا } وتركنوا { إلى السلم } والصلح، وبالجملة: لا تجنوا { وأنتم الأعلون } الأغلبون، أيها الموحدون المحمديون؛ إذ الحق يعلو ولا يعلى { و } كيف لا تتصفون بصفة العلو والغلبة؛ إذ { الله } المحيط بكم { معكم } لا على وجه المقارنة والاتحادن ولا على سبيل الحلول والامتزاج، بل على وجه الظهور والبروز وامتداد الأظلال عليكم وانعكاسكم منها { و } بعدما صار الحق معكم على الوجه المذكور { لن يتركم } ولن يضيع عليكم { أعمالكم } [محمد: 35] التي جئتم بها مخلصين؛ طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه؛ إذ الموعد المعتدل دائما بين الخوف والرجاء، وكيف لا يكون كذلك؛ إذ هو مستو على مستن الصراط المستقيم الذي هو أدق وأرق من كل دقيق ورقيق.
وبعدما سمعت صفة صراط ربك يا أكمل الرسل { إنما الحيوة الدنيا } أي: ما الحياة الدنيا إلا { لعب } يعلب بها أبناء بقعة الإمكان وهم غافلون عن حقيقتها { ولهو } يهلى ويحير قلوبهم في تيه الغفلة والضلال، وهم تائهون فيها ساهون عمن ظهر عليها { و } بعدما سمعتم نبذا من أوصاف دنياكم { إن تؤمنوا } بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته الظاهرة آثارها على هياكل الهوايات المستحقة في الكائنات، وتوكلوا عليه مفوضين أموركم كلها إليه، واتخذوه وكيلا واتخذوه كفيلا، واعتصموا بحبل توفيقه ثقة واعتمادا { وتتقوا } أي: تحفظوا أنفسكم عن الميل إلى ما سوى الحق من الأماني العاطلة الإمكانية، العائقة الدنية الدنيوية، المثمرة لغضب الحق بمقتضى قدرته الجليلة { يؤتكم } بمقتضى إرادته الجليلة الجميلة { أجوركم } التي استوجبتم بصوالح أعمالكم، ويزيد عليكم تفضلا وإحسانا ما لا مزيد عليكم من اللذات الروحانية { ولا يسألكم } ويطلب منكم بمقابلة ما أفاض عليكم من الكرامات { أمولكم } [محمد: 36] أي: جميعها، بل مقدار ما يزكي بها نفوسكم ويطيب لها قلوبكم من الشح المفرط والميل المتبالغ، فكيف أن { يسألكموها } ويطلب منكم سبحانه جميعها { فيحفكم } ويبالغ عليكم في طلب ما اقترفتم؟ { تبخلوا } ألبتة على الله ورسوله، وتظهروا الحقد فلا تعطوا، بل { ويخرج } أي: يبرز ويظهر بخلكم وحقدكم هذا { أضغانكم } [محمد: 37] وشكائمكم التي تضمرونها في نفوسكم.
وبالجملة: { ها أنتم } أيها الحمقى الغافلون عن مقتضى الألوهية والربوبية { هؤلاء } البخلاء المغرورون بحطام الدنيا الدنية، المغمورون في لذاتها وشهواتها الفانية العائقة عن اللذات الأخروية، إنما { تدعون لتنفقوا } مما أنتم مستخلفون فيه { في سبيل الله } فتفوزوا بالمثوبة العظمى والكرامة الكبرى عنده سبحانه، وبعد وصول الدعوة إليكم { فمنكم من يبخل } أي: يمنع ولم يعط بل يظهر ما يضمر في نفسه من الضغن والحقد.
{ و } بالجملة: { من يبخل } من مال بعدما أمر بإنفاقه { فإنما يبخل عن نفسه } إذ نفع الإنفاق وضرر البخل كلاهما عائد إليها { والله الغني } المستغنى بذاته عن هموم صدقاتكم ومطلق طاعاتكم وعباداتكم { وأنتم الفقرآء } المقصورون على الفقر والاحتياج الذاتي إلى ما عنده سبحانه من أنواع الإنعام والإحسان { و } بعدما بلغت لهم يأكمل الرسل ما بلغت من مقتضيات الوحي والإلهام الإلهي { إن تتولوا } وتنصرفوا عن الإيمان وامتثال عموم المأمورات { يستبدل قوما غيركم } أي: يهلككم ويقيم بدلكم قوما يؤمنون ويقيمون بامثتال الأوامر والنواهي { ثم } لما علموا واعتبروا منكم وشاهدوا مقتكم وهلاككم { لا يكونوا أمثالكم } [محمد: 38] كافرين بالله كفارا لنعمه ولحقوق كرمه.
خاتمة السورة
عليك أيها القاصد نحو طريق التوحيد، العازم على سلوك سبيل الفناء المثمر للبقاء الذاتي - أوصلك الله إلى غاية مبتغاك ونهاية ممتناك - أن تعتدل في عموم أوصافك وأخلاقك، سيما في أحوالك التي تتعلق بالإنفاق المأمور عليك بمقتضى الحكمة والعدالة الإلهية، الناشئة من الله عن محض الإرادة والرضا، وإياك إياك البخل والتقتير، فإنه الجالب لحلول غضب الله ونزول أنواع سخطه بمقتضى قهره وجلاله، فعليك الامتثال بالمأمور، والاتكال على الملك الرحيم الغفور.
[48 - سورة الفتح]
[48.1-9]
{ إنا } من مقام عظيم جودنا { فتحنا لك } يا أكمل الرسل { فتحا مبينا } [الفتح: 1] ظاهرا عظيما بأن ألهمنا عليك، وأوضحنا لك طريق الخروج من مضيق الإمكان إلى فضاء الوجوب، ويسرنا لك الترقي والعروج ومن حضيض الجهل وأودية الضلال على ذروة العلم وأوج الوصال.
وإنما فتحنا لك ما فتحنا { ليغفر لك } ويستر عليك { الله } المحيط بعموم أحوالك وشئونك { ما تقدم من ذنبك } الذي عرض عليك بمقتضى بشريتك وإمكانك قبل انكشافك بوحدة الحق { وما تأخر } بعده من تلويناتك في بعض الأحوال المسرة والمؤلمة حسب النشأة البشرية { و } بالجملة: { يتم نعمته } الموعودة لك حسب استعدادك { عليك ويهديك صراطا مستقيما } [الفتح: 2] موصلا على مقصد التوحيد الذاتي.
{ و } بالجملة: { ينصرك الله } الوكيل الكفيل لك في عروجك وترقيك عن بقعة الإمكان { نصرا عزيزا } [الفتح: 3] منيعا غالبا حيث لم يغلب عليك بعد انكشافك بسرائر التوحيد جنود أمارتك وشياطين بشريتك مطلقا.
وكيف لا ينصرك ربك؟ { هو الذي أنزل السكينة } أي: الطمأنينة والوقار { في قلوب المؤمنين } مقتبسين من مشكاة نبوتك نور الولاية اللامعة المتشعشعة من شمس الذات { ليزدادوا إيمنا } بهدايتك وإرشادك { مع إيمنهم } بأنك على الحق المبين { و } كيف لا يزدادون إيمانا يا أكمل الرسل، مع أنك فزت بالفوز العظيم من الوحدة الذاتية وصرت مصونا محفوظا في كنف الحق وجواره، منصورا على عموم أعدائه؛ إذ { لله } وفي حيطة قدرته الغالبة { جنود السموت } أي: مدبرات الأسماء والصفات { و } جنود { الأرض } أي: قوابل الأركان والطبائع التي هي حوامل آثار العلويات المأثورات منها { و } بالجملة: { كان الله } المطلع لعموم ما في استعدادات عباده وقابليتهم { عليما } بحوائجهم لدى الحاجة { حكيما } [الفتح: 4] في تدبيرات أمورهم على وفق الحكمة المتقنة والمصالحة المستحكمة.
كل ذلك { ليدخل } سبحانه بمقتضى سعة رحمته وجوده { المؤمنين والمؤمنات } من أمة حبيبه وصفيه المستخلف منه سبحانه في بريته وعموم خليقته { جنات } منتزهات العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: جداول المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات { خالدين فيها } بلا تلوين وتحويل { ويكفر عنهم سيئاتهم } أي: يمحو عن عيون بصائرهم أشباح أنانيتهم، وأمواج هوياتهم المستحدثة على بحر الوجود، ومن نكبات التعينات وحرص الإضافات { وكان ذلك } الإدخال والإيصال والتكفير { عند الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { فوزا عظيما } [الفتح: 5] وأجرا جميلا، لا فوز أعظم منه وأعلى.
{ و } كما يدخل سبحانه المؤمنين والمؤمنات في روضات الجنات تفضلا وإحسانا { يعذب } أيضا { المنافقين والمنافقات } وهم الذي أخرجوا أعناقهم عن عروة العبودية بمتابعة الأهوية الفاسدة والآراء الباطلة، وأظهروا الإيمان على طرف اللسان بلا إخلاص وإذعان { والمشركين والمشركات } وهم الذين جحدوا في الله الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الشرك مطلقا، وأثبتوا له شركاء ظلما وزورا { الظآنين بالله } المستقل بالألوهية والربوبية { ظن السوء } وهو أنه لا ينصر أولياءه الباذلين مهجهم في طريق توحيدهم، بل تدور { عليهم دآئرة السوء } ويحيط بهم وبال ما تظنونه على أولياء الله، كيف { وغضب الله } المطلع على ما في ضمائرهم { عليهم } بل { ولعنهم } أي: طردهم عن ساحة عز قبوله { وأعد لهم جهنم } الطرد والحرمان { وسآءت } لهم جهنم { مصيرا } [الفتح: 6] أي: مقرا ومنقلبا ومرجعا ومآبا.
{ و } كيف لا يلعنهم سبحانه ولا يغضب عليهم مع أنهم يظنون بالله ظن السوء، ويعتقدونه عاجزا عن نصر أوليائه، مع أنه { لله } وفي حيطة قدرته وتحت تصرفه { جنود السموت والأرض } وله أن يأمرهم ما يشاء، ويغلبهم على من يريد إرادة واختيارا { و } الحال أنه قد { كان الله } المتوحد بالعظمة والكبرياء { عزيزا } غالبا على عموم مراداته ومقدرواته بلا معاونة إحد ومظاهرته { حكيما } [الفتح: 7] في أفعاله المتقنة، يدبرها بالاستقلال وفق حكمته البالغة.
ثم قال سبحانه في مقام الامتنان لحبيبه صلى الله عليه وسلم؛ إظهارا لكمال قدرته الشاملة وحكمته الكاملة: { إنآ } من مقام عظيم جودنا { أرسلنك } يا أكمل الرسل { شهدا } على عموم عبادنا، يشهد لهم عندنا عموم ما صدر عنهم من الصالحات الجالبة لأنواع المثوبات والكرامات { ومبشرا } بهم، يبشرهم برفع الدرجات والفوز بالسعادات { ونذيرا } [الفتح: 8] ينذرهم عن الدركات العائقة عن الوصول إلى جنة الذات التي دونها تجرى بحر الحياة.
كل ذلك { لتؤمنوا بالله } وتذعنوا بتوحيده { ورسوله } أي: تصدقوا برسوله الذي أرسل إليهم من عنده سبحانه { و } بعد اتصافهم بكمال الإيمان والإذعان { تعزروه } سبحانه؛ أي: تعتقدوا أن الحول والقوة بالله جميعا، لا حول ولا قوة لسواه مطلقا { و } بعدما اعتقدتم كذلك { توقروه } وتعظموه حق تعظيمه { و } بعدما وقرتموه وعظمتموه كما ينبغي ويليق بشأنه { تسبحوه } وتنزهوه عما لا يليق بجنابه { بكرة وأصيلا } [الفتح: 9] أي: في عموم أوقاتهم وحالاتهم؛ إذ لا يتأتى منهم بالنسبة إلى جنابه سبحانه إلا التفويض والتعظيم والتنزيه والتقديس، وإلا فما للعباد ورب الأرباب أن يتكلموا عن ذاته وصفاته، سوى أن يخوضوا في لجة بحر توحيده، ويتيهوا في بيداء ألوهيته حتى يفنوا في فضاء صمديته؛ إذ لا إله إلا هو ولا شيء سواه
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88].
[48.10-15]
ثم قال سبحانه بلسان الجمع على سبيل الإرشاد والتكميل: { إن الذين يبايعونك } يا أكمل الرسل، و يختارون متابعتك، ويستهدون من هدايتك وإرشادك { إنما يبايعون الله } الذي استخلفك عليهم وجعلك نائبا عن ذاته فيما بينهم، فعليهم ألا ينقضوا العهد والبيعة التي عهدوا معك، بل وكيف يسع لهم النقض مع أن { يد الله } وقبضة قدرته الغالبة { فوق أيديهم فمن نكث } ونقض البيعة والعهد مع رسوله { فإنما ينكث على نفسه } أي: ما يعود وبال نقضه إلا عليه { ومن أوفى } وحفظ { بما عاهد عليه الله } وهو معاهدتهم مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافته صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه { فسيؤتيه } للوفاء { أجرا عظيما } [الفتح: 10] هو الفوز بشرف اللقاء والتحقيق لدى المولى.
{ سيقول لك } يا أكمل الرسل على سبيل الاعتذار { المخلفون } أي: المنافقون الناقضون للعهود، المتخلفون عن الجهاد { من الأعراب } المجبولين على الكفر والنفاق: { شغلتنآ } عن متابعتك ومشايعتك { أموالنا وأهلونا } أي: ليس لنا متعهد سوانا؛ لذلك حرمنا عن صبحتك وعن أجر الجهاد { فاستغفر لنا } يا رسول الله عند الله حتى يغفر ما صدر عننا من التخلف، لا تبال يا أكمل الرسل بهم وباعتذارهم واستغفارهم هذا، فإنه من شدة شكميتهم وغيظهم وضعف عقيدتهم { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } تغريرا وتلبيسا { قل } لهم على سبيل التفضيح والتبكيت: { فمن يملك } أي: يدفع ويمنع { لكم من الله } القادر المقتدر { شيئا } من غضب الله إن { أراد بكم ضرا أو } شيئا من لطقه ورحمته إن { أراد بكم نفعا } وبالجملة: لا راد لفضله، ولا معقب لحكه { بل كان الله بما تعملون خبيرا } [الفتح: 11] يجازيكم على مقتضى خبرته.
{ بل ظننتم } أيها المتخلفون المثقلون { أن لن ينقلب } ويرجع { الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } بل يستأصلهم العدو، فلن يرجع منهم أحد من سفرهم هذا، بل { وزين } أي: حبب وحسن { ذلك } الاستئصال وعدم الرجوع ، وتمكن { في قلوبكم و } قد { ظننتم } بزعمكم هذا { ظن السوء } بالله ورسوله والمؤمنين { و } بالجملة: { كنتم } أزلا { قوما بورا } [الفتح: 12] هالكين في تيه الجهل والعناد.
{ و } بالجملة: { من لم يؤمن بالله ورسوله } اي: لم يجمع بين الإيمان بالله وتصديق الرسول المستخلف منه سبحانه { فإنآ } بمقتضى قهرنا وجلالنا { أعتدنا } وهيأنا { للكافرين } المصرين على الكفر والتكذيب { سعيرا } [الفتح: 13] نارا مسعرة ملتهبة تحيط بهم؛ جزاء ما أوقدوا في نفوسهم نار الفتن والطغيان لأولياء الله.
{ و } كيف لا ينتقم عنهم سبحانه مع أنه { لله ملك السموت والأرض } وله التصرف فيهما بالاستقلال والاختيار { يغفر لمن يشآء } فضلا وإنعاما { ويعذب من يشآء } عدلا وانتقاما { وكان الله } المتصف بكمال اللطف والمرحمة { غفورا } لمن تاب وآمن وعمل صالحا { رحيما } [الفتح: 14] يقبل توبة التائبين، ويعفو عن زلاتهم.
ثم لما سمع المخلفون من الأعراب يوم الحديبية أن الله قد وعد المؤمنين فتح خيبر، وخص لهم الغنائم، قصدوا الخروج نحوها طامعين الغنائم؛ لذلك أخبر الله سبحانه حبيبه بقصدهم هذا، فقال: { سيقول المخلفون } المذكورات وقت { إذا انطلقتم إلى مغانم } الموعودة لكم خاصة { لتأخذوها } بفضل الله إياكم: { ذرونا نتبعكم } بغزوتكم هذه وننصركم، مع أنهم لا يقصدون الرفاقة والوفاق في نفوسهم ونياتهم، بل { يريدون } ويقصدون بقولهم هذا أن { يبدلوا } ويغيروا { كلام الله } الدال على تخصيص غنائم خيبر لمن حضر الحديبية بدل غنائم مكة.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل على وجه التأييد في النفي: { لن تتبعونا كذلكم } أي: مثلما سمعتم { قال الله } المطلع على ما في نفوسهم من النفاق والشقاق { من قبل } أي: قبل تهيئاتكم أيها المؤمنون للخروج إلى خيبر { فسيقولون } بعدما سمعوا النهى على وجه التأييد في نفوسهم: ما أمرهم الله هذا { بل تحسدوننا } على أخذ الغنيمة؛ أي: ما حملهم على هذا النهي المؤكد المؤبد إلا الحسد والشح { بل } هم قوم جاهلون { كانوا لا يفقهون } ولا يفهمون مراد الله العليم الحكيم عن منعهم هذا { إلا قليلا } [الفتح: 15] منهم، وهم المصدقون بالله ورسوله في سرائرهم ونجواهم.
[48.16-23]
{ قل } يا أكمل الرسل { للمخلفين من الأعراب } بعدما أيسوا من الخروج إلى خيبر: { ستدعون إلى } غزوة { قوم أولي بأس شديد } وشوكة عظيمة { تقاتلونهم أو يسلمون } أي: مآل أمرهم إما القتل وعزته، وإما الإسلام لا غير { فإن تطيعوا } حنيئذ، ولم تتخلفوا كما تخلفتم يوم الحديبية { يؤتكم الله } المطلع بنياتكم { أجرا حسنا } في الدنيا والآخرة { وإن تتولوا } وتنصرفوا { كما توليتم من قبل } يوم الحديبية { يعذبكم عذابا أليما } [الفتح: 16] لتضاعف جرمكم، وشدة شقاقكم ونفاقكم.
ثم أخذ سبحانه في تعداد ما يرخص لهم التخلف والقعود على سبيل الاضطرار فقال: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } أي: ليس لهؤلاء وزر مؤاخذة إن تخلفوا عن القتال بأمثال هذه الأعذار إن كانوا من أهل الطاعة والإيمان { ومن يطع الله ورسوله } على وجه الإخلاص والوفاق بلا بطانة ونفاق { يدخله } سبحانه بمقتضى فضله وسعة رحمته وجوده { جنت } منتزهات الكشوف والشهود { تجري من تحتها الأنهر } من المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية، المنتشئة من النفسات الرحمانية { ومن يتول } أي: يعرض وينصرف عن مقتضى العدالة الإلهية بمتابعة الآراء الفاسدة والأهوية الباطلة { يعذبه } بمقتضى قهره { عذابا أليما } [الفتح: 17] في نيران الإمكان، لا عذاب أشد إيلاما منه.
ثم قال سبحانه على وجه التحريض والترغيب للمؤمنين: { لقد رضي الله عن المؤمنين } المخلصين في الإطاعة والانقياد { إذ يبايعونك } يا أكمل الرسل { تحت الشجرة } يوم الحديبية بيعة الرضوان، والشجرة هي: السمرة أو السدرة { فعلم } سبحانه بعلمه الحضوري { ما في قلوبهم } من الرغبة والإخلاص { فأنزل السكينة } أي: الطمأنينة والوقار { عليهم وأثابهم } بعدما أيسوا عن فتح مكة، ورجعوا من الحديبية { فتحا قريبا } [الفتح: 18] هو فتح خيبر بعد رجوعهم منها.
{ و } رزق لهم خاصة { مغانم كثيرة يأخذونها } من خيبر بعد غنائم مكة { و } بالجملة: { كان الله } المراقب لأحوال عباده { عزيزا } غالبا على عموم مقدوراته { حكيما } [الفتح: 19] مراعيا مقتضى الحكمة البالغة.
إنه { وعدكم الله } أيها المؤمنون المخلصون في إطاعة الله ورسوله { مغانم كثيرة تأخذونها } من أيدي الكفرة إلى قيام الساعة؛ إذ يظهر دينكم على الأديان كلها { فعجل لكم هذه } غنائم خيبر { وكف أيدي الناس عنكم } أي: أهل خيبر وأوليائهم، وكفى مؤنة عموم من قصد السوء على أموالكم وذراريكم { و } إنما فعل بكم سبحانه ذلك { لتكون } هذه الكفة والغنيمة { آية } علامة وأمارة { للمؤمنين } الذين يأتون بعدكم، ويقتفون أثركم بأن المؤمن المخلص في جوار الله وكنف حفظه وحضانته { ويهديكم صراطا مستقيما } [الفتح: 20] هو لثقة بالله وبكرامته ونصره لأوليائه.
{ و } كذا عجل لكم عناية من الله إياكم مغانم { أخرى } مع أنكم { لم تقدروا عليها } لشوكة الأعداء وكثرة عددهم وعددهم، بل فررتم أنتم منهم مرارا { قد أحاط الله بها } وأباحها عليكم بالنصر والغلبة عليهم مع أنكم خائفون وجلون منهم، وهي مغانم هوازن وفارس { و } بالجملة: { كان الله على كل شيء } دخل في حيطة علمه وإرادته { قديرا } [الفتح: 21] لا يعجز عنه ولا يفتر دونه؛ إذ القدرة من جملة الأوصاف الغالبة الذاتية الإلهية، التي لا تفتر به ولا تضعف بحال.
{ و } من كمال قدرته ونصره لأوليائه: إنه { لو قتلكم الذين كفروا } بعدما فررتم منهم وجبنتم عنهم { لولوا الأدبار } عنكم بنصر الله إياكم { ثم } بعدما ولوا { لا يجدون وليا } يولى أمرهم { ولا نصيرا } [الفتح: 22] ينصرهم وينقذهم من أيديكم.
ولا تستبعد يا أكمل الرسل من قدرة الله أمثال هذا؛ لكونها { سنة الله التي قد خلت } أي: مضت واستمرت { من قبل ولن تجد لسنة الله } التي جرت منه سبحانه بمقتضى حكمته { تبديلا } [الفتح: 23] ولا لحكمة الصادر عنه بالإرادة والاختيار تغييرا وتحويلا.
[48.24-29]
{ و } كيف تبدل سنة الله وتغير حكمته مع أنه { هو } القادر المقتدر { الذي كف } وضع { أيديهم } أي: أيدي كفار مكة { عنكم } حين استيلاءهم عليكم { وأيديكم عنهم } حين غلبتم عليهم { ببطن مكة من بعد أن أظفركم } وأظهركم { عليهم } وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج مع خمسمائة إلى الحديبة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مطة، ثم قال: { و } بالجملة: { كان الله } العليم الحكيم { بما تعملون } من خير وشر { بصيرا } [الفتح: 24] خبيرا، لا يعزب عنه شيء مما جرى عليكم، يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته.
وكيف لا يجازي الكفرة سبحانه بأسوء الجزاء؟ إذ { هم الذين كفروا } بالله ظلما وعدوانا { و } لم يقتصروا على الكفر فقط، بل { صدوكم } أي: حصوركم وصرفوكم { عن المسجد الحرام } عام الحديبية { و } الحال أنه قد صار { الهدي } أي: الذبائح والقرابين التي ساقها رسول الله { معكوفا } محبوسا قريبا أن { } يبلغ محله أي: مذبحة الذي عينه الله لذبح الضحايا، وهو المنى.
{ ولولا رجال مؤمنون ونسآء مؤمنات } في خلالهم، لم يكف سبحانه أيديكم عنهم، بل نصركم عليهم واستأصلتموهم بالمرة، لكن لما كان بينهم من المؤمنين والمؤمنات كف سبحانه أيديكم عنهم مخافة { لم تعلموهم } أي: المؤمنين المخلوطين بهم، ولم يميزوهم من الكفار { أن تطئوهم } تدوسوهم { فتصيبكم منهم } أي: من أجل المؤمنين المخلوطين بالكافرين وجهلهم { معرة } أي: مضرة وكروه من لزوم دية وكفارة، وإثم عظيم وتعيير شديد، وغير ذلك من المنكرات مع أنه إنما صدر عنكم الوطاءة والدوس لو صدر { بغير علم } وخبرة، وإنما كف أيديكم عنهم حين أظفركم عليهم { ليدخل الله } المطلع بما في استعدادات عباده من الإيمان والكفر { في رحمته } التي هي التوحيد والإسلام { من يشآء } منهم حتى { لو تزيلوا } وتفرقوا أي: المؤمنين من الكافرين { لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } [الفتح: 25] في غاية الإيلام من السبي والجلاء وأنواع المصيبة والبلاء.
اذكر يا أكمل الرسل إذ { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } الأنفة والغيرة لا على وجه الحق بل { حمية الجاهلية } وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية، فهم بقتال أهل مكة، بعثوا سهيل بن عمر وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص؛ ليرجع من عامه، وتخلى له مكة من العام القابل ثلاثة أيام.
" فقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة " ، فقالوا: ما نعرف هذا، اكتب: بسمك اللهم، هذا ما صالح محمد بن عبد الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: " اكتب ما يريدون "
فكتب، فهم المؤمنون أن يبطشوا { فأنزل الله سكينته } ووقاره { على رسوله وعلى المؤمنين } إذ هم أحقاء بالطمأنينة والوقار وكظم الغيظ وتوطين النفس بالمكاره { و } بالجملة { ألزمهم } سبحانه { كلمة التقوى } واختار لهم صون النفس عن التهور والغلظة { وكانوا أحق بها } من غيرها { وأهلها } أي: كانوا أهلا لحفظها ورعايتها { و } بالجملة: { كان الله } المراقب لعموم أحوالهم { بكل شيء } يليق بهم وينبغي لهم { عليما } [الفتح: 26] يوفقهم عليه ويسهل عليهم الاتصاف به.
ثم لما رأى صلى الله عليه وسلم في منامه أنه وأصحابه دخلوا مكة أمنين، وقد حلقوا وقصروا، فقص صلى الله عليه وسلم الرؤيا على أصحابه، ففرحوا وظنوا أن ذلك في عامهم هذا، فلما تأخر بالصلح والمعاهدة، قال بعضهم: والله ما حلقنا وما قصرنا وما رأينا البيت، فنزلت: { لقد صدق الله رسوله الرءيا } أي: جعله سبحانه صادقا في ما رأة ملتبسا { بالحق } والله أيها المؤمنون { لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين } من العدو؛ إذ ما أريناه ما أريناه إلا بالحق { محلقين رءوسكم } على الوجه المتعارف { ومقصرين } كما هو عادة الحجاج يحلق بعضهم ويقصر بعضهم، وبالجملة: { لا تخافون } بعد ذلك؛ إذ الله معكم { فعلم ما لم تعلموا } من أنفسكم، ولا تستعجلوا إلى الفتح؛ إذ هو مرهون بوقته { فجعل } لكم { من دون ذلك } أي: فتح مكة { فتحا قريبا } [الفتح: 27] هو فتح خيبر؛ ليطمئن به قلوبكم إلى أن يتيسر لكم الفتح الموعود الذي أخبر به نبيكم الصادق المصدوق.
وكيف لا يصدق سبحانه مع أنه { هو الذي أرسل رسوله } ملتبسا { بالهدى } والإرشاد إلى سبيل توحيده { ودين الحق } الفاروق بين الباطل والضلال، ووعد له { ليظهره } أي: دينه { على الدين كله } أي: جنس الأديان النازلة من عنده بأن نسخ الجميع به { وكفى بالله شهيدا } [الفتح: 28] على صدقه في رؤياه وفي دعوته ونبوته، وإظهار أنواع المعجزة بيده.
إنه قال سبحانه: { محمد رسول الله } حق، مرسل من عنده، مبعوث إلى كافة البرايا؛ ليهديهم إلى توحيده الذاتي { والذين معه } من المؤمنين له، المصدقين لدعوته، المتعطشين بزلال مشربه { أشدآء على الكفار } الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الآفاق والأنفس، يدفعون مؤمنة كثراتهم الوهمية بترويج الحق على الباطل، وإعلاء كلمة التوحيد، وتقويم الدين القويم وإظهاره على سائر الأديان { رحمآء بينهم } متواضعون مع أهل الحق وأرباب التوحيد؛ لذلك { تراهم } في عموم أوقاتهم { ركعا سجدا } أي: راكعين، ساجدين، متذللين، خاضعين، خاشعين، بلا رعونة ولا رياء ولا سمعة ولا هوى، بل { يبتغون } ويطلبون بتذللهم هذا { فضلا من الله ورضوانا } منه سبحانه، وبالجملة: { سيماهم } أي: سمتهم وعلاماتهم الدالة على نجابة طينتهم وكرامة فطرتهم ظاهرة { في وجوههم من أثر السجود } وكثرة التذلل والخشوع نحو الحق { ذلك } المذكور من أوصافهم { مثلهم } وصفتهم العجيبة المذكورة { في التوراة ومثلهم } هكذا أيضا { في الإنجيل }.
وبالجملة: مثلهم في بدء ظهورهم وخروجهم أولا في غاية الضعف والنحافة، واشتدادهم وغلظهم على الأعداء، ووفور رأفتهم ورحمتهم على الأولياء ثانيا { كزرع } أي: كمثل زرع وقع على الأرض ضعيفا وبرز منها نحيفا، ثم ظهر عليها ونبت قويا يوما فيوما إلى حيث { أخرج شطأه } أي: أفراخه وأغصانه دقيقا دقيقا { فآزره } قومه بالمعاونة { فاستغلظ } وعاد غليظا بعدما رباه وأحسن تربيته { فاستوى } واستقام بعد ذلك { على سوقه } أي: قصبه وساقه على وجه { يعجب الزراع } عند رؤيته بكمال كثافته وغلظته ونضارته ولطافته.
وإنما رباهم سبحانه وقواهم على أبلغ وجه وأحسنه { ليغيظ } ويتحسر { بهم الكفار } المخالفون المخاصمون لهم من كمال تشددهم وترقبهم، وبالجملة: { وعد الله } المطلع على ما في استعداداتهم عباده من الإخلاص والتفويض { الذين آمنوا } بكمال المحبة والتسليم { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } المقربة لهم إلى الله { منهم } أي: من جنسهم { مغفرة } سترا ومحوا لأنانياتهم الباطلة { وأجرا عظيما } [الفتح: 29] هو الفوز بشرف اللقاء، والوصول إلى سدرة المنتهى، وليس وراء الله مرمى.
رزقنا الله الوصول إليه، والوقوف بين يديه.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات - مكنك الله في مقعد الصدق، ووطنك في مقر التوحيد - أن تعتدل في عموم أوصافك، وأخلاقك وأعمالك، مجتنبا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط، معرضا عن قصور مطلق التخمين والتقليد، مقتصدا في جميع أطوارك وشئونك، مقتفيا في جميع أخلاقكم وأطوارك أثر نبيك الهادي إلى سواء السبيل حتى ينفتخ لك أبواب عموم الكرامات والسعادات، وينغلق دونك مداخل أنواع المكروهات والمنكرات، وإياك إياك أن تختلط مع أهل الغفلة وأصحاب الجهالات المترددين في أودية الغي والضلالات؛ ليتيسر لك التحقق إلى فضائل الوصال؟
جعلنا الله من زمرة أوليائه المقتصدين، الذين ثبتوا على الصراط المستقيم.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1-4]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: مراعاة الأدب مع الله ورسوله، فعليكم أن { لا تقدموا } ولا تتقدموا في أمر من الأمور وحكم من الأحكام { بين يدي الله ورسوله } أي: لا تبادروا بإمضاء الأحكام ما لم تشاوروا بكتاب الله وسنة رسوله ولم تعرضوها عليهما { واتقوا الله } الغيور المطلع على ما في ضمائركم ونياتكم، واحذروا عن المسابقة والمبادرة في الأقوال والأحكام بمقتضى أرائكم وأهوائكم { إن الله } المراقب عليكم في عموم أحوالكم { سميع } لأقوالكم { عليم } [الحجرات: 1] بنياتكم فيها.
{ يأيها الذين آمنوا } من خصائص إيمانكم بالله وبرسوله أن { لا ترفعوا أصواتكم } وقت التكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم { فوق صوت النبي } ولا تخلطوا أصواتكم مع صوته، بل { و } عليكم أن { لا تجهروا له } صلى الله عليه وسلم { بالقول } مطلقا { كجهر بعضكم لبعض } إذ الجهر بالقول معه مخل لحرمته وتعظيمه، وإنما نهاكم سبحانه عنه؛ كراهة { أن تحبط } وتضيع { أعمالكم } أي: الصالحات منها { وأنتم لا تشعرون } [الحجرات: 2] إحباطها وضياعها.
وبالجملة: { إن } المؤمنين المحسنين { الذين يغضون } ويحفظون { أصواتهم عند رسول الله } مراعاة لتعظيمه، وحفظا للأدب معه { أولئك } السعداء المقبولون، هم { الذين امتحن الله } المجرب لإخلاص عباده { قلوبهم } التي هي وعاء الإخلاص والإيمان ليجعلها مقرا { للتقوى } المثمرة لأنواع اللذات الروحانية { لهم مغفرة } ستر وعفو عن مقتضيات بشريتهم { وأجر عظيم } [الحجرات: 3] هو تحققهم بمقام الرضا والتسليم.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إن } المسرفين المسيئين { الذين ينادونك } يا أكمل الرسل { من ورآء الحجرات } حين كنت مستريحا في خلوتك، فارغا همك عن مقتضيات النبوة، متوجها إلى ربك حسب ولايتك { أكثرهم لا يعقلون } [الحجرات: 4] ولا يفهمون منزلتك عند ربك، ولا يتفطنون بخوتك معه واستغراقك بمطالعة وجهه الكريم؛ إذ لو كان لهم عقل يوقظهم من مقام الغفلة ويرشدهم ألبتة إلى مراعاة الأدب معك يا أكمل الرسل.
[49.5-11]
{ و } بالجملة: { لو أنهم صبروا } حين احتياجهم إليك وإرادتهم صحبتك { حتى تخرج إليهم } لهدايتهم وإرشادهم بمقتضى شفقة النبوة { لكان خيرا لهم } وأولى من مبادرتهم واستعجالهم إلى النداء { والله } المطلع بما في ضمائرهم من الإخلاص { غفور } يغفر زلتهم إن وقعت منهم أحيانا { رحيم } [الحجرات: 5] يرحمهم إن كانوا من ذوي الإخلاص مع الله ورسوله.
ثم نادى سبحانه عمو المؤمنين المخلصين نداء إرشاد وتعليم؛ تهذيبا لأخلاقهم عما لا يليق بشأن الموحدين، فقال: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم بالله: حسن الظن بإخوانكم المؤمنين، فعليكم { إن جآءكم فاسق } منحرف عن عدالة الإيمان والتوحيد { بنبإ } وخبر على سبيل الافتراء والمراء { فتبينوا } أي: تعرفوا وتفحصوا واستكشفوا عنه، ولا تبادروا إلى تصديقه؛ كراهة { أن تصيبوا قوما } أذية وسوءا بمجرد الظن الكاذب، مع أنكم { بجهالة } أي: جاهلين بحاله { فتصبحوا } وتصيروا بعدما تصيبوا القوم البريء { على ما فعلتم } من أذياتهم { نادمين } [الحجرات: 6] محزونين مغتمين، كلما تذكرتهم تغممتم.
{ واعلموا } أيها المؤمنون { أن فيكم } وبين أظهركم { رسول الله } وسنته السنية، الموروثة له من ربه بعد مماته، فعليكم الإطاعة والمراجعة إليه حين حياته، وإلى سننه وشرعه في مطلق الأمور والعرض عليه وعليهما والمشاورة معه، فعليكم ألا تكفلوه إلى قبول ما حسنت لكم نفوسكم من الأمور، فإنه { لو يطيعكم } ويقبل قولكم { في كثير من الأمر لعنتم } أتممتم وهلكتم في الإثم ألبتة، واستغرقتم فيه؛ إذ من مقتضى إيمانكم وانقيادكم له أن تفوضوا أموركم كلها إليه، وتستصوبوها منه، فإن صوب بعضها فيها، وإلا فلا تكلفوه؛ إذ منصب النبوة ومقتضى الحكمة يأبى عن ذلك { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } يعني: لا تعتذروا في إصابة البريء بمجرد القول الباطل والظن الفاسد بمحبة الإيمان وكراهة الكفر، فإنه سبحانه وإن حبب إليكم الإيمن { وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق } المؤدي إليه { والعصيان } المستلزم له، لكنه إنما حبب الإيمان على مقتضى الصدق والعدالة، وكره الكفر الناشئ عن قصد واختيار، لا أن ينسب إلى من ينسب عن بهتان وزور، فإنه سبحانه لا يرضى لعباده أمثاله، وبالجملة: { أولئك } المؤمنون، المجتنبون عن الزور والتهمة { هم الراشدون } [الحجرات: 7] المقصرون على الرشد والهداية إلى صراط مستقيم، هو صراط التوحيد المشتمل المعتدل بين كلا طرفي الإفراط والتفريط.
وإنما صار رشادهم هذا { فضلا } ناشئا { من الله } المطلع لاستعدادات عباده وقابلياتهم { ونعمة } موهوبة لهم من عنده { والله } المحيط بعموم أحوال عباده { عليم } لحوائجهم المصلحة { حكيم } [الحجرات: 8] في إفاضتها حسب المصلحة.
{ و } من جملة أخلاقكم أيها المؤمنون المعتدلون في مقتضى الإيمان: { إن } كان { طآئفتان } كلتاهما { من المؤمنين اقتتلوا } عند ثوران القوة الغضبية، وهيجان الحمية الجاهلية من كلا الجانبين بسبب الخصومة المستمرة { فأصلحوا بينهما } مهما أمكن الصلح على وفق الحكمة والعدالة { فإن بغت } أي: غوت وغلبت { إحداهما على الأخرى } بحيث أدت بغيها إلى الإفراط والظلم الخارج عن مقتضى العدالة الإلهية { فقاتلوا } بأمر الله، مظاهرين مع الطائفة المغلوبة على الطائفة الغالبة { التي تبغي } وتغوي { حتى تفيء } وترجع { إلى أمر الله } وحكمه المترتب على القسط والعدالة { فإن فآءت } ورجعت عن بغيها وطغيانها { فأصلحوا بينهما } بعدما وقع ما وقع { بالعدل } المنبئ عن الحكمة ورعاية الغبطة بين الجانبين { و } بالجملة: { أقسطوا } واعتدلوا أيها المؤمنون في عموم أحوالكم وأحكامكم { إن الله } المستوي على العدل القويم { يحب المقسطين } [الحجرات: 9] من عباده.
وكيف لا تصلحون بينهما أيها المؤمنون المصلحون؛ { إنما المؤمنون } الموقنون بوحدة الحق، المصدقون لرسوله المبين لطريق توحيده { إخوة } في الدين القويم { فأصلحوا بين أخويكم } بالعدل والإنصاف { واتقوا الله } في صلاحكم هذا عن الميل والانحراف { لعلكم ترحمون } [الحجرات: 10] لأجل عدالتكم وتقواكم.
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم ترك المراء والاستهزاء بحيث { لا يسخر قوم } منكم أيها الرجال القوامون المقيمون لحدود الله { من قوم } أمثالكم في القيام والتقويم؛ أي: أقوياؤكم ورؤساؤكم من أراذلكم وضعفائكم { عسى أن يكونوا } أي: المسخورون المرذولون { خيرا منهم } أي: من الرؤساء الساخرين عند الله، كذا { ولا } لا تسخر منكم { نسآء } عاليات متعززات { من نسآء } سافلات مستضعفات { عسى أن يكن } أي: المستضعفات { خيرا منهن } أي من العاليات عند الله، وكن أقرب إلى رحمته سبحانه منهن { و } كذا { لا تلمزوا } أيها المؤمنين ولا تعيبوا { أنفسكم } أي: بعضكم بعضا؛ إذ المؤمنون كنفس واحدة، فما لحق لهم وعليهم إنما لحق بهم وعليهم جميعا { و } عليكم أن { لا تنابزوا بالألقاب } أي: لا يدعوا بعضكم بعضا باللقب السوء الدال على الذم والقبح، فإن النبذ إنما يستعمل في اللقب السوء، وإنما نهيتم عما نهيتهم؛ لأنه من جملة الفسوق والعصيان المستلزم لأنواع الخيبة والحرمان، المسقط للمروءة والعدالة المترتبة على الحكمة الإلهية.
وبالجملة: { بئس الاسم الفسوق } المنبئ عن الخروج والانحراف عن صراط الحق سيما { بعد الإيمان } أي: بعد الاتصاف بالإيمان المنبئ عن كمال الاعتدال { و } بالجملة: { من لم يتب } ولم يرجع إلى الله بعدما صار عنه أمثال هذه الجرائم المذكورة هفوة { فأولئك } البعداء المصرون على الغواية والطغيان { هم الظالمون } [الحجرات: 11] المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإليهة.
[49.12-18]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: متابعة اليقين في عموم الأحوال والمقامات، وترك الظنون والجهالات في جميع الحالات إلا ظن الخير بالله وبخلص عباده من الأنبياء والأولياء، المستبعدين بمراحل عن التهمة والتغرير { اجتنبوا كثيرا من الظن } المورث لكم المراء والمجادلة مع الله ورسوله وعموم المؤمنين، وبالجملة: { إن بعض الظن } هو الملقى إليكم من قبل الشيطان المزور الغوي { إثم } خرج وفسوق عن مقتضى الحدود الإلهية { ولا تجسسوا } أي: من جملة أخلاقكم المحمودة ترك التجسس والتفحص عن خلائل بني نوعكم قطعا عليكم ألا تبحثوا عن عورات المسلمين وغيرهم، سيما بما يوجب هتك حرماتهن من المفتريات الباطلة الشنعية { ولا يغتب بعضكم بعضا } أي: من جملة أخلاقكم، بل من معظمها أيها المؤمنون القاصدون لسلوك طريق التوحيد: ترك الغيبة، وهي: أن يذكر بعضكم بعضا منكم في غيبته بشيء لو كان حاضرا عندكم، ليشق عليه ويكرهه.
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقال:
" أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه، فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته "
وكلاهما خارجان عن اعتدال أهل الإيمان.
ثم أكد سبحانه هذا النهي على وجه المبالغة في التوبيخ، فقال: { أيحب أحدكم } وترضى نسه { أن يأكل لحم أخيه } سيما حال كونه { ميتا } لو فرض عرض هذا عليكم { فكرهتموه } ألبتة؛ إذ لا يمكنكم إنكار كراهته، وغيبة الأخ المؤمن أكرهه واقبح من هذا { و } بالجملة: { اتقوا الله } المنتقم الغيور عن ارتكاب الغيبة المحرمة، وتوبوا إليه عنها وعن أمثالها { إن الله } المطلع على ما في ضمائركم من الندم والإخلاص { تواب } يقبل منكم توبتكم { رحيم } [الحجرات: 12] يمحو عنكم زلتكم بعدما تبتم ورجعتم نادمين عما فعلتم.
ثم أكد سبحانه أيضا هذا الحكم على وجه التفصيل، فقال: { يأيها الناس } الناسون للمنشأ الأصلي والفطرة الجبلية { إنا خلقناكم } أي: أوجدناك وأخرجناكم جميعا { من ذكر } هو: آدم المصور بصورتنا اللاهوتية، المجبول على خلافتنا { وأنثى } هي: حواء المتشعبة من آدم باعتبار ناسوته { و } بعدما صيراناهما زوجين ممتزجين، مزودين من حصة اللاهوت والناسوت { جعلناكم شعوبا } متكثرة من أصل واحد هو آدم { وقبآئل } مختلفة متجزئة من تلك الشعوب.
الشعب: هي الجمع المتكثر المنشعب عن أصل واحد.
والقبيلة: هي الفرق المخلتفة الحاصلة من الشعب.
والعمارة: هي الطائفة المتفرعة من القبيلة.
والبطم: الجمع المتفرع على العمارة.
والفخذ: جمع متفرع على البطن.
والفصيل: على الفخذ.
فخزيمة مثلا شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وعباس فصيل.
وإنما جعلناكم كذلك { لتعارفوا } أي: يعرف بعضكم بعضا، وأدى تعارفكم إلى التلاحق في المنشأ لا للتفاخر والتغالب؛ إذ لا تفاخر بينكم إلا بالكرامة والنجابة المترتبة على حقية اللاهوت، وبالجملة: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } عن لوازم الناسوت وشواغل الهيولي { إن الله } المطلع على استعدادات عباده { عليم خبير } [الحجرات: 13] بما في ظواهرهم وبواطنهم، يوفقهم على مقتضى علمه وخبرته.
ومن عدم امتثالهم وانقيادهم بأمر التعارف والتلاحق الموصى إليهم من قبل الحق { قالت الأعراب } التي هي المثل في اللدد والعناد على سبيل التغالب والتفاخر حين قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين لا عن عزيمة خالصة وقصد صادق، بل عكلى سبيل الخداع والنفاق، ولهذا كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتنان: أتيناك بالأحمال والأثقال، ولم نقاتل معك كما قاتل بنو فلان { آمنا } بك بلا سبق خصومة منا معك، بالجملة يمنون عليك يا أكمل الرسل بإيمانهم الواهي وصدقاتهم الغير وافية { قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما أظهورا ما أضمروا في ضمائرهم من المنة والغلول المنافي للإخلاص والإيمان { لم تؤمنوا } أيها الأعراب بمجرد قولكم آمنا؛ إذ الإيمان إنما هو من أفعال القلوب الصافية عن كدر المن والأذى مطلقا { ولكن قولوا } بدل قولكم " آمنا " { أسلمنا } أي: دخلنا في السلم، وصالحنتا على ألا تخاصم بيننا وبينكم ولا نزاع، وكيف تقولون: آمنا { و } الحال أنه { لما يدخل الإيمان } والإذعان { في قلوبكم } التي هي وعاؤه وهو من أفعالها { و } بالجملة: { إن تطيعوا الله ورسوله } أي: حق إطاعتهما وانقيادهما مخلصين { لا يلتكم } ولا ينقصكم { من أعمالكم شيئا } أي: من أجورها وجزائها إن أخلصتم فيها، وجئتم بها بلا من وأذى { إن الله } المطلع بنيات عباده { غفور } لمن تاب عن فرطاته { رحيم } [الحجرات: 14] يرحم عليه وبقبل توبته.
وبالجملة: { إنما المؤمنون } المخلصون هم { الذين آمنوا بالله ورسوله } وأخلصوا في إيمانكم وإذعانهم؛ ليصلوا إلى مرتبة التوحيد المسقط لعوم الإضافات { ثم } بعدما آمنوا وآيقوا { لم يرتابوا } ولم يشكوا قط فيما آمنوا { و } مع ذلك { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } مع أعداء الله { أولئك } السعداء المقبولون عند الله { هم الصادقون } الحجرات: 15] المقصورون على الصدق والإخلاص، الفائزون عند ربهم بأنواع الفوز والفلاح، المتمكنون في مقعد الصدق عند مليك مقتدر.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما أظهروا الإيمان الجعلي بألسنتهم، ولم تواطئ عليه قلوبهم: { أتعلمون } وتخبرون أيها الجاهلون { الله } المطلع لعموم السرائر والخفايا { بدينكم } وإيمانكم هذا { و } الحال أنه { الله يعلم } بعلمه الحضوري جميع { ما في السماوات } من الغيوب والشهادات { و } جميع { ما في الأرض } أيضا كذلك { و } بالجملة: الله المحيط بالكل { بكل شيء } دخل في حيطة الوجود { عليم } [الحجرات: 16] لا يعزب عن علمه شيء مما لمع عليه برق الوجود.
ثم قال سبحانه تعليما لحبيبه صلى الله عليه وسلم وإرشادا: { يمنون عليك } يا أكمل الرسل { أن أسلموا } إسلامهم، ودخولهم في السلم مع أنهم ليسوا مؤمنين مذعنين { قل } في جوابهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { لا تمنوا علي إسلامكم } أي: بإسلامكم هذا، ولا تعدوا أنفسكم من جملة الموقنين بمجرد ما تفوهتم بالإيمان { بل الله } العالم لعموم السرائر والخفايا { يمن عليكم أن هداكم } أي: يهديكم وأرشدكم { للإيمان } المثمر للعرفان، المستلزم للتوحيد وعلى العيان { إن كنتم صادقين } [الحجرات: 17] في إيمانكم، موافقين قلوبكم بألسنتكم، مطابقين لجامع أنكم لستم كذلك.
وبالجملة: { إن الله } المطلع في ضمائر عباده من الثقة والإخلاص { يعلم } بحضرة علمه الحضوري { غيب السموت والأرض و } بالجملة: { الله } المراقب بعموم أحوالكم وأطواركم { بصير بما تعملون } [الحجرات: 18] من الأعمال خيرا كان أو شرا، يجازيكم بمقتضى بصارته وعلمه.
جعلنا الله من زمرة المؤمنين الموقنين المخلصين الذين
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة: 62].
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، المتمكن المتحقق في مقام التوحيد الذاتي - مكنك الله في مقر عزك وتمكينك - أن تترفع بنفسك عن مطلق الزذائل المتعلقة بالأهوية الفاسدة والأماني الكاسدة، سيما عن المن والأذى في الإنفاق، ورعونات السمعة والرياء في مطلق الطاعات، وإياك إياك أن تتفوق على أحد من بني نوعك وإخوانك في عموم حالاتك وأزمانك، فإنه من شيم أصحاب النخوة والكفران المورث لهم أنواع الخيبة والخسران وأصناف الخذلان والحرمان، ولك أن تلازم التواضع والانكسار مع عموم المظاهر والمجالي، والاعتزال عن مطلق أصحاب الجاه والاعتبار، والقناعة مع الكفاف والعزلة.
جعلنا الله ممن تنبه على منهج الصدق والصواب، واجتنب عما ينافيه بتوفيق الحق وتيسيره.
[50 - سورة ق]
[50.1-15]
{ ق } أيها الإنسان الكامل، القابل لخلعة الخلافة والنيابة الإلهية والقيم، القائم لتبليغ الوحي والإلهام المنزل عليك من عنده سبحانه على عموم الأنام، القائد لهم إلى توحيد الملك العلام القدوس السلام، ذي القدرة والقوة الكاملة الشاملة على أنواع الإنعام والانتقام { و } حق { القرآن المجيد } [ق: 1] العظيم المنزل من المجيد العظيم أنك يا أكمل الرسل لمرسل إلى كافة الخلق من الحق على الحق بالحق؛ لتبيين طريق الحق وتوحيده، وبعدما لم يجد المنكرون فيك يا أكمل الرسل شيئا شينا يدعوهم ويبعثهم إلى أنكارك وتكذيبك صريحا، اضطروا إلى العناد والمكابرة.
{ بل عجبوا } واستبعدوا أولئك الحمقى الجاهلون { أن جآءهم منذر منهم } أي: بعث إليهم رسول من جنسهم وبني نوعهم، ينذرهم عن أهوال يوم القيامة وأفزاعها مع أنهم منكرون للحشر وإرسال البشر جميعا { فقال الكافرون } المستبكرون بعدما سمعوا منك الدعو والإنذار من شدة إنكارهم واستبعادهم: { هذا } أي: إرسال البشر إلى البشر، والإنذار من الحشر المحال كلامها { شيء عجيب } [ق: 2] وأمر بديع، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
ثم فصلوا ما أجملوا على سبيل التعجب والإنكار، فقالوا مستفهمين، ومستفيدين فيما بينهم، مستعيذين: { أءذا متنا } أي: أنرجع ونعود أحياء كما كنا إذا متنا { وكنا ترابا } وهباء منبثا { ذلك } العود والرجوع { رجع بعيد } [ق: 3] عن الوقوع وقبول العقول.
ثم قال سبحانه ردعا لهم وردا عليهم: وكيف تستبعدون وتنكرون عنا قدرتنا على بعث الموتى وإعادتهم أحياء كما كانوا؟! مع أنا { قد علمنا } على التفصيل والتحقيق { ما تنقص } تأكل وتضمحل { الأرض منهم } أي: من أجزائهم وأوصالهم، وكيف لا نعلم { وعندنا كتاب حفيظ } [ق: 4] حاصر لتفاصيل الأشياء، حافظ لها، ألا وهو حضرة علمنا الحضوري ولوح قضائنا.
{ بل } هو من غاية عمههم وسكرتهم، وكمال غيرهم وغفلتهم { كذبوا بالحق } الصدق المطابق للواقع، المؤيد بالبرهان الساطع والدليل القاطع، وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { لما جآءهم } وحين بعث إليهم على الحق؛ لتبيين الحق وتمييزه عن الباطل؛ لذلك أنكروا البعث الذي جاء لتبيينه وللإنذار بما فيه من أنواع العقاب والعقوبات، وبالجملة: { فهم } بمقتضى أحلامهم السخيفة مغمورون { في أمر مريج } [ق: 5] مضطرب، مخلوط، يلتبس عليهم حقيته صلى الله عليه وسلم وحقية ما جاء به من عند ربه؛ لذلك يضطربون في شأنه ويقولون تارة: إنه شاعر، وتارة: إنه ساحر وكاهن، وتارة: إنه مجنون مخبط، مختل العقل، يتكلم بكلام المجانين، إلى غير ذلك من المفتريات الباطلة.
{ أفلم ينظروا } ولم يتفكروا حين أنكروا الحشر والبعث { إلى السمآء } المطبقة المعقلة { فوقهم كيف بنيناها } ورفعناها بلا أعمدة وأساطين { وزيناها } بالكواكب المتفاوتة في الإضاءة والتنوير { وما لها من فروج } [ق: 6] نتوء وفتوق، بل خلقناها ملساء متوازية السطوح متلاصقة الطباق.
{ و } لم ينظروا أيضا { الأرض } ولم يدبروا فيها كيف { مددناها } أي: مهدناها وبسطناها بكمال قدرتنا وحكمتنا { وألقينا فيها } وعليها { رواسي } جبالا ثوابت شامخات { وأنبتنا فيها من كل زوج } صنف من النبات { بهيج } [ق: 7] حسن كريم، تبهج بها عيون الناظرين وتسر قلوبهم.
وإنما خلقنا ما خلقنا من العجائب والغرائب؛ ليكون { تبصرة وذكرى } أي: عظة وعبرة دالة على كمال قدرتنا ومتانة حكمتنا وحكمنا { لكل عبد منيب } [ق: 8] راجع إلينا، متوجه نحونا بكمال التبتل والتفويض؛ ليتبصروا ويتذكروا بها كمال اقتدارنا واختيارنا في خلق عموم المرادات والمقدورات، ومن جملتها حشر الأموات، وبعثهم من قبورهم أحياء.
{ و } كيف يسع لأولئك الحمقى إنكار قدرتنا على الإعادة مع أنا { نزلنا من السمآء مآء مبركا } كثير الخير والبركة { فأنبتنا به } بعد تنزله على الأرض اليابسة الميتة { جنت } أي: حدائق ذات بهجة وبهاء ونزاهة وصفاء { و } لا سيما { حب الحصيد } [ق: 9] من البر والشعير وسائر الحبوب المحصودة للتقوت والتعيش.
{ و } أنبتنا به خصوصا { النخل } وجعلناها { باسقات } طوال محتملات { لها طلع } ثم ذو عنقود { نضيد } [ق: 10] منضود منضد بعضه فوق بعض من كمال كثرته.
وإنما أنبتا ما أنبتنا؛ ليكون { رزقا للعباد } يرتزقون بها ويشكرون منعهما ومبدعها { و } بالجملة: { أحيينا به } أي: بالماء المنزل من السماء { بلدة ميتا } يابسة جدبة، لا كلأ فيها ولا نماء { كذلك الخروج } [ق: 11] أي: خروجهم من قبورهم أحياء بقدرتنا مثل ذلك، فمن أين ينكرون ويستبعدون أولئك الحمقى الجاهلون بقدرة العليم الحكيم؟!
وليس هذا التكذيب والإنكار ببدع من هؤلاء المكذبين المنكرين يا أكمل الرسل، بل قد { كذبت قبلهم } مثل تكذيبهم وإنكارهم { قوم نوح } أخاك نوحا عليه السلام حين بعث إليهم وأنذرهم، ونهاهم عما هم عليه من الكفر والجحود والخروج عن مقتضى الحدود { و } كذا { أصحاب الرس } وهو بئر كانوا يسكنون حوله أخاك حنظلة بن صفوان عليه السلام { و } كذب { ثمود } [ق: 12] أخاك صالحا عليه السلام، فعقروا الناقة المقترحة.
{ وعاد } أخاك هودا عليه السلام { وفرعون } وملؤه أخاك موسى الكليم { وإخوان لوط } [ق : 13] سماهم إخوانه؛ لأنهم أصهاره، أخاك لوطا عليه السلام.
{ وأصحاب الأيكة كل كذب الرسل } أخاك شعيبا عليه السلام { وقوم تبع } وهو تبع الحميري، واسمه أسعد أبو كريب، كذبوا علماءهم وأئمتهم المصلحين وإرشادهم أمثال هؤلاء المسرفين المكذبين لك يا أكمل الرسل { فحق } أي: حل ولحق عليهم { وعيد } [ق: 14] الموعود لهم بتكذيبهم وإصرارهم، فهلكوا واستؤصلوا، فكذا هؤلاء المكذبون المسرفون سيهلكون ويستأصلون عن قريب، فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم ولا تستعجل لهم فسيرون ما يوعدون.
ثم قال سبحانه على سبيل الإنكار والاستبعاد على المنكرين المستعبدين بالحشر والبعث: { أفعيينا } أي: ينكرون قدرتنا على الإعادة، وتظنون أن صرنا عاجزين { بالخلق الأول } أي: الإبداء الإبداعي عن الخلق الثاني الإعادي، ويزعمون أن قدرتنا تفتر وتضعف عند الخلق الأول، بل ينتهي دونه، ولم يعلموا أن قدرتنا لكل مقدور من المقدورات في كل آن من الآناء على شأن من الشئون الكمالية، بحيث لم يمض مثله، ولا يتأتى شبهه { بل } يتفطن بمقتضى الفطرة الأصلية أن { هم } في أنفسهم دائما { في لبس } وخلع { من } توارد { خلق جديد } [ق: 15] منا، وإيجاد متجدد من قبلنا في كل آن وزمان حسب قدرتنا واختيارنا.
[50.16-35]
{ و } بالجملة { لقد خلقنا الإنسان } وأظهرناه من كتم العدم { و } نحن { نعلم } منه حنيئذ { ما توسوس } وتحدث { به نفسه } وتخطر بباله الآن من أمثال هذه الأوهام والخيالات الباطلة، والمترتبة على حصة ناسوته، المقيدة بسلاسلا الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول، الممتزج بالوهم بسلاسل الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول، الممتزج بالوهم الجهول { و } كيف لا نعم من هواجس نفسه؛ إذ { نحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ق: 16] أي: وريده، وهو مثل من القرب المفرط، كما قال: الموت أدنى لي من الوريد، وإضافة الحبل إليه للبيان، وبالجلمة: نحن أقرب إليه منه.
الوريدان: هما العرقان المنبثان من مقدم الرأس، المتنازلان من طرفي العنق، المتلاصقان عند القفا، المنتهيان إلى آخر البدن، وهما قوام البدن ومداره عليهما؛ إذ هما أقوى عالم هيكل الإنسان.
وبالجملة: نحن حسب روحنا المنفوخ فيه من عالم اللاهوت أقرب إليه من ناسوته، لا على توهم المساففةن ولا على طريق التركب والاتحاد والحلول والامتزاج، بل على وجه الظلية والانعكاس، ومع غاية قرب الحق إليه وكمال إحاطته إياه، وكل عليه الحفظة من الملائكة؛ ليراقبوا أحواله إلزاما للحجة عليه لدى الحاجة يوم القيامة.
اذكر يا أكمل الرسل: { إذ يتلقى } ويتحفظ { المتلقيان } الموكلان عليه { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ق: 17] أي: قاعد كل من الموكلين عن يمنه وشماله، مترقبين على أحواله وأعماله وأقواله، بحيث { ما يلفظ } ويتلفظ { من قول } يرميه من فيه { إلا لديه رقيب } حفيظ عليه { عتيد } [ق: 18] مهيأ، معد، حاضر عنده، غير مغيب على وجه لا يفوت عنه شيئا من ملتقطاته.
{ و } هما يحفظانه ويرقبان عليه وقت؛ إذ { جاءت } وحضرت { سكرة الموت } شدته وغمراته { بالحق } والحقيقة وظهرت علاماته، وانكشفت عليه أهواله وأماراته، قيل له حينئذ من قبل الحق: { ذلك } أي: الموت الذي ينزل عليك الآن { ما كنت منه تحيد } [ق: 19] أي: الموت الذي أنت تميل، وتفر عنه فيما مضى.
{ و } بعدما ذاق مرارة العذاب وقت سكرات الموت { نفخ في الصور } للبعث والحشر، فإذا هو حينئذ قائم، هائم ينظر، قيل له من قبل الحق على سبيل التهويل: ألست تنظر وتتحير يا مسكين؟! { ذلك } اليوم الذي أنت فيه الآن { يوم الوعيد } [ق: 20] الموعود لك في دار الدنيا، وأنت حينئذ لم تؤمن به ولم تخف من أهواله حتى وقعت فيه، وذقت من عذابه.
{ و } بعدما بعث الأموات من أجداثهم للحشر والجزاء { جآءت } وحضرت { كل نفس } من النفوس الطيبة والخبيثة { معها سآئق } موكل، يسوقها إلى المحشر للعرض والجزاء { وشهيد } [ق: 21] من حفظة أعمالها وأحوالها، يشهد لها وعليها.
وبعدما حضر كل منهم بين يدي الله، قيل لكل منهم من قبل الحق على سبيل الخطاب والعتاب: { لقد كنت } أيها المغرور { في غفلة من هذا } اليوم، وانكسار عظيم من وقوعه؛ لذلك كذبت بالرسل والكتب، واستهزأت بالهداة الثقات، واستكبرت عليهم { فكشفنا } اليوم { عنك غطآءك } الذي هو سبب غفلتك وإنكارك، وتعاميك عن الآيات والنذر، وهو ألفك بالمحسوسات العادية وإنكارك على الأمور الغيبية الخارجة عن حيازة حواسك وقواك { فبصرك اليوم حديد } [ق: 22] أي: صار بصرك بعد انكشافك بهذا اليوم حادا حديدا نافذا، إلا أنه لا ينفعك حينئذ حدة بصرك واكشافك بعد انقراض نشأة الاختبار والاعتبار.
{ وقال } له حينئذ { قرينه } من الحفظة المراقب عليه في النشأة الأولى: { هذا ما لدي عتيد } [ق: 23] أي: هذا الذي سمعت الآن من الخطاب والعاب، هو الذي حفظته لك عندي، وكتبته في صحيفة عملك قبل وقوعك فيه.
وبعدما جرى بين كل من العصاة وبين قرينهم ما جرى، أمر من قبل الحق للسائق والشهيد أمرا وجوبيا حتما: { ألقيا في جهنم } واطرحا فيها { كل كفار } مبالغ في الكفر والإنكار { عنيد } [ق: 24] مبالغ متناه في العناد والاستكبار.
{ مناع للخير } متبالغ في المنع عن الإنفاق المأمور { معتد } متجاوز عن الحق، مائل نحو الباطل { مريب } [ق: 25] موقع لعباد الله في الشك والشبة في دينه القويم والصراط المستقيم الذي أنزله على رسوله المتصف بالخلق العظيم، وهو { الذي جعل } وأثبت { مع الله } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الشرك مطلقا { إلها آخر } واعتقده موجدا مثله، شريكا في أفعاله وآثاره، وبالجملة: { فألقياه في العذاب الشديد } [ق: 26] بدل ما تجاوز عن التوحيد الإلهي، وأصر على الشريك والتعديد.
وبعدما أراد الموكلان أن يبطشا به ويجراه نحو النار، أخذ يصرخ ونسيب شركه وضلاله إلى الشيطان المضل المغوي، وهو حاضر عنده، وبعدما سمع الشيطان منه ما سمع { قال } له حينئذ { قرينه } أي: الشيطان، متضرعا إلى الله، مناجيا معه: { ربنا مآ أطغيته } وأضللته { ولكن كان } في نفسه { في ضلال بعيد } [ق: 27] بمراحل عن الهداية بمقتضى أهويته وأمانيه الفاسدة.
وبعدما اختصم الكافر وقرينه عند الله { قال } الله سبحانه: { لا تختصموا لدي } ولا تنازعوا عندي؛ إذ لا نفع لكم الآن في الخصومة والنزاع { وقد قدمت إليكم } في كتبي وعلى ألسنة رسلي { بالوعيد } [ق: 28] الهائل، والعذاب الشديد على أهل الشرك والطغيان والكفر والكفران، فالحكم على ماجرى لا تبديل وتغيير.
إذ { ما يبدل القول } والحكم { لدي } بل المقدر في علمي كائن على ما ثبت وكان على مقتضى العدالة والقسط الحقيقي { و } بالجملة: { مآ أنا بظلام للعبيد } [ق: 29] أي: ليس من شأني الظلم والتعدي على عبيدي، بل هم يظلمون أنفسهم، فيستحقون العقوبة على قدر عصيانهم.
اذكر يا أكمل الرسل للعصاة والكفرة المشركينن، المصرين على العناد والإنكار { يوم نقول لجهنم } المعدة لجزائهم، سؤال تخييل وتصوير حين طرحت عليها أفواج الكفرة والعصاة: { هل امتلأت } جهنم من شدة تلهبها وتسعرها بإطاق الله إياه: { وتقول هل من مزيد } [ق: 30] من المطروحين حتى يطرح ما بقي من أهلها إلى أن تمتلئ إنجازا لما وعد لها الحق، نقول لجهنم:
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود: 119].
{ و } اذكر أيضا للمؤمنين المطيعين يوم { أزلفت } وقربت { الجنة } الموعودة { للمتقين غير بعيد } [ق: 31] بل بحيث يرون منازلهم فيها قبل دخولهمم من غاية قربها، وتمنون الوصل إليها.
فيقال لهم حيئنذ: { هذا ما توعدون لكل أواب } رجاع، تواب إلى الله عن عموم زلاته ومطلق فرطاته في نشأة الاختبار { حفيظ } [ق: 32] لتوبته على وجه الندم والإخلاص، بلا توهم عود ورجوع عليها أصلا.
وبالجملة: { من خشي الرحمن بالغيب } واجتنب عن محارمه منهياته، خائفا من سخطه، راجيا من سعة رحمته في نشأة الاعتبار والاختيار قبل انكشاف السرائر والأستار وحلول النشأة الأخرى، ورضي بالتكاليف الإلهية، ووطن نفسه بامتثال عموم الأوامر والنواهي ومطلق الأحكام الجارية على ألسنة الرسل والكتب { وجآء بقلب منيب } [ق: 33] إلى الله، مخلصا في إطاعة الله وإطاعة رسوله.
قيل لهم حينئذ من قبل الحق على وجه التبشير: { ادخلوها } أي: الجنة المعدة لأرباب التقوى { بسلام } حال كونكم سالمين آمنين من العذاب
لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون
[الأعراف: 49] { ذلك } اليوم الذي أنتم فيه الآن { يوم الخلود } [34] في الجنة الموعودة لأرباب العناية والشهود.
جعلنا الله من زمرتهم بمنه وجوده.
وبالجملة: { لهم ما يشآءون فيها } من اللذات الحسية والعقلية المحاطة بمداركهم وآلاتهم، بل { ولدينا مزيد } [ق: 35] على ما يسألون حسب استعداداتهم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
[50.36-45]
ثم قال سبحانه تهديدا على من أعرض عن دينه ونبيه: { وكم أهلكنا قبلهم } أي: قبل قومك يا أكمل الرسل { من قرن } أي: أهله، مع أنه { هم أشد منهم بطشا } قوة وقدرة، وأكثر أموالا وأولادا، كعاد وثمود وفرعون وغيرهم { فنقبوا } أي: انصرفوا وانقبلوا وساروا { في البلاد } متمنين { هل } يجدون { من محيص } [ق: 36] مهرب ومخلص من بطش الله وحلول عذابه عليهم، فلم يجدوا بعدما استحقوا التعذيب والإهلاك، وبالآخرة هلكوا واستؤصلوا حتما، فكذا هؤلاء المسرفون المعاندون سيهلكون كما هلكوا، وبالجملة: { إن في ذلك } القرآن العظيم، الذي نزل عليك يا أكمل الرسل { لذكرى } عظة وتذكيرا وعبرة وتنبيها { لمن كان له قلب } يتفطن من تقلبات الأحوال وتطوراتها إلى شئون الحق وتجلياته الجمالية والجلالية حسب اقتضاء الذات بالإدارة والاختيار، وكمالات الأسماء والصفات { أو ألقى السمع } أي: يكون من أرباب الإرادة الصادقة الخالصة عن شوب السمعة ورعونات الرياء، ألقى سمعه إلى استماع كلمة الحق من أهله { وهو } حينئذ { شهيد } [ق: 37] حاضر القلب، فارغ الهم، حديد الفطنة، صحيح الإرادة، خالص العزيمة.
ثم لما قال اليهود: إن الله خلق العالم في ستة أيام من الأسبوع، وبعدما عي من الخلق والإيجاد استلقى على العرش في يوم الست للاستراحة، رد الله عليهم فقال: { ولقد خلقنا } وأظهرنا { السموت والأرض وما بينهما } من الكائنات الممتزجة منهما { في ستة أيام و } مع ذلك { ما مسنا } ولحقنا { من لغوب } [ق: 38] وصب وتعب وإعياء وفتور؛ إذ ذاتنا منزهة عن طريان أمثال هذه النقائض الإمكانية.
{ فاصبر } يا أكمل الرسل { على ما يقولون } وينسبون إلى الله الصمد القدوس من أمثال هذه المفتريات الباطلة، الناشئة من جهلهم المفرط بالله وبمقتضى ألوهيته وربوبيته { وسبح بحمد ربك } بمقتضى توحيدك وتمجيدك إياه، ونزه ذاته عما يقول الظالمون الجاحدون، الجاهلون بقدره وعلو شأنه، وتوجه نحوه سبحانه في عموم أوقاتك وحالاتك سيما { قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } [ق: 39] يعني: كلا طرفي النهار؛ إذ هما أوان الفراغ من مطلق الأشغال.
{ ومن الليل فسبحه } في خلال تهجداتك { و } بالجملة: سبحه { أدبار السجود } [ق: 40] أي: عقب كل صلاة ذات ركوع وسجود.
ثم قال سبحانه آمرا لحبيبه صلى الله عليه وسلم { واستمع } يا أكمل الرسل النداء والهائل { يوم يناد المناد } من قب الحق؛ لقيام الساعة والبعث { من مكان قريب } [ق: 41] بكل أحد، بحيث يسمعه بلاك كلفة وشبهة، فيقول: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن للحساب والجزاء.
{ يوم يسمعون الصيحة } النفخة الثانية ملبسة { بالحق } تحققوا حنيئذ أن { ذلك يوم الخروج } [ق: 42] من القبور والبعث والنشور،
وبالجملة: { إنا } من كمال قدرتنا وحكمتنا { نحن نحيي ونميت } في النشأة الأولى بالإدارة { وإلينا المصير } [ق: 43] أي: مصير الكل ومرجعهم إلينا في النشأة الأخرى.
اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر الحشر والميعاد { يوم تشقق } أي: تنشق وتتخرق { الأرض عنهم } ويخرجون منها { سراعا } مسرعين { ذلك } أي: إخراجهم وخروجهم كذلك { حشر } وبعث وجمع { علينا يسير } [ق: 44] سهل.
لا تستبعدوا ولا تستعسروا عن قدرتنا الكاملة أمثال هذا: إذ { نحن أعلم } وأحفظ { بما يقولون } أي: المنكرون، المشركون في سرائرهم ونجواهم { ومآ أنت عليهم } يا أكمل الرسل { بجبار } تردعهم وتزجرهم عما هم عليه من الإنكار والإصرار، بل ما أنت إلا مذكر.
{ فذكر بالقرآن } أي: بوعيداته وإنذاراته { من يخاف وعيد } [ق: 45] إذ لا ينفع تذكيرك إلا للخائف منهم، ومن لم يخف ليس لك عليهم سلطان ليزعجهم إلى الإيمان، ويلجئهم إلى قبول الإسلام؛ إذ ما عليك إلا البلاغ والتذكير، والتوفيق من الله العليم الخبير.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المترقب لتوفيق الحق في عموم أحوالك - وفقك الله على سلوط طريق توحيده - أن تفرغ همك عما سوى الحق، وتصفي سرك عن مطلق الشواغل المنافية لصرافة الواحدة الذاتية، وكن في نفسك خائفا من غضب ربك، راجيا من عفوه وغفرانه في عموم أعمالك التي جئت بها تقربا إليه، مفوضا أمورك كلها إلى مشيئته، وبالجملة: عليك أن تتذكر بوعيدات القرآن ومواعيده المستلزمة لصلاح الدارين، وفلاح النشأتين.
وإياك الإعراض عن الحق وأهله، والانصراف عن معالم الدين المنزل من عنده سبحانه، لتبيين مسالك توحيده.
جعلنا الله من زمرة الراسخين، المتمكنين في معالم الدين القويم بمنه وجوده.
[51 - سورة الذاريات ]
[51.1-30]
{ والذاريات } يعني: وحق النسمات الروحانية من النفسات الرحمانية على وفق العناية الأزلية؛ بحيث تذرو والبعث النفوس الخيرة الموفقة المجبولة على نشأة التوحيد { ذروا } [الذاريات: 1] نوعا من الذرو والبعث على سبيل الشوق، والتحنن نحو المبدأ الحقيقي المنشأ الأصلي.
{ فالحاملات } من القوى، والآلات الحاملة كل واحد منها { وقرا } [الذاريات: 2] حملا ثقيلا خطيرا من أعباء الوحي، والإلهامات الإلهية من العلوم اللدنية والإدراكات الكشفية، المنشعبة من حضرة العلم ولوح القضاء، المتعلقة بالمعارف والحقائق الإلهية.
{ فالجاريات } أي: سفن النفوس المشتملة على أنواع المدارك، والمشاعر الجارية في بحر الوجود { يسرا } [الذاريات: 3] سهلا بلا تثاقل وتكاسل.
{ فالمقسمات } من الأسماء والصفات الإلهية، والموسومات بالملائكة، المقسمة لقوابل المظاهر { أمرا } [الذاريات: 4] أي: أمور أرزاقهم، ومطلق حظوظهم وأبصارهم من الفيوضات والفتوحات الصورية والمعنوية، الموهوبة لهم من قبل الحق حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية.
{ إنما توعدون } أنتم أيها المكلفون، المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان من البعث والحشر والحساب والجزاء، وغير ذلك من المعتقدات الأخروية، المترتبة على العالم المحيط الإلهي، وقدرته الغالبة وإرادته الشاملة { لصادق } [الذاريات: 5] ثابت محقق وقوعه بلا شك وشبهة.
{ وإن الدين } والجزاء الموعود لكم في النشأة الأخرى، والمتفرع على أعمالكم وأفعاكم في النشأة الأولى { لوقع } [الذاريات: 6] محقق وقوعه، كائن إتيانه ألبتة، بلا تردد وارتياب.
ثمل لما أقسم سبحانه بما يتعلق بعالم الأمر، أراد أن يقسم بما يتعلق بعالم الخلق تتميما للتأكيد والمبالغة بالقسم باعتبار كلا العالمين، فقال: { والسمآء } أي: وحق السماء الرفيعة، البديعة النظم، العجيبة التركيب { ذات الحبك } [الذاريات: 7] أي: الحسن والزينة، وكمال الصفاء، والبهجة والبهاء؛ لاشتمالها على الكواكب المشيرة إلى الطرق الموصلة إلى قدرة الصانع القديم، ومتانة حكمة الحكيم العليم.
إن اليوم الموعود لبعثكم وجزائكم لآت ألبتة { إنكم } أيها الشاكون في شأنه، وشأن من أخبر به بمقتضى الوحي والإلهام والإلهي، وشأن ما أنزل لبيانه من الكتاب المبين لإعداد الزاد له، وطريق النجاة عن أهواله وأفزاعه { لفي قول مختلف } [الذاريات: 8] تنكرون له، وتكذبون المخبر الصادق، وتنسبون له وإلى الكتاب المبين المعجز من المفتريات الباطلة؛ حيث تقولون تارة: إنه سحر، أو من أساطير الأولين أو كهانة اختلقها الشاعر، أو كلام المجانين يتكلم به هذا المجنون.
وبالجملة: { يؤفك } ويصرف { عنه } وعن دينه وكتابه { من أفك } [الذاريات: 9] وصرف عن الحق وقبوله، ومال إلى الباطل، وسعى نحوه.
وبسبب إفكهم، وذبهم عن طريق الحق والامتثال به { قتل } أي: طرد ولعن على ألسنة عموم أهل الحق { الخراصون } [الذاريات: 10] المنكرون الكاذبون، المكذبون من أصحاب القول المختلق، وهم: { الذين هم } من شدة انصرافهم عن الحق وأهله { في غمرة } وغفلة عظيمة، وجهل متناه { ساهون } [الذاريات: 11] غافلون عن الله وقدر ألوهيته وحقوق ربوبيته.
ومن كمال غفلتهم، وشدة عمههم في سكرتهم { يسألون } على سبيل التهكم والاستهزاء: { أيان يوم الدين } [الذاريات: 12] أي: يقولون: متى يوم الجزاء والقيامة يامحمد؟! وفي أي آن يأتينا عذاب الساعة وأهوالها؟!
قال تعالى في جوابهم: { يوم هم على النار يفتنون } [الذاريات: 13] أي: يوم يقع عليه الجزاء والعقاب والعذاب، وهم يحرقون فيه في النار، ويطرحون عليها صاغرين مهانين.
ويقول لهم الموكلون حين طرحهم فيها توبيخا وتقريعا: { ذوقوا } أيها المجرمون المسرفون { فتنتكم } التي أنتم تستعجلون بها في دار الدنيا على سبل الاستهزاء والمراء، وبالجملة: { هذا الذي } وقعتم فيه، وحبستم عليه الآن من العذاب { كنتم به تستعجلون } [الذاريات: 14] في سالف الزمان على سبيل الإنكار والاستكبار.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إن المتقين } الممتثلين لأوامر الله، المجتنبين عن نواهيه الموردة في كتبه الجارية على ألسنة رسله، الحافظين لنفوسهم عن الإفراط في الرخص والمباحات، فيكف عن تفريط المحظورات والمحرمات! متلذذون باللذات الروحانية { في جنات } أي: منتزهات العلم والعين والحق { وعيون } [الذاريات: 15] جاريات من الحكم، والمعارف اللدنية المستخرجة من ينابيع قلوبهم، المترشحة إليها من بحر الوجود على مقتضى الحفظ الإلهي، حسب استعداداتهم واستفاضتهم بمقتضاها.
{ آخذين مآ آتاهم } وأعطاهم { ربهم } تفضلا عليهم، وتكريما على وجه الرضاء بجميع ما جرى عليهم من مقتضيات قضائه { إنهم كانوا قبل ذلك } الفضل واللطف من النشأة الأولى { محسنين } [الذاريات: 16] الأدب مع الله ورسله، وخلص عباده العاكفين ببابهز
ومن جملة إحسانهم: إنهم { كانوا } في دار الابتلاء { قليلا من الليل ما يهجعون } [الذاريات: 17] أي: يرقدون قليلا من ساعات الليل، وذلك أيضا بسبب ألا يعرضهم الكلال العائق من المواظبة على الطاعات.
{ و } هم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم وخشوعهم { بالأسحار } المعدة للتوجه والاستغفار { هم يستغفرون } [الذاريات: 18] دائما، كأنهم يرون أنفسهم قاصرة عن رعاية حقوق العبودية على ما ينبغي، لذلك يبالغون في الإنابة والاستغفار.
{ و } كان { في أموالهم } وأرزاقهم المسروقة إليهم من قبل الحق { حق } حظ ونصيب مفروض مقدر، يستوجبونه على أنفسهم { للسآئل } السائر في سبيل الله، المتعرض للسؤال مقدار ما يحتاج إليه { والمحروم } [الذاريات: 19] المتعفف عن ذل السؤال، المتمكن في زايوة التوكل والتفويض.
ثم أشار سبحانه إلى حيطة وحدته الذاتية، وشمولها على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس بالاستقلال والانفراد، وسر سريان هويته الذاتية على ذرائر الكائنات، تنبيها للمريد المستبصر، وإيقاضا لهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان، فقال: { وفي الأرض } أي: عالم المسببات، والاستعدادات المعبرة بالآفاق المعدة لظهور آثار القدرة الكاملة الإلهية من العجائب والغرائب، المتفرعة على كمال العلم، ووفور الحكمة المتقنة آيات دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة الصانع الحكيم، ووحدة ذاته، واختياره في مطلق تصرفاته، واستقلاله في حكمه ومصالحه { للموقنين } [الذاريات: 20] المنكشفين باليقين العلمي والعيني والحق.
بل { وفي أنفسكم } أيضا أيها المستبصرون، المستكشفون عن سرائر الألوهية وأسرار الربوبية شواهد ظاهرة تشهد على حقية الحق، وتوحده في ظهوره ووجوده { أفلا تبصرون } [الذاريات: 21] أيها المجبولون على فطرة الكشف والشهود.
{ و } كذا { في السمآء } أي: عالم الأسماء، والأسباب المعبرة عنها بالأعيان الثابتة { رزقكم } أي: أرزاقكم الصورية والمعنوية، المبقية لأشباحكم وأرواحكم { وما توعدون } [الذاريات: 22] من الآجال المقدرة، والجزاء المترتب على الأعمال والأفعال الصادرة عن هوياتهم الباطلة في نشأتكم الأولى، وحالاتكم الواقعة فيها.
ثم أقسم سبحانه تأكيدا لما أومأ، فقال: { فورب السمآء والأرض } أي: وحق موجدهما، ومربيهما على هذا النمط البديع والنظم الغريب { إنه } أي: ما يستدل بإيجادهما، وإظهارهما على وجوده سبحانه وكمال قدرته، ووفور حكمته، ومتانة حكمه { لحق } ثابت محقق حقيق بالحقية، وحيد بالقيومية، فريد بالديمومية، لا يعرضها زمان، ولا يعتريها كلال.
وهو في حقيته وتحققه { مثل مآ أنكم تنطقون } [الذاريات: 23] أي: كمال لا شبهة لكم في تنطقكم، وتلفظكم بالكمالات المنطوقة، كذلك لا شبهة في حقية الحق وظهوره، بل هو أظهر من كل شيء ظاهر، وأجلى من كل جلي، بل الكل إنما يظهر به وبظهوره، إلا إنكم بغيوم تعيناتكم الباطلة وظلام هوياتكم العاطلة، تسترون شمس الحق الظاهر في الآفاق بكمال الكرامة والاستحقاق.
ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم الخليل، المتحقق بمقام الكشف والشهود، النازلة من عنده سبحانه من كمال المحبة والإخلاص والخلة والاختصاص مع ضيفه من الملائكة المكرمين، فقال مستفهما لحبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل العبرة والتذكير { هل أتاك } وصل إليكم يا أكمل الرسل { حديث ضيف إبراهيم } وقصة إلمام الملائكة نزولهم عنده على صورة الأضياف { المكرمين } [الذاريات: 24] لكرامتهم، وحسن صورتهم وسيرتهم.
ومن كمال كرامتهم ونجابتهم: { إذ دخلوا عليه } وحضروا عند بلا استئذان { فقالوا } ترحيبا وتكريما: { سلاما } أي: نسلم سلاما عليك { قال } إبراهيم عليه السلام في جوابهم ظهارا، وإن أنكر عليهم خفية بدخولهم بلا استئذان: { سلام } عليكم، عدل إلى الرفع لقصد الدوام والثبات؛ ليكون رده أكمل من تسليمهم، وهو عليه السلام، وإن بادر إلى رد تسليمهم، إلا أنه أضمر في نفسه الإنكار عليهم، فقال في سره: هؤلاء { قوم منكرون } [الذاريات: 25] لا أعرف نفوسهم ولا أمرهم.
{ فراغ } أي: عدل، مال عنهم فجأة خفية منهم { إلى أهله فجآء بعجل سمين } [الذاريات: 26] إذ كان أغلب مواشيه البقر، فذبحه وطبخه { فقربه إليهم } نزلا، فأبوا عن أكله، فعرض عليهم، وحثهم على الأكل كما هو عادة أرباب الضيافة؛ حيث { قال ألا تأكلون } [الذاريات: 27] منه، فلم يأكلوا بعد العرض والإذن أيضا.
ثم لما رأى منهم ما رأى من الامتناع عن طعامه { فأوجس } وأضمر الخليل في نفسه { منهم خيفة } خوفا ورعبا منه، ظنا منه أنه إنما امتنعوا من طعامه، ليقصدوا له سوءا، ثم لما تحسسوا منه ما تحسسوا من الرعب المفرط { قالوا } له إزالة لرعبه: { لا تخف } منا، ولا تحزن عن امتناعنا من الأكل، إنا لسنا ببشر، بل نحن ملائكة منزهون عن الأكل، مرسلون من عند ركم لأمر عظيم.
قيل: مسح جبريل العجل المشوي فحيي، فقام يدرج ويدب حتى لحق بأمه، وبعدما رأى منهم إبراهيم ما رأى، وسمع ما سمع، أمن منهم { و } بعدما أمنوه وأزالوا رعبه { بشروه بغلام } إذ لم يكن له ابن يخلف عنه، وكانت امرأته عجوز عقيمة { عليم } [الذاريات: 28] في كمال الرشد والفطنة، وهو إسحاق عليه السلام.
وبعدما سمع إبراهيم منهم البشرى أخبر به امرأته، ثم لما سمعت ما سمعت استحالت واستبعدت { فأقبلت امرأته } سارة إليهم { في صرة } صرير وضجة { فصكت } ولطمت { وجهها } بأطراف أصابعها { وقالت } مشتبكة: أنا { عجوز عقيم } [الذاريات: 29] عاقر، كيف ألد ابنا سيما بعد انقضاء أوانه وانصرام زمانه؟!
ثم لما شاهدوا منها ما شاهدوا { قالوا } لها: { كذلك } أي: مثل ذلك الذي نخبرك ونبشرك { قال ربك } وما علينا إلا البلاغ، والأمر بيد الله { إنه هو الحكيم } في عموم أفعاله وآثاره { العليم } [الذاريات: 30] بمطلق تدابيره وتقاديره.
[51.31-51]
وبعدما جرى منهم ما جرى، أخذ إبراهيم عليه السلام يسأل عن سبب نزولهم وإرسالهم { قال فما خطبكم } وشأنكم الذي جئتم لأجله { أيها المرسلون } [الذاريات: 31].
{ قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين } [الذاريات: 32] أقبح الجرائم وأفحش المنكرات؛ يعنون: قوم لوط عليه السلام المبالغين في الفعلة الشنيعة، والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والفحش.
وإنما أرسلنا { لنرسل عليهم حجارة } متحجرة { من طين } [الذاريات: 33] يريد منه السجيل المركب من الحجر المسحوق مع الطين، { مسومة } معلمة كل منها باسم من رمي بها { عند ربك } لتكون جزاء { للمسرفين } [الذاريات: 34] الذين أسرفوا في الخروج عن متقضى الحدود الإلهية، وعن الطريقة المعتادة لحكمة الإيلاد والاستيلاد.
ثم لما أردنا رجمهم وإهلاكهم، { فأخرجنا } بإذن ربنا { من كان فيها } أي: في تلك القرية { من المؤمنين } [الذاريات: 35] المصدقين بنبوة لوط عليه السلام ودينه، الممتثلين بالأوامر والنواهي الجارية على لسانه.
{ فما وجدنا } وصادفنا { فيها } أي: في تلك القرى بعدما فتشناها، وكشفنا عن أهلها { غير بيت } أي: سوى أهل بيت فقط { من المسلمين } [الذاريات: 36] المتصفين المجتمعين بين الإيمان والتسليم، وهو أهل بيت لوط عليه السلام.
وبالجملة: أهلكنا الكل { وتركنا } آثار هلاكهم واستئصالهم { فيهآ } أي: في الأرض التي تلك القرى فيها { آية } علامة، وأمارة مستمرة إلى يوم القيامة { للذين يخافون العذاب الأليم } [الذاريات: 37] النازل على أهل الجرائم والآثام، فيمتنعون عنها ويعتبرون بها.
{ و } تركنا أيضا { في } إهلاك مكذبي { موسى } الكليم آية للمتذكرين المعتبرين، اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ أرسلناه } أصالة وأخاه معه تبعا { إلى فرعون } الطاغي الباغي، المبلغ في العتو والعناد وأيدناه { بسلطان مبين } [الذاريات: 38] وحجة واضحة ولديل لائح.
{ فتولى } وأعرض عن عدوته إلى الإيمان مستظهرا { بركنه } أي: ملئه وجنوده الذين يتقوى بهم، ويركن إليهم في الخطوب والملمات { وقال } في جوابه من كمال بطره وعناده: هو { ساحر } فيا أتى من الخوارق { أو مجنون } [الذاريات: 39] يعمل له الجن جميع ما يظهر منه الإرهاصات.
وبالجملة: كذبه، وأنكر عليه ونسب معجزاته إلى السحر وأعمال الجن { فأخذناه } غيرة منا وتقوية لرسولنا { وجنوده } المظاهرين له { فنبذناهم } وإغرقناهم { في اليم وهو } حينئذ { مليم } [الذاريات: 40] نفسه بما يلام عليه من الكفر والعناد وأنواع العتو والفساد، نادم عن جميع ما صدر عنه وما ينفعه من الندم.
{ و } تركنا أيضا آية عظيمة للمعتبرين { في } إهلاك قوم { عاد } اذكر { إذ أرسلنا } وسلطنا { عليهم الريح العقيم } [الذاريات: 41] لا يثمر نفعا سوى العقم والهلاك على وجه الاستئصال، مع أنهم أملوا نفعا عظيما فيها.
إذ { ما تذر } وتترك { من شيء أتت } وهبت { عليه } من الأنفس والمواشي { إلا جعلته } وصيرته { كالرميم } [الذاريات: 42] أي: اليابس البالي من النبات وأوراق الأشجار، وبالجملة: صيرتهم هباء منثورا تذروه الرياح حيث شاءت.
{ و } كذا { في ثمود } وإهلاكهم آية عظيمة لأجل العبرة، اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قيل لهم } على لسان نبيهم حين أردنا أخذهم وإهلاكهم: { تمتعوا حتى حين } [الذاريات: 43] أي: تمتعوا وترفهوا ثلاثة أيام، فكذبوا المخبر، وأنكروا عليه خبره.
{ فعتوا عن أمر ربهم } وما تندموا وتضرعوا، من أن المناسب لهم هذا حينئذ { فأخذتهم الصاعقة } الهائلة المهولة صبيحة اليوم الرابع { وهم ينظرون } [الذاريات: 44] إتيانها عيانا، ولا يقدرون على دفعها.
بل { فما استطاعوا } وما قدروا { من قيام } نهوض، وحركة عن أمكنتهم التي كانوا فيها عند ظهورها { و } بالجملة: { ما كانوا منتصرين } [الذاريات: 45] ممتنعين من عذابنا منتقمين منا.
{ و } مثل ما أهكلنا المذكورين، أهلكنا { قوم نوح من قبل } أي: قبل إهلاك هؤلاء { إنهم } أيضا أمثال هؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد { كانوا قوما فاسقين } [الذاريات: 46] خارجين عن مقتضى الحدود والإلهية بأنواع الكفر والفسوق والعصيان، لذلك أهلكناهم وبالطوفان، { وما كانوا منتصرين } [الذاريات: 45].
ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على الإنعام والانتقام: { والسمآء بنينها } أي: كيف يسع لهم الإباء والامتناع عن مقتضيات قدرتنا، والخروج عن رقبة إطاعتنا وعبوديتنا، مع أنا بنينا السماء المرفوعة المحفوظة { بأييد } غالبة وقدرة كاملة { و } بالجملة: { إنا لموسعون } [الذاريات: 47] قادرون غالبون بالاستقلال والاختيار، لا يعارض فعلنا، ولا ينازع أمرنا وحكمنا.
{ والأرض } أيضا { فرشناها } ومهدناها بالاستقلال والاستيلاء التام { فنعم الماهدون } [الذاريات: 48] الباسطون نحن بلا مشاركة.
{ و } مثل ما خلقلنا العلويات فواعل مؤثرات، والسفليات قوابل متأثرات { من كل شيء } من الأشياء الكائنة في بقعة الإمكان، وعرصة الزمان والمكان { خلقنا زوجين } صنفين مزدوجين { لعلكم } أيها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد، المؤيدون بالعقل المفاض المتشعب من العقل الكل { تذكرون } [الذاريات: 49] فتعلمون أن الكل منه بدأ وإليه يعود، ولا شيء سواه موجود.
وبعدما ثبت أن ظهور الكل منه ورجوعه إليه سبحانه: { ففروا } أيها العارفون الموحدون { إلى الله } المسقط لعموم الإضافات من مقتضيات عالم الناسوت، وانخلعوا عن لوازم هوياتكم الباطلة وأنانياتكم العاطلة { إني لكم منه } بمقتضى وحيه وإلهامه { نذير } أنذركم عما يعوقكم من سلوك طريق توحيده { مبين } [الذاريات: 50] مظهر لكم آداب الطريقة الموصلة إلى مقصد الحقيقة، التي هي الوحدة الذاتية الإلهية.
{ و } بالجملة: لا تجعلوا { لا تجعلوا } ولا تتخذوا، ولا تعتقدوا { مع الله } الواحد الأحد، المنزه عن التعدد مطلقا { إلها آخر } مستحقا للإطاعة والرجوع، مستقلا في الوجود، وما يترتب عليه من الآثار { إني لكم منه نذير مبين } [الذاريات: 51] أنذركم عن الوعيدان الهائلة العاجلة والآجلة، واللاحقة عليكم بالشرك والإشراك وأنواع الفسوق والعصيان.
[51.52-60]
{ كذلك } أي: الأمر والحكم مثل ذلك أنذرهم، وبلغهم بلا مبالاة بإعراضهم واستهزائهم؛ إذ { مآ أتى } الضالين المسرفين { الذين } مضوا { من قبلهم من رسول } من الرسل الكرام { إلا قالوا } حين دعوتهم إلى الإيمان والتوحيد { ساحر أو مجنون } [الذاريات: 52] مثل ما يقول هؤلاء الحمقى في شأنك يا أكمل الرسل.
ثم قال على سبيل التعجب والإنكار: { أتواصوا به } أي: أوصى بعضهم بعضا؛ أي: أسلافهم لأخلاقهم بهذا القول والتكذيب، فتواطئوا عليه جميعا، مع أنه لا يمكنهم هذه التوصية في الأزمنة الطويلة { بل هم } أي: هؤلاء الأخلاف { قوم طاغون } [الذاريات: 53] مشاركون في الغي والضلال والعدوان مع أسلافهم في أهل فطرتهم وجبلتهم؛ لذلك اتصفوا بما اتصفوا لاشتراك السبب بينهم.
وبعدما أصروا على ما هم عليه من العناد، ولم تنفعهم الآيات والنذر: { فتول } واعرض { عنهم } يا أكمل لرسل بعدما بذلت وسعك في إرشادهم وإهدائهم { فمآ أنت بملوم } [الذارايتت: 54] على إعراضك عنهم، وانصرافك عن إرشادهم ودعوتهم بعد المبالغة.
{ وذكر } للقوابل والمستحقين { فإن الذكرى } والعظمة { تنفع المؤمنين } [الذاريات: 55] الموفقين من لدنا على الإيمان، المجبولين على فطرة اليقين والعرفان.
{ و } اعلم أني { ما خلقت الجن والإنس } وما أظهرت أشباحهم وأظلالهم على هذه الهياكل والهويات، وما صورتهم على هذه الصور البديعة، ما أودعت فيهم ما أودعت من جوهر العقل المفاض { إلا ليعبدون } [الذاريات: 56] ويعرفوني، ويتحققوا بوحدتي واستقلالي في وجودي، وفي عموم تصرفاتي، وباستحقاقي للإطاعة والعبودية مطلقا بلا شوب شركة ومظاهرة من أحد.
وإلا { مآ أريد منهم } وبخلقهم وإظهارهم { من رزق } أي: تحصيل رزق صوري أو معنوي أرزق به عبادي؛ إذ خزائن أرزاقي مملوءة، وذخائر رحمتي متسعة { و } أيضا { مآ أريد أن يطعمون } [الذاريات: 57] أي: على الفقراء الذين هم عيالي طلبا لمرضاتي.
كما جاء في الحديث صلوات الله على قائله:
" يقول الله عز وجل: استطعمتك فلم تطعمني "
أي: لم تطعم عبدي الجائع.
وكيف أريد منهم أمثال هذا { إن الله } المتوحد بالأوهية والربوبية { هو الرزاق } المنحصر المخوص في ترزيق عموم العباد، لا رازق لهم سواه { ذو القوة المتين } [الذاريات: 58] والطول العظيم المقتدر الحاكم، الغالب على عموم مراداته ومقدوراته على وجه الإحكام من الإنعام والانتقام.
وبالجملة: { فإن للذين ظلموا } على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنواع التكذيب والإنكار والاستهزاء والاستحقار { ذنوبا } حظا وافرا ونصيبا كاملا من العذاب الآجل العاجل { مثل ذنوب أصحابهم } أي: مثل نصيب أسلافهم من الكفرة المكذبين للرسل الماضين، وسليحقهم مثل ما لحقهم، بل بأضعافه وآلافه { فلا يستعجلون } [الذاريات: 59] لحوقه وحلوله.
وبالجملة: { فويل } عظيم، وعذاب شديد هائل نازل { للذين كفروا } ستروا الحق، وأعرضوا عنه، وأظهروا الباطل، وأصروا عليه { من يومهم } الفظيع الفجيع { الذي يوعدون } [الذاريات: 60] في النشأة الأخرى، وهو يوم القيامة المعدة لتعذيب العصاة والغواة وتفضيحهم فيه.
جعلنا الله من الآمنين فيه، الناجين من عذاب بفضله ولطفه.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المجبول على فطرة المعرفة واليقين، أن تتفكر في حكمة ظهورك ومصلحة بروزك من كتم العدم في معرفة نفسك في عموم أحوالك؛ لينكشف لك من التأمل فيها الإطلاع على موجدها ومظهرها واتصافه بالأوصاف الكاملة والأسماء الشاملة.
ثم منها إلى توحيده واستقلاله في الوجود، وعموم الآثار المترتبة عليها، حتى تفوز إلى غاية قصواك ومبتغاك من اليقين والإيمان، ونهاية ما يترتب على ظهورك من التوحيد والعرفان، والله المستعان وعليه التكلان.
[52 - سورة الطور]
[52.1-14]
{ والطور } [الطور: 1] أي: وحق المقدس عن الظهور والبطون، المنزه عن البروز والكمون.
{ وكتاب مسطور } [الطور: 2] هو حضرة العلم الإلهي الذي سطر بالقلم.
{ في رق منشور } [الطور: 3] هو لوح القضاء المحفوظ من التباهي والانقضاء، المحروس عن مطلق التغير ومطلق الانمحاء.
{ والبيت المعمور } [الطور: 4] الإلهي الذي هو قلب العارف المحقق، المتحقق بقمام الفناء عن الفناء، وبالبقاء ببقاء العظمة والكبرياء، المعبر بها عن عالم العمى اللاهوتي الذي هو سواد أعظم الفقر، وبيت المعمور الأكبر.
{ والسقف المرفوع } [الطور: 5] الذي هو سماء الأسمناء والصفات عن مطلق التعدد الأصفياء.
{ والبحر المسجور } [الطور: 6] الذي هو مطلق الوجود المحيط بالكل بمقتضى الجود.
{ إن عذاب ربك } يا أكمل الرسل لعصاة عباده { لواقع } [الطور: 7] نازل لهم في يوم الجزاء. { ما له من دافع } [الطور: 8] لأن من قدر على أمثال هذه المقدورات، واتصف بهذه الأسماء والصفات بالأصالة والاستحقاق ، لا يعارض حكمه ولا يدفع قضاءه.
اذكر يا أكمل الرسل للمكذبين المنكرين للحشر والنشر كيف حالهم { يوم تمور } تتحرك وتضطرب { السمآء مورا } [الطور: 9] اضطرابا غريبا وتحركا لا على وجه المعتاد إلى حيث طويت
كطي السجل للكتب
[الأنبياء: 104].
{ وتسير الجبال } الرواسى الرواسخ { سيرا } [الطور: 10] فتصير الأرض
فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا
[طه: 106-107].
{ فويل } عظيم وعذاب أليم { يومئذ } واقع { للمكذبين } [الطور: 11] المسرفين المصرين.
{ الذين هم في خوض } في الأباطيل الزائغة { يلعبون } [الطور: 12] بآيات الله الدالة على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته، وكذا يحلقهم أيضا ويل عظيم.
{ يوم يدعون } يطرحون ويدفعون { إلى نار جهنم دعا } [الطور: 13] طرحا على وجه العنف، مشدودين بالسلاسل والأغلال.
فيقال لهم حينئذ تفضيحا وتوبيخا: { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } [الطور: 14] وتنكرون الآيات والنذر الواردة في شأنها، وتنسبونها إلى السحر والكهانة، وغير ذلك من الخرافات والجزافات.
[52.15-31]
وأنتم أيها المنهمكون في الطغيان وأنواع الكفران في سالف الزمان، كنتم نسبتم الوحي والإلهام إلى السحر والأوهام تأملوا الآن: { أفسحر هذا } الذي أنتم تطرحون فيها، وتعذبون بها كما زعمتم فيما مضى { أم أنتم لا تبصرون } [الطور: 15] ولا تشعرون بها، كما كنتم لا تشعرون بالآيات الواردة في شأنها حينئذ.
وبالجملة: { اصلوها } وادخلوا فيها، وبعد دخولكم { فاصبروا أو لا تصبروا } وعلى أي وجه تصيروا وتكونوا، لا مخلص لكم عنها، ولا مخرج لكم منها، بل { سوآء عليكم } الصبر، وعدمه في عدم النفع والدفع { إنما تجزون ما كنتم تعملون } [الطور: 16] أي: ما تجزون إلا بما كسبتم لأنفسكم، وأعددتم لأجلها، فيلحقكم الآن وبال ما اقترفتم فيما مضى حتما على مقتضى العدل الإلهي، فلا ينفعكم الصبر والاضطراب.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد: { إن المتقين } المتحفظين نفوسهم عن محارم الله، المتحريزن عن إنكار آيات الله الواردة في الوعيد والوعيد، متلذذون { في جنات ونعيم } [الطور: 17] أية جنات وأي نعيم: رياض الرضا ونعيم التسليم.
{ فاكهين } متنعمين مسرورين فيها، مطمئنين راضين { بمآ آتاهم ربهم } بمقتضى فضله وسعة جوده ولطفه { و } بما { وقاهم } وحفظهم { ربهم عذاب الجحيم } [الطور: 18] أي: أهوالهم وأفزاعها.
فيقال لهم فيها على سبيل التبشير والتفريح: { كلوا } من الرزق الصوري والمعنوي { واشربوا } بلا تنقيص وتكليف { هنيئا بما كنتم تعملون } [الطور: 19] أي: بسبب صالحات أعمالكم وحسنات أفعالكم.
{ متكئين على سرر } معدة لهم { مصفوفة } منضودة مرتبة وفق أعمالهم وأحوالهم ومقاماتهم.
{ و } بعدما تمكنوا على السرر مسرورين { زوجناهم } وقرناهم استئناسا منا إيامهم { بحور عين } [الطور: 20] مصورة من المعارف والحقائق المنكشفة لهم، المشهودة بعيون بصائهرم.
{ و } قرناهم أيضا مع إخوانهم ورفقائهم من الموحدين { الذين آمنوا } بالله، وانكشفوا بتوحيده { واتبعتهم } ولحقتهم معهم { ذريتهم } أي: جميع ما انشعب، وتفرع منهم من أولادهم وأعمالهم الصادرة عنهم حال كونهم متصفين { بإيمان } يقين علمي وتصديق قلبي وصولهم إلى اليقين العيني والحقي، بل { ألحقنا بهم } أيضا { ذريتهم } أي: مشاهداتهم، ومكاشفاتهم الواردة عليهم حسب مقاماتهم وحالاتهم بعد اتصافهم باليقين العيني والحقي.
{ و } بالجملة: { مآ ألتناهم } ونقصنا عليهم { من عملهم } الناشئ منهم في طريق الهداية والرشاد { من شيء } نزر يسير، بل وفينا ووفرنا عليهم جزاء الكل مع مزيد عليها تفضلا منا وإحسانا؛ إذ { كل امرىء } ذي هوية شخصية مجبولة لحكمة المعرفة، ومصلحة التوحيد { بما كسب } من الأسباب { رهين } [الطور: 21] مرهون مقرون لا ينفصل عنها.
بل { وأمددناهم } تفضلا وامتنانا منا إياهم، وتكريما لهم { بفاكهة } من المعارف والحقائق الواردة المتجددة آنا فآنا، حسب الشئون الإلهية وتجلياته والجمالية والجلالية { ولحم مما يشتهون } [الطور: 22] أي: يتقوت ويقوى به أشباحهم وأرواحهم.
{ يتنازعون } ويتجاذبون { فيها كأسا } من رحيق التحقيق، مع أنه { لا لغو فيها } من ضول الكلام { ولا تأثيم } [الطور: 23] من قبح الأفعال المستلزمة للآثام كما هو عادة الشاربين في الدنيا.
{ ويطوف عليهم } بكؤوس التحقيق ورحيق اليقين { غلمان لهم } مصور من قواهم المدركة المملوكة لهم، المسخرة لنفوسهم المطمئنة، الراضية بمقتضيات القضاء الإلهي { كأنهم } من غاية الصفاء عن كدر الهواء ورعونات الرياس { لؤلؤ مكنون } [الطور: 24] مصون محفوظ في أصداف أشباحهم عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية.
{ وأقبل بعضهم على بعض } بطريق المسرة والانبساط { يتسآءلون } [الطور: 25] عن أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم.
{ قالوا } أي : بعضهم في جواب بعض على وجه المذاكرة والمواساة: { إنا كنا قبل } أي: قبل انكشافنا بسرائر التوحيد { في أهلنا مشفقين } [الطور: 26] خائفين عن بطشه وسخطه وسطوة سلطانه قهره وجلاله، راجين من سعة رحمته وموائد جوده وكرمه.
{ فمن الله علينا } وهدانا إلى طريق التوحيد، وفقنا للعروج إلى معارج العناية والتحقيق { ووقانا } بلطفه { عذاب السموم } [الطور: 27] أي: من عذاب النار المحرق النافذ في عموم المساقاة مث السموم.
{ إنا كنا من قبل } في دار الدنيا قبل حلول الساعة وقيام القيامة { ندعوه } سبحانه، ونسأل منه الحفظ والوقاية من عذابه ونكاله في هذا اليوم الموعود، وكيف لا نسأ منه؟! إنه سبحانه { هو البر } المحسن المخصوص المنحصر على الإحسان والإنعام { الرحيم } [الطور: 28] كثير الرحمة والامتنان على السائلين المؤمنين المستحقين، فاستحاب سبحانه بلطفه سؤالنا، وأنجح آمالنا بمقتضى سعة جوده ورحمته.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من فضل الله، ولطفه، وسعة رحمته، وجوده مع أوليائه { فذكر } واثبت على العظة والتكذير لعموم عباد الله، ولا تبال بقولهم الباطل في حقك { فمآ أنت بنعمة ربك } التي هي الآيات المنزلة إليك، الملهمة من ربك { بكاهن } مبتدع مفتر مجترئ على الإخبار عن المغيبات بلا روحي من قبل الحق وإلهام من جانبه { ولا مجنون } [الطور: 29] مختل العقل، مخبط الرأي كما يزعم في شأنك المسرفون المتفرون. { أم يقولون شاعر } فصيح بليغ بلغ على حد من البلاغة، عجز عن معارضته أقرانه مع البلغاء، فنحن { نتربص } وننتظر { به ريب المنون } [الطور: 30] أي: من الأيام وكر الأعوم إلى أن يموت، فنخلص من فتنته وشرته.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل: { تربصوا } وانتظروا لمقتي وموتي { فإني } أيضا { معكم من المتربصين } [الطور: 31] المنتظرين لمقتكم وهلاككم، والأمر بيد الله، والحكم مفوض إلى مشيئته، موكول إلى إرادته، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
أهم يكابرون في هذه الأحكام المتناقضة مجادلة ومراء، وينسبونك مرة إلى الكهانة المتضمنة الفطانة، ومرة إلى الجنون المنبئ عن نهاية البلادة، وتارة إلى الشعر المستلزم للوزن والقافية، مع أن ما جئت به من الكلام عار عن الوزن، خال عن القافية مطلقا.
[52.32-49]
{ أم تأمرهم أحلامهم } السخيفة المستمدة من أوهامهم الضعيفة { بهذآ } القول الباطل الزاهق الزائل { أم هم قوم طاغون } [الطور: 32] بغون متناهون في العتو والعناد، صدر عن أمثال هذه، بلا تأمل وتدبر على مقتضى عتوهم وثروتهم وكبرهم وخيلائهم.
{ أم يقولون تقوله } واخلتقه من تلقاء نفسه، ونسبة إلى الوحي والإلهام تغيرا وترويجا { بل } معظم أمرهم وقصارى رأيهم أنهم { لا يؤمنون } [الطور: 33] به وبك، فيتفوهون بأمثال هذه المطاعن والقوادح من شدة شكيمتهم، وغلظ غيظهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل.
وبعدما بالغوا في القدح والطعن، وبلغوا غاية اللإنكار والإصرار، قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التعجيز والتبكيت: { فليأتوا بحديث مثله } أولئك المسرفون المفرطون { إن كانوا صادقين } [الطور: 34] في زعمهم ومفترياتهم مع أنهم لم يأتوا بمثله، ولا يتأتى منهم الإتيان أيضا، وإن يتظاهروا ويتعاونوا بجميع ما في الأرض؛ إذ هو خارج عن طور البشر ومشاعره.
أيصرون على إنكار الخالق مع أنهم مخلوقون { أم } اعتقدوا أنهم { خلقوا من غير شيء } وبلا فاعل موجد { أم } اعتقدوا نفوسهم أنهم { هم الخالقون } [الطور: 35] المستقلون على إيجاد هياكلهم بلا مؤثر خارجي هو الله، أيحصرون حينئذ خالقيتهم لأنفسهم فقط؟!
{ أم } اعتقدوا أنهم { خلقوا السماوات والأرض } أي: العلويات والسفليات والممتزجات؟! وبالجملة: لا ينكرون حدوث الأشياء، واستنادها المحدث المؤثر { بل لا يوقنون } [الطور: 36] ولا يتصفون باليقين في إثبات الموجد القديم وتوحيده.
أهم يثبتون مرتبة النبوة من تلقاء أنفسهم، ويختارون لها من يريدون { أم عندهم خزآئن ربك أم هم المصيطرون } [الطور: 37] الغالبون المقتدرون على عموم مقاصدهم ومطالبهم، فيفعلون جميع ما يأملون ويشاءون، بالإدارة ولاختيار؟!
{ أم } ادعوا علم الغيب بالاستماع من الملأ الأعلى؟! إذ { لهم سلم } مرقاة يصعدون بها إلى مكان من السماء { يستمعون فيه } من الملائكة ما يظهرون من تكذيب الرسل، وقدح القرآن { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } [الطور: 38] أي: بحجة واضحة ومعجزة ساطعة، كما أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
أأنتم العقلاء المتضرون بكمال الرشد والرزانة أيها المسرفون المفرطون { أم } سفهاء منحطون عن زمرة العقلاء مع أن دعواكم بأن { له } سبحانه { البنات ولكم البنون } [الطور: 39] تدل على سفاهتكم وانحطاطكم عن متقضى العقل؟! إذ إثبات الولد مطلقا للواحد الأحد الصمد، المنزه عن الأهل والولد بعيد بمراحل عن مقتضى العقل، فكيف إثبات أخس الأولاد سبحانه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
فثبت أن أولئك الحمقى سفهاء ساقطون عن رتبة العقلاء وأهل العبرة، فلا يسمع منهم مطلق الدعوى، سيما الأمور المتعلقة بالمعارف الإلهية.
فكيف إنكارهم بك يا أكمل الرسل هذا، أينكرون رسالتك يا أكمل الرسل، ويظنون لحوق الضرر إياهم منك { أم } أيظنون إنك بسبب تبليغك إياهم { تسألهم أجرا } جعلا عظيما { فهم } حينئذ { من مغرم } والتزام غرامة عظيمة { مثقلون } [الطور: 40] متحملون الثقل، لذلك شق عليهم الأمر إلى حيث أنكروا لك، وانصرفوا عن تصديقك.
وبالجملة: أينكرون رسالتك بمقتضى قرائحهم، ومن تلقاء أنفسهم { أم عندهم الغيب } أي: لوح القضاء المثبت فيها جميع الأشياء { فهم يكتبون } [الطور: 41] المغيبات منها؟!
{ أم يريدون } ويقصدون { كيدا } لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة { فالذين كفروا } مكروا عليه { هم المكيدون } [الطور: 42] المقصورون على كيدهم، لا يتعدى عنهم وباله.
أينكرون توحيد الحق مكابرة { أم لهم إله غير الله } يعبدونه كعباده، ويطيعونه على نحو إطاعته ويستعينون منه في الخطوب والملمات، وبالجملة: { سبحان الله } وتعالى { عما يشركون } [الطور: 43] لهم من أدون مخلوقاته.
{ و } بعدما ألحقوا، واقترحوا بقولهم: فأسقط علينا كسفا من السماء { إن يروا كسفا } قطعا { من السمآء ساقطا } عليهم وبمقتضى اقتراحهم { يقولوا } من شدة عنادهم، وفرط إنكارهم: هذا { سحاب مركوم } [الطور: 44] تراكم بعضه على بعض فيسقط.
وبالجملة: { فذرهم } يا أكمل الرسل، واتركهم على ماهم عليه من العدوان والطغيان { حتى يلقوا } ويصلوا { يومهم الذي فيه يصعقون } [الطور: 45] يموتون، ويهلكون بالمرة، وهو عند النفخة الأولى، ثم يحشرون ويعذبون.
{ يوم } أي: يومئذ { لا يغني } ولا يدفع { عنهم كيدهم } الذي أتوا به في دار الندوة والابتلاء { شيئا } من الدفع والإغناء في رد عذاب الله { ولا هم ينصرون } [الطور: 46] ويمنعون حينئذ من بطشه وعذابه.
وهم مع ذلك لا يمهلون إلى العذاب الآجل، بل يعذبون في العاج والبرزخ أيضا، كما قال سبحانه: { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك } العذاب الأخروي الموعود لهم، وهو وقوعهم في نيران الإمكان بأنواع الخيبة والخسران، وتقيدهم بسلاسل الآمال وأغلال الأماني { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الطور: 47] ولا يفهمون ألمها، مع أنها من أشد العذاب إيلاما، وأصعب الوبال والنكال انتقاما، أعاذنا الله وعموم عباده منها.
{ و } بالجملة: { اصبر } يا أكمل الرسل { لحكم ربك } بإمهالهمم إلى قيام الساعة، وإبقائك فيما بينهم بأنواع التعب والعناء، ولا تستعجل لمقتهم وهلاكهم، ولا تخف من مكرهم معك وغدرهم عليك { فإنك بأعيننا } وكنف حفظنا وحوزة حراستنا وحضانتنا، نكفيك نكف عنك مؤنة شرورهم، ولا تلتفت إليهم، ولا تبال بمكرهم وكيدهم، ولا تشتغل عنا بهمم وبمخاصمتهم { وسبح } أي: نزه ربك عن أن يعجز عن أخذهم وا نتقامهم أو عن إنجاز ما وعد لك من عذابهم ملتبسا { بحمد ربك } في جميع حلااتك وأوقاتك سيما { حين تقوم } [الطور: 48] من منامك.
{ ومن الليل } حين تستريح فيه للنوم { فسبحه } لتكون على ذكر من ربك حين رقودك وغفلتك عن حواسك؛ ليكون ذكرك حينئذ توصية منك بمتخليلتك وإرشادالها وتعليما إياها { و } سبحه أيضا { إدبار النجوم } [الطور: 49] وقت دبور النجوم، وظهور ضياء الشمس، فإن كلا الوقتين وقت فراغ البال عن مطلق التشتت والأشغال العائقة عن التوجه، جعلنا الله ممن خلفف أثقاله وقلل آماله بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو المقام المحمود الذي هو مرتبة الكشف والشهود - هداك الله إلى سواء السبيل، ووقاك عن مطلق التغيير والتبديل - أن تخلي خلدك عن الركون إلى ما سوى الحق، والالتفات إلى عموم ما يشغلك عن التوجه إليه، والتحنن نحوه.
ولك الاشتغال بالتسبيح والتقديس في جميع أوقاتك، وحالاتك سيما في أثناء صلواتك في خلال خلواتك، إياك إياك الميل إلى مزخرفات الدنيا ولذاتها وشهواتها، والاختلاط مع أبنائها المنغمسين بقاذوراتها، فإن التلطخ بمزخرفات الدنيا بكل الأبصار ويعمي القلوب التي في الصدور.
خفف عنا بلطفك ثقل الأوزار، وأرزقنا بفضلك عيشة الأبرار، واصرف عنا بكرمك شر الأشرار.
[53 - سورة النجم]
[53.1-26]
{ والنجم إذا هوى } [النجم: 1] أي: وحق النجوم الثواقل الهاوية، النازلة بقلوب أرباب الإدارة من عالم اللاهوت؛ ليهتدوا بها في ظلمات التعينات إلى فضاء التوحيد وشمس الوحدة الذاتية الحقيقية.
{ ما ضل } أي: ما انحرف وعدل { صاحبكم } الرسول المؤيد من عند الله، المستوي على صراط العدالة الإلهية عن طريق التوحيد والتحقيق { وما غوى } [النجم: 2] أي: ما ضل وانصرف في سلوك سبيل الحق نحو الباطل الزاهق الزائغ.
{ وما ينطق } ويتكلم بالقرآن المعجز { عن الهوى } [النجم: 3] الناشئة من ظلمات الطبيعة والهيولي.
{ إن هو } أي: ما القرآن الذي ينزل إليه صلى الله عليه وسلم ويتكلم هو به { إلا وحي يوحى } [النجم: 4] إليه من عند ربه، بلا تصنع له فيه، وتكلف من جانبه.
بل { علمه } عناية عليه وتكريما، وتأييدا بشأنه وتعظيما { شديد القوى } [النجم: 5] الذي لا حول ولا قوة في الوجود إلا منه وبه وله؛ إذ لا موجود سواه.
هو سبحانه { ذو مرة } قوة وقدرة ذاتية محيطة لعموم ما ظهر وبطن من المظاهر، وبعد تعليم الحق إياه صلى الله عليه وسلم وتقويته وتأييده { فاستوى } [النجم: 6] تمكن واعتدل صلى الله عليه وسلم على صراط العدالة، وتمكن على مرتبة الخلافة والنيابة.
{ وهو } حينئذ من كمال التربية والتأييد تمكن { بالأفق الأعلى } [النجم: 7] الذي هو أفق عالم اللاهوت، ومطلع شمس الذات من مشرق عالم العمى، الذي هو
نور على نور
[النور: 35].
{ ثم دنا } وتقرب إلى ربه { فتدلى } [النجم: 8] وتعلق به سبحانه نوع تعلق ولحوق إلى حيث { فكان } قرب ما بينها { قاب قوسين } أي: مقدار قوسي الوجوب والإمكان، الحافظين لمرتبتي الألوهية والعبودية { أو أدنى } [النجم: 9] وأقرب منهما لفناء حصة الناسوت مطلقا في حصة اللاهوت.
وبعدما صار صلى الله عليه وسلم ما صار وقرب إلى حيث قرب { فأوحى } وألهم سبحانه { إلى عبده } الذي هو سبحانه أقرب إليه من نفسه { مآ أوحى } [النجم: 10] من المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات الفائضة عليه من لدنه سبحانه، الخارجة عن طور ناسوته وبشريته، فرأى صلى الله عليه وسلم ما رأى، وانكشف بما انكشف؟
وبالجملة: { ما كذب الفؤاد } أي: فؤداه صلى الله عليه وسلم الذي هو من منهيات عالم اللاهوت، المتمكن في قلوب ذوي العناية، وأولي الألباب على سبيل الوديعة من قبل الحق { ما رأى } [النجم: 11] وشهد حين وصوله ولحوقه بالأفق الأعلى.
{ أ } تنكرون انكشافه وشهوده صلى الله عليه وسلم أيها المحجوبون المحرومون { فتمارونه } وتجادلون معه على سبيل المراء والمكابرة { على ما يرى } [النجم: 12] من الذوقيات والوجدانيات التي تأبى عنها عقولكم، وتعمي أبصاركم، ولا يمكن إلقاؤها وكشفها لكم.
وكيف تستبعدون وتنكرون له صلى الله عليه وسلم أمثال هذا { و } الله { لقد رآه } ما رآه من الشهودات التي تدهش منها عقول العقلاء، وتتحير أوهامهم وخيالاتهم { نزلة أخرى } [النجم: 13] مرة أخرى قبل عروجه ووصوله إلى الأفق الأعلى، والمقام الأدنى الذي هو اليقين الحقي، وذلك { عند سدرة المنتهى } [النجم: 14] التي ينتهي إليها ودونها اليقين العلمي والعيني.
إذ { عندها جنة المأوى } [النجم: 15] التي يأوى إليها أرباب العناية شوقا إلى لقاء الله، وهو موعد الرؤيا والعيان، ومقام التوحيد والعرفان.
{ إذ يغشى السدرة } المعهودة؛ أي: يغطي الموعد الموعود، ويحيط بها { ما يغشى } [النجم: 16] من التجليات الإلهية المتشعشعة حسب الشئون المتجددة، المحيرة لعيون النواظر من أرباب الولاء، الوالهين بمطالعة وجه الله الكريم.
وبالجملة: { ما زاغ البصر } أي: ما مال وانحرف بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تعاقب التجليات الإلهية، وترادف شئونه الغيبية، وتطوراته الجمالية والجلالية حسب أسمائه وصفاته العلية، عن وحدة ذاته، وما يشغله شيء منه عنه سبحانه { وما طغى } [النجم: 17] خرج نفسه صلى الله عليه وسلم عند رؤية ما رأى من العجائب والغرائب عن ربقة الرقية صلى الله عليه وسلم، وعروة العبودية، بل التزم حينئذ بقيام ما لزم من آداب العبودية ولوازم الإطاعة والانقياد أكثر مما التزمها قبل انكشافه.
والله { لقد رأى } صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء { من آيات ربه الكبرى } [النجم: 18] أي: الآيات الكبرى التي هي آيات ربه الذي رباه على رؤية آياته الكبرى، ما لا يراه أحد من المكاشفين، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل من بني نوعه.
{ أ } تنكرون أيها الجحادون وحدة الحق عز شأنه وجل برهانه، وانكشاف حبيبه صلى الله عليه وسلم بوحدته وبلوازم ألوهيته وربوبيته، ورسالته من عنده سبحانه على عموم بريته وكافة خليقته؛ ليرشدهم إلى الإيمان به، ويهديهم إلى توحيده { فرأيتم } أثبتم وأخذتم الأصنام شركاء له، مشاركين معه في ألوهيته وربوبيته؛ يعني: الأولى { اللات و } الثاني { العزى } [النجم: 19] { ومناة الثالثة الأخرى } [النجم: 20] مع أنها جمادات لا شعور لها ولا يصدر شيء منها.
وأعظم من ذلك أنكم أثبتم له سبحانه الأولاد أخسها وأدونها، { ألكم الذكر } الأشرف والأكرم أيها الحمقى { وله } سبحانه مع كما تنزهه عن نقيصه، اتخاذ الوالد المترتب على القوة الشهوية { الأنثى } [الأنثى: 21] المرذولة المستهجنة.
والله { تلك } القسمة التي جئتم بها مع استحالتها في حقه سبحانه { إذا قسمة ضيزى } [النجم: 22] أي: لو فرض في شأنه سبحانه هذه، لكانت قسمتكم قسمة عوجاء جائزة مائلة عن العدالة؛ إذ أنتم أيها الحمقى تستنكفون عن الأنثى، وتثبتونها لله المنزه عن الأهل والولد، المقدس عن مطلق أمارات الحدوث وعلامات النقصان.
وبالجملة: { إن هي } أي: ما آلهتكم التي أنتم أثبتموها، واعتقدتم شركتها مع الله { إلا أسمآء } لا مسيمات لها أصلا بل { سميتموهآ أنتم } تبعا { وآبآؤكم } أصالة من تلقاء أنفسكم؛ إذ { مآ أنزل الله بها من سلطان } برهان واضح، وحجة قاطعة بل { إن يتبعون } أي: ما يتبع أسلافكم الحمقى { إلا الظن } والخيال الناشئ من أوهامهم وأحلامهم السخيفة أمثالكم أيها الجاهلون { وما تهوى الأنفس } أي: ما تهويه وتشتهيه نفوسهم { ولقد جآءهم } ونزل عليهم حينئذ أيضا على ألسنة رسلهم { من ربهم الهدى } [النجم: 23] المصول إلى مرتبة التوحيد، فتركوها ظلما وعدوانا، ولم يتبعوها أمثالكم أيها الحمقى.
أتطمعون الشفاعة من تلك الآلهة الهلكى، وتأملون معاونتهم ومظاهرتهم إياكم أيها الحمقى؟! { أم } تعتقدون أن يحصل { للإنسان } جميع { ما تمنى } [النجم: 24] وتأمل من اللذات والشهوات.
بل { فلله } وفي قبضة قدرته وتحت صرفه { الآخرة والأولى } [النجم: 25] أي: ما جرى في النشأة الأولى والأخرى من الكرامات، يمن بها على من يشاء، ويصرفها عمن يشاء إرادة واختيارا، لا يحكم عليه ولا ينازع في سلطانه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
ثم قال سبحانه تسجيلا على غاية غبواوتهم، ونهاية بلادتهم وحماقتهم في اتخاذهم الأصنام آلهة، واعتقادهم شفعاء: { وكم من ملك في السموت } أي: كثير من الملائكة المقبولين عند الله، المهيمين بمطالعة وجهه الكريم، مع ذلك القرب والشرف { لا تغني شفاعتهم شيئا } من الإغناء { إلا من بعد أن يأذن الله } لهم ليشفعوا عنده سبحانه { لمن يشآء } سبحانه خلاصهم من عباده { ويرضى } [النجم: 26] بشفاعة الشفعاء عندهم لاستخلاصهم بإذن منه سبحانه.
وهؤلاء الحمقى يدعون الشفاعة لأولئك الهلكى، ويعتقدونها آلهة متشاركين مع الله في الألوهية والربوبية ظلما وعدوانا، بلا حجة وبرهان، ومن غاية عدوانهم وطغيانهم: يهينون الملائكة المكرمين المقربين، ويستحقرونهم حيث ينسبونهم إلى الأنوثة المستلزمة لغاية النقصان.
[53.27-44]
وبالجملة: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة } كل واحد منهم ظلما وزورا { تسمية الأنثى } [النجم: 27] أي: يسمونهم بنات الله ظلما على الله، بإثبات الولد له وعليهم نقص الأنوية إياهم.
{ و } الحال أنه { ما لهم به } أي: بقولهم هذا { من علم } لا يقين ولا ظن، ولا سند من عقل ونقل، بل { إن يتبعون } أي: ما يتبعون في قولهم هذا { إلا الظن } والتخمين الناشئ من تقليد آبائهم، المنتسبين إلى الجهل والعناد { وإن الظن } المستند إلى الجهل والتقليد { لا يغني } ويفيد { من الحق } الحقيق بالاتباع { شيئا } [النجم: 28] من الإغناء والإفادة.
وبعدما سمعت حالهم وقولهم: { فأعرض } يا أكمل الرسل وانصرف { عن من تولى عن ذكرنا } الصارف له عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة، ولا تبال بشأنه، ولا تبالغ في دعوته من غاية إعراضه وانصرافه { ولم يرد } من السعادات المنتظرة، والكرامات الموعودة للإنسان { إلا الحياة الدنيا } [النجم: 29] ولذاتها وشهواتها، ولم يهتم إلا بشأنها، واقتصر على مزخرفاتها مع كمال غفلة، وذهول تام عن الكرامات الروحانية، واللذات الأخروية.
{ ذلك } الذي سمعت يا أكمل الرسل من ميلهم إلى الدنيا { مبلغهم من العلم } اللذني الفائض لهم من حضرة العلم الإلهي، فعليك يا أكمل الرسل أن تعرض عنهم وعن دعوتهم وإرشادهم، بعدما أمرت به حسب العقل الفطري الموهوب لهم من المبدأ الفياض، وبالغت في تبليغ المأمور.
وبالجملة : { إن ربك } الذي رباك بكمال كرامته، واصطفاط لرسالته ونيابته { عن سبيله } بعلمه الحضوري { هو أعلم } وانحرف { بمن ضل } من عباده، ومال عن جادة توحيده { وهو أعلم } أيضا { بمن اهتدى } [النجم: 30] منهم بهدايتك وإرشادك.
{ و } كيف لا يعلم سبحانه المضلين والمهتدين من عباده؛ إذ { لله } ملكا وتصرفا، وإحاطة وشمولا مظاهر { ما في السموت وما في الأرض } وما بينهما من الكوائن والفواسد { ليجزي الذين أساءوا } بأعمالهم وأقوالهم { بما عملوا } أي: بمقتضى عملهم على مقتضى عدله سبحانه، بلا زيادة ولا نقصان { ويجزي الذين أحسنوا } أيضا كذلك { بالحسنى } [النجم: 31] أي: أزيد مما استحقوا بصوالح أعمالهم وحسنات أخلاقهم، تفضلا عليهم وامتنانا.
والمحسنون هم: { الذين يجتنبون كبائر الإثم } أي: يحترزون عن الآثام الكبيرة، المستجلبة لغضب الله، المستتبعة لعذابه ونكاله في النشأة الأخرى، المستلزمة للحدود والكفارات بحسب الشرع الشريف { والفواحش } أي: يحفظون نفوسهم أيضا عن الفواحش المسقطة للمروءات الجالبة لأنواع النكبات، والوعيدات الهائلة الإلهية المقتضية للخلود في دركات النيران { إلا اللمم } الطارئ عليهم من صغائر الذنوب هفوة، فجبروه بالتوبة دفعة، فإنه معفو عن مجتنبي الكبائر والفواحش، قبل التوبة أيضا.
وكيف لا يغفر سبحانه لأصحاب اللمم { إن ربك } يا أكمل الرسل { واسع المغفرة } سريع العفو، شامل الرحمة { هو } سبحانه { أعلم بكم } منكم، وبعموم أحوالكم وأطواركم أيها المجبولون على فطرة التكليف، وكيف لا يعلم سبحانه أحوالكم! { إذ أنشأكم } وأظهركم { من الأرض } بمقتضى سعة علمه وجوده { وإذ أنتم أجنة } لا شعور لكم محبوسون { في بطون أمهاتكم } يعلم سبحانه منكم جميع أحوالكم، وأطواركم وعمو حوائجكم الماضية والآتية، وبالجملة: { فلا تزكوا } ولا تنزهوا وتطهروا { أنفسكم } إذ لا علم لكم بتفاصيل أحوالكم وأعمالكم مطلقا، بل { هو } سبحانه { أعلم بمن اتقى } [النجم: 32] وحفظ نفسه عن مساخطه سبحانه، واحترز عن منهياته.
ثم قال سبحانه عبرة على المستبصرين وتوبيخا على المستكبرين: { أفرأيت } أيها المعتبر الرائي الطاغي { الذي تولى } [النجم: 33] وأعرض عن اتباع الحق، وأصر على الباطل عنادا ومكابرة، بعدما وعد الحق التصدق من ماله كفارة لذنوبه، { وأعطى قليلا } مع سمعة ورياء { وأكدى } [النجم: 34] وقطع عطاء الباقي بعد ذلك، فما وفى ووفر جميع ما وعد، ثم ارتد - العياذ بالله - وندم عما تصدق قبل، فأصر على ما كان من الكفر والجحود، ومع ذلك يزعم أنه قد برئ من الذنوب بتصديقه.
نزلت في الوليد بن المغيرة كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بعض المشركين، وقال: تركت دين الأشياخ، وضللتهم، فقال: أخشى عذاب الله، فضمن أن يتحمل عنه العذاب، إن أغطى بعض ماله من المشروط، ولم يتم ومع ذلك يزعم البراءة عن الذنوب لذلك، ثم بخل بالباقي، وبعدما أعطى بعض المشروط، ارتد - العياذ بالله - عن الدين ومتابعة الرسول الأمين.
عيره سبحانه بقوله: { أعنده علم الغيب فهو يرى } [النجم: 35] بأن التصدق وتحمل الغير وتضمنه يدفع عنه العذاب.
{ أم لم ينبأ } ولم يخبر { بما في صحف موسى } [النجم: 36] وهي ألواح التوراة المنصوصة فيه بخلاف ذلك.
{ و } لم ينبأ أيضا بما في صحف { إبراهيم } الذي يدعي متابعته والتدين بدينه، مع أن إبراهيم { الذي وفى } [النجم: 37] ووفر وأتم بجميع ما التزمه وأمر به، وبالغ في وفاء ما عاهد والتزم طلبا لمرضاة ربه، وهو يدعي متابعته، ولم يوف بما التزم من العهود.
وكيف يحمل الغير عنه وزره أو يسقطه الصدقة، مع أن مضمون ما في عموم كلتا الصحفين هو هذا { ألا تزر } أي: أنه لا تحمل { وازرة } أي: نفس آثمة { وزر أخرى } [النجم: 38] أي: ذنبها، ولا يؤخذ هي عليها، بل كل نفس من النفوس الخيرة والشريرة، رهينة بما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
{ و } كذا منصوص في الصحفين أن { ليس للإنسان } المجبول على فطرة العرفان؛ أي: لكل واحد من أشخاصه { إلا ما سعى } [النجم: 39] واقترف لنفسه وأعد لمعاشه ومعاده.
{ و } كذا ثبت فيما { أن سعيه } أي: سعي كل واحد من أفراد الإنسان خيرا كان أو شرا { سوف يرى } [النجم: 40] في النشأة الأخرى، مصورة بالصور الحسنة والقبيحة من الدرجات العلية الجنانية، أو الدركات الهوية النيرانية.
{ ثم } بعدما حوسب عليه عموم مساعيه أعماله { يجزاه الجزآء الأوفى } [النجم: 41] أي: يوفر عليه من الجزاء على مقتضى سعيه في أعمالها، خيرا كان أو شرا.
{ و } أيضا مثبتا فيهما { أن إلى ربك المنتهى } [النجم: 42] أي: منتهى الكل إلى الله، كما أن مبدأه منه؛ إذ ليس وراءه مرمى ومنتهى.
{ وأنه هو أضحك } من أضحك { وأبكى } [النجم: 43] من أبكى.
{ وأنه هو أمات وأحيا } [النجم: 44] إذ لا قادر على الإماتة والإحياء غيره سبحانه.
[53.45-62]
{ وأنه } من كمال قدرته ووفور حكمته { خلق الزوجين الذكر والأنثى } [النجم: 45] من صنف ونوع وحنس، وقدر وجود الزوجين { من نطفة } مهينة حاصلة منهما { إذا تمنى } [النجم: 46] أي: تصب وتراق في الرحم على وجه الدفق، أو تقدر وتخلق منها.
{ وأن عليه النشأة الأخرى } [النجم: 47] أي: عليه سبحانه إعادة الأموات أحياء في النشأة الأخرى، كما أن عليه الإبداء في النشأة الأولى.
{ وأنه } سبحانه { هو } بذاته لا بالوسائل والوسائط؛ إذ الكل راجع إليه { أغنى } من إغنى بإعطاء الأموال له { وأقنى } [النجم: 48] من قنى بإلهام القنية والادخار.
وإنما فعل معهم ما فعل من الإغماء والإقناء ليشكروا له، ولم يعبدوا غيره، ومع ذلك أشركوا له، فعبدوا الشعرى، { و } لا شك أنه سبحانه { هو رب الشعرى } [النجم: 49] وهي كواكب قد عبدها بعض الصابئين، منهم أو كبشة، أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك يكنى بكنيته.
{ وأنه } سبحانه { أهلك عادا الأولى } [النجم: 50] لشركهم، بالله، وصفهم بالأولى؛ لأنهم أول قوم أهلكهم الله بعد نوح، { و } أنه سبحانه أهلك { ثمود فمآ أبقى } [النجم: 51] أحدا من كلا الفريقين.
{ و } أهلك أيضا بمقتضى قدرته الكاملة { قوم نوح من قبل } أي: قبل إهلاك عاد وثمود { إنهم } أي: قوم نوح { كانوا هم أظلم وأطغى } [النجم: 52] أي: أظلم الناس على أهل الله، وأطغاهم عن طريق الهداية والرشاد.
{ و } أنه سبحانه أهلك { المؤتفكة } أي: أهل القرى المنقلبة، وهي قوم لوط عليه السلام إلى حيث { أهوى } [النجم: 53] أي: أسقط عليهم درهم وأماكنهم، بعدما رفعها نحو السماء، وقلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، { فغشاها } حينئذ { ما غشى } [النجم: 54] من أمطار الحجارة، وأنواع المصيبات والعاهات، والنكبات.
وبالجملة: { فبأي آلاء ربك } وأصناف نعمائه المتوالية المترادفة من انتقام الأعداء وإنعام الأولياء { تتمارى } [النجم: 55] وتتدافع على وجه الجدال والمراء، أيها المحجوب الجاحد لوحدة الحق واستقلاله في عموم تصرفاته الجارية في ملكه وملكوته، بكمال الإرادة والاختيار.
وبالجملة: اعلموا أيها المجبولون على فطرة التكليف المثمر للمعرفة والتوحيد أن { هذا } أي: رسولكم الذي أرسل إليكم من لدنا؛ ليرشدكم إلى توحيد الذات، مؤيدا بالكتاب المبين لمقدمات التوحيد، مشتملا على الأوامر المؤدية إليه والنواهي العائلة عنه، والعبر والتذكيرات المصفية لنفوسكم عن الركون إلى ما ينافيه من المزخرفات الدنية الجالبة لأنواع اللذات، والشهوات الجسمانية الموروثة لكم من شياطين نفوسكم، وقواكم البهيمية الظلمانية المتفرعة على الطبيعة، والهيولي التي هي من نتائج التعينات العدمية الناسوتية المانعة من الوصول لصفاء علام اللاهوت { نذير } لكم أكمل { من النذر الأولى } [النجم: 56] إذ هم منذرون عن الشواغل المنافية؛ لتوحيد الصفات والأفعال، ونذيركم هذا صلى الله عليه وسلم ينذركم عن موانع توحيد الذات.
واعلموا أنه بعد بعثته صلى الله عليه وسلم: { أزفت الآزفة } [النجم: 57] أي: دنت القيامة واقترتب الساعة، { ليس لها من دون الله كاشفة } [النجم: 58] أي: ن فس قادرة على كشفها وتعيينها، ووقت وقوعها وقيامها؛ إذ هي من جملة المغيبات التي استأثر الله بها، ولم يطلع أحدا عليها.
ثم وبخ سبحانه على المنكرين ليوم القيامة المستكبرين عن قبولها فقال: { أفمن هذا الحديث } الصحيح، والحق الصريح الذي هو القرآن المعجز { تعجبون } [النجم: 59] تعنتا وإنكارا. { وتضحكون } منه استهزاء ومراء { ولا تبكون } [النجم: 60] بما فيه من الوعيدات الهائلة، تلهفا وتأسفا عكلى ما فرطتم لأنفسكم وأفرطتم عليها.
{ وأنتم } أيها الحمقى الجاهلون { سامدون } [النجم: 61] لاهون ساهون، مستكبرون على ماف يه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد، مكابرون عليها عتوا وعنادا.
وإن أردتم التلافي والتدارك { فاسجدوا لله } وتذللوا له حق تذلله، و عظموه حق تعظيمه وتكريمه { واعبدوا } [النجم: 62] له حق عبادته كي تصلوا إلى زلال معرفته وتوحيده.
جعلنا الله من زمرة عباده العابدين المتذللين الخاضعين الخاشعين بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد - عصمك الله عن آفات التخمين والتقليد، وأعانك على التوكل والتجريد - أن تلازم على المجاهدة، والانكسار والتذلل، والافتقار بدوام العزلة والفرار عن أصحاب النخوة والاستكبار، صارفا عنان عزمك لإسقاط عموم الإضافات و الاعتبار، طالبا الانخلاع عن ملابس الحياة المستعار، ملازما لسبيل المثمر للبقاء الأبدي والحياة الأزلية السرمدية حتى تتخلص من أودية الضلال، وتصل إلى فضاء الوصال.
[54 - سورة القمر]
[54.1-10]
{ اقتربت الساعة } ودنت القيامة الموعودة قيامها، ومن علاماتها: انشقاق القمر { و } قد { انشق القمر } [القمر: 1] بإشارة الحضرة الختمية المحمدية صلى الله عليه وسلم، هذا وتواتر وقوعه.
{ و } المنكرون المصرون على الإنكار والتكذيب، المقيدون بعقال العقل الفضولي، المغلولون بأغلال الأحلام المشوبة بالخيالات والأوهام { إن يروا آية } معاينة دالة على كمال قدرة الصانع الحكيم، والقادر العليم، يعرضوا عنها؛ لعدم مطابقتها بعاداتهم، ومقتضيات أوهامهم وخيالاتهم { ويقولوا } من شدة إنكارهم وعنادهم: هذا الذي صدر منه على خلاف العادة { سحر مستمر } [القمر: 2] في الزمان، وقوعه لا مختلق منه فقط.
{ و } بالجملة: { كذبوا } الآية الخارقة للعادة { واتبعوا أهوآءهم } المعتادة الفاسدة، وآراءهم الباطلة الكاسدة { و } هكذا { كل أمر } رسخ، تمكن في نفوسهم، سواء كان خيرا أو شرا، طاعة أو معصية، ولاية أو عداوة { مستقر } [القمر: 3] ثابت في مكانه بعدما تقرر وتمرن، لا يتعداه أصلا.
{ و } من نهاية تمكنهم ورسوخهم في الكفر والعناد، وتمرنهم على الغي والفساد، لقد جاءهم في القرآن المرشد لهم إلى الهداية والعرفان { من الأنبآء } والأخبار الجارية على القرون الماضية، المصرة على العتو والعناد أمثالهم { ما فيه مزدجر } [القمر: 4] أي: وعيدات هائلة موجبة للانزجار الكامل، والارتداع المبالغ لأصحاب الغيرة والاستبصار.
أذ هي كلها { حكمة بالغة } نهايتها في الإحكام والإتقان، ومع ذلك { فما تغن النذر } [القمر: 5] وما تفيدهم إنذاراتهم أصلا؛ إذ هم مجبولون على الغواية المتناهية، أمثال هؤلاء الغاوين المصرين على العتو والعناد معك، وبالجملة: { فتول } يا أكمل الرسل، وأعرض { عنهم } وعن دعوتهم وإرشادهم، وانتظر { يوم يدع } وينادي { الداع } المنادي هو إسرافيل - ودعاؤه كناية عن نفخة في الصور للبعث أو الحشر { إلى شيء نكر } [القمر: 6] فظيع فجيع، تنكره النفوس؛ إذ لم يعهد مثله، وهو هول يوم القيامة المعدة للحساب والجزاء.
وبعدما سمعوا النداء والهائل، والصداء المهول { خشعا أبصرهم } أي: شاخصة ذليلة، كالتائه الهائب الهائل { يخرجون من الأجداث } أي: قبورهم التي هم مدفونون فيها في عالم البرزخ، ويتحركون على الأرض { كأنهم جراد منتشر } [القمر: 7] في الكثرة والانتشار إلى الأمكان.
فيتوجهون { مهطعين } مسرعين { إلى الداع } المنادي، مادين أعناقهم نحوه، ومن شدة خوفهم وهولهم، ليعلموا لما يدعوهم، ومن شدة تلك الساعة، ونهاية أهوالها وفظاعتها { يقول الكافرون } في نجواهم، وهواجس نفوسهم: { هذا يوم عسر } [القمر: 8] صعب في غاية الصعوبة والفظاعة.
ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه صلى الله عليه وسلم حين كذبه قومه، حاكيا إياه صلى الله عليه وسلم عن أحوال الماضين تسلية وإزالة لحزنه: { كذبت قبلهم } أي: قبل قومك { قوم نوح } أي: لا تحزن يا أكمل الرسل من تكذيب هؤلاء المكذبين بك، ولا تغتم من أذياتهم؛ إذ ما هي ببدع منهم بالنسبة إليك، بل تذكر تكذيب قوم نوح { فكذبوا عبدنا } أي: كيف كذبوا أخاك نوحا { وقالوا } له حين دعوتهم إلى الإيمان: هو { مجنون } مخبط، مختل العقل والرأي { وازدجر } [القمر: 9] وزجر؟ لأجل دعوته وتبليغه إياهم إلى حيث لطمه كل من يصل إليه، ورماه بالحجارة كل من يمر عليه، فصبر على أذاهم، وبالغ في دعوته إياهم.
وبعدما بلغت الأذية غايتها { فدعا ربه } دعاء مؤمل ضريع فجيع: { أني } أي: بأني - على قراءة الفتح - أو قال: إني بالكسر { مغلوب } غلبني قومي، ولم يقبلوا مني دعوتي وهدايتي { فانتصر } [القمر: 10] علي يا ربي، وانتمم لي منهم، وما دعا عليهم إلا بعد يأسه عن إيمانهم.
روي أنه يدعو كل واحد منهم جمعا وفرادى، فيضربونه ويخنقونه حتى خر مغشيا عليه، ثم لما أفاق قال:
" اللهم اهد هومي، فإنهم لا يعلمون ".
[54.11-27]
وبعدما قنط، وبلغ الزجر غايته تضرع نحونا، مشتكيا من قومه { ففتحنآ } لانتقامهم وهلاكهم { أبواب السمآء بماء منهمر } [القمر: 11] منصب، كأنه يجري من جانب السماء.
{ وفجرنا الأرض عيونا } أي: فجرنا عيون الأرض، وصيرناها كأنها عيونا كلها { فالتقى المآء } الحاصل من كلا الجانبين، وبلغا { على أمر } حال واحد { قد قدر } [القمر: 12] أي : قدره الله في حضرة علمه وقضائه؛ لإهلاك أولئكك الطغاة البغاة.
{ و } بعدما طغى الماء، وطاف حول الأرض { حملناه } أي: نوحا ومن تبعه { على } سفينة { ذات ألواح } أخشاب عراض { ودسر } [القمر: 13] مسامير طوال { تجري } السفينة { بأعيننا } وكنف حفظنا وحضانتنا.
وإنما فعلنا مع نوح وقومه ما فعلنا؛ ليكون { جزآء } حسنا له ولمن آمن به، وسيئا { لمن كان كفر } [القمر: 14] بنعمة هدايته وإرشاده، ولم يؤمن بدينه، ولم يصدقه في تبليغه.
{ ولقد تركناها } أي: السفينة والفعلة التي فعلناها مع المكذبين لرسلنا، المجترئين علينا بالإنكار والكفران { آية } دالة على قدرتنا على أنواع الإنعام والانتقام { فهل من مدكر } [القمر: 15] يتذكر بها، ويعتبر منها.
وبالجملة: { فكيف كان عذابي } للمنكرين المصرين على الإنكار والتكذيب { ونذر } [القمر: 16] أي: إنذاري وتخويفي على من يعتبر منهم، ومما جرى عليهم من العقوبات.
{ ولقد يسرنا القرآن } وسهلناه { للذكر } أي: لأنواع التذكيرات والمواعظ، والعبر والأمثال { فهل من مدكر } [القمر: 17] يتعظ به، ويتذكر مما فيه ويعتبر.
{ كذبت عاد } كذلك هودا عليه السلام { فكيف كان عذابي } إياهم { ونذر } [القمر: 18] وإنذاري لمن بعدهم بما جرى عليهم.
{ إنآ } بمقتضى عظيم قهرنا وجلالنا { أرسلنا عليهم } حين أردنا انتقامهم وإهلاكهم { ريحا صرصرا } باردا، شديد الجري والصوت { في يوم نحس } شؤم منحوس { مستمر } [القمر: 19] شؤمه ونحوسه عليهم إلى أن يستأصلوا بالمرة.
ومن شدة جريها وحركتها { تنزع } وتقلع { الناس } عن أماكنهم، مع أنهم دخلوا في الحفر، وتشبثوا بالأثقال { كأنهم أعجاز نخل } أي: أصول نخل { منقعر } [القمر: 20] منقلب عن مغارسه، ساقط على الأرض، موتى بلا روح.
{ فكيف كان عذابي } إياهم { ونذر } [القمر: 21] أي: بمن بعدهم.
{ و } الله { لقد يسرنا } أي: سهلنا وأنزلنا { القرآن } المعجز { للذكر } والاتعاض { فهل من مدكر } [القمر: 22] متذكر، يتعظ به.
{ كذبت ثمود بالنذر } [القمر: 23] أي: الإنذارات الصادرة من لسان صالح عليه السلام بمقتضى الوحي والإلهام الإلهي { فقالوا } في تعليل تكذيبهم على الرسول: { أبشرا } ناشئا { منا } أي: من جنسنا { واحدا } منفردا، لا تبع له ولا رهط { نتبعه } نؤمن به ونقاد له، مع أنه لا مزية له علينا، لا بالحسب ولا بالنسب ، والله { إنآ } إن فعلنا هكذا { إذا لفي ضلال } عظيم، وغواية عن مقتضى العقل والدراية { وسعر } [القمر: 24] أي: كنا في جنون عظيم بمتابعة هذا المرذول المفضول.
ثم استفهموا على شدة سبيل الإنكار والاستهزاء، والاستبعاد والمراء: { أءلقي الذكر } الوحي والكتاب من السماء { عليه من بيننا } من كمال رذالته ورداءته، والحال أن فينا من هو أحق به، وأولى منه، وبالجملة: ما هو بمقتضى حمله إلا مجنون مخبط، مختل العقل والرأي { بل هو كذاب } متبالغ في الكذب والافتراء، غايته { أشر } [القمر: 25] بطر، متناه في الشرارة، يريد بافترائه واختلافه هذا أن يتكبر علينا، ويتفوق بنا، مع كمال تناهيه في الرثاثة والرذالة، وبالجملة: ما هو إلا من كمال بطره وشرارته.
وهم يقولون في حقه ما يقولون من أمثال هذه الهذيانات والمفتريات الباطلة، إلا أنهم { سيعلمون غدا } حين نزول العذاب العاجل والآجل { من الكذاب الأشر } [القمر: 26] البطر المباهي ببطره، حيث أعرض عن الحق، وأصر على الباطل اغترارا، أصلح هو أم من كذبه، وأنكر عليه قوله؟!
ثم قال سبحانه لنبيه صالح عليه السلام بعدما بالغوا في العتو والعناد، واقترحوا منه بإخرج الناقة من الصخرة تهكما وتعجيزا: { إنا } بمقتضى كمال قدرتنا وقوتنا { مرسلوا الناقة } ومخرجوها من الصخرة، وباعثوها { فتنة } عظيمة، واختبارا { لهم } وأوصاهم في شأنها ما لأوصاهم { فارتقبهم } يا صالح، وانتظر ماذا يفعلون بها { واصطبر } [القمر: 27] على أذياتهم.
[54.28-44]
{ ونبئهم } أخبرهم وأعملهم بوحي منا { أن المآء } الذي به معاشهم ومعاش مواشيهم { قسمة بينهم } أي: مقسومة بين الناقة وبينهم، ومواشيهم لها يوم، ولهم يوم { كل شرب محتضر } [القمر: 28] أي: كل صاحب شرب، يحضر الماء في يومه، ولا يحضره غيره فيه.
ثم لما صاروا على هذه القسمة زمانا، اضطروا وتضجروا { فنادوا صاحبهم } قدار بن سالف، فتشاوروا معه في أمر الناقشة، واضطرارهم ومواشيهم في هذه القسمة { فتعاطى } وأخذ سيفه قدار مغاضبا، وكان من أجرأهم على الخطوب، وأشجعهم على الوقائع { فعقر } [القمر: 29] أي: قدار، الناقة.
ولم يبال بالقسمة الإلهية { فكيف كان } يعني: انظر كيف وقع { عذابي } عليهم { و } لحق { نذر } [القمر: 30] أياهم، بعدما عقروا الناقة.
وبالجملة: { إنآ } بمقتضى قهرنا وغضبنا { أرسلنا عليهم صيحة واحدة } هائلة مهولة { فكانوا } إثر سماع تلك الصيحة الهائلة { كهشيم المحتظر } [القمر: 31] أي: مثل الأشجار اليابسة البالية في حظائر الأموات، تتناثر أجسامهم كالتراب.
{ و } بالجملة: { لقد يسرنا القرآن } المشتمل على أنواع الرشد والهداية { للذكر } والعظة { فهل من مدكر } [القمر: 32] يتذكر ويتهدي بهدايته وتذكيره.
{ كذبت قوم لوط } أيضا أمثال أولئك المذكورين { بالنذر } [القمر: 33] أي: الإنذارات الواردة عليهم بلسان نبيهم لوط عليه السلام.
وبعد إصرارهم على تكذيبه وإنكاره { إنآ } من شدة قهرنا وغضبنا { أرسلنا عليهم } من جانب السماء { حاصبا } ريحا شديدا صرصرا عظيمة، ترميهم بالحصباء؛ أي: الأحجار الصغار إلى أن أ هلكوا بالمرة { إلا آل لوط } هو لوط عليه السلام وبنتاه { نجيناهم } من هذه الواقعة الهائلة، والكرب العظيم { بسحر } [القمر: 34] وقت الصبح.
وإنما نجيناهم { نعمة } واصلة { من عندنا } إياهم، ورحمة شاملة من لدنا عليهم؛ بسبب إيمانهم وعرفانهم { كذلك } أي: مثلما فعلنا مع آل لوط { نجزي } بمقتضى جودنا عموم { من شكر } [القمر: 35] لنعمنا، ولم يكفر بموائد كرمنا.
{ و } الله { لقد أنذرهم } لوط عليه السلام بوحي منا إياه { بطشتنا } وأخذنا إياهم؛ بسبب فعلتهم القبيحة، وديدنتهم الشنيعة { فتماروا بالنذر } [القمر: 36] أي: كذبوه على إنذاراته ووعيداته مراء ومجادلة، واستهزاء معه وبعموم ما أوحينا إليه من الوعيدات والإنذارات.
{ و } من شدة مرائهم معه، واجترائهم { لقد راودوه عن ضيفه } وترددوا حول بيته، وقصدوا فجور أضيافه، ويمموا على تفضيحهم { فطمسنآ أعينهم } ومسخناها، وصيرناها مستوية مع وجوههم، فصاروا ممسوحي العيون.
روي أنهم لما دخلوا عنوة في داره، صفقهم جبريل صفقة، فأعماهم دفعة { فذوقوا } أي: فقلنا لهم حينئذ: ذوقوا { عذابي ونذر } [القمر: 37] المنذر به على لسان نبينا لوط عليه السلام.
{ ولقد صبحهم } ولحق بهم { بكرة } قريبة من الصبح { عذاب مستقر } [القمر: 38] مستمر عليهم إلا أن يستأصلهم ويسلمهم إلى النار.
{ فذوقوا عذابي } أي: قلنا لهم حينئذ: ذوقوا عذابي أيها المفسدون المسرفون { و } ذوقوا { نذر } [القمر: 39] أي: أيها المنكرون المذكبون.
{ و } بالجملة: { لقد يسرنا القرآن } المبين أنواع الوعيدان الهائلة، الجارية على أصحاب السرف والعناد { للذكر } أي: للعبرة والعظة { فهل من مدكر } [القمر: 40] معتبر متعظ متيقظ، يعتبر من وعيدات القرآن وإنذاراته، وما ذكر فيه من الحكايات.
ثم قال سبحانه: { ولقد جآء آل فرعون النذر } [القمر: 41] أي: الإنذارات والواردة منا على كليمنا موسى المؤيد من لدنا بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة.
وبالجملة: { كذبوا بئاياتنا } المنزلة من عندنا كلها بعد اقتراحهم بها، وإلحاحهم عليها، ونسبوها إلى السحر والشعبذة، وأنواع الخرافات الباطلة، البعيدة عن شأنها { كلها فأخذناهم } وانتقمنا عنهم بعدما بالغوا في العتو والعناد { أخذ عزيز } غالب لا يغالب مطلقا { مقتدر } [القمر: 42] كامل في القدرة، بحيث لا يعجز عن مقدور قط، واستأصلناهم إلى حيث لم يبق منهم أحد على وجه الأرض.
ثم خاطب سبحانه كفار مكة على سبيل التوبيخ والتهديد، فقال: { أكفركم } يا معشر العرب { خير } وأضل مطلقا { من أولئكم } الكفار المعدودين المذكورين وجاهة وثروة، مالا ومظاهرة، مكنة ومكانة، ثم إنكم لستم أمثالهم، وهم من شدة قوتهم وشوكتهم، ما نجوا من عذاب الله، أتنجون أنتم { أم } نزل { لكم برآءة في الزبر } [القمر: 43] السماوية والكتب الإلهية، إن من كفر منكم، وخرج عن مقتضى الحدود الإلهية، فهو ناج من عذاب الله، بريء عن انتقامه؟!
{ أم يقولون } من كمال حماقتهم، وركاكة رأيهم: { نحن جميع منتصر } [القمر: 44] أي: نحن جماعة مجتمعون متفقون، أمرنا واحد، رأينا متفق، ننصر وننتصر بعضنا ببعض، بجيث لا نغالب ولا نرام أصلا.
[54.45-55]
ومن كماب بطرهم وغرورهم يقولون هذا، ولم يعلموا أنه { سيهزم الجمع } أي: يفرق جنس الجموع على وجه الهزيمة { ويولون الدبر } [القمر: 45] أي: ينصرف كل منهم عن عدوه مستدبرا إياه في الدنيا.
{ بل الساعة } الموعودة { موعدهم } العظيم؛ لتعذيبهم وتفضيحهم الحقيقي الأصلي، المعنوي والصوري، وما عرض عليهم في الدنيا، فمن مقدمات ما سيلحقهم من العقبى { و } بالجملة: { الساعة } والعذاب الموعود فيها، والساعة { أدهى } أشد وأفظع، ودواهيها لا دواء لها، ولا نجاة منها { وأمر } [القمر: 46] مذاقا من عذاب الدنيا، بل بأضعافه وآلافه.
وبالجملة: { إن المجرمين } المتصفين بالجرائم المستلزمة للخروج عن الحدود الإلهية، وعن متقضى الأوامر والنواهي المنزلة من عنده { في ضلال } عن الحق وأهله في العاجل { وسعر } [القمر: 47] نيران مسعرة لهم، معدة لهم في الآجل.
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يسحبون } ويجرون { في النار على وجوههم } صاغرين مهانين، فيقال لهم حينئذ: { ذوقوا } أيها المسرفون المفسدون { مس سقر } [القمر: 48] أي: مساس جهنم، وشدة حرها وحرقها، بدل ما يتنعمون في دار الدنيا بلذاتها الشهية، وشهواتها البهية البهيمية.
وكيف لا ندخل المجرمين في دار القطيعة، ولا نسحبهم نحوها مهانين، فإنهم قد خرجوا عن مقتضى تدبيرنا وأوضاعنا الناشئة منا على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة المعتدلة؟! { إنا } بمقتضى كمال علمنا، وشمول قدرتنا وإرادتنا المقتضية للحكم والمصالح، خلقنا وأظهرنا { كل شيء خلقناه } وأظهرناه من كتم العدو مقرونا { بقدر } [القمر: 49] أي: بمقدار نقدره في حضرة علمنا، ولوح قضائنا، ونرتب على المقدار المقدر وجود المقدور المخلوق، فنظهره على وفقه.
{ و } تستبعدوا من حيطة حضرة علمنا، وقدرتنا الكاملة، تفاصيل عموم المظاهر والمخلوقات، وترتب وجوداتها على مقاديرها المقدرة لها في لوح قضائنا؛ إذ { مآ أمرنآ } وحكمنا الصادر المبرم منا في السرعة والمضاء، بالنسبة إلى عموم الكوائن والفواسد الواقعة في عموم الأزمة والآناء، بل بالنسبة إلى جميع الخواطر والخواطف الواردة على القلوب، وإلى جميع الاختلافات الواقعة في حركات العروق الضوارب في هياكل الهويات، بل بالنسبة إلى ما في الاستعدادات والقابليات { إلا } فعلة { واحدة } بلا ترتب وتراخ، وتوقف ومهلة { كلمح بالبصر } [القمر: 50] أي: كنظرة سريعة بالطرف، هيهات هيهات، والله ما هذا التمثيل لسرعة نفوذ القضاء الإلهي إلا بحسب أحلام الأنام، وبمقتضى أفهامهم وأوهامهم السخيفة، وإلا فلا يكتنه سرعة قضائه أصلا، حتى يمثل ويشبه.
ثم قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد: وكيف لا تخافون أيها المسرفون المفرطون عن شدة بطشنا وانتقامنا { ولقد أهلكنآ } واستأصلنا { أشياعكم } أشباهكم وأمثالكم في الكفر والعناد، وأنواع الفسوق والفساد، بأصناف العقوبات والبليات الهائلة { فهل من مدكر } [القمر: 51] متذك، يتعظ بأهلاكهم وبما جرى عليهم من الشدائد؟!
{ و } كما عذبناهم بجرائمهم وآثامهم في النشأة الأولى كذلك، بل بأضعافها وآلافها، نعذبهم في النشأة الأخرى أيضا بها؛ إذ { كل شيء فعلوه } فيما مضى، وصدر عنهم في النشأة الأولى محفوظ مثبت { في الزبر } [القمر: 52] أي: في مكاتب الحفظة المراقبين عليهم في عموم أحوالهم وأطوارهم.
{ و } كيف لا يحفظ؛ إذ { كل صغير وكبير } وقليل وكثير على التفصيل { مستطر } [القمر: 53] مسطور على التفصيل في اللوح المحفوظ أولا، وفي صحائف أعمالهم ثانيا، وبالجملة: لا يعزب عن حيطة علمه شيء من أعمالهم وأقوالهم، وأطوارهم وأحوالهم مطلقا. ثم عقب سبحانه وعيد المجرمين بوعد المؤمنين، فقال: { إن المتقين } المتحفظين نفوسهم عن المحرمات والمنهيات، متنعمون { في جنات } متنزهات العلم والعين والحق { ونهر } [القمر: 54] جداول جاريات، منتشئات من بحر الحياة اللدنية المتجددة حسب تجددات دار التجليات الإلهية، متمكنون { في مقعد صدق } هو مقام التسليم والرضا بمقتضيات القضاء { عند مليك } يملكهم ويتكفل بأمورهم، وجميع حوائجهم { مقتدر } [القمر: 55] على تدابيرها بمقتضى الحكمة المتقنة.
جعلنا الله من زمرة المتقين، المتمكنين في مقعد الصدق عند المليك المقتدر، العليم الحكيم.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد القاصد للتمكن في مقعد الصدق، والمتحقق في مرتبة اليقين الحقي - وفقك الله الوصول إلى غاية مقصدك ومرامك - أن تنقي نفسك عن مطلق المحظورات والمنهيات، المنافية لسلوك طريق الحق والتوحيد من الرياء والرعونات، المنتشئة من ظلمات الطبيعة والهيولي المتفرعة على التعينات العدمية، المستلزمة للكثرة الوهمية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الإلهية، وتلازم العزلة والفرار عن الدنيا الدنية وأمانيها مطلقا، وتقنع منها بضروراتها المقومة لهيكل هويتك الظاهرة لمصلحة المعرفة والتوحيد، حتى يتيسر لك الوقوف بين يدي ملك مقتدر، موحد في الوجود والقيومية.
ثبتنا بلطفك على نهج اليقين والتمكين، وجنبنا بجودك عن أمارات التخمين والتلوين، يا ذا القوة المتين.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-16]
{ الرحمن } [الرحمن: 1] أي: الذات المحيطة بعموم الأعيان بالرحمة العامة الواسعة، وبمقتضى سعة رحمته، ووفور لفطه ورأفته.
{ علم القرآن } [الرحمن: 2] لنوع الإنسان، ونزل على خاصة خلقه، ليكون مبينا لهم سبيل الكشف والعيان، ونهج التوحيد والعرفان.
مع أنه لما { خلق الإنسان } [الرحمن: 3] سبحانه؛ لأجل هذا الشأن البديع البرهان، ولهذه الحكمة والمصلحة أيضا بعينه.
{ علمه البيان } [الرحمن: 4] أي: التنطق والتكلم بلغات شتى، وعبارات لا تحصى؛ ليستفيد من منطوقات الألفاظ ما هو معناه، ويتفطن منها إلى ما هو مغزاها ومرماها، وغاية قصواها، ألا وهي المعارف والحقائق، والحكم والأسرار الإلهية المودعة المكنونة في مطاوي حروف المصاحف، والكلمات الحاصلة من مقاطع الأصوات المتكونة من لوازم الحياة الحقيقية المترتبة على النفسات الرحمانية، والنفثات اللاهوتية الثابتة للوجود المطق حسب تجليات الذات الإلهية، وعلى مقتضى الأسماء والصفات الذاتية الكامنة فيها، المتجلية عليها بمقتضى الشئون والكمالات الغير المتكررة إلى ما يتناهى أزلا وأبدا؛ ليظهر للإنسان سر الظهور والبطون، والغيب والشهادة الواردة على الوحدة الذاتية الإلهية.
ولهذه المصلحة أيضا ظهر في العلويات { الشمس والقمر بحسبان } [الرحمن: 5] أي: يجريان ويدوران بحساب مقدر من عنده سبحانه، معلوم في حضرة علمه؛ ليكونا دليلين شاهدين على ظهور مرتبتي النبوة والولاية المقتبسة من مشكاة النبوة، المتفرغة على العدالة الذاتية الإلهية.
{ و } أيضا أظهر في السفليات لتلك المصلحة العلية { النجم } أي: النبات الذي لا ساق له { والشجر } وهو الذي له ساق { يسجدان } [الرحمن: 6] يخضعان ويتذللان له سبحانه دائما من كمال الإطاعة والانقياد.
{ و } بالجملة: { السمآء } أي: عالم الأسباب والأقدار { رفعها } في أعلى المكان والمكانة { ووضع } فيها { الميزان } [الرحمن: 7] المعتدل المبنئ عن القسطاس المستقيم الإلهي الواقع بين الأسماء والصفات الذاتية، وعين المقادير والآجال المقدرة لجربها، ورتبها على دورها وانقلاباتها الواقعة فيها على وفق الحكمة المترتبة على العدالة الإلهية.
وإنما رتبها على متقضى الحكمة والعدالة { ألا تطغوا } أي: لئلا تعتدوا وتتجاوزوا أيها المجبولون لمصلحة التكليف والعرفان، على مقتضى الوحي الإلهي المترتب على الحكمة البالغة المتقنة في الأرض { في الميزان } [الرحمن: 8] الموضوع بمقتضاها، ألا وهي الشرع الشريف.
{ و } بعدما سمعتم حال العلويات والسلفليات، وما فيهما من الموازين المعتدلة الموضوعة بالوضع الإلهي { أقيموا } أيها المكلفون فيما بينكم { الوزن } واعتدلوه { بالقسط } والإنصاف { ولا تخسروا } ولا تنقصوا { الميزان } [الرحمن: 9] إذ هو موضع على العدل السوي.
{ و } اعلموا أن { الأرض } إنما { وضعها } ومهدها سبحانه { للأنام } [الرحمن: 10] ليعتدلوا عليها، ويستقيموا عموم أخلاقهم وأطوارهم فيها، حتى يستعدوا لأن يفيض عليهم طلائع سلطان الكشف والشهود، فيفوزوا بمقر التوحيد، ويتمكنوا في مقعد الصدق والتفريد.
لذلك أعد لهم سبحانه تفضلا عليهم وتكريما: { فيها فاكهة } كثيرة يتفكهون بها، من أنواع الفواكه تقويما لأمزجتهم، وتقوية لها { و } لا سيما { النخل } التي هي { ذات الأكمام } [الرحمن: 11] والأوعية المشتملة على التفكه والتقوت لسائر الأغراض الحاصلة منها.
{ والحب ذو العصف } " والحب " أي: وكذا اعد لهم فيها جنس الحبوب التي يتقوت بها نوع الإنسان منها " ذو العصف ": ذا العصف؛ أي: التين والقشور؛ إذ هو محفوظ فيها، مربي معها إلى أن يستوي وينضج، فيتقوت بحبه الإنسان، وبعصفه المواضي { و } كذا ظهر لهم فيها بمقتضى جوده { الريحان } [الرحمن: 12] أي: جنس الرياحين المشمومة المقوية لدماغ الإنسان، المصفية له عن الروائح الخبيثة، والنفحات الكريهة.
ثم لما عد سبحانه نبذا من نعمه الشاملة على عموم الأنام، خاطب المكلفين منهم على سبيل الامتنان، وهم الثقلان المجبولان على فطرة التوحيد، واستعداد الإيمان والعرفان، فقال: { فبأي آلاء ربكما } ونعماء موجدكما ومربيكما { تكذبان } [الرحمن: 13] أيها المغموران في نعمه، المستغرقان في بحار جوده وكرمه.
وكيف يسع لكما الكفران لنعم الله، والطغيان عليه سبحانه، مع أنه { خلق الإنسان } المصور بصورة الرحمن، وقد خلقه { من صلصال } أي: طين يابس له صلصلة وصوت { كالفخار } [الرحمن: 14] أي: الخزف المتخذ من التراب، الموقد بالنار، ومع دناءة منشئة ومادته، رفعه إلى حيث جعله خليفة للحق، نائبا عنه، ومرآة مجلوة قابلة لفيضان كمالات أسمائه وصفاته.
{ وخلق الجآن } أي: الجن، وقدر وجودهم { من مارج } من دخال صاف حاصل { من نار } [الرحمن: 15] موقدة ملتهبة مشتعلة على وجه الحركة والاضطراب، ومع رداءة مادتها وكثافتها، جعله شبيها بالملأ الأعلى، متصفا بها في كمال اللطافة والصفاء إلى حيث لا يرى أشبحهم كالملائكة.
وإذ كان شأن الحق معكما هذكا { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 16] وتنكران أيها الثقلان.
[55.17-40]
وكيف يليق بشأنه سبحانه الإنكار والتكذيب، مع أنه سبحانه { رب المشرقين } أي: مشرقي الظهور والبروز من عالم العماء واللاهوت إلى فضاء الأوصاف والأسماء المسمى: بالغيب والأعيان الثابتة، ثم منها إلى عالم الشهادة في السير الهابط { ورب المغربين } [الرحمن: 17] أي: مغربي الخفاء والبطون عن عالم الناسوت إلى برزخ الأعيان الثابتة، ثم عنها إلى عالم اللاهوت في السير الصاعد؛ إذ يتوالد دائما على شمس الحقيقة والحقية الذاتية، باعتبار تجلياتها حسب أسمائها وصفاتها، شروق وأفول، وطروق طلوع وغروب؟!
وبالجملة: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 18] أيها المظهران الكاملان المجبولان على فطرة الشعور والعرفان.
ومن أنى يتأتى التكذيب في شأ،ه سبحانه؛ إذ هو بمقتضى قدرته { مرج البحرين } أي: أرسل وأطلق بحر الوجود والعدم إلى حيث { يلتقيان } [الرحمن: 19] أي: يتمازجان ويختلطان، بحيث لا يتمايزان عند المحجوب الفاقد عن الكشف والشهود؟!
ويبقى { بينهما } عناية منه سبحانه { برزخ } هو الإنسان الكامل المنكشف بكيفية انبساط بحر الوجود العذب على بحر العدم المالح، وامتداده عليه وانطباق سطوحهما، بحيث لا يتمايزان عند المحجوب الفاقد عين العبرة، وبصر البصيرة، وجعل سبحانه برزخ الإنسان الكامل على مقتضى الحكمة المعتدلة، بحيث { لا يبغيان } [الرحمن: 20] أي: لا يبغي ويغلب كل من يجري الوجود والعدم على صاحبه في مرتبته ونشأته، حتى يبطل حكمة الظهور والبطون، والجلاء والخفاء، والإلوهية والعبودية، وسائر المتقابلات المترتبة على الشئون الإلهية المتفرعة على الأسماء الذاتية.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 21] أيها المكلفان الذاتية.
وكيف لا تعتبران، ولا تشركان نعمه، مع أنه { يخرج } حسب عنايته الآزلية { منهما } أي: من البحرين المذكورين { اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن: 22] أي: يخرج لكما أيها الثقلان المجبولان على فطرة الإيمان، من امتزاج البحرين المذكورين، لآلئ المعارف والحقائق، ومرجان الشهود والإيقان؟!
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 23] أيها الممنونان المغموران، المستغرقان في موائد كرمه.
{ وله } سبحانه تفضلا على عباده وامتنانا لهم { الجوار } أي: سفن الملل والأديان المنزلة من عنده سبحانه على عموم الرسل والأنبياء ليرشدوا بها أممهم إلى طريق التوحيد والعرفان { المنشئات } المصنوعات المستحدثات { في البحر } أي: بحر الوجود { كالأعلام } [الرحمن: 24] أي: كالرواسي العظام التي يعلم ويشار بها للتائهين في بيداتء الوجود، الضالين في صحراء الجحود، إلى جادة اليقين والعيان.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 25] أيها المكلفان.
وبالجلمة: { كل من عليها } أي: على أرض القوابل والهيولى من التعينات المستتبعة لأنواع الإضافات، الحاصلة من تموجت بحر الوجود وتجلياته بمقتضى الكرم والجود، إنما هو { فان } [الرحمن: 26] لا وجود، ولا تحقق لها في ذواتها أصلا، سوى أنها انبسط عليها أظلال الأسماء والصفات الإلهية.
{ و } بعد فناء نقوش الأمواج والأظلال بأسرها { يبقى وجه ربك } يا أكمل الرسل بمقتضى صرافة وحدته، مستغنيا في ذاته عن عموم مظاهره ومخلوقاته؛ إذ هو سبحانه { ذو الجلال والإكرام } [الرحمن: 27] لا يشارك في وجوده، ولا ينازع في سلطانه، فمآل الكل إليه، كما أن مبدأه منه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وإذ كان شأنه سبحانه هذا { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 28] أيها الأضلال الهلكى.
وبالجملة: { يسأله } ويستمد منه في كل زمان وآن، ويستظل تحت ظل جود وجوده كل { من في السموت والأرض } من فواعل المظاهر وقوابلها؛ إذ { كل يوم } وآن { هو } سبحانه { في شأن } الرحمن: 29] لا يسبقه شأن، ولا يلحقه شأن مثله، فكل من المظاهر الإلهية في كل آن وطرفة في خلع صورة، ولبس أخرى حسب شئون الحق، وسرعة نفوذ قضائه.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 30] ايها المجبولان على فطرة الدراية والشعور.
ثم لما عد سبحانه على عموم المكلفين نبذا من نعمه العظام، على سبيل التنبيه والامتنان، أراد ، يشير إليه، ويبينه عليهم بالقيام على أداء حقوقها، ومواظبة شكرها؛ لئلا يغفلوا من الله، ولا يستحيوا عند الحساب في يوم الحشر والجزاء، فقال: { سنفرغ لكم } نتجرد ونخلو لحسابكم، وتنقيد أعمالكم وجزائكم على مقتضاها { أيه الثقلان } [الرحمن: 31] المثقلان بشكر نعمنا، وأداء حقوق كرمنا، ومتى سألناكما عن أعمالكما.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 32] وتنكران، مع أنا ما خفي علينا شيء من أعمالكم مطلقا، لام من كفرانكم وعصيانكم، ولا من شكركم وإيمانكم.
ثم قال سبحاه مناديا لهم على وجه التوعيد والتوبيخ والتهديد: { يمعشر الجن والإنس } المجبولين على فطرة التكليف بمقتضى الحكمة البالغة، عليكم أن تنقادوا وتطيعوا بعموم ما كلفتم به، والمثمر لحكمة المعرفة واليقين، إلا { إن استطعتم } وقدرتهم { أن تنفذوا } وتخرجوا فارين عن مقتضيات قهرنا وغضبنا { من أقطار السموت والأرض } أي: من جهة العلويات والسفليات { فانفذوا } واخرجوا، مع أنكم { لا تنفذون } ولا تقدرون على الخروج { إلا بسلطان } [الرحمن: 33] أي: بقدرة واقتدار موهوبة لكم من قبل ربكم؛ إذ لا يصدر منكم مطلق الأفعال الحركات إلا بإقدار وتمكينه سبحانه.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 34].
وكيف تنفذون وتفرون من حيطة قدرته وجلاله؛ إذ { يرسل عليكما } في النشأة الأخرى جزاء لأعمالكم { شواظ } لهب مشتعل { من نار } موقدة مسعرة { ونحاس } أي: دخان مظلم حاصل منها، وبالجملة: { فلا تنتصران } [الرحمن: 35] ولا تمتنعان عنهما، ولا تدفعانهما بحولكما إلا بعناية ناشئة من الله، وفضل يدرككم من لدنه.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 36] وعليكم أن تشركوا آلاء الله، وتواظبوا على أداء حقوق نعمائه قبل حلول يوم الجزاء وبعده يوم الحشر.
{ فإذا انشقت السمآء } واندكت الأرض من خشية الله، ورهبته { فكانت } السماء من كمال غضب الله { وردة } حمراء مذبة { كالدهان } [الرحمن: 37] أي: تذوب كالدهن المذاب من شدة الخشية الإلهية، فلا يمكنكم حينئذ التدارك والتلافي.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 38] حيث يخبركم بالتهيئة والتدارك قبل حلول الساعة.
بل { فيومئذ } أي: حين انشقاق السماء { لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن } [الرحمن: 39] أي: لا يسأل حينئذ لا عن ذنب الإنس ولا على ذنب الجان، ولا يتلفت إلى أعمالهما وأفعالهما، بل يبعثون من قبورهم، ويساقون نحو المحشر حيارى تائهئين للحساب والجزاء، فاعتنى سبحانه بشأنكم، ونبهكم على إعداد الزاد قبل يوم المعاد.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 40] وكيف لا تعتادون، ولا تتزودون ليومكم هذا؟!
[55.41-65]
إذ { يعرف } ويعلم يومئذ { المجرمون } المهملون لأمر الزاد، المتصفون بالجرائم المستلزمة للانتقام { بسيماهم } إذ يظهر حينئذ آثار الكآبة والحزن على وجوههم { فيؤخذ } بعد الخطاب والحساب { بالنواصي والأقدام } [الرحمن: 41] أي: يشد أعناقم مع أرجلهم بالسلاسل، ثم يطرحون في النار بأنواع الهوان والصغار، فيخبركم ربكم بالخلاص عنها قبل حلول أوانها، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 42].
فيقال لهم حين إلقاءهم إليها مشدودين مهانين، زجرا لهم وتوبيخا { هذه } النار التي تصلون فيها { جهنم } الموعودة المعدة { التي يكذب بها المجرمون } الرحمن: 43] وقت إخبار الله إياهم على ألسنة رسله وكتبه.
فالآن { يطوفون } ويترددون { بينها } أي: بين النار { وبين حميم } ماء حار { آن } [الرحمن: 44] متناه في الحرارة إلى حيث يغلب إحراقه وحرارته على النار المسعرة، فأراد سبحانه أنقاذكم منها بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 45] أيها المجبولان على الكفران والنسيان.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد: { ولمن خاف } من كلا الفريقين؛ أي: مكلفي الجن والإنس وفي النشأة الأولى { مقام ربه } أي: خاف عن قيامه بين يدي ربه في النشأة الأخرى للعرض والجزاء، واشتغل في هذه النشأة إعداد ذلك اليوم، وتهيئة أسبابه من اكتساب الحسنات و ترك السيئات من الأخلاق والاعتقادات، وصوالح العبادات والطاعات المقبولة يومئذ عند الله على مقتضى ما أمرهم الحق، ونهاهم عنه بإرسال الرسل وإنزال الكتب { جنتان } [الرحمن: 46] معدتان لكل خائف عند ربه جنة جسمانية، يتلذذ فيها بدل ما ترك من اللذات الدنيوية وشهواتها الفانية اتقاء عن الله، وجنة روحانية عناية من الله وفضلا من
" ما لا عين رأت ولا أذن سمعت... الحديث ".
وبالجملة: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 47] أيها المكلفان!
والجنتان المذكورتان { ذواتآ أفنان } [الرحمن: 48] أنواع وأصناف من الأشجار المثمرة بالأثمار البهية والفواكه الشهية، وأنواع من المعارف والحقائق المثمرة للحالات العلية والمقامات السنية، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 49].
{ فيهما } أي: في تلك الجنتين { عينان } متشائتان من بحر الحياة الإلهي، المتفرعتان على أسمائه وأوصافه الجمالية والجلالية { تجريان } [الرحمن: 50] بين يدي الخائف الملتجئ إلى الله على مقتضى التجليات الحبية، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 51].
{ فيهما } أي: في تلك الجنتين { من كل فاكهة زوجان } [الرحمن: 52] صنفان من المعارف والحقائق على مقتضى تربية العينان والمذكرتان، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 53] أيها المسخران تحت لطفه وقهره وجلاله وجماله.
ثم إنهم يتنعمون بما ذكر من النعم العظام حال كونهم { متكئين } متمكنين راسخين { على فرش } من الاعتقادات الراسخة { بطآئنها } أي: وجوهها التي تلي قلوبهم وأرواحهم { من إستبرق } وهو الغيظ الصلب من الديباج، بحيث لا تخلل فيه ولا فرج، ألا وهو المثال لليقين الحقي الذي لا يطرأ عليه التردد والتذبذب مطلقا.
{ و } بالجملة : { جنى الجنتين } أي: التلذذ والتنعم بثمارهما { دان } [الرحمن: 54] قريب؛ إذ لا ترقب ولا انتظار في اليقين الحقي، بل أقرب إلى العارف منه بعدما وصل إليه { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 55].
{ فيهن } أي: في الجنان المعدة لأرباب العناية والامتنان، مخدرات المعارف الحقائق الواردة على قلوبهم حسب استعداداتهم المتفاوتة { قاصرات الطرف } أي: كل منهم منحصرة الطرف، مقصورة النظرة على كل من هي ترد عليه؛ بحيث لا تتعدى إلى غيره؛ لا ختلاف قابلياتهم حسب الفطرة الأصلية بمقتضى اختلاف تجليات الحق وشئونه بحيث { لم يطمثهن } ولم يتلذذ معهن { إنس قبلهم } ولا بعدهم { ولا جآن } [الرحمن: 56] كذلك؛ إذ مراتب الشهود على مقتضى تجليا الوجود وتطوراته، فكما لا تكرر ولا اتحاد بين اثنين في التجليات الإلهية، كذلك في مراتب أرباب الشهود القابلة لها، المستعدة إياها، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 57].
{ كأنهن } من كمال الصفاء الشفاء والجلاء { الياقوت والمرجان } [الرحمن: 58] المسرتان لأرباب النظر والعيان، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 59].
وبالجملة { هل جزآء الإحسان } في الأعمال والأخلاق، وعموم الشيم والأحوال { إلا الإحسان } [الرحمن: 60] من الله، والرضوان منه سبحانه على سبيل التفضيل والامتنان، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 61].
وهاتان الجنتان المذكوران مع ما فيهما من المقامات العلية والدرجات السنية للخائفين من الله، ومن سطوة قهره وجلاله في عموم أحوالهم وأطوارهم، المفوضين المتوكلين عليه سبحانه عموم أمورهم في مطلق شئونهم وتقليداتهم، الراجين منه رضاه عنهم بمتقضى لطفه وجماله { ومن دونهما } أي: من دون الجنتين المذكورتين، وأدون منهما وأنزل رتبة { جنتان } [الرحمن: 62] أخريان أيضا للأبرار المسحنين بالأخلاق وال عمال المشتبثين بأذيال الأماني والآمال حيث الحوائج والأغراض، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 63].
فهاتان الجنتان، وإن لم تكونا كتلك الجنتين المذكورتين في الأثمار والأشجار والمعارف والأسرار، إلا أنهما { مدهآمتان } [الرحمن: 64] خضراوان نضارتان بمياه الأعمال الصالحة، والأخلاق الحميدة الصادرة من الأبرار الأخيار، المتمسكين بشعائر الشرع ومعالم الدين المستبين، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 65].
[55.66-78]
{ فيهما } أي: في جنتي الأبرار { عينان } منتشئتان من الاعتقاد الصادق، والإيمان الكامل { نضاختان } [الرحمن: 66] فوارتان، منتهيتان إلى بحر الحكمة المتقنة الإلهية ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 67].
{ فيهما } أيضا { فاكهة } يتفكه بها أهلها { ونخل ورمان } [الرحمن: 68] عطفهما على الفاكهة عطف الخاص على العام للاعتناء الاهتمام، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 69].
{ فيهن } أي: في جنان هؤلاء الأبرار أيضا { خيرات } أزواج مصورة من مثوبات الأعمال والطاعات { حسان } [الرحمن: 70] لا قبح معهن بوجه من الوجود، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 71].
ومثوبات أعمال الأبرار وأخلاقهم، وما يترتب عليها، وإن لم تكن في الصفاء واللطافة كمخدرات الخائفين إلا أنهم { حور } حسنة الوجوه { مقصورات في الخيام } [الرحمن: 72] أي: مقصور كل منهم على من أتى بالأعمال الصالحة والأخلاق المرضية، لا يتعدى إلى الغير؛ إذ كل نفس رهينة ما كسبت خيرا كان أوشرا.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 73] أيها المكلفان الممنونان، وهؤلاء أيضا { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } [الرحمن: 74] إذ كل منهن، إنما هي مقصورة على أعمال كل منهم بلا شركة.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 75] أيها المعتبران المستبصران.
ثم إنهم أيضا يتنعمون بما ذكر لهم من النعم { متكئين } متقررين { على رفرف } وسائد وبسط { خضر } مخضرة بماء إيمانهم الخالص، واعتقادهم الحق { وعبقري } عجيب معجب، يتعبجون من ترتبها على أعمالهم وحسناتهم { حسان } [الرحمن: 76] لا يتبعها قبح وخذلان، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 77].
فعليك يا أكمل الرسل ألا تستبعد عن الله القادر، المقتدر على وجوه الإنعام والانتقام أمثال هذه الكرامات العلية على أرباب العناية والغفران، وتلك الدركات الهوية على أصحاب الغفلة والكفران.
إذ { تبارك } أي: جل وتعاظم وتعالى { اسم ربك } أي: عموم أسماء مربيك الذي رباك يا أكمل الرسل محيطا لعموم المرتب المقامات عن أن ينتهي أو يتصف بالانتهاء والانقضاء، أو يغتر ويضعف دون مقدور، بل لا نهاية لأسمائه الفعالة ومقتضياتها { ذي الجلال والإكرام } [الرحمن: 78] أي: ذي العظمة والكبرياء، الغالب على عموم الانتقام، وذي الجمال القادر المقتدر على وجوه الأكارم والإنعام.
خاتمة السورة
عليك أيها العارف المتحقق بعظمة الحق وجلاله، المتعطش بزلال وصاله ألا تعزم في مطلق أحوالك إلى الكذب والإنكار بالنسبة إلى الله، ولا تنسب الحوادث الجارية في عموم الأقطار والأطوار إلا إلى الملك الجبار العزيز الغفار، ذي العظمة وكمال الاقتدار لأصناف الإنعام والإفضال، وأنواع العذاب والنكال.
فلك أن تلازم على شكر نعمه، وأداء حقوق كرمه في عموم الأحوال، وإياك إياك الغفلة عن الله، والاشتغال إلى ما سواه.
وكن في عموم أوقاتك وحالاتك بين يديالله بين الخوف والرجاء، ولا تيأس من روح الله، أنه لا ييأس من رح الله إلا القوم الخاسرون.
جعلنا الله من زمرة الخائفين من بطشه، الراجين من عفوه بمنه وجوده.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-17]
اذكر يا أكمل الرسل للمعتبرين من المكلفين وقت: { إذا وقعت الواقعة } [الواقعة: 1] العظمى الموعودة، وحديث الطامة الكبرى المعهودة من لدنه سبحانه، مع أنه { ليس لوقعتها } حين وقوعها نفس { كاذبة } [الواقعة: 2] تكذبها، كما تكذب بها الآن.
وليس أيضا لوقوعها حين وقوعها نفس { خافضة } تخفضها بالتردد فيها ولا نفس { رافعة } [الواقعة: 3] ترفعهم بالجزم بها، بل وقعت حين وقعت حتما بلا ريب وتردد، وبلا خفض أحد ورفع آخر.
اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر وقوعها، وتردد فيها نبذا من أماراتها وأشراطها وقت: { إذا رجت } وحركت { الأرض رجا } [الواقعة: 4] تحريكا شديدا عنيفا بحث انهدمت ما عليها من الأبنية المحكمة والبقاع المشيدة.
{ وبست الجبال } أي: تشتت وتفتت أجزاؤها { بسا } [الواقعة: 5] تفتتا تاما وتشتتا كاملا بحيث اضمحلت أجزاؤها، وتلاشت وصارت كالسويق الملتوت.
وبالجملة: { فكانت } الجبال التي عليها { هبآء } هشيما غبارا { منبثا } [الواقعة: 6] منتثرا منتشرا متفرقا، بحث تلاشت هويات ما عليها مطلقا.
{ وكنتم } حينئذ أيها المكلفون المعتبرون { أزواجا } وأصنافا { ثلاثة } [الواقعة: 7] حسب معاشكم في النشأة الأولى.
{ فأصحاب الميمنة } أي: اليمن والكرامة من الأخيار الأبرار المحسنين بصوالح الأعمال والأحوال ومحامد الأخلاق والأطوار { مآ أصحاب الميمنة } [الواقعة: 8] أي: ما أعظم شأنهم وإكرامهم، وأحسن حالهم بيمنهم وسعادتهم الشاملة لهم حسب اتصافهم بصالحات الأعمال، وبالاعتقادات الصحيحة والأخلاق المرضية.
{ وأصحاب المشأمة } والشمال؛ أي: ملازمو الشآمة والملامة، وأنواع الندامة والخذلان، من المفسدين المسرفين، المصرين على أنواع الكفر والفسوق وأصناف العصيان والآثام من مفاسد العقائد، ومقابح الشيم والأخلاق { مآ أصحاب المشأمة } [الواقعة: 9] أي: ما أقبح حالهم أشد عذابهم ، ونكالهم وشآمتهم وشقاوتهم المستمرة عليهم بشؤم مكاسبهم ومفاسدهم.
{ والسابقون } المبادرون نحو الحق من طريق الفناء، الباذلون مهجهم في سبيله إلى الدرجات الإرادية شوقا إلى لقائه هم { السابقون } [الواقعة: 10] المقصورون على السبق والحضور مع الله بلا توجه منهم إلى لوازم هوياتهم الباطلة وهياكلهم العاطلة.
{ أولئك } المقبولون هم { المقربون } [الواقعة: 11] عند الله المتنعمون { في جنات النعيم } [الواقعة: 12] أي: منتزهات الوحدة الذاتية التي هي اليقين العلمي والعيني والحقي.
وهؤلاء المقربون الواصلون إلى مقر الوحدة متفاوتون في القلة والكثرة، والدرجات العلية والمقدمات السنية بالنسبة إلى مسالكهم ومعارجهم لذلك { ثلة } أي: جماعة عظيمة { من الأولين } [الواقعة: 13] أي: من الأمم السالفة، وهم الأبرار الذين تقربوا نحو الحق بتوحيد الصفات والأفعال.
{ وقليل من الآخرين } [الواقعة: 14] أي: حمع قليل بالنسبة إلى الأولين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الذين وصلوا بل اتصلوا إلى الله سبحانه من طريق توحيد الذات، المسقط لعموم الإضافات والكثرات، وهؤلاء أعزك، وأقل وجودا بالنسبة؛ أي: الأمم السالفة، لذلك وصفوا بالقلة، وبالجملة: كلهم على تفاوت طبقاتهم في منتزهات الوحدة متنعمون متمكنون: { على سرر موضونة } [الواقعة: 15] مسوجة مشبكة حسب درجاتهم العلية ومقاماتهم السنية.
{ متكئين عليها } أعلى تلك السرر { متقابلين } [الواقعة: 16] مع عموم كمالاتهم ومقاماتهم وحالاتهمه بلا ترقب منهم وانتظار لهم، ومع ذلك { يطوف عليهم } للمؤانسة { ولدان } صباح ملاح مصورون من حسنات أعمالهم وأخلاقهم { مخلدون } [الواقعة: 17] دائمون مستمرون على تلك الصور الصبيحة المليحة، لا يتغيرون، ولا يتحولون منها أصلا كتغير ملاح الدنيا.
[56.18-50]
{ بأكواب } يعني: يطوفون عليهم بكؤوس، وهي التي لا عرى لها { وأباريق } وهي التي لها عرى مملوء من الماء القراح، المثمر للعلوم اللدنية لشاربيها { وكأس من معين } [الواقعة: 18] أي: من رحيق التحقيق واليقين الذي { لا يصدعون عنها } ولا يشوشون في تحصيلها كالعلوم المكتسبة { ولا ينزفون } [الواقعة: 19] ولا يسكرون منها، إلى حيث ينقطع تلذذهم بها من غاية سكرهم.
{ وفاكهة } كثيرة { مما يتخيرون } [الواقعة: 20] أي: يختارون وينتخبون لأنفسهم من أنواع المعارف والحقائق والأحوال والمقامات التي تتلذذها أرواحهم من آثار الأسماء والصفات الإلهية.
{ ولحم طير } يتقوت به أشباحهم { مما يشتهون } الواقعة: 21].
{ و } لهم أيضا للخدمة والمؤانسة { حور عين } [الواقعة: 22] مصورة من اعتقاداتهم الصحيحة الراسخة.
{ كأمثال اللؤلؤ المكنون } [الواقعة: 23] المصون في أصداف أشباحهم.
وإنما يعطون فيها ما يعطون { جزآء بما كانوا يعملون } [الواقعة: 24] من العمال الصالحة والأخلاق المرضية.
ومن كمال تنعمهم فيها وأمنهم وترفههم { لا يسمعون فيها لغوا } باطلا من الكلام بلا طائل { ولا تأثيما } [الواقعة: 25] على سبيل الإلزام والإفحام.
{ إلا قيلا } وقولا من كل جانب { سلاما سلاما } [الواقعة: 26] على وجه الترحيب والإكرام، هذا للمقربين السابقين.
{ و } أما { أصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين } [الواقعة: 27] أي أصحاب اليمن والكرامة وأنواع التعظيم والتكريم.
فهم أيضا متنعمون { في سدر مخضود } [الواقعة: 28] أي: نبق لا شوك له؛ لخلوص أعمالهم وحسناتهم عن شوك المن والأذى، والسمعة والرياء.
{ وطلح منضود } [الواقعة: 29] أي: شجر موز منضد موفور الثمر، مرتب من أسفله إلى أعلاه لإيفائهم وتوفيرهم في كسب الحسنات وفعل الخيرات.
{ وظل ممدود } [الواقعة: 30] إلهي لا يتقلص ولا يتفاوت؛ لدوامهم على مواظبة الطاعات، وملازمة العبادات.
{ ومآء مسكوب } [الواقعة: 31] مصبوب لهم أين شاءوا، وكيف شاءوا، بلا تعب وترقب؛ لأنهم صاروا في إتيان الأعمال كذلك؛ طلبا لمرضاته.
{ وفاكهة كثيرة } [الواقعة: 32] مما يتفكه بها أرواحهم وأشباحهم { لا مقطوعة } منتهية كفواكه الدنيا.
{ ولا ممنوعة } [الواقعة: 33] لتساوي نسبتها إلى الكل بلا تفاوت وتمانع؛ لإتيانهم بصوالح الأعمال والأخلاق على الدوام، بلا قطع ومنع.
{ وفرش مرفوعة } [الواقعة: 34] ممهدة منضدة بعضها فوق بع ض؛ لرسوخهم وتمكنهم على الأحكام الإلهية المرتفعة بحسب الحكم والأسرار المودعة فيها.
ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان: { إنآ } من مقام عظم جودنا إياهم { أنشأناهن } أي: أنشأنا لهم أزواجهم اللاتي كن في حجورهم في النشأة الأولى من صالحات النسوان والأعمال والأخلاق { إنشآء } [الواقعة: 35] بديعا عجيبا.
{ فجعلناهن } فيها { أبكارا } [الواقعة: 36] بحيث لم يمسهن بشر، ولم يتصف بهن أحد.
{ عربا } متحننات لأزواجهن { أترابا } [الواقعة: 37] مسويات السن مع أزواجهن في كمال سن الشباب.
كل ذلك { لأصحاب اليمين } [الواقعة: 38] من الأبرار المحسنين بالأعمال والأخلاق، المخلصين فيها.
ومن هؤلاء في الجنات: { ثلة } جماعة عظيمة { من الأولين } [الواقعة: 39] أي: الأمم الماضين.
{ وثلة } عظيمة أيضا { من الآخرين } [الواقعة: 40] أي: من أمة سيد المرسلين؛ إذ طرق الأعمال والأخلاق مشتركة بين الأولين والآخرين، بخلاف طرق الأحوال والمواجيد والمشارب والأذواق.
{ و } أما { أصحاب الشمال } والشآمة المتصفون بالشقاوة الأزلية، المنهمكون بالقاذورات الإمكانية { مآ أصحاب الشمال } [الوقعة: 41] وما حالهم الفضيحة هم مخلدون { في سموم } نار حارة مسعرة في غاية الحرقة والحرارة، بحيث تنفذ في مسامات أشباحهم كالريح السموم؛ لنفوذ لوازم الإمكان النافذة من مسامات أصحاب الغفلة والضلال، المنهمكين في اللذات والشهوات البهيمية الموهمة الموقعة لأنواع الفتن والطغيان { وحميم } [الواقعة: 42] أي: ماء متناه في الحرارة بحيث يقطع أمعاءهم، لو شربوا منه شربة بدل ما تلذذوا في النشأة الأولى بمقتضيات الأماني النفسانية والآمال الهيولانية الحاصلة من الجهل المفرط بسرائر التوحيد واليقين في النشأة الأولى.
{ وظل من يحموم } [الواقعة: 43] حاصل من دخان أسود صاد من نار الجحيم.
{ لا بارد } كسائر الأظلال { ولا كريم } [الواقعة: 44] نافع أمثالها.
وبالجملة: { إنهم } من شدة سكرتهم وغفلتهم { كانوا قبل ذلك } في النشأة الأولى { مترفين } [الواقعة: 45] منهمكين في الضلال والشهوات.
{ وكانوا } حينئذ { يصرون على الحنث العظيم } [الواقعة: 46] والذنب الكبير الذي هو الشرك بالله والإنكار لتوحيده.
{ و } من شدة إنكارهم بمقتضيات الوحي الإلهي المتعلق بقيام الساعة ووقوع الطامة الكبرى { كانوا يقولون } فيما بينهم على وجه الاستبعاد والاستنكار: { أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما } بالية { أإنا } بعد ذلك { لمبعوثون } [الواقعة: 47] مخرجون من قبورنا أحياء كما كنا.
{ أو آبآؤنا الأولون } [الواقعة: 48] الأقدمون يخرجون من قبورهم، مع أن بعثهم وإخراجهم أشد استحالة وامتناعا من بعثنا!
كلا وحاشا؛ إذ لم يعهد فيما مضى من الأزمنة أمثال هذا، بل ما هي إلا زيغ زائل، وزور باطل.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في الإنكار والعناد: { إن الأولين والآخرين } [الواقعة: 49] أي: الأسلاف والأخلاف { لمجموعون } مجتمعون بكمال قدرة الله وحكمته { إلى ميقات يوم معلوم } [الواقعة: 50] أي: إلى وقت معين، ويوم موعود معهود، عينه الله سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه، لا بد وأن يقع في ذلك الوقت ألبتة، بلا خلف.
[56.51-76]
{ ثم إنكم } بعد اجتماعكم وحشركم { أيها الضآلون المكذبون } [الواقعة: 51] المصرون على التكذيب والإنكار.
{ لأكلون } من شدة جوعكم في جهنم البعد والخذلان بعد خلودكم فيها { من شجر من زقوم } [الواقعة: 52] أي: شجر مسمى بهذا الاسم، فيكون لفظة " من " الثانية للبيان، والأولى للابتداء.
{ فمالئون منها } أي: من تلك الشجرة { البطون } [الواقعة: 53] أي: بطونكم، مع أنه لا يدفع الجوع بل يزيده، وبعد أكلكم منها ملء بطونكم.
{ فشاربون عليه } أي: على الزقوم { من الحميم } [الواقعة: 54] لشدة الحرقة وغلبة العطش، وبالجملة: { فشاربون } من الحميم { شرب الهيم } [الواقعة: 55] مثل شرب الإبل، الذي له داء الهيام، وهو مرض من الإبل شبيه باستسقاء الإنسان.
{ هذا } الذي سمعت أيها الفطن المعتبر { نزلهم } المعدة لهم حين نزولهم في جهنم { يوم الدين } [الواقعة: 56] والجزاء.
وإذا كان نزلهم فيها هذا، فما ظنك بعذابهم فيها، وزجرهم بعد حساب أعمالهم.
ثم خاطبهم سبحانه إظهارا للاستيلاء التام والبسطة الغالبة الكاملة توبيخا لهم وتقريعا فقال: { نحن خلقناكم } وأظهرناكم من كتم العدم بمقتضى حولنا وقوتنا { فلولا تصدقون } [الواقعة: 57] بقدرتنا على الإعادة والبعث أيها الجاهلون المكابرون.
{ أفرأيتم } أخبروني أيها المنكرون للبعث والجزاء أن { ما تمنون } [الواقعة: 58] وتصبون في الأرحام من النطف؟.
{ ءأنتم تخلقونه } وتجعلونه بشرا سويا صالحا لأنواع العلوم والإدراكات الكلية والجزئية { أم نحن الخالقون } [الواقعة: 59] المقصورون على الخلق والتسوية؟!
ومع شهود هذه المقدورات العجيبة البديعة، كيف تنكرون قدرتنا على البعث والحشر.
مع أنا { نحن } بمقتضى علمنا وقدرتنا { قدرنا بينكم الموت } والأجل بأن عينا لموت كل أحد منكم وقتا معينا، وأجلا معهودا، بحيث لا يسع لكم وقت حلوله لا التقديم منه، ولا التأخير { و } مع ذلك { ما نحن بمسبوقين } [الواقعة: 60] مغلوبين من أحد منكم أصلا، بأن يغلب علينا أحد بتقديم الأجل المعين المقدر من عندنا، أو تأخيره.
وإذا قدرنا على تقدير الأجل للموت على الوجه المذكور قدرنا أيضا { على أن نبدل } ونحيى { أمثلكم } أي: أسلافكم الذين ماتوا وانقرضوا أحياء أمثالكم من العدم؛ يعني: كما قدرنا على إنشاءكم من العدم إنشاء إبداعيا قدرنا أيضا على إحياء أسلافكم من القبور بعدما ماتوا على سبيل إعادة، بل إعادة أهون من الإبداع { و } بالجملة: قدرنا على أن { ننشئكم } بعد موتكم في { في ما لا تعلمون } [الواقعة: 61] أي: في نشأة وعالم، لا يحيطون به علما ولا تفهمونه لخروجه عن طور عقولكم ومقتضاه.
{ و } كيف يتأتى لكم إنكار الإعادة مع أنكم { لقد علمتم } جزمتم وأيقنتم { النشأة الأولى } أي: قدرنا على الخلق والإيجاد فيها { فلولا تذكرون } [الواقعة: 62] منها قدرتنا على الإعادة في النشأة الأخرى، مع أن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة بالطريق الأولى.
{ أفرأيتم } أخبروني أيها المسرفون المفرطون أن { ما تحرثون } [الواقعة: 63] أي: تبذرون وتطرحون حبة في التراب.
{ ءأنتم تزرعونه } وتنبتونه { أم نحن الزارعون } [الواقعة: 64] المقصورون على الإنبات بالاستقلال والاختيار بلا مشاركة ومظاهرة.
مع أنا { لو نشآء } ونختار عدم إنباتها ونمائها { لجعلناه حطاما } أي: الزرع الثابت حطاما يابسا، هباء هشيما { فظلتم تفكهون } [الواقعة: 65] أي: صرتم حينئذ تتعجبون وتتأسفون من يبسها وضياعها، وليس لكم سوى الحسرة والأسف شيء، بل تقولون حينئذ من شدة التضجر والتحزن.
{ إنا لمغرمون } [الواقعة: 66] ملزمون بتضييع البذور وإهلاك النفقة.
{ بل نحن محرومون } [الواقعة: 67] حرمنا عن بذورنا وأعمالنا وريعنا بالكلية.
{ أفرءيتم المآء } العذاب القراح الفرات السائغ { الذي تشربون } [الواقعة: 68] وتستروحون نفوسكم به، وتبردون أكبادكم منه؟.
{ ءأنتم أنزلتموه من المزن } أي: السحاب الهامر الهاطل { أم نحن المنزلون } [الواقعة: 69] بكمال قوتنا وقدرتنا.
مع أنا { لو نشآء جعلناه } أي: صيرناه وبدلناه { أجاجا } مرا مالحا { فلولا تشكرون } [الواقعة: 70] وهلا تواظبون على أداء حقوق أمثال هذه النعم العظام أيها المجبولون على الكفران والنسيان.
{ أفرأيتم النار التي تورون } [الواقعة: 71] تقدحون { أأنتم أنشأتم شجرتهآ } أي: الشجرة التي يت خذ منها الزناد { أم نحن المنشئون } [الواقعة: 72] المستقلون بإنشائها.
{ نحن } اليوم { جعلناها } أي: النار { تذكرة } وتبصرة لأمر البعث والنشر وأنموذجا من نار القطيعة الجهنمية وعظة للمتقين منها؛ ليتزودوا بالتقوى، ويتخلصوا من نيران الهوى ودركات اللظى { و } جعلناها أيضا { متاعا } منفعة عظيمة { للمقوين } [الواقعة: 73] المنزلين في القفراء والبيداء جائعين، خالية بطونهم عن الطعام، فيطبخون بها، ويشبعون فيها.
وبالجملة: { فسبح } يا أكمل الرسل { باسم ربك العظيم } [الواقعة: 74] الذي هو أعز وأجل من أن يطرأ عليه شيء من النقائص، أو يحوم حول حماء قدسه شائبة العظ والقصور، وإذا كان شأن الحق هذا { فلا } حاجة إلى القسم لإثبات عظمته سبحانه وجلالة قدره وقدرته، بل { أقسم بمواقع النجوم } [الواقعة: 75] أي: بموارد وقوع نجوم القرآن، ونزولها في قلوب الكمل من أرباب العزائم والعرفان.
{ وإنه } أي: القسم بالقرآن وموارده { لقسم لو تعلمون } وتعرفون قدره { عظيم } [الواقعة: 76] شأنه عال خطره رفيع قدره.
وكيف لا يكون القرآن عظيم الشأن رفعي القدر والمكان؟!
[56.77-96]
و { إنه لقرآن } موضح مبين لطريق الإيمان والعرفان { كريم } [الواقعة: 77] كثير الخير والنفع لحامليه، وممتثلي ما فيه من الأمور والنواهي، مصون مثبت { في كتاب مكنون } [الواقعة: 78] محفوظ مستور عن نظر المحجوبين، ألا وهو حضرة العلم المحيط الإلهي، ولوح قضائه.
لذلك { لا يمسه } ولا يتصف بمقتضاه { إلا المطهرون } [الواقعة: 79] عن أوساخ التقليدات والتخمينات، وأكدار الأوهام والخيالات العائقة عن الوصول إلى صفاء مشرب التوحيد، المسقط لعموم الإضافات.
وكيف يمسه غير أهل الكشف والطهارة الحقيقية؟ مع أنه { تنزيل من رب العالمين } [الواقعة: 80] الذي هو في ذاته مقدس عن شوائب النقص وسماته ملطقا { أفبهذا الحديث } العظيم الشأن، المنبئ عن محض الحكمة والإيقان { أنتم مدهنون } [الواقعة: 81] متهاونون متساهلون أيها المسرفون المفرطون؟.
{ وتجعلون رزقكم } حظكم ونصيبكم من هدايته وإرشاده { أنكم تكذبون } [الواقعة: 82] جهلا وعنادا، أتسرفون وتفرطون في الاجتراء على الله وتكذيب كلامه ورسوله المرسل من عنده أيها المفسدون المفرطون؟!
{ فلولا } تتذكرون، وهلا تتعظون به، أما تخافون وقت { إذا بلغت } النفس { الحلقوم } [الواقعة: 83] أي: لكل منكم بأمر الله.
{ و } الحال أنه { أنتم } أيها الحاضرون حول المحتضر { حينئذ تنظرون } [الواقعة: 84] له، ولا تعلمون لحاله، ولا تفهمون ما جرى عليه من سكرات الموت وأفزاعه وأهواله.
{ ونحن } حينئذ { أقرب إليه } إي: إلى المحتضر { منكم } وأعلم بحاله وشغله، لا قرب الحلول فيه، ولا الاتحاد معه، بل قرب ذي الظل إلى الظل، وذي الصورة إلى الصورة المنعكس والمرآة { ولكن لا تبصرون } [الواقعة: 85] وتدركون قريبا لا إليه ولا إليكم، أيها المحجوبون المحرومون، ولا تدركون أيضا ما يجري عليه من الأهوال.
{ فلولا إن كنتم غير مدينين } [الواقعة: 86] أي: مضطرين مملوكين مجبورين { ترجعونهآ } أي: فهلا ترجعون النفس المخرجة البالغة إلى الحلقوم إلى محلها ولا تمنعونها عن الخروج { إن كنتم صادقين } [الواقعة: 87] في دعوى الاستيلاء والاستقلال وعدم المبالاة بالصانع القديم الحكيم العليم، فهلا تدفعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم؟! { فأمآ } بعد خروج الروح من البدن { إن كان } المتوفى { من المقربين } [الواقعة: 88] السابقين من الفرق المشار إليها في أول السورة.
{ فروح } أي: موته له راحة ورحمة، وإيصال له إلى عالم اللاهوت، وإزاحة زحمة عنه، عارضة عليه، متعلقة إياه من كسوة الناسوت { وريحان } يشمه من فوائح الرحمن { وجنت نعيم } [الواقعة: 89] دائم التنعيم والترفه في المقام المحمود والحوض المورود في جوار الخلاق الودود.
{ وأمآ إن كان } المتوفى { من أصحاب اليمين } [الواقعة: 90] أي: من الأبرار الموصوفين باليمن والكرامة الموروثة له من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية.
{ فسلام لك } يا ذا اليمن والكرامة { من } قبل { أصحاب اليمين } [الواقعة: 91] أمثالك، ترحيبا لك وتكريما.
{ وأمآ إن كان } المتوفى من أصحاب الشما والشآمة الأزلية والشقاق الجبلية { من المكذبين } بيوم الدين { الضآلين } [الواقعة: 92] المنحرفين عن منهج الاستقامة، الموصلة إلى دار المقامة والكرامة.
{ فنزل } فله نزل { من حميم } [الواقعة: 93] بدل ما لا يتعطش في النشأة الأولى إلى زلال برد اليقين، ولا يشرب رشحة وجرعة من رحيق المعرفة والتوحيد.
{ وتصلية جحيم } [الواقعة: 94] أي: إدخال نار عظيمة، بدل ما يتلذذ بالشهوات وبالميل إلى المحرمات والمكروهات، وبالجملة: { إن هذا } الذي ذكر في حق هؤلاء الفرق الثلاث { لهو حق اليقين } [الواقعة: 95] بالنسبة إلى أرباب الكشف والشهود، المطلعين بمراتب الوجود باليقين العلمي والعيني والحقي.
{ فسبح باسم ربك العظيم } [الواقعة: 96] أي: نزه يا أكمل أرباب الشهود والحضور ذات ربك عن شوب الريب والتخمين، بذكر اسمه العظيم، المستجمع لعموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإنك على الحق اليقين في مطلق أسمائه وصفاته.
جعلنا الله ممن اتصف بحق اليقين، وخلص! عن أمارات الريب والتخمين، بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك القاصد لانكشاف مراتب الوجود بطريق الكشف والشهود والاطلاع على ما فيها من الكفر والجحود والانحراف عن الطريق المعهود الذي نزل بتبيينه الكتب والرسل أن تتأمل في عموم أوقاتك وحالاتك في هذه السورة العظيمة الشأن، وتعرض على نفسك دائما أحوال الفرق الثلاث المذكورة فيها، وتذكرها عليك، حتى يظهر لك أنك مع من أنت من هؤلاء الفرق؟.
من السابقين المقربين المقبولين؟.
أم من أصحاب اليمين الموفقين المحسنين؟.
أم من المكذبين الضالين المعذبين؟.
وبالجملة:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99].
[57 - سورة الحديد]
[57.1-4]
{ سبح لله } الواحد الأحد الصمد، المستقل بالبقاء والقيومية، المتفرد بالتحقق والثبوت على وجه الديمومية، الحي الحقيق بالألوهية والربوبية، مظاهر { ما في السموت والأرض } من الكوائن العلوية والسفلية، الغيبية والشهادية، ونزهه عن مطلق النقائص المنافية لصرافة وحدته الذاتية بعدما اعترفت ألسنة استعدادات الكل بربوبيته طوعا، واشتغلوا بلوازم عبوديته رغبة { و } كيف لا يسبحونه ولا يعظمونه، والحال أنه { هو العزيز } الغالب المقتدر على وجوه الإنعام والانتقام { الحكيم } [الحديد: 1] المتقن في إيجادها وإظهارها على وفق الإرادة والاختيار؟!
{ له ملك السموت والأرض } أي: مؤثرات الأسماء والصفات العلوية، المعتبرة بالأعيان الثابتة ومتأثرات القوابل السفلية، واستعدادات الطبائع والهيولى المنفعلة منها؛ إذ هو سبحانه باستقلاله وتوحده { يحيي ويميت } أي: يتصرف فيها بالإحياء والإماتة، والخلع واللبس حسب إرادته ومشيئته بالاختيار، وبالجملة: { وهو على كل شيء } دخل في حيطة حضرة علمه، ولوح قضائه { قدير } [الحديد: 2] بالقدرة التامة الكاملة، مع أنه لا يعزب عن حيطة علمه الحضوري ذرة مما لمع عليه برق وجوده الوحداني الفرداني.
وكيف لا يقدر سبحانه على التصرف بالاستقلال والاختيار في ملكه وملكوته؛ إذ { هو الأول } الأزلي السرمدي السابق في الوجود { والآخر } الأبدي الدائم، المستمر فيه بمقتضى الجود حق { والظاهر } المتحقق في العيان { والباطن } المكنون في عموم الأكوان، فانظر أيها المعتبر الناظر، هل بقي لغيره وجود ولسواه عين وشهود؟! { و } بالجملة: { هو } بذاته { بكل شيء } ظهر من امتداد أظلاله وانعكاس أشعة نور وجوده { عليم } [الحديد: 3] بذاته وحضوره، غير مغيب عنه مطلقا.
ومن كمال علمه وإرادته، ووفور حكمته وقدرته { هو الذي خلق } وقدر ظهور { السموت } المتطابعة المتعلقة { والأرض } المفترشة الممهدة { في ستة أيام } حسب الأقطار والجهات الست { ثم } بعدما كمل الكل { استوى } وتمكن { على العرش } أي: على عروش مطلق المظاهر بالاستيلاء التام، والاستقلال الكامل، بحيث { يعلم ما يلج } ويدخل { في الأرض } من الحبات أو في أراضي الاستعدادات ومن بذور المعارف والحقائق { وما يخرج منها } من أنواع النباتات أو المكاشفات والمشاهدات المترتبة على بذور المعارف، والأعمال الصالحات { وما ينزل من السمآء } أي: عالم الأسباب من الأمطار، أو من سماء الأسماء من مياه العلوم اللدنية والإدراكات المحيية لأراضي الاستعدادات { وما يعرج فيها } من الأبخرة والأدخنة، أو الكلمات الطيبة الصاعدة الجالبة لفيضان اليقين والعرفان من المبدأ الفياض.
{ و } بالجملة: { هو } سبحانه بذاته { معكم } أيتها المظاهر { أين ما كنتم } لا معية ذاتية ولا زمانية، ولا بطريق المقارنة والمخالطة، ولا بطريق الحلول والاتحاد، بل بطريق الظهور والظلية، والحضور ورش النور { و } بالجملة: { الله } المحيط بكم، المظهر لأشباحكم بمد ظله عليكم { بما تعملون } من مطلق الأعمال { بصير } [الحديد: 4] فيجازيكم عليها على مقتضى بصارته وعلمه في يوم الجزاء.
[57.5-9]
إذ { له ملك السموت والأرض } إيجادا وخلقا أولا، وإعداما ثانيا، وإعادة ثالثا { و } بعد الإعادة { إلى الله } لا إلى غيره من الوسائل والأسباب العادية { ترجع الأمور } [الحديد: 5] أي: رجوع مطلق الأمور إليه سبحانه في المعاد والمآل، كما أن ظهوره منه في المبدأ والمنشأ؛ إذ منه الابتداء وإليه الانتهاء.
ومن تصرفاته المتقنة في ملكه على وفق حكمته أنه { يولج } ويدخل { الليل } أي: بعض أجزائه { في النهار } في فصل الربيع والصيف { ويولج النهار } أي: بعض أجزائه { في الليل } في فصل الخريف والشتاء؛ مصلحة لمعاش عموم الحيوانات، ومحافظة لها من كلا طرفي الإفراط والتفريط { و } بالجملة: { هو عليم بذات الصدور } [الحديد: 6] أي: بمكنونات ضمائركم، ومقتضيات استعداداتكم.
وبعدما علم واطلع سبحانه منكم ومن استعداداتكم وقابلياتكم
ما ليس لكم به علم
[النور: 15]، { آمنوا } أي: أنقادوا وأطيعوا { بالله } المطلع على عموم مصالحكم { ورسوله } النائب عنه، المبعوث من لدنه؛ لإرشادكم وتكميلكم { وأنفقوا } بمقتضى الأمر الإلهي المنبئ عن محض الحكمة والمصلحة { مما جعلكم مستخلفين فيه } أي: من أموالكم التي استخلفكم الله عليها؛ إذ هي كلها لله حقيقة، لا لكم كما زعمتم.
فعليكم أن تمتثلوا بأوامر الله سبحانه بالإنفاق والإيثار الذي يزكي أنفسكم من الميل إلى مزخرفات الدنيا، العائقة عن الوصول إلى جنة المأوى التي هي مقام التسليم والرضا { فالذين آمنوا منكم } وأكدوا إيمانهم بالإخلاص في عموم الأعمال والأفعال والأخلاق { وأنفقوا } بلا شوب المن والأذى، وشين السمعة والرياء { لهم } سبب إيمانهم وإنفاقهم على وجه الإخلاص { أجر كبير } [الحديد: 7] لا أجر أكبر منه وأعلى.
ثم قال على طريق الحث والإلزام المشعر بالوعيد: { وما لكم } أي: أي شيء عرض لكم، وطرأ عليكم { لا تؤمنون بالله } الواحد الأحد الصمد، المستحق للإطاعة والإيمان { و } لا سيما { الرسول } المبلغ الكامل في الهداية والتكميل { يدعوكم } بمقتضى الوحي الإلهي المنزل من عنده { لتؤمنوا بربكم } مع تأييده بالمعجزات الساطعة، والحجج القاطعة الدالة على صدقه في دعوته للإيمان، ورسالته إلى كافة الأنام { و } الحال أنه { قد أخذ } الله العليم العلام باستعداداتكم { ميثاقكم } وعهدكم بالإيمان والعرفان في مبدأ فطرتكم، ومنشأ جبلتكم، مع أنه جبلكم حين قدر خلقكم، وأنشأ فطرتكم على جبلة التوحيد والإيمان، فماذا يمنعكم عنه { إن كنتم مؤمنين } [الحديد: 8] بسبب وموجب، فهذا موجب لا مزيد عليه؟!
إذ { هو } سبحانه الحكيم العليم { الذي ينزل } من مقام فضله وجوده { على عبده } محمد صلى الله عليه وسلم { آيات بينات } مبينات واضحات { ليخرجكم } الله ورسوله { من الظلمات } المتراكمة المتكاثفة من لوازم الطبيعة، ولواحق الحصول { إلى النور } أي: نور الوجود البحت، الخالص عن مطلق القيود { و } اعلموا أيها المكلفون { إن الله بكم } بإرادة إخراجكم من ظلمات الجهل إلى نور اليقين { لرءوف } مشفق عطوف { رحيم } [الحديد: 9] متناه في الرحمة.
[57.10-12]
{ وما لكم ألا تنفقوا } أي: أي شيء يمنعكم عن الإنفاق { في سبيل الله } تقربا إليه، وطلبا لمرضاته، وامتثالا لأوامره { ولله } الغني بذاته، المستغني عن مطلق مظاهره ومصنوعاته { ميراث السموت والأرض } أي: العلويات والسفليات والممتزجات، وهو في ذاته غني عن إنفاقكم وبذلكم، إلا أنه { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } أي: أنفق قبل فتح مكة ممتثلا لأمر الله، مجهدا في تقوية دين الإسلام وترويجه وظهوره على الأديان الباطلة، وتكثير أهل الحق وتغليبه { و } مع إنفاقه على المقاتلين في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة توحيده { قاتل } أيضا بنفسه، وسعى ببذل المال والروح في طريق الحق وترويجه { أولئك } السعداء المنفقون المقاتلون لهم { أعظم درجة } وأكرم مثوبة ومقاما عند الله { من } المؤمنين { الذين أنفقوا من بعد } أي: بعد فتح مكة وغلبة المسلمين، وظهور دين الإسلام { وقاتلوا } بعده مع كثرة المقاتلين.
{ و } بالجملة: { كلا وعد الله الحسنى } أي: وعد الله كلا من المسلمين المبادرين، أو المبطئين الوعد الحسنى، والدرجة العليا، والمثوبة العظمة حسب سعيهم واجتهادهم في تقوية الشرع، وترويج الدين القويم { و } بالجملة: { الله } المطلع بسرائر عباده { بما تعملون } أي: بعموم أعمالكم وأحوالكم خالصها ومشوبها، صالحها وفسادها { خبير } [الحديد: 10] بصير لا يعزب عن حضرته شيء منها، يجازيكم على مقتضى خبرته.
ثم قال سبحانه على سبيل الحث والترغيب: { من ذا الذي يقرض الله } وينفق في سبيله من أكرم أمواله { قرضا حسنا } بلا شوب المن والأذى، وشين السمعة والرياء طلبا لمرضاته سبحانه { فيضاعفه له } أي: يضاعف له إخلافه وإعواضه في الدنيا كرامة عليه، وفضلا { و } مع ذلك { له } في الآخرة { أجر كريم } [الحديد: 11] وفوز عظيم لا فوز أعظم منه وأكرم، وهو التحقيق بمقام الرضا والتسليم، والاستغراق بمطالعة وجه الله الكريم.
اذكر يا أكرم الرسل على سبيل التبشير { يوم ترى } أيها المعتبر الرائي { المؤمنين } الموحدين الموقنين، المخلصين { والمؤمنات } أيضا كذلك { يسعى نورهم } أي: نور يقينهم وعرفانهم { بين أيديهم } أي: أمامهم وقدامهم { وبأيمانهم } إذ إتيان الكرامة إنما هو من هاتين الجهتين، فيقول لهم حينئذ من يتلقاهم من الملائكة: { بشراكم اليوم } دخول { جنات } متنزهات العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنههار المعارف والحقائق لا بحسب وقت دون وقت، بل { خالدين فيها } دائمين { ذلك } أي: الخلود في الجنة الموعودة { هو الفوز العظيم } [الحديد: 12] لا فوز أعظم منه عند المكاشفين.
[57.13-15]
ثم عقب سبحانه وعد المؤمنين بوعيد المنافقين فقال أيضا على وجه التذكير: { يوم يقول المنافقون } المبطلون المستمرون على النفاق مع أهل الحق { والمنافقات } أيضا كذلك { للذين آمنوا } حين يرونهم { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } [الحديد: 12] { انظرونا } أيها السعداء المحقون، والتفتوا نحونا { نقتبس من نوركم } إذ نحن في ظلمة شديدة { قيل } لهم حينئذ من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع: { ارجعوا ورآءكم } أي: إلى دار الاعتبار والاختبار { فالتمسوا نورا } واقتبسوا من مشكاة النبوة والولاية بامتثال الأوامر والنواهي الموردة من عنده سبحانه على رسله، وبالحكم والأسرار والصادرة من ألسنة أولي العزائم الصحيحة، والمنجذبين نحو الحق من طريق الفناء فيه بالموت الأرادي، واعلموا أن اقترافه واقتباسه إنما هو في دار العبرة والغرور، لا في دار الحضور والسرور.
وبعدما جرى ما جرى { فضرب } وحيل حينئذ { بينهم } أي: بين المؤمنين والمنافقين { بسور } حائط حائل { له } أي: للسور { باب } مفتوح يدخل منه المؤمنون { باطنه } أي: باطن الباب { فيه الرحمة } النازلة من قبل الحق بمقتضى اسم الرحمن على أهل الإيمان والعرفان { وظاهره } أي: ظاهر الباب { من قبله } سبحانه بمقتضى اسمه المنتقم { العذاب } [الحديد: 13] النازل على أهل النفاق والطغيان.
{ ينادونهم } أي: المنافقون المؤمنون حين ستروا عن أعينهم، وبقوا في الظلمة والعذاب محرومين قائلين متضرعين: { ألم نكن معكم } أيها الرفقاء في دار الدنيا مسلمين منقادين لأحكام الإسلام، ممتثلين لأوامر الكلام ونواهيه أمثالكم { قالوا } أي: المؤمنون في جوابهم من وراء الحائل: { بلى } أنتم معنا ظاهرا { ولكنكم فتنتم أنفسكم } بالنقاق والشقاق حسب باطنكم { و } مع ذلك { تربصتم } وانتظرتم بالمؤمنين المقت والدوائر { وارتبتم } ترددتم وشككتم في حقية الدين القويم، وظهوره على الأديان كلها { و } بالجملة: { غرتكم الأماني } الأهوية الفاسدة، والآراء الباطلة مدى العمر، فانتظرتم بالمؤمنين
ريب المنون
[الطور: 30]، وكنتم على أمانيكم هذه وتطيراتكم { حتى جآء أمر الله } الذي هو الموت، فمتم منافقين مخادعين { و } بالجملة: { غركم بالله الغرور } [الحديد: 14] الذي هو شياطين أمارتكم وأمانيكم، وتسويلات نفوسكم وقواكم.
وبعدما وقع ما وقع { فاليوم } الذي تبلى السرائر فيه { لا يؤخذ منكم } أيها المنافقون المخادعون { فدية } تفدون بها؛ لتخليصكم من العذاب لا منكم أيها المنافقون { ولا من } إخوانكم { الذين كفروا } مجاهرين مصرين على ما هم عليه بلا مبالاة إلى الدين والدعوة، وبالجملة: { مأواكم } أي: محل رجوعكم وقراركم اليوم جميعا؛ أي: { النار } المعدة المسعرة لكم أيها المنافقون بالكفر، والمجاهرون به { هي مولاكم } أي: النار أولى بكم، وأليق بحالكم { و } بالجملة: { بئس المصير } [الحديد: 15] والمرجع النار المعدة للكفار الأشرار.
[57.16-19]
ثم قال سبحانه على سبيل الحث والترغيب، والتمنن والتشويق: { ألم يأن } أي: لم يقرب الوقت، ولم يحضر الأوان { للذين آمنوا } بوحدة الحق، وبكمالات أسمائه وصفاته { أن تخشع } وتخضع وتلين وترق { قلوبهم } التي هي وعاء الإيمان والعرفان { لذكر الله } المستجمع لعموم الأسماء والصفات، المسقط لجميع الإضافات { وما نزل } سبحانه في كتابه المبين لطريق توحيده { من الحق } الحقيق بالامتثال والاتباع من الأوامر والنواهي الموردة فيه، المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن، والرموز الإشارات المصفية للسر عن التفات إلى ما سوى الحق.
{ و } بالجملة: { لا يكونوا } - التفسير جرى على رواية رويس - (ولا تكونوا) أيها المؤمنون في الإعراض عن كتاب الله، والانصراف عما فيه من الحكم والمصالح { كالذين أوتوا الكتاب من قبل } وهم اليهود والنصارى { فطال عليهم الأمد } أي: مضى الزمان بينهم وبين أنبيائهم { فقست قلوبهم } عن الإيمان، مع أن الكتب بين أظهرهم { وكثير منهم فاسقون } [الحديد: 16] خارجون عن دينهم، تاركون ما في كتابهم من الأحكامم من فرط قساوتهم وغفلتهم، فلكم ألا تكونوا أمثالهم مع نبيكم ودينكم وكتابكم.
{ اعلموا } أيها المؤمنون الموحدون { أن الله } المطلع على قابليات عباده واستعداداتهم الفطرية { يحيي الأرض } أي: أراضي استعداداتكم بماء المعارف الحقائق، والمكاشفات والمشاهدات { بعد موتها } بالجهل والغفلة الناشئة من ظلمات الطبيعة والهيولى، وبالجملة: { قد بينا } وأوضحنا { لكم الآيات } الدالة على هدايتكم وتكميلكم في القرآن العظيم { لعلكم تعقلون } [الحديد: 17] رجاء أن تتأملوا فيها، وتتعظوا بها، وتفهموا إشاراتها، وتعتبروا منها، وتتفطنوا بما فيها من السرائر المرموزة والحكم المكنونة.
ومن علامات تعقلكم واتعاظكم: الصدق بمزخرفات الدنيا، والتقرب بها نحو المولى { إن المصدقين } أي: المتصدقين { والمصدقات } أي: المتصدقات { و } هم الذين { أقرضوا الله قرضا حسنا } خالصا عن شوب المن والأذى، طالبا لمرضاته سبحانه { يضاعف لهم } صدقاتهم في النشأة الأولى { ولهم أجر كريم } [الحديد: 18] في النشأة الأخرى.
{ و } بالجملة: { الذين آمنوا بالله ورسله } وأخلصوا في إيمانهم، وأكدوه بصوالح أعمالهم وإحسانهم { أولئك } السعداء المقبولون { هم الصديقون } المتبالغون في الصدق، والمقصورون على الإخلاص، المتمكنون في منهج حق اليقين { والشهدآء } الكشافون المشاهدون، الحاضرون { عند ربهم } المستغرقون بمطالعة لقائه { لهم } في النشأة الأخرى { أجرهم ونورهم } الموعود لهم من قبل الحق على وجه لا مزيد عليه { و } المسرفون المفرطون { الذين كفروا } بوحدة ذاتنا { وكذبوا بآياتنآ } الدالة على استقلالنا في تصرفاتنا عتوا وعنادا { أولئك } الأشقياء المردودون هم { أصحاب الجحيم } [الحديد: 19] أي: ملازموها وملاصقوها، لا نجاة لهم منها.
[57.20-21]
{ اعلموا } أيها المكلفون المعتبرون { أنما الحيوة الدنيا } أي: ما الحياة المستعارة الدنيوية، وما حاصلها وجل متاعها إلا { لعب } مزخرف باطل في نفسها، يلعب بها أهل الغفلة والحجاب، ويتعبون بها أنفسهم بلا طائل { ولهو } يلهيهم عما يهمهم ويعينهم من الحياة الأزلية الأبدية ولوازمها { وزينة } زينها لهم شياطين قواهم وأمانيهم من المطاعم الشهية، والملابس البهية، واللذات الوهمية، والشهوات البهيمية { وتفاخر بينكم } بالمال والجاه والثروة، والسيادة بالأنساب والأحساب { وتكاثر في الأمول والأولد } بالمظاهرة والمعاونة، وتكثير العدد والعددد والعدد، والعقارات والتجارات، والمواشي والزراعات إلى غير ذلك من المزخرفات الفانية التي لا قراره لها ولا مدار، بل مثلها { كمثل غيث } نزل وأنبت إنباتا { أعجب الكفار } أي: الزراع { نباته } من كثرته ونضارته وكثفاته { ثم يهيج } يجف وييبس بآفة وعاهة { فتره مصفرا } بعدما كان مخضرا في كمال البهجة والنضارة { ثم يكون حطما } هشيما تذروه الرياح حيث شاءت بلا فائدة ولا عائدة.
{ و } مع هذه الخسارة الحرمان في النشأة الأولى لأهل الغفلة والخذلان يكون لهم { في الآخرة } المعدة للجزاء { عذاب شديد } لاشتغالهم بالدنيا وما فيها { و } بالجملة: { مغفرة } ستر ومحو لذنوب أصحاب المعاملات، ناشئة { من الله } الغفور الرحيم بمقتضى لطفه، وسعة رحمته وجوده { ورضون } منه سبحانه لأرباب القلوب والمكاشفات خير من الدنيا وما فيها بأضعافها وآلافها عند من تحقق تربية الإنسان، وسعة قلبه المصور على صور عرش الرحمن { و } بالجملة: { ما الحيوة الدنيآ } عند الأحرار البالغين بدرجة الاعتبار والاستبصار { إلا متع الغرور } [الحديد: 20] ومخائل الخديعة والزور، ومن اغتر بها ولعب بما فيها فقد استحق الويل والثبور، وحرم عليه الحضور والسرور.
ومتى سمعتم أيها المؤمنون المعتبرون حال الدنيا ومآلها، وحال العقبى وما يترتب عليها { سابقوا } سارعوا، وبادروا بوفور الرغبة والرضا { إلى } تحصيل أسباب { مغفرة } مرجوة { من ربكم } الذي رباكم على فطرة الهداية والتوحيد { و } وسائل دخول { جنة } وسيعه فسيحة { عرضها كعرض السمآء والأرض } بحسب متفاهم العرف، وإلا فلا يكاد سعة الجنة وعرش الرحمن قلب الإنسان الكامل، كما يشهد به قلب العارف المحقق، المتحقق بمقام القلب الذي هو وعاء الحق، المنزه عن مطلق المقادير والتقادير { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } على وجه الإخلاص، وأكدوا إيمانهم وإخلاصهم بالرضا والتسليم بعموم ما جرى عليهم من القضاء، وفوضوا أمورهم كلها إلى المولى حتى صار علمهم منتهيا إلى العين، وعينهم إلى الحق.
{ ذلك } التحقق والانتهاء { فضل الله } بلا سبق شيء يوجبه ويجبله، وعبودية يستحقه، بل { يؤتيه من يشآء } عناية منه سبحانه، وإحسانا ناشئا عن محض الإرادة والاختيار، وكيف { والله } الغني في ذاته، المستغني مطلقا عن عبادة مظاهره وأظلاله { ذو الفضل العظيم } [الحديد: 21] والكرم العميم، يمن على من يشاء من عباده بمقتضى سعة رحمته وجوده حسب علمه المحيط باستعداداتكم وقابلياتهم.
[57.22-25]
إذ { مآ أصاب من مصيبة } أي: ما حدث من حادثة مفرحة أو موحشة، كائنة { في الأرض } أي: في أقطار الآفاق من الخصب والرخاء، والزلزلة والوباء إلى غير ذلك من المفرحات والموحشات الحادثة في الأنحاء والأرجاء { ولا } كائنة { في أنفسكم } من العوارض المسرة، والشهوات الملذة، أو من الأمراض والملمات المؤلمة { إلا } ثبت حدوثها في ساعة كذا، في آن كذا، على وجه كذا { في كتب } أي: في حضرة العلم الإلهي ولوح قضائه على اختلاف العبارات { من قبل أن نبرأهآ } نخلقها ونظهرها؛ أي: ثبت حدوث الحادثة في وقتها في كتابنا قبل أن تخلق الحادثة بزمان لا يعلم أحد مقداره إلا نحن، ولا تستبعدوا من قدرتنا أمثال هذا { إن ذلك } الثبت والتقدير السابق، وإن كان عندكم عسير { على الله } القادر المقتدر، الغالب على عموم المقدورات { يسير } [الحديد: 22] سهل في جانب قدرته وإرادته.
والسر في ثبتها قبل خلقها: { لكيلا تأسوا } ولا تحزنوا أيها المجبولون على فطرة الكفران { على ما فاتكم } من اللذات والشهوات المرغوبة { ولا تفرحوا بمآ آتاكم } منها؛ ليكون فرحكم سببا لكبركم وخيلائكم على ضعفاء الأنام، وفقراء الإسلام { و } بالجملة: { الله } المطلع على ما في استعدادات عباده من النخوة والاستكبار { لا يحب كل مختال } ذو كبر وخيلاء منهم { فخور } [الحديد: 23] مخافر مباه؛ بسبب المال والجاه والثروة، والسيادة على أقرانه وأبناء زمانه.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تسندوا الأمور إلى أنفسكم، بل فوضوا أموركم كلها إلى الله، وأسندوها إليه سبحانه بالأصالة، فلا تفرحوا ولا تحزنوا، بل افنوا في الله وابقوا؛ لتتمكنوا
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
والمختالو المفتخرون هم { الذين يبخلون } ويمسكون أنفسهم عن التصدق والإنفاق، ويجمعون من حطام الدنيا مقدار ما يفتخرون بها، ويتفوقون على أقرانهم بسببها { و } من غاية بخلهم وإمساكهم: { يأمرون الناس } أيضا { بالبخل } لئلا يلحق العار عليهم خاصة؛ وليعرضوا ويصرفوا ضعفاء الأنام عن امتثال أمر الله بالإنفاق؛ حتى لا ينالوا بالمثوبة العظمى، والكرامة الكبرى في النشأة الأخرى من عنده سبحانه { و } بالجملة: { من يتول } ويعرض عنه الله، ولم يشكر لنعمه، ولم يواظب على أداء حقوق كرمه فلا يضره سبحانه، ولا ينقص من علو شأنه وسمو برهانه { فإن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { هو الغني } بذاته عن إطاعة عباده، وإنفاقهم وشكرهم وكفرانهم { الحميد } [الحديد: 24] حسب أسمائه وصفاته الذاتية بلا افتقار له إلى محامد مظاهره ومصنوعاته.
ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان لعموم عباده، وإرشادا لهم إلى سبل السلامة والسلام، وحثا لهم إلى الطاعات والعبادات: { لقد أرسلنا } من مقام عظيم جودنا { رسلنا } المبعوثين إلى هداية العباد وإرشادهم إلى سبيل الرشاد، وأيدناهم { بالبينات } المعجزات والواضحات { وأنزلنا معهم الكتاب } المشتمل على الآيات الدالة على وحدة ذاتنا، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { و } أنزلنا معهم { الميزان } الموضوع؛ للقسط والعدالة، كل ذلك { ليقوم الناس } المجبولون على الغفلة والنسيان { بالقسط } والعدل فيصيرون مستقيمين على صراط الله الأعدل الأقوم الذي هو الشرع القويم، والدين المستقيم المنزل على الرسول المبعوث بالخلق العظيم { وأنزلنا الحديد } لزجر المنحرف العنيد؛ إذ { فيه بأس شديد } للمائلين عن جادة الشريعة، والمتمردين عن الدين القويم.
{ و } إن كان أيضا فيه { منافع } كثيرة { للناس } لتوقف عموم الجرف والصنائع عليه { و } إنما أرسل سبحانه من أرسل، وأنزل معه ما أنزل { ليعلم الله } أي: يظهر ويميز من عباده { من ينصره } سبحانه { و } ينصر { رسله } المرسلين من لدنه؛ أي: من ينصر دينه المنزل على كل واحد من رسله المعبوثين من عنده؛ لإظهاره وترويجه { بالغيب } أي: قبل قيام الساعة وانكشاف السرائر؛ وما ذلك الإرسال والإنزال منه سبحانه إلا لابتلاء العباد واختبارهم، وإلا فهو منزه في ذاته عن إعانتهم ونصرهم { إن الله } القادر المقتدر على أنواع الإنعام والانتقام { قوي } على إهلاك من أراد إهلاكه { عزيز } [الحديد: 25] غالب غلى عموم مقدوراته بلا مظاهرة ومعاونة.
وإنما أمر سبحانه عباده بالجهاد؛ لينالوا بامتثاله أعظم المثوبات.
[57.26-27]
ثم قال سبحانه على سبيل التخصيص بعد التعميم؛ للاعتناء والاهتمام بشأن المذكورين: { ولقد أرسلنا نوحا } إلى قومه حين فشا الجدال والمراء بينهم، وشاع انحرافهم عن المنهج القويم { وإبراهيم } حين ظهر الشرك وعبادة الأوثان والأصنام بين قومه { و } من كمال تعظيمنا وتكريمنا إياهما: { جعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } أبدا { فمنهم } أي: بعض قليل من ذريتهما { مهتد و } بعض { كثير منهم فاسقون } [الحديد: 26] خارجون عن جادة العدالة والقسط الإلهي.
{ ثم قفينا } وعقبنا { على آثارهم } أي: بعد انقراضهم { برسلنا } وأيدناهم بالكتب والصحف وأنواع الآيات والمعجزات { و } بعدما انقرضوا أيضا { قفينا } الكل { بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل } وأيدناه بروح القدس { و } من كمال صفوته، ونجابة عرقه وطينته: { جعلنا في قلوب الذين اتبعوه } وآمنوا له، وتدينوا بدينه { رأفة } عطفا ولينا إلى حيث يعفون عن القاتل، ولا يضربون الشاتم والضارب { ورحمة } يترحمون بها عموم عباد الله.
{ و } من شدة محبتهم ومودتهم بالنسبة إلى الله ابتدعوا { رهبانية } يبالغون بها في العبادات إلى حيث لا يطعمون، ولا يشربون إياما، ولا ينكحون قط، ولا يختلطون مع الناس، بل يوطنون نفوسهم في شعب الجبال والكهوف، وإنما { ابتدعوها } من تلقاء أنفسهم بلا رخصة منا إياهم؛ إذ { ما كتبناها } أي: الرهبانية، وما فرضناها وقدرناها { عليهم } في دينهم وكتابهم، بل ما اختاروها { إلا ابتغآء رضوان الله } وطلبا لمرضاته، ومع ذلك { فما رعوها حق رعايتها } أي: ما وافقت رهبانيتهم بدينهم وكتابهم؛ إذ كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو من أعظم معتقدات دينهم وكتابهم فتركوه، وأنكروا عليه جهلا وعنادا { فآتينا الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم { منهم أجرهم } أي: أجر إيمانهم وأعمالهم بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم { وكثير منهم فاسقون } [الحديد: 27] خارجون عن مقتضى دينهم وكتابهم بإنكار محمد صلى الله عليه وسلم.
[57.28-29]
{ يأيها الذين ءامنوا } بالله على مقتضى دين الرسل الماضين - صلوات الرحمن عليهم وسلامه - المبعوثين؛ لتبيين طريق توحيد الصفات والأفعال { اتقوا الله } واحذروا عن بطشه بمخالفة أمره { وءامنوا برسوله } المرسل من عنده بطريق التوحيد الذاتي { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } سبحانه، نصيبا عظيما لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونصيبا آخر لإيمانكم لمن قبله من الرسل { ويجعل لكم } سبحانه ببركة إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم { نورا } مقتبسا من مشكاة النبوة والرسالة، المخصوص بالحضرة الختمية المحمدية { تمشون به } بذلك النور إلى المحشر { ويغفر لكم } سبحانه ببركته ذنوبكم { والله غفور رحيم } [الحديد: 28] لذنوب عباده، يرحمهم ويقبل منهم توبتهم إن أخلصوا فيها.
وإنما يفعل بهم سبحانه ما يفعل من الكرامات المتضاعفة { لئلا يعلم } أي: ليعلم يقينا { أهل الكتاب ألا يقدرون } ولا يستطيعون { على شيء من فضل الله } وثوابه، بأن يجلبوه بإيمانهم وأعمالهم لو لم يرد سبحانه إتيانه إياهم تفضلا وإحسانا { و } يعلمون أيضا يقينا { أن الفضل } المطلق والإنعام والإحسان الكامل { بيد الله } وفي قبضة قدرته، وتحت حكمه وحكمته { يؤتيه من يشآء } من عباده إرادة واختيارا { والله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { ذو الفضل العظيم } [الحديد: 29] والطول العميم، والكرم الجسيم على أرباب العناية من عباده.
جعلنا الله من تفضل علينا بمقتضى كرمه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المترقب للفضل الإلهي وسعة لطفه وجوده أن تلازم على أداء ما افترض عليك من الطاعات والعبادات، وتداوم على الاتصاف بالآداب السنية والأخلاق المرضية المقتبسة من كتاب الله المنزل من عنده؛ لإرشاد منهج الرشاد وعموم السعادات، ومن سنن سيد السادات، وسند أرباب الولاية والكرامات، وتقتفي بآثار السلف المجتازين في مضمار المعارف والمكاشفات المشاهدات، وإياك إياك الالتفات إلى مزخرفات الدنيا وما فيها من اللذات والشهوات العائقة عن التوجه إلى المولى والوصول إلى سدرة المنتهى { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء } [الحديد: 29].
[58 - سورة المجادلة]
[58.1-4]
{ قد سمع الله } السميع المجيب لمناجاة خلص عباده، العليم بحاجاتهم { قول التي } أي: دعاء المرأة التي { تجادلك } يا أكمل الرسل { في } حق { زوجها } حين وقع بينهما ظهار.
روي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها أوس بن الصامت، وكان الظهار والإيلاء حينئذ من عداد الطلاق، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" حرمت عليه "
فكررها، فأجاب صلى الله عليه وسلم كذكل { و } بعدما أيست أخذت { تشتكي إلى الله } متضرعة خاشعة فجيعة؛ إذ لها أولاد صغار، ولا متعهد لهم سواها، فقالت مناجية إلى الله مشتكية: اللهم إني أشكو إليك، وأتضرع نحوك، فأنزل على نبيك ما يؤلف بيني وبين زوجي، وترحم على أولادي المعصومين، وهي على هذا فأوحى سبحانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: { قد سمع الله... } ، { والله } على ما جرى بينكما { يسمع تحاوركمآ } وتراجعكما في الكلام، وكيف لا { إن الله } العلم بالسرائر والخفايا { سميع } لأقوال عباده { بصير } [المجادلة: 1] بأحوالهم ونياتهم؟!
ثم بين سبحانه حكم الظهار فقال: { الذين يظاهرون منكم من نسآئهم } والظهار هو أن يقول الرجل لامرأته عند الخصومة: أنت علي كظهر أمي؛ أي: شبهها بأمه المحمرة عليه، فكانت هي أيضا محرمة على زوجها في عادة الجاهلية؛ لأن الحرمة سرت إليها بمجرد التشبيه، فصارت بمنزلة الأم، رد الله عليهم أمرهم هذا بقوله: { ما هن أمهاتهم } بمجرد هذا القول الباطل { إن أمهاتهم } أي: ما أمهاتهم { إلا اللائي ولدنهم } فلا يشبه بهن في الحرمة غيرهن إلا ما ورد الشرع بتحريمهن، مثل أمهات الرضاع، وأزواج النبي صلى الله لعيه وسلم اللاتي هن أمهات المؤمنين { وإنهم } من شدة إفراطهم وطغيانهم { ليقولون منكرا من القول } مردودا في الشرع { وزورا } باطلا منحرفا عن الحق في نفسه؛ إذ لا يشبه الزوجة بالأم { وإن الله } المطلع لضمائر عباده ونياتهم { لعفو } لفرطات القائلين { غفور } [المجادلة: 2] لذنوبهم لو تابوا واستغفروا.
{ والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون } للتلافي والتدارك مناقضين { لما قالوا } نادمين عنه، مسترجعين { فتحرير رقبة } أي: يلزمهم في الشرع تحرير رقبة في كل مرة؛ ليكون كفارة قولهم المنكر الباطل { من قبل أن يتمآسا } أي: يستمتعا ويجتمعا؛ أي: المظاهر والمظاهر عنها { ذلكم } أي: إلزام الكفارة عليكم { توعظون به } وترتدعون عنه خوفا من الغرامة؛ إذ ليس هو من شيم أهل الإيمان، بل من ديدنة الجاهلية الأولى { والله } المراقب على عموم أحوالكم وأعمالكم { بما تعملون خبير } [المجادلة: 3] أي: بجميع أعمالكم ونياتكم فيها.
{ فمن لم يجد } ولم يقدر على تحرير الرقبة { فصيام شهرين } أي: كفارة ظهاره: صيام شهرين { متتابعين } متصلين، متوالي الأيام، فإن فصل وأفطر يوما استأنف، واشتراط التتابع والتوالي؛ لتنزجر نفسه وترتدع عنه، ولا يفعله قط، ولا يتكلم به مرة أخرى، ذلك أيضا { من قبل أن يتمآسا } ويتجامعا { فمن لم يستطع } ولم يقدر للصوم؛ لهرم أو مرض أو شبق مفرط { فإطعام ستين مسكينا } يعطى كل مسكين مدا من الطعام { ذلك } أي: لزوم الصوم والإطعام عند فقدان التجريد المذكور { لتؤمنوا } وتصدقوا { بالله ورسوله } في أصول الأحكام الشرع والأوامر والنواهي الإلهية الجارية فيه، وتتركوا ما أنتم عليه من الرسوم والعادات الجاهلية بينكم في جاهليتكم الأولى { و } بالجملة: { تلك } الحدود المذكورة { حدود الله } المصلح لأحوالكم، إنما وضعها بينكم؛ لتصلحوا بها ما أفسدتم على أنفسكم بمقتضى أهويتكم الفاسدة، وآرائكم الباطلة { و } اعلموا أن { للكافرين } الجاحدين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والأحكام الشرعية { عذاب أليم } [المجادلة: 4] في الدنيا والآخرة.
[58.5-8]
ثم قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد: { إن } المسرفين المفرطين { الذين يحآدون } ويعادون { الله ورسوله } أي: يضعون حدودا مخالفة لحدود الله ورسوله، ويختارونها مراء ومجادلة، ومعاداة مع الله ورسوله { كبتوا } أي: أكب وأحاط عليهم العذاب النازل من الله فهلكوا { كما كبت الذين من قبلهم } من كفار الأمم الماضية { و } كيف لا نهلكهم ولا نستأصلهم؛ إذ { قد أنزلنآ } لإصلاح أحوالهم وأخلاقهم، وعموم أطوارهم { آيات بينات } واضحات مشتملات على حكم ومصالح لا تخفى فأبو عنها، ولم يقبلوها، بل كذبوها وأنكروا عليها، وعلى من أنزلت عليه عتوا وعنادا؟! { و } بالجملة: { للكافرين } المستكبرين بما عندهم من الثروة والرئاسة { عذاب مهين } [المجادلة: 5] بحيث يبدل عزهم ذلا، ونخوتهم لعنة وطردا.
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يبعثهم الله } من قبورهم { جميعا } بحيث لا يشذ أحد منهم { فينبئهم } ويخبرهم { بما عملوا } أي: بجميع أعمالهم تفضيحا وتشهيرا لهم على رءوس الأشهاد، بحيث { أحصاه الله } وفصله عليهم على وجه لا يغيب عن حيطة علمه وإحصائه سبحانه من عملهم { و } هم قد { نسوه } لكثرته أو تهاونهم عليه { و } كيف لا يحصي سبحانه عليهم أعمالهم؛ إذ { الله } بمقتضى ألوهيته، وحيطة ظهوره { على كل شيء } من مظاهره { شهيد } [المجادلة: 6] حاضر غير مغيب؟!
{ أ } تستبعد شهادته سبحانه، وحضوره عند عموم مظاهره ومصنوعاته { لم تر } أيها المعتبر الرائي، ولم تعلم { أن الله } المحيط بالكل بالألوهية والظهور { يعلم } بعلمه الحضوري عموم { ما في السموت } أي: الكائنات العلوية { وما في الأرض } أي: الكائنات السفلية كلياها وجزئياتها، محسوساتها ومعقولاتها، بحيث { ما يكون } ويقع { من نجوى } وسر معهود بين { ثلاثة } يسرون بها ويضمرونها في نفوسهم { إلا هو } سبحانه { رابعهم } بل هو أعلم منهم بنجواهم، وأعرف بما في ضمائرهم منهم، بل هو العالم حقيقة { ولا خمسة } أي: وكذا لا يقع نجوى بين خمسة مكنونة في ضمائرهم ، مصونة عن غيرهم { إلا هو } سبحانه { سادسهم } بل علمه بها أتم وأكمل من عملهم.
{ و } بالجملة: { لا } يقع { أدنى من ذلك } الجمع { ولا أكثر } منه { إلا هو } سبحانه { معهم } بل العالم العارف هو سبحانه بذاته ووحدته، إلا أنه ظهر في أشباحهم ، وهو يأتيهم لا على سبيل المقارنة الذاتية والزمانية، ولا على سبيل الحلول والإتحاد، بل على طريق معية الظل مع ذي الظل، ومعية الأمواج مع الماء، والصور مع ذي الصورة، ولا يقيد أيضا معيته بالمكان، بل { أين ما كانوا } كان معهم؛ لاستواء عموم الأمكنة دونه سبحانه، وتنزهه عن المكان مطلقا.
وبالجملة: يعلم سبحانه منهم جميع ما صدر عنهم، لكن لم يطلعهم بعلمه إياهم؛ لئلا يبطل حكمة التكاليف الواقعة منه سبحانه بالنسبة إلى عموم عباده { ثم } بعد انقضاء أوان التكليف، وانقراض نشأة الاختبار { ينبئهم } سبحانه { بما عملوا } أي: يخبرهم بجميع أعمالهم { يوم القيامة } المعدة؛ لتنقيد الأعمال وترتب الجزاء، الموعودة عليها تفضيحا لهم، وتقريرا لما يستحق ويليق بهم من العذاب والنكال؛ لئلا يكون لهم على الله حجة، ولا ينسبوه إلى الظلم؛ إذ الإنسان جبل أكثر شيء جدلا، وبالجملة: { إن الله } المطلع على عموم ما كان ويكون، غيبا وشهادة، ظاهرا وباطنا { بكل شيء } لمع عليه برق الوجود { عليم } [المجادلة: 7] بعلمه الحضوري، لا يعزب عن حيطة علمه شيء.
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمنافقين: { ألم تر } أيها الرائي { إلى } المنافقين { الذين نهوا } ومنعوا { عن النجوى } والتغامز فيما بينهم بالعيون والحواجب، حين جلسوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين فمنعهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك { ثم يعودون لما نهوا عنه } إصرارا ومكابرة { و } هم حينئذ { يتناجون بالإثم } الموجب للحد الشرعي، أو ظهروا به وأفشوه { والعدوان } عن الأوضاع الشرعية { ومعصيت الرسول } وتكذيبه، والإعراض عنه وعن دينه مهما أمكن لهم.
{ و } بالجملة: هم من جملة شكيمتهم وغيظهم: { إذا جآءوك } يا أكمل الرسل { حيوك } على وجه النفاق { بما لم يحيك به الله } فيقولون: السام عليك، أو انعم صباحا، مع أن الله سبحانه يقول:
وسلام على عباده الذين اصطفى
[النمل: 59] { و } بعدما حيوك على مقتضى أهويتهم، وقصدوا مقتك في تحيتهم { يقولون } حينئذ { في أنفسهم } ونجواهم: { لولا } أي: هلا { يعذبنا الله بما نقول } لو كان محمد نبيا؟! فظهر من عدم تعذيب الله إيانا أنه ليس بنبي، قيل لهم حينئذ من قبل الحق: { حسبهم جهنم } عذابا { يصلونها } ويدخلونها { فبئس المصير } [المجادلة: 8] مصيرهم جنهم.
[58.9-13]
{ يأيها الذين آمنوا } عليكم { إذا تناجيتم } فيما بينكم { فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول } مثل مناجاة أولئك الأشقياء المردودين، بل { وتناجوا بالبر } الموجب لأنواع الخيرات، الجالب لأكرم المثوبات { والتقوى } عن محارم الله، ولا سيما عن عصيان الرسول المستلزم لأنواع الحرمان والخسران { و } بالجملة: { اتقوا الله } المنتقم الغيور { الذي إليه تحشرون } [المجادلة: 9] وترجعون في يوم البعث والجزاء.
{ إنما النجوى } والإسراء بالإثم والعدوان، ومعصية الرسول إنما نشأ { من الشيطان } المضل الغوي، إنما يحملهم عليها { ليحزن } نجواهم بهذه الأوزار { الذين آمنوا } ويتغمموا بها { و } الحال أنه { ليس } الشيطان، وما يلقنهم من التناجي بالسوء { بضآرهم } أي: المؤمنين { شيئا } من الضرر { إلا بإذن الله } ومقتضى مشيئته { و } بالجملة: { على الله } المراقب لعموم أحوال عباده { فليتوكل المؤمنون } [المجادلة: 10] وأنه سبحانه يكفي لهم مؤنة شرور أعدائهم، ونجواهم بالسوء والعدوان.
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى أخلاقكم الحسنة، الموروثة لكم عن إيمانكم وعرفانكم: { إذا قيل لكم } وقت تضيقكم وتحسبكم: { تفسحوا } وتوسعوا { في المجالس } أي: مطلق المجالس المحافل { فافسحوا } ووسعوا مبادرين بلا مدل وتخرج وتضجر { يفسح الله لكم } ويوسع عليكم في عموم ما تريدون الوسعة فيه، بل { وإذا قيل } لكم: { انشزوا } وانهضوا، واخرجوا من المضائق والمجالس { فانشزوا } طائعين راغبين، مريدين الثواب من الله بتوسيعكم على إخوانكم، ولا تتوهموا الإذلال بالنشوز، بل { يرفع الله } القادر المقتدر على وجه الإنعام { الذين آمنوا منكم } ونشزوا عن المضائق؛ لمصلحة إخوانه طوعا درجات من القرب والمكانة؛ إذ المؤمن العارف المتمكن في مرتبة اليقين الحقي لا يتفاوت عنده المدح والذم، والإعزاز والإذلال، والمضرة والسمرة، والمنح والمحن مطلقا.
{ و } بالجملة: { الذين أوتوا العلم } من حضرة العلم الإلهي { درجات } لا يكتنه وصفها ولا حصرها { و } بالجملة: { الله } المطلع بضمائركم { بما تعملون } من الاستكبار والاستكراه، وتوهم الإذلال والاستنكاف عن الامتثال { خبير } [المجادلة: 11] يجازيكم على مقتضى خبرته.
ثم أشار سبحانه إلى تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم، وتأديب من تبعه من المؤمنين المسترشدين منه فقال: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم بالله، وتصديقكم برسوله: إنكم { إذا ناجيتم الرسول } وأردتم المناجاة معه، والاستفادة منه صلى الله عليه وسلم { فقدموا بين يدي نجواكم } أي: قدام مناجاتكم، وعرض حاجاتكم إليه { صدقة } تصديقا لفقراء الله { ذلك } أي: التصديق لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم { خير لكم } في أولاكم وأخراكم { وأطهر } لنفوسكم من الميل إلى زخارف الدنيا { فإن لم تجدوا } ما تنفقون { فإن الله } المطلع على نياتكم { غفور رحيم } [المجادلة: 12] على من فقد وجه الصدقة.
ثم قال سبحانه على سبيل الرخصة: { ءأشفقتم } وخفتم الفقر والفاقة من { أن تقدموا } وتصدقوا { بين يدي نجواكم } أي: قدام مناجاتكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { صدقات } أي: لكل نجوى صدقات ولو كملة طيبة منبئة عن كمال المحبة والوداد { فإذ لم تفعلوا } ولم تصدقوا؛ بسبب الإشفاق عن الفقر { وتاب الله عليكم } أي: قبل منكم توبتكم إن صدرت عنكم على وجه الندم والإخلاص عن جريمة الإشفاق والتحسر على ما فوتم، وبالجملة: عفا الله عنكم، وتجاوز عن جريمتكم { فأقيموا الصلاة } المؤقتة المكتوبة { وآتوا الزكاة } المفروضة المقدرة { وأطيعوا الله ورسوله } في عموم الأوامر والنواهي على وجه الإخلاص { والله } المطلع على ضمائركم ونياتكم { خبير بما تعملون } [المجادلة: 13] أي: بعموم أعمالكم وإخلاصكم فيها.
[58.14-17]
ثم أشار سبحانه إلى تفضيح المبالغين، وتوبيخهم فقال: { ألم تر } أيها المعتبر الرائي { إلى } المنافقين { الذين تولوا } أي: والوا وتحابوا { قوما غضب الله عليهم } يعني: اليهود، واختاروا موالاتهم، وصاحبوا معهم في خلواتهم، واغتابوا المؤمنين عندهم، مع أنهم { ما هم } أي: المنافقون { منكم } أيها المؤمنون حقيقة، وإن كانوا منكم ظاهرا { ولا منهم } أي: من اليهود ظاهرا، وإن كانوا منهم حقيقة { و } من شدة شقاقهم ونفاقهم: { يحلفون } بالله { على الكذب } صريح، وهو دعوى الإسلام والإخلاء مع المؤمنين { و } الحال أنه { هم يعلمون } [المجادلة: 14] كذب أنفسهم، ويزورون بحلفهم على المؤمنين تغريرا، مع أنه لا نفع لحلفهم عند الله، ولا يدفع شيئا من عذابه.
إذ { أعد الله } المراقب على عموم أحوالهم { لهم } أي: المنافقين الحالفين على الكذب { عذابا شديدا } أشد من عذاب اليهود المجاهرين بالكفر بلا زور وتزوير، وبالجملة: { إنهم } أهل النفاق من خبث طينتهم، وشدة شكيمتهم سآء ما كانوا يعملون { } [المجادلة: 15] من التمرن على النفاق، والإصرار بموالاة أهل الشرك والشقاق.
قيل: نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق؛ إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في حجرة من حجراته فقال لجلاسه:
" يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار، ينظر بعين شيطان " فدخل عبد الله بن نبتل، وكان أزرق، فقال صلى الله عليه وسلم: " علام تشتمني أنت وأصحابك؟! "
، فحلف بالله ما فعل، ثم جال أصحابه فحلفوا جميعا على الكذب، وبالجملة: { اتخذوا أيمانهم } الكاذبة { جنة } وقاية لدمائهم وأموالهم { فصدوا } ومنعوا المؤمنين؛ بسبب حلفهم الكذب { عن سبيل الله } الذي هو غزوهم وقتلهم في النشأة الأولى { فلهم عذاب مهين } [المجادلة: 16] في النشأة الأخرى؛ لاستهانتهم بالله بالحلف الكاذب، ولا يدفع عنهم الإهانة والعذاب يومئذ أصلا.
إذ { لن تغني } وتدفع يومئذ { عنهم أموالهم ولا أولادهم من } عذاب { الله شيئا } بل { أولئك } الأشقياء البعداء عن منهج الحق { أصحاب النار } أي: ملازمومها وملاصقوها؛ إذ { هم فيها خالدون } [المجادلة: 17] مخلدون، لا يرجى نجاتهم منها أصلا.
[58.18-22]
اذكر لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع { يوم يبعثهم الله } القادر المقتدر على الإحياء والإماتة في الإبداء والإعادة { جميعا } مجتمعين، فيعاتبهم بما صدر عنهم، مثلما عاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { فيحلفون له } أي: لله حينئذ على أنهم مسلمون مؤمنون { كما يحلفون لكم } الآن أيها المؤمنون { ويحسبون } حينئذ أيضا { أنهم على شيء } نفع ودفع حاصل من حلفهم الكاذب، فيخيلون أنهم يروجون بالحلف الكاذب ما يدعون من الكذب على الله، كما يروجون عليكم اليوم، ولم يعلموا أن الناقد حينئذ بصير، والترويج إليه عيسر.
{ ألا } تنبهوا أيها المؤمنون المخلصون { إنهم } أي: المنافقين { هم الكاذبون } [المجادلة: 18] المقصورون على الكذب والزور، والتلبيس والغرور.
إذ { استحوذ } أي: غلب واستولى { عليهم الشيطان } المضل المغوي { فأنساهم ذكر الله } المنقذ عن الضلال، المرشد إلى الهداية، وبالجملة: { أولئك } الأشقياء المطرودون { حزب الشيطان } أي: جنوده وأتباعه { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [المجادلة: 19] المقصورون على الخسران المؤبد، والحرمان المخلد عن ربح المعرفة واليقين؟!
أعذانا الله وعموم عباده من متابعة الشيطان المضل المغوي.
ثم قال سبحانه: { إن } المفسدين المسرفين { الذين يحآدون } ويعادون { الله ورسوله } ويعادون ويتجاوزون عن الحدود الموضوعة في الشرع بالوضع الإلهي المنزل على رسوله بالوحي والإلهام { أولئك } البعداء المجاوزون المعادون، المعدودون { في } زمرة { الأذلين } [المجادلة: 20] أي: من جملة من أذله الله، وختم على قلبه، وجعل على بصره غشاوة، ولهم عذاب أليم.
وكيف لا يعد المتجاوزين من الأذلين؛ إذ { كتب الله } العليم الحكيم، وأثبت في لوح قضائه بقوله: { لأغلبن } ألبتة { أنا و } عموم { رسلي } المرسلين من عندي بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة على عموم المظاهر والمخلوقات، وكيف لا يغلب سبحانه على مظاهره { إن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { قوي } في ذاته، لا حول ولا قوة إلا بالله { عزيز } [المجادلة: 21] مقتدر غالب، يغلب مطلقا في عموم مراداته ومقدوراته؟!
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير بعموم المؤمنين: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر } المعد للحساب والجزاء { يوآدون } أي: لا تجدهم أن يوادوا وتحاببوا { من حآد الله } وعاداه { ورسوله ولو كانوا } أي: الحادون العادون المعاندون { آبآءهم } أي: آباء المؤمنين { أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } وأقرباءهم، وذووا أرحامهم { أولئك } المقبولون الممتنعون عن و ودادة أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم طلبا لمرضات الله ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم { كتب } أي: أثبت ومكن سبحانه { في قلوبهم الإيمان } وجعله راسخا فيها.
{ و } لذلك { أيدهم بروح } فائض { منه } محيي لهم أبد الآباد؛ إذ من يحيى بالإيمان والعرفان فقد دامت حياته، ولم يمت أبدا { ويدخلهم جنات } متنزهات العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الحياة الأزلي الأبدي الذي هو الوجود المطلق الإلهي { خالدين فيها } لا يتحولون عنها أصلا؛ إذ { رضي الله } المتجلي عليهم بالرضا { عنهم ورضوا } أيضا { عنه } سبحانه بالتفويض والتسليم إليه { أولئك } السعداء المقبولون عند الله { حزب الله } وحوامل آثار أوصافه وأسمائه الذاتية، وقوابل عموم كلياته وشئونه وتطوراته { ألا } أي: تنبهوا أيه الأظلال السمتظلون بضلاله الممدودة من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات { إن حزب الله هم المفلحون } [المجادلة: 22] الفائزون من لدنه بالفوز العظيم، والفضل الجسيم، والكرم العميم.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب المترقب للفلاح، والفوز بالنجاح أن تتمكن في مقام التسليم والرضا بعموم ما جرى عليك من القضاء، وتلازم على آداب الخدمة بين يدي الله في عموم أوقاتك وحالاتك، فاغرا همك وسرك عن مطلق الوساوس والأشغال العائقة عن التوجه نحو المولى، وتواظب على الطاعات والعبادات في خلال الخلوات؛ لتكون مصونة عن السمعة والرياء، والميل إلى العجب والهوى، وإياك إياك أن تتلطخ بقاذورات الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الأخروية، المستتبعة للسلاسل والأغلال الإمكانية، والمبعدة عن الوصول إلى فضاء الوجوب وصفاء الوحدة الذاتية التي عبر بها عن النعيم الموعود، والحوض المورود، والمقام المحمود.
جعلنا الله ممن وصل إليه، وتمكن دونه بمنه وجوده.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-4]
{ سبح لله } ونزهه تنزيها لائقا بجانبه سبحانه مظاهر { ما في السموت وما في الأرض و } كيف لا { هو العزيز } بذته، المتعزز برداء العظمة والكبرياء { الحكيم } [الحشر: 1] المتقن المدبر لمصالح عباده كيف شاء؟!.
وبالجملة: { هو الذي أخرج } بمقتضى عزته وحكمته المسرفين { الذين كفروا } بالله وبرسوله، وهو إجلاء بني النضير، مع أنهم { من أهل الكتاب من ديارهم } المألوفة، وأوطانهم المأنوسة زجرا عليهم، وتذليلا له واقعا إياهم { لأول الحشر } أي: في أول الحشر، إجلائهم الواقع عليهم بظهر الإسلام؛ إذ أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير أولا من المدنية إلى الشام، ثم أجلى بقية الكفرة عمر رضي الله عنه في خلافته، انظروا كيف أخرجهم سبحانه بكمال قدرته وعزته، مع أنكم { ما ظننتم } أيها المؤمنون من { أن يخرجوا } لشدتهم وشوكتهم، واستحكام آماكنهم وقلاعهم { و } هم أيضا { ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } أي: ظنهم لأنفسهم أن حصونهم تمنعهم { من } بأس { الله } المنتقم الغيور وبشطه وإن اشتد، لكن لم ينفعهم الحصون والقلاع حين نزول العذاب، بل { فأتاهم الله } أي: القهر الهائل من لدنه { من حيث لم يحتسبوا } أي: من صوب وجهة لم يتوقعوا.
{ و } ذلك أنه { قذف } وألقى سبحانه { في قلوبهم الرعب } الشديد، والخوف العظيم من غير قتال، وبسبب ذلك الرعب الهائل اخذوا { يخربون بيوتهم بأيديهم } ضنا بها على المسلمين، وإخراج ما فيها من الأمتعة { وأيدي المؤمنين } أيضا، فإنهم أيضا كانوا يخرجون بيوتهم إذلالا لهم، وتوسيعا لمضمار الحرب والقتال، وبالجملة: { فاعتبروا يأولي الأبصار } [الحشر: 2] واتعظوا بما جرى على هؤلاء الغواة الطغاة، يثقون بحصونهم ويشيدونها؛ ليتحصنوا بها من بأس الله، ثم لما اضطروا أخذوا يخبرون بأيديهم ما يعتمدون عليه، ويستحفظون به؛ وذلك كمال قدرته الله ومتانة حكمته.
{ و } بالجملة: { لولا أن كتب الله } المصلح لأمور دنياهم، ولم يفترض { عليهم الجلاء } ولم يخرجهم من أوطانهم { لعذبهم في الدنيا } بالقتل والأسر، وأنواع الإذلال والصغار، كما جرى على الكفرة المتمكنين في أمكانهم بعدهم { و } مع ذلك الإصلاح والكرامة لهم في الدنيا { لهم في الآخرة عذاب النار } [الحشر: 3] بواسطة إصرارهم على الكفر، وإنكارهم على الإسلام.
{ ذلك } الإذلال والصغار لهم في الدنيا والآخرة { بأنهم } أي: بسبب أنهم { شآقوا الله ورسوله } بمخالفة أمرهما، والخروج عن حكمهما { ومن يشآق الله } يعاقبه ألبتة { فإن الله } المنتقم الغيور { شديد العقاب } [الحشر: 4] صعب الانتقام، أليم العذاب على عصاة عباده إرادة واختيارا.
ثم لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير حين نقضوا العهد الذي عهدوا مع الله ورسوله، تحصنوا بحصونهم وامتنعوا عن الإسلام، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخلهم وحرق بساتينهم، قالوا: يا محمد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخل وحرقها؟!
[59.5-7]
فسمع المؤمنون منهم ذلك، وأوجسوا في نفوسهم الكراهة، وعدم اللياقة، فنزلت: { ما قطعتم } أيها المؤمنون { من لينة } أي: من بعض نخلة من النخلات { أو تركتموها } بلا قطع شيء منها { قآئمة على أصولها } على ما كانت { فبإذن الله } أي: القطع والترك كلاهما بأمر الله وحكمه { و } إنما أمركم بالقطع والحرق { ليخزي الفاسقين } [الحشر: 5] أي: يرديهم ويذلهم بما غاظهم، ويضيق صدرهم.
{ و } اعلموا أيها المؤمنون أن { مآ أفآء الله } أي: رد الله وأعطاه { على رسوله منهم } أي: من يهود بني النضير من الأموال والعقار فهو لرسول الله خاصة خالصة، له أن يفعل به حيث شاء بلا حق لكم فيها، ليس مثل سائر الغنائم { فمآ أوجفتم } وأجريتم { عليه } أي: على تحصيله { من خيل ولا ركاب } نجائب الإبل؛ إذ هم مشوا إلى بني النضير رجالا لا فرسانا، وكانت المسافة ميلين من المدينة، ومع ذلك لا يقاتلون معهم مقاتلتكم مع سائر الكفرة { ولكن الله } المنتقم الغيور { يسلط رسله على من يشآء } من المستوجبين للطرد والمقت بلا وسائل القتال والحراب، بل يقذف الرعب، وإلقاء الخوف في قلوبهم وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، الموجبة للهزيمة، لا عن شيء { والله } القادر المتقدر { على كل شيء } موجب لقهر أعدائه، ونصر أوليائه { قدير } [الحشر: 6] سواء وافق العادة أو لا.
وبالجملة: { مآ أفآء الله على رسوله من } أموال { أهل القرى } الهالكة بالغلبة والاستيلاء بلا مقاتلة وحراب { فلله وللرسول } سهم { ولذي القربى } من بني هاشم وبني المطلب سهم { واليتامى والمساكين وابن السبيل } سهام، وإنما قسم سبحانه مال الفيء بنفسه { كي لا يكون } الفيء الذي حقه أن يصل إلى الفقراء { دولة } متداولة { بين الأغنيآء منكم } ورؤسائكم، كما هو عادة الجاهلية الأولى { و } بعدما قسم سبحانه في كتابه { مآ آتاكم } وأعطاكم { الرسول } المستخلف منه سبحانه { فخذوه } بلا مراء ومجادلة معه { وما نهاكم عنه } بإذن الله { فانتهوا } أيضا عنه بلا مكابرة وإصرار { و } بالجملة: { اتقوا الله } عن مخالفة أمره، وأمر رسوله النائب عنه، واحذروا عن بطشه وانتقامه { إن الله } القادر على وجوه الانتقام { شديد العقاب } [الحشر: 7] على من خرج من ربقة عبوديته، ومقتضى ألوهيته.
[59.8-10]
ثم بين سبحانه مصارف الفيء بعد إخراج سهم الله ورسوله، وقدم منهم فقراء المهاجرين اهتماما بشأنهم فقال: { للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } أي: أخرجهم المشركون، ونهبوا أموالهم، وسبوا أولادهم، والحال أنهم في مصائبهم هذه { يبتغون } ويطلبون { فضلا } تفضلا وإحسانا { من الله ورضوانا } منه سبحانه؛ لكمال تمكنهم ورسوخهم في مقام الرضا والتسليم { و } مع ذلك { ينصرون الله } يترويج دينه، وإعلاء كلمة توحيده { ورسوله } بالمعاونة والمظاهرة، وبذل المال والنفس في تقويته ونصره { أولئك } السعداء المقبولون، الباذلون مهجهم في طريق الحق، وتقوية دينه القويم وصراطه المستقيم، ونصرة رسوله الكريم { هم الصادقون } [الحشر: 8] المقصورون على الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا.
{ و } بعد أولئك الفقراء الأنصار، وهم { الذين تبوءوا الدار والإيمان } أي: توطنوا وتمكنوا في المدينة، ورسخوا على الإيمان والإسلام بالعزيمة الصادقة الخالصة { من قبلهم } أي: قبل هجرة المهاجرين إليها، ومع رسوخهم وتمكنهم في الإيمان { يحبون } محبة خالصة { من هاجر إليهم } من المؤمنين { و } من كمال محبتهم وإخلاصهم بأخوانهم المهاجرين: { لا يجدون في صدورهم } ووجدانهم { حاجة } باعثة لهم إلى أن يحسدوا { ممآ أوتوا } وأعطوا؛ أي: المهاجرين من سهام الفيء، وسائر الغنائم والصدقات؛ وذلك من غاية محبتهم ومودتهم بالنسبة إليهم، بل { ويؤثرون } أي: يختارون ويقدمون المهاجرين { على أنفسهم } حتى إن من كان له امرأتان نزل عن واحدة وزوجها على أحدهم.
وبالجملة: يؤثرونهم ويختارونهم؛ أي: المهاجرين على أنفسهم في آخر ما آثروا لنفوسهم { ولو كان بهم خصاصة } أي: حاجة شديدة بليغة، ومحبة بالنسبة إلى ذلك الشيء، وما هو إلا من فرط محبتهم وإخلاصهم بالنسبة إلى إخوانهم المهاجرين { و } بالجملة: { من يوق شح نفسه } ويخالفها حتى يمنعها عن مقتضاها طلبا لمرضاة الله، ورعاية لجانب أخيه المسلم { فأولئك } السعداء المحافظون على آداب الأخوة والمروة { هم المفلحون } [الحشر: 9] المقصورون على الفوز العظيم من عنده سبحانه عاجلا وآجلا، في العاجل بالذكر الجميل، وي الآجل بالجزاء الجزيل.
{ و } بعد فقراء الأنصار للفقراء التابعين، وهم { الذين جآءوا من بعدهم } مهاجرين من بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب، مقتفين أثر أولئك الكرام، مريدين لهم بإحسان، مذكرين لهم بغفران، حيث { يقولون } في مناجاتهم مع ربهم في خلواتهم، وأعقاب صلواتهم: { ربنا } يا من ربانا على فطرة الإسلام { اغفر لنا } ذنوبنا التي صدرت عنا { ولإخواننا } في الدين، وهم { الذين سبقونا بالإيمان } وسلوك طريق العرفان { و } بالجملة: { لا تجعل في قلوبنا } يا مولانا { غلا } حقدا وحسدا { للذين آمنوا } مطلقا، لا للسابقين ولا للاحقين { ربنآ } يا من ربانا على الإخلاص والتوفيق تقبل منا مناجاتنا، واقض لنا حاجاتنا { إنك رءوف } عطوف على عموم عبادك، سيما المخلصين منهم { رحيم } [الحشر: 10] تقبل توبتهم، وتغفر زلتهم إن استغفروا نحوك نادمين عما صدر عنهم.
[59.11-14]
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع: { ألم تر } أيها الرائي { إلى الذين نافقوا } مع المؤمنين حيث { يقولون } في خلواتهم { لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } وكان بينهم صداقة الشرك وأخوة الكفر، وموالاة البغض مع المؤمنين: لا تصالحوا مع هؤلاء المدعين؛ يعنون: المؤمنين، وإنا معكم، والله { لئن أخرجتم } من دياركم عنوة { لنخرجن معكم } ألبتة { ولا نطيع } ونتبع { فيكم } أي: في قتالكم وحرابكم { أحدا أبدا } من هؤلاء الأعادي { وإن قوتلتم لننصرنكم } ونعاوننكم ألبتة بلا تخلف منا { والله } المطلع على عموم أفعالهم ونياتهم فيها { يشهد إنهم لكاذبون } [الحشر: 11] في قولهم وعهدهم هذا مع إخوانهم.
حيث قال سبحانه: { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم } ألبتة { ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } جزما، وقد وقع ذلك، فإن أبي وأصحابه عهدوا مع بني النضير على هذا، ثم أخلفوهم، وهم قد خرجوا من ديارهم، وهؤلاء لم يخرجوا { ولئن نصروهم } بالفرض والتقدير، ويقاتلوا معكم أيها المؤمنون من جانب عدوكم، والله { ليولن الأدبار } وقت كركم عليهم { ثم لا ينصرون } [الحشر: 12] بعد ذلك؛ لشدة خوفكم ورعبكم في قلوبهم.
وبالجملة: { لأنتم } أيها المؤمنون { أشد رهبة } مرهوبية ومرعوبية راسخة { في صدورهم } متمكنة في نفوسهم من قبلكم، والحال أن تلك الرهبة الشديدة الحاصلة منكم إياهم ناشئة { من الله } إذ هو سبحانه قذفها في صدورهم من جانبكم، وأقدركم عليها { ذلك } أي: عدم تفطنهم بمنشئها { بأنهم قوم لا يفقهون } [الحشر: 13] ولا يعلمون عظمة الله، وحق قدره حتى يخشوا منه حق خشيته.
وبالجملة: لا تبالوا أيها المؤمنون بودادة المنافقين مع اليهود، واتفاقهم معهم؛ إذ { لا يقاتلونكم جميعا } مجتمعين متفقين { إلا في قرى محصنة } محصورة، مسورة بالدروب والخنادق { أو من ورآء جدر } يستحصنون بها؛ وذلك من فرط رعبهم، وشدة رهبتهم من المؤمنين، وإلا { بأسهم بينهم شديد } أي: حين حارب بعضهم بعضا، أو مع غير المؤمنين، قتالهم شديد وحرابهم عظيم، وإذا حاربوا مع المؤمنين { تحسبهم جميعا } مجتمعين ظاهرا في بادئ النظر { و } لكن { قلوبهم شتى } متفرقة مختلفة حقيقة؛ لافتراق عقائدهم، واختلاف مقاصدهم { ذلك } الافتراق والاختلاف { بأنهم قوم لا يعقلون } [الحشر: 14] ولا يفهمون ما هو صلاحهم في الدارين، وفلاحهم في النشأتين.
[59.15-20]
{ كمثل الذين } أي: مثلهم كمثل اليهود الذين مضوا { من قبلهم قريبا } بزمانهم { ذاقوا وبال أمرهم } في الدنيا من أنواع الهوان والخسار { ولهم عذاب أليم } [الحشر: 15] في الآخرة التي هي دار البوار.
بل مثلهم { كمثل الشيطان } أي: مثل المنافقين في إغراء اليهود على قتال المؤمنين كمثل الشيطان وقت { إذ قال للإنسان } أي: كل فرد وفرد من أفراد الكفرة: { اكفر } حتى أعينك على عموم مقاصدك ومرامك { فلما كفر } الإنسان - العياذ بالله - بتغريره { قال } له الشيطان بعدما كفر: { إني بريء منك } لا أعينك على شيء؛ لأنك كفرت بالله، وصرت عدوا لله { إني أخاف الله } القادر القاهر الغيور أن ينتقم عني بسبب معاوتنك ومظاهرتك؛ لكونه { رب العالمين } [الحشر: 16] فلا يجري التصرف في ملكه بلا إذن منه سبحانه.
وبعدما كفر الإنسان بتغرير الشيطان وتلبيسه { فكان عاقبتهمآ } أي: عاقبة الشيطان والإنسان الذي كفر بتغريره { أنهما في النار } تابعا ومتبوعا، لا زمانا دون زمان، بل واقعا { خالدين فيها } مستمرين أبدا { وذلك } الخلود في النار { جزآء الظالمين } [الحشر: 17] الخارجين عن ربقة الرقية الإلهية، وعروة عبوديته بتلبيس الشيطان وتغريره.
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: التقوى عن محارم الله، والاجتناب عن منهياته { اتقوا الله } واحذروا عن بطشه وانتقامه { ولتنظر نفس } أي: كل واحد من النفوس المجبولة على نظرة الدارية والشعور على وجه العبرة والاستبصار { ما قدمت لغد } وما ادخرت ليوم القيامة، وتزودت للنشأة الأخرى بعدما كلفت بأنواع التكاليف، وأمرت لإعداد زاد المعاد على وجه المبالغة، وكمال الإرشاد { و } بالجملة: { اتقوا الله } المنتقم الغيور، واحذروا عن مخالفة أمره { إن الله } المطلع على ما في ضمائر عباده { خبير بما تعملون } [الحشر: 18] من خير وشر، ونفع وضر، يجازيكم على مقتضى خبرته.
{ و } بالجملة: { لا تكونوا } أيها المؤمنون { كالذين } أي: كالغافلين الذين { نسوا الله } أي: ذكره المستلزم للإيمان، المستلزم للمحبة والعرفان { فأنساهم } سبحانه { أنفسهم } أي: معرفتها المستلزمة لمعرفة الحق، وبالجملة: { أولئك } البعداء عن ساحة عز الحضور { هم الفاسقون } [الحشر: 19] المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية ولوازم العبودية، الجاهلون بقدر الألوهية مطلقا.
واعلموا أيها المكلفون أنه { لا يستوي أصحاب النار } منكم وملازموها، وهم الذين اقترفوا طول عمرهم من سيئات الأعمال، وذمائم الأخلاق والأوصاف ما يستحقون دخول النار { وأصحاب الجنة } وهم الذين اتصفوا بمحاسن الأعمال والأحوال، ومحامد الأخلاق والأطوار المنتجة لهم أنواع المعارف والحقائق، والمكاشفات المشاهدات الفائضة عليهم حسب استنشاقهم من نسائهم عالم اللاهوت، واسترواحهم من فواتح حضرة الرحموت، وبالجملة: { أصحاب الجنة هم الفآئزون } [الحشر: 20] المفلحون المقصورون في الدرجات العلية، والمقامات السنية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
[59.21-24]
ثم وبخ سبحانه نوع الإنسان المجبول على فطرة الإيمان والعرفان، وقرعهم بغفلتهم عن القرآن المرشد لهم إلى طريق التوحيد والإيقان بقوله: { لو أنزلنا هذا القرآن } المنزل عليكم أيها التائهون في تيه الغفلة والنسيان { على جبل } من الجبال العظام، والله { لرأيته } أيها المعتبر الرائي؛ أي: الجبل { خاشعا } خاضعا { متصدعا } متشققا { من خشية الله } القادر الغيور؛ يعني: من تأثير الوعيدات الهائلة، والإنذارات الشديدة الواقعة فيه على أهل التكليف، مع عدم قابليته على التأثير، وأنتم أيها الهلكى الحمقى، الهالكون التائهون في تيه الجهل والضلال، مع كمال قابليتكم واستعدادكم لا تتأثرون من وعيداته البليغة، وإنذاراته الشديدة.
ثم قال سبحانه: { وتلك الأمثال نضربها للناس } الناسين مرتبة العبودية؛ من كمال البطر { لعلهم يتفكرون } [الحشر: 21] ويتفطنون منها إلى فطرتهم الأصلية المجبولة على التذلل والخشوع، والانكسار والخضوع، فيشتغلون بما جبلوا لأجله من الإتيان بالطاعات، وأنواع العبادات اللائقة لمرتبة الألوهية والربوبية.
وكيف لا تتذللون له سبحانه أيها الحمقى الهالكون، مع أنه سبحانه { هو الله } أي: الموجود الحق الحقيق { الذي لا إله } ولا موجود في الوجود { إلا هو } الواحد الأحد الصمد، المستقل بالألوهية والربوبية { عالم الغيب والشهادة } على التفصيل الواقع في الواقع، بحيث لا يعزب عن حيطة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ومع ذلك { هو الرحمن } على عموم الأكوان بإفاضة الوجود عليهم وتربيتهم، وتدبير مصالحهم في النشأة الأولى { الرحيم } [الحشر: 22] لهم، يوصلهم إلى فضاء وحدته، وسعة جنته ورحمته في النشأة الأخرى؟!
وبالجملة: { هو الله } المتوحد بالألوهية والربوبية، المتوحد بالقيومية، المتفرد بالديمومية { الذي لا إله } يعبد بالحق، ويرجع إليه في الخطوب { إلا هو } باستقلاله وصمديته في ذاته، وقيوميته في ملكه وملكوته بحسب مقتضيات أسمائه الحسنى، وصفاته العليا؛ إذ هو { الملك } المتفرد بالحكم والاستيلاء التام، والسلطنة الغالبة { القدوس } البالغ في النزاهة إلى أقصى الغاية والنهاية { السلام } السالم عن مطلق النقائض، ولوازم الاستكمال، ولواحق الإمكان { المؤمن } ذو الأمن والأمان على عموم الأعيان والأكوان { المهيمن } المراقب المحافظ على مقتضيات استعدادات عموم الأنام بكمال العدل والإحسان { العزيز } الغالب على عموم مراداته ومقدوراته بالفضل والامتنان { الجبار } على عموم من خرج عن ربقة عبوديته بالإنكار والطغيان { المتكبر } المتعالي عن كل أمر يشينه من العجز والنقصان، وبالجملة: { سبحان الله } أي: تنزه وتعالى ذاته وشأنه { عما يشركون } [الحشر: 23] ويثبتون له المشركون المفرطون علوا كبيرا.
كيف يشركون معه غيره أولئك المسرفون، مع أنه سبحانه { هو الله الخالق } المقصور المنحصر، المستقل على خلق الأشياء وتقديرها، وإيجادها وإظهارها من كتم العدم بمقتضى حكمته بالإرادة والاختيار { البارىء } الموجد لها بمقتضى اسمه الرحمن بلا تفاوت ونقصان { المصور } الصور الأشياء وهياكلها وأشكالها على أبلغ نظام وأعجب شأن، ولا يشغله شأن عن شأن، بالجملة: { له الأسمآء الحسنى } التي لا تعد ولا تحصى، يتجلى على مقتضاها في كل آن في شأن؛ لذلك { يسبح له } مظاهر { ما في السموت والأرض } وينزهه على الدوام عن كل ما لا يليق بشأنه؟! { و } بالجملة: { هو العزيز } الغالب القادر على عموم ما أحاط به علمه { الحكيم } [الحشر: 24] المدبر المقتن على مقتضى علمه وإرادته بلا مدافعة أحد ومظاهرته.
جعلنا الله ممن تحقق بوحدة ذاته، وانكشف بكمالات أسمائه وصفاته.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتحقق بمقر التوحيد، المكشف بوحدة الذات وكمالات الأسماء والصفات الذاتية الإلهية - مكنك الله في مقر عزك بلا تذبذب وتلوين - أن تطالع آثار أسمائه الحسنى، وصفاته العليا على صفحات الكائنات الغيبية والشهادية، وتعتبر منها حسب استعدادك، وقدر قابليتك الموعدة فيك من قبل الحق.
وإياك إياك أن تنحرف عن جادة العدالة الشرعية التي هي منتخبة عن العدالة الإلهية الواقعة بين مقتضيات أسمائه الذاتية، وصفاته العلية، فلك أن تطابق عموم أعمالك وأخلاقك وأطوارك عليها، بحيث لا تهمل شيئا من دقائقها؛ إذ بقدر إهمالك من حدودها أحطت عن درجة التوحيد، ومرتبة أهل الوحدة الذاتية؛ إذ الشريعة إنما هي الوقاية الموضوعة بالوضع الإلهي بين الأنام؛ ليوفقهم الحق بها إلى دار السلام التي هي مقعد صدق الرضا والتسليم الذي هو أعلى مقامات العارفين، وأقصى حالات الموحدين المكاشفين.
هدانا الله وعموم عباده إلى سواء السبيل، وأعاذنا الله وإياهم عن الانحراف والتحويل بلطفه الجميل، وكرمه الجزيل.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1-3]
{ يأيها الذين آمنوا } مقتضى اتصافكم بالإيمان بالله وبوحدة ذاته، وكمالات أسمائه وصفاته: أن { لا تتخذوا عدوي } وهم الذين خرجوا من عروة وعبوديتي بإثبات الوجود لغيري { وعدوكم } إذ عداوتهم إياي مستلزمة لعداوتهم إياكم أيضا؛ إذ صديق العدو كعدو الصديق { أوليآء } أحباء، توالون معهم كأرباب المحبة والولاء، وتظهرون محبتهم ومودتهم إلى حيث { تلقون } ترسلون { إليهم } رسالة مشعرة { بالمودة } الخالصة، المنبئة عن إفراط المحبة والإخاء { و } الحال أنهم { قد كفروا } وأعرضوا { بما جآءكم } أي: بعموم ما نزل على رسولكم { من الحق } الحقيق بالإطاعة والاتباع، وبالغوا في الإعراض والإنكار إلى حيث { يخرجون الرسول } أصالة { وإياكم } تبعا بوسطة { أن تؤمنوا بالله ربكم } الذي رباكم على فطرة التوحيد والإيمان، وقبول دين الإسلام من النبي المبعوث إلى كافة الأنام؛ ليشردهم إلى دار السلام.
وبالجملة: { إن كنتم } أيها المؤمنون الموحدون { خرجتم } عن أوطانكم، وبقاع إمكانكم { جهادا } أي: لأجل الجهاد والقتال { في سبيلي } أي: سبيل توحيدي، وترويج ديني، وإعلاء كلمة توحيدي { وابتغآء مرضاتي } في امتثال أمري، وإطاعة حكمي فلزمكم ترك موالاة أعدائي والمؤاخاة معهم، مع أنكم أنتم { تسرون } وتخفون { إليهم بالمودة } ظنا منك أني لا أطلع على ما في سرائركم وضمائركم من محبة الأعداء ومودتهم { و } الحال أنه { أنا أعلم } منكم { بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم } أي: بجميع ما تسرون وما تعلنون { و } بالجملة: { من يفعله منكم } أي: الاتخاذ المذكور { فقد ضل سوآء السبيل } [الممتحنة: 1] أي: انحرف عن جادة العدالة الإلهية، ومال عن الصراط المستقيم الموصل إلى مقصد التوحيد.
واعلموا أيها المؤمنون أنكم، وإن بالغتم في إظهار المحبة والمودة بالنسبة إليهم، وهم بمكان من العداوة وشدة الخصومة إلى حيث { إن يثقفوكم } ويظفروا منكم بالفرض والتقدير { يكونوا لكم أعدآء } ألبتة، بل يظهروا العداوة { ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } بالقتل والأسر وقطع العضو، والشتم المفرط، وأنواع الوقاحة، بل { وودوا } وتمنوا في أنفسهم دائما { لو تكفرون } [الممتحنة: 2] وترتدون عن دينكم، وتلتحقون بكفرهم.
فعليكم ألا تبالوا بأقاربكم وأرحامكم من الكفرة، ولا تلتفتوا نحوهم؛ إذ { لن تنفعكم أرحامكم } قراباتكم { ولا أولادكم } الذين أنتم توالون المشركين لأجلهم { يوم القيامة } المعدة؛ لتنقيد الأعمال الصادرة عن كل نفس؛ إذ الله { يفصل } ويفرق { بينكم } يومئذ، فيجازي كلا منكم حسب ما كسبوا خيرا كان أو شرا { والله } المطل على عموم أفعال عباده { بما تعملون } من الحسنات والسيئات { بصير } [الممتحنة: 3] يجازيكم عليه بمقتضى بصارته وخبرته.
[60.4-6]
ولا تستنكفوا عن حكم الله إياكم بقطع أرحامكم الكفرة، وأقاربكم المشركين؛ إذ { قد كانت لكم أسوة } وقدوة { حسنة } صالحة لائقة يؤتسى ويقتدى بها، كانت تلك القدوة نازلة { في } شأن { إبراهيم والذين معه } المؤمنين له، والمسترشدين من المتدينين بدينه، وقد كانوا يقولون بمقتضى تلك الأسوة الحسنة وقت { إذ قالوا لقومهم } الذين هم أقاربهم وأرحامهم الكفرة وعبدة الأوثان: { إنا } بعدما كوشفنا بوحدة الحق { برءآؤا } برئيون { منكم } لانهماكهم في الشرك أيضا { ومما تعبدون من دون الله } من الأصنام والأوثان الباطلة العاطلة، وبالجملة: { كفرنا بكم } وبدينكم الباطل، ومعبوداتكم العاطلة الباطلة.
{ و } بعد اليوم { بدا } ظهر { بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا } لا نصالح ولا نواسي معكم أصلا { حتى تؤمنوا بالله وحده } وتتبرؤوا عن معبوداتكم الباطلة مثلنا، فعليكم أيها المؤمنون اليوم أن تأتسوا وتقتدوا لجميع ما قال إبراهيم عليه السلام ومن تبعه لقومهم فيما مضى { إلا قول إبراهيم لأبيه } الكافر: { لأستغفرن لك } من الله يا أبي، وبالجملة: اقتدوا أيها المؤمنون بجميع أطوار إبراهيم عليه السلام وأقواله سوى هذا القول لأبيه معتذرا منه بقوله: { ومآ أملك لك } أي: ما أقدر وأدفع منك { من } غضب { الله } المنتقم الغيور { من شيء } نزل عليك بمقتضى قهره وسخطه سبحانه سوى الاستغفار والشفاعة إن قبل الملك الغفار مني هذا، وذلك قبل ورود النهي صلى الله عليه وسلم عن ودادة أهل الكفر، أو صدر عنه هذا الموعود وعدها إياه.
وبعدما أمرتم أيها المؤمنون بمحبة الله ومحبة رسوله والذين آمنوا معه، وتدينوا بدينه، ونهيتم عن مودة الأعداء وموالاتهم، ومواساة أخلاقهم وأطوارهم، قولوا مسترجعين إلى الله، مناجين معه: { ربنا } يا من ربانا على فطرة التوحيد والإسلام { عليك توكلنا } في كل الأمور بلا رؤية الوسائل في البين ثقة واعتمادا عليك { وإليك أنبنا } عدنا ورجعنا في الخطوب وعموم الملمات، لا إلى غيرك من الأسباب العادية { و } بالجملة: { إليك المصير } [الممتحنة: 4] كما أن مصدره منك؛ إذ لا موجود سواك، ولا مقصد ولا مقصود غيرك.
وبعدما وطنتنا في مقر توحيدك يا { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } بأن تسلطهم علينا فيفتنوا بنا، ويصيبونا بعذاب لا طاقة لنا بحمله { واغفر لنا ربنآ } ما فرطنا بمقتضى بشريتنا { إنك أنت العزيز } الغالب المقتدر على وجوه الإنعام والانتقام { الحكيم } [الممتحنة: 5] المتقن في تدبير مصالح العباد، وما جرى عليهم في المعاش والمعاد.
ثم بالغ سبحانه في التأسي والاقتداء بملة إبراهيم عليه السلام وقدوته فقال مؤكدا بالقسم: والله { لقد كان لكم } أيها المؤمنون { فيهم } أي: في إبراهيم والذين معه { أسوة حسنة } جرية صالحة يؤتسى ويقتدى { لمن كان يرجو الله } أي: التحقق برضاه، والتسليم بقضاه { و } يرجو { اليوم الآخر } ليتحقق عند مولاه بما وعد له وهيأه { ومن يتول } ويعرض عن الله، ولم يؤمن بالوقوف بين يدي الله فلن يضر الله شيئا { فإن الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { هو الغني } المستغني بذاته، لا احتياج له إلى رجاء الراجين ومناجاتهم معه، ورفع حاجاتهم إياه { الحميد } [الممتحنة: 6] حسب أسمائه وصفاته بلا افتقار له إلى الحمد الحامدين، وشكر الشاكرين.
[60.7-9]
ثم لما ورد النهي الإلهي على وجه المبالغة والتأكيد عن موالاة ذوي الأرحام والأقارب من الكفرة تبرأ المؤمنون من أقاربهم وعشائرهم المشركين، وعادوا معهم، إلا أنهم أضمروا في نفوسهم حزنا وغما، فوعد الله سبحانه لهم إيمان أقاربهم تسلية لهم، وإزالة لحزنهم، فقال: { عسى الله أن يجعل بينكم } أيها المؤمنون { وبين الذين عاديتم منهم مودة } ومحبة خالصة جامعة بينكم وبينهم، ألا وهي الإسلام المسقط لجميع الآثام { والله } المطلع على ما في ضمائرهم عباده { قدير } على ذلك الجمع المستلزم للمودة { والله } القادر المقتدر على جمعكم { غفور } لفرطاتكم التي صدرت منكم { رحيم } [الممتحنة: 7] يرحمكم بمقتضى سعة رحمته وجوده.
ثم لما تحرج المؤمنون من عدم موالاتهم مع أقاربهم الكفرة، وذوي أرحامهم المشركين إلى حيث قدمت قتيلة بنت عبد العزى مشركة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا فلم تأذن لها بالدخول، ولم تقبل هديتها، فنزلت: { لا ينهاكم الله } الحكيم العليم { عن } المشركين { الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } ولم ينهكم { أن تبروهم } ولا تحسنوا إليهم؛ إذ لا سبب للنهي عن ودادة هؤلاء { و } عليكم أن { تقسطوا } وتفيضوا { إليهم } بالقسط الإلهي على مقتضى الوصلة الموضوعية بينكم بالوضع الإلهي { إن الله يحب المقسطين } [الممتحنة: 8] المعتدلين في عموم الأحوال، سيما على ذوي القربى.
بل { إنما ينهاكم الله } العليم الحكيم { عن } مولاة أقربائكم { الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم } يعني: مكة - شرفها الله - { و } الذين { ظاهروا } أعانوا ونصروا { على إخراجكم } وإن لم يباشروا بجوارحهم، لكن أعانوا على المباشرين المخرجين بالقول والمال، وإيقاع الفتنة؛ لذلك نهاكم سبحانه { أن تولوهم } وتختلطوا معهم، وتوالوهم؛ إي: المجرمين والمعاونين { ومن يتولهم } منكم بعد وورد النهي { فأولئك } الموالون { هم الظالمون } [الممتحنة: 9] الخارجون عن مقتضى النهي الوارد من قبل الحق فيستحقون العذاب الأليم؛ بسبب خروجهم عن مقتضى النهي الإلهي.
[60.10-11]
ثم قال سبحانه: { يأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات } المذعنات للإيمان حال كونهن { مهاجرات } من قبل الكفار { فامتحنوهن } واختبروهن، وانظروا إليهن بنور الله المقتبس من مشكاة الإيمان متفرسين هل تجدوهن مواطئة قلوبهم بألسنتهن، مع أنه { الله } المطلع على ما في قلوبهن { أعلم بإيمانهن } وبعدما تفرستم في شأنهن { فإن علمتموهن } وظننتموهن { مؤمنات فلا ترجعوهن } ولا تردوهن { إلى الكفار } حتى لا يصرن مرتدات، وبالجملة: بعد ظهور الإيمان منهن { لا هن حل لهم } أي: للأزواج الكفار { ولا هم } اي: الأزواج { يحلون لهن } لاختلافهما في الدين.
{ و } بعدما حفظتموهن وحكمتموهن بالإيمان، إن جاء أزواجهن في طلبهن { آتوهم مآ أنفقوا } أي: مهورهن { و } بعدمى أتيتم وأعطيتم مهورهن لأزواجهن { لا جناح } أي: لا ضيق ولا حرج { عليكم } أيها المؤمنون { أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن } مهورهن مرة أخرى مثل مهور سائر المؤمنات، ولا تحسبوا عليهن ما أعطيتم لأزواجهن من المهور.
{ و } بعدما ثبت أنه لا رخصة لكم في دينكم أن تردوا المؤمنات المهاجرات إلى الكفار { لا تمسكوا } أي: لا تبقوا أيضا أزواجكم أيها المؤمنون { بعصم الكوافر } أي: لا تقيموا بعقود أزواجكم الكافرات الملحقات إلى الكفار، بل خلوا سبيلهن { واسألوا } منهن { مآ أنفقتم } لهن من المهور بعدما لحن بالكفار { وليسألوا } أي: الكفار أيضا منكم { مآ أنفقوا } من المهور لأزواجهم المؤمنات المهاجرات، الملحقات بكم { ذلكم } أي: جميع ما ذكر في الآية { حكم الله } المدبر لمصالحكم { يحكم } به { بينكم والله عليم حكيم } [الممتحنة: 10] يحكم بما يقتضيه علمه وحكمته.
{ وإن فاتكم } أيها المؤمنون { شيء من } مهور { أزواجكم } بعدما لحقن { إلى الكفار } ولم يؤدوا جميع مهورهن إليكم { فعاقبتم } بعد ذلك، وغلبتم على الكفار المتمردين على أداء مهوركم، وأخذتم الغنائم منهم { فآتوا } وأعطوا أيها المؤمنون قبل القسمة { الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفار { مثل مآ أنفقوا } في مهور أزواجهم الكفارات الملحقات { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } [الممتحنة: 11] ولا تضيعوا حق أخيكم المؤمن.
[60.12-13]
ثم قال سبحانه مناديا لنبيه على سبيل الإرشاد والتعليم: { يأيها النبي إذا جآءك المؤمنات يبايعنك } ويقبلن منك مطلق الحقوق والحدود المعتبرة في الشرع، سيما { على أن لا يشركن بالله } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الشريك والولد { شيئا } من الإشراك { ولا يسرقن } من حرز إنسان ماله { ولا يزنين } سواء كن محصنات أو غير محصنات { ولا يقتلن أولادهن } كإسقاط جنين، ووأد البنات وغيرها { ولا يأتين ببهتن يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } يعني: لا تأتي بالمرأة بشيء فاحش إلى حيث تقذف بولدها بأنه ليس من زوجها؛ بسبب ذلك الشيء الذي صدر عنها، يبهت الناس بسببه، ووقعوا في الافتراء لأجله { و } بالجملة: يبايعنك على أن { لا يعصينك } يا أكمل الرسل { في معروف } مستحسن عقلا وشرعا تأمرهن بها أصلا حالهن، وإذا بايعن معك على ترك الخصائل المذمومة { فبايعهن } أيضا { واستغفر لهن الله } بما صدر منهم قبل البيعة { إن الله } المطلع على ما في نياتهن من الإخلاص { غفور } يغفرهن بعدما أخلصن { رحيم } [الممتحنة: 12] يقبل توبتهن.
ثم لما واصل بعض فقراء المسلمين اليهود؛ ليصيبوا من ثمارهم لنزلت: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: ترك مواصلة اليهود ومصاحبتهم { لا تتولوا قوما غضب الله عليهم } يعني: عامة المشركين؛ لأنهم { قد يئسوا } وقنطوا { من الآخرة } لذلك لم يؤمنوا بها وبما فيها من المواعيد والوعيدات الهائلة { كما يئس الكفار من أصحاب القبور } [الممتحنة: 13] يعني: مثل يأسهم من البعث والحشر أصحاب القبور، وإخراجهم منها أحياء، ووقوفهم بين يدي الله، فعليكم ألا تصاحبوا معهم إن كنتم مؤمنين مصدقين بها.
جعلنا الله من المصدقين بيوم الدين، وبعموم ما فيه من المؤمنين الموقنين.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي - مكنك الله في مقر عز التوحيد واليقين، وجنبك عن طريان التردد والتلوين - ألا تصاحب أهل الغفلة وأصحاب الجهالات، المنهمكين في بحار الأوهام والخيالات الموروثة لهم من متقضيات الإمكان المستلزم لأنواع الخذلان والهوان، فلك أن تلازم زاوية الخمول بالعفاف قانعا من الدنيا بالكفاف، مجتنبا عن مخائل أصحاب الجزاف، متوكلا على الصمد المعين، متوجها نحوه في كل تحريك وتسكين، راضيا بما جرى عليك من القضاء، مطمئنا بما وصل إليك من العطاء، شاكرا لنعم الله في السراء والضراء، مقتصدا بين الخوخف والرجاء، مفوضا عموم أمورك إلى المولى، متعطشا في جميع أحوالك إلى شرف اللقاء، وما هي إلا جنة المأوى، وسدرة المنتهى.
رزقنا الله عموم عباده الوصول إليها، والتحقق دونها بمنه وجوده.
[61 - سورة الصف]
[61.1-5]
{ سبح لله } ونزهه بكمال التقديس والتنزيه جميع { ما } ظهر { في السموت } أي: العلويات { وما } ظهر { في الأرض } أي: السفليات { و } كيف لا يتوجه نحوه عموم الموجودات؛ إذ { هو العزيز } الغالب على مطلق المقدورات والمرادات { الحكيم } [الصف: 1] المقتن في جميع التدبيرات والتقديرات؟!
ثم لما عاهد المسلمون مع الله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فنزل: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله } [الصف: 4]، فولوا يوم أحد منهزمين، ولم يوفوا بعهدهم، فنزلت: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: الوفاء بالعهد { لم تقولون } وقت المعاهدة والميثاق مع الله { ما لا تفعلون } [الصف: 2] ولا توفون وقت الوفاء.
واعلموا أيها المؤمنون أنه { كبر مقتا } وعظم جريمة وذنبا { عند الله } المنتقم الغيور { أن تقولوا } وتعاهدوا معه سبحانه { ما لا تفعلون } [الصف: 3] وقت الوفاء، ولا تنجزوا المعهود الموعود.
{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله } لترويج دينه، وإعلاء كلمة توحيده { صفا } مصطفين مظاهرين، متعاونين { كأنهم بنيان مرصوص } [الصف: 4] منمضد محكم، مضمم بعضها مع بعض بحيث لا فرج فيها ولا شقوق.
ثم اعلموا أن عدم وفائكم بالعهود لا ينقص شيئا من عظمته، كما أن وفائكم لا تزيد فيها، لكن نقضكم الميثاق يؤذي النبي، وإيذاء النبي مستلزم لإيذاء الله وبغضه، وإرادته المقت والغضب على المؤذي { و } اذكر يا أكمل الرسل للمناقضين قصة تأذي أخيك موسى الكليم - صلوات الله عليه - من قومه وقت { إذ قال موسى لقومه } حين رموه بالبغية، وعيروه بالأدرة: { يقوم } ناداهم وأضافهم إلى نفسه على مقتضى ملاينة أرباب الرسالة مع أممهم؛ لينزجروا عن سوء الأدب { لم تؤذونني } بأمثال هذه المفتريات الباطلة البعيدة بمراحل عن الصدق { و } الحال أنكم { قد تعلمون } يقينا بما جئت لكم من المعجزات الساطعة، الدالة على صدقي في دعواي { أني رسول الله } المرسل من عنده بمقتضى وحيه { إليكم } لإرشادكم إلى سبيل الهداية الموصلة إلى معرفة الحق وتوحيده، ومقتضى علمكم: ألا تؤذوني، فلم تؤذونيي؟!
{ فلما زاغوا } ومالوا عن الحق، وانحرفوا عن مقتضى الفطرة الأصلية الإلهية { أزاغ الله } المقلب للقلوب { قلوبهم } وصرفها عن قبول الحق والميل إليه فضلوا عن سواء السبيل، واستحقوا الويل العظيم، والعذاب الأليم { و } بالجملة: { الله } العليم الحكيم { لا يهدي القوم الفاسقين } [الصف: 5] الخارجين عن مقتضى الفطرة الأصلية التي هي الهداية الموصلة إلى معرفة الحق وتوحيده.
[61.6-9]
{ و } اذكر لهم يا أكمل الرسل أيض وقت { إذ قال } أخوك { عيسى ابن مريم } مناديا لقومه { يبني إسرائيل إني رسول الله إليكم } أرسلني؛ لإرشادكم إلى طريق الحق وصراط توحيده؛ لأكون { مصدقا لما بين يدي من التوراة } المنزلة من عنده سبحانه؛ لضبط ظواهر الأحكام والأخلاق المستتبعة لتهذيب الباطن عن مطلق الزيغ والضلال، المنافية لصفاء مشرب التوحيد { ومبشرا } أيضا، أبشركم { برسول } كامل في الرسالة، متمم لمكارم الأخلاق { يأتي من بعدي } مظهر لتوحيد الذات، خاتم لأمر الرسالة والتشريع { اسمه أحمد } سمي به صلى الله عليه وسلم؛ لكون حمده أتم وأشمل من حمد سائر الأنبياء والرسل؛ إذ محامدهم لله إنما هو بمقتضى توحيد الصفات والأفعال، وحمده صلى الله عليه وسلم بحسب توحيد الذات المستوعب لتوحيد الأفعال والصفات.
وبعدما أظهر عيسى - صلوات الله عليه - دعوته طالبوه بالبينة الدالة على صدقه { فلما جاءهم بالبينات } الواضحات، والمعجزات الساطعات التي هي أكثر من معجزات موسى؛ وبعدما رأوا منه ما رأوا من الخوارق التي ما ظهر مثلها من الأنبياء بادروا إلى تكذيبه مكابرة وعنادا، حيث { قالوا هذا } أي: عيسى عليه السلام، أو ما جاء به من المعجزات { سحر مبين } [الصف: 6] ظاهر كونه سحرا، أو كماله في السحر إلى حيث كأنه تجسم منه، وليس تكذيبهم إياه - صلوات الله عليه - بعد وضوح البرهان، ونسبته إلى شيء لا يليق بشأنه إلا خروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة؛ لأداء حقوق العبودية.
{ ومن أظلم } وأشد خروجا عن مقتضى الحدود الإلهية { ممن افترى على الله } الحكيم المتقن في أفعاله { الكذب } ونسب ما أنزله سبحانه من المعجزات الدالة على صدق رسوله المؤيد من عنده بالنفس القدسية، والمبعوث إلى الناس؛ ليرشدهم إلى طريق توحيده { و } الحال أنه { هو } أي: المفتري الظالم { يدعى إلى الإسلام } المتقدس عن جميع الآثام لو قبله وصدقه، وامتثل بما فيه من الأوامر والنواهي، وهو من غاية عتوه وعناده في موضع الإجابة والقبول يرده ويكذبه، ونيسب معجزات الداعي إلى السحر والشعبذة مراء وافتراء { و } بالجملة: { الله } المطلع على ما في استعدادات عباده { لا يهدي القوم الظالمين } [الصف: 7] الخارجين عن مقتضى الفطرة الأصلية الإلهية التي فطر الناس عليها، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ لذلك يخرجون.
وليس غرضهم من هذا الافتراء والتكذيب بعد وضوح ظهور الحجج الواضحة، والبراهين الساطعة إلا أنهم { يريدون } بفتنتهم هذه { ليطفئوا نور الله } الواحد الأحد الصمد، المتشعشع من مطالع عموم الكائنات، ومشارق جميع الذرات، ألا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام؛ لتبيين توحيد الذات { بأفوههم } أي: بمرجد قولهم الباطل، الزاهق الزائل بلا مستند عقلي أو نقلي، فكيف عن كشفي وشهودي { والله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { متم نوره } مبالغ في إشاعته وإشراقه غايتها { ولو كره الكفرون } [الصف: 8] ظهوره وشيوعه إرغاما لهم وإذلالا؟!
وكيف لا يتم سبحانه شيوع نور وحدته الذاتية { هو الذي أرسل رسوله } محمدا صلى الله عليه وسلم ولمصلحة هذا التتميم والتكميل، وأيده { بالهدى } والقرآن العظيم { ودين الحق } والملة الحنيفية السمحة البيضاء المورودة له من جده إبراهيم { ليظهره } ويغلبه؛ أي: الدين القويم، المبين لصراط الحق وطرق توحيده الذاتي { على الدين كله } أي: على عموم الملل والأديان الواردة؛ لبيان توحيد الصفات والأفعال { ولو كره المشركون } [الصف: 9] ظهور توحيد الحق؛ لما فيه من طقع عرق الشرك جليا كان أو خفيا؟!
[61.10-13]
ثم قال سبحاه بعدما أشار إلى ظهور دين الإسلام، وإعلاء كلمة التوحيد حثا على المؤمنين، وترغيبا لهم إلى ترويج الدين القويم الذي هو الصراط المستقيم، الموصل إلى مرتبة حق اليقين: { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [الصف: 10] كأنه قيل: ما التجارة المنقذة المنجية؟.
قال سبحانه: { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله } لترويج دينه، وإعلاء كلمة توحيده { بأموالكم } ببذلها في الخطوب { وأنفسكم } بالاقتحام على الحروب { ذلكم } الذي ذكر من الإيمان والجهاد { خير لكم } ونفعه عائد إليكم { إن كنتم تعلمون } [الصف: 11] ما هو أصلح لكم، وأنفع في نشأتكم الأولى والأخرى.
وإن تؤمنوا بالله، وتصدقوا رسوله، وتجاهدوا في سبيله { يغفر لكم ذنوبكم } التي أتيتم بها قبل ذلك { و } بعدما نغفر ذنوبكم { يدخلكم جنات } منتزهات العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الحياة التي هي حضرة العلم الإلهي { ومساكن طيبة } من الحالات والمقامات السنية، والدرجات العلية { في جنات عدن } التي هي المعرفة واليقين مصونة عن شوب الشرك، وريب الحسبان والتخمين { ذلك } الستر والإدخال هو { الفوز العظيم } [الصف: 12] والفضل الكريم على أرباب المعرفة واليقين من الله العزيز العليم.
{ و } لكم أيها المعتبرون المجاهدون عنده سبحانه نعمة { أخرى } من النعم التي { تحبونها } وهي { نصر } نازل { من الله } العزيز الحكيم عليكم، إلى حيث يغلبكم على عموم أعدائكم { وفتح قريب } في العاجل { و } بالجملة: { بشر المؤمنين } [الصف: 13] المجاهدين يا أكمل الرسل بأنواع البشارات الدنيوية والأخروية.
[61.14]
ثم قال سبحانه: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: نصرة دين الله، وتقوية رسوله { كونوا } بأموالكم وأنفسكم { أنصار الله } وأنصار رسوله، وقولوا في مقابلة نبيكم ما قال الحواريون في مقابلة عيسى عليه السلام { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين } مختبرا إخلاصهم ومحبتهم، ونهاية مرتبتهم في اليقين، ودرجتهم في أعلى عليين: { من أنصاري } وأعواني في توجهي { إلى الله } وانتشار توحيده بين أظلاله المستمدين من أظلال أوصافه وأسمائه؟.
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا { قال الحواريون } من كمال انكشافهم بالله وتوحيده، وتحققهم في مقام الشهود، وتمكنهم فيه: { نحن } الفانون في الله، الباقون ببقائه، المستغرقون بمطالعة لقائه { أنصار الله } وأحباؤه؛ إذ لا مرجع لنا سواه، ولا مقصد إلا إياه.
والحواريون هم أول من آمن بعيسى عليه السلام من الحور، وهو البياض، وهم اثنا عشر، سموا به؛ لصفاء عقائدهم عن التردد والتلوين، وبعدما أظهر عيسى عليه السلام دعوته بين الأنام { فآمنت } به عليه السلام { طآئفة من بني إسرائيل وكفرت } به عليه السلام { طآئفة } أخرى منهم، وبعد وقوع الخلاف والاختلاف { فأيدنا } وغلبنا الطائفة { الذين آمنوا } منهم { على عدوهم } يعني: الطائفة الذين كفروا به عليه السلام { فأصبحوا } وصاروا؛ أي: المؤمنون { ظاهرين } [الصف: 14] غالبين على الكفرة بالحراب والحجة، ألا إن
حزب الله هم الغالبون
[المائدة: 56]؟!
جعلنا الله وعموم عباده من محبيهم، ومقتفي أثرهم بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، المنجذب نحو الحق، المنخرط في سلوك أرباب التوحيد الملقبين بأنصار الله، المهاجرين عن كورة بقعة الناسوت نحو مدينة الوحدة اللاهوتية، وسواد أعظم الفقر - أعانك الله إلى أن تصل أقصى مرامك، وأعلى مقامك من المعرفة والتوحيد - أن تجمع همك، وتشمر ذيلك لسلوط سبيل الفناء من طريق الموت الإرادي المثمر للفناء المطلق عن الفناء أيضا؛ لتفوز بالبقاء الأزلي السرمدي، ألا وهي طريقة الحضرة الختمية المحمدية، المبعوث إلى كافة البرية؛ لبيان طريق التوحيد الذاتي، المسقط لجميع الكثرات؟!
فلك أن تصفي سرك وضميرك عن نقوش مطلق المعتقدات، وصور عموم الرسوم والعادات المنافية لصرافة الوحدة الذاتية، وتقتفي أثر نبيك صلى الله عليه وسلم أمثال الحواريين أثر نبيهم بلا شوب وريب؛ لينكشف لك طريق المعرفة واليقين بعد توفيق الله، وجذب من جانبه، وطول خدمته الشريفة النبوية، والنواميس المصطفوية، وإياك إياك الالتفات إلى الدنيا وما فهيا، ليمكن لك التصفية والتخلية التي هي مقدمة الكشف والشهود.
هدانا الله إلى سبيل توحيده بفضله وطوله.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1-5]
لذلك { يسبح } ويقدس { لله } الواحد الأحد، المنزه عن مطلق التحديد مظاهر { ما في السموت وما في الأرض } تسبيحا وتقديسا، مقرونا بكمال التذلل والخضوع إلى الملك { الملك } المتسلط بالاستيلاء التام، والسلطنة القاهرة الغالبة على مملكة الوجود { القدوس } المنزه الطاهر ذاته عن سمة الحدوث، ووصمة الإمكان { العزيز } الغالب على عموم المقدورات بكمال الاستيلاء والاستقلال { الحكيم } [الجمعة: 1] المقتن في مطلق التدابير الجارية في عالم التصاوير بلا فتور وقصور.
{ هو الذي بعث } بمقتضى كمال قدرته وحكمته { في الأميين } المنسلخين عن مطلق الإملاء والإنشاء المشعر بالتدبر والتفكر بمقتضى العقل الفطري الموهب لهم من حضرة العليم الحكيم { رسولا } أميا أمثالهم، ناشئا { منهم } وأيده بروح القدس بعدما أصفاه من دنس الجهل، واصطفاه من بين الملل، وفضله على جميع أرباب النحل، وجعله في كمال المعارف والحقائق الإلهية، بحيث { يتلوا عليهم } عموم { آياته } الدالة على وحدة ذاته، وعلى كمال أسمائه وصفاته { ويزكيهم } عن مطلق النقائض والآثام المنافية لدين الإسلام، المبين للتوحيد الذاتي.
{ و } بالجملة: { يعلمهم } بمقتضى الوحي الإلهي { الكتاب } أي: القرآن الجامع لما في الكتب السالفة من الحكم والأحكام على أبلغ بيان، وأبدع نظام { والحكمة } أي: الأحكام الشرعية المنزلة من عند العليم الحكيم العلام { وإن كانوا من قبل } أي: وإنهم كانوا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم { لفي ضلال مبين } [الجمعة: 2] وغواية ظاهرة؛ لأنهم كانوا على فترة من الرسل.
{ و } لم يختص بعثته صلى الله عليه وسلم بالأميين من الأعراب الموجودين عند بعثته صلى الله عليه وسلم بل يعم { آخرين منهم } أي: من عموم المكلفين { لما يلحقوا بهم } أي: حين يتبعوا بالأولين إلى يوم القيامة؛ إذ ختم ببعثته صلى الله عليه وسلم أمر البعثة ، وكمل عند ظهوره صلى الله عليه وسلم بنيان الدين القويم الذي هو صراط التوحيد الذاتي { وهو } سبحانه { العزيز } الغالب على عموم التقادير { الحكيم } [الجمعة: 3] المطلق في جميع الأفعال والتدابير.
{ ذلك } أي: التوحيد الذايت الذي ظهر به صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين { فضل الله } العزيز الحكيم { يؤتيه من يشآء } من عباده بلا سبق الوسائل والأسباب العادية { والله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { ذو الفضل العظيم } [الجمعة: 4] الذي لا يكتنه وصف فضله وطوله أصلا.
ثم قال سبحانه تعريضا على الكفرة المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنه قد ورد في كتبهم المنزلة عليهم بعثته وحليته صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنون بها، مصدقون بجميع ما فيها سوى بعثته صلى الله عليه وسلم، وما جاء فيها من أوصافه صلى الله عليه وسلم الدالة على علو شأنه، ورفعة قدره ومكانه، وبالجملة: { مثل } القوم { الذين حملوا التوراة } أي: علموها وكلفوا بما فيها من الأوامر والنواهي، ومطلق الأحكام { ثم لم يحملوها } ولم ينتفعوا، ولم يصدقوا بما فيها، سيما نعوت الحضرة الختمية المحمدية صلى الله عليه وسلم، مثلهم في حمل التوراة عليهم، وتكليفا لهم { كمثل الحمار يحمل أسفارا } كتبا من العلم يحمل عليه، ويتعب بثقلها، ولا ينتفع بها { بئس } المثل { مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } الدالة على عظمة ذاته، ومتانة حكمه وحكمته في عموم مأموراته ومنهياته { و } بالجملة: { الله } العليم الحكيم، المتقن في أفعاله { لا يهدي } إلى توحيد { القوم الظالمين } [الجمعة: 5] الخارجين عن مقتضى عبوديته بمتابعة شياطين أماراتهم بسوء.
[62.6-11]
{ قل } يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام نيابة عنا لليهود الذين يدعون محبة الله وولايته بقولهم: نحن أولياء الله وأحباؤه مناديا لهم، متهكما معهم: { يأيها الذين هادوا } وتهودوا { إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت } املقرب لكم إلى الله؛ إذ الانتقال من دار الغرور إلى دار السرور تقربكم إلى الرحيم الغفور { إن كنتم صادقين } [الجمعة: 6] في دعوى المحبة والولاء، فمتنوه.
{ و } الله يا أكمل الرسل { لا يتمنونه } أي: لا يتمنى أحد منهم الموت أصلا { أبدا بما قدمت أيديهم } أي: بسبب ما قدموا، واقترفوا بأنفسهم من الكفر والعصيان، وأنواع الفسوق والطغيان { و } بالجملة: { الله } المطلع بعموم ما في استعدادات عباده { عليم بالظالمين } [الجمعة: 7] وبما في ضمائرهم من المحبة والقساوة، يجازيهم على مقتضى علمه.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما أعرضوا عن تمني الموت وابتغائه طلبا لمرضاة الله، وشوقا إليه أيضا على وجه التبكيت والإلزام: { إن الموت الذي تفرون منه } وتخافون أن تمنوه بلسانكم مخالفة أنه لا يلحقكم، بل تفرون عن مجرد التلفظ به، فكيف عن لحوقه { فإنه ملاقيكم } ملاصقكم، ولاحق بكم حتما؛ إذ كل نفس ذائقة كأس لموت، ولك حي لا بد وأن يموت سوى الحي الذي لا يموت، ولا يفوت { ثم } بعدما تموتون { تردون } وتحشرون نحو المحشر، وتعرضون { إلى عالم الغيب والشهادة } بعلمه الحضوري { فينبئكم } ويخبركم حينئذ { بما كنتم تعملون } [الجمعة: 8] من خير وشر، فيجازيكم عليهما.
ثم لما تهاون المسلمون في أمر الجمعة، وتكاسلوا في الاجمتاع قبل الصلاة، بل انفضوا وصرفوا عن الجامع حين خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سمعوا صداء الملاهي المعهودة لمجيء العير على ما هو عادتهم دائما، عاتبهم الله سبحانه، وأنزل عليهم الآية: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: المبادرة إلى مطلق الطاعات، سيما { إذا نودي } وأذن { للصلاة من يوم الجمعة } أي: في يوم الجمعة، وهو الأذان المعهود قبيل الجمعة { فاسعوا } مسرعين مجيبين { إلى } سماع { ذكر الله } في الخطبة والتذكيرات الواردة فيها { وذروا } واتركوا { البيع } بعد سماع الأذان { ذلكم } أي: ترك البيع والانصراف نحو المسجد { خير لكم } وأنفع في عقابكم { إن كنتم تعلمون } [الجمعة: 9] صلاحكم وإفسادكم في أولاكم وأخراكم.
{ فإذا قضيت } وأديت { الصلاة } المكتوبة لكم يوم الجمعة مع الإمام { فانتشروا في } أقطار { الأرض وابتغوا } واطلبوا حوائجكم { من فضل الله } وإحسانه، وسعة جوده وإنعامه { و } بالجملة: { اذكروا الله } المنعم المفضل عليكم { كثيرا } في عموم أحوالكم وأعمالكم، ولا تحصروا ولا تقصروا ذكره في الصلوات المفروضة فقط، بل اشتغلوا بذكره في عموم الأوقات والحالات، بالقلب واللسان، وسائر الجوارح والأركان؛ إذ ما من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا يفقهون تسبيحهم إلا قليلا، وواظبوا عليه { لعلكم تفلحون } [الجمعة: 10] وتفوزون بخير الدارين.
{ و } هم من غاية حرصهم على مقتضيات القوى البهيمية بعدما كانوا في الجامع عند سماع الخطبة { إذا رأوا } وسمعوا { تجارة } حاضرة تدبير الناس حولها { أو لهوا } طبلا مخبرا لهم على مجيئ العير { انفضوا إليها } أي: مالوا وتحركوا نحوها مسرعين، فخرجوا من الجامع سوى اثني عشر من الرجال والنساء { وتركوك } يا أكمل الرسل { قآئما } على المنبر، وما هي إلا ثلمة ظهرت في الدين المستبين، موجبة مقتضية للتهاون بأحكام الشرع المتين، حدثت فيما بينهم.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل إزاحة لها، وإزالة لما يتفرع عليها: { ما عند الله } من المثوبات الأخروية الموجبة للدرجات العلية، والمقامات السنية { خير } لكم وأصلح بحالكم، وأعظم نفعا، وأبقى فائدة { من اللهو ومن التجارة } إذ لا نفع لها عند أهل الحق وإن فرض، فهو متناه زائل عن قريب، بخلاف الكرامة الأخروية فإنها تدوم أبدا { و } إن عللوا انفضاضهم بتحصيل الرزق الصوري قل لهم يا أكمل الرسل: { الله } المظهر لكم من كتم العدم، المدبر المربي لأشباحكم بما ليس في وسعكم { خير الرازقين } [الجمعة: 11] يرزقكم من حيث لا تحستبون إن توكلتم عليه مخلصين، وفوضتم أموركم إليه سبحانه واثقين بكرمه العميم، وجوده العظيم.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد الخائض لجج بحر الوجود، المتحقق بمقام الكشف والشهود - مكنك الله في مقر عز الوحدة، وجنبك عن الزيغ والضلال - أن تتوكل على الله، وتتخذه وكيلا، وتفوض أمورك كلها إليه، وتجعله كفيلا، فعليك ألا تشتغل عن الله في آن وشأن، ولا تغفل عنه في حين من الأحيان، سيما في أمر الرزق الصوري الضروري، المقدر عند الله المدبر الحكيم لكل من دخل في حيطة الوجود، وظهر على صورة الموجود، فإنه يصل على من يصل حسب إرادة الله ومشيئته.
وإياك إياك أن تطلبه بالتجارة والسؤال، بل لك أن تستعمل آلاتك الموهبة لك من عند العليم الحكيم إلى ما جلبت لأجله؛ لتكون من زمرة الشاكرين المتوكلين.
وبالجملة: الرزق على الله، ولا تكن من القانطين، واعبد ربك، واشكر على آلائه ونعمائه
حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99].
ربنا اجعلنا بلطفك من زمرة الشاكرين، آمين.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1-4]
{ إذا جآءك } يا أكمل الرسل { المنافقون } على سبيل الملاينة والخداع تغريرا لك ولمن تبعك من المؤمنين { قالوا } مبالغين في إظهار الإيمان، مؤكدين: { نشهد } أي: نقر ونعترف عن صميم الفؤاد { إنك لرسول الله } أرسلك الحق على الحق بالحق { و } بعدما أكدوا شهادتهم تأكيدا على تأكيد بالغوا أيضا في التأكيد؛ لتكميل التقرير والتنوير، حيث قالوا: { الله } المطلع على السرائر والخفايا { يعلم } ويشهد { إنك لرسوله } هم وإن بالغوا في شهادتهم الكاذبة على سبيل التزوير والتلبيس { والله } المطلع على ما في ضمائرهم من النفاق والشقاق { يشهد } حتما { إن المنافقين } المصرين على ما هم عليه من الكفر والإنكار { لكاذبون } [المنافقون: 1] في شهادتهم المزورة، الصادرة منهم على وجه المبالغة والتأكيد.
وبالجملة: { اتخذوا أيمانهم } المغلظة الحاصلة من شهادتهم المؤكدة بها { جنة } جعلوها وقاية لأموالهم وأنفسهم { فصدوا } وصرفوا غزاة المسلمين؛ بسبب ذلك الحلف الكاذب { عن سبيل الله } الذي هو قتالهم وأسرهم ونهبهم، وبالجملة: { إنهم سآء ما كانوا يعملون } [المنافقون: 2] من الصد والنفاق، والإصرار على الشقاق.
{ ذلك } أي: اجتراؤهم على تلك الشهادة على وجه المراء والنفاق، وإصرارهم على الكفر والشقاق { بأنهم } أي: بسبب أنهم { آمنوا } أولا بالله وبرسوله، وأقروا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم على وجه النفاق صونا لأموالهم وأنفسهم { ثم كفروا } بعدما آمنوا عن مكر المؤمنين { فطبع } الكفر حينئذ { على قلوبهم } ورسخ فيها واستحكم، وبعد الطبع والتمرن { فهم لا يفقهون } [المنافقون: 3] ولا يفهمون حقية الإيمان ولذته وصحبته، ولا باطلية الكفر وفساده.
{ و } بالجملة: هم من غاية غفلتهم عن الله، ونهاية عرائهم وخلوهم عن نور الإيمان { إذا رأيتهم } يا أكمل الرسل { تعجبك أجسامهم } أي: سمتها وضخامتها { وإن يقولوا } أيضا كلاما { تسمع لقولهم } لفصاحتهم وحلاوة نظمهم، إلا أنهم لخلوهم عن العلم اللدني، والرشد المعنوي، والصفاء الفطري الذاتي الذي هو نفوذ أرباب المحبة والولاء { كأنهم خشب } يابسة فانية، فاقدة للقابلية الفطرية { مسندة } على جدار الجهل والبلادة، ومع ذلك { يحسبون } يظنون ويترقبون من شدة شكيمتهم وغيظهم مع المؤمنين { كل صيحة } واقعة { عليهم } مسموعة لهم { هم العدو } يصيح عليهم؛ ليهلكهم.
وبعدما صار بغضهم مع المؤمنين، ومخافتهم من العدو بهذه الحثيثة { فاحذرهم } يا أكمل الرسل، واترك مصاحبتهم، واحترز من غيلتهم وطغيانهم؛ إذ الخائف ربما يصول بلا سبب وداع عليهم، وقل في شأنهم: { قاتلهم الله } المنتقم الغيور { أنى يؤفكون } [المنافقون: 4] وكيف يصرفون وينحرفون عن الحق الصريح إلى الباطل الغير الصحيح، مع أنه لا ضرورة تلجئهم إليه؟!
[63.5-7]
{ و } من شدة بغضهم وضغينتهم مع المؤمنين المخلصين { إذا قيل لهم } إمحاضا للنصح: { تعالوا } هلموا أيها المسرفون المفرطون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم { يستغفر لكم رسول الله } صلى الله عليه وسلم، ويطلب مغفرتكم من العفو الغفور { لووا رءوسهم } وعطفوا أعناقهم عن القبول معتذرين بأعذار كاذبة مخافة وصونا { ورأيتهم } حينئذ في وجوههم التي هي عنوان بواطنهم آثار الكفر والعناد؛ إذ هم { يصدون } ويعرضون معتذرين عن المؤمنين { وهم } في أنفسهم { مستكبرون } [المنافقين: 5] عن القبول والاعتذار.
وبالجملة: { سوآء عليهم } يا أكمل الرسل { أستغفرت لهم } من الله المنتقم الغيور { أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } العليم الحكيم، المتقن في عموم الأفعال أبدا { إن الله } المطلع على ما في استعدادات عباده { لا يهدي } ويرشد إلى جادة توحيده { القوم الفسقين } [المنافقون: 6] منهم، الخارجين عن مقتضى الحدود الإسلامية.
وكيف يهديهم ويغفر له سبحانه، مع أنهم { هم } المسرفون المفسدون { الذين يقولون } للأنصار؛ من نهاية عداوتهم وبغضهم مع الرسول والمؤمنين: { لا تنفقوا على من عند رسول الله } يعنون: فقراء المهاجرين { حتى ينفضوا } وينتشروا بعدما اضطروا من حوله { و } لم يعلموا هؤلاء الغفلة الضالون، والجهلة الهالكون في تيه الجهل والعناد أن { لله } وفي قبضة قدرته، وتحت ضبطه وملكيته { خزآئن السموت والأرض } أي: الكنوز المكنونة المطلوبة في ضمن العلويات، والمدفونة في السفليات { ولكن المنافقين } المصرين على الكفر والعناد { لا يفقهون } [المنافقون: 7] كما قدرة الله، وسعة خزائن كرمه وجوده؟!
[63.8-11]
ومن نهاية غافلتهم عن الله، وعداوتهم مع المؤمنين: { يقولون } على سبيل التهور والتهديد: { لئن رجعنآ } عن سفرنا هذا { إلى المدينة ليخرجن الأعز } يريدون أنفسهم { منها } أي: من المدينة { الأذل } يريدون المؤمنين، وذلك أن أعرابيا من المهاجرين نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء فضرب الأعرابي رأسه بخشبة، فشكا إلى بان أبي وملئه، فقالوا: لا تنفقوا على من عند رسو الله حتى ينفضروا، وإذا { رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [المنافقون: 8]، { و } لم يعلموا أولئك الغواة الضالون في تيه العتو والعناد أنه { لله العزة } أي: القوة والغلبة أصالة { ولرسوله } تبعا { وللمؤمنين } بمتابعة الرسول { ولكن المنافقين لا يعلمون } [المنافقون: 8] عزة الله وعزة أهل الله؛ لفرط جهلهم وغرورهم بأموالهم وأولادهم؛ لذلك يحصرون العزة والقوة بأنفسهم.
ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين مشتملة على نوع من التعريض، والحث والترغيب: { يأيها الذين آمنوا } مقتضى إيمانكم: ألا تلتفتوا لعزة الدنيا، ولا تغتروا بكثرة الأموال والأولاد فيها؛ حتى { لا تلهكم } ولا تشغلكم { أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } وعن التوجه نحوه، والركون إليه في مطلق الأحوال { ومن يفعل ذلك } والتفت إلى مزخرفات الدنيا، وشغل بها عن الله { فأولئك } البعداء المشغولون بالخسيس الأدنى عن الشريف الأعلى { هم الخاسرون } [المنافقون: 9] المقصورون على الخسران الكلي؛ لاستبدالهم الباقي بالفاني، والزاهق الزائل بالقهار القديم.
{ و } بعدما سمعتم مآل أموالكم إلى ما يتفرع عليها من الحرمان والخسران { أنفقوا من ما رزقناكم } وسقنا نحوكم من أموال الدنيا { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } يعني: أنفقوا قبل حلول الأجل، وظهور أمارات الموت، وعلامات الفزع { فيقول } المحتضر منكم حينئذ متحسرا: { رب لولا أخرتني } أي: هلا أمهلتني يا رب { إلى أجل قريب } وأمد غير بعيد { فأصدق } وأتصدق من مالي هذا على الوجه المأمور طلبا لمرضاتك { و } بعد التصدق { أكن من الصالحين } [المنافقون: 10] المنفقين، الممتثلين لأمرك، المقبولين عندك.
{ و } اعلموا أيها المؤمنون يقينا أنه { لن يؤخر الله نفسا } ولن يمهلها أبدا { إذا جآء أجلهآ } وحل ما قدر لها؛ لرد الأمانة فيه من الزمان والآن، وكذا لن يقدمها عليه أصلا، فعليكم التدارك والتلافي قبل حلول الأجل { و } بالجملة: { الله } المراقب عليكم في عموم أحوالكم { خبير بما تعملون } [المنافقون: 11] في أيام حياتكم من خير وشر، فيجازيكم على مقتضى خبرته بلا فوت شيء من عملكم خيرا كان أو شرا.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المنكشف برجوع العكوس والأظلال إلى ما منه بدت وظهرت، ألا وهي شمس الوحدة الذاتية أن تعرف أن إظهار المعارف المظاهر، وبسط الظل عليها، وامتداده إياها إنما هي بغتة بلا سبق مادة ومدة، وآلة ومقدمة، كذلك القبض والإخفاء إنما يكون كذلك، فلك ، تكون في مدة ظهورك على ذكر من ربك، بحيث لا يشغلك عنه شيء ساعة، ولا تغفل عنه وعن التوجه نحوه لحظة وطرفة، فإنك ما تدري متى يحل الأجل؟ فإذا حل لا يمكنك التدارك والتلافي.
جعلنا الله من زمرة المستيقظين في عموم الأحوال.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-5]
{ يسبح لله } ويقدس ذاته عن مطلق النقائض على وجه الإطلاق بعدما لم يبلغ كنه أسمائه وصفاته حتى يعد، ويحصى بتبيان مظاهر { ما في السموت وما في الأرض } من ذرائر عموم الأكوان، وكيف لا يقدسه جميع الأعيان؛ إذ { له الملك } على سبيل التخصيص، لا مالك له سواه، ولا مستولي عليه إلا هو { و } كذا { له الحمد } على سبيل الحصر والاختصاص؛ إذ لا مستحق للحمد بالاستحقاق إلا هو، ولا مفيض للنعم على الآفاق غيره، ولا مقدر للأرزاق إلا هو { و } بالجملة: { هو } بذاته { على كل شيء } دخل في حيطة وجوده { قدير } [التغابن: 1] لا ينتهي قدرته بمقدور دون مقدور.
وكيف لا يكون سبحانه قديرا لعموم المقدورات، مع أنه { هو الذي خلقكم } وأظهركم، وقدر خلقكم من كتم العدم على سبيل الإبداع بلا سبق مادة ومدو، وفصلكم بعدما أظهركم { فمنكم كافر } ساتر للحق، موفق عليه، محجوب بغيوم هوياته الباطلة الإمكانية عن شمس الحقيقة الحقية { ومنكم مؤمن } موفق على الإيمان، مجبول على فطرة التوحيد والعرفان، ميسر لها؛ لذلك يصير إيمانه عيانا، وعيانه حقا وبيانا { و } بالجملة: { الله } المطلع على عموم ما في استعدادات عباده { بما تعملون } من عموم الأعمال في جميع الشئون والأحوال { بصير } [التغابن: 2] فيعامل معكم بما يناسب أعمالكم.
واعلموا أيها المكفلون { خلق } سبحانه، وأظهر بكمال قدرته { السموت والأرض بالحق } أي: مظاهر ما في المعلومات والسفليات ملتبسة بالحكمة المتقنة، البالغة في الإحكام والإتقان حدا لا يبلغ كنهه أحلام الأنام، وبعدما رتبها بحكمته على هذا النظام الأبلغ الأبدع انتخب من مجموع الكائنات ما هو زبدته وخلاصته { وصوركم } أيها المجبولون على فطرة التوحيد والتحقيق منها { فأحسن صوركم } إذ خلقكم على صورته قابلا لخلافته، لائقا للتخلق بأخلاقه، والاتصاف بصفوة أوصافه، وجعل فطرتكم غاية وعلة غائية مرتبة على عموم مظاهره ومصنوعاته { و } كيف لا يصوركم بصورته، ولا يحسن صوركم؛ إذ { إليه المصير } [التغابن: 3] أي: مصير الكل نحوه، ومرجعه لديه، ومبدؤه منه، ومعاده إليه؟!
{ يعلم } بعلمه الحضوري جميع { ما في السموت } أي: عالم الأسماء والصفات من الكمالات اللائقة للظهور والبروز { و } ما في { الأرض } أي: موم ما في استعدادات قوابل الطبائع والأركان من الماديات والمجريات { ويعلم ما تسرون } أيها المكلفون { وما تعلنون و } بالجملة: { الله } المحيط بالكل بمقتضى تجلية وظهوره عليه { عليم بذات الصدور } [التغابن : 4] إذ لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن حيطة عمله ذرة.
ثم قال سبحانه توبيخا على من خرج عن ربقة عبوديته: { ألم يأتكم } أيها المكلفون المنكرون بظهور الحق وثوبته، وتحققه في الأنفس والآفاق بالاستقلال والاستحقاق { نبأ الذين كفروا من قبل } كقوم نوح وهود وصالح - عليهم السلام - { فذاقوا وبال أمرهم } أي: كيف ذاقوا ضرر كفرهم وشركهم من العذاب النازل عليهم في النشأة الأولى بعدما أصروا على ما هم عليه، ولم يهتدوا بإرشاد الأنبياء والرسل { ولهم } في النشأة الأخرى { عذاب أليم } [التغابن: 5] لا عذاب أشد من ذلك، وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول الإلهي.
[64.6-9]
{ ذلك } الويل والوبال عليهم في النشأة الأولى والأخرى { بأنه } أي: بسبب أن النشأة الأولى والأمر فيما بينهم هكذا { كانت تأتيهم رسلهم } من عند الله مؤيدين { بالبينات } الواضحات، والمعجزات الباهرات { فقالوا } بعدما عجزوا عن معارضة معجزاتهم الساطعة، وحججهم القاطعة على سبيل التعدب والإنكار: { أبشر } مثلنا { يهدوننا }؟! كلا وحاشا أن يكون البشر هادين للبشر، وبالجملة: { فكفروا } بالرسل والمرسل، والمرسل به جميعا { وتولوا } عن التدبر والتفكر في الحجج والبينات { واستغنى الله } عن كل شيء فضلا عن هدايتهم وطاعتهم { والله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { غني } في ذاته طلق مظاهره ومصنوعاتهخ، فكيف عن إيمانهم وعبادتهم؟! { حميد } [التغابن: 6] حسب أوصافه وأسمائه، مستغن عن حمد الحامدين.
ومن كمال جهلهم بالله، وإصرارهم على إنكار قدرة الله على عموم المقدورات: { زعم } بل ادعى العلم المسرفون المعاندون { الذين كفروا } بالله، وأنكروا قدرته على البعث والنشور { أن لن يبعثوا } من قبورهم، ولن يحشروا إلى المحشر؛ للحساب والجزاء، وأصروا على هذا الزعم الفاسد، والجهل الظاهر، واعتقدوه حقا، وخيلوه صدقا مكابرة وعنادا.
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في إنكار البعث: { بلى } تبعثون أيها المنكرون الجاحدون { و } حق { ربي } الذي رباني قابلا لوحيه وإلهامه، ومهبطا لعموم أحكامه المنزلة من عنده { لتبعثن } ألبتة { ثم } بعد البعث والحشر { لتنبؤن بما عملتم } أي: جميع ما اقترفتم في النشأة الأولى، ولتحاسبن عليها، وتجازن بمقتضاه، بحيث لا يشذ شيء منها { وذلك } التفصيل والإحصاء { على الله } العليم البصير { يسير } [التغابن: 7] وإن كان عندكم مشكل عسير.
وبعدما سمعتم من كمال قدرة الله، وإحاطة علمه وخبرته { فآمنوا بالله ورسوله } المستخلف منه { والنور الذي أنزلنا } معه تأييدا له، وتبينا لدينه؛ يعني: القرآن الفارق بين الحق والباطل { والله } المطلع على ما في استعداداتكم { بما تعملون } بمقتى القرآن، وتمتثلون بأوامره ونواهيه، وبما تذبون عنه وتعرضون منكرين لما فيه من الأوامر والنواهي، والعبر والأحكام، والمعارف والحقائق، والرموز والإشارات { خبير } [التغابن: 8] يجازيكم على مقتضى خبرته.
اذكروا أيها المكلفون { يوم يجمعكم } الله { ليوم الجمع } والحشر؛ لأجل الحساب والجزاء؛ إذ يجتمع فيه الملائكة والثقلان { ذلك } اليوم { يوم التغابن } أي: يوم ظهور التغابن والغرور الواقع في نشأة الاختبار الابتلاء { و } بالجملة: { من يؤمن بالله } ويقر بوحدانيته سبحانه { ويعمل } عملا { صالحا } ليزيد به الإيمان؛ حتى يصير علمه عيانا، وعيانه حقا وبيانا { يكفر عنه سيئاته } ويمحوها عن صحيفة أعماله { ويدخله } بمقتضى فضله ولطفه { جنات } منتزهات العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } المملوءة بمياه المعارف والحقائق المترشحة عن بحر الحياة الأزلي الأبدي، لا يتحولون من التلذذ بها والتحقق دونها، بل يصيرون { خالدين فيهآ أبدا ذلك } التفكير والإدخال لأرباب العناية والإفضال { الفوز العظيم } [التغابن: 9] واللطف الجسيم، وبالجملة: لا فوز أعظم منه وأكمل.
[64.10-13]
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة تعقيب الوعد بالوعيد: { والذين كفروا وكذبوا بآيتنآ } الدالة على وحدة ذاتنا، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { أولئك } الأشقياء المردودون { أصحب النار } وملازموها { خلدين فيها } لا نجاة لهم منها { وبئس المصير } [التغابن: 10] مصير أهل النار، أعاذنا الله وعموم عباده منها.
ثم قال سبحانه على سبيل التقرير والتثبيت لأرباب المعرفة والإيقان على جادة التفويض والتكلان: { مآ أصاب } على من أصاب وما أصاب { من مصيبة } أي: حادثة مفرحة أو مؤلمة { إلا بإذن الله } وبمقتضى إرادته وتقديره { ومن يؤمن بالله } ويفوض أمره إليه، ويأخذه وكيلا، ويجعله حسيبا وكفيلا { يهد قلبه } وينور خلده، ويبصره على أمارات التوحيد وعلامات اليقين { و } بالجملة: { الله } المطلع على عموم ما غاب، وشهد { بكل شيء } دخل في حيطة قدرته { عليم } [التغابن: 11] بعمله الحضوري بحيث لا يعزب عنه شيء مطلقا.
{ و } بالجملة: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } المبلغ لكم طريق الهداية والرشاد، المبين لكم سبيل السلام والسلامة والنجاة في يوم المعاد { فإن توليتم } وأعرضتم عن دعوته بعد تبليغه وإرشاده فلا بأس عليه { فإنما على رسولنا } بمقتضى وحينا وأمرنا { البلاغ المبين } [التغابن: 12] الظاهر والواضح.
وبد تبليغه عن وجهه لم يبق عليه شيء، وعلينا حسابكم وعذابكم.
وكيف يتأتى منكم الإعراض أيها المعرضون المبطلون، مع أنه { الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والربوبية { لا إله } أي: موجود في الوجود { إلا هو } بتوحيده واستقلاله { وعلى الله } لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية { فليتوكل المؤمنون } [التغابن: 13] في عموم حوائجهم ومهماتهم.
[64.14-18]
{ يأيها الذين آمنوا } وأيقنوا وحدة الحق واستقلاله في الوجود { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم } يشغلونكم عن طاعة الله، وعن التوجه نحوه، والتوكل عليه بالتقريع والتشنيع، ويردونكم في أمر المعاش وتحصيله إلى المعاطب والمهالك؛ حتى تسألوا من كل غني غبي، وشحيح دني، فتسترزقون منهم، وترزقون لهم، ولا تثقون بالله، ولا تعتمدون عليه في كفالته وترزيقه فتزل ثقتكم عن خالقكم ورازقكم، وتزل قدمكم عن التثبت في صراط التوكل والتفويض.
وبالجملة: { فاحذروهم } أي: عن الأولاد والأزواج، ولا تأمنوا من مكرهم وغوائلهم { وإن تعفوا } عن جرائمهم وتشنيعاتهم، وتوصلوهم إلى ما أملوا وترقبوا منكم { وتصفحوا } أي: تعرضوا عن إعراضهم، وعدم الالتفات إلى حالهم { وتغفروا } أي: تمحو وتستروا ما صدر عنهم من التشنيع والتقريع، فتشتغلوا إلى إنجاح أغراضهم وإيجاد آمانيهم بعدما وفقكم الحق عليها { فإن الله } المطلع على ما في ضمائرهم من مراعاة جانب الأولاد والأزواج { غفور } لذنوبكم التي صدرت عنكم في أمر المعاش إن كانت برخصة شرعية { رحيم } [التغابن: 14] يرحمكم ويمحو زلتكم إن كان سعيكم؛ لتحصيل مقدار الكفاف والكفاية والقناعة، لا للفضول منها.
وبالجملة: { إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة } عظيمة، واختبار شديد لكم، فعليكم ألا تغتروا بهما فإنهما من شباك الشياطين وحبالهم، يريدون أن يصدوكم عن سبيل الله بتزيينهما إليكم، وتحبيبهما في قلوبكم؛ لتشتغلوا بهما عن الله فتحطوا عن زمرة المخلصين { والله عنده أجر عظيم } [التغابن: 15] للمخلصين المجتنبين عن الالتفات إلى الغير مطلقا.
وبالجملة: { فاتقوا الله ما استطعتم } واجعلوه وقاية لنفوسكم من تغرير الشيطان وفتنته { واسمعوا } قول الله بسمع الرضا والقبول { وأطيعوا } أمره ونهيه، ولا تخرجوا عن مقتضى حكمه وأحكامه مطلقا { وأنفقوا } مما رزقكم الله، واستخلفكم عليه امتثالا لأمره، وطلبا لمرضاته ، وافعلوا جميع ما أمركم الحق، سيما الإيثار والإنفاق؛ ليكون امتثالكم وإنفاقكم { خيرا لأنفسكم } في أولاكم، وذخرا لكم في أخراكم، ومن معظم فوائد الإنفاق: صون النفس عن الشح المطاع { ومن يوق شح نفسه } بالبذل والإنفاق { فأولئك } السعداء المتصفون بالكرم والسخاء { هم المفلحون } [التغابن: 16] الفائزون من الله بالمثوبة العظمة، والدرجة العليا.
وبالجملة: { إن تقرضوا الله } المنعم المتفضل أيها المنفقون المحسنون { قرضا حسنا } مقرونا بالإخلاص والرضا، ومصونا عن وصمة المن والأذى { يضاعفه لكم } إحسانكم أضعافا كثيرة { ويغفر لكم } ذنوبكم، وإن عظمت وكثرت { و } بالجملة: { الله } المطلع على إخلاص عباده في أعمالهم ونياتهم فيها { شكور } يحسن المحسن جزاء إحسانه أضعافا مضاعفة، ويزيد عليها تفضلا وامتنانا { حليم } [التغابن: 17] لا يعاجل بعقوبة المسيء رجاء أن يعود ويتوب، ويعتذر لما يصدر عنه من الذنوب.
وكيف لا وهو { عالم الغيب والشهادة } يعلم بعلمه الحضوري منهم عموم ما في استعداداتهم وقابلياتهم من الإخلاص والإنفاق وغيرهما { العزيز } الغالب القادر على وجوه الإنعام والانتقام { الحكيم } [التغابن: 18] المتقن في عموم الأفعال والجزاء المترتب على الأعمال؟!
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المتحقق بمقام الفناء في الله، المستخلف منه سبحانه في عموم الأفعال والآثار، الصادر منك صورة أن تمتثل بمطلق الأوامر والنواهي الواردة عليك من عند ربك بمقتضى التكاليف المنبئة عن محض الحكمة المتقنة الإلهية، الجارية على وفق المصلحة المصلحة لأمور العباد في معاشهم ومعادهم، وتواظب على أداء الفرائض والواجبات الموجبة للعبودية بكمال التسليم والرضاء، وتلازم على الإتيان بالنوافل والمندوبات المقربة إلى الله، المستلزمة لمزيد الفضل والعطاء، فلك التبتل والإخلاص المقارن بالخضوع والخشوع، والتذلل التام، والانكسار المفرط في عموم ما جئت به من الطاعات والعبادات.
فاعلم أن الناقد بصير، وحبائل الشيطان في حواليك كثير، فلا تغفل عن غوائله، فإن إضلاله إياك سهل يسير، واتكل على الله في عموم أوقاتك، واستعذ به سبحانه من غوائله، فإنه سميع بصير.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا، وإليك المصير.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1-3]
{ يأيها النبي } المبعوث إلى كافة البرايا؛ لترشدهم وتصلح أحوالهم، فلزم عليك وعليهم أصلا وفرعا { إذا طلقتم النسآء } وقصدتم دفع رابطة العلاقة الشرعية بالفرقة الشرعية أيضا { فطلقوهن } وادفعوا عنهن قيد الألفة المقتضية للزوجية { لعدتهن } أي: في إيتانها ووقتها الذي هو مدة الطهر قبل وقوع الوقائع فيها { وأحصوا العدة } الكاملة أي: الأطهار الثلاثة مع المطلقات الثلاثة؛ حتى تقع كل طلقة في طهر { واتقوا الله ربكم } المنتقم الغيو الذي رباكم على مقتضى العدالة، فعليكم ألا تتجاوزوا عنها، فلا تزيدوا على عدتهن بالمراجعة عليهن، ثم تطلقوهن.
فعليكم أن { لا تخرجوهن } بالتعدي بعد وقوع الطلاق { من بيوتهن } أي: مساكنكم التي كن فيها قبل الفرقة؛ حتى تنقضي عدتهن فيها { ولا يخرجن } أيضا بأنفسهن بعد الفرقة من مساكنهن بلا رضا منكم أيها المطلقون، بل لا بد لهن أن يعتددن فيها { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } أي: زنا يشهد له شهود على الوجه المعتبر في الشرع، فحينئذ يخرجن؛ لإجراء الحد عليهن، فيصبح هذا الاستثناء من كلا الحكمين السابقين.
{ وتلك } الحدود المذكورة { حدود الله } العليم الحكيم، الصادرة عنه بمقتضى الحكمة البالغة المقتضية للعدالة الكاملة { ومن يتعد } ويتجاوز { حدود الله } المنتقم الغيور { فقد ظلم نفسه } بالعرض على عذاب الله عاجلا وآجلا، إنه { لا تدرى } وتعلم نفس المطلق المجاوز عن الحد الشرعي بالتطويل في العدة، والتهاون على المرأة أو نفس المرأة المطلقة بإتيان الفاحشة في أوان العدة وغيرها { لعل الله } المقتدر { يحدث بعد ذلك } التفريق والبينونة { أمرا } [الطلاق: 1] بأن جعل للمطلق بدل تلك الزوجة المطلقة زوجة سليطة مسلطة عليه، أو جعل للمطلقة زوجا أشد إيلاما منه.
وبالجملة: { فإذا بلغن } أي: المطلقات { أجلهن } أي: شارفن على انقضاء عدتهن { فأمسكوهن } وراجعوا إليهن { بمعروف } مستحسن عقلا وشرعا ومروءة، نادمين على ما صدر عنكم من الطلاق، محسنين إليهن، معطين لهن من الأمتعة جبرا لما كسرتم { أو فارقوهن } بعدما لم يبق بينكم وبينهن رابطة المحبة، وعلاقة الألفة { بمعروف } مستحسن مرضي لدى الشارع، مقبول عند عموم أرباب المروءات، بلا شرر ولا ضرار، وبلا أخذ شيء مما يتعلق بهن من الأمتعة المنسوبة إليهن عرفا، بل أعطوهن شيئا آخر معتدا به؛ ليعترفن بثنائكم وشكركم، ويدعون لكم بدل ما يدعون عليكم.
{ وأشهدوا } أيها المؤمنون عند اختيار الرجعة والفرقة { ذوى عدل منكم } قطعا لعرق الخصومة والنزاع، وبعدا عن التهمة { وأقيموا } أيها الشهود { الشهادة } الموكولة لكم { لله } طلبا لمرضاته سبحانه، وحافظوا عليها؛ كي تؤدوها لدى الحاجة { ذلكم } الذي سمعتم من محافظة الحدود، وإقامة الشهود؛ لحفظ الحقوق والعهود من جملة المواعظ والتذكيرات التي وضعها الحق بمقتضى حكمته بين عباده؛ ليحافظوابها آداب العبودية.
إنما { يوعظ } ويتذكر { به من كان يؤمن بالله } ويوقن بوحدة ذاته، ويصدق برسله المبعوثين من عنده، المؤيدين من لدنه { واليوم الآخر } المعد؛ لتنقيد الأعمال، وترتب الجزاء عليها، فإن غير هؤلاء السعداء الأمناء التائهون في تيه الضلال بأناع الوزر والوبال، لا تتعظون بها وبأمثالها { و } بالجملة: { من يتق الله } ويتحفظ نفسه عن قهره وغضبه، ويحافظ على رعاية حدوده الموضوعة من لدنه؛ لحفظ حقوق عباده، سيما حقوق الزوجية والائتلاف من كلا الطرفين، ويتوكل عليه في عموم أحواله، ويفوض أموره كلها إليه { يجعل له } سبحانه { مخرجا } [الطلاق: 2] عن مضيق الإمكان المورث لأنواع الخذلان والخسران.
{ ويرزقه } ويسوق إليه جميع حوائجه المحتاجة إليه في معاش عياله { من حيث لا يحتسب } أي: من مكان لا يترقبه، ولا ينتظره { و } كيف لا { من يتوكل على الله } مخلصا له، مفوضا أمره إليه { فهو حسبه } وكافيه، يكفيه جميع المؤنة المحتاجة إليه في النشأة الأولى والأخرى؟! وكيف لا { إن الله } القادر المقتدر على عموم المقادير { بالغ أمره } بعدما فوض إليه سبحانه بالإخلاص والتسليم إلى حد قدر الله له في حضرة علمه، ولوح قضائه؛ إذ { قد جعل الله } القدير الحكيم { لكل شيء } من الأشياء الظاهرة حسب أظلال الأسماء والصفات الإليهة { قدرا } [الطلاق: 3] أي: مقدارا معينا من الكمال في عموم أفعاله وأحواله على مقتضى الاستعدادات الفطرية، والقابلية الجبلية؟!
[65.4-7]
هذه المذكورات من الحدود والآداب في طلاق ذوات الأقراء من المعتدات { واللائي يئسن } وقنطن { من المحيض من نسآئكم } لكبرهن { إن ارتبتم } أي: جهلتم وشككتم في تعيين عدتهن { فعدتهن } بعدما طلقتموهن { ثلاثة أشهر } أي: مضيها.
روي أنه لما نزلت:
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
[البقرة: 228] قيل: فما عدة النساء اللاتي يئسن؟ فنزلت: { و } كذا أيضا مضي ثلاثة أشهر عدة النساء { اللائي لم يحضن } بعد؛ لصغر سنهن أو مرض { وأولات الأحمال } من المطلقات { أجلهن } ومنتهى عدتهن: { أن يضعن حملهن } سواء كان الوضع بعد الفرقة بزمان كثير أو قليل.
وهذا الحكم متناول للمطلقة، والمتوفي عنها زوجها، وإنما لم يعين لأولات الأحمال حد معين من أقراء وشهود؛ لأن المقصود الأصلي من إلزام العدة: حفظ الماء، استبراء الرحم؛ لئلا ينجر إلى خلط النسب، وبالوضع يحصل المقصود على الوجه الأتم؛ ولهذا لم يحد لهن سوى الوضع { ومن يتق الله } ويحفظ نفسه من سخطه، وطلق امرأته على الوجه المسنون، ولم يركن إلى الطلاق البدعي أصلا { يجعل له } سبحانه { من أمره } الذي هو فراق زوجته { يسرا } [الطلاق: 4] يسهل إليه التزويج الآخر، ويحسنها له، ويحبلها له.
{ ذلك } المذكور من الأحكام { أمر الله } العليم الحكيم { أنزله إليكم } أيها المكلفون؛ ليصلح مفاسدكم المتعلقة بحكم الطلاق { ومن يتق الله } المنتقم الغيور، ولم يتجاوز عن مقتضى أمره المبرم، وحكمه المحكم { يكفر عنه سيئاته } يتغليب حسناته عليها { ويعظم له أجرا } [الطلاق: 5] بتضعيف حسناته أضعافا كثيرة.
{ أسكنوهن } أي: المطلقات { من حيث سكنتم } أيها المطلقون { من وجدكم } أي: من وسعكم، ومقتضى طاقتكم من ملك، وإجارة وإعارة { ولا تضآروهن } في السكنى { لتضيقوا عليهن } حتى يضطررن إلى الخروج { وإن كن } أي: المطلقات { أولات حمل } منكم أيها المطلقون { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } فيخرجن من العدة، وهذا الحكم؛ أي: الإنفاق على المعتدة مخصوص بأولات الأحمال من المعتدات؛ إذ الإنفاق حقيقة إنما هي لأولات الأولاد دون غيرهن من المعتدات؛ إذ لا سبب توجبها.
وإذا وضعن { فإن أرضعن لكم } أولادكم بعد رفع رابطة النكاح { فآتوهن أجورهن } على الإرضاع، مثل سائر المرضعات الأجنبيات، ولا تعللوا بكونهن أمهات للرضيع { وأتمروا بينكم } أي: ليأمر بعضكم بعضا أيها المؤمنون في إرضاع المطلقة ولدها من المطلق { بمعروف } مستحسن، مقبول شرعا من إعطاء الأجرة الكاملة، والزيادة عليها مراعاة للمروءة { وإن تعاسرتم } وتضايقتم في الأجرة عليها { فسترضع له أخرى } [الطلاق: 6] غيرها، إلا أن المروءة تأبى عن أن تعرض الأم من إرضاع ولدها؛ إذ هي أولى به من غيرها.
{ لينفق } على المعتدة الحاملة { ذو سعة } ويسر { من سعته } ومقدار وسعه وطاقته على مقتضى نفقتها قبل الفرقة { ومن قدر } وضيق { عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله } من الرزق بلا جبر وتحميل، إنه { لا يكلف الله } المنعم الحكيم { نفسا إلا } مقدار { مآ آتاها } وساق لها من الرزق الصوري؛ إذ { سيجعل الله } المنعم المفضل { بعد عسر } دنيوي { يسرا } [الطلاق: 7] حقيقيا أخرويا، فاليسر في الآخرة أولى من الدنيا وما فيها.
[65.8-12]
ثم قال سبحانه على وجه الوعيد للموسرين: { وكأين من قرية } أي: كثيراص من أهل قرية { عتت } أعرضت واستكبرت { عن أمر ربها و } متابعة { رسله } المرسلين من عنده إياها اتكالا على ما عندهم من المال والثروة، والتفاخر على الأقران، والتفوق عليهم بأنواع النخوة والعدوان { فحاسبناها حسابا شديدا } أي: عن القليل والكثير، والنقير والقمطير { و } بعدما حاسبناها كذلك { عذبناها عذابا نكرا } [الطلاق: 8] منكرا فجيعا فظيعا؛ والمراد: حساب النشأة الأخرى وعذابها، عبر بالماضي؛ لتحقق وقوعها.
{ فذاقت } حينئذ { وبال أمرها } أي: إعراضها عن الله وأهله ذوقا محيطا بها، بحيث لا يخلو من العذاب شيء من أعضائها وأجزائها { و } بالجملة: { كان عاقبة أمرها } الذي كان عليه في النشأة الأولى { خسرا } [الطلاق: 9] في النشأة الأخرى، وأي خسر لا خسر أشد منه وأكبر، وهو حرمانهم عن عز والقبول الإلهي، وانحطاطهم عن رتبة الخلافة والنيابة.
وبالجملة: { أعد الله لهم عذابا شديدا } في العاجل والآجل { فاتقوا الله يأولي الألباب } واعتبروا مما جرى على أولئك الغواة الطغاة، الهالكين في تيه العتو والعناد من وخامة عاقبتهم، ورداءة خاتمتهم، واعلموا أيها المعتبرون { الذين آمنوا } بوحدة الحق وبتصديقه رسله { قد أنزل الله } المدبر لمصالحكم { إليكم ذكرا } [الطلاق: 10] ناشئا منكم، مذكرا لكم أصل مبدئكم ومنشئكم، وكذا مرجعكم ومعادكم.
ولهذا جعله سبحانه { رسولا } مرسلا من عنده إليكم؛ لإرشادكم وتكميلكم { يتلوا عليكم آيات الله } الدالة على وحدة ذاته، وكمال أسمائه وصفاته { مبينات } مشروحات موضحات كل ذلك { ليخرج الذين آمنوا } بالله على وجه الإخلاص { وعملوا الصالحات } المؤكدة لإيمانهم { من الظلمات إلى النور } أي: الظلمات الحاصلة من تراكم الكثرات، وتتابع الإضافات الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة إلى نور الوجود الذي هو الوحجدة الذاتية المسقطة لعموم الإضافات مطلقا.
{ و } بالجملة: { من يؤمن بالله } ويوقن بوحدته { ويعمل صالحا } طلبا لمرضاته { يدخله } سبحانه بمقتضى فضله ولطفه { جنات } منتزهات العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } المترشحة دائما من البحر المحيط الذي هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه المشتمل على عموم الكوائن والفواسد الجارية في فضاء الوجود مطلقا { خالدين فيهآ أبدا } لا يتحولون منها أصلا، وبالجملة: { قد أحسن الله له رزقا } [الطلاق: 11] صوريا ومعنويا.
وكيف لا يحسن رزقه سبحانه، مع أنه { الله الذي خلق } أي: أظهر وقدر بمقتضى قدرته الكاملة { سبع سموت } علويات مطبقات على عدد الأوصاف السبعة الذاتية الإلهية، وجعلها مسكنا للمجردات من الملائكة والأرواح { و } قدر { من الأرض } السفلى؛ أي: عالم العناصر أيضا { مثلهن } مطبقات بعضها فوق بعض: طبقة الأثير الصرف، وطبقة الأثير الممتزجة، وطبقة الزمهرير من الهواء، وطبقة الهواء الصرف، وطبقة الماء الصرف،م وطبقة الطين المركب من الماء والتراب، وطبقة التراب الصرف، على عدد القوى السبع الإنسانية الفائضة على أعضائه السبعة، وهي: الدماغ، والكبد، والعين، والأذن، والأنف، واللسان وجميع البشرة من الصانع الحكيم؟!
وإنما رتبها سبحانه وطبقها عليها؛ حين { يتنزل الأمر } الإلهي { بينهن } يعني: تصير السفليات قوابل الآثار العلويات، يقبلن منها ما يفيض عليهن من الكمالات المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية، كل ذلك { لتعلموا } أيها المجبولون على فطرة العلم والمعرفة { أن الله } المستقل بالألوهية والربوبية { على كل شيء } دخل في حيطة الوجود، ولمع عليه برق الشهود { قدير } لا ينتهي قدرته عند مقدور { و } لتعلموا أيضا { أن الله } المتصف بالقدرة الكاملة { قد أحاط بكل شيء } دخل في حيطة قدرته { علما } [الطلاق: 12] إذ لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتحقق بمقام القلب وسعته، وقابليته لنزول سلطان الوحدة الذاتية الإلهية مع بعد غورها، ورفعة طورها عن أحلام الأنام مطلقا أن الله المتجلي على كل جلي وخفي قدير على مقدورات لا تتناهى، ومرادات لا تعد ولا تحصى بمقتضى حيطة علمه بمعلومات لا غاية يحدها، ولا نهاية يحيطها.
فله سبحانه الإعادة والإبداء، والإماتة والإحياء، وله التصرف في ملكه كيف يشاء حسب اقتضاء الأوصاف والأسماء، لا إله إلا هو، له الاسماء الحسنى، وله الحمد في الآخرة والأولى.
[66 - سورة التحريم]
[66.1-5]
{ يأيها النبي } المؤيد بالوحي والإلهام من عند العليم العلام، القدوس السلام مقتضى نبوتك وتأييدك: ألا تخالف حكم الله، ولا تبادر إلى الخروج عما قضى الله { لم تحرم } وتمنع عن نفسك من عندك بلا ورود نهي من قبل الحق { مآ أحل الله لك } وأباحه عليك بمقتضى حكمته وعدالته { تبتغي } بتحريم الحلال على نفسك { مرضات أزواجك } وتترك رضا الله بمخالفة حكمه؟! فارتدع عن فعلك هذا، واستغفر الله لزلتك { والله } المطلع على نيتك وإخلاصك { غفور } يعفو عنك ما صدر منك { رحيم } [التحريم: 1] يرحمك ويقبل توبتك.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بأمته مارية في يوم حفصة، فاطلعت حفصة على ذلك فعاتبته، فقال صلى الله عليه وسلم: حرمت مارية على نفسي لأجلك، لا تقولي لأحد من أزواجي، واستكتمي عنهن هذا التحريم، وأيضا الخلافة بعدي لأبي بكر وبعده لعمر، ولا تفش لأحد قط، فأخبرت حفصة عائشة بكلا الخبرين؛ لكونهما متصادقتين، فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فغضب صلى الله عليه وسلم وطلق حفصة طلاقا رجعيا، وعزل نساءه تسعا عشرين يوما؛ لأجل هذه الواقعة، فأنزل الله تعالى: { يأيها النبي }.
ثم لما نهى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه المبالغة والتأكيد، أراد سبحانه أن يبين كفارة اليمين الواقعة من المؤمنين فقال: { قد فرض الله } وشرع { لكم } على سبيل الوجوب { تحلة أيمانكم } أي: بتحليل أيمانكم وتكفيركم عنها { والله } المصلح لأحوالكم { مولاكم } ومولي أموركم { وهو العليم } لعموم مصالحكم ومفاسدكم { الحكيم } [التحريم: 2] في ضبطها وإصلاحها.
{ و } اذكر { إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه } يعني: حفصة { حديثا } وهو حديث مارية، وحديث خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - بعده صلى الله عليه وسلم { فلما نبأت } وأخبرت حفصة { به } عائشة { وأظهره الله } وأطلع سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم { عليه } أي: على إفشاء حفصة الحديث المعهود الذي أوصاها بالإسرار، فغضب صلى الله عليه وسلم على حفصة؛ لذلك { عرف بعضه } أي: بعض الحديث، وهو حديث تحريم مارية، وطلقها طلاقا رجعيا انتقاما عنها { وأعرض عن بعض } وهو قصة الخلافة ولم يعرفها؛ لئلا يقع الفتنة بين المسلمين، ومع ذلك قد وقعت، وبعدما أطلع الله نبيه على إفشاء حفصة الحديث معاتبا عليها { فلما نبأها به قالت } حفصة ظنا منها أنها صدرت هذا من عائشة: { من أنبأك } وأعلمك { هذا قال } صلى الله عليه وسلم في جوابها: { نبأني العليم } بالسرائر والخفايا { الخبير } [التحريم: 3] بما يجري في الضمائر والنيات.
ثم قال سبحانه في قبل نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخطاب المبنئ عن العتاب: { إن تتوبآ إلى الله } أنت وعائشة عما صدر عنكما توبة صادرة عن محض الندم والإخلاص، منبئة عن كمال الموافقة والاختصاص مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جبرتما ما كسرتما، وإلا { فقد صغت } زاغت ومالت { قلوبكما } عن موافقة الرسول ومخالصته، فجئتما بما يكرهه صلى الله عليه وسلم وبكراهتكما ما يحبه صلى الله عليه وسلم { وإن تظاهرا } وتعاونا { عليه } أي: على ما أنتما عليه من مخالفة الرسول فلن تضرا له صلى الله عليه وسلم شيئا من الضرر، وكيف يلحقه صلى الله عليه وسلم ضرر منكما { فإن الله } المراقب لعموم أحواله { هو } سبحانه { مولاه } ناصره ومعينه، ومولي عموم أموره { وجبريل } رئيس الكروبيين قرينه وملازمه { وصالح المؤمنين } أتباعه وأعوانه { والملائكة } أي: عموم الملائكة { بعد ذلك } أي: بعد نصر أولئك المظاهرين { ظهير } [التحريم: 4] له سبحانه على سبيل التعريض لعموم أزواجه صلى الله عليه وسلم؟!
{ عسى ربه } الذي رباه على الكرامة الأصلية، والنجابة الجبلية { إن طلقكن } جميعا { أن يبدله } بمقتضى قدرته وإرادته { أزواجا خيرا منكن } صورة وسيرة، أخلاقا وأعمالا { مسلمات } في الاعتقاد، مسلمات عن العيوب { مؤمنات } بوحدة الحق، مصدقات لعموم ما نزل من عنده { قانتات } راسخات على الطاعات، مواظبات على عموم الخيرات، خاضعات خاشعات لله في عموم الأوقات { تائبات } عن عموم المنكرات والمحظورات { عابدات } على وجه التذلل والخضوع، وكمال الانكسار والخشوع { سائحات } صائمات أو مهاجرات { ثيبات وأبكارا } [التحريم: 5] يعني: سواء كن ثيبات أو أبكارا.
[66.6-9]
ثم أوصى سبحانه لعموم المؤمنين ما يصلح لهم، ويليق بحالهم فقال: { يأيها الذين آمنوا } عليكم حفظ النفس عن مطلق المهالك الدينية { قوا أنفسكم } عن ارتكاب المعاصي، والالتفات نحو المنكرات، والتوجه نحو المحظورات { وأهليكم } إي: من في حفظكم وحضانتكم من أزواجكم وأولادكم عن الوقوع في المهالك والفتن، وأنواع الآثام الموجبة للخذلان والحرمان، وبالجملة: اتقوا { نارا } وأي نار، نارا { وقودها الناس والحجارة } أي: ما يتقد به النار أجسام الأنام والحجارة؛ وذلك من شدة حرارتها وإحراقها، بخلاف سائر النيران فإن وقودها الحطب.
ومع ذلك يوكل { عليها ملائكة } يوقدونها، وهم الزبانية، صفتهم: إنهم { غلاظ } في أقوالهم وهياكلهم، لا يتأتى منهم الملاينة والملاطفة أصلا { شداد } في البطش وعموم التعذيب { لا يعصون الله } ولا يتجاوزون عن أمره سبحانه في عموم أوامره، بل يمضونها على الوجه المأمور بلا فوت شيء منها بعذر وشفاعة، أو شفقة أو مروءة، بل يفعلون { مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم: 6] على وجهه خوفا من غيرته سبحانه وغضبه.
وبعدما نادى سبحانه عموم المؤمنين بما نادى، نادى أيضا عموم الكافرين على مقتضى المقابلة، فقال: { يأيها الذين كفروا } بالله، وكذبوا رسله المبعوثين إليكم؛ ليرشدوكم إلى سبيل الهداية والسلامة، فأنكرتم بهم وبجميع ما جاءوا به بلا تأمل وتوقف، عليكم أن { لا تعتذروا اليوم } بأن أعمالكم دون عذابكم وأنقص منه، بل { إنما تجزون } من العذاب على مقتضى { ما كنتم تعملون } [التحريم: 7] من الكفر والإنكار .
ثم قال سبحانه: { يأيها الذين آمنوا } بوحدة الحق من شأن إيمانكم تطهير قلوبكم عن مطلق المعاصي والآثام المنافية لصرافة وحدة الذات، ولا يتيسر لكم هذا إلا بالتوبة والرجوع على وجه الندم والإخلاص { توبوا } أيها المخلصون المبتلون بقتنة الذنوب { إلى الله } الملك القدوس، المنزه ساحة عز حضوره عن سمة الحدوث والإمكان مطلقا { توبة نصوحا } خالصة لوجه الله، قالعة لعرض الالتفات إلى غير الله، نادمة على الذنوب الصادرة عنكم فيما مضى، مجتنبة عن التي سيأتي، مصفية للنفس عن مطلق الكدورات المتعلقة بالغير، محلية لها بالتقوى عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الخالص نحو المولى.
{ عسى ربكم } بعدما تبتم ورجعتم نحوه بكمال التبتل والإخلاص { أن يكفر عنكم سيئاتكم } ويعفو عنكم، ولم ينتقم منكم { ويدخلكم } تفضلا عليكم، وإحسانا { جنات } منتزهات العلم والدين والحق { تجري من تحتها الأنهار } أنهار المعارف والحقائق المتجددة، الجارية من أزل اللذات إلى أبد الأسماء والصفات.
وكيف لا يكفر، ولا يدخل سبحانه خلص عباده في جنة وحدته { يوم لا يخزى } ولا يرى { الله } المنعم المفضل على خلص عباده، سيما { النبي } المؤيد من عنده بأنواع الكرامة والتعظيم { والذين آمنوا معه } واهتدوا بهدايته، مع أن شأنهم هكذا { نورهم } الذي اقتبسوه من مشكاة النبوة المصطفوية { يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } أي: محيطا بهم، محفوفا عليهم وقت عبورهم من الصراط؟!
ثم لما تفاوتت أنوارهم بحسب الجلاء والخفاء المترتب على أعمالهم واستعداداتهم الفطرية { يقولون } مناجين: { ربنآ } يا من ربانا على الهداية والرشاد { أتمم لنا نورنا } تفضلا علينا، ومزيد إحسان بنا { واغفر لنآ } ذنوبنا؛ أي: استر أنانيتنا عن عيوب بصائرنا { إنك } بمقتضى جودك { على كل شيء } يدخل في حيطة علمك وإرادتك { قدير } [التحريم: 8].
ثم قال سبحانه: { يأيها النبي } المبعوث؛ لإعلاء كلمة التوحيد { جاهد الكفار } الذين سرتوا بكغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق، وأنكروا وجودها عنادا ومكابرة، وقاتل معهم بلا مبالاة بشوكتهم، وكثرة عددهم وعددهم، هم { والمنافقين } أيضا، مع أنك مؤيد من لدنا بالحجج القاطعة، والبينات الساطعة { واغلظ عليهم } بالأقوال والأفعال، ولا تكن معهم بعد اليوم، مثل ملاينتك معهم قبله ، بل اشدد عليهم، فإن الله معينك وناصرك، وهم سيغلبون عن قريب في الدنيا { و } في الآخرة { مأواهم } المعد لهم { جهنم } البعد والحرمان، وسعير الطرد والخذلان { وبئس المصير } [التحريم: 9] مصيرهم ومورجعهم جنهم.
[66.10-12]
وبالجملة: { ضرب الله } العليم الحكيم { مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط } وشبه حال الكفرة بحالهما في عدم دفع صحبتهم مع المؤمنين، ومحبتهم معهم شيئا من عذاب الله؛ إذ { كانتا تحت عبدين من عبادنا } وهم نوح ولوط - عليهما السلام - { صالحين } لقبولنا، مصلحين لأعمالهما وأخلاقهما، وعموم أطوارها { فخانتاهما } أي: تلكما المرأتان بالنفاق { فلم يغنيا } ولم يدفعا؛ أي: العبدان { عنهما } أي: عن تلك المرأتين { من } عذاب { الله } المنتقم الغيور { شيئا } من الإغناء، بل { وقيل ادخلا النار } المعدة للكفار والعصاة { مع } سائر { الداخلين } [التحريم: 10] فيها بلا مبالاة إلى زوجيهما.
{ وضرب الله } أيضا { مثلا } آخر { للذين آمنوا امرأت فرعون } شبه حال المؤمنين في وصلة الكافرين بحال امرأة فرعون مع فرعون، وعدم تضرر إيمانها منه، بل تأكد إيمانها بصحبة زوجها فرعون - لعنه الله - اذكر { إذ قالت } امرأة فعرون بعدما انكشفت بسرائر التوحيد، مناجية إلى ربها: { رب } يا من رباني بأنواع الكرامة، ووفقني على توحيدك { ابن لي عندك بيتا في الجنة } وذلك لما آمنت حين غلب موسى على السحرة فآمنوا له بعدما غلبوا، فقتلهم فرعون، وأمر بزجرها، وأوتدها بالأوتاد الأربعة في حر الشمس؛ حتى ترجع عن الإيمان ولم ترجع، ثم أمر اللعين أن يوضع فوقها صخرة عظيمة، فقالت حينئذ مناجية مع ربها من كمال تحننها وانكشافها: { رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون } الخبيث { وعمله } السيئ { و } بالجملة: { نجني من القوم الظالمين } [التحريم: 11] الخارجين عن ربقة عبوديتك بإيمانهم بهذا اللعين الطاغي، واعتقادهم بألوهيته وربوبيته، فماتت قبل وضع الصخرة.
{ و } ضرب الله مثلا أيضا للذين آمنوا: { مريم ابنت عمران التي } من كمال نجابتها وكرامتها، وطهارة ذيلها وعصمتها: { أحصنت فرجها } من مخالطة الرجال، وبالغت في التحصن والتحفظ إلى حيث رضي الله عنها وكرمها، وأعطاها ما أعطى من الإرهاصات والكرامات التي خلت عنها سائر نساء الدنيا، وبعدما كرمناها كذلك { فنفخنا فيه } أي: في جوفها من جيب درعها { من روحنا } الذي كنا نفخنا منه في قالب آدم الصفي، ومن تلك النفخة حبلت بعيسى عليه السلام؛ ولهذا صار عيسى في الصفوة كآدم، وظهرت منه معجزات ما ظهرت من نبي قط.
{ و } بالجملة: { صدقت } مريم { بكلمات ربها } أي: بعموم كلمات مربيها التي من جملتها: خلق عيسى عليه السلام من ذلك النفخ { و } بجميع { كتبه } المنزلة من عنده على عموم رسله { و } من كمال مجاهدتها في طريق الحق، وإخلاصها في الطاعات والعبادات، واتكالها على الله في مطلق الملمات، وكمال تفويضها عليه سبحانه وتسليما إليه: { كانت من القانتين } [التحريم: 12] أي: من عداد الكمل من أرباب القنوت، المنجذبين إلى حضرة الرحموت بكمال الخضوع والخشوع.
وفي هذا التمثيلين تعريض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحث لهن إلى حسن المعاشرة ومراعاة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وكمال المصادقة، وتبعيد لهن عن النفاق والمراء والمجادلة معه في أمر أباحه الله له بمقتضى حكمته، إنما ضربهما سبحانه؛ لينزجرون بهما عما جئن به؛ لتكون عظة وتذكيرا لسائر المؤمنين المتعظين.
جعلنا الله من زمرتهم وجملتهم.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المراقب لكلمات الحق النازلة من الغيب إلى الشهادة، المتفرعة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية أن تترصد في عموم أوقاتك إلى ما سيتجدد من عالم الخفاء والكمون إلى فضاء البروز والظهور، ثم منها إلى البطون بمقتضى النشأة الحبية الإلهية، فلا بد لك أن تخلي همك وبالك عن مطلق الأشغال الشاغلة لك عن الالتفات والتوجه إلى الله، والتفرج بعجائب مصنوعاته، وغرائب مخترعاته، وإياك إياك أن تغفل عنه ساعة، فإنها تورثك حسرة عظيمة طويلة، وخسرانا عظيما إن كنت من جملة المستيقظين.
ربنا لا تزغ قلوبنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
[67 - سورة الملك]
[67.1-7]
{ تبارك هو } تعاظم وتعالى من كثرة الخيرات والبركات الملك الكامل { الذي بيده الملك } وبقبضة قدرته جميع التدابير الجارية فيه على وجوه الصور والتقادير { و } كيف لا { على كل شيء } من متفرعات جود وجوده { قدير } [الملك: 1] بالقدرة الشاملة، والإرادة الكاملة؟!
{ الذي خلق } وقدر { الموت والحياة } بمقتضى قهره ولطفه، وأدارهما بينكم أيها المكلفون { ليبلوكم } ويختبركم { أيكم أحسن عملا } وأصوبه وأصلحه، وأخلصه { و } إن لم تحسنوا العمل، ولم تصلحوه بعدما أمركم سبحانه بالإخلاص والإصلاح فقد ينتقم عنكم سبحانه بمقتضى غيرته؛ إذ { هو العزيز } الغالب القادر على وجوه الانتقام لمن خرج عن ربقة عبوديته { الغفور } [الملك: 2] المقتدر على وجوه الإنعام للمحسنين المخلصين.
وكيف لا، هو { الذي خلق } أظهر وأوجد { سبع سموت } على عدد الصفات السبع الذاتية، وجعلها { طباقا } متطابقة بعضها فوق بعض، جوف بعض، وجعل تطبيقاتها ونظمها على وجه أحكم، ونظام أبلغ، حيث { ما ترى } أيها الرائي { في خلق الرحمن } المستوي على عروش الأكوان { من تفاوت } ينبئ عن عدم رعاية الحكمة والمصلحة فيه، بل كلها على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة؟! فإن شككت أيها المعتبر الرائي فيها؛ لقصور نظرك عن إحاطة ما فيها من الحكم والمصالح في بادئ الرأي { فارجع البصر } وتكرر النظر، ثم انظر { هل ترى } فيها { من فطور } [الملك: 3] خلل وشقوق وقعت فيها، لا على مقتضى الحكمة والإحكام؟.
{ ثم ارجع البصر } إن شئت وشككت { كرتين } مرتين أو مرارا كثيرة إلى حيث { ينقلب } ويرجع { إليك البصر } أي: بصرك { خاسئا } خائبا بعيدا عن المطلوب الذي هو رؤية الفطور والقصور { وهو } أي: نظرك حين رجوعه إليك { حسير } [الملك: 4] كليل كئيب من طول المعاودة، وكثرة المراجعة بلا فائدة تترتب عليها، وعائدة تفوز بها من إدراك الفطور والقصور.
{ و } من كمال قدرتنا، ومتانة حكمتنا: { لقد زينا السمآء الدنيا } أي: السماء المرئية من الدنيا { بمصبيح } أي: بكواكب كثيرة مضيئة، منيرة في الليل كالسرج، هي سبب رؤيتها، وإلا فلا ترى الأفلاك { و } من جملة اختباراتنا الواقعة بين عبادنا: إنا { جعلنها } أي: تلك المصابيح { رجوما } أي: سبب ظنون وجهالات { للشيطين } وهم المنجمون المرجفون الذين يرجمون بالغيب، مستمسكين بها وبحركاتها وأوضاعها { و } بعدما أظللناهم بها في الدنيا { أعتدنا لهم } في الآخرة { عذاب السعير } [الملك: 5] أي: النار المسعرة جزاء ما اجترءوا على الله بدعوى الإطلاع على المغيبات، مع أنه من الخصائص الإلهية، وما ذلك إلا من كفرهم بالله، واسقلاله في مطلق تصرفاته الواقعة في ملكه وملكوته.
{ وللذين كفروا بربهم } وادعوا معه الشركة في أخص أوصافه، وهو عالم الغيب { عذاب جهنم } البعد والخذلان، والطرد والحرمان { و } بالجملة: { بئس المصير } [الملك: 6] مصير أهل الكفر.
ومأواهم من شدة أهوال جهنم وأفزاعها: إنهم { إذآ ألقوا فيها } أي: قصدهم الزبانية؛ لإلقائهم بالعنف والزجر المفرط { سمعوا لها } أي: لجهنم { شهيقا } صوتا هائلا مهولا، كصور الحمار { و } الحال أنه { هي } أي: جهنم حينئذ { تفور } [الملك: 7] وتغ لي غليان المرحل غيظا وغضبا لأعداء الله.
[67.8-15]
ومن شدة غضبها وسخطها { تكاد } وتقرب { تميز } وتفترق أجزاؤها { من الغيظ } المفرط { كلما ألقي فيها فوج } أي: جماعة وفرقة من المتفقين المجتمعين على ديدنة قبيحة، وخصلة خارجة عن مقتضى الحدود الإلهية { سألهم خزنتهآ } سؤال توبيخ وتقريع: { ألم يأتكم نذير } [الملك: 8] يخفوكم من هذا العذاب الهائل، مع أن سنة الله جرت على ألا يدخل عباده فيها إلا بعد الإنذار والتخويف.
{ قالوا } حينئذ متسحرين: { بلى قد جآءنا نذير } فأنذرنا عنها على أبلغ الوجوه { فكذبنا } النذير، وأفرطنا في تكذيبه إلى حيث نفينا الإنزال والإرسال مطلقا، بل كفرنا بالحق وبحميع ما جاء به النبي النذير من عنده، ونسبنا دعواه إلى السفه والضلال { و } بالجملة: { قلنا } له حين دعوته وادعائه نزول الكتاب: { ما نزل الله من شيء إن أنتم } أي: ما أنتم أيها المدعون للرسالة { إلا في ضلال كبير } [الملك: 9] عظيم لا ضلال أعظم من ضلالكم.
{ و } بعدما حكوا أولئك الضالون ما حكوا { قالوا } من غاية أسفهم وحسرتهم على سبيل التمني: { أو نعقل } كلام الرسل المؤيدين بالمعجزات الظاهر { لو كنا نسمع } نتأمل ونتفكر في حججهم الساطعة، ودلائلهم القاطعة { ما كنا } الآن { في أصحاب السعير } [الملك: 10] أي: في عدادهم ومن جملتهم.
وبالجملة: { فاعترفوا بذنبهم } وندموا، وما ينفعهم الاعتراف والندم؛ لمضي وقته، بل { فسحقا } طردا وتبعيدا عن ساحة عز القبول، وعن سعة رحمة الحق، وكنف لطفه ومغفرته { لأصحاب السعير } [الملك: 11] أي: لمطلق من دخل بشؤم كفره وإنكاره فيها.
ثم أردف سبحانه حال الكفرة بحال المؤمنين تنشيطا للسامع، وحثا له على التثبت في الإيمان فقال: { إن } المؤمنين { الذين يخشون } ويخافون { ربهم } أي: عذابه { بالغيب } أي: حال كونهم في النشأة الأولى غائبين عنه، غير معاينين له { لهم } عند ربهم { مغفرة } ستر ومحو لذنوبهم الصادرة عنهم بمقتضى بشريتهم جزاء إيمانهم بالله، وخشيتهم عن عذابه { وأجر كبير } [الملك: 12] يصغر دونه الدنيا وما فيها تفضلا عليهم وامتنانا، ألا وهو رضاء الله منهم
ورضوان من الله أكبر
[التوبة: 72] من الآخرة وما فيها، فكيف عن الدنيا؟!
ثم لما قال بعض المشركين لبعضهم على سبيل التهكم: أسروا قلوكم؛ كي لا يسمعه رب محمد، نزل: { وأسروا قولكم } أيها المشركون { أو اجهروا به } وهما سيان بالنسبة إلى علمه المحيط، وكيف لا { إنه } سبحانه { عليم بذات الصدور } [الملك: 13] أي: بما في الضمائر قبل أن يعتبر به أو يقصد بتعبيره، بل هو عليم بما في استعداداتكم وقابلياتكم المكنونة في عالم الأسماء والصفات قبل ظهوركم في عالم الأشباح؟!
{ ألا يعلم } العليم الحكيم { من خلق } وقدر بمقتضى علمه المحيط، وقدرته الشاملة، وإرادته الكاملة { و } كيف لا { هو اللطيف } الواصل آثار علمه إلى خفيات الأشياء وأسرارها { الخبير } [الملك: 14] المحيط خبرته لظواهر المظاهر وبواطنها.
وبالجملة: { هو } سبحانه القادر المقتدر { الذي جعل لكم } أيها المكلفون بمقتضى سعة رحمته وجوده { الأرض ذلولا } لينة سهلة، قابلة للسلوك عليها { فامشوا في مناكبها } جبالها أو جوانبها حيث شئتم { وكلوا من رزقه } رغدا واسعا متى أردتم، واشكروا المنعم المفضل، ولا تكفروا به وبنعمه { و } اعلموا أنه { إليه } لا إلى غيره من الوسائل والأسباب { النشور } [الملك: 15] أي: نشور الكل ورجوعه؛ إذ لا مرجع لكم سواه، ولا معاد إلا إليه، فيسألكم عما أنعم عليكم ويحاسبكم عليه.
[67.16-20]
وكيف لا تشكرون نعمه، ولا تواظبون على أداء حقوق كرمه؟! { أءمنتم } عذاب { من في السمآء } أي: من عذابه النازل من جانب السماء على من لم يشكر نعماءه المتوالية، وآلاءه المتتالية من { أن يخسف بكم الأرض } ويطويكم بها ويغيبكم فيها، كما فعل بقارون { فإذا هي تمور } [الملك: 16].
{ أم أمنتم } عذاب { من في السمآء أن يرسل } ويمطر { عليكم حاصبا } حصباء من قبل السماء فيهلككم بها، كما فعل بقوم لوط عليه السلام { فستعلمون } حينئذ أيها المسرفون المفرطون في كفران النعم، ونسيان حقوق الكرم { كيف نذير } [الملك: 17] وإنذاري عليكم.
وإن كذبوك يا أكمل الرسل، وبالغوا في تكذيبك وإنكارك لا تبال بهم وبتكذيبهم، وانتظر إلى ما سيؤول أمرهم إليه.
{ ولقد كذب الذين } مضوا { من قبلهم } من الكفرة المكذبين لرسلهم أمثالهم، مبالغين في تكذيبهم { فكيف كان نكير } [الملك: 18] أي: إنكاري إياهم، وانتقامي منهم، فسيلحق أيضا لهؤلاء الضالين المكذبين لك بأضعاف ما لحقهم.
{ أ } ينكرون قدرتنا عن انتقامهم وإهلاكهم { ولم يروا إلى الطير فوقهم صفت } باسطات أجنحتهن في الجو عند الطيران { و } بعدما أردن السرعة { يقبضن } ويضممن أجنحتهن إلى جنوبهن؛ استظهارا بها على سرعة الحركة، مع أن ميلهن بالطبع إلى السفل بثقلهن { ما يمسكهن } في الجو على خلاف الطبع { إلا الرحمن } المستعان الشامل برحمته العامة على كل شيء دخل في حيطة قدرته، وعلمه وإرادته، وبالجملة: { إنه } سبحانه { بكل شيء } دخل في حيطة الوجود { بصير } [الملك: 19] يدبر أمره على وجه يليق به، وينبغي له بمقتضى سعة رحمته وجوده.
ثم قال سبحانه مستفهما إياهم على الإنكار والتقريع: { أمن هذا } الناصر الظهير { الذي هو جند لكم } وعون لكم { ينصركم } ويعينكم حين بطش الله إياكم أيها المسرفون { من دون الرحمن } المستوعب بالرحمة العامة على عموم الأكوان، مع أنه لا شيء في الوجود سواه، وبالجملة: { إن الكافرون } أي: ما هم { إلا في غرور } [الملك: 20] باطل وزور ظاهر بلا وثوق لهم، ولا اعتماد.
[67.21-26]
{ أمن هذا } الرازق المتكفل لأرزاقكم { الذي يرزقكم } ويسوق إليكم ما يسد رمقكم { إن أمسك } سبحانه { رزقه } بإمساك المطر، وسائر الأسباب والآلات التي تتوسلون بها إلى أرزقاكم، هل لكم متمسك تتمسكون به، وتثقون عليه سواه سبحانه أصلا؟! كلا وحاشا، ليس لكم إلا هذا { بل لجوا } تمادوا وأصروا على اللجاج، وصاروا دائما { في عتو } لدد وعناد { ونفور } [الملك: 21] عن الحق وقبوله تعنتا واستكبارا.
ثم قال سبحانه مستفهما على سبيل التوبيخ: { أ } يعتقدون الآثار الظاهرة في الأقطار من الوسائل والأسباب، ولم ينسبوها إلى المؤثر المسبب لها المختار، وسلكتم في هذا الطريق بأنواع الإنكار والإصرار { فمن } أي: فهل من { يمشي } ويمضي { مكبا } ساقطا { على وجهه } لوعرة طريقه، وظلمة سبيله { أهدى } إلى مقصده، وأرشد إلى مطلوبه { أمن يمشي سويا } مستقيما سالما عن التزلزل والسقوط، راكبا { على } متن { صراط مستقيم } [الملك: 22] وطريق واضح بلا عثور وقصور؟! مثل بهما سبحانه للمشرك المتشبث بالعقل، المنعزل عن الرشد والهداية، وللمؤمن المستمسك بالعروة الوثقى التي هي الشرع القويم الموصل إلى توحيد الحق.
{ قل } يا أكمل الرسل لمن أنكر وحدة الحق، واسقتلاله ف يمطلق التصرفات الواقعة في عالم الكون والفساد: { هو } سبحانه القادر المقتدر { الذي أنشأكم } وأظهركم من كتم العدم إنشاء إبداعيا { وجعل لكم السمع } لتسمعوا به المواعظ، والآثار والأخبار الصادرة عن أولي العزائم الصحيحة، المجتازين نحو فضاء اللاهوت بانخلاعهم عن كسوة الناسوت مطلقا { والأبصار } لتنظروا بها في ملكوت السماوات والأرض فتعتبروا منها إلى مبدعها العليم الحكيم { والأفئدة } لتتفطنوا بها إلى عجائب حكمته، وبدائع قدرته؛ كي تنكشفوا بوحدته، وتتشرفوا بوصلته، لكن { قليلا ما تشكرون } [الملك: 23] أي: الشاكرون الصارفون لهذه النعم العظام إلى ما خلقت لأجله، قليل في غاية القلة.
{ قل } يا أكمل الرسل لمن أنكر قدرتنا على الحشر والنشر، والحساب والجزاء على جميع الأمور الواقعة في النشأة الأخرى { هو } سبحانه العزيز الغالب، ذو القدرة والاختبار { الذي ذرأكم } أي: بثكم وبسطكم بمقتضى قدرته { في الأرض } التي هي محل الكون والفساد، وكلفكم على الإيمان والأعمال، واختبركم بالأوامر والنواهي { و } كما أبدعكم أولا بامتداد أظلاله، ورش نوره على مرآة العدم، أعادكم أيضا بقبض أضلاله وأنواره إلى ذاته، فثبت أنكم { إليه تحشرون } [الملك: 24] للجزاء، فيجازيكم على مقتضى ما قترفتم من المأمورات الإلهية.
{ ويقولون } من كمال استبعادهم وإنكارهم: { متى هذا الوعد } الموعود الذي وعدتم الجزاء والحساب، والثواب والعقاب فيه، أخبرونا عن وقوعه في أي زمان، وإن وقع؟ { إن كنتم صادقين } [الملك: 25] يعنون: النبي والمؤمنين.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما ألحوا عليك ، وألجئوك إلى التعيين: { إنما العلم } المتعلق لتعيين وقته { عند الله } لا يطلع عليه أحد من خلقه { وإنمآ أنا نذير } بمقتضى الوحي الإلهي { مبين } [الملك: 26] مظهر مبلغ ما يوحى إلي من عنده على وجهه، لا طريق لي بوقوع المعهود إلا الوحي، ولم يوح إلي تعيينه، فكيف أتكلم عنه؟! فعليكم ألا تستعجلوا وقوعه.
[67.27-30]
وبعدما تحقق وقوعه، وحل وقته { فلما رأوه } أي: العذاب الموعود في الآخرة { زلفة } قريبا منهم { سيئت وجوه الذين كفروا } أي: استودت وقبحت من شدة الكآبة والحزن المفرط { وقيل } لهم حينئذ من قبل الحق: { هذا } العذاب هو العذاب { الذي كنتم به تدعون } [الملك: 27] تطلبون وتستعجلون وقوعه مراء واستهزاء على سبيل التهكم، فالآن يلحقكم ما تنكرون به فيما مضى.
{ قل } يا أكمل الرسل لمشركي مكة بعدما تطيروا بموتك، وموت من معك من المؤمنين؛ ليتخلصوا من شروركم: { أرأيتم } أخبروني { إن أهلكني الله } العليم الحكيم بمقتضى قهره وجلاله { و } أهلك أيضا { من معي } من المؤمنين { أو رحمنا } بأن أخر آجالنا بمقتضى لطفه وجماله، ونحن مؤمنون مخلصون له، مقرون بأنه الفاعل على الإطلاق بالإدارة والاختيار، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد { فمن يجير } وينقذ { الكافرين } المنكرين على الله وإرادته، واختياره وألوهيته مطلقا { من عذاب أليم } [الملك: 28] نازل عليهم من لدنه سبحانه بشؤم ما اقترفوا من الكفر والعصيان، وأنواع الفسوق والطغيان؟!
{ قل } لهم يا أكمل الرسل بعدما تمادى نزاعهم، وتطاول جدالهم، ولم تنفعهم الدعوة والتبليغ كلاما خاليا عن وصمة المجادلة والمراء، منبعثا عن الحكمة والمصلحة: { هو الرحمن } المستعان المستوي على عروش الأكوان بكمال الاستيلاء والاستحقاق { آمنا به } مخلصين مستوثقين بحبل كرمه ووجوده { وعليه } لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية { توكلنا } وفوضنا أمورمنا كلها بالعزيمة الخالصة الصادقة، وأخذنا وكيلا، واعتقدناه حسيبا وكفيلا { فستعلمون من هو في ضلال مبين } [الملك: 29] أنحن أم أنتم؟!
{ قل } يا أكمل الرسل للمنكرين بوجود الصانع الحكيم على سبيل التبكيت والإلزام: { أرأيتم } أخبروني أيها المسرفون المكابرون { إن أصبح } أي: ظل وصار { مآؤكم غورا } غائرا إلى حيث لا يصل إليه السجال والدلاء بحبال وحيل { فمن يأتيكم بمآء معين } [الملك: 30] جار هامر، سهل المأخذ سوى الله رب العالمين؟.
فكيف تنكرون وجوده، مع أنكم مغمورون بسوابغ نعمه، معترفون بسوابق كرمه؟!
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المستمسك بعروة الشريعة المصطفوية التي لا عروة أوثق منها ولا جادة أقوم وأعدل أن تتشبث بها، وتعمل بمقتضاها، متوكلا على الرحمن المستعان، مفوضا أمورك كلها إليه على وجه الإيقان، معرضا عن جنود أمارتك ومقتضياتها، مجاهدا معها، مخاصما إياها حتى تصير مطمئنة راضية بما جرى عليها من القضاء، صابرة على ما أصابها من البلوى إلى أن صارت فانية عن هوياتها الباطلة باقية بهوية الحق وبقائه.
جعلنا الله ممن فني فيه، وبقي ببقائه بمنه وجوده.
[68 - سورة القلم]
[68.1-15]
{ ن } أيها النبي النائب عن الحق، الناظر بنور الله، النقي عن جميع الرذائل والآثام المنافية لمرتبة النبوة والولاية { و } حق { القلم } الأعلى { و } بحق { ما يسطرون } [القلم: 1] ويكتبون بها الملأ الأعلى من الأسماء والصفات المأمورة بتصويرات الأشياء الكائنة في النشأة الأولى والأخرى حسب آثار الأوصاف والأسماء الإلهية التي لا تعد ولا تحصى.
{ مآ أنت } يا أكمل الرسل المبعوث إلى كافة البرايا { بنعمة ربك } الذي رباك على الهداية العامة، والولاية المطلقة، وأعطاك من الفضائل والكمالات المتعلقة لمرتبتي النبوة والولاية { بمجنون } [القلم: 2] أي: ما أنت غافل عنها، ذاهل عن أداء حقها، جاهل بشكر نعمها ومولاها.
{ وإن لك } يا أكمل الرسل باحتمالك أعباء الرسالة والتبليغ، وتصبرك على أذيات أصحاب الزيغ والضلال { لأجرا } عظيما من عند الله { غير ممنون } [القلم: 3] منقطع أبد الآبدين؛ إذ ما يترتب على مرتبتك الجامعة من الكرامات اللائقة البديعة، لا انقطاع لها أصلا.
{ وإنك } من كمال تخلقك بالأخلاق الإلهية، وتحققك بقمام الخلة والخلافة { لعلى خلق عظيم } [القلم: 4] لا خلق أعظم من خلقك؛ لحيازتك وجمعك خلق الأولين والآخرين حسب جامعية مرتبتك.
وبالجملة: { فستبصر } يا أكمل الرسل { ويبصرون } [القلم: 5] أولئك المصرفون المفرطون بنسبتك إلى الجنون حين تبلى السرائر، وينكشف ما في الضمائر، وينزل العذاب على أهله.
{ بأييكم المفتون } [القلم: 6] أي: أيكم يفتن بالجنون: المؤمنون المهتدون بهدايتك، أو الكافرون الضالون بغوايتهم؟.
وبالجملة: { إن ربك } الذي رباك على الرشد والهداية { هو أعلم } بعلمه الحضوري { بمن ضل } وانحرف { عن سبيله } الموصل إلى توحيده { وهو } أيضا { أعلم بالمهتدين } [القلم: 7] المتمكنين منهم على جادة التوحيد، والصراط المستقيم الموصل إلى جنة الرضا، وروضة التسليم.
وبعدما سمعت نبذا من شأنك في شأنك في النشأة الأخرى: { فلا تطع } أيها النبي المجبول على الهداية والفلاح { المكذبين } [القلم: 8] المجبولين على الغواية و الضلال؛ يعني: مشركي مكة؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه سبحانه أن يطيعهم، ويقبل منهم دعوتهم.
فإنهم { ودوا } وأحبوا { لو تدهن } وتلائم معهم، وتوافقهم في دينهم { فيدهنون } [القلم: 9] معك، ويلاينونك ويوافقون معك، ولا يطعنون بدينك.
{ و } بعدما صرت متخلفا بالخلق العظيم، ومتصفا بالأوصاف الحميدة الإلهية { لا تطع } آراء ذوي الأخلاق الذميمة، والأطوار القبيحة مطلقا، سيما { كل حلاف } مبالغ بالحلف الكاذب؛ لترويج آراء ذوي الباطل الزاهق الزائل { مهين } [القلم: 10] مهان عند الناس؛ بسبب الكذب والحلف عليه.
{ هماز } عياب طعان يغتاب ويطعن بعض الناس عند بعضهم { مشآء } يدور بين الناس { بنميم } [القلم: 11] أي: ينقل حديث بعض عن بعض؛ حتى يوقع بينهم الفتنة والبغضاء.
{ مناع للخير } شحيح بخيل لا ينفق من ماله على من يستحقه، ويمنع أيضا صاحبه وصديقه عن الإنفاق؛ لئلا يلحق العار عليه خاصة { معتد } مجاوز الحد في أنواع الظلم، وأصناف الفسوق والعصيان { أثيم } [القلم: 12] مبالغ في اقتراف الإثم والعدوان بلا مبالاة.
{ عتل } غليظ الهيكل، قاس القلب، كريه المنظر، عريض القفا، متناه في البلادة { بعد ذلك } الاتصاف بالأوصاف المذمومة المذكورة { زنيم } [القلم: 13] دعي بين القوم، لا يكون له نسب معروف، ولا حسب مستحسن مقبول.
ومن كمال دناءته وخساسته { أن كان } أي: أنه كان { ذا مال } عظيم { وبنين } [القلم: 14] كثيرة مستحقة شكر المنعم المفضل، ولم يشكره.
بل يكفره؛ لأنه { إذا تتلى عليه آياتنا } الدالة على وحدة ذاتنا، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { قال } من كمال كفره وكفرانه، وبغيه وعدوانه: ما هذا إلا { أساطير الأولين } [القلم: 15] أي: الأكاذيب القديمة التي سطرها الأولون ودونوها.
قيل: هذا الوليد بن المغيرة الذي جمع الله فيه هذه المثالب الذميمة.
[68.16-27]
وبالجملة: لا تعطه يا أكمل الرسل، ولا تلتفت إلى ثروته وسيادته، فإنا بمقتضى قهرنا وجلالنا { سنسمه } ونعلمه بالكي { على الخرطوم } [القلم: 16] أي: أنفه، بحيث يعرف به في عرصات المحشر.
{ إنا } بمقتضى قهرنا وانتقاما من أهل مكة { بلوناهم } أصبناهم وابتليناهم بالقحط سبع سنين؛ لكفرانهم بنعمنا التي من معظمها: بعثة الرسول الذي هو أكمل الرسل منهم فكذبوه، وأنكروا دينه وكتابه، واستهزءوا به { كما بلونآ } وأصبنا { أصحاب الجنة } التي اسمها ضروان، كانت دون صنعاء بفرسخين لصالح، كان ينادي الفقراء وقت الصرام، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا لضاق علينا، فإن المال قليل والعيال كثير، وكان مال أبينا كثيرا وعياله قليلا، فحلفوا ليصرمنها مصبحين خيفة من المساكين، كما حكى عنهم سبحانه: { إذ أقسموا } يعني: أولاد الصالح وورثته { ليصرمنها } وليقطعنها { مصبحين } [القلم: 17] داخلين في الصباح.
{ ولا يستثنون } [القلم: 18] أي: لا يتكلمون بكلمة: إن شاء الله حين تقاولوا وتقاسموا.
وبعدما اتفقوا على تحريم الفقراء، ولم يفوضوا أمرهم إلى مشيئة الله { فطاف عليها } أي: على الجنة { طآئف } بلا مخصوص بها أحاط جميع جوانبها، لا لما في حواليها من البساتين الأخرى، ناشئة { من ربك } يا أكمل الرسل { وهم } حينئذ { نآئمون } [القلم: 19] في بيوتهم.
{ فأصبحت } الجنة، وصارت { كالصريم } [القلم: 20] أي: صارت كالتي صرم ثمارها بحيث لم يبق فيها شيء، أو صارت كالليل في أسودادها وإحراقها، أو كالنهار من غاية يبسه وجفافه.
{ فتنادوا } أي: نادى بعضهم بعضا حال كونهم { مصبحين } [القلم: 21] داخلين في الصباح المعهود للصرام.
{ أن اغدوا } واخرجوا غدوة أيها الملاك { على حرثكم إن كنتم صارمين } [القلم: 22] قاصدين صرمها وقطعها.
{ فانطلقوا } بأجمعهم نحوها { وهم } حينئذ { يتخافتون } [القلم: 23] ويكتمون ذهابهم عن الناس، ويسرون كلامهم فيما بينهم.
مخافة { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } [القلم: 24].
{ و } بالجملة: { غدوا على حرد } قصد ت ام، وسرعة كاملة { قادرين } [القلم: 25] على القطع بلا مشارك ومعين.
{ فلما } وصلوا إليها { رأوها } كذلك { قالوا } في بادئ الرأي: ما هي جنتنا هذه، بل { إنا لضآلون } [القلم: 26] طريقها.
ثم لما تأملوا في أمارتها قالوا على سبيل الإضراب عن القول الأول من كمال الأسف والحسرة: { بل نحن محرومون } [القلم: 27] حرمنا عنها وعن خيراتها؛ لخساستنا وخباثة نفوسنا.
[68.28-42]
وبعدما حرموا منها { قال أوسطهم } أعدلهم رأيا وعقلا على سبيل التقريع والتشنيع لإخوانه: { ألم أقل لكم } وقت مشورتكم على تحريم الفقراء، واتفاقكم على منعهم: { لولا تسبحون } [القلم: 28] أي: هلا تذكرون الله بالخير، ولم لا تشكرون نعمه بالإنفاق على الفقراء؛ حتى يزيد عليكم نعمه، وقد قال هكذا حين عزموا أولا على المنع، وشاوروا فيه.
وبعدما وقعوا في الشدة والبلاء اعترفوا بالظلم، حيث { قالوا } عن كمال الندامة والإنابة: { سبحان ربنآ } ننزهك من أن ينازعك في ملكك وسلطانك، أو يخالف حكمك أو شأنك { إنا كنا ظالمين } [القلم: 29] خارجين عن أمرك بالإنفاق، معرضين أنفسنا على عذابك وانتقامك.
تب علينا بفضلك وكرمك
إنك أنت التواب الرحيم
[البقرة: 129].
وبعد وقوع الواقعة { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } [القلم: 30] يعني: يلوم بعضهم بعضا، فإنهم منهم من أنكر، ومنهم من استصوب، ومنهم من أشار، ومنهم من سكت.
بالجملة: { قالوا } أي: الكل متحسرين: { يويلنا } وهلكتنا أدركينا { إنا كنا طاغين } [القلم: 31] مجاوزين حدود الله، مستحقين للويل والثبور.
وبعدما أنابوا إلى الله، وتضرعوا نحوه على محض الندم والإخلاص قالوا على سبيل الطمع والرجاء: { عسى ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ } ببركة التوبة والرجوع بالإخلاص والاعتراف بالخطا، والاستغفار بالندم، والانكسار التام، وقد روي أنهم أبدلوا خيرا منها { إنآ إلى ربنا راغبون } [القلم: 32] راجون منه العفو، طالبون الخير والمغفرة.
{ كذلك العذاب } لمن خرج عن مقتضى الحدود الإليهة في الدنيا { و } الله { لعذاب الآخرة } المعدة لأصحاب الغفلة عن الله { أكبر } وأعظم بأضعافها وآلافها { لو كانوا يعلمون } [القلم: 33] ويعتقدون وقوعها لاحترزوا عما يؤولهم إلى عذابها، ويوقعهم في وبالها ونكالها.
{ إن للمتقين } المتحفظين نفوسهم عن غضب الله، المتحرزين عن الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية { عند ربهم } الذي وفقهم إلى صيانة النفس عن المعاصي والمنكرات حين وصولهم إلى كنف حفظه، وجوار قدسه { جنات النعيم } [القلم: 34] أي: روضة الرضا، وجنة التسليم، لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، والله عنده أجر عظيم لمن وصل إليه وتحقق دونه.
ثم لما كان الكفرة يقولون: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وأصحابه لم يفضلونها هناك أيضا، بل نحن هناك أيضا أحسن حالا منهم كما في الدنيا، رد الله عليهم زعمهم هذا بقوله: { أفنجعل } يعني: أيزعم الكفرة المفسدون المفرطون أنا نجعل { المسلمين } المتصفين بالإيمان والأعمال الصالحة، المنزهين عن مطلق العصيان ولوازمه { كالمجرمين } [القلم: 35] الموصوفين بأنواع الجرائم والآثام الخارجة عن مقتضى الأحكام الإلهية الجارية على مقتضى الحكمة والعدالة.
{ ما لكم } أي: ما عرض عليكم، ولحق بكم أيها العقلاء حتى أخرجكم عن مقتضى العقل الفطري { كيف تحكمون } [القلم: 36] وتدعون مساواة المسيء مع المحسن، فيكف يفضله عند العليم الحكيم، المتقن في عموم الأفعال على مقتضى القسط والعدالة؟!
أتحكمون هذا بمقتضى رأيكم الفاسد أيها الضالون؟! { أم لكم كتاب } نازل عليكم من السماء { فيه } أي: في الكتاب { تدرسون } [القلم: 37] وتقرؤون هكذا؟!
{ إن لكم فيه } أي: في الكتاب { لما تخيرون } [القلم: 38] أي: ما تختارون لأنفسكم وتشتهونه من خير ما تجدون فيه.
{ أم لكم أيمان } عهود ومواثيق مؤكدة لازمة { علينا بالغة إلى يوم القيامة } مشتملة متضمنة لهذا { إن لكم لما تحكمون } [القلم: 39] به علينا من أن الخير والكرامة لكم عند الله أكثر مما لنا؟!
{ سلهم } يا أكمل الرسل، وفتش عنهم على سبيل التبكيت والإلزام: { أيهم } { بذلك } الحكم { زعيم } [القلم: 40] قائم يستدل عليه ويصححه، أهو؛ أي: الزعيم المستدل واحد منهم؟!
{ أم لهم } في هذا الدعوى { شركآء } متشاركون في هذا القول والحكم، وهم يقلدونهم؟! فإن ادعوا شركاء قل لهم نيابة عنا: { فليأتوا بشركآئهم } حتى يثبتوا الدعوة ويصححوها { إن كانوا صادقين } [القلم: 41] في هذه الدعوة.
وبعدما بهتوا اذكر لهم يا أكمل الرسل { يوم يكشف } الأمور الخطوب { عن ساق } أي: عن أصلها وحقيقتها، وتبلى السرائر برمتها، وارتفعت حجب الأغيار وسدل الاعتبار بأسرها، وبالجملة: لم يبق إلا الله الواحد القهار { ويدعون } حينئذ هؤلاء الأظلال الهالكون في تيه الحيرة والضلال { إلى السجود } والتذلل على وجه الانكسار لدى الملك الجبار { فلا يستطيعون } [القلم: 42] حينئذ؛ لمضي نشأة الاختيار، وأوان الاختبار.
[68.43-52]
بل صاروا { خشعة } ذليلة حاسرة { أبصرهم } هائمة عقولهم، وبالجملة: { ترهقهم } وتلحقهم { ذلة } محيطة بجميع جوانبهم { و } كيف لا يكونون كذلك يومئذ؛ إذ هم { قد كانوا } في نشأة الاخيتار { يدعون إلى السجود } حينئذ { وهم سلمون } [القلم: 43] متمكنون قادرون عليه، فلم يفعلوا عنادا ومكابرة؟! فالآن قد انقضى وقت الاعتبار، فلا ينفعهم التذلل والانكسار سواء قدروا أو لم يقدروا.
وبعدما بالغ المنكرون المكذبون في قدح القرآ، وطعنه، وأصروا على العناد والاستكبار.
{ فذرني } أي: خلني يا أكمل الرسل { و } وفوض علي أمر { من يكذب بهذا الحديث } يعني: القرآن، ولا تتعب نفسك في معارضتهم ومجادلهم، ولا تعجل في أخذهم وانتقامهم، فإني أنتقم منهم، وأكفيك مؤنة شرورهم، فاعلم أنا { سنستدرجهم } أي: ندنيهم درجة درجة إلى سوء العذاب بأن نهملهم في الدنيا، وننعم عليهم، ونديم صحتهم ونوفر عليهم أسباب الشقاوة حتى صاروا مغمرين في الكفر والطغيان، منهمكين في الضلال والعصيان، ثم نبطشهم { من حيث لا يعلمون } [القلم: 44] أي: من جهة وطريقة لا يفهمون أنه من جهته وطريقه مكرا عليهم، وزجرا لهم.
{ و } بالجملة: { أملي لهم } وأمهلهم كيدا عليهم، وهم لا يشعرون { إن كيدي متين } [القلم: 45] محكم لا يفهمه أحد، ولا يدفعه شيء.
أينكرون إرشادك وتبليغك إياهم عنادا ومكابرة؟! { أم } يظنون أنك { تسألهم أجرا } جعلا على إرشادك وتكميلك إياهم؟! { فهم من مغرم } أي: من أجل غرامة { مثقلون } [القلم: 46] بحملها فيعرضون عنك، ويكذبونك بسببها.
{ أم } يدعون الاطلاع على المغيبات، ويزعمون أن { عندهم الغيب } أي: لوح القضاء { فهم يكتبون } [القلم: 47] منه جميع ما يحكمون به من الإقرار والإنكار، وبه يستغنون عن تعليمك وإرشادك؛ لذلك يكذبونك وينكرون عليك؟!
وهم وإن بالغوا في العناد والإنكار { فاصبر } أنت يا أكمل الرسل { لحكم ربك } وهو تأخير نصرك عليهم، وإمهالهم زمانا على حالهم، ولا تستعجل في مؤاخذتهم { ولا تكن } في الاستعجال { كصاحب الحوت } يعني: أخاك يونس بن متى عليه السلام، فاستعجل العذاب القومه، ثم لما ظهرت أماراته خرج من بينهم مغاضبا عليهم حتى اقتحرم البحر
فساهم
[الصافات : 141] في السفينة
فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم
[الصافات: 141- 142]، اذكر { إذ نادى } ربه في بطن الحوت { وهو } حينئذ { مكظوم } [القلم: 48] مملوء غضبا وغيظا، مبتلى بالبلاء العظيم.
{ لولا أن تداركه } أدركته { نعمة من ربه } يعني: لو لم يوفقه سبحانه على نعمة التوبة، والإنابة والرجوع إليه على وجه الإخلاص والندامة { لنبذ } وطرح ألبتة { بالعرآء } أي: الأرض الخالية عن الشجر { وهو } حينئذ { مذموم } [القلم: 49] مليم مطرود من الرحمة والكرامة.
لكن أدركته العناية الإلهية، وانفتح له باب التوبة والاستغفار على وجه الندم والانكسار، فاستغفر ربه وتاب عليه، وأجاب له تفضلا عليه وامتنانا { فاجتباه ربه } أيضا لمصلحة النبوة فأرسله إلى قومه { فجعله من الصالحين } [القلم: 50] الكاملين في الصلاح، الفائزين بالعصمة والفلاح.
{ و } من غلظ غيظهم معك يا أكمل الرسل، وشدة شكيمتهم وضغينتهم بالنسبة إليك { إن يكاد } أي: إنه يقرب { الذين كفروا } بالله، وستروا محامد أخلاقك، ومحاسن شيمك { ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } أي: حين سمعوا منك تلاوة القرآن المعجز، وتعجبوا من بدائع نظمه، وغرائب أسلوبه، وكمال فصاحته وبلاغته، ومتانة تركيباته الفائقة على تراكيب عموم أرباب اللسن والفصاحة، وعجائب معانيه التي قرعت أسماعهم؛ لذلك حسدوك خفية، وقصدوا مقتك بإصابة العين { و } إن كانوا { يقولون } عند الملأ: { إنه لمجنون } [القلم: 51] يتكلم بكلام المجانين، ما هو من جنس كلام الناس تلبيسا على ضعفاء الأنام، وتغريرا لهم؛ لئلا يتفطنوا على عظمة شأنك، ورفعة قدرك ومكانك.
وهم في خلواتهم على ظنة تامة، وحسد كامل مما صار منك وظهر عليك من الخوارق { و } كيف يقولون لك: مجنون، وينسبون كلامك إلى الجنون، مع أنه { ما هو } أي: القرآن المعجز الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
[فصلت: 42]، { إلا ذكر } هداية ورشد وتبصرة كاملة، وتذكير شامل { للعالمين } [القلم: 52] أي: لعموم المكلفين ممن يوفقهم الحق إلى صراط مستقيم.
جعلنا الله ممن تذكر به، واتعظ بما فيه بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد - هداك الله إلى سواء السبيل - أن تتصبر على مشاق الطاعات، ومتاعب التكاليف الواقعة في سلوك طريق الفناء، سيما أذيات الزائفين الضالين، المائلين عن سبيل الرشاد، المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية، فعليك ألا تلتفت نحوهم، ولا تبال بشأنهم، ولا تستعجل بانتقامهم، فأن الله يكفي عنك مؤنة شرورهم، فعليك الاصطبار والوقار، والأمر بيد الله الحكيم الجبار، القدير القهار، فسينتقم من أهل البغي والإنكار على أبلغ وجه وآكده.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-15]
{ الحاقة } [الحاقة: 1] أي: النشأة الأخرى التي ظهرت فيها حقية الحق وثبوته، وتحقق دونها من على الحق، وفاز بجزائه، واستقر في دار السرور، ومن على الباطل ولحق العذاب المعد له، واستقر على الويل والثبور، ثم استفهم سبحانه عنها تهويلا وتعظيما فقال: { ما الحآقة } [الحاقة: 2] التي انقهرت دونها أظلال الأغيار، وأشباح العكوس والسوى مطلقا، وبروز الله الواحد القهار؟.
ثم زاد سبحانه على تهويلها بأن نفاها عن إحاطة علم حبيبه صلى الله عليه وسلم الذي جاء من عنده رحمة للعالمين أياها، فقال: { ومآ أدراك } أي: وأي شيء أعلمك وأفهمك يا أكمل الرسل { ما الحاقة } [الحاقة: 3] التي طويت دونها نفوس الكثرات والإضافات مطلقا، وفنيت عندها عكوس الأسماء والصفات رأسا؟ وبالجملة: انقهرت رسوم الناسوت، ولم يبق إلا الحي القيوم اللاهوت، ولا شك أنه متعال عن مطلق الإدراك والاطلاع المترتب على نشأة الناسوت.
قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمكذبين بها والمنكرين عليها: { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } [الحاقة: 4] أي: بالحاقة التي يقرع الأسماع سماع أهوالها، ويدهش العقول ذكر أفزاعها.
{ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } [الحاقة: 5] أي: بسبب طغيانهم بالتكذيب المتجاوز عن الحد، أهلكوا بصيحة هائلة مجاوزة عن حد الصياح.
{ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر } باردة في غاية البرودة { عاتية } [الحاقة: 6] شديدة العصف، بحيث لا يقدرون على دفعها وردها أصلا.
حين { سخرها } وسلطها { عليهم } سبحانه بمقتضى قهره وانتقامه { سبع ليال وثمانية أيام حسوما } متتابعات مترادفات، قاطعات قالعات { فترى } أيها المعتبر الرائي { القوم فيها } أي: في تلك الأيام والليالي { صرعى } هلكى { كأنهم أعجاز نخل خاوية } [الحاقة: 7] ساقطة عن أصولها، لا جوف لها.
{ فهل ترى لهم } أي: ما ترى لهم بعد تلك الأيام { من باقية } [الحاقة : 8] أي: لم يبق منهم نفس لها حياة بعد تلك الواقعة الهائلة.
{ و } بعد انقراض هؤلاء الغواة الطغاة، الهالكين في تيه الجهل والعناد { جآء فرعون } الطاغي المجاوز عن الحد والبغي والعدوان { ومن قبله } ويقدم عليه من الأمم الباغية، أو من معه من ملئه وأشرافه - على القراءتين - { و } جاء أيضا { المؤتفكات } هي قرى قوم لوط عليه السلام؛ والمراد: من فيها كلهم جاءوا { بالخاطئة } [الحاقة: 9] المعهودة التي هي إنكارهم بيوم الحاقة الحقة على وجه المبالغة.
وبعدما جاء الرسل إليهم بالوحي { فعصوا رسول ربهم } أي: عصى كل أمة برسولها المبعوث إليهم؛ ليديهم إلى طريق الرشاد، فكذبوه واستهزءوا معه، وبالغوا في تكذيبه وعصيانه سبحانه { فأخذهم } سبحانه { أخذة رابية } [الحاقة: 10] زائدة شديدة على مقتضى ما ازدادوا في العصيان والتكذيب.
اذكر يا أكمل الرسل شدة أخذنا إياهم { إنا لما طغا المآء } بعدما أمرناه بالطغيان في يوم الطوفان { حملناكم } أي: آباءكم الذين آمنوا بنوح عليه السلام، وأنتم في أصلابهم { في الجارية } [الحاقة: 11] أي: السفينة التي صنعها نوح بتعليمنا إياه قبل الطوفان بمدة، وأغرقنا الكفرة بأجمعهم إلى حيث لم يبق على الأرض سوى أصحاب السفينة أحد من البشر.
وإنما حملناكم عليها وأنجيناكم بها { لنجعلها } أي: هذه الفعلة الجميلة التي هي نجاة المؤمنين من الطوفان العظيم { لكم } أيها المستخلفون المكفلون { تذكرة } عظة وعبرة، وتبصرة دالة على كمال قدرة الصانع الحكيم، ومتانة حكمته { وتعيهآ } أي: تستحضر بها وتحفظها؛ أي: هذه التذكرة والتبصرة الكاملة { أذن واعية } [الحاقة: 12] حافظة للعبر والتذاكير المورثة للقلوب الصافية الخائفة خيرا كثيرا، ونفعا كبيرا.
وبعدما بالغ سبحانه في وصف القيامة، وشرح أهوالها وأحوالها، وذكر حال من كذب بها، ومآل أمره، أراد أن يشرح ما ظهر فيها من الأمور الهائلة والوقائع العظيمة عند قيامها ، فقال: { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } [الحاقة: 13] وهي النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.
{ و } بعد ظهور النفخة الأولى { حملت } ورفعت { الأرض والجبال } من أماكنها التي استقرتا عليها بأن أمر عليهما سبحانه بالتسيير والاضطراب بمقتضى القدرة الغالبة { فدكتا } انكسرتا وانبسطتا، فصارتا { دكة واحدة } [الحاقة : 14] أي: قاعا صفصفا، مساواة ملساء لا عوج لها ولا أمتا.
{ فيومئذ } أي: حين وقوع هذه الحالة الهائلة { وقعت الواقعة } [الحاقة: 15] وقامت القيامة الكبرى، والطامة العظمى.
[69.16-24]
{ وانشقت السمآء } أي: انحلت التئامها وتضامها، وتضعضعت بنيانها وأركانها { فهي يومئذ واهية } [الحاقة: 16] ضعيفة منهدمة، منحلة الأجزاء.
{ والملك } أي: جنس الملك ينزلون { على أرجآئهآ } أقطارها وأنحائها بعدما كانوا في حافاتها وحوافها { و } بعد تخريب السماوات وانهدامها { يحمل عرش ربك } يا أكمل الرسل { فوقهم } أي: فوق الملائكة النازلين على الأرجاء { يومئذ ثمانية } [الحاقة: 17] من الملائكة بعدما كانوا قبل ذلك أربعة؛ إذ حملة العرش في النشأة الأولى أربعة، وفي النشأة الأخرى ثمانية، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث، كأنه أشار بالأربعة إلى أمهات الصفات الإلهية التي هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، وبالثمانية إلى مجموع الصفات الذاتيةز
وبالجملة: { يومئذ تعرضون } أيها الأظلال الهالكة على الله عرض العسكر على السلطان، بحيث { لا تخفى } وتستر { منكم } في يوم العرض { خافية } [الحاقة: 18] سر مستور محجوب على الله؛ حتى يكون العرش للإطلاع، بل الكل في حضرة علمه حاضر غير مغيب ومخفي، وإنما تعرضون؛ ليظهر كمال القسط والعدالة الإلهية بالنسبة إلى عموم العباد حتى ظهر أن الحجة البالغة لله.
ثم فصل سبحانه أحوال العباد في الحساب والجزاء، وإتيان صحف أعمالهم؛ ليطالعوا فيها جميع ما اقترفوا في نشأة الاختبار، فقال: { فأما من أوتي كتبه بيمينه فيقول } لمن حوله فرحا مسرورا: { هآؤم اقرءوا كتبيه } [الحاقة: 19] أي: تعالوا اقرءوا كتابي.
{ إني ظننت } في النشأة الأولى ظنا منتهيا إلى الجزم واليقين { أني } اليوم { ملاق حسابيه } [الحاقة: 20] على الوجه الأحسن، وبواسطة إيقاني وجزمي، كنت أخاف ألا يصدر مني شيء أعاقب بسببه.
{ فهو } حينئذ { في عيشة راضية } [الحاقة: 21] صاحبها عنها؛ لكونها صافية عن مطلق الكدورات.
{ في جنة عالية } [الحاقة: 22] رفيعة مكانا ومكانة.
{ قطوفها } ثمارها { دانية } [الحاقة: 23] قريبة لمن ناولها، مهما أراد تناولها ناولها بلا مشقة وتعب.
ويقال لهم حينئذ: { كلوا واشربوا } من ثمار الجنة ومائها { هنيئا } سائغا مريئا، كل ذلك { بمآ أسلفتم } وقدمتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة { في الأيام الخالية } [الحاقة: 24] الماضية في نشأة الاختبار، فيصور لكم بهذه الصور البديعة في النشأة الأخرى.
[69.25-37]
{ وأما من أوتي كتبه بشماله فيقول } بعدما رأى تفصيل المعاصي والمقابح الصادرة منه في نشأة الاعتبار، متمنيا متحسرا من كمال الضجرة والأسف المفرط: { يليتني لم أوت كتبيه } [الحاقة: 25] هذا.
{ ولم أدر ما حسابيه } [الحاقة: 26] فيه.
{ يليتها كانت } هذه الحالة الآتية علي { القاضية } [الحاقة: 27] الفارقة الفاصلة بيني وبين الحياة، بحيث لم أصر حيا بعد هذه الحالة؛ حتى لا أفتضح على رءوس الأشهاد.
ثم قال متأسفا متحسرا على ما مضى عليه: { مآ أغنى } ودفع { عني } العذاب { ماليه } [الحاقة: 28] أي: ما نسب إلي من الأموال والأولاد والأتباع.
بل { هلك } وضاع { عني } اليوم { سلطانيه } [الحاقة: 29] أي: تسلطني على الناس، وتفوقي على الأقران.
وهو في أمثال هذه الهواجس على سبيل الحسرة والضجرة، قيل للموكلين من قبل الحق: { خذوه فغلوه } [الحاقة: 30] بالأغلال الضيقة الثقيلة.
{ ثم الجحيم } العظيم المعهود الذي يعد لأصحاب الثروة من الكفرة { صلوه } [الحاقة: 31] واطرحوه.
{ ثم في سلسلة ذرعها } قدرها طولا: { سبعون ذراعا } بذراع لا يعرف طولها إلا الله { فاسلكوه } [الحاقة: 32] وأدخلوه وألقوه به، بحيث يصير محفوفا بها، لا يقدر على الحركة أصلا.
وكيف لا يعذب كذلك { إنه } من كمال نخوته وتجبره { كان لا يؤمن بالله العظيم } [الحاقة: 33] المستحق للعبودية والإيمان عتوا وعنادا؟!
ولا شك أن من تعظم على الله العلي العظيم فقد استحق أعظم العذاب، واستوجب أشد النكال.
{ و } مع ذلك { لا يحض } أي: لا يحب ولا يرضى { على طعام المسكين } [الحاقة: 34] إن أطعمه أحد فضلا أن يطعمه هو نفسه من ماله.
{ فليس له اليوم ها هنا } أي: في يوم العرض والجزاء { حميم } [الحاقة: 35] قريب من أقاربه يحميه ويشفع له، كما في الدنيا.
{ ولا طعام } يأكله ويشبع منه { إلا من غسلين } [الحاقة: 36] أي: غسالة أهل النار، وما يسيل منهم من القيح والصديد.
وبالجملة: { لا يأكله } أي: الغسلين { إلا الخاطئون } [الحاقة: 37] أي: أصحاب الخطايا والعصيان العظام، والجرائم الكبيرة والآثام.
[69.38-52]
وبعدما شرع سبحانه من أحوال يوم القيامة وأهوالها وأفزاعها، وما جرى فيها من الوعيدات الهائلة، والمصيبات الشديدة الشاملة، فرع عليه قوله: { فلا أقسم } أي: لا حاجة في إثبات ما ثبت، وتبيين ما بين بالقسم { بما تبصرون } [الحاقة: 38] من المظاهر والمجالي.
{ وما لا تبصرون } [الحاقة: 39] منها من المقسمات التي نطلع أحدا عليها، فعليم أيها المكلفون أن تتوجهوا إلى القرآن المنزل عليكم على سبيل التبيان والبيان فتعتقدوا جميع ما فيه حقا صدقا، وتمتثلوا بأوامره، وتجتنبوا عن نواهيه.
{ إنه } أي: القرآن { لقول رسول كريم } [الحاقة: 40] نفسه، لا يتأتى منه المراء والافتراء على الله؛ إذ هو منزه عن أمثال هذه الرذائل المنافية لمنصب الرسالة التي هي مرتبة الخلافة والنيابة عن المرسل الكريم.
{ وما هو } أي: القرآن { بقول شاعر } كما يقوله في حقه بعض الكفرة الجاهلين بقدره وشأنه، لكن { قليلا ما تؤمنون } [الحاقة: 41] بصدقه وحقيته؛ لفرط عنادكم واستنكاركم.
{ ولا } هو { بقول كاهن } كما زعم بعضهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كاهن، لكن { قليلا ما تذكرون } [الحاقة: 42] وتتعظون أن ما فيه ليس من جنس كلام الكهنة، لا لفظا ولا معنى؛ إذ ما في القرآن من السرائر والأحكام، مشعرة بالحكمة المتقنة الإلهية التي هي بمراحل عن أحلام الكهنة المنحرفين عن جادة التوحيد والإسلام.
بل هو { تنزيل } صادر ناشئ { من رب العالمين } [الحاقة: 43] لتربية الكل على مقتضى الحكمة؛ ليستعدوا إلى فيضان التوحيد واليقين.
{ ولو تقول } أي: اختلق وافترى { علينا } محمد { بعض الأقاويل } [الحاقة: 44] من تلقاء نفسه بلا ومحي منا.
{ لأخذنا } ألبتة وانتقمنا { منه باليمين } [الحاقة: 45] أي: بالقدرة الكاملة، كما ننتقم من سائر العصاة والمفترين.
{ ثم لقطعنا منه } زجرا عليه، وتعذيبا له { الوتين } [الحاقة: 46] أي: نياط قلبه الذي منه عموم إدراكاته.
{ فما منكم } أيها المكلفون { من أحد } حينئذ { عنه } أي: عن أخذه وعذابه { حاجزين } [الحاقة: 47] مانعين، يمنعوننا عن بطشه وتعذيبه؛ يعني: إن محمد صلى الله عليه وسلم لا يفتري علينا شيئا لأجلكم أيها الكافرون، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم منا أنه لو افترى علينا شيئا من تلقاء نفسه، ونسبه إلينا ظلما وزورا لعذبناه عذابا شديدا ، بحيث لا يقدر أحد أن يدفع عذابنا عنه.
{ و } بالجملة: { إنه } أي: القرآن { لتذكرة } صادرة منا، متعلقة { للمتقين } [الحاقة: 48] المتحفظين أنفسهم عن مقتضيات قهرنا وجلالنا.
{ وإنا لنعلم } بمقتضى علمنا الحضوري { أن منكم مكذبين } [الحاقة: 49] أيها الكافرون المفترون، فنجازيكم على مقتضى تكذيبكم.
{ وإنه } أي: القرآن { لحسرة على الكافرين } [الحاقة: 50] في الدنيا والآخرة، يتحسرون في الدنيا من نزوله على المؤمنين وإن كانوا لا يظهرون، ويتحسرون أيضا في الآخرة بترتب الثواب على من صدقه وآمن به، وهم حينئذ يتحسرون ويتندمون على عدم الإيمان والتصديق به.
{ و } بالجملة: { إنه لحق اليقين } [الحاقة: 51] إلى من وصل إلى مرتبة اليقين الحقي، مترقيا من اليقين العلمي والعيني.
{ فسبح } يا أكمل الرسل من وصل بمرتبة حق اليقين { باسم ربك العظيم } [الحاقة: 52] الذي رباك على الخلق العظيم، وأوصلك إلى روضة الرضا وجنة التسليم بلطفه العميم.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، المتحقق بمرتبة حق اليقين - مكنك الله علهيا بلا تذبذب تلوين - أن تتأمل في مرموزات القرآن، وتتدبر في كشف السرائر المودعة فيه بقلب خال عن مطلق الوساوس والأوهام، صاف عن الكدورات الحاصلة من تقليدات ذوي الأحلام الخائضين فيه بمقتضى الآراء والأفهام الركيكة بلا تأييد من جانب الحكيم العلام، فلك أن تتوجه إليه بقلب حاضر غائب فارغ عن عموم الأشغال، مائل عن مطلق الزيغ والضلال الواقع فيه من أصحاب الظواهر القانعين منه بالقيل والقال بحسب تفاهم عرفهم.
وإياك إياك أن تكتفي بمجرد منطوقات الألفاظ، وتقتصر عليها بلا خوض في تيار بحاره الزخارات التي هي مملوءة بدرر المعارف والحقائق الموصلة إلى مرتبة حق اليقين.
وإذا خضت وغصت فيه على الفرصة المذكورة، واستخرجت من درر فوائده بقدر حوصلتك واستعدادك، حق لك أن تقول حينئذ: { وإنه لحق اليقين } [الحاقة: 51] وأن تكون مرجعا للخطاب الإلهي بقوله: { فسبح باسم ربك العظيم } [الحاقة: 52].
[70 - سورة المعارج]
[70.1-18]
{ سأل سآئل } أي: جرى على سبيل السيل والطغيان وادي الإمكان مملوءا { بعذاب } أي: أنواع من العذاب { واقع } [المعارج: 1].
{ للكافرين } الساترين بطبائعهم الكثيفة، وهوياتهم الباطلة السخيفة شمس الحق الظاهرة في الأنفس والآفاق بمقتضى الاستحقاق إلى حيث { ليس له دافع } [المعارج: 2] يرده ويدفعه عنهم.
{ من الله } أي: من قبله وجتهه؛ لتعلق مشيئته ومضاء قضائه المبرم على وقوعه لأعدائه، مع أنه سبحانه { ذي المعارج } [المعارج: 3] والدرجات العلية، والمقامات السنية من القرب والكرامات لأوليائه.
{ تعرج الملائكة } أي: حوامل آثار الأسماء والصفات الإلهية من مجردات العالم السفلي { والروح } الفائض من لدنه سبحانه على هياكل الهويات من ماديات عالم الطبيعة، والأركان القابلة لآثار العلويات من الأسماء والصفات المسماة بالأعيان الثابتة { إليه } أي: إلى الذات البحث الخالص عن مطلق القيود والإضافات بعدما جذبه الحق، وأدركته العناية الإلهية مترقيا من درجة إلى درجة { في يوم } وشأن لا كأيام الدنيا وشئونها، وإن قسته إلى أيام الدنيا، وأضفتشه إلى المسافة الدنية الدنيوية { كان مقداره خمسين ألف سنة } [المعارج: 4] من سني الدنيا، إلا أنهم يقطعونها بعد ورود الجذبة الإلهية، كالبرق الخاطف في أقصر من لمحة وطرفة.
وبعدما انكشف لك الأمر { فاصبر } يا أكمل الرسل على أذيات الأعداء واستهزائهم { صبرا جميلا } [المعارج: 5] لا يشوبه قلق واضطراب، وضجرة وسآمة، واستعجال للانتقام، وترقب بالعذاب على وجه التهتك، فإنه سيصيب لهم العذاب الموعود عن قريب.
{ إنهم } بمقتضى إنكارهم وإصرارهم { يرونه } أي: نزول العذاب { بعيدا } [المعارج: 6] في غاية البعد إلى حيث يعتقدونه محالا خارجا عن حد الإمكان.
{ ونراه قريبا } [المعارج: 7] من لمح البصر، بل هو أقرب منهم.
اذكر لهم يا أكمل الرسل كيف يعملون { يوم تكون السمآء } من القهر الإلهي { كالمهل } [المعارج: 8] أي: كالفضة المذابة، يسيل من مكانها من غاية الخشية الإلهية.
وتكون الجبال الملونة بالألوان المختلفة بعدما شمله النظر القهري الإلهي { وتكون الجبال كالعهن } [المعارج: 9] أي: كالصوف المصبوغ المندوف تذروه الرياح حيث شاءت.
{ و } حينئذ { لا يسأل حميم حميما } [المعارج: 10] أي: لا يسأل قريب عن قريبه، وصديق عن صديقه، بل يومئذ
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه
[عبس: 34-35].
وبالجملة: لا يلتفت أحد إلى أحد من شدة هوله وشغله بحاله إلى حيث { يبصرونهم } وينبهون عليهم من حال أقاربهم؛ ليرقوا لهم، وهم لا يتلفتون إليهم ولا يرقون لهم، بل { يود } ويحب { المجرم } حينئذ متمنيا { لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه } [المعارج: 11] الذين هم أحب وأعز عليه من نفسه في دار الدنيا.
{ و } كيف لا يود أن يفتدي بأحب الناس إليه بعد بنيه { صاحبته وأخيه } [المعارج: 12]؟!
{ وفصيلته } أقاربه وعشائره { التي } تؤؤيه؛ أي: تضمه إلى نفسه وقت حلول الشدائد ونزول الملمات، بل { تؤويه } [المعارج: 13].
{ ومن في الأرض جميعا } يعني: بل يود ويرضى أن يفتدي عن نفسه جميع من في الأرض من الثقلين { ثم ينجيه } [المعارج: 14] من عذاب ذلك اليوم الهائل.
{ كلا } وحاشا أن ينقذ وينجى المجرم بأمثال هذه الافتداءات من عذاب الله، بل كل نفس رهينة بما كسبت { إنها } أي: النار المسعرة التي اسمها { لظى } [المعارج: 15] أي: ذات لهب والتهاب تلتهب دائما.
{ نزاعة للشوى } [المعارج: 16] أي: تنزع من شدة التهابها الأطراف عن أماكنها، سيما جلدة الوجه والرأس.
وبالجملة: { تدعوا } وتجذب إلى نفسها { من أدبر } عن الإيمان، ولم يقبل عن قبول الدعوى { وتولى } [المعارج: 17] أي: انصرف عن الطاعة وإطاعة الداعي.
{ و } مع ذلك { جمع } مالا عظيما من حطام الدنيا { فأوعى } [المعارج: 18] أي: فجعله في وعاء، وكنزه من غاية حرصه وأمله، ولم ينفق في سبيل الله؛ لعدم وثوقه بكرم الله.
[70.19-30]
وبالجملة: { إن الإنسان } المجبول على الكفران والنسيان { خلق هلوعا } [المعارج: 19] شديد الحرص، قليل الصبر، طويل الأمل.
بحيث { إذا مسه الشر } أي: الضر والسوء صار { جزوعا } [المعارج: 20] يكثر الجزع، ويلح في كشف الأذى.
{ وإذا مسه الخير } أي: الفرح والسرور، والسعة والحضور صار { منوعا } [المعارج: 21] يبالغ في البخل الإمساك.
وهؤلاء كلهم هلكى في تيه الحرص والأمل، وقلة التصبر على البلوى، وكمال التكبر عند السراء { إلا المصلين } [المعارج: 22] المائلين المتوجيهن إلى الله في عموم الأحوال بمقتضى الرضا والتسليم، قانعين بما وصل إليهم من الإحسان والتكريم، صابرين على ما أصابهم من العليم، منفقين في سبيل الله مما استخلفهم عليه من الرزق الصوري والمعنوي طلبا لمرضاة الله، وهربا عن مساخطه.
{ الذين هم } من كمال تحننهم وشوقهم إلى الله { على صلاتهم } وميلهم نحوه { دآئمون } [المعارج: 23] ملازمون بحيث لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
{ والذين في أمولهم } المنسوبة إليهم، المسوقة لهم { حق معلوم } [المعارج: 24] كالزكاة والصدقات المؤقتة وغير المؤقتة.
{ للسآئل } الذي يسأل ويفشي فقره { والمحروم } [المعارج: 25] الذي لا يسأل ولا يفشي، بل من كمال صيانته وتحفظه واستغنائه يحسب من الأغنياء من كمال التعفف لذلك يحرم.
{ والذين يصدقون } ويعتقدون { بيوم الدين } [المعارج: 26] تصديقا مقارنا بصوالح الأعمال، ومحاسن الشيم والأخلاق.
{ والذين هم من عذاب ربهم } عاجلا وآجلا { مشفقون } [المعارج: 27] خائفون وجلون، وكيف لا يشفقون؟!
{ إن عذاب ربهم غير مأمون } [المعارج: 28] أي: من شأن المؤمن: ألا يأمن من عذاب الله وإن بالغ في طاعته وعبادته على وجه الإخلاص.
{ والذين هم لفروجهم حافظون } [المعارج: 29] لا يتجاوزون عن الحدود الإلهية.
{ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } من السراري { فإنهم غير ملومين } [المعارج: 30] عليهن، إلا أن المؤمن المخلص لو لم يبالغ في إتباع الشهوات المباحة أيضا لكان له خيرا كثيرا، وأجرا عظيما.
[70.31-44]
{ فمن ابتغى } وطلب { ورآء ذلك } الذي ذكر من السراري والأزاج { فأولئك } المسرفون المفرطون { هم العادون } [المعارج: 31] المجاوزون عن مقتضى الحدود الموضوعة بحفظ العفة.
{ والذين هم لأماناتهم } التي ائتمنوا بها { وعهدهم راعون } المعارج: 32] لحقوقها وحفظها على الوجه الأصلح الأحوط.
{ والذين هم بشهاداتهم } المودعة عندهم في حقوق المسلمين { قائمون } [المعارج: 33] حافظون، مستحضرون إلى وقت الأداء على وجهها.
{ و } بالجملة: المؤمنون المخلصون هم { الذين هم على صلاتهم } المكتوبة لهم في الأوقات المحفوظة المقدرة { يحافظون } [المعارج: 34] على وجهها مع كمال الخضوع والخشوع، ورعاية الشرائط والأركان والأبعاض، وسائر الآداب في المندوبات المتعلقة بالصلوات.
{ أولئك } السعداء المتصفون بهذه الصفات الكاملة مقبولون عند الله، متنعمون { في جنات مكرمون } [المعارج: 35] فيها بأنواع الكرامات تفضلا وإحسانا.
وبعد ظهر وميز حال المؤمنين وحال الكافرين عند الله في النشأة الأخرى { فمال } عرض ولحق { الذين كفروا } بك وبدينك وكتابك { قبلك } حواليك وجوانبك { مهطعين } [المعارج: 36] مترددين مسرعين.
{ عن اليمين وعن الشمال عزين } [المعارج: 37] متفرقين فرقا شتى يترددون حولك فرقة بعد فرقة، ويسمعون منك كلامك.
{ أيطمع كل امرىء منهم } بالتردد حولك { أن يدخل جنة نعيم } [المعارج: 38] بلا إيمان وتصديق وإطاعة مقارنة بالأعمال الصالحة؟!
{ كلا } وحاشا؛ أي: يحصل لهم هذا بلا سبق الإيمان، وامتثال الأوامر والأحكام، وكيف يدخلون أولئك الخبيثون في منازل القدس بلا تصفية وتزكية بالإيمان، وتحلية بالأعمال؟! { إنا خلقناهم } وقدرنا وجودهم { مما يعلمون } [المعارج: 39] وهو النطفة القذرة الخبيثة التي لا نسبة لها بالمقام المقدس عن الرذائل والكدورات، المطهر من أوساخ الطبيعة وقيل الهيولى الحاصلة من ظلمة عالم الناسوت، فلم يطهروا نفوسهم بنور الإيمان اللاهوتي، ولم يتصفوا بالعرفان لم يصلوا إلى رضوة الجنان، ولم يثابوا بنعيم الألوان.
{ فلآ أقسم } أي: لا حاجة لنا إلى القسم بإثبات كمال قدرتنا { برب المشرق } أي: عموم الذرات التي أشرقت عليها شمس الذات باعتبار الظهور { و } لا برب { المغرب } أي: جميع الذرات التي غربت فيها شمس الذات باعتبار الخفاء والبطون { إنا لقدرون } [المعارج: 40] بالقدرة الغالبة الكاملة.
{ على أن نبدل خيرا منهم } بأن نهلكهم ونستأصلهم المرة، ونأت بدلهم بخلق أفضل منهم وأصلح لإيمان وقبول دين الإسلام { و } بالجملة: { ما نحن بمسبوقين } [المعارج: 41] مغلوبين من أحد، إن أردنا هذا التبديل والتغيير، وتعلقت مشيئتنا به.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل كمال قدرتنا على إهلاكهم وتبديلهم { فذرهم } واتركهم وحالهم { يخوضوا } في الأباطيل الزائغة، والأراجيف الزاهقة { ويلعبوا } بالآيات الواضحة، والبينات اللائحة { حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون } [المعارج: 42] للحشر والنشر، وتنقيد الأعمال والحساب عليهم، والجزاء بمقتضاه.
اذكر لهم يا أكمل الرسل على وجه التذكير والتهويل { يوم يخرجون من الأجداث } أي: القبور بعد نفخ الصور، ويسرعون نحو الداع { سراعا } مسرعين { كأنهم إلى نصب } صنم ينصب؛ للزيادة والاستلام { يوفضون } [المعارج: 43] يسرعون؛ يعني: إسراعهم في تلك الحالة نحو الداعي يشبه إسراعهم نحو الصنم المنصوب للعبادات، ورفع الحاجات، كما هو عادتهم طول عمرهم في الدنيا.
فيكونون حينئذ { خشعة } ذليلة خاسرة { أبصرهم } بحيث لا يمكنمهم أن ينظروا إليه؛ إذ { ترهقهم } وتغشاهم { ذلة } عظيمة بدل ما يذلون داعي الله حين دعوته في الدنيا { ذلك اليوم } العظيم الهائل هو اليوم { الذي كانوا يوعدون } [المعارج: 44] في نشأة الاختبار فلم يصدقوا، ولم يؤمنوا له إلى أن يعاينوه.
جعلنا الله من زمرة المصدقين بيوم الدين.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي أن تعتقد، بل تعاين وتشاهد إن كنت من أولي الأبصار، وذوي القدر والاعتبار أن النشأة الأخرى هي دار القرار والخلود، بل العالم الموجود هي.
والنشأة الأولى إنما هي أظلال لا وجود لها، وعكوس لا ثبوت لها، وإضافات لا حقيقة لها، وتعينات لا تحقق لها.
فعليك ألا تستقر عليها إلا كالعابر، ولا تعيش فيها إلا كالمسافر، ما تدري ما أخي أن جميع ما عليها ظل زائل، وعموم لذاتها وشهواتها سراب بلا طائل؟!
إلام تتشبث بها بوما فيها، علام تستلذ بمزخرفاتها وملاهيها؟! فإنك عن قريب ستموت وما تدخر فيها سيضيع ويفوت، فلك أن تستعد لأخراج في أولاك، وتتزود لعقباك من دنياك.
وبالجمل: فلك أن تموت بالاختيار قبل هجوم الموت على وجه الاضطرار، فاعلم أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا متاع، وأن الآخرة هي دار القرار.
[71 - سورة نوح]
[71.1-10]
{ إنآ } من قمام جودنا { أرسلنا } أخاك يا أكمل الرسل { نوحا إلى قومه } حين انحرفوا عن جادة العدالة والقسط الإلهي، ووصينا له { أن أنذر } أي: بأن خوف وحذر { قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } [نوح: 1] مؤلم في غاية الإيلام، وهو عذاب الطوفان بعد نزول الوحي عليه.
{ قال يقوم } أضافهم إلى نفسه وناداهم؛ ليقبلوا إليه، ويهتدوا بهدايته وإرشاده { إني لكم نذير مبين } [نوح: 2] ظاهر الإنذار والتخويف بإذن العليم الحكيم، أرسلني ربي.
{ أن اعبدوا الله } الواحد الأحد الصمد، الحقيق بالألوهية والربوبية، القادر على أنواع الإنعام والانتقام { واتقوه } عن ارتكاب محارمه ومنهياته { وأطيعون } [نوح: 3] فيما بلغت لكم من أوامر الله ونواهيه، وامتثلوا بمقتضاها.
{ يغفر لكم } سبحاه { من ذنوبكم } إن استغفرتم منه سبحانه، وتبتم إليه مخلصين نادمين { ويؤخركم إلى } أقصى { أجل مسمى } مقدر عنده سبحانه بشرط أن تتصفوا بالإيمان والعمل الصالح { إن أجل الله } المقدر لآجال عباده على مقتضى الحكمة المتقنة { إذا جآء } على الوجه المقدر المقرر عنده { لا يؤخر } عن وقته، ولا يقدم عليه { لو كنتم تعلمون } [نوح: 4] وتعتقدون حكمة الحكيم، وكمال قدرته ومشيئته لعلمتم يقينا أن الأجل المقدر لا يبدل ولا يغير.
وبعدما بالغ نوح عليه السلام في دعوتهم وإرشادهم فلم يهتدوا، بل ما زادوا إلا إصرارا وإضرارا، وعنادا واستكبارا { قال } نوح مناجيا إلى ربه على وجه التضرع بعدما بالغوا في الإنكار والاستكبار: { رب } يا من رباني على الرشد والهداية { إني دعوت قومي } بمقتضى وحيك وإلهامك علي { ليلا ونهارا } [نوح: 5] أي: دائما بلا مطل وتسويف.
{ فلم يزدهم دعآئي } ودعوتي إياهم { إلا فرارا } [نوح: 6] عن الإيمان والإطاعة وإصرارا على الكفكر والطغيان.
{ وإني } صرت زمانا { كلما دعوتهم } على قصد أن يقبلوا دعوتي { لتغفر لهم } بمقتضى عفوك ورحمتك ذنوبهم وزلتهم { جعلوا أصابعهم } وقت دعوتي إياهم { في آذانهم } أي: سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة { و } مع ذلك لا يقتصر عليه، بل { استغشوا } أي: غطوا ولفوا على رءوسهم { ثيابهم } لئلا يروا صورتي، ولا يسمعوا قولي من شدة كراهتهم عن دعوتي، وشكيمتهم معي { و } بالجملة: { أصروا } على ما هم عليه كانوا { واستكبروا } علي { استكبارا } [نوح: 7] عظيما إلى حيث شتموني شتما قبيحا، وضربوني ضربا مؤلما فجيعا.
{ ثم } بعدما جرى منهم ما جرى { إني دعوتهم } بمقتضى أمرك وحكمك إياي يا رب { جهارا } [نوح: 8] على رءوس الملأ.
{ ثم إني أعلنت لهم } وصرحت بدعوتهم { وأسررت لهم } أيضا في الخلوات { إسرارا } [نوح: 9] على سبيل الكناية والإشارة، وبالجملة: دعوتهم مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة في المحافظ والخلوات، وبالصرائح والكنايات.
{ فقلت } لهم في دعوتي إياهم: { استغفروا ربكم } وتوبوا إليه { إنه كان غفارا } [نوح: 10] يغفر لكم ذنبوكم، ويعفو عنكم زلاتكم.
وبعدما بالغوا في الإنكار والإصرار حبس الله عليهم القطر أربعين سنة، وأعقم أرحام نسائهم، فقال نوح: { استغفروا ربكم إنه كان غفارا } [نوح: 10].
[71.11-20]
{ يرسل السمآء عليكم مدرارا } [نوح: 11] بعدما حبسها زمانا.
{ ويمددكم بأموال وبنين } بعدما منعها عنكم بكفركم وشرككم، وبعد استغفاركم أنزل عليكم مدرارا { و } بعد أنزال المدرار { يجعل لكم جنات } بساتين منتزهات { ويجعل لكم } في خلالها { أنهارا } [نوح: 12] جاريات.
{ ما لكم } وأي شيء عرض عليكم أغفلكم عن الله حيث { لا ترجون } ولا تأملون { لله } المستحق لأنواع العبودية والتعليم { وقارا } [نوح: 13] توقيرا وتبجيلا لائقا لجلاله وجماله، وحسن فعاله معكم؟!
{ و } الحال أنه { قد خلقكم أطوارا } [النوح: 14] مختلفة ومترقية في الكمال حيث قدر وجودكم من جمادات العناصر، ثم ركبكم إلى أن صرتم من أغذية الإنسان، ثم صيركم أخلاطا، ثم نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، ثم عظاما ولحوما، ثم أنشأنك خلقا عجيبا قابلا للخلافة والنيابة، ثم بعد ذلك يوصلكم في النشأة الأخرى إلى ما يوصلكم.
وبالجملة: فبأي آلاء ربكم تكذبون أيها المكذبون المنكرون، مع أنه وسع عليكم من زوائد النعم، وموائد الكرم والإفضال ما لا مزيد عليه من كمال قدرته، ومتانة حكمته؟!
{ ألم تروا } أيها الراءون المعتبرون { كيف خلق الله } بقدرته الكاملة { سبع سموت طباقا } [نوح: 15] مطبقات بعضها في جوف بعض إلى حيث ينتهي الكل إلى كرة واحدة وقعت مظهرا للوحدة الذاتية، وإن كان كل ذرة من ذرائر الكائنات المستقلة في مظهرية الوحدة الذاتية؟!
{ وجعل القمر فيهن } أي: في السماوات { نورا } مقتبسا من شمس الذات { وجعل الشمس } المشرقة المنيرة { سراجا } [نوح: 16] واضحا، ودليلا لائحا على شروق شمس الذات على مظاهر عموم الذرات المنعكسة منها.
{ و } بالجملة: { الله } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { أنبتكم من الأرض } اليابسة الميتة { نباتا } [نوح: 17] إنباتا إبداعيا؛ أي: أنواعا وأصنافا من النبات، ورباكم إلى أن صرتم حيوانا، ثم إنسانا، ثمذ كلفكم من التكاليف الشاقة؛ لتعززوا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{ ثم } بعد حلول أجلكم المقدر { يعيدكم فيها } مقبورين { و } بعد ذلك { يخرجكم } منها في المحشر { إخراجا } [نوح: 18] إعادة في النشأة الأخرى؛ لتنقيد ما كلفكم عليه في النشأة الأولى، وترتب الجزاء عليه تتميما للحكمة المتقنة البالغة، وتكميلا لها.
{ والله } القادر المقتدر { جعل لكم الأرض بساطا } [نوح: 19] ممهدة تتقلبون عليها وتترددون.
{ لتسلكوا } وتتخذوا { منها } حيث شئتم { سبلا فجاجا } [نوح: 20] طرقا واسعة متسعة، فبأي آلاء ربكم ونعمائه تنكرون أيها الكافرون؟!
[71.21-28]
وبالجملة: كلما بالغ نوح عليه السلام في دعوتهم بالغوا في الإصرار والعناد، وبعدما اضطر { قال نوح رب إنهم عصوني } في جميع ما أمرتهم به، وانصرفوا عني وعن دعوتي، واستهزءوا معي { واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا } [نوح: 21] أي: اتبعوا سادتهم ورؤساءهم المعروفين، المشهورين بكثرة الأموال والأولاد الموجبة للثروة والجاهة عند الناس، وإن كان أموالهم وأولادهم لم يزدهم إلا خسارا وبوارا في النشأة الأخرى.
{ و } بالجملة: { مكروا } لهم أولئك المكارون { مكرا كبارا } [نوح: 22] بلغ غاية كبره، ونهاية شدته في التلبيس والتغرير.
وذلك احتيالهم على الناس إلى حيث لم يقبلوا دعوة نوح عليه السلام، مع كونه مؤيدا بأنواع المعجزات، بل سفهوه، واستهزءوا متمسرخين مستهزئين { وقالوا } لهم في نصحهم وتذكيرهم: { لا تذرن آلهتكم } أي: عبادتها، سيما بقول هذا السفيه المختبط، المختل الرأي والعقل { ولا تذرن } خصوصا { ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } [نوح: 23] فإنها غرانيق عظام ترتجى منها الشفاعة على عصاة العباد، فعليكم ألا تتركوا عبادة آلهتكم بقول هذا الطريد السفيه.
{ و } بالجملة: { قد أضلوا كثيرا } من الناس بتزويراتهم الباطلة، وتغريراتهم الكاملة الشاملة لأهل الخبرة والضلال { و } بالجملة: { لا تزد الظالمين } يا رب { إلا ضلالا } [نوح: 24] فوق ضلال، وإصرارا غب إصرار.
ثم قال سبحانه بعدما بالغ نوح عليه السلام في التضرع والمناجاة: { مما خطيئاتهم } أي: من أجل وفور خطيئاتهم وكثرتها { أغرقوا } بالطوفان أولا { فأدخلوا نارا } نوعا من عذاب النار عقيب عذاب الطوفان في البرزخ { فلم يجدوا لهم } حين طغيانن الماء وطوافه عليهم { من دون الله } القادر المقتدر على دفع المضار { أنصارا } [نوح: 25] شفعاء من الأصنام كما زعموا، فلم ينصرهم الله فهلكوا بالغرق.
{ و } بعدما آيس عن إيمان قومه، وقنط عن فلاحهم وصلاحهم أخذ في الدعاء عليهم، حيث { قال نوح رب } يا من رباني على فطرة الهداية والرشاد { لا تذر على الأرض } التي إنما وضعت؛ للعبادة والطاعة { من الكافرين } المصرين على الكفر والعناد والإلحاد عن السداد { ديارا } [نوح: 26] أحدا يدور عليها.
{ إنك } يا ذا الحكمة المتقنة البالغة { إن تذرهم } على الأرض على ما كانوا { يضلوا عبادك } المؤمنين بك، المصدقين بفردانيتك ووحدانيتك { ولا يلدوا } ولا يتناسلوا { إلا فاجرا } خارجا عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة؛ لحفظ العدالة { كفارا } [نوح: 27] ستارا للحق بترويج الباطل عليه، إنما دعا عليهم بهذا بعدما جربهم ألف سنة إلا خمسين سنة، فعرف منهم جميع خصائلهم المذمومة.
ثم ناجى ربه لنفسه ولوالديه، ولمن اهتدى بهدايته وإرشاده فقال: { رب } يا من رباني بمقتضى كرمك وجودك لحكمة معرفتك وتوحيدك { اغفر لي } بفضلك وإحسانك { ولوالدي } - اسم أبيه: لمك بن متوشلخ، واسم أمه: شمخا بنت أنوش - وكانا مؤمنين موحدين { و } اغفر أيضا بفضلك { لمن دخل بيتي } سفينتي وحرزي، أو ديني ومذهبي { مؤمنا } موقنا بإرشادي وتكميلي { وللمؤمنين والمؤمنات } من الأمم السابقة واللاحقة إلى يوم القيامة { ولا تزد الظالمين } الخارجين عن عروة عبوديتك، وربقة رقيتك { إلا تبارا } [نوح: 28] إهلاكا وخسارا، عذابا وبوارا.
ونحن ندعو أيضا على الكافرين المصرين بكفرهم وشركهم، الظاهرين على أهل التوحيد بأنواع الجدال والمراء بما دعا به نوح عليه السلام ونرجو أيضا أن نكون من الناجين ببركة دعائه، ودعاء نبينا صلى الله عليه وسلم.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، الداخل في سفينة الشريعة المصطفوية المنجية لنفسك عن طوفان القوى البشرية، وطغيان اللذة البهيمية المانعة عن التلذذ باللذات المعنوية الروحانية أن تتشبث بذيل همة المرشد الكامل، المكمل الذي يرشدك إلى سرائر الشريعة وحكم الأحكام الموردة فيها، مصالح الأوامر والنواهي بإرادة صادقة، وعزيمة خالصة عن شوب الرياء والرعونات العائقة عن الميل الفطري، والفطنة الجبلية التي جبل الناس عليها، إذا خلى طبعه بلا تصرف من شياطين الوهم والخيال، وجنود الأمارة على مقتضى القوى.
وفقنا الله لما يجب ويرضى، وجنبنا عن إلميل إلى البدع والهوى.
[72 - سورة الجن]
[72.1-7]
{ قل } يا أكمل الرسل لمن أنكر رسالتك على الثقلين: { أوحي إلي } من قبل الحق { أنه استمع } عند قراءتك القرآن { نفر } طائفة، وهو يطلق على ما بين الثلاثة إلى العشرة { من الجن } وهو جنس من جنود الحق ومظاهره، كجنس الملك، لا مناسبة بيننا وبينهم حتى ندركهم ونعرف حقيقتهم، وما لنا إلا الإيمان بوجودهم وبأمثالهم؛ إذ ما يعلم جنود الحق إلا هو، ولا يسع لنا الإنكار، سيما بعد ورود القرآن على وجودهم وتحققهم.
وبعدما سمعوا القرآن، ورجعوا إلى أصحابهم { فقالوا إنا سمعنا } من إنسان { قرآنا } كتابا { عجبا } [الجن: 1] بديعا نظما وأسلوبا، غريبا معنى ودلالة، حاويا للمعارف والحقائق الإلهية، محتويا على دقائق طريق التوحيد والعرفان، ما هو من جنس كلام البشر، بل هو خارج عن مداركهم، متعال عن مشاعرهم.
{ يهدي إلى الرشد } والهداية الموصلة إلى مقصد الوحدة الذاتية { فآمنا به } واهتدينا بهديته إلى توحيد الحق { ولن نشرك } أبدا { بربنآ } الذي وفقنا على توحيده { أحدا } [الجن: 2] من مظاهره ومصنوعاته؛ إذ المصنوع المربوب لا يصير شريكا للرب الصانع القديم.
{ و } كيف يكون للرب الواحد الأحد الصمد شريكا، مع { أنه تعالى } تبارك وتقدس { جد ربنا } أي: عظمته وكبرياؤه من أن يكون له شريك في ملكه وملكوته، مع أنه الصمد الذي { ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } [الجن: 3] فيكف يتخذ شريكا، مع أ،ه هو الواحد الأحد الصمد على الإطلاق، لم يكن له شريك في الملك ونظير في الوجود؟! فكبره تكبيرا، ونزه ذاته عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
{ و } بعدما آمنا بوحدة الحق وعرفناه وحيدا فريدا بلا شبيه ولا نظير، ولا وزير ولا مشير، عرفنا { أنه } ما { كان يقول سفيهنا } إبليس المردود المطرود { على الله } المقدس ذاته عن مطلق المماثلة والمشاكلة في الوجود القيومية، وسائر الصفات الذاتية المصححة للألوهية والربوبية قولا { شططا } [الجن: 4] باطلا بعيدا عن الحق بمراحل، مجاوزا عن الحد في الإفراط، تعالى شأنه عما ينسب إليه المبطلون المفرطون.
{ وأنا } كنا قبل انكشافنا بوحدة الحق، وتحققنا بمرتبة الشهود { ظننآ أن } أي: إنه { لن تقول الإنس والجن } أي: جنس الإنس والجن المجبولين على فطرة العبودية والعرفان { على الله } المعبود على الإطلاق { كذبا } [الجن: 5] قولا زورا باطلا على سبيل الافتراء والمراء؛ لذلك اتبعناهم فيما قالوا ظلما وعدوانا، وبعدما ظهر الحق، وكوشفنا بحقيقة الأمر تبرأنا عنهم وعن أقوالهم، وتبنا إلى الله، والتجأنا بكنف حفظه وجواره.
أعاذنا الله بلطفه من زيغ الزائغين، وإضلال الضالين المضلين.
{ و } كنا من قبل انكشافنا بوحدة الحق { أنه } أي: الشأن { كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } عند مرورهم بقفر، إذا أمسوا فيها كانوا يقولون: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، ومع استعاذتهم واستعانتهم { فزادوهم } أي: الجن والإنس { رهقا } [الجن: 6] كبرا وعتوا، يختطفون عليهم ويخطبونهم.
{ و } ما ذلك الكبر والطغيان منهم بعدما استعاذوا إلا { أنهم } أي: الجن { ظنوا } وزعموا { كما ظننتم } وزعمتم أيها الناس الموسومون بالجهل والنسيان، والإنكار والطغيان { أن لن يبعث الله } القادر المقتدر على الإعادة والإبداء { أحدا } [الجن: 7] من الجن والإنس؛ حتى يستوفي عليه حسابه وجزاءه؛ لذلك يجترئون ويزيدون في الإرهاق والطغيان، سيما الاستعاذة والإلجاء.
[72.8-13]
{ وأنا } كنا قبل نزول القرآن { لمسنا السمآء } أي: طلبنا البلوغ إليها، والصعود نحوها؛ لنسترق من أخبار الملائكة، ونخبر بها الكهنة، ونوقع الفتنة في العالم السفلي { فوجدناها } أي: السماء اليوم { ملئت } وامتلأت { حرسا } أي: حراسا حافظين { شديدا } أقوياء على الحفظ والحراسة { وشهبا } [الجن: 8] جمع شهاب، وهو المضيء المتراكم من النار، نرجم بها ونطرد من حواليها.
{ و } بالجملة: { أنا كنا نقعد منها } أي: من السماء { مقاعد } صالحة { للسمع } والاستماع { فمن يستمع الآن } بعد نزول القرآن في تلك المقاعد { يجد له } وعنده { شهابا رصدا } [الجن: 9] راصدا قاصدا له، يرجمه ويمنعه من الاستماع.
{ وأنا } اليوم { لا ندري } ونعلم { أشر } وفتنة { أريد بمن في الأرض } أي: بالساكنين عليها بحراسة السماء، ومنع أخبارها عنهم { أم أراد بهم ربهم رشدا } [الجن: 10] يهديهم إلى التوكل والتسليم، وكمال تفويض أمورهم إلى العليم الحكيم، بحيث لا يحترزون عما جرى عليهم من قضائه بأخبار السماويين؟.
{ وأنا } أي: نحن المخبورون { منا الصالحون } الأبرار المؤمنون، الآمنون الأمينون لا يختلط بالأخبار المسموعة من الأكاذيب { ومنا } قوم { دون ذلك } لا أمانة لهم حتى يؤدوا الأخبار على وجهها، بل يوقعون الفتن والمحن بين الناس؛ إذ { كنا طرآئق } أي: طرائق ومذاهب { قددا } [الجن: 11] مفترقة مختلفة؛ لذلك منعنا بأجمعنا عن استراق الأخبار السماوية، وانحصر الأمر بالوحي الإلهي؛ حتى لا يختل أمر النظام الموضوع على القسط والعدالة الإلهية.
{ وأنا } بعدما كوشفنا بهداية القرآن، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم تركنا ما كنا علين من الضرر والإضرار لعباد الله؛ إذ { ظننآ } بل علمنا يقينا { أن لن نعجز الله } القادر المقتدر على أنواع الانتقام كائنين { في الأرض ولن نعجزه } أيضا { هربا } [الجن: 12] منه سبحانه إلى السماء، أو إلى أي مكان شئنا.
{ وأنا لما سمعنا الهدى } أي: القرآن الموضح لطريق التوحيد { آمنا به } واهتدينا بهدايته { فمن يؤمن بربه } ويوقن بوحدانيته { فلا يخاف } أي: فهو لا يخاف { بخسا } نقصا في الجزاء والثواب { ولا رهقا } [الجن: 13] ذلة تذله في الدارين؛ لأن من آمن اعتدل، ولم يبخص حق أحد، ولم يذله بظلم، فكذلك لا يبخص ولا يظلم.
[72.14-22]
{ وأنا } بعدما سمعنا الهدى والرشد ما كنا نؤمن ونهتدي جميعا، بل { منا المسلمون } المنقادون لحكم الله، وأوامره ونواهيه الواردة في كتابه، المسلمون أمورهم كلها إليه سبحانه { ومنا القاسطون } الجاهلون المائلون عن الهداية، المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية { فمن أسلم } منا، واعتدل وسلم { فأولئك } المسلممون المسلمون { تحروا } واجتهدوا ففازوا { رشدا } [الجن: 14] يوقظهم عن سنة الغفلة، ويوصلهم إلى فضاء الوحدة.
{ وأما القاسطون } الجائرون الحائرون في تيه الطغيان والكفران { فكانوا لجهنم } البعد والخذلان، وسعير الطرد والحرمان { حطبا } [الجن: 15] توقد بهم النار، كما توقد بعصاة الإنس وطغاتهم.
ثم قال سبحانه: { وألو } أي: وأن الشأن والأمر أنه؛ أي: الجن والإنس المجبولين على فطرة التكليف { استقاموا } واعتدلوا { على الطريقة } أي: جادة المعرفة والتوحيد { لأسقيناهم } تلطفا لهم، وترحما عليهم { مآء } محييا لأراضي أجسامهم الميتة بسموم الإمكان، وبحموم الأماني الصاعدة من نيران الطبيعة { غدقا } [الجن: 16] كثيرا إلى حيث يجعل لهم روضة من رياض الجنان.
وإنما فعلنا معهم ذلك { لنفتنهم } ونختبرهم { فيه } أي: في التنعم والترفه، كيف يشكرون للنعم؟ وكيف يواظبون على أداء حقوق الكرم؟ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ويزيد عليها { ومن يعرض عن ذكر ربه } وينصرف عن طاعته وعبادته، ويكفر بنعمه، ولم يواظب بأداء حقوق كرمه { يسلكه } ويدخله { عذابا صعدا } [الجن: 17] يصعد عليه، ويعلو فوقه، وبالجملة: عذابا شاقا شديدا، قاهرا عليه عاليا.
ثم قال سبحانه على سبيل التوجيه والتعليم لخلص عباده المؤمنين، والتوبيخ والتعريض للمشركين: { و } اعلموا أيها المكلفون من الثقلين { أن المساجد } المبنية؛ للميل والتقرب نحو الحق مختصة { لله } خاصة خالصة { فلا تدعوا } وتعبدوا فيها { مع الله } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الشريك والولد { أحدا } [الجن: 18] عن مظاهره ومربوباته.
{ و } بعدما علمتم هذا بتعليم الله إياكم اعلموا { أنه لما قام عبد الله } أي: النبي المؤيد من عنده سبحانه بأنواع العناية والكرامة المستلزمة لأنواع العبادة والإطاعة في المسجد الحرام المعد؛ لعباده العليم العلام، القدوس السلام { يدعوه } ويعبده، ويتذلل نحوه { كادوا } وقاربوا مشركي الجن والإنس { يكونون عليه } ويزدحمون حوله متعجبين { لبدا } [الجن: 19] متراكمين، كلبدة الأسد، وهو مستغرق في صلاته بلا التفات منه إليهم إلى أن أوحى إليه بما هم عليه من التعجب والتحير من أمرهم.
فقيل له من قبل الحق: { قل } يا أكمل الرسل للمزدحمين المتعجبين: { إنمآ أدعوا } وأعبد { ربي } الذي رباني على كمال المعرفة والإيقان، وأرسلني أن أدعو عموم المكلفين إلى توحيده { ولا أشرك به } ومعه { أحدا } [الجن: 20] من مظاهره ومصنوعاته.
فإن قالوا: هل لك أن تشاركنا معك في عبادتك وخضوعك؟ { قل } لهم يا أكمل الرسل: { إني لا أملك لكم } من تلقاء نفسي { ضرا } يضركم به ويعذبكم إن أردت إضراركم وتعذيبكم { ولا رشدا } [الجن: 21] يرشدكم به ويهديكم إن أردت هدياتكم ورشادكم، بل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا، فكيف لكم؟! بل ما
إن أتبع إلا ما يوحى إلي
[الأنعام: 50] والأمر بيد الله العليم الحكيم.
فإن قالوا: ما فائدة عبادتك وتخصيصها أياه؟ { قل } لهم يا أكمل الرسل: لم لم أعبد ربي، ولم أخصصه بالعبادة، مع { إني } أعلم منه سبحانه أنه { لن يجيرني } ويحفظني ويمنعني { من } عذاب { الله } المنتقم الغيور { أحد } من مظاهره، لو أراد عذابي { ولن أجد } أبدا { من دونه ملتحدا } [الجن: 22] ملجأ وملاذا ينقذني من بطشه وعذابه، لو جرى مشيئته سبحانه على تعذيبي؟!
وبالجملة: لا أملك لكم، ولا لنفسي ضرا ولا نفعا.
[72.23-28]
{ إلا بلاغا } وتبليغا { من الله } ما أوحى إلي { و } سوى أداء { رسالاته } التي أرسلني بها، وما لي سوى الإبلاغ والتبليغ { و } من جملة ما أوحي لي: إنه { من يعص الله } ويعرض عنه وعن عبادته من عباده { و } لم يصدق { رسوله } المستخلف منه، القائم بأمره { فإن له } أي: حق وثبت له { نار جهنم } في النشأة الأخرى، وبالجملة: صار العاصون المعرضون { خالدين فيهآ أبدا } [الجن: 23] لا نجاة لهم منها أصلا.
وهم لا يزالون لى عصيانهم بالله، مستظهرين بما معهم من الجاه والثروة، وكثرة الأموال والأولاد في نشأتهم الأولى { حتى إذا رأوا ما يوعدون } في النشأة الأخرى { فسيعلمون } حينئذ { من أضعف ناصرا وأقل عددا } [الجن: 24] النبي وأتباعه، أم المشركون ومن معهم؟.
وبعدما سمع المشركون: { إذا رأوا ما يوعدون } قالوا على سبيل الإنكار الاستبعاد: متى يكون؟ فقيل من قبل الحق: { قل } يا أكمل الرسل: إنه كائن لا محالة، لكن وقته مفوض إلى علم الله { إن أدري } أي: ما أعلم { أقريب ما توعدون } أي: وقوعه وقيامه { أم يجعل له } ولوقوعه { ربي أمدا } [الجن: 25] بعيدا، وأجلا طويلا؛ إذ هو من جملة الغيوب التي استأثر الله بها؟.
إذ هو { علم الغيب } حسب حكمته { فلا يظهر } ولا يطلع { على غيبه } المختص به { أحدا } [الجن: 26] من خلقه.
{ إلا } أي: يطلع من بعض غيوبه على { من ارتضى من رسول } مأمور على غيبه، له قابلية الخلافة والنيابة عنه سبحانه { فإنه } يطلعه من غيبه على سبيل الوحي والإلهام حين { يسلك } ويوكل سبحانه؛ لحفظه وحراسته { من بين يديه } أي: بين يدي المرتضى { ومن خلفه رصدا } [الجن: 27] حراسا من الملائكة يحرسونه من استراق الشياطين، واختطافهم وتخليطهم.
وإنما فعل كذللك عند إطلاعه ووحيه إلى رسوله { ليعلم } الرسول الموحى إليه { أن } أي: إنه { قد أبلغوا } أي: حاملو الوحي مطلقا { رسالات ربهم } على وجهها مصونة محروسة عن اختطاف الشياطين، وتخليطاتهم المغيرة لها { و } الحال إنه سبحانه قد { أحاط بما لديهم } أي: لدى لارسل والملائكة جميعا علما وحضورا، بل { و } قد { أحصى كل شيء } دخل في حيطة الوجود { عددا } [الجن: 28] بحيث لاي يعزب عن حيطة علمه وإحاطته شيء مما لمع عليه برق الوجود.
خاتمة السورة
عليك أيها المحقق المنكشف بإحاطة العلم الإلهي ولوح قضائه، وقلم تصويره وتخطيطه أن تعتقد وتذعن أن عمومم ما رجى في ملكه وملكوته إنما هو بأمره ووحيه، ونفوذ قضائه ومضاء حكمه على حسب الحضور، بحيث يجتمع عند حضوره الأزل والأبد، والأولى والأخرى، والغيب والشهادة؛ إذ لا انقضاء دونه، ولا انصرام ولا تجدد لديه، ولا انخرام، بل الكل بالنسبة إلى قدرته وإرادته على سواء بلا تفاوت وتخالف.
جعلنا الله من المنكشفين بحضور الحق وشهوده، مع كل شيء ودونه بمنه وجوده.
[73 - سورة المزمل]
[73.1-13]
{ يأيها المزمل } [المزمل: 1] المتغطي المتلفف بثوبه وقطيفته نائما، أو مرتدعا عما دهشه بدء الوحي.
شأن النبوة والرسالة ما هو هذا { قم اليل } وداوم على التهجد فيه { إلا قليلا } [المزمل: 2] منه؛ للاستراحة والنوم تقوية لمركب بدنك، وتنشيطا له على العبادة.
يعني: { نصفه } أي: نصف الليل { أو انقص منه } أي: من النصف { قليلا } [المزمل: 3] ليقرب الثلث.
{ أو زد عليه } أي: على النصف حتى يقرب الثلثين، وإنما خير بين هذه الثلاثة؛ لأنه فرض أولا قيام الكل، ولما تحرجوا ومرضوا، وشق عليهم الأمر، رحم الله عليهم فخيرهم في هذه الأوقات بناء على تفاوت أمزجة الناس في عروض الكلال بالسهر، وبعد القيام تهجد
نافلة لك
[الإسراء: 79]، { ورتل } في تهجدك { القرآن ترتيلا } [المزمل: 4] أي: بين حروفه، وقررها في مخارجها إلى حيث لا يشتبه على السامع العارف بأساليب الكلام ومنطوقات الألفاظ معانيها.
وبالجملة: اقرأها على تؤدة تامة، وطمأنينة كاملة بعزيمة خالصة، وإرادة صادقة إلى حيث تتأثر من ألفاظ القرآن فطرتك وفطنتك التي هي خلاصة وجودك، وزبدة أركانك وطبيعتك؛ إذ بها توسلك ووصولك إلى مقصد التوحيد واليقين.
وبالجملة: { إنا } من مقام عظيم جودنا { سنلقي عليك } يا أكمل الرسل { قولا } جزلا سهلا، خفيفا على اللسان ألفاضه وكلماته { ثقيلا } [المزمل: 5] عظيما على القلب رموزه وإشاراته، والاتصاف بما فيه، والامتثال بمقتضيات أوامره ونواهيه، والاطلاع على سرائر الأحكام الموردة فيه، والإحاطة بقوامه وخوافيه، وبالجملة: من تأمل فيه على وجه التدرب والتدبر فقد غرق في تيار بحاره الزخار.
وتخصيص الأمر بالليل وترتيل القرآن فيه { إن ناشئة الليل } أي: القراءة التي تنشأ من النفس في جوف الليل حين خلو القلب عن جميع الأشغال والملاهي { هي أشد وطأ } تأثيرا ودفعا في القلب، وتنبيها له، وإن كانت أثقل للنفس وأتعب للبدن { وأقوم قيلا } [المزمل: 6] أي: أعدل الأقوال بالنسبة إلى القلب وأرسخها فيه، وأقواها أثرا وانتباها بخلاف النهار.
{ إن لك في النهار } الذي هو وقت الأشغال والالتفات إلى المهمات، ومحل أنواع الملمات والواقعات؛ لذلك عرض لك { سبحا طويلا } [المزمل: 7] تقلبا وتصرفا طويلا شاغلا لأوقاتك، مشوشا لحالاتك.
وبالجملة: الفراغ الذي يحصل بالليل لا يحصل في النهار، فعليك أن تجتهد في التهجد، وتقرأ القرآن فيه، سيما عند الفجر
إن قرآن الفجر كان مشهودا
[الإسراء: 78].
{ و } بالجملة: { اذكر اسم ربك } وداوم على تسبيحه وتقديسه دائما في أوقاتك وحالاتك، ولا شتغلنك عن ذكره مهماتك، بل { وتبتل } أي: تجرد وانقطع عن عموم المهام { إليه } سبحانه { تبتيلا } [المزمل: 8] وتجريدا كاملا بحيث لا يخطر ببالك الالتفات بحالك، فكيف بحال غيرك؟!
وكيف لا تنقطع إليه ولا تتجرد نحوه، مع أنه سبحانه { رب المشرق والمغرب } أي: جنس المشارق والمغارب التي هي ذرائر الكائنات باعتبار ظهور شمس الذات منها، وشروقها عليها، وباعتبار بطونها وخفائها فيها؛ إذ { لا إله } أي: لا موجود في الوجود { إلا هو } ولا شيء سواه { فاتخذه وكيلا } [المزمل: 9] سيما بعدما لم يوجد في الوجود غيره أصيلا؟!
{ و } بعدما اتخذته وكيلا، وجعلته حسيبا وكفيلا { اصبر على ما يقولون } أي: المشركون المسرفون من الخرافات والجزافات التي لا تليق بشأنك، إن شق عليك الصبر والتحمل { واهجرهم } اتركهم وانصرف عنهم { هجرا جميلا } [المزمل: 10] بشاشا بساما بلا التفات إلى هذياناتهم الباطلة، وبلا مبالاة بهم وبكلامهم، وتوكل على الله، وفوض أمر انتقامهم إليه، فإنه يكفيك مؤنة شرورهم واستهزائهم.
ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لحيبيه صلى الله عليه وسلم: { و } بعدما بالغوا في قدحك وطعنك يا أكمل الرسل { ذرني والمكذبين } يعني: دعني معهم، وفوض أمر انتقامهم إلي، فإني أنتقم عنهم من قبلك، وأدفع أذاهم عنك، وأغلبك عليهم، وإن كانوا { أولي النعمة } وذوي الثروة والسيادة، وأصحاب التنعم والوجاهة - يريد صناديد قريش - { و } لا تستعجل في انتقامهم، بل { مهلهم } إمهالا { قليلا } [المزمل: 11] أو زمانا قليلا.
ولا تيأس من مكرنا إياهم { إن لدينآ } معدا لهم أنواعا من العذاب { أنكالا } أثقالا؛ لتثاقلهم وعدم تحملهم وتصبرهم بمتاعب التكاليف الإلهية، ومشاق الطاعات والعبادات المأمورة لهم من قبله سبحانه { وجحيما } [المزمل: 12] عظيما بدل ما يتلذذون بنيران الشهوات، ويظلمون الناس بأنواع الغضب والطغيان.
{ وطعاما ذا غصة } ينشب في الحلق، و
لا يسمن ولا يغني من جوع
[الغاشية: 7]، بدل ما يأكلون من السحت والربا، وأموال اليتامى ظلما { وعذابا أليما } [المزمل: 13] لا عذاب أشد إيلاما منه، وهو حرمانهم عن لقاء الله، وخذلانهم على ما فات عنهم من التحقق في كنف حفظه وجواره.
[73.14-19]
اذكر لهم يا أكمل الرسل، وإن لم يصدقوا { يوم ترجف } تضطرب وتتزلزل { الأرض والجبال وكانت الجبال } من شدة الحركة والاضطراب اندكت وتناثرت فصارت { كثيبا } رملا مجتمعا { مهيلا } [المزمل: 14] منثورا، تذروه الرياح حيث شاء، كسائر الرمال الآن في البراري والبوادي.
وكيف لا نأخذ المجرمين المشركين بظلمهم يومئذ، ولا نعذبهم بأنواع العذاب { إنآ أرسلنآ إليكم } يا أهل مكة بعدما انحرفتهم عن جادة العدالة على مقتضى سنتنا في الأمم السالفة { رسولا } ناشئا منكم؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { شاهدا } يشهد { عليكم } يوم القيامة بالإجابة والامتناع بعدما أمرنا له، وأوحينا إليه أن يدعوكم إلى الإيمان، ويأمركم بالطاعات والإحسان { كمآ أرسلنآ إلى فرعون } الطاغي الباغي { رسولا } [المزمل: 15] يعني: موسى الكليم عليه السلام؛ ليدعوه إلى الإيمان، وبأمره بلوازمه.
وبعدما دعاه وأمره بما أمر به الحق { فعصى } وتكبر { فرعون الرسول } وعتا عليه، واستكبر عن دعوته { فأخذناه أخذا وبيلا } [المزمل: 16] ثقيلا شديدا إلى حيث أغرقناه وجنوده في اليم، وأورثنا أرضه ودياره وأمواله لبني إسرائيل.
هذا أخذنا إياهم في النشأة الأولى، وفي الأخرى بأضعافها وآلافها، فأنتم أيضا يا أهل مكمة مثل فرعون عصيتم رسلوكم الذي أرسل إليكم؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، فنأخذكم مثلما أخذنا فرعون، في الدنيا نجعلكم صاغرين مهانين، وفي الآخرة مسجونين بعذاب أليم، مخلدين في النار أبد الآبدين.
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع تهويلا عليهم، وتعريضا: { فكيف تتقون } وتحفظون أنفسكم أيها المنهمكون في أنواع الغفلات والجهالات { إن كفرتم } وبقيتم على الكفر، ومتم عليه، مع أنكم ستسقبلون وتقعون يومان وأي يوم { يوما يجعل الولدان شيبا } [المزمل: 17] من غاية طوله، وشدة أهواله وأحزانه؟!
هذا على وجه التمثيل والتشبيه بحسب متفاهم العرف، وإلا فلا يكتنه هول ذلك اليوم وشدته بالوصف والبيان.
ومن جملة ما يدل على شدة هوله: إنه { السمآء } المشيدة المحكمة { منفطر به } أي: متشققة متضعضعة، منخرمة في ذلك اليوم بمقتضى قهر الله وجلاله، وكيف لا يكون كذلك بعدما وعد الله القادر المقتدر على عموم ما دخل في حيطة علمه وإرادته بوقوعه، ولا شك أنه { كان وعده مفعولا } [المزمل: 18] دائما، وأمره مقضيا أبدا، وحكمه مبرما أزلا، وقضاؤه نافذا سرمدا؟!
{ إن هذه } الكلمات الدالة على إنجاز وعد الله { تذكرة } وعظة للمتعظين المتذكرين من أرباب العناية والتوفيق { فمن شآء } أني يتعظ بها { اتخذ } وأخذ { إلى ربه سبيلا } [المزمل: 19] بعدما وفقه الحق، وأعان عليه بالخروج عن لوازم الإمكان، وهداه للعروج إلى معارج الوجود مترقيا من درجة إلى درجة، ومقام إلى مقام إلى أن وصل إلى مبدأ طريق الفناء، ثم ترقى منه أيضا من حاله إلى حالة إلى أن فني عن الفناء أيضا، وبعد ذلك ذار ما صار، وليس وراء الله مرمى ومنتهى.
[73.20]
وبعدما أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل على الوجه المذكور، وحثه عليه، ورغبه على وجه المبالغة والتأكيد بأن علله بعلمه سبحانه إياه على أي وجه، فقال: { إن ربك } يا أكمل الرسل { يعلم } بعلمه الحضوري { أنك تقوم } إلى التهجد { أدنى } وأقل { من ثلثي اليل } وأعلى، وأكثر من نصفه تارة { و } تارة أخرى أدنى من { نصفه } السياق يدل على أن التفسير جرى على قراءة ابن عامر ونافع وغيرهما: { ونصفه } تارة أدنى من { ثلثه } السياق يدل على أن التفسير جرى على قراءة ابن عامر ونافع وغيرهما: { ثلثه } وأكثر من ربعه، وهذا أدنى تاراتك، وأعلاها: ما هو أدنى من ثلثي الليل؛ إذ هي أقرب إلى قيام الكل الذي فرض أولا، ثم الثانية، ثم الثالثة.
{ وطآئفة } أي: ويعلم سبحانه أيضا قيام طائفة { من } المؤمنين { الذين } يقومون { معك } ويوافقون لك في تهجدك وقيامك؛ يعين: علمه سبحانه محيط بهذه الأوقات الثلاثة الواقعة منك ومنهم، بخلاف علمك فإنه؛ أي: علمك لا يقدر بتعيينها على وجهها { و } بالجملة: { الله } العليم الحكيم الذي { يقدر } بمقتضى علمه وإرادته { اليل والنهار } على سبيل التجدد والتتابع، والاختلاف طولا وقصرا، وإيلاج بعض أجزاء كل منهما على الآخر، وإخراجهما منه، وضبط أجزائهما وساعاتهما وآنائمها، إنما هي بعلمه لا بعلم غيره من مظاهره ومصنوعاته، وهو سبحانه { علم } منك { أن } أي: إنه { لن تحصوه } أي: ليس ي وسعكم وطاقتكم تقدير الأوقات، وضبط الأحيان والساعات، وإحصاء الآناء الواقعة في الليل والنهار، وقيامكم في كلها أو بعضها على وجه التعيين والتخصيص.
وبعدما ظهر عنده سبحانه عدم طاقتكم ووسعكم { فتاب } أي: عاد { عليكم } ورجع عما ألزمكم، وأزال تعبكم بالرخصة في ترك القيام المقدر المعين على الوجوه المذكورة؛ إذ لا يسع لكم ضبطها، وبعدما رخصكم سبحانه، وخفف عنكم تفضلا وامتنانا، قوموا في خلال الليل مقدار ما يسر الله لكم ووفقكم عليه { فاقرءوا } أي: صلوا التهجد بقراءة { ما تيسر } لكم { من القرآن } المقرون بصلاتكم.
قيل: كان التهجد واجبا على التخيير المذكور، ثم رخص بترك التقدير والتعيين، ثم نسخ هذا أيضا بالصلوات الخمس المقدرة في الأوقات الخمسة، وإنما نسخه سبحانه؛ إذ { علم } بمقتضى حضرة علمه وحكمته { أن } أي: إنه { سيكون } بعضا { منكم مرضى } من السهر المفرط؛ إذ الأبدان متفاوتة في تحمل المشاق، سيما ترك النوم المعد؛ لاستراحة البدن في الليل { و } أيضا { آخرون } منكم { يضربون } ويسافرون { في الأرض } سفرا مباحا { يبتغون } ويطلبون بسفرهم { من فضل الله } وسعة جوده وكرمه مزيد رزق، أو طلب علم، أو صلة رحم، أو زيارة صديق إلى غير من الأسفار المشروعة، فيتحرجون بقيام الليل والتهجد فيه { وآخرون } أيضا { يقتلون } مع أعداء الله { في سبيل الله } ترويجا لدينه، وإعلاء لكلمة توحيده، فإنهم لو تهجدوا لضعفوا ألبتة فشق عليهم أمر القتال .
وبعدما أزال عنكم سبحانه حرجكم وتعبكم بمقتضى حكمته المتقنة البالغة، فعليكم ألا تتركوا التهجد رأسا، ولا تنسوه جملة، بل قوموا في خلال الليل؛ للتهجد إن استطعتم { فاقرءوا } فيه { ما تيسر } لكم { منه } أي: من القرآن { وأقيموا الصلوة } المفروضة، وواظبوا على أدائها وقيامها حق المواظبة، وراعوا أركانها وأبعاضها وهيئاتها على وجوهها، وبالجملة: أدوها على وجه يرضى عنكم مولاكم، ولا تهاونوا عليها، ولا تقصروا فيها.
واعلموا أيها المؤمنون أن الفارق بين الإيمان والكفر، والهداية والضلال إنما هي الصلاة التي هي أقوى أعمدة الدين وأقومها { و } أيضا { آتوا الزكوة } المأمورة لكم على سبيل الوجوب؛ تزكية لأنفسكم عن الشح، وأموالكم عن الفضلات، وتمرينا لأنفسكم على الإنفاق وفعل الخيرات { و } بعد أداء الواجب من الزكاة { أقرضوا الله } القادر المقتدر على وجوه الإنعامات بإعداء فواضل الصدقات، وأنواع الخيرات وبناء المساجد والرباطات، وغير ذلك مما يتعلق بمصالح المسلمين من المنافع الحاصلة بالمال { قرضا حسنا } بلا شوب المن والأذى، والسمعة والرياء، والعجب وأنواع الهوى.
{ و } اعلموا أيها المؤمنون أن { ما تقدموا } وتؤخروا { لأنفسكم من خير } موجب لأجر مستلزم لثواب، سواء كان ماليا أو بدنيا، قبل حلول الأجل وهجوم الموت { تجدوه عند الله } المفضل المنعم { هو خيرا وأعظم أجرا } وأكرم محلا، وأعز درجة ومنزلا من الذي يؤخرونه إلى الوصية حين حلول الأجل { و } إن جرى عليكم ي سالف زمانكم ما جرى من ترك الاستغفار { استغفروا الله } المفضل المكرم لما صدر عنكم، واشتغلوا لامتثال أوامره في بقية أعماركم تلافيا لما مضى { إن الله } المطلع على إنابتكم ونياتكم فيها { غفور } يغفر زلتكم الماضية أيضا { رحيم } [المزمل: 20] يقبل توبتكم اللاحقة لها بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك لسلوك التوحيد، والقاصد نحو مقصد الفناء أن تبذل وسعك في طريق التوحيد ببدنك ومالك، وجميع أحوالك وأطوارك، وتجتهد في تصفية ظاهرك وباطنك، وتخلية قلبك عن الشواغل العائقة عن التوجه التام والالتفات الخالص.
فلك أن تلازم العزلة، وتداوم الخلوة، وتواظب على الاتصاف بالأطوار والأخلاق الموروثة لك من النبي المختار، والمأثورة منه من الآثار، وامتثال ما في كتاب الله من الأوامر والنواهي والأحكام الموردة فيه؛ لتصفية الخاطر عن الميل إلى ما سوى الحق من الأغيار الساقطة عن درجة الاعتبار؛ لتكون من الأبرار الأخيار الموسومين بأولي العبرة والأبصار، وتفوزوا بما فاز من الرموز والأسرار.
وإياك إياك ومصابحة الأشرار المغترين بلذات الدنيا الغدارة، وشهوات الحياة المستعارة المستلزمة لأنواع الخسار والبوار.
جعلنا الله الغفور الغفار من ذوي العبرة والاستبصار بفضله وطوله.
[74 - سورة المدثر]
[74.1-24]
{ يأيها المدثر } [المدثر: 1 والمتدثر: المتغطي بملابس الطبيعة، وثياب الإمكان الموجبة لأنواع الخسران والحرمان.
{ قم } من عالم الطبيعة، واخرج عن مضيق بقعة الإمكان بعدما كشفت طلائع فضاء اللاهوت، وبعدما خلصت من سجن عالم الناسوت { فأنذر } [المدثر: 2] عموم بني نوعك؛ أي: المحبوسين في سجن الإمكان، المقيدين بسلاسل الزمان، وأغلال المكان عن دركات النيران، وأودية الضلالات والجهالات في النشأة الأولى والأخرى.
{ و } خصص { ربك } الذي رباك على فطرة المعرفة والإيقان بأنواع التجبيل والتعظيم { فكبر } [المدثر: 3] ذاته تكبيرا كاملا إلى حيث لا يخطر ببالك معه شيء؛ إذ هو المتعزز برداء العظمة والكبرياء، لا شيء سواه.
وبعدما انكشفت بوحدة ربك، وكبرته تكبيرا لائقا بشأنه { وثيابك } التي هي ملابس بشريتك { فطهر } [المدثر: 4] عن أوساخ الإمكان، وقذر عالم الطبيعة والهيولي، فإن طهارتك عنها واجبة عليكم في ميلك إلى مقصد الوحدة.
{ والرجز } أي: الرجز العارض لبشريتك من التقليدات الموروثة، والتخمينات المستحدثة من الآراء الباطلة، والأهواء الفاسدة المكدرة لصفاء مشرب التوحيد واليقين من الأخلاق الرديئة، والملكات الغير مرضية من الشهوية والغضبية المترتبة على القوى البهيمية إلى غير ذلك من القبائح الصورية والمعنوية.
{ فاهجر } [المدثر: 5] أي: جانب وافترق؛ ليمكنك التخلق بأخلاق الله، والاتصاف بأوصافه.
ومن جملة الأخلاق المذمومة، بل من معظمها: المنة على الله بالطاعة وفعل الخيرات، وعلى عباده بالتصدق والإنفاق عليهم.
{ و } إذا سمعت { لا تمنن } على الله مباهيا بطاعتك، وعلى عباده تفوقا عليهم { تستكثر } [المدثر: 6] وتستجلب نعم الله على نفسك وإحسانه عليك، وامتنانه لك بما لا مزيد عليه، أو المعنى: { لا تمنن تستكثر } أي: لا تعط أحدا شيئا على نية أن تستكثر وتتعوض منه بدله أكثر مما أعطيته، على مقتضى القراءتين.
{ و } بالجملة: { لربك } الذي رباك على الخلق العظيم { فاصبر } [المدثر: 7] على مشاق التكاليف، ومتاعب الطاعات والعبادات، وعلى أذيات المشركين حين تبليغ الدعوة إياهم، وإيصال الوحي إليهم.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل من الوصايا ما سمعت، امتثل بها واتصف بمقتضاها اتقاء عن يوم الجزاء.
{ فإذا نقر } ونفخ { في الناقور } [المدثر: 8] أي: الصور المصور؛ لتصويت الأموات؛ ليبعثوا من قبورهم أحياء كما كانوا، ثم نقر ثانيا؛ ليحشروا إلى المحشر، ويحاسبوا بين يدي الله، ثم يجازوا على مقتضى ما يحاسب، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
{ فذلك } أي: وقت النقر الثاني للحشر والوقوف بين يدي الله { يومئذ } أي: يوم القيامة { يوم عسير } [المدثر: 9].
{ على الكافرين } إذ عسر عليهم حينئذ الأمر، واشتد الهول، وتشتتت أحوالهم واضطربت قلوبهم، وبالجملة: { غير يسير } [المدثر: 10] عليهم حسابهم؛ لذلك عسر عليهم.
وبعدما سمعت قيام يوم القيامة وتنقيد الأعمال فيها، والجزاء عليها، لا تستعجل يا أكمل الرسل لانتقام المشركين المسرفين، ولا تعجل عليهم، بل { ذرني } يا أكمل الرسل { ومن خلقت } أي: مع شخص خلقته { وحيدا } [المدثر: 11] متفردا من أهل عصره، مفروزا منهم بكثرة الأموال والأولاد، والثروة والجاه، إلى حيث لقب بين قومه بريحانة قريش؛ يعني: وليد بن المغيرة.
{ وجعلت له } توسيعا عليه، وامتنانا له { مالا ممدودا } [المدثر: 12] كثيرا وافرا، متزايدا يوما فيوما بالتجارة والنتاج والزراعة وغير ذلك.
{ وبنين شهودا } [المدثر: 13] حضورا معه دائما، لا ينفصلون عنه زمانا؛ لاستغنائهم عن التجارة والحراثة وسائر المصالح؛ لكثرة خدمهم وحشمهم، بحيث لا احتياج لهم من تهيئة أسبابهم إلى ترددهم بأنفسهم؛ لذلك يحضرون معه في جميع المحافل والمجالس، والأندية تكميلا لثروته ووجاهته.
{ ومهدت له تمهيدا } [المدثر: 14] أي: بسطت له بسطا واستيلاء، يتحسر ويتحسد بحاله جميع بطون العرب وأفخاذه.
ومع تلك الوجاهة العظمى، والكرامة الكبرى الموهوبة له لم يشكر علي، ولم يرجع إلي قط { ثم يطمع } ويرجو { أن أزيد } [المدثر: 15] على ما آتيته وأعطيته من النعم العظام، مع أنه مصر على الكفر الكفران، وأنواع الفسوق والعصيان.
{ كلا } أي: كيف أزيد عليه، مع أن كفرانه وطغيانه يوجب ويقتضي زوال ما أعطي به، وكيف لا يوجبه { إنه كان لآياتنا } الدالة على كمال عظمتنا، واقتدارنا على أنواع الإنعام والانتقام { عنيدا } [المدثر: 16] معاندا منكرا، وعناده أمارة زوال ماله وثروته وجاهه؟!
وبالجملة: { سأرهقه } أي: سأغشيه وأكلفه بالعنف في النشأة الأخرى { صعودا } [المدثر: 17] عقبة شاقة المصعد والمهوى، فأكلفه على الصعود والهبوط دائما، بحيث لا نجاة منها، وعنه صلى الله عليه وسلم:
" الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا، ثم يهوى فيه كذلك أبدا "
، وهو مثل لما يلقى من الشدائد.
وكيف لا أكلفه بصعود الصعود وهبوطه { إنه } من شدة شكيمته، وخباثة طينته { فكر } في آيات القرآن على وجه التدبر فلم يجد فيه طعنا وقدحا { و } بعدما لم يجد ما يصلح للطعن { قدر } [المدثر: 18] في نفسه على مقتضى خباثته ما ينفق به، ويقول فيه على سبيل القدح؟!
ثم قال سبحانه على سبيل التعجب من إفكه وتقديره: { فقتل } أي: لعن وطرد { كيف قدر } [المدثر: 19] له قدحا، مع أن القرآن منزه عن القدح مطلقا؟!
{ ثم قتل } ذلك المعاند الطاغي { كيف قدر } [المدثر: 20] ما هو بعيد عن شأن القرآن بمراحل؟! كرره سبحانه مبالغة في التعجب والاستبعاد.
{ ثم نظر } [المدثر: 21] كرة بعد أولى، ومرة بعد أخرى في أمر القرآن { ثم } لما لم يجد فيه طعنا، مع أنه من أرباب اللسن والفصاحة { عبس } أي: قطب وجهه وكلح، واستكره كراهة شديدة { وبسر } [المدثر: 22] اهتم وبالغ في وجدان القدح اهتماما بليغا فلم يجد، وأيس ملوما مخذولا.
{ ثم } بعدما دبر مرارا فلم يجد { أدبر } عن الإيمان بعدما أشرف على الإقبال بالإيمان والقبول { و } ما حمله على الإدبار إلى أنه { استكبر } [المدثر: 23] واستحيى عن أتباعه.
وبالجملة: { فقال } بعد اللتيا والتي { إن هذآ إلا سحر يؤثر } [المدثر: 24] أي: يروى ويتعلم.
[74.25-31]
{ إن هذآ } أي: ما هذا { إلا قول البشر } [المدثر: 25] ما هو من الوحي وكلام الله، كما ادعاه محمد صلى الله عليه وسلم مفتريا على الله.
روي أنه مر الوليد بن المغيرة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: حم السجدة، فسمعه بسمع الرضا متدربا بأسلوبه، ثم أتى قومه فقال: لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من جنس كلام الإنس والجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم خرج.
فقالت قريش: والله، قد صبأ الوليد، ولتصبون قريش كلهم، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فجلس إلى جنبه حزينا، فقال: ما لي أراد حزينا يا ابني أخي؟ فقال هذه قريش يجمعون لك نفقة، يعينونك على كبر سنك، يزعمون أنك زينت كلام محمد؛ لتنال من فضل طعامه.
فغضب الوليد فقال: لم تعلم قريش أني أكثرهم مالا وولدا، وهل يشبع محمد وأصحابه أن يكون لهم فضل؟! ثم قام مع أبي جهل حتى أتى قومه، فقال: تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يتجنن قط؟ قالوا: اللهم لا، ثم قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا: لا، ثم قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، ثم قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جريتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا.
ثم سكت، قالت قريش: فما هو؟ فتكفر في نفسه، وقدر في نجواه، ثم قدر، فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين المرء وأهله، وولده ومواليه، وما يقوله مفتريا إلى ربه سحر يؤثر؟.
فقال تعالى زجرا عليه، وجزاء له: { سأصليه } وادخله { سقر } [المدثر: 26].
{ ومآ أدراك } وأعلمك يا أكمل الرسل { ما سقر } [المدثر: 27] وما شأنها؟ أبهمها تفخيما وتهويلا.
وغاية ما يدرك من شأنها: إنها { لا تبقي } شيئا يقع فيها، بل تهلكة { لا تذر } مع إهلاكه وإفنائه { و } [المدثر: 28] ولا تدع على هلاكه وفنائه، بل يوجده الله بكمال قدرته، ثم يهلكه، ثم يوجده فتهلكه أبدا كذلك.
وأيضا من شأنها: إنها { لواحة } مسودة؛ من شدة إحراقها { للبشر } [المدثر: 29] أي: الشرة التي هي عبارة عن ظاهر الجلد.
وأيضا من شأنها: إنها { عليها تسعة عشر } [المدثر: 30] أي: تسعة عشر من الزبانية الموكلة عليه بإذن الله، وهي من الملائكة أو شبيهة بهم.
إنما اختص هذا العدد؛ لأن الأعمال الفاسدة، والأفعال القبيحة الموجبة للدخل في سقر إنما يكتسب بالقوى البهيمية، والقوى الطبيعية، أما القوى البهيمية فاثني عشر: الشهوية، والغضبية، والحواس الظاهر والباطنة، وأما القوى الطبيعية فسبع: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة.
وبالجملة: يصور السقر من مقتضيات هذه القوى، ويوكل عليها من زواجر الزبانية على عدد مأخذها عدلا منه سبحانه؛ لينزجر كل من القوى بزاجر يناسبها.
ولما نزلت قال أبو جهل: ثكلتكم أمهاتمكم بخبر ابن أبي كبشة، إن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم؛ أي: الشجعان، أتعجز كل عشر أن تبطش بواحد منهم؟!
وبعدما قالوا ما قالوا على سبيل التهكم أنزل سبحانه: { وما جعلنآ أصحب النار } وخزنتها { إلا ملئكة } أقوياء، قوتهم لا تقاس بالقوى البشرية، بل لا يقاوم جميع من على الأرض بواحد من الملك في القوة والصولة { وما جعلنا عدتهم } أي: عددهم المذكور { إلا فتنة } اختبارا وابتلاء؛ أي: سبب اختبار افتتان لهم، يفتنون بهذا العدد، تارة يستقلون، وتارة يستبعدون ويتعجبون من مقاومة هؤلاء المعدودين بعموم العباد المستحقين لدخول السقر من الثقلين، وبالجملة: يستهزئون بهذا القول، ويضحكون منه، وإنما أنزلنا هذه الآية، وخصصنا هذا العدد وهؤلاء المعدودين { للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتب } أي: ليكتسبوا اليقين، ويجزموا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق القرآن وحقيته؛ لأن هذا ليس ببدع منا في هذا الكتاب، بل أنزلنا كذلك في سائر كتبنا.
ولما وجدوه موافقا لما كتبهم تيقنوا بصدق القرآن ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم { ويزداد الذين ءامنوا إيمنا } على إيمانهم؛ أي: يرسخ إيمانهم، ويتأكد بتصديق أهل الكتاب كتابهم ونبيهم { و } بعدما استيقنوا واستقاموا على اليقين، وتمكنوا فيه { لا يرتاب } ويشك { الذين أوتوا الكتب والمؤمنون } في حقية هذا الكتاب وهذا النبي المؤيد به { وليقول الذين في قلوبهم مرض } شك وارتياب في حقية هذا الكتاب والنبي من أهل النفاق.
{ والكفرون } الجاحدون الجازمون في التكذيب، المجاحدون بالإنكار صريحا: { ماذآ أراد الله بهذا } أي: أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب المستبعد، إلى حيث صار في الاستغراب والاستبعاد { مثلا } سائرا بين الناس يستعملونه ويتداولونه، مستبعدينه ومستهزئين { كذلك } أي: مثلما سمعت يا أكمل الرسل من استيقان البعض، واستنكار البعض الآخر بهذا العدد المذكور { يضل الله } العليم الحكيم بمقتضى قهره وجلاله { من يشآء } إضلاله من عباده، وأراد مقته وضلاله { ويهدي } بمقتضى لطفه وجماله { من يشآء } إذ هو فاعل على الإطلاق بالإرادة والاختيار والاستحقاق.
{ و } بالجملة: { ما يعلم جنود ربك } يا أكمل الرسل؛ أي: مظاهر لطفه وقهره، وجماله وجلاله { إلا هو } إذ هو المستقل بالإحاطة والشمول، لا يعزب عنه شيء من الأصول والفروع؛ إذ لا سبيل للعباد إلى إحصاء أوصافه وأسمائه التي تترتب عليها مظاهره ومصنوعاته، ما للعباد ورب الأرباب { و } بالجملة: { ما هي } أي: ذكر السقر ووصفها، وعدة الخزنة عليها { إلا ذكرى } أي: عظة وتذكرة نازلة من قبل الحق { للبشر } [المدثر: 31] المجبولين على العبرة والنظر، المكلفين بجلب النفع ودفع الضر، وبالحذر عن مقتضى القهر والجلال، والركون إلى مقتضى اللطف والجمال.
[74.32-47]
{ كلا } وحاشا أن يتذكر بها هؤلاء الحمقى، إلا من وفقه الحق، وأدركته العناية من جانبه { و } حق { القمر } [المدثر: 32] المنير.
{ والليل } المظلم، وكيفية تصاريف القمر المضيء في ظلمة الليل، وانمحاء نوره { إذ أدبر } [المدثر: 33] أي: ولى واصنرف ذاهبا؛ يعني بالقمر: نور الإيمان المشرق في الليل الذي هو عبارة عن ظلمة عالم الكون والفساد المترتب على التعينات العدمية الحاصلة من انعكاس شمس الذات.
{ والصبح } الذي هو ظهور نور الوجود، وطلوع شمس الذات الأحدية التي انمحت وفنيت { إذآ أسفر } [المدثر: 34] أي: أضاء وأشرق أضلال التعينات بالمرة، وانتثرت كواكب الهويات، وانطفأت شهب العكوس، واضمحلت مطلق الإضافات.
{ إنها } أي: سقر الطرد والحرمان، وسعير الزجر والخذلان، والخزنة المعدودين الموكلين عليها بقدرة الله { لإحدى الكبر } [المدثر: 35] أي: إحدى البلايا والمصيبات الكبار النازلة لأصحاب الضلال بمقتضى القهر الإلهي وجلاله.
وإنما أنزلنا في كتابه، وأخبرنا عنها؛ لتكون { نذيرا للبشر } [المدثر: 36] ينذرهم ويحذرهم عن حر سقر.
{ لمن شآء } وأراد سبحانه { منكم } أيها المكلفون المجبولون على الهداية والضلال { أن يتقدم } بالإيمان والأعمال الصالحة، وفعل الخيرات ، وترك المنكرات، فيهتدي بطريق النجاة منها { أو يتأخر } [المدثر: 37] بالكفر، وارتكاب المناهي والمنكرات، وفعل المحرمات، فوقع فيها وازدجر.
وبالجملة: { كل نفس } من النفوس الخيرة { بما كسبت } واقترفت { رهينة } [المدثر: 38] مرهونة مرتهنة عند الله بكسبها، فكسبها إن كان لأجل الدنيا وما يترتب عليها من اللذات والشهوات البهيمية، والوهمية والخيالية من الجاه والثروة، والاستكبار والاستعظام بالأموال والأولاد، ترتب عليها أنواع العقوبات والمصيبات، وإن كان لأجل الآخرة من الإيمان والإسلام، وصوالح الأعمال، وارتكاب المتاعب والمشاق في طريق الحق وتوحيده، ترتب عليه أصناف المثوبات، وأنواع الكرامات والدرجات العلية، والمقامات السنية من اللذات الروحانية.
{ إلا أصحاب اليمين } [المدثر: 39] وهم الطائرون إلى الله، السائرون نحوه؛ لإفناء هوياتهم في هوية الحق، المنخلعون عن لوازم عالم الناسوت بالمرة، المتخلعون بخلع عالم اللاهوت.
والمتمكنون { في جنات } ومنتزهات موصوفة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن كمال تمكنهم وتقررهم في مقر الوحدة { يتسآءلون } [المدثر: 40].
ويسألون { عن المجرمين } [المدثر: 41].
على سبيل التعجب والاستبعاد: { ما سلككم } وأدخلكم { في سقر } [المدثر: 42] الإمكان، وجحيم الطرد والخذلان؟!
{ قالوا } أي: المجرمون في جوابهم متحسرين متأسفين: { لم نك } في دار الاختبار ونشأة الاعتبار { من المصلين } [المدثر: 43] المتوجهين نحو الحق في الأوقات المكتوبة علينا.
{ ولم نك نطعم المسكين } [المدثر: 44] على متقضى الأمر الإلهي عطفا ولطفا.
{ و } مع ذلك { كنا نخوض } ونشرع في الباطل ونروجه، ونترك الحق ونهمله { مع الخآئضين } [المدثر: 45] الشارعين المزورين، المروجين عنادا ومكابرة.
{ و } أعظم من الكل: إنا { كنا } من نهاية جهلنا وغفلتنا { نكذب بيوم الدين } [المدثر: 46] أي: بوقوع الطامة الكبرى وقيام الساعة، مقتفين أثر الضالين المضلين، مستظهرين بالآلهة الباطلة، مغترين بشفاعتهم العاطلة لدى الحاجة، وبالجملة: كنا مصرين على ما كنا عليه.
{ حتى أتانا اليقين } [المدثر: 47] وحل علينا الأجل، وظهرت مقدماته، وانقرضت نشأة الاخيبار.
[74.48-56]
وبالجملة: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48] حين أخذوا بظلمهم، لو شفعوا لهم جميعا.
{ فما لهم } وأي شيء عرض لهم ولحق بهم، مع أنهم مجبولون على فطرة التوحيد واليقين، حتى صاروا { عن التذكرة } التي هي آيات القرآن المبينة لسرائر التوحيد والعرفان { معرضين } [المدثر: 49] منصرفين على سبيل الإنكار والاستكبار.
وبالجملة: { كأنهم } في هذا الإعراض والنفرة المتفرعة لغاية السخافة، ونهاية البلادة { حمر } هي مثل في البلادة المتناهية { مستنفرة } [المدثر: 50] من شدة رعبها وخوفها.
سيما حين { فرت من قسورة } [المدثر: 51] أشد صائل عليها، شبه نفرتهم عن التذكر بآيات القرآن حسدا وحمية جاهلية بالحمر المستنفرة من الأسد، والجامع بينهما، البلادة المتناهية، بل هم أسوأ حالا من الحمر؛ إذ الحمر فرت من العدو؛ خوفا من ضرره، وهؤلاء فروا من الحق المشفق، النافع لهم نفعا صوريا ومعنويا، وما حملهم وأوقعهم على فتنة الاستنفار والاستنكاف إلا حميتهم وغيرتهم الجاهلية، بأن لم يؤمنوا بما نزل على غيرهم.
{ بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى } له من قبل الحق { صحفا } قراطيس مدونة { منشرة } [المدثر: 52] تنشر وقت القراءة، ثم تطوى، كالصكوك والسجلات؛ لذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلا منا بكتاب من السماء مكتوب فيها: من الله إلى فلان، اتبع محمدا، فإنه نبي صادق.
ثم قال سبحانه: { كلا } ردا عليهم، وردعا لهم عن الإعراض عن الإيمان والتذكر، لا عن امتناع المقترح، فإنه لا يستحيل على الله شيء، لو تعلق به مشيئتهم { بل لا يخافون الآخرة } [المدثر: 53] ولم يؤمنوا لها؛ لذلك أعرضوا عن التكذرة.
{ كلا } أي: كيف يتأتى لهم الإعراض عن التذكرة { إنه } أي: القرآن: { تذكرة } [المدثر: 54] وأي تذكرة وتبصرة؟!
{ فمن شآء ذكره } [المدثر: 55] أي: أي شيء اتعظ وتذكر به فقد هدى واهتدى إلى الله.
{ و } غاية ما في الباب: إنه { ما يذكرون } ويتذكرون به { إلا أن يشآء الله } تذكرهم وهدايتهم؛ إذ أفعال العباد كلها مستندة إليه سبحانه، مخلوقة له، وكيف لا يفوض إلى مشيئته سبحانه عموم أمور العباد، مع أنه { هو } بذاته، ومقتضى أسمائه وصفاته { أهل التقوى } وأحق من أن يتقى من انتقامه وقهره؛ إذ هو المقتدر على وجوه الانتقام { وأهل المغفرة } [المدثر: 56] حقيق بأن يرحى منه العفو والغفران، سيما على المتقين المستغفرين؛ إذ هو المقتدر بالاستقلال على عموم الإنعام والانتقام، والإكرام ؟!
جعلنا الله من زمرة أهل التقوى والمغفرة بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد المحقق، المتحقق بسر سريان الوحدة الذاتية في عموم المظاهر، وباستقلال الوجود في عموم الآثار الظاهرة في الأنفس والآفاق أن تذعن وتعرف أن جميع الأفعال الجارية في عالم الغيب والشهادة إنما هي مستندة إليه سبحانه، صادرة عنه أصالة وفق الإرادة والاختيار، وإنما أظهرها سبحانه في مظاهر أسمائه، وملابس صفاته إظهارا لكمال قدرته، ومتانة حكمته، وإحاطة علمه وإرادته، وعجائب صنعه وصنعته.
فلك أن تعتقدها على الوجه المذكور، وتجزم بها علما إلى أن يصير علمك عينا، وعينك حقا، وليس وراء الله مرمى ومنتهى.
وفقنا بما أنت تحتب منا وترضى يا مولانا.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-15]
{ لا أقسم بيوم القيامة } [القيامة: 1] أي: بوقوع الطامة الكبرى وثبوتها وقيامها؛ إذ هي من غاية ظهورها وجلائها غنية عن أن يؤكد أمر وقوعها وقيامها بالقسم عند العارف المحقق المتحقق بقمام التوحيد واليقين.
{ ولا أقسم } أيضا { بالنفس اللوامة } [القيامة: 2] أي: وكذا لا حاجة إلى القسم بظهور النفس اللوامة في عالم الكون الفساد؛ إذ كل نفس من النفوس الكائنة تعلم أن العالم ما هو إلا سراب باطل وعكس زائل عاطل، لا قرار له، ولا مدار لها فيه، وتلوم دائما نفسها عليها، إلا أنها لا تتنبه على سلطنة الوحدة، ولا تتفطن بسرايتها واستيلائها على عموم ما ظهر وبطن، وغاب وشهد، حتى تصير لوامة، مطمئنة راضية، وراضيته مرضية، مرضيته فقيرة، وفقيرته فانية، وفانيته باقية، وليس وراء ذلك مرمى ومنتهى.
أدركنا بلطفك الخفي يا خفي الألطاف.
ثم التفت سبحانه نحو حقيقة الإنسان المجبول نحو فطرة العرفان حسب حصة لاهوته، ووبخه بما وبخه تشنيعا وتقريعا، فقال: { أيحسب } ويظن { الإنسان } المجبول على الكفران والنسيان { ألن نجمع عظامه } [القيامة: 3] أي: إنا لا نقدر مع كمال قدرتنا على إبدائه وإبداعه على إعادته، وجمع عظامه مرة بعد أخرى في يوم البعث والجزاء؟!
{ بلى } أي: نحن نقدر على إعادته، وجمع عظامه، وتسوية جميع أعطائه على الوجه الذي كان، بل { قادرين على أن نسوي بنانه } [القيامة: 4] أي: سلاميه على وجهها، وخص بالذكر؛ لأن جميع أجزائها أصعب من سائر الجسد؛ لاشتمالها على دقائق العظام ورقائق العروق والأعصاب، والغضاريف والرباطات المعينة على القبض والبسط، والأخذ والبطش، ولصعوبة الاطلاع على أجزائها عجز الأطباء عن تشريحها؛ يعني: إنا نقدر على جمعها مع صعوبتها، فكيف نجمع غيرها؟!
{ بل يريد الإنسان } المركب من الجهل والنسيان بظنه وحسبانه { ليفجر أمامه } [القيامة: 5] أي: يدوم ويمضي دائما على الفجور والفسوق، والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية فيما يستقبله من الزمان، كما كان عليها فيما مضى.
لذلك { يسأل } سؤال إنكار واستعباد: { أيان } أي: متى يقوم، وأي آن يقع { يوم القيامة } [القيامة: 6] التى تبلى السرائر، وتكشف الستائر فيها؟.
بين لي أيها المدعي وقت وقوعه؛ حتى أكف وأمنع نفسي عن الفجور، وأتوب عنها يقينا وثقة، إنما قال على سبيل الاستهزاء والتهكم.
وكيف يستهزئ ويصر على الإنكار ذلك المستزئ المسرف المصر؟! { فإذا برق } وتحير { البصر } [القيامة: 7] أي: حاسة عالم الناسوت وجاسوسه حين ظهرت طلائع عالم اللاهوت فزعا وهولا، ودهشا مما يرى من العجائب والغرائب الموعودة التي كان ينكر ويكذب بها في دار الدنيا وبقعة الإمكان.
{ و } مع ذلك { خسف القمر } [القيامة: 8] أي: ذهب ضوء الوجود الإضافي المستعار، وانمحى نوره، وأشرف على الأفول في أفق العدم.
{ و } حينئذ { جمع الشمس } أي: ظهر نور الوجود المطلق المستغني عن عموم المظاهر والمجالي { والقمر } [القيامة: 9] أي: اندرج ضوء الوجود الإضافي المنعكس منها، واندمج فيها، ولم يبق له كون ولا لون، ولا بين ولا بون.
وبعد رجوع الكل إليها، وانطماسها فيها، وانقهارها دونها { يقول الإنسان } المنعزل عن اليقين والعرفان { يومئذ أين المفر } [القيامة: 10] والملجأ؛ حتى أفر إليه، وألجأ نحوه؟.
{ كلا } وحاشا أن يكون له حينئذ ملجأ ومقر في الوجود حتى يطلبه؛ إذ { لا وزر } [القيامة: 11] أي: لا حصن ولا ملجأ، ولا حرز ولا مخلص له يومئذ، بل في عموم الأوقات والأزمان عند العارف غير الحق؛ إذ لا شيء في الوجود سواه.
فثبت أنه { إلى ربك } يا أكمل الرسل، وإلى كنف حفظه وجواره { يومئذ المستقر } [القيامة: 12] أي: لا مقر حينئذ لعموم العباد إلا عنده سبحانه، ولا مرجع لهم سواه.
وبعد رجوع الكل إليه سبحانه، وحضوره دونه { ينبأ } ويخبر { الإنسان يومئذ بما قدم } من الأعمال الصالحة، وأتى بها { و } بما { أخر } [القيامة: 13] منها، ولم يأت بها وتركها، بل أتى بأضدادها على التفصيل بلا فوت شيء منها.
{ بل } لا حاجة حينئذ إلى الإنباء والإخبار بما صدر عنه؛ إذ { الإنسان } له حينئذ { على نفسه } وبما صدر عنه من الأعمال الصالحة والطالحة { بصيرة } [القيامة: 14] كاملة وبينة، واضحة موضحة؛ إذ يشهد له وعليه حينئذ جوارحه وآلاته التي اقترف بها ما اقترف من الحسنات والسيئات.
بحيث { ولو ألقى معاذيره } [القيامة: 15] أي: جميع ما يعتذر به من الأعذار الكاذبة، لم يسمع مع حضور الشهود والعدول التي هي أعضاؤه وجوارحه، بل يعامل معه بمقتضى ما يحاسب عليه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
[75.16-25]
ثم لما استعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبادر بالتقاط الوحي من في جبريل عليه السلام، إلى حيث سبق عليه بالتلفظ خوفا من أن ينفلت منه شيء، نهى سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم عن ذلك تأديبا وإرشادا فقال: { لا تحرك } يا أكمل الرسل { به } أي: بالقرآن { لسانك } حين التقاطك من حامل الوحي؛ يعني: جبريل عليه السلام، قبل أن يتم وحيه وإلقاؤه لك { لتعجل به } [القيامة: 16] أي: لتأخذه على عجلة خوفا من إفلاته عنك.
لا تخف { إن علينا جمعه } في خاطرك وضميرك { و } أيضا علينا بعد جمعنا { قرآنه } [القيامة: 17] وقراءته على لسانك على وجهه بلا فوت شيء منه، لا تتعب نفسك بالعجلة، ولا تستعجل بالالتفاظ قبل الالتمام.
وبعدما سمعت ما سمعت يا أكمل الرسل فأجر عليه، واذكر { فإذا قرأناه } أي: القرآن حين الوحي بلسان جبريل عليك { فاتبع قرآنه } [القيامة: 18] أي: تذكر وتتبع قراءته.
{ ثم } تتبع تلاوته وتكرر حتى ينتقش في صحيفة خاطرك، ويترسخ في ذهنك، ثم أجر على لسانك مرارا كذلك، ثم إن بقي لك شك وتردد في معناه { إن علينا بيانه } [القيامة: 19] أي: تبيينه وتوضحه لك، وإزالة ترددك إشكالك عنه.
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وكفا لعموم عباده عن العجلة في جميع الأمور مبالغة وتأكيدا؛ لأن الإنسان مجبول على الاستعجال، مطبوع عليه؛ لذلك بالغ سبحانه في النهي عنه، وأردف بهذا النهي حسب العاجل والآجل، فقال على سبيل الإضراب: { بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة } [القيامة: 20-21] يعني: إن بني آدم كلهم مجبولون على العجلة؛ لذلك يحبون ويختارون اللذة العاجلة الدنيوية مع سرعة انقضائها وزوالها، على اللذة الآجلة الآخروية مع بقائها ودوامها، وعدم انقضائها أصلا، ويتركون الأعمال المقتضية لها.
لذلك { وجوه يومئذ } أي: يوم قيام الساعة { ناضرة } [القيامة: 22] طرية بهية مشرقة، يتلألأ منها أنوار اليقين والعرفان، وآثار الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية، وهي وجوه أرباب العناية الموفقين على صلاح الدارين، وفلاح النشأتين.
لذلك حينئذ { إلى ربها ناظرة } [القيامة: 23] وبمطالعة لقائه مشرفة مسرورة.
{ ووجوه } أخر { يومئذ باسرة } عبوسة كلوحة، متغيرة مسودة.
بحيث { تظن } بل يجزم كل من نظر إليها { أن يفعل بها } ويعرض عليها { فاقرة } [القيامة: 25] داهية شديدة، ومصيبة عظيمة تكسر فقار ظهرها من هولها وشدتها.
[75.26-40]
{ كلا } أي: كيف تحبون وتختارون اللذة الفانية العاجلة على الباقية الآجلة؟! أما تتذكرون { إذا بلغت } النفس، وعزمت على التوديع والخروج { التراقي } [القيامة: 26] أي: عالم الصدر قريب المخرج؟!
{ وقيل } حينئذ في حقه؛ أي: الملائكة الموكلون على الموت، مستفهمين فيما بينهم على سبيل المشورة: { من } من { راق } [القيامة: 27] منا، قابض روحه، أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟.
{ و } حينئذ { ظن } بل جزم المختصر { أنه الفراق } [القيامة: 28] والافتراق عن الدنيا، وما فيها من عموم اللذات والشهوات المحبوبة فيها.
{ و } بعدما جزم بفراق الأحبة { التفت الساق بالساق } [القيامة: 29] أي: التولت ساقه باسقه من كمال ضجرته وأسفه، فلا يقدر حركتها وتحريكها.
وبالجملة: { إلى ربك يومئذ المساق } [القيامة: 30] أي: سوقه إليه، ورجوعه نحوه، وحكمه عنده، وحسابه عليه.
وبالجملة: إذا سئل الإنسان حينئذ عما أمر له ونهي عنه في النشأة الأولى، كيف يجيب، مع أنه { فلا صدق } على من أمر بتصديقه، ولا قبل منه ما هو صلاحه في دينه { ولا صلى } [القيامة: 31] ومال إلى الله في الأوقات المكتوبة المقدرة للتوجه والرجوع نحوه سبحانه؟!
{ ولكن } عكس الأمر؛ إذ { كذب } على من أمر بتصديقه { وتولى } [القيامة: 32] أي: انصرف وأعرض عن الطاعات المأمورة به.
{ ثم } بعد انصرافه وإعراضه عن المرشد الداعي { ذهب إلى أهله يتمطى } [القيامة: 33] يتبختر فرحانا مسرورا، مباهيا بفعلته، مفتخرا بشأنه.
قيل له حينئذ من قبل الحق مخاطبا إياه بالويل والهلاك؛ بسبب فعله هذا ومباهاته: { أولى } وأليق { لك } وبحالك في شأنك هذا الويل والهلاك { فأولى } [القيامة: 34] لك وبحالك الويل والهلاك.
{ ثم أولى لك } كذلك { فأولى } القيامة: 35] لك كذلك تأكيدا على ذلك، وتشديدا على عذابك، ووخامة حالك ومآلك، أيها المسرف المفرط، المباهي بالإعراض والانصراف عن الإيمان والطاعات؛ المراد منه: أبو جهل، عليه اللعنة.
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ التهديد: { أيحسب الإنسان } المصر على الكفران والطغيان { أن يترك سدى } [القيامة: 36] مهملا لا يكلف، ولا يحاسب بعد التكليف، ولا يجازى ولا يعاقب على أفعاله، مع أنه إنم جبل على فطرة التكليف والمعرفة، وبمقتضى حسبانه هذا أنكر البعث والجزاء، وخرج عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة عليه في نشأة الأختبار، مصرا على كفره وكفرانه؟!
ومن أين يتأتى له الخروج عن ربقة العبودية { ألم يك نطفة } مهينة مرذولة، حاصلة { من مني } مهين مرذول { يمنى } [القيامة: 37] ويصب في الرحم المرذول؟!
{ ثم كان علقة } قذرة في الرحم، كسائر الأقذار { فخلق } أي: قدر سبحانه أعضاءه وجوارحه منها، وبعدما قدره وصوره { فسوى } [القيامة: 38] أي: عدله وقومه سبحانه بحوله وقوته، فصار جسدا ذا حس وحركة، وقواه فأقامه.
{ فجعل } وخلق بكمال قدرته، ومتانة حكمته وصنعته لمصلحة التناسل والتكاثر { منه } أي: من ماء الإنسان ونطفته { الزوجين } الصنفين { الذكر والأنثى } [القيامة: 39] تتميما للحكمة البالغة المتقنة.
ثم قال سبحانه موبخا مقرعا على وجه الاستبعاد عن كفران الإنسان، وإصراره على إنكار البعث والحشر، وإعادة الأموات أحياء كما كان: { أليس ذلك } القادر المقتدر الذي قدر على خلق هذه الصور المهينة الخبيثة وتبديلها، صورها عجيبة بديعة، قابلة لفيضان أنواع الكمالات، لائقة للخلافة والنيابة الإلهية { بقادر على أن يحيي الموتى } [القيامة: 40] مرة بعد أخرى، مع أن الإعادة أهون من الإبداء؟!
بلى، لك الإعادة والإبداء أيها القادر المقتدر على خلق الأشياء، أنت تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد لا تسأل عن فعلك، إنك حميد مجيد.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المتحقق بحيطة الحق وشموله، واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته، وجبروته ولاهوته أن تعتقد أن قدرته الكاملة لا يعتريها كلال، ولا يعرضها فطرة ولا زوال، بل له أن يظهر ويوجد بمقتضى قدرته جميع ما ثبت وتحقق في حضرة علمه، ولوح قضائه من الصور البديعة التي لا يخطر ببالك مطلقا، فله أن يكون ويوجد من كل ذرة عوالم ما شاء الله، وكذا يدرج العوالم الغير المحصورة في كل ذرة من ذرائر الكائنات.
وبالجملة: من وصل إلى سعة قلب الإنسان، وساحة صدره ظهر عنده أنه لا يمتنع، ولا يستحيل في جنب قدرته سبحانه وإرادته شيء من مقدوراته ومراداته مطلقا.
فهيهات هيهات لو نظرت إلى أجزاء العالم بنظر العبرة والاستبصار، بل إلى نفسك ورقائق أعضائك وجوارحك، ودفعت الألفة والعادة عن البين، لرأيت من كل شيء وفي كل ذرة من ذرائر العالم عجائب وغرائب، لا تعد ولا تحصى.
غاية ما في الباب: إن ألفك حجبك عن هذا الإدراك، وعادتك عاقتك عن رؤية البدائع الإلهية، ولو تنور بصر بصيرتك، ونظر سرك وسريرتك بكحل الاستبصار والاعتبار، لرأيت من عجائب قدرة الله، وبدائع صنعه وحكمته في كل طرفة ولمحة ما بجنبه أمر الحشر والنشر، وإعادة الأموات أحياء سهل يسير.
حققنا بحقيتك وقيوميتك يا ذا القوة المتين.
[76 - سورة الانسان]
[76.1-6]
{ هل أتى } أي: قد سبق ومضى { على الإنسان } المصور بصورة الرحمن { حين من الدهر } أي: شأن محدود من الشئون المحدودة الإلهية، بحيث { لم يكن } الإنسان فيه { شيئا } إذ العدم ليس بشيء، فكيف كان { مذكورا } [الإنسان: 1]؟!
{ إنا } من مقام عظيم جودنا بمقتضى كمال قدرتنا وإرادتنا، ووفور حكمتنا { خلقنا الإنسان } وقدرنا وجوده بعدما أخرجناه من العدم الصرف نحو فضاء البروز، وصورناه بصور العناصر { من نطفة } مهينة مرذولة { أمشاج } مختلطة مجتمعة من الذكر والأنثى، وبعدما صورناه هيكلا سويا، وأودعنا فيه ما أودعنا من الروح وسيمناه إنسانا { نبتليه } نختبره ونجربه، هل يتفطن إلى موجوده ومظهره، أم لا؟.
وكيف لا نختبره { فجعلناه } لحكمة الاختبار، ومصلحة الاعتبار { سميعا } متمكنا قادرا على استماع آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { بصيرا } [الإنسان: 2] مقتدرا على مشاهدة بدائع صنعنا، وغرائب صنعتنا، وعجائب حكمتنا؛ ليكون معتبرا منها، متوجها إلى فاعلها.
ومع إعطاء تلك الكرامات العظيمة إياه { إنا هديناه السبيل } يعني: أودعنا فيه العقل الفطري المنشعب من العقل الكلي الذي هو حضرة علمنا، وبواسطته هديناه إلينا سبيلا بأن أرسلنا الرسل المنبهين عليه، الموقظين له من نعاس النسيان، المنهين له إلى ما أودعنا فيه من الوديعة، وأيدناهم بالآيات المبينة المنبة، النازلة من لدنا، والبينات الواضحة الموضحة الطريق توحيدنا، وسبيل شهودنا، وبعدما وضح الحق، واتضح السبيل على الوجه الأبلغ الأكمل.
فعليه الاختيار { إما شاكرا } أي: إما أن يكون شاكرا مشتغلا بشكر النعم، مواظبا على أداء حقوق الكرم، صارفا عنان عزمه واختياره إلى صوب الهداية والرشاد حتى يكون من أرباب العناية والسداد، المتنعمين في جنة الرضا والتسليم { وإما كفورا } [الإنسان: 3] للنعم، كافرا لمنعمها، مقتفيا أثر أصحاب الغفلة والعناد، واللدد والفساد حتى يكون من أصحاب الجحيم.
وبالجملة { إنآ } بمقتضى قهرنا وجلالنا { أعتدنا } وهيأنا { للكافرين } الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق المشرقة، الظاهرة على صفائح ذرائر الكائنات؛ لذلك خرجوا عن ربقة ربقيته، وعروة عبوديته، وأعرضوا عن مقتضى حدوده الموضوعة بين عباده { سلاسلا } أي: سلاسل الحرص وطول الأمل، يقادون ويسحبون بها نحو نيران الإمكان، وجحيم الطرد والحرمان بأنواع الخيبة والخسران { وأغلالا } أي: أغلال الأماني والشهوات، يقيدون بها { وسعيرا } [الإنسان: 4] مسعرا مملوءا بنيران الافتقار والاحتياج، والأماني والآمال، يطرحون فيها طول دهرهم بأنواع الخذلان والهوان أبدا، ويسجنون خالدين مخلدين.
ثم أردف سبحاه الوعيد بالوعد على مقتضى سنته المستمرة فقال: { إن الأبرار } الأخيار، البارين المبرورين ذوي الأيدي والأبصار، المستغرقين في بحار المعارف والأسرار { يشربون } لدى الملك الجبار خمور الشهو والاعتبار { من كأس } أي: من كؤوس ذرائر العالم المستعار؛ ولذلك { كان مزاجها } أي : ما يمزج بها ويخلط { كافورا } [الإنسان: 5] هو برد اليقين.
يعني: { عينا } معينا هي ينبوع بحر الوجود { يشرب بها } ومنها { عباد الله } الواصلون إلى عالم اللاهوت، والفانون في فضاء الجبروت، الباقون ببقاء حضرة الرحموت؛ لذلك { يفجرونها } ويجرونها { تفجيرا } [الإنسان: 6] وإجراء حيث شاءوا.
[76.7-14]
وصاروا من كمال وصولهم واتصالهم { يوفون بالنذر } ويوفرون على المنذور { و } كيف لا يوفون أولئك الموفقون، مع أنهم { يخافون يوما } وأي يوم، يوما { كان شره } شدائده وأهواله { مستطيرا } [الإنسان: 7] طائرا منتشرا بين عموم العباد؟!
{ و } من كمال استغراقهم بمطالعة وجهه الكريم { يطعمون الطعام } أي: الرزق الصوري والمعنوي، المسوق لهم من عنده سبحانه تقوية وتقويما، ترحيبا وتكريما { على حبه } طلبا لمرضاته { مسكينا } أسكنه الفقر، وأزعجه إلى المعاونة والسؤال { ويتيما } أدركه الذل، وأحوجه إلى الافتقار { وأسيرا } [الإنسان: 8] أذله الصغار والهوان، وأفقره إلى الرعاية والترحم.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الحسن والحسين - سلام الله وصلواته على جدهما وولديهما وعليهما - مرضا مرضا هائلا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة - على النبي وعليهما وابنيهما الصلاة والسلام - وفضة جارية لفاطمة صوم ثلاثة أيام إن برئا، ثم لما برئا صاموا وما معهم شيء، واستقرض علي من شمعون الخيبري ثلاثة آصع من الشعير، فطحنت فاطمة صاعا، وخبزت خمسة أقراص على عدد رءوسهم، فوضعوا بين أيديهم ليفطروا، فجاء على الباب مسكين، فأعطوا له وآثروه على أنفسهم، وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما.
فلما فعلوا كذلك، فألم عليهم يتيم فآثروه كذلك، فأصبحوا صياما، ففعلوا في اليوم الثالث مثل ذلك، فجاء أسير، فأعطوه فباتوا بلا طعام، فنزل جبريل بهذه الآية فقال: هنأك الله في أهل بيتك يا نبي الله.
ثم لما أضمروا في نفوسهم ومناجاتهم حين صدور هذا الإحسان عنهم طلب مرضاة الله، وتثبيتا لهم على دينه وطاعته، وتشويقا منهم إلى لقائه، نزل في حقهم على وفق ما نووا: { إنما نطعمكم } أي: ما نطعمكم أيها المحتاجون إلا { لوجه الله } الكريم، وطلبا لمرضاته؛ إذ { لا نريد منكم جزآء } ليصير عوضا؛ لإطعامنا لوجه الله الكريم { ولا شكورا } [الإنسان: 9] ما لنا من الشكر والجزاء أمر.
وكيف يتأتى منا طلب الشكر والجزاء؛ إذ قدرتنا على إطعامكم إنما هي بإقدار الله إيانا، وإعطاؤنا إنما هي من عطاياه؟! وبالجملة: { إنا نخاف } بطلب الأجر والجزاء { من } غضب { ربنا } بنا { يوما } وأي يوم، يوما { عبوسا } تعبس فيه مطلق الوجوه من شدة هوله، بل صارت { قمطريرا } [الإنسان: 10] في غاية الشدة والعبوسية، سيما على أهل الرياء والسمعة، الطامعين بصدقاتهم الذكر الجميل، والثناء الجزيل، مع أنهم إنما يعطون من مال الله لعيال الله.
وبعدما أخلصوا لله، وخافوا من عذابه { فوقهم الله } الحكيم الحفيظ { شر ذلك اليوم } أي: فرفع عنهم شره، وأبدله لهم خيرا { ولقاهم } أي: لقى لهم يومهم { نضرة } طراوة وصفاء في وجوههم { وسرورا } [الإنسان: 11] وبهجة في قلوبهم.
{ و } بعدما فعلوا ما فعلوا خالصا لوجه الله { جزاهم } سبحانه { بما صبروا } وحبسوا نفوسهم عن مشتهيات المنهيات والمحرمات، وعلى أداء الواجبات، وإيثار الأموال والأرزاق المسوق نحوهم؛ لطلب المرضاة { جنة } مصورة من صالحات أعمالهم وحالاتهم ومقاماتهم، يتلذذون فيها باللذات الروحانية أبد الآباد { و } يلبسون فيها { حريرا } [الإنسان: 12] متخذا من حلل الأسماء والصفات التي لا يتصور فيها الحول والخشونة أصلا.
{ متكئين فيها على الأرائك } يعني: مستظهرين فيها بالألطاف الإلهية، مستظلين بكنف حفظه وجواره، بحيث { لا يرون فيها شمسا } أي: حرارتها المؤذية لهم { ولا زمهريرا } [الإنسان: 13] أي: البرودة المضرة، بل تعتدل فيها الهواء والأهواء؛ لتعديلهم الأخلاق والأعمال والأحوال.
{ و } ليس ظلال الجنة بعيدة عنهم، بل كانت { دانية عليهم ظلالها } الموعودة لهم من قبل الحق { و } لهم فيها ثمار متجددة، متلونة من أنواع المعارف والحقائق اللدنية المترتبة على أشجار الأسماء والصفات الإلهية التي اتصفوا بها، وتخلقوا بمقتضاها، ولا تكون تلك الأشجار وأثمارها، وأغصانها الكثيرة بعيدة آبية عنهم بعدما اتصفوا بها، بل { ذللت } وسخرت { قطوفها } ثمارها لهم { تذليلا } [الإنسان: 14] بحيث منتى أرادوا تلذذوا بها بلا تردد؛ إذ كمالاتهم كلها حينئذ بالفعل بلا انتظار لم أياها، وترقب لها.
[76.15-23]
{ و } لتكميل ترفههم وتنعمهم { يطاف عليهم بآنية } متخذة { من فضة } أي: من فضة عقائدهم الصافية البيضاء، الشفافة الخالصة عن مطلق الكدورات { وأكواب } أبارق وكيزان لا عروة من شدة صفائها وجلائها، كأنها { كانت قواريرا } [الإنسان: 15] في الرقة.
وأية قوارير { قواريرا } متخذة { من فضة } من غاية صفائها وشفافها لا يرى لها لون ولا كون، بحيث اشتبه أمرها عند الرائي؛ لذلك { قدروها تقديرا } [الإنسان: 16] بمقتضى ما راعوا في الاعتدال في الأطوار والأخلاق.
{ ويسقون } هؤلاء المقربون { فيها } أي: في تلك الأواني والأكواب { كأسا } خمرا من خمور المحبة والمودة { كان مزاجها زنجبيلا } [الإنسان: 17] أي: كالزنجبيل في المساغ وسرعة الانحدار.
يعني: { عينا فيها } جارية بماء الحياة الأزلية الأبدية السرمدية { تسمى سلسبيلا } [الإنسان: 18] لهدايتها وإرشادها إلى مشرب التوحيد، وبحر الوحدة الذاتية، كأنها تلقى وتلقن تلك العين المترشحة من بحر الحياة الأزلية الأبدية لأرباب العناية بقولها: سل أيها الطالب الحائر في بيداء الطلب سبيلا إلى الوحدة الحقيقية الحقية.
{ ويطوف عليهم } تأنيسا لهم وتصحيبا { ولدان } حسان، مصورون من أعمالهم وأحوالهم { مخلدون } دائمون على صباحتهم وحسنهم، بحيث { إذا رأيتهم } إيها المعتبر الرائي { حسبتهم لؤلؤا منثورا } [الإنسان: 19] من صفاء ألوانهم، ومقبولية هيكالهم، وصباحة خدهم، ورشاقة قدهم، وانعكاس أشعة وجوههم من كمال اللطافة والطراوة والصفاء المفرط.
{ و } بالجملة: { إذا رأيت } أيها المعتبر الرائي { ثم } أي: في الجنة { رأيت } ما رأيت، وما أدراك ما رأيت، رأيت { نعيما } وأي نعيم، نعيما لا يكتنه غوره وطوره { وملكا } وأي ملك، ملكا { كبيرا } [الإنسان: 20] وسيعا فسيحا، لا يدرك وسعته وقدره، ولا يكتنه طوره وغوره.
ومع ذلك { عاليهم } أي: يعلو عليهم فيها تعظيما لهم تكريما { ثياب سندس } رقيق من الديباج { خضر } على لون الحياة؛ لأن حياتهم فيها سرمدية { وإستبرق } غليظ منه كذلك { وحلوا أساور } متخذة { من فضة } تميما لتنعمهم وترفههم فيها { و } بالجملة: { سقاهم ربهم } بعدما تمكنوا في مقعد الصدق عند المليك المقتدر { شرابا } من كأس المحبة، ورحيق التوحيد والتحقيق { طهورا } [الإنسان: 21] خاليا خالصا عن شوب الثنوية، وشين الكثرة مطلقا، فسكروا منه، ولم يصحوا أبدا.
ثم قيل لهم من قبل الحق: { إن هذا } التي فزتم عليه الآن { كان لكم جزآء } موعودا في مقابلة أعمالكم وأخلاقكم، وأحوالكم ومعارفكم، ومواجدكم التي أنتم عليها في النشأة الأولى { وكان سعيكم } الذي كنتم عليه في نشأة الأختبار { مشكورا } [الإنسان: 22] مجازا عليه، غير مضيع مع زيادات منا عليكم تفضلا وامتنانا.
ثم لما جمع سبحانه جميع الفضائل والكمالات، وعموم المعارف والمشاهدات والمكاشفات اللدنية في المرتبة الجامعة الختمية المحمدية، المحيطة على عموم المراتب والمناصب، خاطبهم سبحانه خطاب امتنان ورحمة على وجه التعطف والتلطف فقال: { إنا } بمقتضى فضلنا وجودنا { نحن نزلنا عليك } يا أكمل الرسل تأييدا لك، وتعظيما لشأنك { القرآن } الحاوي لما في الكتب السالفة، المحتوي لجميع الكمالات اللائقة لعموم الأنبياء والرسل، المجتازين في سبيل التوحيد { تنزيلا } [الإنسان: 23] مفرقا منجما على مقتضى الحكمة البالغة الباعثة على إنزالها حسب حاجتك إليها، وانكشافك بما فيها؛ لتتدرج في سلوكك وشهودك.
[76.24-31]
وبعدما سمعت ما سمعت من الكرامة والتعظيم { فاصبر لحكم ربك } ولا تستعجل في نصرتك وظهورك على عموم أعدائك من جنود أهل التقليد والضلال، سيما كفار مكة، خذلهم الله.
{ و } بعدما كوشفت بحقية الحق، ووحدته واستقلاله في الوجود ومطلق الآثار { لا تطع منهم } أي: من أهل التقليد وأصحاب الضلال أحدا سواء كان { ءاثما } متناهيا في الفسوق والعصيان، بحيث ينتهي إثمه إلى الكفر { أو كفورا } [الإنسان: 24] لنعم الله، مبالغا في كفران نعمه ونسيان كرمه، بحيث ينتهي كفرانه إلى الكفر، أعاذنا الله وعموم عباده منهما.
{ و } بعدما تحققت بمقام الكشف والشهود { اذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } [الإنسا: 25] أي: في عموم أوقاتك وحالاتك، وداوم على ذلك.
{ ومن الليل } الموضوع؛ للخلوة مع الله، ودوام المراقبة معه { فاسجد له } وتوجه نحوه توجها خالصا، مقارنا بكمال الخضوع والخشوع، والتذلل التام { وسبحه } أي: نزه ذاته عن جميع ما لا يليق بشأنه { ليلا } أي: في خلاله تسبيحا { طويلا } [الإنسان: 26] خاليا عن مطلق الشواغل، فارغ البال عن تشتت الآمال، هكذا دأب أصحاب الكمال، وديدنة أصحاب الوجد.
والحال { إن هؤلاء } أي: أصحاب الضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال { يحبون } اللذة { العاجلة ويذرون ورآءهم } أي: يتركون أمامهم وخلفهم بلا مبالاة لهم { يوما ثقيلا } [الإنسان: 27] شديدا، يشتد الأمر فيه عليهم ويصعب، ومع ذلك ينكرون له ويكذبونه.
وكيف يذرونه وينكرونه، مع أنا نخبر به، ونأمر بتصديقه؛ إذ { نحن } بمقتضى قدرتنا { خلقناهم } وقدرنا وجودهم أولا من أهون الأشياء، وأخسها وأرذلها { وشددنآ أسرهم } أي: عدلنا أركانهم وجوارحهم، وأحكمنا مفاصلهم وأوصالهم، وبالجملة: سويناهم أشخاصا قوابل للتكليف؛ ليترتب عليهم الإيمان والتصديق بجميع المعتقدات الدينية { و } بعدما لم يؤمنوا، ولم يصدقوا عنادا وكابرة { إذا شئنا } وعلق مشيئتنا على إهلاكهم واستئصالهم أهلكناهم واستأصلناهم، و { بدلنآ أمثالهم } في الخلقة وجميع لوازمها { تبديلا } [الإنسان: 28] حسنا، بحيث يكون المبدل خيرا، وأحسن وأكمل من المبدل منه.
وبالجملة: { إن هذه } الآيات الدالة على تهذيب الأخلاق والأطوار { تذكرة } ناشئة من قبل الحق { فمن شآء } أن يتعظ به، أو يتذكر بما فيها { اتخذ } أولا { إلى ربه سبيلا } [الإنسان: 29] يعني: شرع في مسالك القرب والوصول إلى الله، فتقرب نحوه بالمعاملات، ثم بالأحوال والمقامات، ثم بالمعارف والحقائق المنتهية إلى المكاشفات والمشاهدات المؤدية إلى الوصول والنهايات، وليس وراء الله مرمى ومنتهى.
{ و } لكن { ما تشآءون } أيها المتقربون إلى الله، السائرون نحوه حسب التوفيق والتيسير الإلهي { إلا أن يشآء الله } الموفق لهم، الموجد المقدر لعموم أفعالهم وأعمالهم، المنجي لهم عن غياهب الإمكان، وظلمات الخيالات والأوهام { إن الله } المطلع على استعدادات عباده { كان عليما } بقابلياتهم اللائقة لفيضان الكشف والشهود { حكيما } [الإنسان: 30] في تربيتهم وتكميلهم.
{ يدخل } بمقتضى هدايته ولطفه { من يشآء في رحمته } التي هي سبعة وحدته { و } لكن { الظالمين } الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية، المحرومين عن نظر العناية والتوفيق مطلقا { أعد لهم عذابا أليما } [الإنسان: 31] لا عذاب أشد منه إيلاما، وأفزع انتقاما، وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول، نعوذ بك يا ذا القوة المتين.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد المترصد لمشيئة الله وتيسيره - وفقك الله على ما أملك، وأعانك على إنجاحه - أن نفرغ همك، وتخلي قلبك عن الالتفات إلى الدينا معرضا عن آمالها وأمانيها، متوجها إلى الآخرة وما فيها، متعرضا لنفحات الحق، مستنشقا من روائح روحه ورحمته ، راجيا من سعة لطفه وجوده أن ييسر لك، ويوفقك في عموم أوقاتك وحالاتك على ما هو خير لك في أولاك وأخراك، ويدفع عنك شرور بشريتك، ومقتضيات بهيميتك وقواك.
وبالجملة: فاتخذه وكيلا، وثق إليه، واجعله حسيبا وكفيلا؛ إذ هو أعلم بما ينبغي لك منك، ويليق بحالك، فلك التفويض والتكلان، والأمر بيد الله الحكيم المستعان.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-19]
{ و } حق { المرسلات } أي: رياح الجذبات المهبة من قبل عالم اللاهوت؛ لاسترواح أرواح سكان عالم الناسوت وأشباحهم { عرفا } [المرسلات: 1] للتعارف والائتلاف الواقع بينهم بحسب الحقيقة.
{ فالعاصفات } النازعات ملابس الناسوت، وثياب الإمكان عن أرواح المحبين المنجذبين نحو الحق { عصفا } [المرسلات: 2] سريعا شديدا تخليصا لهم عن سجن الطبيعة تفريجا وترويجا.
{ والناشرات } المنتشرات على أرض استعدادات أرباب الطلب والإرادات المتوجهين نحو الحق بعزيمة خالصة { نشرا } [المرسلات: 3] لينا هينا، بحيث يوقظهم عن نوم الغفلة، ويخلصهم عن مضيق الضلال، ويرشدهم إلى فضاء الوصال.
{ فالفارقات } الواصلات إلى بقعة الإمكان من قبل الرحمن؛ ليفصلن ويفرقن لساكنيها بين الحق والباطل، والحرام والحلال، والهداية والضلال الواقعة في سلوط طريق الحق، وسبيل توحيده { فرقا } [المرسلات: 4] بينا واضحا؛ ليتنبهوا إلى مبدئهم ومعادهم.
{ فالملقيت } الملقنات لحوامل أثقال الطبيعة والأركان، المسجونين في سجن الإمكان، المقيدين بسلاسل الزمان، وأغلال المكان { ذكرا } [المرسلات: 5] حسنا من عالم اللاهوت، يجرونه على ألسنتهم؛ لعلهم يتذكرون بها مبدأهم الأصلي، ومنشأهم الحقيقي.
ليكون لهم ذكرهم هذا { عذرا } يزيل ويمحو سيئات عالم الناسوت، وآثام لوازم بقعة الإمكان بعدما تنبهوا بها إلى عالم اللاهوت، طرقوا نحوه مهاجرين من بقعة الناسوت { أو نذرا } [المرسلات: 6] ينذرهم عن نيران الإمكان، وسعير الطرد والخذلان بعدما تذكروا نعيم عالم اللاهوت، وفضاء الجبروت.
يعني: وبحق هذه المقسمات العظام، المكرمات عند الله { إنما توعدون } أيها المكلفون من قبل الحق في يوم العرض والجزاء { لوقع } [المرسلات: 7] محقق وقعه وثبوته بلا ريب وتردد.
وبعدما وقعت الواقعة، وقامت القيامة { فإذا النجوم } أي: الهويات المترتبة في عالم الكون والفساد { طمست } [المرسلات: 8] انمحقت وانمحت، وغابت وتلاشت عند ظهور شمس الذات.
{ وإذا السمآء } أي: نظام عالم الكون والفساد { فرجت } [المرسلات : 9] وانفصمت وتلاشت.
{ وإذا الجبال } الرواسي التي هي أوتاد الأرض، وهي في الحقيقة عبارة عن الهياكل المحسوسة في عالم الكون والفساد { نسفت } [المرسلات: 10] قلعت عن أماكنها، ثم ذريت برياح الفناء.
{ وإذا الرسل } المبعوثون؛ للإرشاد والتكميل، والإشهاد على صلاح العباد وسدادهم { أقتت } [المرسلات: 11] ووقتت؛ أي: غين لهم وقت الشهادة على أممهم بعدما أبهم عليهم وقتها في النشأة الأولى.
كأنه قيل لهم من قبل الحق: { لأي يوم أجلت } [المرسلات: 12] وأخرت شهادتهم؟.
وأجيب أيضا من جانبه سبحانه: { ليوم الفصل } [المرسلات: 13].
{ ومآ أدراك } وأعلمك يا أكمل الرسل { ما يوم الفصل } [المرسلات: 14]؟ أبهمه سبحانه تهويلا وتفخيما.
وبالجملة: { ويل } وهلاك مؤيد مستمر { يومئذ } أي: في يوم الفصل { للمكذبين } [المرسلات: 15] به، المنكرين له في النشأة الأولى، سيما بعد إخبار الرسل والكتب، وكيف يكذبونه وينكرون عليه أولئك الضالون المكذبون، مع أنهم قد سمعوا حال المكذبين المنكرين الماضين؟!
{ ألم نهلك } المكذبين { الأولين } [المرسلات: 16] كقوم نوح وعاد وثمود، ولم نستأصلهم؛ بسبب إنكارهم المنكرين الماضين؟!
{ ثم نتبعهم الآخرين } [المرسلات: 17] أي: نحن نتبع ونعقب إهلاك الأولين بإهلاك الآخرين، كقوم شعيب وموسى وعيسى، وغيرهم أيضا؛ بسبب تكذيب هذا اليوم، وتكذيب من أخبر به من الكتب والرسل.
وبالجملة: { كذلك } أي: مثلما فعلنا بالمكذبين السابقين، والآخرين اللاحقين { نفعل بالمجرمين } [المرسلات: 18] أي: بعموم هؤلاء المجرمين الحاضرين، المكذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآياته النازلة عليه.
لذلك { ويل } عظيم { يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 19].
[77.20-34]
وكيف تكذبون أيها المكذبون بما أمرتم بتصديقه من لدنا، مع أنكم قد عرفتم قدرتنا عليه وعلى أمثاله؟! { ألم نخلقكم } أيها المجبولون على النسيان { من مآء } مسترذل مستنزل { مهين } [المرسلات: 20] في غاية المهانة والخباثة؟!
وبعد نزوله { فجعلناه } مستقرا { في قرار } يعني: مقر الرحم { مكين } [المرسلات: 21] مستقر.
{ إلى قدر معلوم } [المرسلات: 22] وأجل معين، قدره الله العليم الحكيم للولادة، وتسوية الخلق، والخروج إلى عالم الشهادة.
وبالجملة: { فقدرنا } على خلقكم من النطفة المهينة، المكينة في ظلمة الرحم، وعلى إخراجكم منها إلى فضاء العالم، وتربيتكم فيها إلى أن صار كل منكم شخصا ذا رأي ورشد، قابلا لحمل التكاليف المثمرة للمعرفة والإيمان.
{ فنعم القادرون } [المرسلات: 23] المقتدرون نحن على إخراجكم من قبوركم أحياء كما كنتم في يوم البعث والجزاء.
فلم تكذبون به أيها المكذبون، مع أنه { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 24] بقدرتنا على الإعادة؟!
وكيف تنكرون قدرتنا الكاملة الشاملة على مطلق المقدورات؟! { ألم نجعل الأرض } اليابسة { كفاتا } [المرسلات: 25] جامعة كافية.
ضامة { أحيآء } مرة { وأموتا } [المرسلات: 26] أخرى؛ أي: كيف تكف وتجمع الأحياء والأموات من الإنسان على التعاقب والتوالي تارة فيها، وتارة عليها؟!
{ وجعلنا فيها } وعليها من نوع الإنسان { رواسي } أوتادا وأقطابا { شامخات } عاليات متعاليت عن أن ينال بكنه معارفهم وشهوداتهم إدراك أحد { وأسقيناكم } من لدنيات أولئك الأوتاد المتعالية أعذار أطوارهم العالية عن إدراك الأنام وإفهامهم { مآء } حياتا { فراتا } [المرسلات: 27] سائغا شرابه لأولي العزائم الصحيحة، والمشارب الصافية.
وبالجملة: { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 28] لقدرتنا واقتدارنا على إظهار هذه البدائع التي كلت دونها وصف الألسن والأحلام، ودرك العقول الأفهام، وكيف يكذبونه إذا عيانوه؟!
ويقال لهم حينئذ زجرا عليهم وتوبيخا: { انطلقوا } وادخلوا أيها المكذبون { إلى ما كنتم به تكذبون } [المرسلات: 29] من العذاب والنكال، وأنواع العقوبات والمكروهات.
ثم قبل لهم تأكيدا وتشديدا على توبيخهم وتقريعهم: { انطلقوا إلى ظل } وأي ظل، ظل { ذي ثلاث شعب } [المرسلات: 30] متشعبة من القوى البهيمية الوهمية الشهوية، والغضبية؛ إذ بها تقترف المعاصي، وتكسب جميع الآثام الموجبة لدخول النار.
{ لا ظليل } إذ لا يدفع ضرر الحرارة، كسائر الأظلال { ولا يغني } ويدفع { من } حر { اللهب } [المرسلات: 31] الجهنمية، وإحراق النيرانز
وكيف يمكن أن يدفع حر جهنم { إنها } أي: جهنم الطرد والخذلان، وجحيم اللعن والحرمان { ترمي بشرر } وهي ما تطايرت من النار حين التهابها وسوادتها، وأي شرر، كل شرر { كالقصر } [المرسلات: 32] الرفيع في الكبر وعظم المقدار؟!
{ كأنه } في التتابع والتوالي { جملت } إيل متسلسلة، مترادفة متتابعة { صفر } [المرسلات: 33] لونها، شبهها بها في عظم أجرامها وتتابعها، ولونها.
{ ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 34] بتكذيبهم بهذا العذاب الهائل بعدما أمروا بتصديقه على ألسنة الرسل والكتب.
[77.35-50]
وبعدما سقاهم الخزنة إليها بالزجر التام، والعنف المفرط، فأخذوا يطرحونهم إليها مهانين صاغرين، وهم يتضرعون صائحين فزعين، قيل لهم حينئذ { هذا يوم لا ينطقون } [المرسلات: 35] إذ نطقهم كاللانطق في عالم الدفع والنفع.
{ ولا يؤذن } حينئذ { لهم فيعتذرون } [المرسلات: 36] إذ لا يسمع منهم العذر؛ لانقضاء نشأة التلافي والتدارك بالأعذار والتوبة.
وبالجملة: { ويل } عظيم { يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 37] وأي ويل، ويل لا يكتنه غوره وطوره، وشدة هوله.
ثم قال لهم سبحانه حينئذ توبيخا وتقريعا: { هذا يوم الفصل } بين المحق والمبطل، والمسيء والمحسن { جمعنكم والأولين } [المرسلات: 38] أي: جمعنا الآخرين والأولين، والسابقين واللاحقين فيه.
{ فإن كان لكم } أيها المكلفون { كيد } ومكر تقاومون به معي، وتدفعون به عنكم عذابي { فكيدون } [المرسلات: 39] وامكروني إن استطعتم.
وإلا { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 40] حتما؛ لأنه من أين يتأتى بينهم المكر والكيد، والحيلة والخداع مع الله في التخلص من العذاب، سيما في تلك الحالة؟!
وبالجملة: سوقوا نحو النار، وطرحوا فيها مهانين، وعذبوا بها صاغرين خالدين.
ثم أردف سبحانه وعيد المكذبين بوعد المصدقين فقال: { إن المتقين } من الشرك والمعاصي، المصدقين بيوم الدين مستغرقون يومئذ في أنواع التنعم والترفه { في ظلال } ممدودة في ظلال البساتين { وعيون } [المرسلات: 41] جارية فيها.
{ وفواكه } كثيرة { مما يشتهون } [المرسلات: 42].
ويقال لهم حينئذ تلطفا وتكريما: { كلوا واشربوا هنيئا } لكم مريئا { بما كنتم تعملون } [المرسلات: 43] من الأعمال الصالحة، والأخلاق المرضية المثمرة لتلك الحالات العلية والمقامات السنية.
{ إنا كذلك } أي: مثل ما أنتم عليه من الترفه والتنعم { نجزي } عموم { المحسنين } [ المرسلين: 44] المخلصين في الأعمال والأخلاق، الراضين بما جرى عليهم من مقتضيات القضاء.
وبالجملة: { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 45] لكم هذا النعيم المقيم، ولهم ذاك العذاب الأليم.
ثم قيل للمكذبين من قبل الحق زجرا عليهم، وتوبيخا لهم بما اختاروا اللذة الفانية على اللذة الباقية على سبيل الفرض والتقدير، كأنهم أمروا به في النشأة الأولى: { كلوا وتمتعوا } بالأمتعة الدنيوية زمنا { قليلا إنكم مجرمون } [المرسلات: 46] بالجرائم العظيمة، مؤاخذون عليها في النشأة الأخرى بشؤم تكذيبكم بما أمرتم بتصديقهز
وبالجملة: { ويل } عظيم { يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 47] إذ عرضوا أنفسهم على العذاب المؤبد المخلد.
{ و } كيف لا يؤاخذون أولئك المعاندون المكابرون، كانوا من كمال اسكتبارهم وعتوهم { إذا قيل لهم } إمحاضا للنصح: { اركعوا } تواضعوا لأمر الله، واخضعوا لحكمه، وانقادوا وصلوا نحوه متذللين { لا يركعون } [المرسلات: 48] من غاية استكبارهم واستعظامهم، ولا يمتثلون لحكم الله وأمر رسوله، ولا يطيعون لهم تعنتا وعنادا، بل يكذبونهم ويستهزئون معهم؟!
لذلك يحل عليهم { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 49] المستهزئين مع رسل الله، الظاهرين عليهم بالإشارة والاستكبار، المتكبرين بما نزل عليهم من الكتب المبينة لمعالم الدين، ومراسم التوحيد واليقين.
وبعدما لم يؤمنوا بهذا الكتاب المبين المبين لطريق الحق، ومنهج الصدق والصواب { فبأي حديث بعده } أي: بعد القرآن { يؤمنون } [المرسلات: 50] أولئك المنكرون المعاندون المسرفون؟!
جعلنا الله ممن آمن به، وامتثل بما فيهن وتفطن برموزه وإشاراته بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، القاصد لسلوك طريق الهداية والتوفيق، العازم على التحقق والتمكن في مقعد صدق التوحيد والتحقيق - يسر الله عليك مبتغاك - أن تتمسك بحبل المتين القرآني، و تتشبث بأذيال هدايته وإرشاده، وتمتثل بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام الموردة فيه، وتتفطن بما رمز له، وأشير إليه من المعارف والحقائق المصفية لسرك على الالتفات إلى ما سوى الحق، المعدة لقلبك لفيضان الكشف والشهود، فلك أن تتبتل على الله حسب استعدادك، وتتخلق بالأخلاق المحمدية التي هي القرآن.
والتوفيق بيد الله، والهداية عنده، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-16]
{ عم } يعني: عن ما، وعن أي شيء وأمر { يتسآءلون } [النبأ: 1] ويتقاولون فيما بينهم مراء ومجادلة؟.
{ عن النبإ العظيم * الذي هم فيه مختلفون } [النبأ: 2-3] أي: يختلفون في قام الساعة الموعودة؛ لتنقيد أعمال العباد، والجزاء عليهم على وفقها، مع أن أمره أظهر من أن يشك فيه ويسأل عنه، ويستهزأ به، ويختلف فيه وفي وقوعه.
{ كلا } أي: من أين يتأتى لهم إنكاره والتساؤل فيه على وجه المراء، مع أنهم { سيعلمون } [النبأ: 4] عن قريب، بل قربه كلمح البصر، بل هو أقرب؟!
{ ثم كلا سيعلمون } [النبأ: 5] حين ألم عليهم بغتة، وهم لا يشعرون.
وبالجملة: من أين يتأتى لهم إنكار يوم البعث والجزاء، هل ينكرون قدرتنا الكاملة على أمثاله؟!
{ ألم نجعل الأرض مهدا } [النبأ: 6] لهم ، ممهدة مبسوطة، ينتشرون عليه ويستريحون؟!
{ و } لم نجعل { الجبال أوتادا } [النبأ: 7] عليها تقريرا لها وتثبيتا.
{ وخلقناكم } أي: قدرنا أشباحكم أيها المكلفون { أزواجا } [النبأ: 8] أصنافا ذكرا وأنثى؛ لتتأنسوا وتناسلوا؟!
{ وجعلنا نومكم } في الليالي { سباتا } [النبأ: 9] قطعا عن الإحساس والحركة؛ ليحصل إرخاء الأعصاب والعضلات؛ لتستريحوا، وزالت كلا القوى وفتورها فتشتد بالاستراحة، وتشتغل بأفعالها في النهار بجرأة تامة، وقوة كاملة.
{ وجعلنا اليل } لكم { لباسا } [النبأ: 10] غطاء وغشاء تستترون فيه، وتختفون به فيما فيه الإخفاء مطلوبكم.
{ وجعلنا النهار معاشا } [النبأ: 11] وقتا تطلبون فيه ما تعيشون من حوائجكم ومطعوماتكم وملبوساتكم.
{ وبنينا } بكمال قدرتنا، ومتانة حكمتنا { فوقكم سبعا } سبع سماوات طباقا { شدادا } [النبأ: 12] أقوياء محكمات، مستحكمات لا يتأثرن بمر الدهور، وكر الإعصار كسائر الأبنية.
{ وجعلنا } في خلالها { سراجا } مضيئا متلألئ، مشتعشعا { وهاجا } [النبأ: 13] حارا سخينا في غاية السخونة عند الانعكاس؛ لتنضج ما تحتاجون إليه في أمور معاشكم.
{ وأنزلنا } أيضا تتميما لتربيتكم، وترتيب معيشتكم { من } السحب { المعصرات } بالرياح { مآء ثجاجا } [النبأ: 14] مطرا كثيرا الانصباب، متتالي القطر.
{ لنخرج به } أي: بالماء { حبا } تقتاتون به { ونباتا } [النبأ: 15] تعلف به مواشيكم.
{ وجنات } متنزهات لكم وبساتين { ألفافا } [النبأ: 16] ملتفات أشجارها وثمارها من كثرتها وكثفاتها.
كل ذلك من المقدروات التي يتفطن منها العاقل المنصف على وقوع الحشر والنشر، وجميع الأمور الغيبية الموعودة في يوم الجزاء، بل جميع المقدورات الداخلة تحت قبضة القدرة الإلهية؛ إذ نسبة القدرة الكاملة الإلهية إلى هذه المقدورات وأمثالها، وإلى الأمور الموعودة فيها على السواء، والإرادة الكاملة الإلهية ترجع كلا منها عند حلول ما قدر الله له من الوقت والأجل.
وبالجملة: من ترقى إدراكه عن مضيق الألف، وخرق حجب الرسوم والعادات، وخلص من ظلمات الأوهام والخيالات العائقة عن الوصول إلى وحدة الذات التي هي منيع عمم الخيرات، ومنشأ جميع الكمالات، انكشف له ولاح عنده أن أمر النشأة الأولى والأخرى وأمثالها، بل أضعافها وآلافهما في جنب القدرة الغالية الإلهية سهل يسير، لكن المحجوب المحبوس في عالم المحسوس المقيد بعقال العقل المبهوت، المشوب بالوهم المنحوس، والخيال المزور المنكوس، يتخيل حصر المظاهر والمجالي الإلهية بسراب عالم الطبيعة والهيولي؛ لذلك وقع فيما وقع من البلوى، وزلت نعله في سبيل القرب من المولى.
هب لنا من لدنك رحمة تنجينا من أمثال هذه المهالك، إنك أنت الوهاب.
[78.17-30]
ثم قال: سبحانه: { إن يوم الفصل } الفارق بين احتجاب أصحاب الحيرة والضلال، وأرباب العناية والوصال { كان } له { ميقاتا } [النبأ: 17] وقتا معينا في حضرة علم الله، مقدرا في لوح قضائه، لم يطلع أحدا عليه وعلى تعيينه، بل أخبرهم بأماراته وعلاماته.
اذكر يا أكمل الرسل { يوم } أي: يوم إذ حل وقت يوم الفصل، وقيام الساعة { ينفخ في الصور } النفخة الأولى؛ لبعث الموتى، وإذا وصل لهم ذلك الصدى فيخرجون من قبورهم حيارى سكارى مبهوتين، ثم ينفخ فيه ثانيا، للحشر { فتأتون } المحشر { أفواجا } [النبأ: 18] زمرا زمرا، فرقا فرقا.
{ و } يومئذ { فتحت السمآء } أي: خرقت وشقت { فكانت } الخرق والشقوق لها { أبوابا } [النبأ: 19].
{ وسيرت الجبال } عن وجه الأرض، وتحركت فطارت أجزاؤها، كالهباء نحو الهواء { فكانت } أشكالها وهيئاتها { سرابا } [النبأ: 20] أي: كالسراب يرى على صورة الجبال، ولا حقيقة لها كما هي الآن عند العارف المكاشف.
{ إن جهنم } يومئذ { كانت مرصادا } [النبأ: 21] مرصدا ومصيرا لعموم العباد، يعبرها أهل الجنة على تفاوت سرعة وبطء، مترتبا على تفاوت أعمالهم وأحوالهم ومقاماتهم: منهم من لا يلتفت نحوها، ولا يدركها أين هي وإن عبرها.
ومنهم من يعبرها، كالبرق الخاطف، ثم الأمثل الأمثل فينجون من غوائلها، ويسقط فيها أهل النار، ويبتلون بأغلالها وسلاسلها فتصير { للطاغين } المصرين على كفرهم وطغيانهم { مآبا } [النبأ: 22] مرجعا ومأوى، لا يخرجون منها.
بل يكونون { لابثين } ماكثين { فيهآ أحقابا } [النبا: 23] وأي أحقاب، أحقابا لا كأحقاب الدنيا، بل لا نهاية لها، ولا غاية لحدها فذكرها كناية عن عدم نهايتها.
وهم { لا يذوقون فيها } أي: في جهنم البعد والحرمان { بردا } لحرمانهم عن لذة برد اليقين في النشأة الأولى { ولا شرابا } [النبأ: 24] لأنهم لم يشربوا في النشأة الأولى من زلال الإيمان شربة، ولا من رحيق العرفان جرعة.
لذلك لم يشربوا في النشأة الأخرى { إلا حميما } ماء حارا، سخن بنيران غضبهم وشهواتهم ، بحيث يقطع أمعالهم من شدة حرارته.
{ وغساقا } [النبأ: 25] صديدا يسيل من جراحات أهل النار بدل ما يأكلون ويشربون من أموال اليتامى والمظلومين ظلما.
وبالجملة: جوزوا فيها { جزآء وفاقا } [النبأ: 26] موافقا مطابقا لأعمالهم التي آتوا بها في دار الدنيا.
وبالجملة: { إنهم كانوا } حين يمموا على المعاصي، وعزموا على الآثام { لا يرجون } ولا يأملون { حسابا } [النبأ: 27] ولا يخافون عذابا.
{ و } لهذا { كذبوا } بآياتنا الدالة على كمال قدرتنا، واقتدارنا على وجوه الإنعام والانتقام، وعلى رسلنا المنزلة إليهم بتلك الآيات { بآياتنا كذابا } [النبأ: 28] تكذيب بليغا، وإنكارا شديدا إلى حيث يستهزئون بالآيات والرسل.
{ وكل شيء أحصيناه كتابا } [النبأ: 29] يعني: هم وإن بالغوا في التكذيب والعناد فصلنا عليهم أعمالهم، وأحصينا لهم جميع خصائلهم المذمومة في صحف أعمالهم، سيحاسبون عليها على التفصيل، ويجازون بمقتضاها.
وبعدما يحاسبون ويؤاخذون، يقال لهم زجرا عليهم وتوبيخا: { فذوقوا } أيها المسرفون المفرطون { فلن نزيدكم } بأعمالكم وتكذيبكم { إلا عذابا } [النبأ: 30] فوق العذاب.
في الحديث - صلوات الله على قائله -:
" هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار ".
[78.31-40]
ثم أردف سبحانه بوعيدهم وعد المؤمنين تشديدا لعذابهم وتأكيدا: { إن للمتقين } المؤمنين، المتحفظين نفوسهم عن محارم الله خوفا من عذاب الله، ورجاء من فضله { مفازا } [النبأ: 31] مخلصا ونجاة من جميع المكاره اللاحقة للكفار والعصاة.
{ حدآئق } ذت بهجة ونضارة ونزاهة { وأعنابا } [البنأ: 32] معروشات وغير معروشات.
{ و } إن لهم فيها أزواجا { كواعب } نواهد، استدارة ثديهن مثل الرمان { أترابا } [النبأ: 33] أبكارا،
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن
[الرحمن: 56].
{ وكأسا } من خمور المحبة الإلهية { دهاقا } [النبأ: 34] ملآنا.
{ لا يسمعون فيها } أي: في الجنة عند شرب خمور المحبة { لغوا } فضولا من الكلام { ولا كذابا } [النبأ: 35] أي: مكاذبة، يكذب بعضهم بعضا، كما يقع بين شاربي شراب الدنيا.
وإنما يجازون بما يجازون { جزآء } ناشئا { من ربك } يا أكمل الرسل { عطآء } منه إياهم تفضلا عليهم وإحسانا؛ إذ لا يجب عليه سبحانه شيء { حسابا } [النبأ: 36] كافيا وافيا، لا ينقصون ولا ينتظرون.
وكيف لا يتفضل سبحانه على أوليائه، مع كونه { رب السموت والأرض } السياق يدل على أن التفسير جرى على قراءة نافع وابن كثير وغيرهما: " رب " أي: مربي العلويات والسفليات { وما بينهما } من الممتزجات { الرحمن } السياق يدل على أن التفسير جرى على قراءة نافع وابن كثير وغيرهما: " الرحمن " المستوي على عروش الكل بالرحمة العامة، والاستيلاء التام، والسلطنة القاهرة، والبسطة الغالبة بالإرادة والاختيار، بحيث { لا يملكون } ولا يقدرون؛ أي: أهل السماوات والأرض { منه } سبحانه { خطابا } [النبأ: 37] أي: لا يسع لهم أن يخاطبوه، ويطالبوا منه شيئا من زيادة ثواب ونقص عقاب، بل هو بذاته فقال لكل ما يريد من مقتضيات أسمائه وصفاته بالإرادة والاختيار، لا يسئل عن فعله، إنه حكيم حميد؟!
وكيف يملك وبقدر خطابه سبحانه هؤلاء الأظلال الهلكى في حدود ذواتهم، مع أنه { يوم يقوم الروح } أي: الوجودات الإضافية الفائضة على هياكل الهويات من أشعة نور الوجود المطلق { والملائكة } أي: الأسماء والصفات الإلهية المجردات عن التعلقيات مطلقا { صفا } صافين مصطفين، سكاتين صامتين من كمال دهشتهم عن سطوة سلطنة الذات القاهرة الغالبة { لا يتكلمون } حنيئذ، ولا يقدرون على التفوه بالحال أو المقال { إلا من أذن له الرحمن } بالشفاعة والسؤال فتكلم بإذنه { وقال صوابا } [النبأ: 38] مرضيا عند الله مستجابا؟!
وبالجملة: { ذلك اليوم } أي: يوم الفصل والقيامة هو اليوم { الحق } الثابت الكائن وقوعه بلا خلف ولا ريب { فمن شآء } أن يأمن من فتنته، ويخلص من عذابه { اتخذ } وأخذ في النشأة الأولى { إلى ربه مآبا } [النبأ: 39] مرجعا ومنقلبا يتوجه إليه، ويتحنن نحوه متقربا بصوالح الأعمال، ومحاسن الأخلاق والأطوار.
وبالجملة: { إنآ أنذرناكم } أيها المعرضون عن الله، المنصرفون عن طاعاته وعباداته { عذابا قريبا } سليحقكم بغتة، وأنتم لا تشعرون بأماراته ومقدماته { يوم ينظر المرء } ويرجى جميع { ما قدمت يداه } خيرا كان أو شرا، نفعا كان أو ضرا { و } بعدما رأى الكل يومئذ ما رأى من المصالح والمقابح الصادرة منه، الجارية عليه { يقول الكافر } الرائي قوابح أفعاله، وفواسد أعماله، متأسفا متحسرا متمنيا هلاكه على سبيل المبالغة: { يليتني كنت ترابا } [النبأ: 40] لم أخلق ولم أكلف؛ حتى لا أستحق هذا الويل والثبور.
هب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الحريم الغفور.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي أن تتزود ليوم الجزاء بالتقوى عن محارم الله، والاجتناب عن منهياته، والامتثال بأوامره، والتخلق بأخلاقه؛ حتى لا تستحي من الله في يوم الجزاء، ولا تتمنى مقتك وهلاكك مثل من كفر وعصى.
فلك أن تلازم على أداء الواجبات والمستحبات، والمسنونات من الصلوات والزكوات وأنواع الطاعات، والتقرب نحوه بالنوافل من الطاعات والصلوات والصدقات، والخدمة بالجوارح والآلات لعموم عباد الله، والسعي إلى مطلق الخيرات والمبرات، والاجتهاد في طريق الحسنات وترك السيارات ومطلق المنكرات؛ حتى تتخلص من كؤود العقبات، وتصل إلى روضات الجنات، وتفوز بالفوز بالسعادات وأنواع الكرامات.
جعلنا الله من أرباب الهداية والتوفيق، ويسر لنا الوصول إلى مقر التوحيد والتحقيق بمنه وجوده.
[79 - سورة النازعات]
[79.1-14]
{ و } حق { النازعات } المخلصات أرواح عموم العباد عن محابس الطبائع والأركان { غرقا } النازعات: 1] لاستغراقهم في لوازم الناسوت، ومقتضياتها المغشية صفاء عالم اللاهوت.
{ والناشطات } المنزعات المخرجات لنفوس أرباب المحبة والولاء المتشوقين إلى عالم العماء، وفضاء اللاهوت { نشطا } [النازعات: 2] رفقا ولطفا؛ لكمال تحننهم وشوقهم إلى الخلاص.
{ والسابحات } المخرجات أرواح الأبرار من أشباحهم هينات لينات، يقبضون رفقا، ثم يمهلون حتى يستريح، ثم يقبضون، هكذا إلى أن يخلصوهم، كالسابح في الماء يتحرك، ثم يستريح، ثم يتحرك { سبحا } [النازعات: 3] لكونهم سابحين في بحر الحيرة حتى وصلوا إلى بحر اليقين.
{ فالسابقات } أي: النفوس الفانية في الله، الباقية ببقائه، المبادرة إلى الخروج قبل نزول النازعات { سبقا } [النازعات: 4] لكمال شوقهم وانبعاثهم، وتجردهم عن ملابس عالم الناسوت، وانخلاعهم عن مقتضيات الطبيعة والأركان قبل حلول الأجل، وهجوم المخرجات المخلصات.
{ فالمدبرات } الموكلات على تدابير عموم المظاهر من الأرزاق والآجال، وجميع الأمور الجارية في عالم الكون والفساد { أمرا } [النازعات: 5] لكونهم مأمورين بها، موكلين عليها بمقتضى حكمة القدير العليم؛ يعني: وحق هذه الحوامل العظام، والموكلات الكرام لتبعثن من قبوركم، ولتحاسبن على أعمالكم أيها المكلفون.
اذكروا { يوم ترجف } تتحرك وتضطرب { الراجفة } [النازعات: 6] المتقررة الساكنة التي لا حركة لها أصلا، كالأرض وسائر الجمادات.
وبعد تحرك هؤلاء الجوامد { تتبعها } في الحركة والاضطراب والاندكاك { الرادفة } [النازعات: 7] أي : العلويات السائرة المتحركة، حيث تتشقق السماوات، وتنتثر الكواكب، وبالجملة: تختلط العلويات بالسفليات وتتمازجان، بحيث لا علو ولا سفل.
ومن شدة الهول ونهاية الفزع { قلوب يومئذ واجفة } [النازعات: 8] قلقة حائرة، شديدة الاضطراب.
{ أبصارها } أي: أبصار أصحاب القلوب حينئذ { خاشعة } [النازعات: 9] شاخصة ذليلة من شدة الخوف والهول، مع أن هؤلاء الشاخصين الواجفين كانوا { يقولون أإنا } في النشأة الأولى حين أخبرهم الرسل بالبعث والحشر على سبيل الاستبعاد والإنكار { لمردودون في الحافرة } [النازعات: 10] أي: إلى الحالة التي كنا عليها؛ يعني: أنبعث أحياء كما كنا من قبل؟!
ثم يزيدون الإنكار على الإنكار بقولهم: { أإذا كنا عظاما نخرة } [النازعات: 11] بالية رميمة، نبعث ونحيا؟! كلا وحاشا، من أين يتأتى لنا هذا؟!
وبعدما استبعدوا واستكبروا بما استنكروا { قالوا } منهمكين ومستهزئين: { تلك } الحالة المفروضة لو وقعت، ورددنا إلى الحياة بعد الموت، كما زعم هؤلاء المدعون؛ يعنون: الرسل، يحصل لنا { إذا كرة } عودة ورجعة { خاسرة } [النازعات: 12] ذا خسران وخذلان؛ لأننا كنا نكذب بها، ولا نصدق من أخبر بها، وبعدما وقعت كنا خاسرين خسرانا عظيما.
وبعدما تقاولوا من بطرهم وخيلائهم ما تقاولوا، قيل لهم من قبل الحق، مقرعا على استماع استعداداتهم: لا تستبعدوا أمر الساعة، ولا تستصعبوها { فإنما هي } أي: أمر الساعة وقيامها عند كمال قدرتنا الغالبة القاهرة { زجرة واحدة } [النازعات: 13] أي: نفخة واحدة، ينفخ في الصور بأمرنا وحكمنا.
فإذا نفخت النفخة الثانية { فإذا هم بالساهرة } [النازعات: 14] أي: فوجئ بنو آدم بأجمعهم فصاروا أحياء على وجه الأرض، كما كانوا عليها في النشأة الأولى من الهيئات والأشكال، والهياكل والهويات.
[79.15-26]
ثم أشار سبحانه إلى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم، وحثه على الاصطبار بأذيات أصحاب التكذيب والاستكبار فقال: { هل أتاك حديث موسى } [النازعات: 15] يعني: بما اضطربت بتكذيب قومك، وإنكارهم عليك، وإعراضهم عن هدايتك وإرشادك يا أكمل الرسل، أليس قد أتيتك حديث أخيك موسى الكليم؛ حتى يسليك ويزيح كربك، ويرشدك إلى الصبر والثبات مثل أخيك؛ حتى تظفر على أعدائك مثله.
وذلك وقت { إذ ناداه ربه } بلا وسيلة الملك، وسفارة السفير؛ إذ هو حينئذ من إفراط المحبة { بالواد المقدس } عن رذائل الأغيار، والالتفات إلى ما سوى الملك الجبار { طوى } [النازعات: 16] أي: طويت دونه حينئذ مطلق التعينات والنقوش الطارئة على بحر الوجود من رياح الإضافات المعوجة الممنوحة.
وبعدما تقرر في مقعد الصدق، وتمكن على مكمن اللاهوت أمره سبحانه بالالتفات إلى عالم الناسوت، والرجعة نحوه؛ للإرشاد والتكميل تتميما لقضية الحكمة البالغة، المتقنة الإلهية بقوله: { اذهب إلى فرعون } العالي العاتي، الباغي الطاغي { إنه طغى } [النازعات: 17] وتجاوز عن مقتضى العبودية طغيانا فاحشا إلى أن ادعى الألوهية لنفسه.
{ فقل } مستفهما أولا على طريق الملاينة اللازمة لمرتبة النبوة والإرشاد: { هل لك } بعدما انحرفت عن جادة العبودية بهذه الدعوى الكاذبة الباطلة ميل { إلى أن تزكى } [النازعات: 18] وتتطهر عن رذيلة الكفر والطغيان، ونقيصة الظلم والعدوان.
{ وأهديك } وأرشدك أنا بإذن الله ووحيه { إلى } توحيد { ربك } وتقديس مربيك الذي أظهرك من كتم العدم، ورباك بأنواع اللطف والكرم، وبعدما تعرف وحدة ربك، وتؤمن بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وتصدق بكمال قدرته واقتداره على وجوده الانتقامات والإنعامات، وباستقلاله في عموم التدبيرات والتصرفات { فتخشى } [النازعات: 19] حينئذ عن بطشه وقهره، وتشتغل بأداء المأمورات، وترك المنكرات والمحرمات، والاجتناب عن مطلق المنهيات، وبالجملة: تكون من زمرة أرباب العناية والكرامات، وتتخلص من نيران الطبيعة ودركاتها؟.
وبعدما ذهب موسى لمقتضى أمر الله ووحيه إلى فرعون الطاغي الباغي، وبالغ في التبليغ وإظهار الدعوة، والملاينة على وجه الرفق والمداراة { فأراه } على سبيل التبيين والتوضيح { الآية الكبرى } [النازعات: 20] يعني: العصا وتقليبها حية، أو جنس الآيات النازلة عليه.
وبعدما سمع فرعون من موسى ما سمع، ورأى من الآيات ما رأى استكبر وعتا { فكذب } فرعون موسى { وعصى } [النازعات: 21] على المولى، وزاد على البغي والطغيان.
{ ثم } بعدما أقبل عليه موسى بالإرشاد والتكميل بأمر الله { أدبر } فرعون عن الإقبال، وأقبل على البغي والضلال؛ لذلك { يسعى } [النازعات: 22] ويجتهد في المعارضة والإبطال.
{ فحشر } جنوده وسحرة بلاده { فنادى } [النازعات: 23] على رءوس الملأ على سبيل الاستعلاء والاستكبار.
{ فقال } ذلك المسرف المفرط من كمال البطر والافتخار: { أنا ربكم } ومربيكم الأجل { الأعلى } [النازعات: 24] من كل من يلي أمركم أيها البرايا.
وبعدما أفرط في البغي والطغيان، وبالغ في الظلم والعدوان { فأخذه الله } القدير القهار بمقتضى اسمه المضل المذل فجعل سبحانه طغيانه وعدوانه { نكال الآخرة والأولى } [النازعات: 25] أي: سبب الأغلال والسلاسل في النشأة الأخرى، وسببا للإهلاك والإغراض في النشأة الأولى.
{ إن في ذلك } الشأن الذي جرى على فرعون من أنواع البلاء في النشأة الأولى والأخرى { لعبرة } عظة عظيمة، وتذكيرا بليغا { لمن يخشى } [النازعات: 26] عن ضب الله، ومقتضيات قهره وجلاله.
[79.27-36]
ثم أشار سبحانه إلى توبيخ المنكرين للنشأة الأخرى، وتقريعهم وتسفيههم بمقتضى عقلهم فقال: { ءأنتم } أيها المنكرون المفرطون المسرفون { أشد } وأصعب { خلقا } وإيجادا على سبيل الإعادة { أم السمآء } التي هي أرفع الأبنية وأعلاها، وأشدها نظاما، وأقواها بنيانا؛ إذ هو سبحانه { بناها } [النازعات: 27] بقدرته الكاملة.
وأحسن بناءها، حيث { رفع سمكها } وسقفها بلا أعمدة وأسانيد واسطوانات { فسواها } [النازعات: 28] وعدلها بلا قصور وفتور.
وبعدما سواها أدارها على الاستدارة، ورتب على حركاتها الجديدين { وأغطش } أي: أظلم { ليلها } الحاصل من حركاتها { وأخرج } أبرز وأظهر { ضحاها } [النازعات: 29] ضوء شمسها في النهار الحاصل من تلك الحركات.
{ و } بعدما رتبها كذلك خلق { الأرض بعد ذلك } أي: بعد خلق السماوات وأعجب في خلقها بأن { دحاها } [النازعات: 30] مهدها وبسطها لمن يسكن عليها ويستقر فيها.
وبعد بسطها كذلك { أخرج منها مآءها } حيث فجر فيها عيونا، وأجرى أنهارا { و } إن ظهر عليها أيضا { مرعاها } [النازعات: 31] تقويتا لمن عليها وما عليها.
{ و } رتب { الجبال } الطوال الثقال عليها حتى { أرساها } [النازعات: 32] وأثبتها.
وإنما مهدها وبسطها، وأنيت عليها وفجر منها؛ لتكون { متاعا لكم } أي: تمتيعا لكم عليها { ولأنعامكم } [النازعات: 33] أيضا، فإنها من لواحق معائشكم ومتمماتها.
وبعدما فضل عليكم سبحانه بأنواع الخيرات والبركات { فإذا جآءت الطآمة الكبرى } [النازعات: 34] والداهية العظمى التي هي عبارة عن قيام الساعة الموعودة.
{ يوم يتذكر الإنسان ما سعى } [النازعات: 35] حيث يعطى لهم صحائف أعمالهم مفصلة فينظرون فيها، ويتذكرون بها جميع ما صدر عنهم من الأعمال الصالحة والفاسدة فيجازون بمقتضاها.
{ وبرزت الجحيم } أي: ظهرت ولاحت { لمن يرى } [النازعات: 36] أي: لكل من يتأتى منه الرؤية ؛ أي: ظهر أمرها، بحيث لا يخفى على أحد.
[79.37-46]
ثم قسم الناس حينئذ قسمين: { فأما من طغى } [النازعات: 37] في النشأة الأولى.
{ وآثر الحياة الدنيا } [النازعات: 38] أي: اختار الحياة المستعارة، الدنية الدنيوية ولوازمها من اللذات والشهوات الفانية على الحياة الأخروية، وما يترتب عليها من اللذات اللدنية الباقية.
{ فإن الجحيم } المسعرة بنيران غضبهم وشهواتهم { هي المأوى } [النازعات: 39] لهم، مقصورة عليهم، لا مأوى لهم سواها.
{ وأما من خاف مقام ربه } أي: خاف عن قيامه بين يدي الله، ووقوعه في المحشر؛ للحساب، وعرض الأعمال عليه سبحانه والجزاء عليها { و } مع خوفه وخشيته { نهى النفس عن الهوى } [النازعات: 40] أي: كف نفسه عن مقتضياتها التي هي ترديها وتغويها.
{ فإن الجنة هي المأوى } [النازعات: 41] أي: مأواهم مقصورة على الجنة، وهم فيها أبدا خالدون لا يتحولون إلا إلى ما هو أولى منها، وأعلى درجة ومقاما.
ثم قال سبحانه: { يسألونك } يا أكمل الرسل { عن الساعة } وقيامها التي هي من جملة الغيوب التي لا نطلع عن درجاتها ومقاماتها أحدا عليها: { أيان مرسها } [النازعات: 42] أي: متى إرساؤها وإقامتها، وفي أي آن إتيانها وقيامها، عين لناوقتها؟.
{ فيم أنت من ذكرها } [النازعات: 43] أي: أنت في أي شيء وشأن منها أن تذكر لهم وقتها، أو تعينها، مع أنا لا نطلعك على وقتها، سوى أنا أوحينا لك آنيتها وثبوتها، وتحقق قيامها، فما لك إلا تبليغ ما يوحى إليك؟!
بل { إلى ربك منتههآ } [النازعات: 44] أي: منتهى علمها، وتعيين وقتها إنما هو مفوض إلى حضرة علم الله، موكول إلى لوح قضائه.
{ إنمآ أنت منذر من يخشها } [النازعات: 45] أي: أنت ما تبعث إلا؛ لإنذار الخائفين الموفقين على الخوف من أهوالها وأفزاعها، لا من المقدرين المعينين لوقتها،
كيف يسع لك هذا التعيين التقدير؛ إذ هي من جملة الغيوب التي استأثر الله بها، ولم يطلع أحدا عليها؟!
ثم قال سبحانه تهويلا على المنكرين: { كأنهم يوم يرونها } ويعاينون قيامها تيقنوا حينئذ على سبيل الجزم أنهم { لم يلبثوا } ولم يمكثوا في دار الدنيا { إلا عشية } أي: يوم { أو ضحها } [النازعات: 46] أي: ضحى تلك المعيشة؛ يعني: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا بالنسبة إلى هو يوم القيامة وطولها.
نعوذ بك من النار وما قرب إليها يا غفار.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المحقق، الموقن بقيام الساعة وما فيها من الثواب والعقاب والجنة والنار أن تزرع في محرثك هذا ما ستحصده هناك من بذور الأعمال الصالحة، والأخلاق المرضية، والأطوار المحمودة، وسائر السنن والآداب المقبولة المأثورة من النبي المختار، وعترته الأخيار الأطهار، لا بد لك أن تكون على ذكر من قيامها وأهوالها في عموم أحوالك.
وإياك إياك الاغترار بالحياة المستعارة، والالتفات إلى مزخرفات الدنيا الغدارة المكارة، فإنها تمكر بك وتغويك، وتضلك عن طريق الحق وترديك.
فعليك ألا تتبع بغوائلها، ولا تنخدع بمخائلها؛ حتى لا تكون من زمرة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة
ألا ذلك هو الخسران المبين
[الزمر: 15].
جعلنا الله من زمة الآمنين الفائزين، المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
[80 - سورة عبس]
[80.1-22]
{ عبس } وجهه من الكراهة عن المسترشد { وتولى } [عبس: 1] أي: أعرض عنه، وحول صفحة وجهه عنه كارها إياه.
وقت { أن جآءه } المسترشد { الأعمى } [عبس: 2] أخرج الكلام سبحانه مع حبيبه صلى الله عليه وسلم على طريق الغيبة؛ إظهارا لكمال الغيرة، والحمية الإلهية عن هذه الغفلة الغير مرضية.
ثم التفت إلى الخطاب؛ لكمال التأديب والتشنيع فقال على سبيل التهويل: { وما يدريك } أي: وأي شيء يكشف لك حاله وقلبه { لعله يزكى } [عبس: 3] ويتطهر عن الآثام، ويهتدي إلى طريق الإسلام بهدايتك وإرشادك، بخلاف أولئك الجهلة الغفلة الذين تحننت نحوهم، وتحببت دعوتهم، فإنهم لا يهتدون ولا يتطهرون.
{ أو يذكر } أي: يتعظ ويتذكر هذا المريد الفقير من كلامك { فتنفعه الذكرى } [عبس: 4] والعظة، و توجه هو بسببها إلى المولى.
{ أما من استغنى } [عبس: 5] عن الله، وأعرض عن تذكيرك ودعوتك مستكبرا بماله وثروته، وسيادته وكمال نخوته.
{ فأنت له تصدى } [عبس: 6] تميل وتتعرض بالإقبال إليه، وتتحنن بكمال المحبة نحوه.
{ وما عليك } أي: أي شيء عرض عليك، ولحق بك عن المكاره الإمكانية { ألا يزكى } [عبس: 7] ولا يتظهر عن خباثة الآثام، وأدناس العصيان حتى يبعثك عن الإعراض عن أهل الحق، وعدم الالتفات نحوهم، مع أن ما عليك إلا البلاغ والتبليغ.
{ وأما من جآءك } من أرباب الطلب والإخلاص { يسعى } [عبس: 8] ويسرع بطلب الخير والهداية.
{ و } الحال أنه { هو يخشى } [عبس: 9] عن غضب الله ويرجو ثوابه.
{ فأنت } مع كونك مبعوثا عن الهداية والإرشاد إلى أصحاب الإرادة والقبول { عنه تلهى } [عبس: 10] تتشاغل وتنصرف، كأنك تحقره ولا تبال بشأنه وإيمانه؛ لرثاثة حاله وفقره.
ثم بالغ سبحانه في تأديب حبيبه صلى الله عليه وسلم وأكده، حيث قال: { كلا } أي: ارتدع عن فعلتك هذه، ولا تمل إلى أصحاب الزيغ والضلال معرضا عن أرباب الهداية والكمال؛ إذ ما عليك التخيير والاختيار، إن عليك إلا التبليغ والإنذار { إنها } أي: دعوتك وتذكيراتك بالآيات { تذكرة } [عبس: 11] نازلة من ربك، مأمورة لك تبليغها إلى الناس.
{ فمن شآء } سبحانه اتعاظه من عباده { ذكره } [عبس: 12] أي: بالقرآن، ووعظه به سواء كان فقيرا أو غنيا.
وكيف لا يوعظ به، مع أنه منزل من عند الله { في صحف } نازلة على رسل الله { مكرمة } [عبس: 13] عنده سبحانه؟!
{ مرفوعة } مقبولة لديه درجة ومكانا، ملقاة من عند الله إلى رسول الله { مطهرة } [عبس: 14].
{ بأيدي سفرة } [عبس: 15] أي: ملائكة يتوسلون بين الله ورسله.
{ كرام } أعزة من عند الله، ذو كرامة على أهل الإيمان { بررة } [عبس: 16] أتقياء مبرورين في أنفسهم، بارين على عباد الله مع هذه الكرامة العظيمة الإلهية، والإشفاق البليغ من لدنه سبحانه، والرحمة العامة من عنده.
{ قتل الإنسان } أي: لعن وطرد عن ساحة القبول { مآ أكفره } [عبس: 17] أي: أي شيء حداه وبعثه إلى الإعراض عن الله المنعم المفضل، والانصراف عن طاعته وعبادته، مع أنه عالم بكمال كرامته سبحانه عليه، معترف ببدائع صنعه وصنعته معه، متذكر في نفسه، مستحضر بشئونه وتطوراته السالفة؟!
{ من أي شيء } مسترذل مستنزل { خلقه } [عبس: 18] وأوجده حسب قدرته.
{ من نطفة } مهينة خبيثة { خلقه فقدره } [عبس: 19] أي: هيأ آلاته وأعضاءه منها، فعدله وسوى هيكله، ومن أنى تكبر وافتخر وبطر؟!
{ ثم السبيل } الموحد الموصل إلى ربه وموجده الذي هو مبدؤه ومعاده { يسره } [عبس: 20] وسهل عليه بأن أفاض عليه، وأودع فيه العقل الفطري المنشعب من العقل الكلي الإلهي؛ ليعرف به مبدأه ومعاده.
{ ثم أماته } عن نشأة الاختيار والابتلاء تخليصا وتقريبا له إلى ربه { فأقبره } [عبس: 21] في البرزخ.
{ ثم إذا شآء } وتعلق مشيئته للإحياء { أنشره } [عبس: 22] من القبر، وحشره إلى المحشر فحاسبه فجازاه على مقتضى حسابه، خيرا كان أو شرا فضلا منه وعدلا.
[80.23-42]
{ كلا } ردع له وويل عليه، ما هذا النسيان والكفران لهذه النعم العظام والكرامات الجسام { لما يقض } أي: لم يقض ولم يجر من لدن وجوده وظهوره على { مآ أمره } [عبس: 23] الحق به؛ إذ لا يخلو أحد من أفراد الإنسان عن الكفر والكفران، والإثم والعدوان، إلا أن يعضه متدارك متلاف، قد جبر بالتوبة والإيمان ما كسر بالكفر، وبعضه مغمور في عصيانه ونسيانه إلى حيث لا يتنبه قط.
وبالجملة: { فلينظر الإنسان } المجبول على الكفران والنسيان { إلى طعامه } [عبس: 24] المسوق له من لدنا تفضلا وتكريما؛ لتقويته وتقويم بنيته.
{ أنا } من مقام عظيم جودنا كيف { صببنا المآء } وأنزلنا من جانب السماء { صبا } [عبس: 25] ترويجا له، وتهيئة لأسباب معاشه.
{ ثم شققنا الأرض } بعدما صببنا الماء عليه { شقا } [عبس: 26] بديعا.
{ فأنبتنا فيها حبا } [عبس: 27] من أنواع الحبوب التي يقتات بها الإنسان { وعنبا } متضمنا لأنواع الأدم والمشروبات.
{ وقضبا } [عبس: 28] نباتا يقطع مرة بعد مرة، يعين للأكل.
{ وزيتونا ونخلا } [عبس: 29].
{ و } بالجملة: { حدآئق غلبا } [عبس: 30] مملوءة بأنواع الأشجار والثمار.
{ وفاكهة } أي: ألوان الفاكهة وأنواعها وأصنافها { وأبا } [عبس: 31] علفا لمواشيه ومراكبه التي بها يتم ترفهه وتنعمه.
وبالجملة: أعطاكم وأحسن إليكم سبحانه ما أعطى وأحسن من النعم العظام، والكرم الجسام، ليكون { متاعا } وتمتعيا { لكم ولأنعامكم } [عبس: 32] التي بها يتم ترفهكم وتنعمكم، وإنما أنعم عليكم سبحانه؛ لتعرفوا المنعم، وتواظبوا على شكر النعم، وأنتم تكفرون للنعم والمنعم جميعا.
اذكروا { فإذا جآءت الصآخة } [عبس: 33] الصيحة المقرعة لصماخكم وأسماعكم.
فحينئذ شق عليكم الأمر، وصعب الهول، مع أنه لا نصر يومئذ ولا مظاهرة، ولا إغاثة من أحد ولا إعانة، بل { يوم } أي: يومئذ { يفر المرء من أخيه } [عبس: 34] شقيقه وشقيقته { وأمه } التي يأوي إليها.
{ وأبيه } [عبس: 35] الذي يظاهر ويفتخر به { وصحبته } التي هي أحب إليه من عشائره.
{ وبنيه } [عبس: 36] الذين هم أعز عليه من عموم أقاربه.
وسبب النفرة والفرار: اشتغال كل بحاله بلا التفات منه إلى حال غيره؛ إذ { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } [عبس: 37] يشغله عن شئون غيره، ويزعجه على الاهتمام به، مع أنه لا يكفه ولا يكفيه.
وكيف لا يكون كذلك؛ إذ { وجوه يومئذ مسفرة } [عبس: 38] مضيئة مشرقة، متنورة بنور الإيمان والعرفان.
{ ضاحكة } فرحا وسرورا بلقاء الرحمن { مستبشرة } [عبس: 39] بعلو الدرجات والمقامات بأنواع السعادات والكرامات.
{ ووجوه } أخر { يومئذ عليها غبرة } [عبس: 40] غبار وكدورة ناشئة من أكدار الكفر والكفران، وأنواع الآثام والعصيان.
مظلمة إلى حيث { ترهقها } وتغشيها { قترة } [عبس: 41] مذلة وصغار، وذلة وخسارة.
وبالجملة: { أولئك } البعداء عن ساحة عز القبول، المكدرون بكدورات الكفر والشرك، وأنواع الفسوق والفجور { هم الكفرة الفجرة } [عبس: 42] الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية، ونور المعرفة والإيمان بمتابعة القوى البهيمية من الشهوية والغضبية؛ إذ كلتاهما مناظ عموم الشرور والخسران.
أعاذنا الله وعموم عباده من شرهما.
خاتمة السورة
عليك أيها المستنشط القاصد لتبشير الحق وتيسره أن تسمع نداء البشارة والتوفيق الإلهي من ألسنة عموم رسل الله وكتبه، فلك أن تقتفي أثر هؤلاء الكرام، وتمتثل بما في كتاب الله العليم العلام من الأوامر والنواهي، ومطلق الأحكام والعبر والتذكيرات الموردة فيه، المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن من الميل والإلحاد إلى الأمور المؤدية إلى إفساد العقائد والعناد.
فلك الفرار عن أصحاب الزيغ والضلال، والانصراف عن مخالطتهم ومصاحبتهم في كل حال؛ حتى تكون من زمرة أصحاب المتنعمين في جنات النعيم، لا من الضالين المكذبين المخلدين في دركات الجحيم، المعذبين بالعذاب الأليم.
نسأل منك يا ذا القوة المتين الفوز بدرجات النعيم، والعوذ عن دركات الجحيم يا من فضله وكرمه عميم.
[81 - سورة التكوير]
[81.1-14]
{ إذا الشمس كورت } [التكوير: 1] يعني: إذا قامت القيامة، ولا حت شمس الذات الأحدية عن مكمن العماء، وغلبت نشأة اللاهوت على نشأة الناسوت كور الوجود الإضافي المنعكس من الوجود المطلق الإلهي، المنبسط على صفائح مطلق العكوس والأظلال، ولف وطوي، بحيث لم يبق له أثر عند ظهور شمس الحقيقة الحقية.
{ وإذا النجوم انكدرت } [التكوير: 2] يعني: انقضت واضمحلت حينئذ نجوم الهويات، وهياكل الماهيات الحاصلة من الأوضاع والنسب، والإضافات العدمية الاعتبارية المحضة، بحيث لم يبق لها رسم وأثر عند ظهور الهوية الذاتية الإلهية الحقية.
{ وإذا الجبال سيرت } [التكوير: 3] يعني: سارت وانقلعت، وطارت على أماكنها جبال الأنواع والأجناس الواقعة في عالم التعينات.
{ وإذا العشار } يعني: السحب الماطرة لمياه المعارف، والحقائق الفائضة على أراضي الاستعدادات القابلة لها، اللائقة لفيضانها { عطلت } [التكوير: 4] وتركت؛ لاضمحلال محالها، وتلاشي قوابلها بانقضاء نشأة الاختيار.
{ وإذا الوحوش } أي: النفوس المستوحشة الأبية، الوحشية التائهة في بوادي الطبيعة، وقفر الهيولي { حشرت } [التكوير: 5] وجمعت إلى ما منه انتشرت وبدت.
{ وإذا البحار } أي: البحار الحاصلة من اعتبارات الوجود وشئونه ظاهرا وباطنا، غيبا وشهادة، دنيا وعقبى { سجرت } [التكوير: 6] جمعت وملئت واتحدت، فيصار بحر الوجود بحرا واحدا زخارا، لا ساحل له أصلا.
{ وإذا النفوس } يعني: الأرواح الفائضة على هياكل الأشباح من عالم الأمر الإلهي { زوجت } [التكوير: 7] وقرنت يومئذ ببواعثها التي هي الأسماء والصفات الإلهية، والأسباب اللاهوتية.
{ وإذا الموءودة سئلت } [التكوير: 8] أي: أبكار المعاني والمعارف الإلهية، المودعة المدفونة في أراضي الطبائع والأركان، مع اتصافها بالحياة الأزلية الأبدية، سئلت من مكان تلك البقاع، ومن تلك المخدرات الحسان { بأى ذنب } وجريمة { قتلت } [التكوير: 9] تركت ودفنت، مع أ،ها إنما جاءت في أراضي الطبائع والاستعدادات، مع أنها إنما حييت وجبت؛ لكسب أنواع الخيرات، واقتراف أصناف السعادات والكرامات؟!
{ وإذا الصحف } أي: صحائف تفاصيل الأعمال المشتملة على عموم الأماني والآمال، المطلوبة فيها جميع الأحوال الصادرة من أصحاب الغفلة والضلال { نشرت } [التكوير: 10] فرقت وكشفت بين أصحابها.
{ وإذا السمآء } أي: سماء الأسماء والصفات الإلهية المتجلية على شئون الظهور والنزول { كشطت } [التكوير: 11] طويت وأزيلت عن هذه الشئون إلى شئون البطون والخفاء.
{ وإذا الجحيم } المعد لأصحاب الغفلة والضلال، التائهين في بوادي الجهالات بمتابعة أهويتهم الباطلة، وآرائهم الفاسدة العاطلة { سعرت } [التكوير: 12] أوقدت وأحميت بنيران غضبهم وشهواتهم التي ك انوا عليها في نشأة الاختبار.
{ وإذا الجنة } المعدة لأرباب العناية والوصال، المتصفين بالتقوى عن مطلق المحارم، والامتثال بمقتضيات الأوامر والنواهي، وعموم الأحكام الموردة في الكتب الإلهية، المتعلقة بإرشادهم وتكميلهم { أزلفت } [التكوير: 13] قربت وفرنت بهم، بحيث فازوا بعموم ما وعدوا من قبل الحق.
{ علمت نفس مآ أحضرت } [التكوير: 14] يعني: علمت حينئذ كل نفس من النفوس المودعة في هياكل الهويات لحكمة المعرفة والتوحيد أي شيء أحضرت عند الحساب عليها من الأمور المأمورة لها؛ حتى تجازى بها وعلى مقتضاها.
[81.15-29]
وبعدما عد سبحانه أحوال القيامة وأهوالها أشار إلى ما يدل على التأكيد والمبالغة في وقوعها فقال: { فلا أقسم } أي: لا حاجة إلى القسم؛ لإثبات هذه المذكورات؛ إذ هي في غاية السهولة والظهور عند القدرة الغالبة الإلهية، بل أقسم { بالخنس } [التكوير: 15] أي: بالنفوس الزكية عن لوث الناسوت، الراجعة إلى عالم اللاهوت، وحضرة الرحموت قبل قيام الساعة؛ لصفاء مشربها، ونظافة طينتها.
{ الجوار الكنس } [التكوير: 16] أي: أقسم أيضا بنفوس الشطار الطائرين إلى الله، المختفين تحت قباب عزه، وشمس ذاته، بحيث لا يعرفهم أحد سواه سبحانه.
{ و } حق { الليل } أي: عالم العماء الإلهي { إذا عسعس } [التكوير: 17] أقبل ظلامه واشتد، بحيث اختفى فيه عموم ما ظهر وبطن.
{ و } بحق { الصبح } أي: عالم الجلاء المنعكس من ذلك العماء اللاهوتي { إذا تنفس } [التكوير: 18] أي: أضاء وأشرق على أهل الفناء الفانين عن الفناء، المتعطشين يزلان البقاء.
{ إنه } يعني: أقسم سبحانه بهذه المقسمات العظيمة أن القرآن { لقول رسول } مرسل من قبل الله { كريم } [التكوير: 19] متصف بالكرامة والأمانة؛ يعني: العقل الكل المسمى بجبريل.
{ ذي قوة } غالبة على حمل الوحي الإلهي { عند ذي العرش } العظيم المحيط بعروش عموم المظاهر { مكين } [التكوير: 20] ذي مرتبة عظيمة.
{ مطاع ثم } أي: في عالم الأسماء والصفات؛ إذ عموم المدارك والقوى تابعة مطيعة للعقل الكلي الذي هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه { أمين } [التكوير: 21] حفيظ على الوحي الإلهي بالتوفيق الإلهي، بحيث لا يشذ عنه شيء من أوامره ونواهيه.
{ و } أيضا أقسم سبحانه بتلك المقسمات على أنه { ما صاحبكم } الذي نزل عليه هذا إلا أمين بهذا الكتاب المبين؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { بمجنون } [التكوير: 22] ومختل القوى والآلات، كما زعمتم؛ إذ زعمكم هذا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم إنما هو من غاية انحطاطكم عن رتبته، وجهلكم بمكانته، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم في أعلى طبقات الإدراك.
{ و } كيف لا يكون صلى الله عليه وسلم في أعلى طبقات الإدراك والمعرفة { لقد رآه } يعني: علم وعرف صلى الله عليه وسلم جبريل الذي هو العقل الكل { بالأفق المبين } [التكوير: 23] الذي هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه؟!
{ وما هو } صلى الله عليه وسلم { على الغيب } الذي أطلعه الحق عليه من المعارف والحقائق، والرموز والإشارات المتعلقة بتصفية الظاهر والباطن، وتخلية السر والضمير عن الالتفات إلى الغير مطلقا { بضنين } [التكوير: 24] بخيل شحيح، سيما بعدما أمره سبحانه بنشرها وتبليغها، وما هو على المغيبات التي نطق بها بمقتضى الوحي الإلهي، وإلهامه بظنين منهم، يتهمه أحد، وينسبه إلى الافتراء المستبعد عن علو شأنه، ورفعة قدره ومكانه صلى الله عليه وسلم بمراحل.
{ و } كذا { ما هو } يعني: القرآن الذي هو تكلم به، ونزل عيه { بقول شيطان رجيم } [التكوير: 25] أي: ما هو شعر وكهانة ناشئة من شياطين الوهم والخيال، كما زعمه أهل الزيغ والضلال المترددين في أودية الجهل والغفلة، وهاوية العناد و الجدال.
وبعدما لاح عظم شأن القرآن، ورفعة قدره، وعلو مكانته { فأين تذهبون } [التكوير: 26] تعدلون وتنصرفون عن جادة العدالة الإلهية أيها الضالون المضلون؟.
{ إن هو } أي: ما هذا القرآن العظيم { إلا ذكر } عظة كبيرة { للعالمين } [التكوير: 27] أي: لعموم من جبل على فطرة التذكر، وقابلية الإرشاد والتكميل.
{ لمن شآء منكم أن يستقيم } [التكوير: 28] أي: عظة وتذكير لمن قصد الاستقامة على صراط العدالة الإلهية، تذكر به واتعظ؛ لإرشاده وهدايته.
{ و } غاية ما في الباب: إنه { ما تشآءون } وتختارون طريق الهداية والرشاد لأنفسكم { إلا أن يشآء الله } هدايتكم، ويوفقكم على الاستقامة والرشاد عناية منه وفضلا؛ إذ عموم أفعالكم إنما هي مستندة إلى الله، صادرة منه سبحانه أصالة؛ إذ هو سبحانه { رب العالمين } [التكوير: 29] لا مربي في الوجود سواه، ولا مدبر في الشهود إلا هو، ومقتضى تربيته وتكميله: إرشاد عباده وتوفيقهم إلى ماهو أصلح لهم، وأليق بحالهم.
وفقنا بفضلك وجودك بما تحب وترضى أنت عنا يا مولانا.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لتوفيق الحق، وتربيته على الوجه الأصلح الأليق أن تفوض عموم أمورك، وأعمالك وأحوالك كلها إلى مشيئة الله، وتسلمها إليه سبحانه طوعا ورغبة بلا توهم تخيير واختيار منك، وإرادة جزئية أو كلية؛ إذ ليس لك من الأمر شيء، بل الأمور الجارية كلها لله، وبمقتضى تقديره وقضائه، وليس لك إلا التسليم والرضا بجميع ما جرى عليك من القضاء.
وإياك إياك الاغترار بحياة الدنيا، الفرار الفرار، وما فيها من المزخرفات الخداعة المكارة، فإنها دار العتو والاعتبار، لا منزل الإقامة والقرار، واللائق بحال الفطن الذكي ألا يتمكن فيها إلا على وجه الضرورة والاضطرار، ولا على سبيل الرضا والاختيار.
جعلنا الله ممن تثبه ببطلان الدنيا الدنية وعموم ما فيها، وعدم ثباتها وقرارها.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-8]
{ إذا السمآء } المعبرر بها عن العلويات والمتأثرات عن الأسماء والصفات الإلهية { انفطرت } [الانفطار: 1] انشقت وانخرقت، ولم يبق قابليتها للتأثر والاستعداد من الأسماء والصفات.
{ وإذا الكواكب } التي تعينت عليها بالهويات، وتكثرت بالهياكل والماهيات { انتثرت } [الانفطار: 2] وتفرقت أوضاعها، وتلاشت أشكالها وهيئاتها.
{ وإذا البحار } المستحدثة من صعود الأمواج المتراكمة، المترادمة على بحر الوجود واتصف كل واحد منها بالصفات المتنوعة، مثل الغيب والشهادة، والأولى والأخرى، إلى غير ذلك من العوالم التي لا تعد ولا تحصى { فجرت } [الانفطار: 3] انفجرت وانفتحت بعضها على بعض، وارتفعت صور الأمواج، واتصل الكل فصار بحرا واحدا وحدانيا على ما كان أزلا وأبدا.
{ وإذا القبور } المندرسة المتنكسة التي لم يبق في أجوافها شيء من أمارات عالم الناسوت { بعثرت } [الانفطار: 4] قلبت وبحثرت، وخرج من مطاوبها ما فيها من حصة عالم اللاهوت.
{ علمت } يومئذ { نفس ما قدمت } في نشأة الاختبار والاعتبار من صوالح الأعمال، ومحاسن الأخلاق والأطوار { وأخرت } [الانفطار: 5] أهملت وتركت فيها منها.
ثم نادى سبحانه مظهر الإنسان، المصور بصورة الرحمن بداء معاتبة وتخجيلا على ما عرض عليه من الغفلة والنيسان، مع أنه جبل على فطرة التوحيد والعرفان، فقال: { يأيها الإنسن } المنعم عليك بأنواع الإنعام والإحسان { ما غرك } أي: أي شيء خدعك ومكر بك حتى جبرك على الكفر والعصيان { بربك الكريم } [الانفطار: 6]؟!
{ الذي خلقك } أوجدك وصورك في أحسن تقويم { فسواك } أي: سوى أعضاءك وجوارحك سليمة عن مطلق العيوب.
{ فعدلك } [الانفطار: 7] أي: جعلك معتدل المزاج، متناسب الأعضاء، مطبوع الهيكل.
وبالجملة: { في أي صورة ما شآء ركبك } [الانفطار: 8] يعني: في أي صورة بديعة عجيبة، ممتازة عن صور عموم الحيوانات تعلق بها مشيئته وإرادته ركبك عليها؛ أيك انتخب صورتك من صور جميع المظاهر فركبك عليها.
قيل للفضيل بن عياض - قدس سره -: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة، وقال: يا فضيل ما غرك بربك الكريم، ماذا كنت تقول؟ فقال: أقول: غرني ستورك المرخاة.
وقال يحيى بن معاذ - قدس سره -: لو أقامني سبحانه بين يديه، فقال: يا يحيى ما غرك بي؟ قلت: غرني برك بي سالفا وآنفا.
وقال أبو بكر الوراق - قدس سره -: لو قال لي: ما غرك بربك الكريم؟ لقلت: كرم ربي الكريم.
وأنا الفقير الحقير، خادم الفقراء وتراب أقدامهم، أقول لو قال لي ربي: ما غرك بربك؟ لقلت: كفالتك بي، وكونك سمعي وبصري، وعموم قواي ومشاعري، يا ربي.
[82.9-19]
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا للإنسان على الغفلة والاغترار بإيراد الأعذار الكاذبة { بل تكذبون } أيها المفترون المسرفون { بالدين } [الانفطار: 9] وترتب الجزاء على أعمالكم وأخلافكم حسناتها وسيئاتها؛ لذلك اغتررتم بالحياة المستعارة، وفعلتم ما فعلتم من المفاسد والمقابح بشدة الإنكار والإصرار، بلا مبالاة وخشية من القدير العليم.
{ وإن عليكم } من قبل الحق { لحافظين } [الانفطار: 10] رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم على التفصيل الذي صدر عنكم.
{ كراما } في حفظها، أمناء لا يزيدون عليها، ولا ينقصون منها، لكونهم { كاتبين } [الانفطار: 11] مثبتين في صحف أعمالكم.
{ يعلمون } منكم جميع { ما تفعلون } [الانفطار: 12] فيقررون عليكم وقت حسابكم، ثم تجازون على مقتضاها.
{ إن الأبرار } البارين المبرورين { لفي نعيم } [الانفطار: 13] ومسرة دائمة، وفوز عظيم.
{ وإن الفجار } المسرفين المفترين { لفي جحيم } [الانفطار: 14] معذبين بعذاب أليم.
{ يصلونها } ويدخلون فيها { يوم الدين } [الانفطار: 15] والجزاء بعدما حوسبوا.
{ وما هم عنها بغآئبين } [الانفطار: 16] متحولين مفارقين أبدا، صاروا فيها خالدين مخلدين.
ثم أبهم ذلك اليوم على السامعين تعظيما له، وتفخيما على سبيل التهويل: { ومآ أدراك } وأعلمك أيها المغرور { ما يوم الدين } [الانفطار: 17] وما شأنه، وشدة هوله وقوته؟!
{ ثم مآ أدراك } يا مغرور { ما يوم الدين } [الانفطار: 18] وما يجري عليك يه من الشدائد والأهوال، وأنواع الهموم والأحزان؟!
وبالجملة: يوم، وأي يوم { يوم لا تملك } ترفع وتدفع { نفس لنفس } حميم لحميم، أو صديق لصديق { شيئا } مما حكم عليها واستحق بها من الجزاء، بل كل نفس رهينة ما كسبت، مشغولة بما اقترفت، بلا التفات إلى غيرها من شدة هوله وحزنه { والأمر } أي: أمور العباد وما جرى عليهم من الثواب والعقاب كلها { يومئذ لله } [الانفطار: 19] مختصة به، موكولة لمشيئته، مفوضة إلى إرادته، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد فضلا وعدلا، لا يسئل عن فعله، إنه حكيم حميد.
اصنع بنا ما أنت أهل به يا مولانا.
خاتمة السورة
عليك أيها المترقب بفضل الحق ولطفه في يوم الجزاء أن تفوض أمورك كلها إلى الله في نشأتك هذه، وتقوم بين يدي الله في كل الأحوال، وتنخلع عن مقتضيات ناستوك في عموم الشئون والأطوار الطارئة عليكم على تعاقب الأدوار في مدة حياتك المستعارة.
وإياك إياك الاغترار بخداع هذه الغدارة المكارة، فاعتبر من أهل هذه الدار إن كنت من ذوي العبرة والاستبصار، فاعبر عنها، فإنها ما هي دار القرار، بل منزل الخبرة والاعتبار
فاعتبروا يأولي الأبصار
[الحشر: 2].
[83 - سورة المطففين]
[83.1-9]
{ ويل } عظيم، وعذاب أليم { للمطففين } [المطففين: 1] الذين ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون حقوق الناس، سماهم سبحانه مطففين؛ لأنهم يسرقون من الحقوق طفيفا حقيرا على جه الدناءة والخساسة، وهو لمن أخس الأفعال الذميمة، وأدناها وأخبثها.
في الحديث - صلوات الله وسلامه على قائله: " ما نقص العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا الثبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عليهم الفطر " ، وهم { الذين إذا اكتالوا على الناس } أي: أخذوا منهم لأنفسهم { يستوفون } [المطففين: 2] ويزيدون على المكيال قليلا قليلا ترجيحا لأنفسهم عليهم.
{ وإذا كالوهم } أي: للناس { أو وزنوهم } لأجلهم { يخسرون } [المطففين: 3] ينقصون منه قليلا قليلا ترجيحا لغبطتهم عليهم، مع أن الكيل والوزن إنما هو للتسوية والتعديل.
ثم قال سبحانه على وجه التعجب والتشنيع: { ألا يظن } بل يستقين { أولئك } المسرفون المفرطون بارتكاب هذه الخصلة الذميمة { أنهم مبعوثون } [المطففين: 4]؟!
{ ليوم عظيم } [المطففين: 5] لعظم ما فيه من الشدائد والأهوال، وأنواع الأفزاع والأحزان، سيما على أهل العصيان؛ إذ يفتضحون على رءوس الأشهاد.
{ يوم يقوم الناس } بأجمعهم؛ لأجل العرض { لرب العالمين } [المطففين: 6] ليحكم عليهم سبحانه على مقتضى السؤال والحساب، إما بالجنة وإما بالنار.
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا للمطفيين بفجورهم، وخروجهم عن مقتضى العدالة الإلهية الموضوعة فيما بينهم بالقسط؛ يعني: كيف يخرجون على مقتضاها { إن كتاب الفجار } أي: ثبت فيه تفاصيل أعمالهم وأفعالهم، وأخلاقهم وأطوارهم المذمومة كلها مضبوطة محفوظة فيه، محكوم عليهم من قبل الحق بمقتضى ما في كتبهم أنهم { لفي سجين } [المطففين: 7] أي: مقرهم في الدرك الأسفل من النار؟!
ثم أبهمه سبحانه تهويلا وتفخيما فقال: { ومآ أدراك } أيها المسرف المفرط { ما سجين } [المطففين: 8] ما لم تقع فيه، ولم تذق من عذابه ونكاله؟!
وبالجملة: كتاب الفجار { كتاب مرقوم } [المطففين: 9] مسطور بين الرقوم والرسوم، يعرفه من نظر إليه ألا خير فيه، ولا نفع في ضمنه، بل إنما هو مشعر بأنواع العذاب والعقاب.
[83.10-17]
وبالجملة: { ويل } عظيم { يومئذ } أي: يوم أعطي ذلك الكتاب { للمكذبين } [المطففين: 10] له في النشأة الأولى، وبواسطة تكذيبهم وإنكارهم به يرتكبون من الجرائم والمعاصي ما لا يعد ولا يحصى.
يعني: وهم { الذين يكذبون بيوم الدين } [المطففين: 11] والجزاء بجميع الأمور والأخروية من السؤال والحساب، وإعطاء الكتب وسائر المعتقدات.
{ و } بالجملة: { ما يكذب به } سيما بعد نزول الآيات القاطعة، والبراهين الساطعة من قبل الحق بالحق على أهل الحق { إلا كل معتد } متجاوز عن الحد في الإفراط والغلو، منكر لكمال قدرة الله وإحاطة علمه، حتى أنكر القدرة على الإعادة، مع أن الإبداء الإبداعي مقدور قدرته الغالية أيضا { أثيم } [المطففين: 12] مبالغ في الجهل والغفلة بارتكاب الشهوات، المعمية لقلوب بصائره عن إدراك آيات القدرة الغالبة الإلهية، الفانية للحصر والإحصاء.
مع أن كل واحدة من تلك الآثار دليل مستقل على الإعادة عند المتأمل المتصف إلا أن المنكر مكابر عن مقتضى عقله، وما أجرأه وأغراه على الإنكار والإصرار إلا شياطين الأوهام والخيالات المورثة له من إلف الطبيعة، ورسوخ العادات المبنية على التقليدات الراسخة، المقتررة في قلوب أصحاب الغفلة والضلال.
لذلك { إذا تتلى } وتقرأ { عليه آياتنا } الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا، واستقلالنا في عموم المرادات والتصرفات الواقعة في ملكنا وملكوتنا { قال } من فرط جهله، ونهاية غفلته وإعراضه عن الحق وأهله: ما هي إلا { أساطير الأولين } [المطففين: 13] أي: أكاذيبهم المسطورة في دواوينهم.
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا له عن هذا الافتراء والمراء على سبيل الإنكار والاستهزاء؛ يعني: ما هذه الآيات البينات من المفتريات، كما زعمها أولئك الغاة الطغاة الهالكين في تيه البغي والطغيان، والغي والعدوان { بل ران } يعني: حدث في نفوسهم رين الغفلة، وصدا الجهل والضلال، وازداد وغلب حتى علا وأحاط { على قلوبهم } فكسفها وكدرها إلى حيث أظلها وأسودها، ولم يبق فيها لمعة من بياض نور الإيمان، وما ذلك إلا بسبب { ما كانوا يكسبون } [المطفيين: 14] من المعاصي، والشهوات المذهبة لجودة الفطرة الأصلية، والفطنة الجبلية التي فطروا عليها في أصل الخلقة.
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا لهم على اقتراف الرين المصدئ لقلوبهم، كيف يكسبونه، مع أنهم جبلوا على فطرة الإيمان والتوحيد { إنهم } أي: أولئك المفسدون المسرفون { عن ربهم } الذي رباهم لمصلحة المعرفة والإيمان { يومئذ } أي: يوم اقتراف المعاصي الرائنة { لمحجوبون } [المطففين: 15] عن الله، وظهور نوره اللامع في صفائح الأنفس والآفاق، مع أنه لا سترة له سبحانه، ولا حجاب في حال من الأحوال، إلا أن خفافيش بقعة الإمكان لا يرون شمس ذاته اللامعة بواسطة غيوم هوياتهم الباطلة، وتعيناتهم العاطلة.
{ ثم إنهم } بعدما حجبوا عن الله، وحرموا عن مطالعة وجهه الكريم { لصالوا الجحيم } [المطففين: 16] أي: داخلوها وخالدون فيها أبدا.
{ ثم يقال } لهم تعييرا وتشديدا لعذابه من قبل الحق حينئذ: { هذا } العذاب هو العذاب { الذي كنتم به تكذبون } [المطففين: 17] مصرون على تكذيبه وإنكاره، بل مستهزئون به متهكمون.
[83.18-28]
ثم كرر سبحانه لفظة: { كلا } ردعا لهم بعد ردع، تأكيدا وتقريعا؛ وليكون توطئة وتمهيدا لتعقيب وعيدهم بوعد المؤمنين، مع أن في هذا التعقيب زيادة زجر وتقريع عليهم بما اقترفوا من الآثام والعصيان، المؤدية إلى دار الندامة والحرمان { إن كتاب الأبرار } أي: ما كتب فيه عموم آثارهم الصالحة، الصادرة عنهم إيمانا واحتسابا، ثقة بالله، وخوفا من غضبه، محفوظة فيه جميع ما ذكر، محكوم عليهم بمقتضى ما فيه، إنهم { لفي عليين } [المطففين: 18] أي: متمكنون في أعلى درجات الجنة، وأرفع مقاماتها.
ثم أيهمه سبحانه تعظيما وتفخيما فقالأ: { ومآ أدراك } أيها البار المبرور { ما عليون } [المطففين: 19] وما شأنه الرفيع، ومكانته البديعة، وما فيها من اللذات الروحانية التي من لم يذقها لم يعرفها؟!
رزقنا الله الوصول إليها، والحصول دونها.
وبالجملة: كتاب الأبرار { كتاب مرقوم } [المطففين: 20] بين الرقم والرسوم.
{ يشهده المقربون } [المطففين: 21] أي: أرباب العناية والتوفيق فيعلمون أن ما فيه خير كله بمجرد رؤيتهم وشهودهم في بادئ النظر.
وبالجملة: { إن الأبرار } البارين على الله، المبرورين بين الناس { لفي نعيم } [المطففين: 22] مقيم.
متكئين { على الأرآئك } المصورة من صالحات أعمالهم، وصفاء عقائدهم وأخلاقهم { ينظرون } [المطففين: 23] إلى ما يسرهم ويفرحهم من الصور الحسنة، والمنتزهات البديعة.
بحيث { تعرف } أيها الرائي { في وجوههم } في بادئ الرأي { نضرة النعيم } [المطففين: 24] بهدة التنعم، وبرق الرضا والتسليم.
مع ذلك { يسقون من رحيق } خمر من خمور المحبة والولاء { مختوم } [المطففين: 25] مطبوع على غيرهم، بحيث لا يشمون روائحها أصلا.
{ ختامه مسك } أي: روائحه الواصلة لهم منا قبل كشفهم عنه ختامه كالمسك، بلا كراهة وبشاعة، كخمور الدنيا { وفي ذلك } أي: في رحيق التحقيق، وكأس المحبة والتصديق { فليتنافس المتنافسون } [المطففين: 26] أي: فليرغب الراغبون لنفاسته وسرعة سوغه وانحداره، وكمال لذاته وذوقه.
{ ومزاجه } أي: ما يخرج به، ويخلط من ماء المعارف والحقائق منتشيا { من تسنيم } [المطففين: 27] مقام عال، وهو ينبوع بحر الوجود الذي هو الوحدة الذاتية الإلهية.
فكان { عينا يشرب بها المقربون } [المطففين: 28] أي: يشرب من عذبها وفراتها من تقرب نحو الحق باليقين الحقي، فإنهم يشربون من عين الوحدة بلا مزج وخلط.
ذقنا حلاوة نعيمك، وبرد يقينك، وشربة تسنيمك يا خير الرازقين.
[83.29-36]
{ إن } المشركين المسرفين { الذين أجرموا } بالجرائم العظام الموجبة لأنواع الانتقام، من جملتها: إنهم { كانوا من الذين آمنوا يضحكون } [المطففين: 29] ويستهزئون بفقراء المؤمنين.
{ وإذا مروا بهم } متهكمين { يتغامزون } [المطففين: 30] أي: يغمز بعضهم بعضهم، ويشيرون بأعينهم كبرا عليهم وخيلاء.
{ وإذا انقلبوا } ورجعوا { إلى أهلهم } وأماكنهم وإخوانهم { انقلبوا } وصاروا { فكهين } [المطففين: 31] متلذذين منهمكين بما رأوا من شيم المؤمنين من صلاتهم وخشوعهم فيها، وتضرعهم واستكانتهم، وتواضعهم مع إخوانهم.
{ و } هم من شدة شكيمتهم وغيظهم { إذا } مروا { رأوهم } أي: المؤمنين { قالوا } متهكمين: { إن هؤلاء } السفلة المستحسنين { لضالون } [المطففين: 32] منحرفون عن مقتضى الرشد والهداية بمتابعة هذا المجنون؛ يعنون: الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ و } هم يقولون هكذا من كمال ضلالهم في أنفسهم، بل من حسدهم عليهم، مع أنهم { مآ أرسلوا عليهم } أي: على المؤمنين { حافظين } [المطففين: 33] يحفظون عليهم أعمالهم، ويشهدون بهدايتهم وضلالهم، بل الأمر بالعكس.
{ فاليوم } أي: اليوم الموعود المعهود الذي هو يوم القيامة { الذين آمنوا } بالله، وصدقوا بالآخرة، وبجميع الأمور الموعودة فيها { من الكفار } المصرين على العناد والإنكار { يضحكون } [المطففين: 34] أي: يضحك المؤمنون يومئذ عكس ما كانوا عليه في النشأة الأولى؛ إذ يرونهم أذلاء صاغرين، مغلولين في نار القطعية، معذبين بأنواع المحن.
مع أن المؤمنين حينئذ متكئين { على الأرآئك } المعدة لهم جزاء ما يتكلمون على الله، ويتكئون إلى فضله وإحسانه، مواظبين على أداء المأمورات وترك المنكرات، صابرين على متاعب الطاعات ومشاق التكاليف القالعة لعرق المستلذات الجسمانية، والمشتهيات النفسانية { ينظرون } [المطففين: 35] حينئذ بنور الإيمان، وصفاء اليقين والعرفان إلى وخامة ما فيه أصحاب الكفر والكفران، ويشكرون بنعمة الإيمان والإحسان.
{ هل ثوب الكفار } وقد جوزوا يومئذ بأسوأ الجزاء؛ بسبب { ما كانوا يفعلون } [المطففين: 36] من الاستهانة والاستهزاء بالمؤمنين، وضحكهمه بأعمالهم، وتغازمهم فيما بينهم بعيونهم تهكما عليهم.
جعلنا الله ممن بصره بعيوب نفسه، وأعماه عن عيوب غيره بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المراقب على تربية النفس، المداوم على تهذيب الأخلاق أن تصفي نفسك عن مطلق الرذائل المنافية لصفاء مشرب التوحيد، وتخلصها عن عموم القيود الإمكانية المتولدة من طغيان الطبيعة، وتحليها بمحاسن الأخلاق والأطوار المناسبة للفطرة الأصلية التي جبلت عيها في مبدأ خلقك، فلك الاتكال على الله، والفرار من على أصحاب الغفلة والضلال.
وإياك إياك أن تخالطهم وتجالس معهم؛ لأن صحبة الأشرار تميت القلوب، وتؤثر في السر، وتذهب جودة الفطنة، وتكدر صفاء مشرب الوحدة وتزيد الوحشة، وتورث النسيان المستلزم لأنواع الخسران والحرمان.
جعلنا الله ممن أذاقه حلاوة خلوته، وأنسه مع وحدته.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-12]
{ إذا السمآء } أي: سماء عالم الطبيعة والأركان { انشقت } [الانشقاق: 1] وانخرقت لتصعد وتعرج الأرواح الفائضة إلى الأشباح نحو سماء الأسماء والصفات بعد خرق التعينات، ورفع الإضافات.
{ وأذنت لربها } أي: أصغت وانقادت لحم ربها وأمره الذي مضى على انشقاقها { و } بعدما أمرت { حقت } [الانشقاق: 2] لها، ولاقت بحالها أن امتثلت بالمأمور وانقادت.
{ وإذا الأرض } أي: أرض الطبيعة والهيولي القابلة المجبولة لانعكاس تأثيرات سماء الأسماء والصفات { مدت } [الانشقاق: 3] امتدت وانبسطت لقبول مطاويها.
{ وألقت } أخرجت فظهرت { ما فيها } من التقوى المودعة القابلة لفيضان أنوار الذات { وتخلت } [الانشقاق: 4] عن حفظ الأمانات بالإلهية.
{ وأذنت لربها } في الإلقاء والتخلية { وحقت } [الانشقاق: 5] لها للاستئذان والإصغاء، ولاقتضاء مرتبة العبودية ذلك، حينئذ انكشفت لها جزاء ما كسبت واقترفت في نشأة الاختبار.
ثم نادى سبحانه الإنسان نداء تنبيه وتخطية، وتحريك حمية فطرية، وسلسلة جبلية فقال: { يأيها الإنسن } المصور على صورة الرحمن، المنتخب من بين سائر المظاهر لحكمة الخلافة والنيابة، ومصلحة المعرفة في التوحيد، فاعرف قدرك، ولا تغفل عن حقيقتك { إنك كادح } ساع للتقرب والتوحيد { إلى ربك كدحا } وسعيا منتهيا إلى إفناء هويتك في هوية الحق، وبالجملة: { فملاقيه } [الانشقاق: 6] يعني: أنت ملاق ربك بمقتضى سعيك واجتهادك، فلك ألا تفترق ما يوصلك إليه، ويفنيك فيه بعد جذب من جانب الحق، وتوفيق من لدنه؛ لتكون من أرباب اليمن والكرامة، الموسومين بأصحاب اليمين، المؤتين لهم صحف أعمالهم من قبل أيمانهم التي هي علامة إيمانهم وعرفانهم.
{ فأما من أوتي كتبه } المطوي المشتمل على تفاصيل ما صدر عنه { بيمينه } [الانشقاق: 7] الذي هو عنوان اليمن والكرامة والرضوان.
{ فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [الانشقاق: 8] سهلا سريعا.
{ وينقلب } ويرجع بعد الحساب { إلى أهله } الذي هم رفقاؤه في سبيل السعادة والكرامة { مسرورا } [الانشقاق: 9] مبسوطا فرحانا.
{ وأما من أوتي كتبه ورآء ظهره } [الانشقاق: 10] الذي هو عنوان الشقاوة، ودليل العتاب والعقاب، وأنواع الملامة والندامة.
{ فسوف يدعوا } ويتمنى { ثبورا } [الانشقاق: 11] ويلا وهلاكا؛ لصعوبة حسابه، وغلبة سيئاته على حسناته.
{ و } بالآخرة { يصلى } ويطرح صاغرا ذليلا { سعيرا } [الانشقاق: 12] مسعرا بنيران الشهوات والغفلات الصادرة منه بمتابعة الأوهام والخيالات، وأنواع الضلال والجهالات الناشئة من القوى البهيمية الحاصلة من طغيان الطبيعة.
[84.13-25]
{ إنه كان في أهله } في دار الدنيا { مسرورا } [الانشقاق: 13] بطرا فرحانا، فخورا بالمال والجاه، والثروة والسيادة، متفوقا على الأقران، يمشي على الأرض خيلاء.
وإنما حمله عليه { إنه ظن } بل تيقن جهلا وعنادا { أن لن يحور } [الانشقاق: 14] أي: لن ينقلب ويرجع إلى الله، ولن يقوم بين يديه سبحانه للحساب والجزاء؛ لذلك أجترأ من المعاصي.
ثم قال سبحانه: { بلى } ردعا عما قبله، وتصديقا لما بعده على سبيل التعريض { إن ربه } الذي رباه على فطرة المعرفة، وجبله على نشأة التوحيد { كان به بصيرا } [الانشقاق: 15] عالما بتفاصيل أعماله الصادرة عنه على وجه الخبرة والبصارة، بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء من أعماله وأحواله، فلا يهمله، بل يعيده ويجازيه.
ثم قال سبحانه: { فلا أقسم } لإتيان يوم القيامة، وإثبات ما فيها من الثواب والعقاب، والجزاء والحساب وغير ذلك؛ إذ هي أمور ظاهرة مكشوفة عند ذوي الكشف والشهود من أرباب المحبة والولاء، الواصلين إلى بحر الوحدة، وينبوع الحقيقة، بل أقسم { بالشفق } [الانشقاق: 16] المنبئ عن الشفقة والترحم الإلهي، وهو البياض المعترض من أفق عالم اللاهوت عند انقضاء نشأة الناسوت، حين حكم سبحانه بانطواء سجلات التعينات والهويات.
{ والليل } أي: أقسم بالليل؛ أي: مرتبة العماء الإلهي { وما وسق } [الانشقاق: 17] أي: ضم وجمع من الأنوار المنعكسة إليها هياكل الأشباح.
{ والقمر } أي: أقسم أيضا بالقمر؛ أي: الوجود الكلي الإضافي، المنبسط على مرآة ا لعدم المنعكس من شمس الذات الأحدية المتعشعشة، المتجلية عن مطلع الفضاء اللاهوتية { إذا اتسق } [الانشقاق: 18] تم وعمم، وشمل الكل، وصار بدرا كاملا بلا نقصان.
{ لتركبن } أيها المكلفون، ولتطرحن في نار القطيعة والحرمان { طبقا } مجاوزا { عن طبق } [الانشقاق: 19] بعيدا عنه، متجاوزا في شدة الأهوال والأقراع، وبعد الغور والطور في الحرقة، وأنواع العذاب والنكال.
وبالجملة: بحق هذه المقسمات العظام لدخلتم في طبقات النيران لو كفرتم بالله وعصيتم أمره، وخرجتم عن مقتضى حدوده وأحكامه.
وبعدما سمعوا ما سمعوا من الصادق الصدوق { فما لهم } أي: أي شيء عرض عليهم ولحقهم { لا يؤمنون } [الانشقاق: 20] ولا يتصفون بالانقياد والتسليم، سيما بعد ورود الزواجر والروادع من قبل الحق على ألسنة الرسل والكتب.
{ و } من كمال غفلتهم عن الله، وضلالهم عن سنن الهداية والرشاد { إذا قرىء عليهم القرآن } المبين لطريق الحق، وسبيل الإيمان والعرفان { لا يسجدون } [الانشقاق: 21] لا يخضعون والايتذللون، مع أنه إنما نزل؛ لهدايتهم وإرشادهم عنادا ومكابرة، فكيف التذلل والخضوع؟!
{ بل الذين كفروا يكذبون } [الانشقاق: 22] به وبمنزله، وبمن أنزل إليه جميعا.
{ و } بالجملة: { الله } المطلع بما في ضمائر عباده { أعلم } بعلمه الحضوري { بما يوعون } [الانشقاق: 23] أي: بعموم ما يضمرونه في نفوسهم من الكفر والكفران، وأنواع البغي والعدوان، والغفلة والطغيان، يجازيهم على مقتضى علمه بهم، وخبرته بما في نفوسهم.
وبالجملة: { فبشرهم } يا أكمل الرسل بشارة على سبيل التهكم والاستهزاء { بعذاب أليم } [الانشقاق: 24] نازل عليهم حين أخذوا بعصيانهم وآثامهمه.
{ إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت } منهم، وخرجوا عن ورطة الطغيان مستمسكين بعروة الإيمان، متشبثين بحبل القرآن { لهم أجر } عظيم { غير ممنون } [الانشقاق: 25] أي: غير مقطوع ومنقوص، إن أخلصوا في إيمانهم وإذعانهم.
اصنع بنا ما أنت به أهل يا مولانا.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، المجبول على فطرة الإيمان والعرفان - مكنك الله فيما يسر لك ، وثبتك عليه - أن تتمسك بحبل التوفيق الإلهي، وتتشبث بأذيال همم أرباب التحقيق من الأنبياء والرسل الهادين المهديين، والأولياء الألباء المهتدين لهدايتهم؛ إذ هم خلاصة الوجود، وزبدة أرباب الكشف والشهود.
فلك أن تتخلق بأخلاقهم، وتقتفي بآثارهم المأثورة عنهم، وتسترشد من المرشد الرشيد الذي هو القرآن المجيد الموصل لأرباب التوفيق إلى زلال التوحيد، والمسقط لأنواع التقاليد الراسخة في قلوب أصحاب الغفلة والتخمين.
فلك أن تتأمل ظاهره وباطنه، وحده ومطلعه؛ حتى تتوسل بها إلى ما فوقها من الرموز التي وهبها سبحانه، وجاد بها لبعض النفوس القدسية الفانية في قدس الذات الباقية ببقائها.
جعلنا الله من خدامهم وتراب أقدامهم.
[85 - سورة البروج]
[85.1-9]
{ والسمآء } أي: وحق سماء الأسماء والصفات المتشعشعة المتجلية في عالم اللاهوت { ذات البروج } [البروج: 1] من النفوس القدسية القابلة لانعكاسها وتشعشعها، المستعدة لفيضان أنوارها الذاتية.
1-9
والانكشاف التام المنعكس عن عالم العماء عند ارتفاع سدل الأسماء والصفات عن البين.
{ و } اتحاد { شاهد ومشهود } [البروج: 3] في العين، إنكم أيها المحجوبون عن الله، المطرودون عن ساحة عز حضوره، المعلونون مردودون عن كنف قربه وجواره، يعني: كفار مكة - لعنهم الله - لأن السورة نازلة في تثبيت المؤمنين على أذاهم.
كما { قتل } ولعن { أصحاب الأخدود } [البروج: 4] الخد: الشق في الأرض وغيرها. روي أنه كان لملك ساحر فكبر، فضم إليه غلاما؛ ليعلمه، وكان في طريق الغلام را هب يستمع منه كلاما، فرأى في طريقه يوما حية حبست الناس، فأخذ الغلام حجرا فقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، وكان بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفي المريض، فعمي جليس للملك، فابرأه، فأسلم، فسأله الملك: من أبرأك؟ فقال: ربي.
فغضب الملك عليه، فعذبه فدل على الغلام، فعذبه فدل على الراهب، فقده بالمنشار، وذهب بالغلام إلى جبل؛ ليطرح من أعلاه، فرجف بالقوم، فطاحوا ونجا الغلام، فذهب به إلى سفينة؛ ليغرق، فكفأت السفينة بمن معه ونجا.
وقال الغلام للملك: لست بقاتلي حتى تأخذ سهما من كنانتي، وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم ترميني به، فرماه فقال: بسم الله رب الغلام، فأصاب صدغه، فوضع عليه يده فمات، فآمن الناس.
وقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بحفر أخاديد، فأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جات امرأة مع صبي رضيع، فتقاعست فقال الرضع بإلهام الله إياه، مع أنه في غير أوان تكلمه، مثل عيسى النبي - صلوت الله عليه -: يا أماه اصبري، فإنك على الحق، فأقتحمت في { النار } بدل من لفظه: الأخدود، بدل الاشتمال { ذات الوقود } [البروج: 5] والحطب الكثير تهويلا عليهم بشدة التهابها وسورتها؛ لينزجروا عما اختاروا، ويعودوا عن الإسلام والتوحيد.
ثم لما طرح المؤمنون فيها التهبت النار التهابا شديدا، وخرجت على أطرافها فأحرقت كثيرا من صناديد أولئك الظلمة { إذ هم عليها } وفي أطرافها { قعود } [البروج: 6] قاعدون على الكراسي حول النار.
{ وهم } أي: رؤساؤهم { على ما يفعلون } أي: الموكلون { بالمؤمنين } من الأخذ والإفناء { شهود } [البروج: 7] عدول مشرفون من قبل الملك، أمناء من جانبه، أقعدهم حولها؛ لئلا يتهاون الأعونة في إهلاك المؤمنين، وطرحهم في النار.
{ و } بالجملة: { ما نقموا } وانتقموا أولئك الظالمون المنهمكون في بحر الغي والعدوان { منهم } أي: من المؤمنين بهذا الانتقام الصعب الهائل { إلا } أنهم كرهوا منهم، واستكرهوا عليهم { أن يؤمنوا بالله } الواحد الأحد الصمد، الحي القوم، الحقيق بالإيمان والإطاعة { العزيز } الغالب القاهر على من دونه من السوى والأغيار مطلقا { الحميد } [البروج: 8] المستحق لأصناف الأثنية والمحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا.
وكيف لا يكون سبحانه عزيزا حميدا، مع أنه القادر { الذي له } وفي حيطة قدرته وإرادته { ملك السماوات والأرض } أي: مظاهر العلويات والسفليات، وما بينهما من الممتزجات؟! { و } كيف لا، هو { الله } المستقل بالألوهية والوجود { على كل شيء } لمع عليه برق وجوده { شهيد } [البروج: 9] حاضر غير مغيب؟!
[85.10-22]
وبالجملة: { إن } المسرفين المفسدين { الذين فتنوا } وأحرقوا { المؤمنين والمؤمنات } ظلما وعدوانا، كراهة هدايتهم وإيمانهم { ثم } بعدما فعلوا من الإفراط والإسراف { لم يتوبوا } إلى الله، ولم يرجعوا نحموه سبحانه عن ظلمهم، ولم يستغفروا نادمين { فلهم عذاب جهنم } الطرد والحرمان عن حضور الحنان المنان { ولهم } ولحق بهم؛ بسبب كفرهم بالله، وإنكارهم توحيده { عذاب الحريق } [البروج : 10] بدل ما فعلوا بالمؤمنين من حرقهم في الأخاديد.
ثم عقب سبحانه وعيدهم بوعد المؤمنين فقال: { إن الذين آمنوا } بوحدة الحق { و } أكدوا إيمانهم بأن { عملوا الصالحات } المقرونة بالإخلاص في النيات { لهم } عند ربهم جزاء إيمانهم وأعمالهم تفضلا عليهم { جنات } منتزهات العلم والعين والحق { تجري من تحتها الأنهار } جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الحقيقة، وبالجملة: { ذلك } القوم العظيم الشأن، البعيد رفعة ومكانة عن أفهام الأنام هو { الفوز الكبير } [البروج: 11] والفضل العظيم الذي لا فوز أعظم منه وأرفقع.
ثم أشار سبحانه إلى تهديد أصحاب الضلال، المنحرفين عن جادة الاعتدال، مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال: { إن بطش ربك } يا أكمل الرسل، وأخذه بالعنف لعصاة عباده المائلين عن سبيل سداده، وجادة رشاده { لشديد } [البروج: 12] بحيث لا يقال على شدة بطشه، وتضاعف عذابه وانتقامه.
وكيف يقاس على بطشه، ويقاوم مع أخذه { إنه } سبحانه { هو } القادر الغالب الذي { يبدىء } ويظهر عموم المظاهر والموجودات من كتم العدم بالقدرة الغالبة الكاملة، ثم يخفي ويعدم كلها أيضا بكمال قدرته { ويعيد } [البروج: 13] ويخرج عن فضاء الظهور مرة بعد أخرى بمقتضى قدرته واختياره، فكيف يقاوم ويقاس مع قدرته سبحانه هذه؟!
وكيف يطيق أحد أن يقوم بمعارضته - تعالى شأنه أن يعارض حكمه، وينازع سلطانه - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عن فعله، إنه حكيم حميد؟!
{ وهو } سبحانه بمقتضى سعة جوده ورحمته { الغفور } الستار المحاء لذنوب من تاب ورجع نحوه مخلصا نادما، وإن كبرت وكثرت، فإن رحمته أوسع منه وأشمل { الودود } [البروج: 14] المحب لإخلاص المذنبين، وتوبة المستغفرين، وضراعة الخائفين المخبتين، المستحيين من الله، النادمين على ما صدر عنهم وقت الغفلة والغرور.
وكيف لا يود ولا يغفر سبحانه، مع أنه { ذو العرش } المستوي على عروش ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام، والاستقلال الكامل { المجيد } [البروج: 15] العظيم في ذاته وصفاته، وأسمائه وأفعاله؛ إذ لا وجود لسواه، ولا كون لغيره.
فظهر أنه { فعال } بالاستقلال الاختيار { لما يريد } [البروج: 16] وجميع الأفعال الجارية في ملكه وملكوته صادرة عنه باختياره، وبلا شركة فيها ومظاهرة؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء بمقتضى علمه الشامل، وحكمته الكاملة، سواء كان إنعاما أو انتقاما.
ثم أشار سبحانه إلى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم، وحثه على الصبر بأذيات قومه وتكذيبهم إياه مكابرة فقال: { هل أتاك } أي: قد أتاك ووصل إليك، وثبت ذلك عندك يا أكمل الرسل بالتواتر { حديث الجنود } [البروج: 17] أي: أخبار الأمم السالفة، وقصة تكذيبهم للرسل والكتب، وانتامنا عنهم بعدما بلغ أذيات الرسل غايتها.
يعني: { فرعون } الطاغي الباغي وملئه، كيف كذبوا أخاك موسى الكليم عليه السلام، وكيف قصدوا لمقته وهلاكه مرارا، وكيف انتقمنا عنهم واستأصلناهم { وثمود } [البروج: 18] المردود، كيف كذبوا أخاك صالحا عليه السلام، وكيف انتقمنا عنهم، تذكر يا أكمل الرسل قصصهم مع رسلهم، وما جرى عليهم من لدنا، فاصبر على ما أصابك من قومك، فإن ذلك من عزم الأمور، فسننتقم عنهم، مثلما انتقمنا من الأمم السالفة الهالكة.
{ بل الذين كفروا } بك وبكتابك { في تكذيب } [البروج: 19] أعظم من تكذيب الماضين، إنهم سمعوا قصصهم، وما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم فلم يعتبروا، ولم ينزجروا، فسيلحقهم أشد مما لحقهم من العذاب عاجلا وآجلا.
{ و } بالجملة: { الله } المطلع لعموم ما جرى في ضمائرهم من الكفر والشقاق { من ورآئهم } أي: وراء هوياتهم الباطلة، وتعيناتهم العاطلة { محيط } [البروج: 20] لهم بالإحاطة الذاتية، بحيث لا يفوت منه سبحانه شيء من جرائمهم وآثامهم، سيجازيهم عليها بمقتضى إحاطته، وهم منكرون إحاطته؛ لذلك ينكرون كتابه الجامع لجميع الكمالات الدنيوية والأخروية، الغيبية والشهادية، ينسبونه إلى الشعر والكهانة، وأنواع التزويرات والمفتريات الباطلة عنادا ومكابرة، مع أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه { بل هو قرآن } فرقان بين الحق والباطل، والهداية والضلال { مجيد } [البروج: 21] عظيم عند الله مبين، مبين لأحكام الدين المستبين.
مثبت { في لوح محفوظ } [البروج: 22] هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه المصون عن مطلق التحريف والتغيير.
جعلنا الله ممن تنور بنور الإيمان، وانكشف بحقية القرآن الفرقان.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، المنكشف بحقية القرآن - هداك الله إلى حقيقته - أن تعتقد إلى أن تنكشف أن مطلق الحوادث الجارية في عالم الكون والفساد، إنما هو مثبت في لوح القضاء المصون عن سمت التبديل والتغيير؛ إذ ما يبدل القول والحكم لدى القادر الحكيم العليم.
والتصرفات الواقعة في عالم الملك والملكوت إنما هي مرفوعة مرسومة فيه على وجهها، بحيث لا يشذ شيء منها عنه، والقرآن المجيد منتخب منه، حاو على عموم ما ثبت فيه إجمالا.
ومن أدركته العناية السرمدية، وجذبته الجذبة الأحدية تفطن من رموز القرآن إلى نور الأسرار والمعارف التي فصلها الحق في لوح قضائه، وحضرة علمه، لكن الواصل إلى هذه المرتبة العلية أقل من القليل.
وبالجملة: فكن راجيا من الله الجميل، ولا تيأس من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون.
[86 - سورة الطارق]
[86.1-10]
{ والسمآء } أي: وحق سماء الأسماء اللاهوتية، المصونة عن مطلق التغيير والزوال، المتعالية عن مدارك الوهم ومشاعر الخيال { و } بحق { الطارق } [الطارق: 1] الذي يتخطف منها على آحاد الرجال بعدما هاجروا عن بقعة الناسوت متشمرين بالعزيمة الخالصة نحو فضاء اللاهوت بمقتضى الجذب الجبلي، والميل الفطري المعنوي.
ثم أبهمه سبحانه على حبيبه تعظما وتفخيما فقال: { ومآ أدراك } أيها المظهر الكامل اللائق لفيضان الطوارق اللاهوتية { ما الطارق } [الطارق: 2] حين كانت مقيدا في عالم الناسوت، وبعدما أطلقك الحق عن قيود عالم الناسوت عرفت أن الطارق الذي يطرقك من عالم اللاهوت والجبروت.
{ النجم الثاقب } [الطارق: 3] أي: الجذبة المضيئة الأحدية، اللامعة المتشعشعة، الناشئة من عالم العماء الذي هو محل كمال الجلاء والانجلاء الذاتي، والجذوة المشتعلة الساقطة من نار العشق والمحبة المفرطة الإلهية إلى شجرة ناسوتك، القائلة لك بعدما أمرك بالانخلاع عن كسوة ناسوتك:
إني أنا ربك فاخلع نعليك
[طه: 12].
واطرح لوازم نشأتك بعدما سمعت ما سمعت يا أكمل الرسل، فاسترح في مقعد صدقك عند ربك
إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك
[طه: 12-13] لمظهرية المعارف والحقائق
فاستمع لما يوحى
[طه: 13] إليك الآيات البينات لمراسم التوحيد واليقين.
وبالجملة: وحق هذين القسمين العظيمين { إن كل نفس } أي: ما كل نفس من النفوس الزكية والخبيثة { لما } أي: إلا { عليها حافظ } [الطارق: 4] من قبل الحق، يحفظ لها أقوالها وأفعالها وأحوالها، وحالاتها ومقاماتها؛ حتى لا يدفعها ويسلمها إلى المقادير التي حصل منها، وصدر على طبقها حتى جوزيت على مقتضاها.
وبعدما سمع الإنسان ما سمع من الحكمة العلية الإلهية { فلينظر الإنسان } المركب من الجهل والنسيان، وليتأمل في منشئة { مم خلق } [الطارق: 5] يعني: فليراجع وجدانه، ولينظر مبدأه ومنشأه؛ حتى يظهر له من أي شيء قدر وجوده، فعرف قدره، ولم يتعد طوره.
{ خلق من مآء } مهين مسترذل { دافق } [الطارق: 6] مدفوق مصبوب في الرحم على وجه التلذذ والاضطراب من كلا الجانبين.
مع أنه { يخرج من بين الصلب والترآئب } [الطارق: 7] أي: من ظهر الرجل وصدر المرأة.
وبعدما تأمل الإنسان في مبدئه، وعرف أصل منشئه تفطن منه أن وفقه الحق إلى قدرة الصانع العليم، الحكيم الذي خلقه من هاتين الفضلتين الخبيثتين، ورباه إلى أن صار بشرا سويا، قابلا لفيضان أنواع المعارف والحقائق، لائقا للخلافة الإلهية، مهبطا للوحي والإلهام.
وتفطن أيضا، بل جزم وتيقن أن من قدر على خلقه وإيجاده ابتداء { إنه على رجعه } وإعادته وبعثه من القبور { لقادر } [الطارق: 8] ألبتة، فكيف ينكر قدرته سبحانه على البعث والحشر، مع أن الإعادة أهون عنده من الإبداء؟!
تأملوا أيها المجبولون على فطرة العبرة والتكليف { يوم تبلى السرآئر } [الطارق: 9] وتكشف الساتر، ويظهر ما خفي في الضمائر من الإنكار والإصرار، وفواسد النيات والأعمال.
{ فما له } أي: للإنسان حينئذ { من قوة } يدفع عن نفسه ما يترتب على أعماله وأحواله من العذاب والعقاب على وجه الجزاء { ولا ناصر } [الطارق: 10] يدفعه عنه وينصره؛ إذ كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت، مشغولة بجزاء ما جرت خيرا كان أو شرا.
[86.11-17]
ثم أقسم سبحانه بما أقسم؛ لإثبات حقية القرآن وفضله، وكونه بريئا عن قدح القادحين، وطعن الطاعنين فقال: { والسمآء } أي: وحق سماء الأسماء اللاهوتية التي هي في أعلى درجات الارتفاع { ذات الرجع } [الطارق: 11] والعود؛ إذ تدور على هياكل عالم الناسوت طرفة، وترجع في الحال، كالبرق الخاطف آثارها إلا لأرباب العناية من البدلاء الذين بدلت لوازم ناسوتهم في المرة بخواص اللاهوت، ولا تدوم وتستقر.
{ والأرض } أي: أرض الطبيعة والهيولى القابلة لانعكاس ما لمع عليها من سماء الأسماء { ذات الصدع } [الطارق: 12] أي: التأثر والتشقق بقبول أثر مؤثرات عالم اللاهوت.
يعني: وبحق هذين القسمين العظيمين { إنه } أي: القرآن { لقول فصل } [الطارق: 13] فاصل بين الحق والباطل، والهداية والضلال.
{ وما هو بالهزل } [الطارق: 14] كما زعمه المسرفون المفرطون في شأنه، بل هو جد كله، صدر عن حكمة بالغة إلهية لمصلحة الهداية والرشاد لعموم العباد، وبالجملة: { إنهم } يعني: طغاة مكة { يكيدون كيدا } [الطارق: 15] ويمكرون مكرا في إبطال القرآن وإطفاء نوره مراء ومكابرة، فيرمونه بأنواع القدح والطعن الفائض على عموم الأعيان، وينسبونه إلى ما لا يليق بشأنه
.
{ وأكيد } أيضا في أخذهم وانتقامهم بعدما استحقوا الأخذ والانتقام { كيدا } [الطارق: 16] على سبيل الاستدراج والإمهال، بحيث لا يحتسبون، بل يحملون إمهالنا على الإهمال؛ لذلك يغترون ويجترئون في قدحه وطعنه.
وبعدما سمعت ما سمعت يا أكمل الرسل { فمهل الكافرين } أنت أيضا، ولا تستعجل بانتقامهم، ولا تشتغل بالدعاء عليهم سريعا؛ إذ إمهالنا إياهم ابتلاء منا لهم وفتنة جالبة لمصيبة عظيمة، ومتى تحققت يا أكمل الرسل ما قلنا لك { أمهلهم } وأعرض عن المراء والمجادلة معهم، وانتظر لمقتهم، وترقب لهلاكهم { رويدا } [الطارق: 17] إمهالا يسيرا في زمان قليل، وسيظهر عن قريب دينك على عموم الأديان، وهم يقهرون ويستأصلون.
جعلنا الله ممن صبر وظفر على مبتغاه بمنه ولطفه.
خاتمة السورة
عليك أيها المتوكل على الحق، المتبتل نحوه بالعزيمة الخالصة أن تفوض عموم أمورك إلى ربك، بحيث لا يخطر ببالك أن تلتفت إلى تحصيلها باستدراك، وتتخذه كفيلا حسيبا، كافيا بجميع حوائجك وأشغالك.
وبالجملة: كن فانيا في الله يكفيك جميع مؤنك؛ إذ الكل بالله ومن الله وفي الله، بل أنت ما أنت، بل أنت هو، بل هو هو، لا حول ولا قوة إلا بالله
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون
[القصص: 88].
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-9]
{ سبح } يا من غرق في تيار بحث زخار الوجود، وتلاشى في لمعات شمس الشهود { اسم ربك الأعلى } [الأعلى: 1] وإن لم يبق لك التوسل بمطلق الأسماء، بعدما فنيت في المسمى.
ثم تذكر حصة عبوديتك نعمه الواصلة إليك بعدما فزت بخلع البقاء، وتذكيرا استحضارا لما جرى عليك من الشئون والأطوار في نشأة ناسوتك؛ إذ هو سبحانه القادر { الذي خلق } وأوجد عموم ما خلق وأظهر { فسوى } [الأعلى: 2] خلق الكل بحوله وقوته، مع ما يتعلق به، ويترتب عليه في معاشه ومعاده.
{ و } هو { الذي قدر } المقادير ودبر التدابير وأحسن التصاوير وأودع فيها ما أودع من الاستعدادات والقابليات الجالبة لأنواع الكمالات، وبعدما عدلها وهيأها { فهدى } [الأعلى: 3] أي: هدى الكل إلى ما جبلوا لأجله بوضع التكاليف المشتملة على الأوامر والنواهي، والأحكام الواجبة والمندوبة، والأخلاق المرضية والآداب السنية؛ ليتمرنوا على الأمور المذكورة ويترسخوا فيها بالعزيمة الخالصة حتى يفيض عليهم طلائع سلطان الوحدة الذاتية المنقذة لهم عن ورطة الناسوت، الموصلة إلى فضاء اللاهوت.
{ و } هو سبحانه { الذي أخرج } بكمال قدرته { المرعى } [الأعلى: 4] أي: أنبت وأظهر المرعى الحاصل في مرتع الدنيا بأجناسها وأنواعها وأصنافها؛ تتميما لتربية دواب الطبائع وحوامل الأركان القابلة لتأثيرات عالم الأسماء والصفات؛ ليتقوموا بها ويستعدوا لفيضان المعارف والحقائق، وأنواع الكمالات اللائقة التي هم جبلوا لأجلها.
وبعدما حصل لهم ما حصل من الكمالات المنتظرة في نشأة الناسوت { فجعله } سبحانه مرعى العالم مع كمال نضارتها وبهائها في نظر شهود أولي الألباب، الناظرين ينور الله من وراء سدل الأسماء والصفات { غثآء } يابسا، بل سرابا باطلا بعدما تحققوا بمقر التوحيد، ورفعوا وسائل الأوصاف والأسماء عن البين، فصار الكل حينئذ هباء { أحوى } [الأعلى: 5] عدما لا يبقى، أسود موحشا مظلما، بعدما كان أخضر مفرحا.
ثم التفت سبحانه نحو حبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل التفضل والامتنال فقال على وجه الوصاية والتذكير: { سنقرئك } ونجعلك قارئا مراقبا على وجوه الوحي والإلهام النازل من لدنا عليك، مع أنك أمي لم يعهد منك أمثالها { فلا تنسى } [الأعلى: 6] يعني: عليك أن تضبط هذه النعمة وتحفظها على وجهها، وتواظب على أداء شكرها بلا فوت شيء منها وزيادة عليها وتحريف فيها.
{ إلا ما شآء الله } العليم الحكيم نسيانه منك بأن نسخ تلاوته أو حكمه أو كلاهما على مقتضى حكمته المتقنة المستحكمة ومصلحته، وبعدما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت فدم عليها، ولا تغفل سرا وجهرا، وحالا ومقالا عنها { إنه } سبحانه { يعلم } منك { الجهر وما يخفى } [الأعلى: 7] أي: ظاهرك وباطنك؛ يعني: ما امتثلت بظاهرك من مقتضيات الوحي الإلهام، وبباطنك من الإخلاص في النيات والحالات والخلوص في العزائم والمقامات.
{ و } اعلم يا أكمل الرسل أنا بمقتضى عظيم جودنا معك { نيسرك } ونوفقك على التدين والتحفظ بمقتضيات الوحي { لليسرى } [الأعلى: 8] أي: للطريقة السلهة السمحة البيضاء.
وبعدما يسرنا لك وسلهنا عليك طريق الهداية والإرشاد { فذكر } يعني: عظ بالقرآن وبين الأحكام الموردة فيه للناس { إن نفعت الذكرى } [الأعلى: 9] أي: سواء نفعت عظتك وتذكيرك إياهم أو لم تنفع؛ إذ ما عليك إلا البلاغ، وعلينا الحساب.
[87.10-19]
ولا تيأس يا أكمل الرسل من مبالغتهم في الإعراض والانصراف عنك وعن تذكيرك إنه { سيذكر } ويتعظ بتذكيرك { من يخشى } [الأعلى: 10] عن بطش الله، وعن كمال قدرته على وجوه الانتقام.
وبعدما تأملت في القرآن مرارا، وتدبرت في فحاويه تكرارا، تنبه على حقيقته، فتذكر به وامتثل بما فيه { ويتجنبها } أي: يعرض عنها وعن سماعها؛ يعني: الذكر والعظة التي هي القرآن { الأشقى } [الأعلى: 11] أي: الكافر، الذي جبل على فطرة الشقاوة وجبلة الجهل والغباوة.
{ الذى يصلى } ويدخل في النشأة الأخرى { النار الكبرى } [الأعلى: 12] التي هي بأضعاف نار الدنيا في الحرقة والحرارة، لذلك قال: " كبرى " أو في الدرك الأسفل منها وهو أكبرها.
{ ثم } بعدما دخل في نار القطعية والحرمان بأنواع الخيبة والخذلان { لا يموت فيها } يعني: يستريح { ولا يحيا } [الأعلى: 13] حياة نافعة طيبة كسكان بقعة الإمكان، الداخلين في نيران الشهوات ودركات الأماني والآمال، لا يموتون حتى يستريحوا، ولا يحيون بلا منية إلا منية وغل الأمل وسلسلة الحرص.
وبالجملة: هم معذبون في عموم الأوقات والأحوال، لا نجاة لهم عنه ما داموا في قيد الحياة، وبعدما ماتوا بأنواع الحسرات، سيصلون في أسفل الدركات وأصعب العقوبات.
هب لنا جذوة من نار المحبة، تنجينا عن نيران الإمكان في النشأة الأولى والأخرى .
ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه { قد أفلح } وفاز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا { من تزكى } [الأعلى: 14] وتطهر عن أدناس الطبائع وأكدار الهيولى من الميل إلى الدنيا وما فيها من اللذات الفانية، والشهوات الغير الباقية، وتوجه نحو المولى بالعزيمة الخالصة.
{ وذكر } في أوائل الطلب ومبادئ الإرادة { اسم ربه } أي: جنس الأسماء الإلهية متفطنا بمعناها، يقظان فرحان متشوقا { فصلى } [الأعلى: 15] ومال نحوه سبحانه في الأوقات المأمورة المحفوظة، محرما على نفسه عموم مبتغاه من دنياه.
{ بل } هؤلاء الحمقى الهلكى التائهون في تيه الضلال، المغلولون بأغلال الأماني والآمال { تؤثرون } وتختارون { الحياة الدنيا } [الأعلى: 16] المستعارة الفانية على الحياة الحقيقة الأخروية الباقية؛ لذلك يجمعون أسباب الفساد والإفساد، ولا يتزودون ليوم الميعاد.
{ و } الحال أنها؛ أي: { الآخرة } وما وعد فيها من اللذات الروحانية الباقية { خير } مما في الدنيا وأمانيها { وأبقى } [الأعلى: 17] وأدوم بحيث لا انقطاع لها.
{ إن هذا } الذي وعظك الحق به يا أكمل الرسل، ووصاك بالفلاح { لفي الصحف الأولى } [الأعلى: 18] أي: مثبت، مسطور على وجهه، وتلك الصحف { صحف } جدك يا أكمل الرسل { إبراهيم } الفائق في الخلة والفلاح على عموم أرباب الصلاح والنجاح { وموسى } [الأعلى: 19] الكليم الفائز من عند الله بالفوز العظيم، وهو مرتبة التكليم مع الله العزيز العليم.
جعلنا الله من خدامهم وتراب أقدامهم.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب للفلاح الأخروي الحقيقي والنجاح المعنوي أن تزكي أولا نفسك عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الحقيقي نحو الحق، وتصفي سرك عن الميل إلى مزخرفات الدنيا الدنية وأمانيها الغير الهنية، فلك أن ترغب نفسك عن مقتضيات الإمكان، ولا تغريها إلى لذاتها وشهواتها، فعليك أن تلازم الخلوة والخمول، وتجتنب عن أصحاب الثروة والفضول حتى يعينك الحق إلى التلقي بالقبول بما يوجبك الفلاح والفوز بالنجاح.
افتح لنا أبواب رحمتك إنك أنت الفتاح.
[88 - سورة الغاشية]
[88.1-7]
{ هل أتاك } أي: قد أتاك ووصل إليك يا أكمل الرسل { حديث الغاشية } [الغاشية: 1] أي: الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتحيط بهم يوم القيامة بشدائدها حين وقفوا بين يدي الله للعرض والجزاء، وهم حنيئذ من شدة الهول والفزع حيارى، سكارى تائهون، هائمون، مرعوبون عما يفعل بهم، وكيف يحكم عليهم.
وبعدما أخذوا للحساب وحوسبوا: { وجوه يومئذ خاشعة } [الغاشية: 2] ذليلة شاخصة منكوسة.
{ عاملة } يومئذ بأعمال لا تنفعها، كالتوبة والتوجه وطلب العفو والمغفرة بعد مضي أوانها { ناصبة } [الغاشية: 3] مبالغة في التعب والمشقة، رجاء أن يعفا عنها ويغفر لها، فلا تنفعها حينئذ علمها، وإن أتعبت نفسها لانقضاء نشأة الاختبار المأمورة فيها الأعمال.
{ تصلى } وتطرح حينئذ { نارا حامية } [الغاشية: 4] في نهاية الحر والحرقة؛ تأكيدا وتشديدا لعذابها.
{ تسقى } عند إشرافها على الهلاك من شدة العطش { من عين آنية } [الغاشية: 5] متناهية في الحرارة، وكيف لا، قد أوقدت حولها نار جهنم منذ خلقت، هذا شرابهم.
{ ليس لهم طعام إلا من ضريع } [الغاشية: 6] شبرق يابس، أمر من الصبر وأبشع من جميع الأشياء البشعة، ومع نهاية بشاعته ومرارته وشدة حرارته { لا يسمن } حتى يزيد في قوتهم { ولا يغني } ولا يدفع { من جوع } [الغاشية: 7] وبالجملة: لا يفيد البدن أصلا.
[88.8-16]
{ وجوه } أخر { يومئذ ناعمة } [الغاشية: 8] متنعمة مبتهجة مسرورة.
{ لسعيها } الذي تحملته من أنواع المتاعب والمشاق في نشأة الدنيا { راضية } [الغاشية: 9] سيما بعدما رأت ما ترتب على سعيها من الجزاء.
وكيف لا ترضى؛ إذ هي متنعمة بسبب ذلك بالسعي { في جنة عالية } [الغاشية: 10] متعالية أوصاف نزاهتها ونضارتها عن مدارك العقول ومشاعر الحواس، مصفاة عن مطلق المكاره بحيث { لا تسمع فيها } كلمة { لاغية } [الغاشية: 11] لا فائدة لها.
ولتتميم نزاهتها ونضارتها { فيها عين } ماؤها في غاية البياض والصفاء { جارية } [الغاشية: 12] في خلالها وأنهارها أبدا.
ولتتميم ترفههم وتنعمهم { فيها سرر مرفوعة } [الغاشية: 13] مرتفعة عن الأرض على قوائم طوال.
{ وأكواب } أوان لا عروة لها { موضوعة } [الغاشية: 14] بين أيديهم.
{ ونمارق } وسائد في غاية الصفاء، متلونة بالألوان المطبوعة { مصفوفة } [الغاشية: 15] مفروشة بعضها في جنب بعض.
{ وزرابي } بسط أخر فاخرة متلونة { مبثوثة } [الغاشية: 16] مبسوطة بين أيديهم، فلا تستبعدوا ولا تستغربوا عن قدرة الله أمثال هذا.
[88.17-26]
{ أ } ينكرون ويستبعدون أولئك البعداء، المنكرون، المفرطون قدرة الله القدير الحكيم على أمثال هذه المقدورات { فلا ينظرون } بنظر التأمل والاعتبار { إلى الإبل كيف خلقت } [الغاشية: 17] على الهيكل الغريب والشكل العجيب تحمل كثيرا وتأكل قليلا وتصير منقادة لكل أحد حتى النسوان والصبيان مع عظمة جسمها وكمال قوتها وقدرتها وتتحمل على الجوع والعطش مدة، وتتأثر من المودة والغرام، وتسكر منها إلى حيث تنقطع عن الأكل والشرب زمانا ممتدا، وتتأثر أيضا من أحسن الأصوات والحدي، وصارت من كمال التأثر إلى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري، وتجري الدمع من عينها، وبالجملة: ظهر منها حين حدي عليها عجائب كثيرة، يتفطن بها أهل العبر والاستبصار.
{ وإلى السمآء كيف رفعت } [الغاشية: 18] بلا عمد وأساندي منثورة عليها من الكواكب التي لا ندرك حقائقها وأوصافها وأشكالها وطبائعها وحالاتها، وما لنا منها إلا الحيرة والنظر على وجه العبر.
{ وإلى الجبال } الرواسي { كيف نصبت } [الغاشية: 19] على وجه الأرض مشتملة على معادن ومياه وأجسام.
{ وإلى الأرض } التي هي مقر أنواع الحيوانات وأصناف المعادن وأنواع النباتات { كيف سطحت } [الغاشية: 20] مهدت وبسطت.
ومع وضوح هذه المقدورات العظيمة الشأن، الصادرة من الحكيم المنان ذي الطول والإحسان، ينكرون قدرته سبحانه على المقدورات الأخروية، فالعجب كل العجب عمن شهد آثار القدرة الغالبة الإلهية في نفسه وفي الآفاق، فتردد في المقدورات الأخر الأخروية وأنكر عليها.
وما ذلك إلا من ظلمات الألف والعادات المترتبة على الأوهام والخيالات الباطلة والطارئة على أهل الغفلة والضلال، المسجونين في سجن الإمكان بأنواع الخيبة والخسران وإلا فظهور آثار القدرة الغالبة الإلهية أجل وأعلى من أن تتردد فيه الآراء، أو تنكر عليه الأهواء، وبالجملة:
من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
وبعدما سمعت ما سمعت من كمال قدرة الله { فذكر } يا أكمل الرسل بالقرآن بمقتضى ما أمرت به وألهمت { إنمآ أنت مذكر } [الغاشية: 21] مبلغ فلا بأس عليك إن لم ينظروا ولم يعتبروا، ما عليك إلا البلاغ، فلا تقصر في تبليغك.
إذ { لست عليهم بمصيطر } [الغشية: 22] مسلط، ملزم، مكره للقبول ألبتة.
{ إلا من تولى } يعني: لكن من أعرض وبغى بعد تذكيرك وتبليغك { وكفر } [الغاشية: 23] وطغى بما سمعك منك، واستهزأ معك وكذبك.
{ فيعذبه الله } العزيز الحكيم المقتدر على وجوه الانتقام { العذاب الأكبر } [الغاشية: 24] الذي لا عذاب أعظم منه وأشد، وهو حرمانهم عن رتبة الخلافة وخلودهم في نار القطيعة بأنواع الخذلان والخسران، وبالجملة: بلغ يا أكمل الرسل جميع ما أنزل إلأيك على كافة البرية، ولا تبال بإعراضهم وتكذيبهم.
{ إن إلينآ } لا إلى غيرنا من الوسائل والأسباب العادية { إيابهم } [الغاشية: 25] ورجوعهم، كما أن منا مبدأهم وصدورهم.
{ ثم } بعدما رجعوا إلينا صاغرين { إن علينا حسابهم } [الغاشية: 26] على أعمالهم التي صدرت عنهم في نشأة الاختبار، وبعدما حاسبناهم، جزيناهم أحسن الجزاء إن كانوا من أصحاب اليمين، وعذبناهم بأنواع العذاب والنكال إن كانوا من أصحاب الشمال.
رب يسر حسابك علينا، وقنا عذابك، إنك أنت الرءوف الرحيم.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو الحق، الحقيق بالتوجه والرجوع أن ترجع إلى الله قبل حلول الأجل المقدر للقيامة الصغرى والكبرى، وتفوض أمورك كلها إليه سبحانه بالإرادة والرضا، وتنخلع عن لوازم ناستوك بالمرة.
وبالجملة: عليك أن تتصف بالموت الإرادي قبل حلول الأجل الاضطراري الطبيعي، حتى تكون عند ربك دائما وفي كنف حفظه وجواره بلا انتظار منك إلى الطامة الكبرى والحساب والجزاء، ولا يتيسر عليك هذا إلا بتوفيق الله وجذب من جانبه، فلك السعي والاجتهاد، والله الملهم للرشاد والهادي إلى سبيل السداد.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-9]
{ والفجر } [الفجر: 1] أي: وحق انفلاق صبح السعادة المتنفس بأنفاس الرحمانية المتلألئ من سماء العماء وأفق عالم الأعلى اللاهوتي.
{ وليال عشر } [الفجر: 2] أي: ويحق ليالي الحواس العشر، المقبلة إلى الإدبار والانمحاء عند انجلاء الفجر اللاهوتي وصبح العماء الذاتي.
{ والشفع } أي: شفع الملوين الجديدن، وارتفاعهما عن العين وانمحائهما عن البين { والوتر } [الفجر: 3] أي: الوجود الوحداني، المطلق، المنزه عن التعدد والتكثر مطلقا في ذاته.
{ واليل } أي: ليل العدم المظلم في ذاته { إذا يسر } [الفجر: 4] وذهبت ظلمته بامتداد أظلال الوجود وشروق شمس الذات عليه.
{ هل } يحتاج { في ذلك } أي: في كل واحد من المقسمات العظيمة الشأن { قسم } ويمين يؤكدهما { لذى حجر } [الفجر: 5] عقل فطري خالص عن شوب الوهم والخيال، خال عن مزاحمة مطلق الإلف والعادات الحاصلة من الرسوم والتقليدات، الناشئة من ظلمات الطبيعة.
وبالجملة: أقسم سبحانه بحق هذه المقسمات الرفيعة القدر والمكان أنه سبحانه يعذب أصحاب الزيغ والضلال، المقيدين بسلاسل الحرس وأغلال الآمال في الدنيا بشهوات الإمكان، وفي الآخرة بدركات النيران؛ يعني: كفار مكة خذلهم الله.
استبعدت يا أكمل الرسل تعذيبنا إياهم وانتقامنا عنهم { ألم تر } أي: ألم تعلم ولم تخبر بالتواتر الموجب للجزم واليقين { كيف فعل ربك بعاد } [الفجر: 6] يعني: كذي أهل عادا.
{ إرم } اسم لبنائهم وبلدهم { ذات العماد } [الفجر: 7] أي: الأساطين الطوال شديدة الأساس، رفيعة السمك، عريضة الجدار.
{ التي لم يخلق } ولم يوجد { مثلها } أي: مثل بنائهم وبلدهم { في البلاد } [الفجر: 8] في الإحكام والرفعة وأنواع النزاهة واللطافة، وهم كانوا أكثر الناس أعمارا وأولادا وأموالا وجاها وثروة بأضعاف هؤلاء المسرفين المفسدين، فأهلكهم سبحانه واستأصلهم بعدما أفرطوا في أطوارهم الخارجة عن حد الاعتدال { وثمود } يعني: كيف فعل بثمود أيضا ما فعل من الهلاك، مع أنهم { الذين جابوا } قطعوا ونقبوا { الصخر } أي: صخور الجبال { بالواد } [الفجر: 9] أي: بواد القرى، واتخذوا فيها بلادا حصينة منيعة من شدة قدرتهم وقوتهم، مع ذلك أهلكهم سبحانه.
[89.10-16]
{ وفرعون } الطاغي الباغي { ذى الأوتاد } [الفجر: 10] أي: ذي العسكر الكثير، المشتمل على المضارب والخيام، المشتملة على الأوتاد والأطناب.
وهؤلاء المذكورين هم: { الذين طغوا في البلاد } [الفجر: 11] واستكبروا على ضعفاء العباد اتكالا بما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة.
{ فأكثروا فيها الفساد } [الفجر: 12] أي: أنواع الكفر والظلم والعناد.
وبعدما بالغوا في الفساد والإفساد { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [الفجر: 13] أي: نوعا من العذاب، كأنه يصب عليهم ويمطر كالماء من السحاب، وهو كناية عن ترادف موجات الهلاك وتتابعها، وبالجملة: أهلكهم بأشد العذاب وأكثره.
ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، منبها له على كمال قدرته على انتقام عصاة عباده: { إن ربك } الذي رباك على كمال المعرفة واليقين { لبالمرصاد } [الفجر: 14] أي: مراقب محافظ لطرق عباده، يرقبهم سبحانه كيف يسلكون نحوه: هل ي سبيل الضلال والفساد، أم في طريق الهداية والرشاد؟ مع أن الكل مجبول على فطرة التوحيد لكن الحكمة الإلهية تقتضي الابتلاء والاختبار.
{ فأما الإنسان } المذبذب بين الإحسان والكفران { إذا ما ابتلاه } اختبره وجربه { ربه } بالغنى واليسر { فأكرمه } بالجاه والثروة { ونعمه } بالأموال والأولاد { فيقول } شكرا لما وصل إليه من النعم ومقتضيات الكرم: { ربي أكرمن } [الفجر: 15] وتفضل علي بما أعطاني من الخير والحسنى.
{ وأمآ إذا ما ابتلاه } ربه بالفقر والعسر بعد اليسر { فقدر عليه رزقه } وقصر على قدر كفايته وحاجته وقوت يومه، بحيث لم يزد على مؤنة معاشه { فيقول } مشكيا إلى الله باثا للشكوى عنده سبحانه: { ربي أهانن } [الفجر: 16] وأذلني، حيث لم يعط لي ما أعطى لفلان وفلان، مع أن الفقر خير من الغنى؛ إذ الفقر لو قرن بالتسليم والرضا لأدى صاحبه إلى جنة المأوى وملك لا يبلى، والغنى لو لم يقرن بالشكر والإنفاق والإحسان لأدى صاحبه إلى دركات الجحيم وأودية النيران.
[89.17-23]
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا له من هذا الاعتقاد بأن الكرامة باليسر والتوسعة والإهانة بالفقد والفقر { بل } الكرامة بالإنفاق والإطعام على فقراء الله؛ طلبا لمرضاة الله، وأنتم أيها الأغنياء { لا تكرمون اليتيم } [الفجر: 17] ولا تتفقدونه بالنفقة والكسوة.
{ ولا تحآضون } أي: لا تأمرون غيركم { على طعام المسكين } [الفجر: 18] وإطعامه.
{ و } أنتم أيها الأغنياء { تأكلون التراث } أي: ميراث الأيتام { أكلا لما } [الفجر: 19] أي: أكلا على سبيل الجمع بين سهامكم وسهامهم، بأن تأخذوا وتحرزوا أموالهم؛ لترقبوها لهم وتزويدها لأجلهم، فتأكلوا منها ومن غالها دائما.
{ و } ما ذلك إلا أنكم { تحبون المال حبا جما } [الفجر: 20] كثيرا مع حرص شديد وأمل كامل، ولا تطعمون الفقراء والمساكين؛ خوفا من نفاذه.
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا لهم عما هم عليه من حب المال والخلط عليهم بين الحرام والحلال؛ يعني: كيف تؤدون أيها البخلاء الممسكومن حسابها وقت { إذا دكت الأرض } أي: كسرت واستوت، فاصرت { دكا دكا } [الفجر: 21] وهباء منبثا.
{ وجآء ربك } وظهرت طلائع هيبته وآثار قهره وجلاله { و } جاء { الملك } أي: الملائكة الموكلون من عنده سبحانه؛ لتنقيد أعمال العباد والحساب والسؤال { صفا صفا } [الفجر: 22] أي: صفا بعد صف، حسب ما يؤمرون من قبل الحق.
{ وجيء يومئذ بجهنم } أي: أحضرت تهويلا على أصحابها وتفضيعا { يومئذ } أي: يوم القيامة التي ظهرت فيها هذه الآثار { يتذكر الإنسان } معاصيه وقول من يزجره عنها وينذره، فيندم عليها ويتأسف { وأنى له الذكرى } [الفجر: 23] أي: من أين ينفعه التذكر والذكرى حينئذ؛ إذ نشأة الاختبار والتلاقي قد انقضت؟!
[89.24-30]
وبعدما جزم أنه لا نفع يومئذ لتذكرة { يقول } متمينا على وجه الحسرة والندامة: { يليتني قدمت } في الابتلاء والاختبار { لحياتي } [الفرج: 24] ونجاتي في هذا اليوم.
وبالجملة: { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } [الفجر: 25] أي: لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما عذب هو نفسه بالحسرة والندامة وأنواع الكربة والكآبة والخذلان.
{ ولا يوثق } ويحكم { وثاقه } ونكاله { أحد } [الفجر: 26] مثل ما أوثقه وأحكمه هو على نفسه بأنواع الخيبة والخسران والغصة والحرمان؛ إذ العذاب الروحاني الطارئ من الندامة والخذلان لا يقال شدة تأثيره إلى سائر العذاب الجسماني.
ثم أشار سبحانه إلى حسن أحوال أرباب العناية والكرامة يومئذ من المؤمنين الموقنين الذين تزودوا في النشأة الأولى للأخرى، واتصفوا بالتقوى، ولم يعصوا في مدة أعمارهم إلى المولى، ولم يتبعوا الهوى، واطمأنوا ووطنوا نفوسهم بما جرى عليهم من مقتضيات الانقضاء، وبالجملة: لم يضطربوا في السراء والضراء، ولم يبالوا في الشدة والرخاء، فيقال لهم يومئذ: { يأيتها النفس المطمئنة } [الفجر: 27] المتقررة المتمكنة بمقام الرضا والتسليم.
{ ارجعي إلى ربك } واصعدي على الطريق الذي هبطت عنه { راضية } متصفة بالرضا كما كنت راضية بالقضاء في النشأة الأولى { مرضية } [الفجر: 28] مقبولة مكرمة عند المولى.
وبعدما رجعت على الوجه المذكور { فادخلي في } زمرة { عبادي } [الفجر: 29] الذين وصلوا إلى كنف جواري، وحصلوا في مقعد الصدق لدي.
{ و } بالجملة: { ادخلي جنتي } [الفجر: 30] أي: جنة وحدتي واستريحي في خلوة لاهوتي.
جعلنا الله ممن خوطب بهذا الخطاب المستطاب، إنه هو الملهم للصوةاب، وعنده حسن المآب.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المترقب بهذا النداء، والمحب المترصد لسماع هذا الصدى أن تكون في عموم أوقاتك على حضور مع ربك، بحيث لا يشغلك عنه سبحانه الالتفات إلى غيره مطلقا من الميل إلى الدنيا وأمانيها وعموم ما فيها، بل تكون مطمئنا راضيا بما جرى عليك من مقتضيات القضاء، مفوضا أمورك كلها إليه على وجه التسليم والرضا، متوجها بالعزيمة الخالصة نحو المولى، حتى تكون مخاطبا بهذا الخطاب المستطاب في كل نفس من أنفاسك التي جرت عليك في عموم أوقاتك وحالاتك.
وبالجملة: لا تغفل عن الله مطلقا تقر بتشريف أمثال هذه الخطابات العلية والكرامات السنية.
جعلنا الله من زمرة المستيقظين المطمئنين.
[90 - سورة البلد]
[90.1-10]
{ لا أقسم بهذا البلد } [البلد: 1] الذي هو كعبة آمال أرباب الإرادة والطلب؛ ألا وهو السواد الأعظم اللاهوتي؛ إذ لا حاجة بالقسم لأرباب المعرفة، بل أقسم لأصحاب الغفلة { بهذا البلد } يعني: مكة - شرفها الله - التي وضعت بيتا حراما، لا يحل لأحد أن يفعل فيها شيئا من المحظرات المباح.
{ و } من جملة خواصك التي اصطفيناك وميزناك بها عن سائر الناس يا أكمل الرسل هي أنه: { أنت حل } يعني: أنت لجمعك وجامعيتك وحيازة مرتبتك عموم المراتب، مستحل للتعرف خاصة للقتل والأسر في الحرم من بين عموم الناس؛ لمزيد فضليتك ومنزلتك عند الله، وزيادة خصوصيتك { بهذا البلد } [البلد: 2] الذي حرم على عموم العباد، وإنما أحل لك أيضا ساعة من نهار لا أزيد منها، وبعد ذلك يحرم لك أيضا.
{ ووالد } أي: أقسم بالوالد الذي هو آدم الصفي عليه السلام في عالم الاهوت { وما ولد } [البلد: 3] منه في عالم الطبيعة بعد هبوطها إلى مضيق الناسوت.
وبالجملة: بحق هذه المقسمات العظام { لقد خلقنا الإنسان } أي: أظهرنا نشأة ناسوته مغمورا { في كبد } [البلد: 4] تعب ومشقة كثيرة، شاغلة لعموم حواسه ومداركه بحيث يستوعب ويحيط بجميع القوى والالات حوائج المعاش وأسبابه، فاشتغل عن الله بسبب ذلك وترك أمر معاده، فأخذه في كسب الأموال وجميع الحطام والآثام المبعدة عن الحكيم العلام، فصار من غاية استغراقه بالدنيا نسي العقبى، وزلت نعله عن طريق المولى.
لذلك كذب وتولى، واستكبر واستولى، واستظهر بأمواله وأولاده، واستعلى وترقى أمره في الغفلة والغرور إلى أن طغى على الله، وبغى على عباده، وخيل أنه لا يغلب ولا يعلى، كما قال سبحانه مقرعا عليه مسفها له: { أيحسب } المجبول على الكفر والنسيان { أن لن يقدر } أي: أنه لن يستطيع { عليه أحد } [البلد: 5] فينتقم عنه ويأخذه على ما صدر عنه من العتو والعناد.
ومن كمال بطره وغروره ومفاخرته على بني نوعه { يقول } على سبيل الخيلاء والسمعة والرياء: { أهلكت } وأنفقت في سبيل الله { مالا لبدا } [البلد: 6] مالا كثيرا ملبدا منضدا مجتمعا متراكما.
{ أيحسب } ويعتقد ذلك الأحمق { أن } أي: أنه { لم يره أحد } [البلد: 7] أي: لم يعلم الله إنفاقه ونيته فيه، واعتقاده عليه وإبطاله بالمن والأذى.
وكيف يتأتى إنكار إطلاعنا إياه وإلى ما صدر عنه؟! { ألم نجعل له } ولم نظهر في جسده حين صورناه بمقتضى حولنا وقوتنا وكمال قدرتنا { عينين } [البلد: 8] ليبصر بهما عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا.
{ ولسانا } ليعرب ويترجم به ما جرى في خلده { وشفتين } [البلد: 9] مبينين على التكلم والتعريب على وجه الإفصاح والتوضيح.
{ و } بالجملة: { هديناه } بإعطاء هذه النعم العظام { النجدين } [البلد: 10] أي: طريقي الخير والشر، والهداية والضلال، واختبرناه بهما وابتليناه أي طريق يختار لنفسه بعدما وفقناه لكليهما ونبهناه عليهما؟!
[90.11-20]
وبعدما أعطيناه وهديناه { فلا اقتحم } وما دخل الإنسان { العقبة } [البلد: 11] أي: الكؤودة الوعرة على نفسه الشاقة لها، حتى يؤدي شكر ما أعطيناه.
ثم أبهمها سبحانه تعظيما وتفخيما فقال: { ومآ أدراك } أيها المغرور بالحياة المستعار ولوازمها { ما العقبة } [البلد: 12] الكؤودة في طريق أهل الإيمان والعرفان.
ثم بينها بقوله: { فك رقبة } [البلد: 13] أي: العقبة الكؤودة فك الرقبة عن رقية الآماني والآمل.
{ أو } العقبة { إطعام } على فقراء الله وعجزه عباده { في يوم ذي مسغبة } [البلد: 14] أي: حاجة شديدة وجوع مفرط.
يعني: { يتيما ذا مقربة } [البلد: 15] أي: له قرابة إلى المطعم.
{ أو مسكينا ذا متربة } [البلد: 16] أسكنه الفقر وإغبره في تراب المذلة والصغار.
{ ثم } بعدما أقدم على اقتحام العقبة { كان من الذين آمنوا } بالله، وأيقنوا أن ما في يدهم لله، وهم منفقون بإقدار الله في سبيل الله { و } مع إيمانهم بالله واتصافهم بالأعمال الصالحة المؤكدة لإيمانهم { تواصوا } بينهم؛ أي: أوصى بعضهم بعضا { بالصبر } على مشاق التكاليف الإلهية ومتاعب الطاعات المأمورة لهم { و } كذلك { تواصوا } بينهم { بالمرحمة } [البلد: 17] والشفقة على عباد الله وتعظيمهم، والتحنن نحوهم، والإحسان معهم ولو بكلمة طيبة.
{ أولئك } السعداء، الموصوفون بلذة الكرامة العظمة { أصحاب الميمنة } [البلد: 18] عند الله؛ أي: ذوي اليمن والكرامة وأنواع اللطف، وأعلى الدرجة والمقامة.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه: { والذين كفروا } وكذبوا { بآياتنا } الدالة على عظمة ذاتنا، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { هم أصحاب المشأمة } [البلد: 19] أي: ذوو الملامة والندامة، المأخوذون بشؤم كفرهم ومعاصيهم، المجزيون بفواسد ما اقترفوا من الجرائم والآثام.
لذلك { عليهم نار مؤصدة } [البلد: 20] مبطقة، مغلقة، مكتوبة بحيث لا يمكنهم من لوازمها التنفس فيها أصلا؛ لكونهم منهمكين في النشأة الأولى في لوازم الإمكان بحيث لا يمكنهم في لوازمها ومقتضياتها.
نعوذ بك من النار، وما قرب إليها غفار.
خاتمة السورة
عليك أيها المترقب للكرامة الإلهية والسعادة الأبدية - يسر الله لك طرؤق الوصول إليك - أن تشتغل بصوالح الأعمال، وتجتنب عن فواسدها وتكتسب الأخلاق المرضية المقربة إلى الله، والمبعدة عن شآمة أصحاب الزيغ والضلال، المنهمكين في بحر الغفلة بأنواع الشهوات واللذات البهيمية والوهمية الفانية، العائقة من الوصول إلى اللذات الروحانية الباقية.
وإياك إياك الاختلاط مع أصحاب الثروة المفتخرين بالمال والجاه، المتصفين بالنخوة الحاصلة منها، فإن صحبتك معهم تزل قدمك عن منهج التوكل، وتميل قلبك عن الرضا والتسليم.
ثبت أقدامنا على جادة توحيدك يا ذا القوة المتين.
[91 - سورة الشمس]
[91.1-10]
{ والشمس } أي: وحق شمس الذات الأحدية، المتلألئة من سماء عالم الأسماء العماء، وأفق فضاء اللاهوت { و } بحق { ضحاها } [الشمس: 1] المنبسط على مرآة العدم القابلة لانعكاسها.
{ و } حق { القمر } أي: الوجود الإضافي الكلي، المحيط على مطلق العكوس والأضلال المنعكسة من مرأة العدم، التي هي عبارة عن سراب العالم غيبا { إذا تلاها } [الشمس: 2] تبعها ولحقها؛ أي: شمس الذات في الإحطة والشمول.
{ والنهار } أي: نشأة الظهور والبروز المنعكسة من عالم الأسماء والصفات { إذا جلاها } [الشمس: 3] أي: شمس الذات، وفصلت آثار أسمائها وصفاها الكامنة فيها على صفحات الكائنات.
{ والليل } أي: نشأة البطون والخفاء المنعكسة من عالم العماء، والسواد الأ؟لم الذي اضمحلت دونه نفوس عموم الكثرات، وتلاشت آثار الأسماء والصفات لكمال تشعشعها وبريقها { إذا يغشاها } [الشمس: 4] حيث خفيت شمس الظهور من إفراط النور وكمال تشعشعها في البريق والظهور.
{ والسمآء } أي: سماء الأسماء والصفات المزينة بنجوم الآثار والشئون المرتفعة عليها { وما بناها } [الشمس: 5] من التجليات الحبية الجمالية والجلالية.
{ والأرض } أي: استعدادات القوابل السفلية، القابلة لانعكاس آثار العلويات { وما طحاها } [الشمس: 6] ونشرها من الآثار المرتبة على الصفات الفعالة الإلهية.
{ ونفس } أي: روح فائضة من عالم الأسماء والصفات على هياكل المسميات وقوابل العلويات والسفليات؛ ليستفيد بتذكر الموطن الأصلي والمنشأ الجبلي { وما سواها } [الشمس: 7] أي: عدلها وركبها ممتزجة من الآثار العلوية والسفلية.
وبعدما سواها وعدلها كذلك { فألهمها فجورها وتقواها } [الشمس: 8] على مقتضى ما أودع فيها من الآثار العلوية والسفلية، ثم كلفها بما كلفها؛ ليتيمز المحق من المبطل، والضال من الهادي، والكافر من المؤمن؛ تتميما للحكمة المتقنة البالغة الإلهية وإظهارا للقدرة الغالبة.
ثم قال سبحانه جوابا لهذه المقسمات المذكورة على سبيل الكناية والتنبيه: { قد أفلح } وفاز بما أفلح، وفاز عند الله من الدرجات العلية { من زكاها } [الشمس: 9] أي: طهر نفسه عن الرذائل السفلية، ومقتضيات اللاهوتية الإمكانية وأمانيها.
{ وقد خاب } خسر وهلك { من دساها } [الشمس: 10] أنقص عن كمالاتها وأضلها؛ حيث حملها على اقتراف المعاصي والآثام المترتبة على سفليات الطبائع والهيولى ورذائل الإمكان المورث لها أنواع الخيبة والخسران، وأصناف الحرمان والخذلان.
[91.11-15]
لذلك { كذبت ثمود } المبالغ في أهلاك النفس وتضليلها وتقريرها بمن أرسل إليها وأمر لإرشادها، حين انحرفت عن جادة العدالة { بطغواهآ } [الشمس: 11] أي: بسبب طغيانها وتقليبها حظوظ السفليات على حظوظ العلويات، وبعدوان القوى الأمارة على جنود المطمئنة، وبانقهار نشآت اللاهوت بغلبة مقتضيات الناسوت.
وذلك أنهم قد بالغوا في العتو والعناد والتكذيب والإفساد، سيما وقت { إذ انبعث } أي: قام وأقدم مسرعا { أشقاها } [الشمس: 12] أي: أشقى القبيلة وأرداها وأضلها عن طريق الحق - وهو: قدار بن سالف - إلى عقر الناقة المعهودة المحفوظة المخصوصة بالوصية الإلهية.
وبعدما صمم عزمه إلى العقر { فقال لهم رسول الله } وهو صالح عليه السلام على مقتضى شفقة النبوة: ذروا { ناقة الله } واحذروا عقرها، وبالجملة: لا تمسوها بسوء مطلقا، فيأخذكم عذاب عظيم { وسقياها } [الشمس: 13] التي عين الله لها، ولا تذبوها عن الماء.
{ فكذبوه } ولم يقبلوا قول الرسول، واجتمعوا على عقرها { فعقروها } فخرج الرسول من بينهم؛ خوفا من حلول عذاب الله وسطوة قهره وجلاله، وبعدما ارتكبوا المحظور المنهي { فدمدم عليهم ربهم } أي: طبق عليهم الصيحة الهائلة، فأهلكهم بها بالمرة { بذنبهم } الذي صدر عنهم، وهو تكذيب الرسول المرشد لهم من قبل الحق { فسواها } [الشمس: 14] أي: سوى الدمدمة عليهم، وأعمت بينهم بحيث لا ينجو منهم أحد، وبالجملة: أقدم العاقر اللعين على عقرها، واتفقوا معه.
{ ولا يخاف } هو وهم { عقباها } [الشمس: 15] أي: ما يعقب عقرها ويتبعها من أنواع البلاء والمصيبة والعناء، وأخبرهم به الرسول فكذبوه واستهزءوا معه؛ لذلك لحقهم من سيئات أعمالهم.
نعوذ بك من سيئات الأعمال، وتشتت الأحوال، وتفاقم الأهوال.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب للفلاح الأبدي والصلاح السرمدي المترتب على العناية الإليه وفضله أن تصفي نفسك عن مقتضيات الإمكان وظلمات الهيولى والأركان، حتى تأمن عن طغيانها وعدوانها، فلك أن تحيلها بالمعارف والحقائق ومحاسن الشيم والأعمال والخلاق الموجبة لفيضان لوامع الكشف والشهود، المخلص عن مطلق القيود لقرافة إطلاق الوحدة الذاتية المسقطة لعموم الكثرات المتفرعة على الإضافات الطارئة على التعينات العدمية.
وفقنا الله لتخلية النفوس عن مطلق الرذائل، وتحليتها لمحاسن الشيم والخصائل.
[92 - سورة الليل]
[92.1-11]
{ والليل إذا يغشى } [الليل: 1] أي: وحق الهوية الغيبية الإلهية المتمكنة في مكمن العماء، المشغي لنقوش الكثرات المترتبة على الأسماء والصفات من شدة بريقها ولمعانها.
{ والنهار إذا تجلى } [الليل: 2] أي: وحق الهوية الشهادية الإلهية، الظاهرة في عالم البروز والجلاء، المظهرة لآثار الأسماء والصفات إظهارا للحكمة البالغة التي هي ترتب الإيمان والعرفان على تلك الآثار.
{ وما خلق الذكر والأنثى } [الليل: 3] أي: وحق القادر الحكيم الذي خلق وقدر وصور برزخ الإنسان المصور على صورة الرحمن، الجامع لعموم مراتب الأكوان؛ حيث ركبه وأودع فيه من الحصص اللاهوتية الغيبية والناسوتية الشهادية، ثم كلف بالتكاليف الشاقة؛ ليترقى من حضيض الناسوت إلى ذروة اللاهوت؛ لذلك استخلفه واطصفاه وانتخبه من عموم مظاهره؛ ليترتب على مرتبة هذه المصلحة العلية والخصلة السنية، وإنما خلقه زوجا؛ ليدوم في نشأة الشهادة وجود مرتبته التي هي الغاية القصوى لنشأة الشهادة.
ثم قال سبحانته جوابا للقسم، مخاطبا على أفراد الإنسان؛ تربية لهم وتنبيها على مفاسدهم ومصالحهم: { إن سعيكم } الذي سيعتم به أيها المكلفون في نشأة الاختبار { لشتى } [الليل: 4] مختلفة متفاوتة حسب تفاوت ما أودع الله فيكم من الحصص المذكورة.
{ فأما من أعطى } مما ساق له الحق من الرزق الصوري والمعنوي، مقارنا للخشوع والخضوع وخلوص النية والطوية وأنواع الطاعات والعبادات المأمورة له { واتقى } [الليل: 5] عن مطلق المحارم والمنهيات التي وردت الزواجر الإلهية فيها.
{ وصدق بالحسنى } [الليل: 6] أي: صدق بعموم مقتضيات الأسماء الإلهية وبآثار صفاتها العليا التي لا تعد ولا تحصى.
{ فسنيسره } أي: نعده ونوفقه { لليسرى } [الليل: 7] للطريق السهلة الموصلة إلى مقصد التوحيد، والمعرفة المنجية عن غياهب الشكوك وظلمات الأوهام.
{ وأما من بخل } ولم ينفق على مقتضى ما أمره الحق { واستغنى } [الليل: 8] عن مقتضيات الأسماء { وكذب بالحسنى } [الليل: 9].
{ فسنيسره } ونستعده { للعسرى } [الليل: 10] أي: للطريق العسرة الوعرة، التي هي طريق الكفر والمعصية المؤدية إلى أودية الشهوات الإمكانية، المستلزمة للدركات النيرانية.
{ و } بعدما نأخذه في النشأة الأخرى بسبب بخله وكفره { ما يغني } يكف ويدفع { عنه ماله } شيئا من غضب الله { إذا تردى } [الليل: 11] أي: هوى وهلك في قعر جهنم الإمكان وسعير النيران.
[92.12-21]
ثم قال سبحانه تعريضا للمسرفين المفرطين: { إن علينا للهدى } [الليل: 12] يعني: ما علينا من إصلاحكم إلا الهداية والإرشاد، فهديناكم ولم تهتدوا.
{ وإن لنا للآخرة والأولى } [الليل: 13] يعني: ما لنا إلا التبيين والتنبيه بأن الآخرة خير من الأولى، فبينا طريق المعاش في النشأة الأولى، وطريق التزود والتهيئة للآخرة، فلم تقبلوا منا، ولم تمتثلوا بما بينا، ومع ذلك أكدنا هدياتكم وإرشادكم بالإنذار البليغ.
{ فأنذرتكم نارا تلظى } [الليل: 14] تتوقد وتتلهب من شدة سورتها.
وبينا لكم أيضا أنها { لا يصلهآ } ولا يدخل فيها { إلا الأشقى } [الليل: 15].
{ الذي كذب } بالكتب الإلهية وما فيها من الأحكام { وتولى } [الليل: 16] أعرض عن الرسل، وانصرف عن دعوتهم، ومع ذلك لم يقبل منا.
{ و } كذا بينا لكم أيها المكلفون أنها { سيجنبها } أي: يبعد عن النار المسعرة في دركات الجحيم { الأتقى } [الليل: 17].
{ الذى يؤتي } يعطي ويتصدق { ماله } في سبيل الله؛ طلبا لمرضاة الله على فقراء الله كيف { يتزكى } [الليل: 18] ويتطهر عن قاذورات الدنيا، ولم يبق في قلبه سوى المولى حتى وصل إلى سدرة المنتهى، ومع وجود هذه الآيات لم يتنبهوا ولم يتفطنوا.
{ و } بالجملة: { ما لأحد عنده من نعمة تجزى } [الليل: 19] يعني: ما يصح ويليق لأحد أن يتصدق بماله على طمع الجزاء والعوض والمكافأة، بل اللائق بحاله ألا يعطي ما يعطي على من يعطي.
{ إلا ابتغآء وجه ربه الأعلى } [الليل: 20] يعني: طلبا للقاء الله في يوم الجزاء لا الثناء الدنيوي ولا للثواب الأخروي، بل رجاء أن يلقى ربه ويطالع وجهه الكريم.
{ ولسوف يرضى } [الليل: 21] عن الله، بالفوز بشرف اللقاء عند كشف الغطاء.
اللهم ارزقنا لقاءك يوم نلقاك.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لرضاء الله، والراجي مطالعة جمال الله وجلاله أن تحسن الأدب مع الله في عموم أحوالك في النشأة الأولى، وتزكي نفسك عن مطلق الأماني والآمال الشاغلة عن التوجه نحوه، فعليك التبتل والاجتهاد على وجه الإخلاص والتوفيق من الله يهديك إلى سبيل الرشاد.
وإياك إياك أن تلتفت إلى مزخرفات الدنيا الدنية، فإنها تلهيك عن الدرجات العلية الأخروية، وتغويك إلى الدركات الهوية الجهنمية الإمكانية، فلك أن تطرح كلها حتى تخلص عن غوائلها.
جعلنا الله ممن تنفر عن الدنيا وما فيها.
[93 - سورة الضحى]
[93.1-5]
{ والضحى } [الضحى: 1] أي: وحق شروق الذات الأحدي الصمدي عند ضحى بعثة الحضرة الأحمدية.
{ والليل إذا سجى } [الضحى: 2] أي: وحق الانجلاء التام المنعكس من عالم العماء اللاهوتي، المغشي لمطلق الأضواء والأنوار المتفاوتة المرئية في نشأتي الغيب والشهادة، المقتبسة من الأسماء والصفات، المستتبعة للإضافات المتكثرة في عالم التفضيل.
{ ما ودعك } وقطع عندك قط المودع { ربك } الذي رباك على عينه واصطفاك لنفسه { وما قلى } [الضحى: 3] أي: ما أبغضك؛ يعني: لا تحزن من قول المشركين وزعمهم في حقك أنك ودعك ربك وقلاك في نشأتك الأولى، بل رعاك واتصل بك في أخراك.
{ وللآخرة } التي هي نشأة لاهوتك { خير لك } وأليق بحالك { من } نشأتك { الأولى } [الضحى: 4] التي هي نشأة ناستوك.
وكيف لا تكون الآخرة خيرا لك من الدنيا؛ إذ هي باقية ببقاء الله، دائمة بدوامه، وهذه محدثة فانية، بل باطلة زاهية، زائلة بزهوق التعينات وبطلان الأوضاع والإضافات التي هي حاصلة منها.
{ و } لا تحزن أيها النبي المستوي على جادة العدالة اللاهوتية من هذيانات أهل الضلال { لسوف يعطيك ربك } بعد انخلاعك من ملابس ناسوتك ومقتضيات بشريتك من اللذات اللاهوتية التي لا يدرك كنهها إلا من اتصف بها، وذاق منها { فترضى } [الضحى: 5] حينئذ من ربك، ورضي بك عنك.
[93.6-11]
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل من الوعد الإلهي ما سمعت تذكر كرم ربك منك فيما مضى، وترقب من كراماته التي ستأتيك، وبالجملة: لا تيأس من روح الله ورحمته، وكيف تيأس أيها النبي المغمور في بحار لطفه وجوده؟! { ألم يجدك } ويصادفك ربك مع كونك { يتيما } بلا رشد ومرشد { فآوى } [الضحى: 6] أي: ضمك نحوه سبحانه وجذبك عنك إليه، وقرن اسمك باسمه.
{ ووجدك ضآلا } خاليا عن الحكم والأحكام، منهمكا في لوازم الإمكان { فهدى } [الضحى: 7] أي: هداك وأرشدك إلى الإسلام، وأوصلك إلى زلال التوحيد والعرفان.
{ ووجدك عآئلا } فقيرا حسب إمكانك ومقتضيات بشريتك الموروثة لك من نشأة ناسوتك { فأغنى } [الضحى: 8] أي: أغناك بغنائه بعدما أفناك فيه، وشرفك بخلع اللاهوت بعدما أخرجك عن ملابس الناسوت.
وبعدما كننت يتيما فآواك ربك، ووجدك ضالا فهداك، ووجدك فقيرا فأغناك، وبالجملة: كرمك واصطفاك وعظمك واجتباك { فأما اليتيم } الفاقد للرشد والرشيد { فلا تقهر } [الضحى: 9] متى يأوي إليك للارسترشاد لا تردعه ولا تزجره، وكلم معه حسب استعداده وقابليته إلى حيث توصله وترشده إلى طريق الطلب والإرادة.
{ وأما السآئل } الذي يسأل من مكنونات ضميرك ومن السرائر المودعة فيك من الودائع اللاهوتية { فلا تنهر } [الضحى: 10] أي: لا تمنعه ولا تخيبه، بل أحسن إليه كما أحسن الله إليك حسب استفاضته واستعداده.
{ وأما بنعمة ربك } وهدايته وإرشاده { فحدث } [الضحى: 11] يا أكمل الرسل مع المسترشدين المستكملين، فإن حديثك من سرائر الدين وأسرار المعرفة واليقين مع المؤمنين المسترشدين والطالبين، المستوجبين الشكر منك لنعم الله وأداء لحقوق كرمه واستجلاب لمزيد إنعامه وإفضاله.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المزم لتعديد نعم الحق على نفسك أن تداوم وتواظب على أداء حقوقه ما وصل إليك من النعم العظام والكرم الجسام، فلك أن تحدث في عموم أوقاتك وحالاتك عن كرم مولاك، وتشكره على ما أولاك من الالاء والنعماء في أولاك ووعد لك في أخراك.
وبالجملة: كن من الشاكرين لنعم الله، المحدثين بحقوق كرمه، ولا تكن من الغافلين في حال من الأحوال، وسبح بحمد ربك بالغدو والآصال.
[94 - سورة الشرح]
[94.1-8]
{ ألم نشرح لك صدرك } [الشرح: 1] يا أكمل الرسل من اجتبينا، واصطفينا للنيابة والرسالة، ولم نفسح ونوسع خلدك لقول الآيات الواردة عليك منا، والامتثال بالأحكام الموردة من لدنا، مع كونك أميا، عاريا، خاليا عنها وعما يترتب عليها؟.
وبعدما شرحنا لك صدرك لشعائر الإسلام ومعالم الدين ومراسم التوحيد اجتبيناك للرسالة والتبليغ إلى عموم الأنام { و } بعدما أمرناك بالرسالة { وضعنا } أي: أزلنا { عنك وزرك } [الشرح: 2] أي: ثقلك الطارئ عليك من حمل أعباء الرسالة وأداء التبليغ.
{ الذي } من غاية شدته وثقله { أنقض } أي: قسم وكسر { ظهرك } [الشرح: 3] لأنك أمي، ذاهل عن مطلق الأحكام، مأمور بها؛ لذلك ثقل وضاق عليك الأمر.
{ و } بعدما وفقناك على تبليغ الرسالة، وأيدناك بالآيات الموردة المنزلة في موارد الأحكام { رفعنا لك ذكرك } [الشرح: 4] حيث قرنا اسمك باسمنا، وخلفناك عنا واخترناك لخلافتنا ونيابتنا؛ لذلك أنزلنا في شأنك:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80]،
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح: 10] إلى غير ذلك من الآيات، وأي رفع وكرامة أعلى وأعظلم من ذلك؟!
وبعدما كرمناك بأمثال هذه الكرامات العلية لا تيأس من سعة روحنا ورحمتنا وإعانتنا وإغاثتنا، ولا تحزن على أذى قومك واستهزائهم، وتطاول معاداتهم وعنادهم معك { فإن مع العسر } الذي قد عرض عليك ولحق بك من قبلهم { يسرا } [الشرح: 5] ناشئا من قبل الحق، مقابلا واصلا إليك من حيث لا تحتسب.
ثم كرر سبحانه تأكيدا { إن مع العسر } الذي ألم بك الآن { يسرا } [الشرح: 6] منا مترقبا كيفما اتفق.
وفي تعريف العسر وأعادته معرفة وتنكير اليسر وإعادته نكرة أيضا إشعار بقلة طرق العسر وأسبابه، وكثرة طرق اليسر وموجباته.
يعني: لا تيأس من العسر الطارئ عليك أحيانا معهودة معدودة عن يسر ملازم لك في أكثر الأوقات والأزمان، مصاحب معك في جميع حالاتك.
وبعدما أمرناك بتبليغ الرسالة وأرسلناك لنشرها، فلك أن تمتثل بالمامور على مقتضى الوحي والإلهام { فإذا فرغت } عن الدعوة والتبليغ على مقتضى منصب النبوة والرسالة { فانصب } [الشرح: 7] نفسك وأتعبها بالمجاهدات والرياضات القالعة لعرق لوازم الإمكان عن أصله على مقتضى رتبة الولاية.
{ و } بالجملة: { إلى ربك } لا إلى غيره من وسائل المظاهر وأسبابها { فارغب } [الشرح: 8] في خلواتك وصلواتك، في عموم حالاتك ومقاماتك، بلا روية الوسائل في البين، والوسائط في العين.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب الراغب إلى الله، القاصد للعكوف حول بابه أن تفرغ همك عن مطلق الأماني والآمال وعموم الأشغال المانعة عن الوصول إلى فنائه، وترغب عن الدنيا وما فيها، وتتوجه نحو الحق من طريق الفناء، وتطرح لوازم الحياة المستعارة بالكلية حتى تصل إلى مرتبة الموت الإرادي المستلزم للبقاء الأبدي السرمدي.
جعلناه الله من زمرة أرباب الرغبة إلى المولى وعن الدنيا، بمنه وجوده.
[95 - سورة التين]
[95.1-8]
{ و } حق { التين والزيتون } [التين: 1] هما جبلان في الأرض المقدسة، يكثر فيها كلتا الفاكهتين.
{ وطور سينين } [التين: 2] أي: الجبل الذي ناجى عليه موسى الكليم مع ربه.
{ و } لا سيما بحق { هذا البلد الأمين } [التين: 3] يعني: مكة - شرفها الله - سماها أمينا؛ لأن من دخله إيمانا واحتسابا كان آمنا من العذاب الأليم.
وبالجملة: بحق هذه المقسمات العظام { لقد خلقنا الإنسان } أي: جنسه { في أحسن تقويم } [التين: 4] وأقوم تعديل؛ إذ لا مظهر أعدل منه وأقوم بحسب الظاهر والباطن؛ لذلك اصطفيناه لخلافتنا من بين خليقتنا.
{ ثم } بعدما تعلق إرادتنا لرداءة فعله { رددناه } وأحطناه من تلك المرتبة العلية والدرجة السنية { أسفل سافلين } [التين: 5] وهي مقتضيات الإمكان، المستلزم لدركات النيران، وسلاسل أمانيها وأغلال آمالها.
{ إلا الذين ءامنوا } بوحدة الحق { وعملوا الصلحت } المخلصة لهم عن قيود الإمكان، المقربة لهم إلى فضاء الوجوب { فلهم } بعدما وصلوا إلى عالم اللاهوت { أجر غير ممنون } [التين: 6] أي: نعم لا تنقطع، ولا يمن بها عليهم أصلا.
وبعدما نبه سبحانه على ما نبه بأبلغ وجه وأوكده، حيث عموم الإنسان على الإيمان ورغبهم إلى اليقين والعرفان، فقال على وجه التقريع والتوبيخ: { فما يكذبك } أي: أي شيء يحملك على الكفر والطغيان والتكذيب والكفران أيها الإنسان المجبول على فطرة التوحيد والعرفان { بعد } أي: بعدما ظهر الحق، ولاحت دلائل التصديق وأمارات اليقين { بالدين } [التين: 7] القويم، والسبيل المستقيم؟!
{ أليس الله } القادر المقتدر على أمثال هذا الرد والخلق بالإرادة والاختيار { بأحكم الحاكمين } [التين: 8] على كل ما شاء، وأراد، سواء كان بدءا أو إعادة، فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسأل عن فعله، إنه حكيم حميد.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي الطالب للتقرر والثبوت على جادة التوحيد التي هي أحسن تقويم الإنسان، وأعدل طريقه أن تتأمل في هذه الصورة حق التأمل، وتدخر لنفسك من فوائدها ما هو أهم، فعليك التوبة إلى الله، والإتيان بصوالح الأعمال، والاجتناب عن فواسدها.
وإياك إياك أن تتلطخ بقاذورات الدنيا، وتنغمس بأمانيها، فإنها ترديك وتردك إلى أدنى مراتب الإمكان الجالب لأسفل دركات النيران، وتغويك فيها بأنواع الخيبة والخذلان.
[96 - سورة العلق]
[96.1-8]
{ اقرأ } يا أكمل الرسل وتذكر بعدما أدركتك العناية، وأحاطت عليك الكرامة الإلهية { باسم ربك } أي: داوم على تذكر عموم أسماء مربيك { الذي خلق } [العلق: 1] كل شيء، وأظهره من كتم العدم حسب أسمائه وصفاته، ورباه بأنواع اللطف والكرم وأباح عليه من جلائل النعم.
سيما { خلق الإنسان } وخصه من عموم الأكوان بمزيد الإنعام والإحسان، مع أنه خلقه وقدر وجوده { من علق } [العلق: 2] دماء معلوقة مسترذلة، مكونة من مني مرذول، مكون من الدم المسفوح، المتكون من إجراء الأغذية.
وبعدما أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بالقراءة، وتعديد الأسماء وإحصاءها، أمره بالقراءة ثانيا؛ للتأمل والتدبر في معانيها، والاستكشاف عن فحاويها ومرموزاتها فقال: { اقرأ } قراءة تدبر وتعمق واستكشاف على ما في مطاويها من البدائع والغرائب المودعة فيها، ولا تنظر إلى كونك أميا لست من أهل الإملاء { وربك الأكرم } [العلق: 3] الكامل الكرامة والهداية لأرباب العناية.
{ الذى علم } الخط والرقم { بالقلم } [العلق: 4] الذي هو بمراحل عن التعلم والتفهم.
لا تستبعد من كمال كرامته وعنايته، تعلمك يا أكمل الرسل؛ إذ هو سبحانه { علم الإنسان } المصور على صورة الرحمن { ما لم يعلم } [العلق: 5] من البيان والتبيان، وأنواع طرق الكشف والعيان، فأنت يا أكمل الرسل من أعز أفراد الإنسان شأنا، وأعلاه شرفا وبرهانا، وأرفعه قدرا ومكانا.
وبعدما أشار سبحانه إلى مبدأ الإنسان ومادته، وإلى منتهاه وغايته، تعجب سبحانه من حاله، واستبعد ما صدر عنه من الطغيان والكفران والبغي والعدوان، مع كمال عناية الله معه وكرامته إياه، فقال على سبيل الردع والزجر: { كلا إن الإنسان } المستحدث من الأقذار المهانة، المترقي إلى نهاية الكرامة وأعلى المقامة { ليطغى } [العلق: 6] ويتجاوز عن حده، ويستكبر على ربه، وينسى أصل منشئه؛ لأجل { أن رآه } علم نفسه أنه { استغنى } [العلق: 7] أي: صار غنيا عن الله، مستغنيا عن الافتقار إليه، مستكبرا على عباده، يمشي على وجه الأرض خيلاء بما عنده من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية.
وكيف يتأتى لك الطغيان والاستكبار أيها المسترذل المهان المستحدث من المهين { إن إلى ربك } الذي أظهرك من كتم العدم، وأحدثك من الأمشاج المرذولة { الرجعى } [العلق: 8] أي: الرجوع المعهود في النشأة الأخرى، فسيجزيك بجميع ما صدر عنك بعدما يحاسبك عليه بمقتضى العدالة والإنصاف.
[96.9-19]
ثم نص سبحانه على ذكر بعض الطاغين المستغنين، المستكبرين بما عندهم من الجاه والثروة - وهو: أبو جهل اللعين - فقال: { أرأيت } أيها المعتبر الرائي الباغي الطاغي { الذي ينهى } [العلق: 9] أي: يمنع ويكف { عبدا } كاملا في العبودية؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { إذا صلى } [العلق: 10] وتوجه نحو ربه بجميع أجزائه وجوارحه، وأراد أن يصرفه عنه.
وذلك أن أبا جهل قال: لو رأيت محمدا ساجدا لأطأن عنقه، فرآه ساجدا فجاءه ليطأه، ثم نكص واستدبر، فقيل له: مالك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقا مملوءا من النار وهولا، وأجنحة.
ثم خاطب سبحانه هذا الطاغي الناهي خطاب تهديد وتقريع: { أرأيت } أي: أخبرني أيها المفسد المتناهي في البغي والعناد { إن كان } العبد المصلي { على الهدى } [العلق: 11] والرشاد. { أو أمر بالتقوى } [العلق: 12] وبالاجتناب عن مقتضيات الهوى، لتنهاه عن فعله هذا، وأمره وإرشاده ألبتة.
{ أرأيت } أي: أخبرني أيضا أنك نهيته عن الصلاة { إن كذب } على الله { وتولى } [العلق: 13] أي: أعرض عن مقتضيات أوامره ونواهيه.
وبالجملة: نهيته عن الصلاة مطلقا سواء { كان على الهدى * أو أمر بالتقوى } [العلق: 11-12] مجتنبا على الهوى، أو مكذبا على المولى، معرضا عما جرى عليهم من القضاء؛ يعني: ليس سبب نهيك إلا العصبية والعناد، سواء كان محقا في فعله أو مبطلا.
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع لهذا المكابر الناهي: { ألم يعلم } ذلك الناهي المباهي المبالغ في العتو والعناد { بأن الله } القادر المقتدر على وجوه الإنعام والانتقام { يرى } [العلق: 14] يعلم ويبصر جميع ما صدر عنه من المجادلة والمراء، فيجازيه على مقتضى علمه وخبرته.
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا للناهي عما عليه من المكابرة والعناد { لئن لم ينته } الناهي، المبالغ، المباهي عما هو فيه من المكابرة والعناد { لنسفعا بالناصية } [العلق: 15] أي: لنأخذن بناصيته ولنسجننه مكبا على وجهه نحو النار المعدة لتعذيب الكفرة، المبالغين في العتو والعناد.
وأي: ناصية؟! { ناصية كاذبة خاطئة } [العلق: 16] أي: كذب خاطئ، وصف الناصية بهما؛ للمبالغة والتأكيد.
وبعدما نسحبه كذلك، ونأخذه على ظلمه { فليدع } وليناد حينئذ { ناديه } [العلق: 17] أهل مجلسه وأعوانه من قهرنا مع أنا أيضا { سندع } ونأمر حتى ينصروا له وينقذه صارخا عليهم، مستغيثا منهم يومئذ { الزبانية } [العلق: 18] أي: الشرطة الموكلين على جهنم؛ ليجروه نحو النار على وجه الهوان والصغار.
ثم كرر سبحانه { كلا } تأكيدا لردعه وتشديدا عليه، ثم نهى سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم عن إطاعة ذلك الباغي والإصغاء إلى قوله، والمؤانسة معه والالتفات إليه بقوله: { لا تطعه } أي: دم يا أكمل الرسل على صلاتك وأثبت عليها، ولا تلتفت إلى هذياناته الباطلة { واسجد } لربك على وجه الخضوع والخشوع { واقترب } [العلق: 19] إليه وتقرب نحوه بإطراح لوازم ناسوتك، محرما على نفسك حظوظك من دنياك، مسقطا مقتضيات بشريتك ولواحق مادتك مطلقا.
وفي الحديث:
" أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد "
فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 98-99].
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب للتقرب نحو الحق والوصول إلى فضاء اللاهوت - أعانك الله في مطلبك هذا وطلبك - أن تداوم على الطاعات والعبادات على وجه الإخلاص والتذلل التام والانكسار المفرط؛ إذ ما يتقرب العبد إلى ربه إلا بالاستكانة والضراغة، والإفناء على لوازم نشأة الناسوت، والاتصاف بالموت الإرادي المورث للحياة الأبدية والبقاء السرمدي.
جعلنا الله من المتصفين به بمنه وجوده.
[97 - سورة القدر]
[97.1-5]
{ إنا } من مقام عظيم لطفنا وجودنا لعموم عبادنا { أنزلناه } أي: القرآن المبين لهم طريق النجاة من نيران الجهالات { في ليلة القدر } [القدر: 1] الغيبي التي لا إطلاع لأحد عليها إلا لعلام الغيوب.
لذلك أبهم سبحانه على حبيبه صلى الله عليه وسلم، فقال: { ومآ أدراك } أي: أي شيء أعلمك من مقتضيات بشريتك ولوازم ناستوك { ما ليلة القدر } [القدر: 2] إذ هي خارجة عن مدارك عالم الناسوت.
ثم بينها سبحانه على مقتضى أفهام البشر ومداركهم، فقال: { ليلة القدر خير من ألف شهر } [القدر: 3] من أيام عالم الشهادة ولياليها؛ إذ { تنزل الملائكة } أي: سكان سواد الأعظم اللاهوتي { والروح } الأمين، المدبر لأمور أشباح عالم الناسوت { فيها } أي: من تلك الليلة، ونزولهم فيها إنما هو { بإذن ربهم } يأمرهم بالنزول فيها، ومع كل منهم { من كل أمر } [القدر: 4] من الأمور الجارية في عالم الشهاة.
{ سلام } وتسليم من قبل الحق يسلم لهم سبحانه، ويفوض إليهم أمرهم على مقتضى حكمته المتقنة؛ ليقوم كل منهم به، ويحسن تدبيره على الوجه الذي أمر به، وبالجملة: { هي } أي: حالهم وشأنهم هذا وهكذا { حتى مطلع الفجر } [القدر: 5] أي: إلى طلوع شمس الذاتية الإلهية، المفنية بأشعتها الذاتية عموم أضواء الأظلال والعكوس مطلقا.
كأن ليلة القدر التي سترت في خلال ليالي السنة، أو في ليالي شهر رمضان، أو في ليالي العشر الأخير منها - على ما قيل - هي منتخبة ممثلة من تلك الليلة القدرية، الغيبية العمائية، اللاهوتية؛ لذلك ما عينها الشارع وما عرفها، بل أبهمها وأخفاها.
قيل: في تلك الليلة يقدر عموما أحوال تلك السنة، وجميع ما يجرى فيها من الحوادث الكائنة، كما أن في أصلها ومنشئها التي هي ليلة القدر الغيبي، متى يقدر عموم المقادير الكائنة أزلا وأبدا؛ لذلك من أحياها، فقد فاز بخيري الدارين.
رزقنا الله وجدها والوصول إليها والتحقق دونها.
خاتمة السورة
عليك أيها العازم القاصد لإحياء تلك الليلة وإدراكها أن تشمر ذيلك لإحياء عموم الليالي الآتية عليك في أيام حياتك؛ إذ هي مستترة فيها، وبالجملة: لا تغفل عن الله في جميع حالاتك حتى تكون عموم لياليك قدرا خيرا من الدنيا وما فيها.
[98 - سورة البينة]
[98.1-4]
{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني: اليهود والنصارى { والمشركين } أي: عبدة الأوثان { منفكين } أي: لم يكونوا زائلين منفصلين في حين من الأحيان عن الإيمان والاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ أهل الكتاب آمنوا بنبوته بمقتضى ما وجدوا في كتبهم، والمشركون سمعوا من أسلافهم وصفه ونبوته واعتقدوا بعثته، فآمنوا له، ولم يزالوا على هذا الاعتقاد { حتى تأتيهم البينة } [البينة: 1] على مقتضى سنة الله، فظهرت الحجة الواضحة والبينة الموضحة.
وتلك البينة والبرهان { رسول } مرسل { من الله } مؤيد من لدنه بالآيات الواضحة والبينات الإلهية { يتلوا صحفا } أسفارا محفوظة، مصورة، معجزة { مطهرة } [البينة: 2] عن مطلق الزذائل، بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزل منزل من حكيم عليم.
{ فيها } أي: خلالها ومطاويها { كتب قيمة } [البينة: 3] أي: مكتوبات صادقة حقه من الأوامر والنواهي الحكام المتعلقة لدين الإسلام، صادقة مستقيمة، لا عوج لها ولا انحراف، ناطقة بالحق الصريح.
وبالجملة: { وما تفرق } واختلف في الإنكار والاعتقاد، والإيمان والكفر { الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة } [البينة: 4] يعني: ما تفرقت تلك الأمم عما هم عليه من تصديق النبي الموعود إلا من بعد ما ظهر الرسول الموعود، ولاحت البينة الواضحة، الدالة على صدقه في نبوته ودعوته، ألا وهو القرآن المعجز المبين لشعائر الإسلام.
وبالجملة: اختلفوا في نشأته صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، فمنهم من آمن له على مقتضى ما وجده في كتابه، ومنهم من كفر وأنكر عليه عنادا ومكابرة؛ ولهذا حرف أوصافه المذكورة في الكتب السالفة مع أنهم لم يجدوا في دينه وكتابه ما يخالف أحكام كتبهم وأديانهم.
[98.5-6]
{ و } الحال أنهم { مآ أمروا } في كتبهم { إلا ليعبدوا الله } الواحد الأحد الصمد الحقيق بالحقية والألوهية { مخلصين } مخصصين { له الدين } والانقياد بلا اشتراك وإلحاد { حنفآء } مائلين عن مطلق الأديان الباطلة { ويقيموا الصلاة } المكتوبة لهم في أوقاتها الموعودة المحفوظة { ويؤتوا الزكاة } المصفية لأموالهم على وجهها { وذلك } الذي أمروا به في كتبهم هو { دين القيمة } [البينة: 5] والملة المستقيمة التي ظهر عليه محمد صلى الله عليه وسلم، بلا تغيير وانحراف فيه واختلاف، وهم بالجملة: ما كفروا وأنكروا نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم إلا عنادا ومكابرة، بلا مستند صحيح لا عقلي ولا نقلي.
وبالجملة: { إن } الكافرين المعاندين { الذين كفروا } بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم { من أهل الكتاب و } من { المشركين } داخلون { في نار جهنم } الطرد والحرمان { خالدين فيهآ } لا يتحولون عنها أصلا، إلا إلى عذاب فوق العذاب، وأشد منه، وبالجملة: { أولئك } الأشقياء، المردودون، المطرودون عن ساحة عز القبول { هم شر البرية } [البينة: 6] الخليقة، وأردؤهم، كأنهم مقصورون على الشرارة والرداءة مجسمون منها.
[98.7-8]
ثم قال سبحانه إلى مقتضى سنته المستمرة: { إن الذين آمنوا } منهم بوحدة الحق وصدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقبلوا دعوته ودينه حسب ما وجدوا في كتبهم، وسمعوا وصفه من أسلافهم بلا تحريف ولا تغيير { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } المقربة لهم إلى الله والمرضية عنده سبحانه { أولئك } السعداء المقبولون عند الله { هم خير البرية } [البينة: 7] وأحسن الخليقة.
{ جزآؤهم } الذي استحقوها بإيمانهم وأعمالهم { عند ربهم جنات عدن } منتزهات علم وعين وحق { تجرى من تحتها الأنهار } أي: جداول المعارف والحقائق المتجددة، المرشحة من بحر الحقيقة { خالدين فيهآ أبدا } دائمين فيها سرمدا، وبالجملة: { رضى الله } المفضل المنعم العليم الحكيم { عنهم } وعن أعمالهم ونياتهم وأخلاقهم فيها { ورضوا } أيضا { عنه } سبحانه بما قسم الله لهم، وأفاض عليهم بمقتضى استعداداتهم وقابلياتهم، وبالجملة: { ذلك } الأجر الجزيل والرضا الجميل { لمن خشي ربه } [البينة: 8] وخاف من سخطه وغضبه، فامتثل بأوامره واجتنب عن نواهيه، واتصف بالتقوى عن مطلق محارمه ومحظوراته.
جعلنا الله من زمرتهم.
خاتمة السورة
عليك أيها الراجي لقبول الحق والرضاء أن تصفي سرك عن مطلق الرعونات المنافية للرضا عما جرى عليه القضاء، وتخلي ضميرك عن الميل إلى مطلق البدع والأهواء المبعدة عن التقرب نحو المولى، فلك التسليم والرضا، والتبتل نحو الحق في السراء والضراء، والتوكل عليه في الخصب والرخاء، فإنه لا تحرك في ملكه إلا ما يشاء.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1-5]
اذكر يا أكمل الرسل لمن كذب بالنشأة الأخرى، وأنكر يوم العرض والجزاء كيف يفعل { إذا زلزلت الأرض } أي: هاجت واضطربت بعدما وصل إليها الأمر الإلهي المتضمن للتحريك والتهييج { زلزالها } [الزلزلة: 1] الذي قدر الله لها عند النفخة الأولى.
{ و } بعدما هاجت وتحركت { أخرجت الأرض أثقالها } [الزلزلة: 2] أي: دفائنها ومكنوناتها، وما في جوفها من الأموات.
{ و } بعدما رأى الناس زلزالها وإخراجها { قال الإنسان } من كمال حيرته وتعجبه: { ما لها } [الزلزلة: 3] أي: ما عرض على الأرض ولحق بها حتى اضطرتها إلى الحركة والاضطراب مع أنها ساكنة في حد ذاتها جامدة.
وبالجملة: { يومئذ تحدث } الأرض بإلهام الله إياها { أخبارها } [الزلزلة: 4] أي: الأعمال التي عمل عليها بنو آدم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { يومئذ تحدث أخبارها } قال:
" أتدرون ما أخبارها " ، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول عمل علي كذا وكذا يوم كذا، فهذه أخبارها ".
وذلك { بأن ربك } يا أكمل الرسل { أوحى لها } [الزلزلة: 5] أي: أمرها سبحانه وأذن لها بالكلام وألهمها، فحينئذ تكلمت وتحدثت.
[99.6-8]
اذكر يا أكمل الرسل { يومئذ يصدر } ويرجع ويعود { الناس } عن موقف العرض والحساب { أشتاتا } متفرقين، متحزبين حسب مراتبهم في الحساب، كل منهم مع شاكلته { ليروا أعمالهم } [الزلزلة: 6] أي: أجزئتهم المعدة لهم في الجنة والنار.
وبالجملة: { فمن يعمل مثقال ذرة } أي: مقدار نملة صغيرة ووزنها { خيرا يره } [الزلزلة: 7] أي: يرى جزاءها في الجنة.
{ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [الزلزلة: 8] أي: جاءها في النار.
وهذه الآية أحكم آية وأقسطها، من الآيات الدالة على كمال العدل الإلهي وأشملها حكما، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" { إذا زلزلت } تعدل نصف القرآن، و: { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن، و: { قل يأيها الكافرون } تعدل ربع القرآن ".
خاتمة السورة
عليك أيها المتوجه نحو الحق أن تأتي وتتصف بصوالح الأعمال، وتجتنب عن فواسدها؛ لترى أحسن الجزاء، وتزيد عليها على مقتضى إخلاصك فيها وخشوعك في إتيانها، فلك أن تجعل مضمون هذه الآية نصب عينيك في عموم أحوالك وأعمالك؛ لتكون على ذكر تام وفطنة كاملة، مما يترتب على أعمالك من الجزاء.
جعلنا الله من زمرة المتذكرين الممتثلين بمقتضى هذه الآية.
[100 - سورة العاديات]
[100.1-5]
{ والعاديات ضبحا } [العاديات: 1] أقسم سبحانه بالنفوس المقدسة الزكية عن مطلق الرذائل والأنسية، وشبهها في سرعة العدو والجري بالخيول الجياد العادية، المجاوزة عن مضائق بقعة الإمكان، ومحابس نشأة الناسوت نحو فضاء الوجوب، ومراتب عوالم اللاهوت، شوقا إليها وتحننا نحوها؛ لذلك كلما قطعت عقبة من العقبات الناسوتية تضبح ضبحا.
والضبح: هو صوت أنفاس الفرس عند العدو، وتلك النفوس تضبح تشوقا إلى مقعد الوجوب، وتنفسا عن كروب الإمكان وأحزان الهيولى والأركان.
{ فالموريات قدحا } [العاديات: 2] أي: النفس الممتحنة للسرعة، المستعجلة نحو الموطن الأصلي بالميل الجبلي، سيما بعد الجذب الإلهي الموري لحوافر مراكب الشوق عند عدوها على أحجار الطبائع وجنادل الهيولى والأركان، نار المحبة والمودة من شدة تشوقها وتلذذها إلى النيل والوصول، واستنشاقها من نسائم روائح الحضور والقبول.
{ فالمغيرات صبحا } [العاديات: 3] أي: النفوس التي تغير في المبادرة والمسابقة نحو عالم اللاهوت، وتجتهد وتسعى أن تصل إليها قبل كل واحدة من النفوس المبادرة إياها والساعية نحوها.
{ فأثرن به } أي: هيجن وحركن في ذلك الوقت الذي وصلن إليه { نقعا } [العاديات: 4] ليكون علامة تدل على وصولهن.
{ فوسطن به } أي: دخلن بذلك الوقت { جمعا } [العاديات: 5] سكان علام اللاهوت؛ أي: المطلقين عن جميع القيود الناسوتية.
[100.6-11]
وبالجملة: بحق هذه المقسمات العظام { إن الإنسان } المجبول على الكفران والنسيان { لربه } الذي رباه بأنواع الكرم والإحسان { لكنود } [العاديات: 6] كفور مبالغ في الكفران والطغيان.
{ وإنه } أي: الإنسان نفسه { على ذلك } أي: كنوديته وكفرويته { لشهيد } [العاديات: 7] لظهور آثار الكفران والطغيان عليه دائما، وبالجملة: هو نفسه شاهد على كفره وكفرانه، وشركه وطغيانه، إلى حيث يلوح أثر عصيانه عليه.
{ وإنه } من شدة بغيه وعدوانه وغفلته على الله وإحسانه { لحب الخير } أي: المال والجاه والثروة، والسيادة المبعدة له عن كنف مولاه { لشديد } [العديات: 8] قوي، مبالغ فيه، مباه فيه، حريص في طلبه، متعب نفسه في تحصيله، وحبه هذا ما هو إلا من غاية كفرانه بنعم الله وحرمانه عن مقتضى كرمه وضعف يقينه بالله وموائد إنعامه وإحسانه.
وبالجملة: { أفلا يعلم } الإنسان الكفور، الكنود، المحب للجاه والمال { إذا بعثر } أي: بعث ونشر وحشر { ما في القبور } [العاديات: 9] من الموتى.
{ وحصل } أي: جمع وميز { ما في الصدور } [العاديات: 10] من المكنونات، خيرا كان أو شرا.
{ إن ربهم } الذي أظهرهم من كتم العدم ورباهم بأنواع الكرم { بهم يومئذ } وهو يوم القيامة التي فيه تبلى السرائر وتكشف الضمائر { لخبير } [العاديات: 11] بصير بعموم ما جرى عليهم في نشأة الاختبار خيرا كان أو شرا، فيجازيهم على متقضى علمه وخبرته بلا فوت شيء من ذلك، ومع علمه سبحانه بهم وبما صدر عنهم، يعملون عملا سيؤاخذون عليه.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
خاتمة السورة
عليك أيها الإنسان الكامل المجبول على حكمة المعرفة والإيقان أن تشمر ذيلك إلى ما جبلت لأجله، وتخلي خلدك عن مطلق الأشغال العائقة عن التوجه الحقيقي نحو الحق، فلك أن ترى يوم الجزاء بين يديك ونصب عينيك، وبالجملة: لا تغفل عن الله، فإنه يرقبك في أولاك وأخراك.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-5]
{ القارعة } [القارعة: 1] أي: الساعة التي تقرع الأسماع من هولها وهيبتها، وتدهش العقول من شدتها وصولتها.
ثم أبهم سبحانه تهويلا، فقال : { ما القارعة } [القارعة: 2] المذكورة، وأية شيء هي؟.
ثم أبهمها مرة أخرى على حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ تأكيدا على تهويلها وفظاعة شأنها، فقال: { ومآ أدراك } وأعلمك يا أكمل الرسل { ما القارعة } [القارعة: 3] العجيبة الشأن الفظيعة العظيمة الهائلة المهولة؟.
ثم عد سبحانه لوازمها وما يترتب عليها؛ لينتقل منها إليها، وإنما أشار سبحانه بهذه الطريقة أيضا إلى شدة هولها وفظاعتها؛ ليكون تهويلا على تهويل، وتأكيدا على تأكيد.
اذكر يا أكمل الرسل لمن تذكر { يوم يكون الناس } من شدة أهوالهم وأفزاعهم { كالفراش المبثوث } [القارعة: 4] أي: كالطير المتهافت على النار من شدة اضطرابه؛ يعني: يكون الناس يومئذ مثل الفراش المتفرق في الجهات من غاية الاضطراب، بحيث لا يتمالكون على نفوسهم، بل يركب بعضهم فوق بعض، ويطأ بعضهم بعضا من شدة خشيتهم ورهبتهم وازدحامهم.
{ وتكون الجبال } من كمال قهر الله وغضبه { كالعهن المنفوش } [القارعة: 5] أي: كالصوف الملون المندوف، تطير في جو الهواء يمنة ويسرة.
[101.6-11]
وبالجملة: { فأما من ثقلت } يومئذ { موازينه } [القارعة: 6] أي: رجحت مقادير حسناته على مقادير سيئاته { فهو } يومئذ { في عيشة } هنيئة مريئة { راضية } [القارعة: 7] صاحبها عنها.
{ وأما من خفت } يومئذ { موازينه } [القارعة: 8] أي: خفت حسناته وثقلت سيئاته { فأمه } أي: مستقرة ومأواه، وما يأوي إلكيه { هاوية } [القارعة: 9] هي من أسماء جهنم.
ثم أبهمها سبحانه، تهويلا وتفظيعا، فقال: { ومآ أدراك ما هيه } [القارعة: 10] أي: الهاوية.
ثم فسرها؛ ليكون أدخل في التهويل، فقال: { نار حامية } [القارعة: 11] أي: ماهية الهاوية وحقيقتها: نار ذات حمى وحرارة، بحيث قد انتهت في الحرارة والسخونة غايتها.
أعاذنا الله وعموم عباده منها.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لترجيح الحسنات على السيئات أن ترغب في سرك ونجوال عن مستلذات الدنيا ومشتهياتها، وتركن إلى اللذات الروحانية من الأحوال والمواجيد الأخروية المستلزمة للدرجات العلية والمقامات السنية عند الله.
وإياك إياك الأماني وطول الأمل، فإنها توقعك في فتنة عظيمة وبلية شديدة، لا نجاة لك منها.
خلصنا الله وعموم عباده من غوائل الدنيا وما فيها.
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-4]
{ ألهاكم التكاثر } [التكاثر: 1] أي: شغلتكم المفاخرة والمباهاة بكثرة الأموال والأولاد أيها المنهمكون في بحر الغفلة والضلال عن توحيد ربكم وطاعته، وكنتم على هذا طول عمركم.
{ حتى زرتم } ولحقتم { المقابر } [التكاثر: 2] وصرتم أمواتا مثلهم، وما صدر عنكم، وما جبلتم لأجله طول دهركم.
ثم قال سبحانه؛ ردعا لهم وتهديدا: { كلا سوف تعلمون } [التكاثر: 3] أن أمركم وشأنكم ما هذا التفاخر والتكاثر، وستعلمون ما يترتب عليها.
{ ثم كلا سوف تعلمون } [التكاثر: 4] أن الأمر ليس هذا، كرره؛ تأكيدا ومبالغة في التهديد والوعيد، وتهويلا للوعود.
[102.5-8]
ثم سجل عليهم سبحانه جهلهم وضلالهم بقوله: { كلا } يعني: ما تتكاثرون وتفتخرون بهذه الزخرفة الفانية أيها الجاهلون المكابرون { لو تعلمون علم اليقين } [التكاثر: 5] أي: لو علمتم يقينا عمليا، وصدقتم تصديقا قلبيا أنكم: { لترون الجحيم } [التكاثر: 6] لما تكاثرتم وتفاخرتم بما تفاخرتم، وما خطر ببالكم هذه الخوطر الكاذبة، إلا أنكم جاهلون غافلون عن رؤيتها، بل منكرون لها؛ لذلك تفتخرون وتتكاثرون بالحطام الدنية الدنيوية، وتستلذون بلذاتها الفانية، وشهواتها الغير الباقية.
ثم كرر سبحانه أمر الرؤية؛ تهويلا عليهم وتنصيصا على وعيدهم، فقال: { ثم لترونها } أي: الجحيم المعدة لتعذيبكم { عين اليقين } [التكاثر: 7] أي: يقينا عينيا حتى تعاينوا بها، وترون منازلكم فيها.
{ ثم لتسألن } أيها الناس الناسون لعهود الحق ومواثيقه { يومئذ عن النعيم } [التكاثر: 8] الفاني الذي يشغلكم عن الحق ويلهاكم عن طاعته وعبادته، فحينئذ ظهر عليكم خطأ آرائكم وفساد أهوائكم التي كنتم عليها في النشأة الأولى.
آتنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتصف باليقين العلي بعموم المعتقدات الأخروية أن تكون على ذكر منها، بحيث يكون علمك بها عينا قبل حلولها ونزولها، فعليك ألا تركن إلى الدنيا: مزخرفاتها ونعيمها ولذاتها، وتقنع بالكفاف وتتصف بالعفاف، وتلازم العزلة والخمول والفرار عن أصحاب الفضول، فإن صحبة الأشرار يعوقك عن ملاحظة الأسرار ويمنعك عن مشاهدة الأنوار.
ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من فضول الكلام وتوصلنا إلى دار السلام.
[103 - سورة العصر]
[103.1-3]
{ والعصر } [العصر: 1] أقسم سبحانه بالعصر والدهر الذي هو عبارة عن بقاء الوجود الأزلي الأبدي ودوامه السرمدي.
{ إن الإنسان } المجبول على فطرة المعرفة والإيمان حسب حصته اللاهوتية { لفى خسر } [العصر: 2] عظيم، وخيبة بينة؛ بسبب اشتغاله بما لا يعنيه من لوازم بشريته المتعلقة بحصة الناسوت.
{ إلا } الموقنين { الذين آمنوا } بوحدة الحق، وتفطنوا باستقلاله في التصرفات الجارية في ملكه وملكوته { و } مع الإيمان والإذعان { عملوا الصالحات } الدالة على إخلاصهم ويقينهم ونياتهم { و } مع ذلك { تواصوا بالحق } أي: أوصى بعضهم بعضا لسلوك طريق الحق وتوحيده وتواصوا } أيضا { بالصبر } [العصر: 3] على مشاق الطاعات ومتاعب الرياضات الطارئة عليهم، من قطع المألوفات الإماكنية، وترك اللذات البهيمية اللازمة للقوى البشرية.
وفقنا الله على قلعها وقطعها.
خاتمة السورة
عليكم أيها المحمدي القاص لقطع العلائق الإمكانية أن تتصبر على عموم البلوى العارضة لك في نشأتك الأولى، وتسترجع إلى الله في جميعها، وتسنده إليه سبحانه أولا وبالذات بلا رؤية الوسائل في البين، وتوطن قلبك مع ربك في جميع حالاتك، وترضى عن الله في عموم ما جرى عليك في مقتضيات قضائه، وبالجملة: كن فانيا في الله تفز بخير الدارين وفلاح النشأتين.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1-3]
{ ويل } عظيم وهلاك هائل شديد لكل فرد من أفراد الأقوام { لكل همزة } يمشي بين الناس بالهمز وكسر الأعراض، وصارت له هذه الديدنة القبيحة عادة راسخة مستمرة، وأيضا لكل { لمزة } [الهمزة: 1] يطعن في أنساب الأنام، وينسبهم إلى أنواع البغي والآثام افتراء ومراء.
وما جرأه وحمله على هذه الخصلة القبيحة والفعلة الوقحة إلا ثروته وماله وجاهه وسيادته، فإنه { الذى جمع مالا } وأمتعة من الزخارف الدنية الدنيوية التي مالت قلوب أبنائها وأصحابها إليها { وعدده } [الهمزة: 2].
{ يحسب أن ماله أخلده } [الهمزة: 3] أي: أدام وأبقى ماله نفسه وجعله مخلدا في الدنيا، مستمرا فيها أبدا، بحيث لا يطرأ عليه زوال وانتقال.
وبالجملة: اغتر بماله وجاهه إلى حيث خيل له الخلود به فيها والدوام عليها بطرا وغرورا.
[104.4-9]
ثم قال سبحانه: { كلا } ردعا له عن حسبانه واغتراره، وخطأ رأيه وطغيانه؛ يعني: من أين يتأتى ويتيسر له الخلود والدوام فيها؟! والله { لينبذن } ويطرحن يوم الجزاء { في الحطمة } [الهمزة: 4] أي: النار التي من شأنها أنها تحطم وتكسر وتفني من يطرح فيها.
ثم أبهمها تهويلا، فقال: { ومآ أدراك ما الحطمة } [الهمزة: 5] المعدة لتعذيبه.
ثم فسرها؛ لكونه أدخل في التهويل والتفظيع بقوله: { نار الله الموقدة * التي تطلع } [الهمزة: 6-7] وتعلوا { على الأفئدة } [الهمزة: 7] والأكباد؛ أي: حرقها وإيلامها غير مختص بظواهر الجلود، بل يسري إلى البواطن أيضا، كما أ، أثر الهمز واللزم اللذين هما سببا التعديل بهذه الحطمة سيشمل ظواهر الناس وبواطنهم.
بالجملة: { إنها } أي: النار الموقودة الإلهية { عليهم مؤصدة } [الهمزة: 8] أي: مطبقة عليهم، محيطة بهم، محفوفة بحواشيهم وحواليهم، وهم حينئذ مشدودون، موثقون بأيديهم وأرجلهم.
{ في عمد ممددة } [الهمزة: 9] أي: أعمدة وأخشاب طوال مثقوبة، ومن أعناقهم بالسلاسل والأغلال، ألا وهي مصورة من سلاسل الآمال وأغلال الأماني التي هم مقيدون بها في بقعة الإمكان.
أعاذنا الله وعموم عباده منها.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي الوجل الخائف عن مقتضيات القهر الإلهي وموجبات غضبه أن تعتدل في عموم أخلاقك وأطوارك، وتعيش بين بني نوعك هينا لينا، فرحان بلا مماراة ومخاصمة، تصاحبهم وتداريهم على وجه الوفاق والملاطفة، بلا شوب الشقاق والنفاق.
وبالجملة: ترجهم على نفسك في كل الأمور، وتراعيهم حسب المقدور فإن رعايتك إياهم، وترجيح جانبهم يؤدي إلى مراعاة جانب الحق وترجيحه.
وبالجملة: أحسن إليهم كما أحسن الله لك، فكن من المحسنين، واعبد ربك في كل ذرة حتى يأتيك اليقين.
[105 - سورة الفيل]
[105.1-5]
{ ألم تر } ولم تعلم يقينا علميا حاصلا لك من طريق السمع إلى حيث وصل إلى مرتبة اليقين العيني من كثرة السماع من الثقات، وتكرره { كيف فعل ربك } الذي رباك يا أكمل الرسل لرسالته، وأظهر دينك على الأديان كلها، ونصرك على عموم أعدائك بقدرته الغالبة { بأصحاب الفيل } [الفيل: 1] وهو جيش أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصمحة النجاشي.
قصد هدم الكعبة عمرها الله، فخرج معه جيشه، ومعه فيل كثيرة، لكن فيها فيل عظيم جسيم في غاية الجسامة، مسمى ب " محمود " كانوا يأمرون له بهدم البنيان، فيهدمها في الحال، ولهذا سموه بهذا الاسم.
وسبب هذا القصد أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء، فسماها قليس، فعزم أن يصرف الحاج من مكة إليها، فلما انتشر الخبر، ذهب رجل من كنانة إلى قليس ذات ليلة، فتغوط فيها ولطخ بها محاربها، فوصل الخبر إلى أبرهة فغار غيرة شديدة، فحلف: والله لأهدمن الكعبة.
فخرج مع جيشه وفيله، حتى وصل إلى حوالي الحرم، وأراد أن يأمر اليل بهدمها، فبرك ولم يبرح نحوها، فضربوه وشددوا عليه، فلم يفد، فكانوا إذا وجهوه إلى جهة غير جهة البيت هرول وأسرع، وأما نحوها فلم يمش قط، فصاروا متحيرين في شأنه.
كما قال سبحانه: { ألم يجعل كيدهم } الذي كادوا به لهدم البيت وانصراف الزوار عنه نحو بيتهم الذي قد بنوا { في تضليل } [الفيل: 2] ضياع وهلاك؟!
{ و } كيف لا يكون في الضياع والخسار؛ إذ { أرسل } سبحانه بمقتضى قدرته الغالبة { عليهم طيرا أبابيل } [الفيل: 3] أفواجا كثيرة متفرقة، متفوقة من جنس واحد من الطير، مع كل واحد منها ثلاثة أحجار.
{ ترميهم } يعني: الطير، جيش أبرهة { بحجارة } متخذة { من سجيل } [الفيل: 4] وهو معرب: سنك وكل.
{ فجعلهم } من كثرة ما ترميهم بها { كعصف مأكول } [الفيل: 5] أي: كتبن يأكله الأنعام وتروث به، فتفرقه الرياح؛ أي: صاروا من شدة غضب الله إياهم هباء منثورا.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك الخائف من بطش الله، المتحترز عن مقتضى قهره وجلاله أن تكون في عموم أحوالك وأطوارك بين الخوف والرجاء عن جلال الله وجماله، بحيث لا يجري عليك نفس من أنفاسك، وأنت فيه خال عن كلا النقيضين.
وبالجملة: لا تيأس من روح الله، ولا تتكل على كرمه، فاعلم أنه سبحانه يرقبك في حالاتك، ويعلم منك ما لم تعلم من نفسك، فكن المخلصين ولا تكن من القانطين، فإن ناقدك خبير بصير.
[106 - سورة قريش]
[106.1-4]
{ لإيلاف قريش } [قريش: 1] أي: ائتلافهم وتآلفهم فيما بينهم، واتفاقهم على أن ينصرفوا من حوالي بيت اله حين { إيلافهم } واتفاقهم على الظعن والارتحال { رحلة الشتآء والصيف } [قريش: 2] يعني: يرتحلون في كل سنة مرتين: مرة في الشتاء نحو اليمن ومرة في الصيف إلى الشام، والباعث على ترحالهم: فقد الزاد في مكة: إذ هي بواد غير ذي زرع، فيشق عليهم الأمر ، فيتجروا في كل سنة مرتين.
فكره الله منهم هذا، وأمرهم بالمكوث والإقامة حول بيته، بقوله: { فليعبدوا رب هذا البيت } [قريش: 3] وليعتكفوا في حواليه، وليتولكوا عليه ولا يتجروا؛ إذ هو القادر المقتدر { الذي أطعمهم } وأشبعهم { من جوع } شملهم وأحاط بهم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة { وآمنهم من خوف } [قريش: 4] لحقهم من أعدائهم مرارا ببركة هذا البيت، فلهم أن يسكنوا في حواليه، متوكلين على ربه، يكفي لهم مؤنة أرزاقهم بحوله وقوته، كما كفى لهم فيما مضى.
خاتمة السورة
عليك أيها المتوجه إلى الله، المتوكل على كرمه وإحسان أن تمتثل بجميع ما أمرك الحق عليه، وتفوض كلها إلي، وترضى على عموم ما جرى علي من القضاء، وتعتقد أن الأمر كله لله، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عن فعله، إنه حكيم حميد.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-7]
{ أرأيت } أي: هل عرفت وأبصرت المعاند الكاذب { الذي يكذب بالدين } [الماعون: 1] أي: بيوم الجزاء والحساب الموعود؛ لتنقيد الأعمال والأفعال الجارية في نشأة الاختبار؟.
{ فذلك } المكذب المنكر هو { الذي يدع } ويدفع بالعنف المفرط { اليتيم } [الماعون: 2] الذي جاءه لينفعه من ماله الذي كان عنده؛ لكونه قيما ووصيا له، قيل: هو الوليد بن المغيرة، وقيل غيره، وما ذلك إلا من غاية بخله وخساسته.
{ و } من شدة بخله وخساسته وإمساكه المفرط { لا يحض } لا يحث أحدا { على طعام المسكين } [الماعون: 3] يعني: هو لا يطعم ولا يرضى أيضا بإطعام الغير من شدة شحه وإمساكه، هذا أمارة تكذيبه بالدين والجزاء بحسب الظاهر.
أما بحسب الباطن { فويل } عظيم وعذاب أليم { للمصلين } [الماعون: 4] المكذبين بيوم الجزاء، المنكرين لمعالم الدين المستبين؛ لأنهم { الذين هم عن صلاتهم ساهون } [الماعون: 5] غافلون، لا يحافظون عليها في أوقاتها المحفوظة لها، ولا يواظبون على إقامتها.
بل هم { الذين هم يرآءون } [الماعون: 6] بها على رءوس الملأ، ويتركونها في خلواتهم؛ لعدم اعتدادهم واعتقادهم بها، وما يترتب عليها من الجزاء مع تهاونهم وتكاسلهم في الصلاة التي هي عماد الدين وأعلى مراسم التوحيد واليقين.
{ ويمنعون الماعون } [الماعون: 7] أي: الزكاة المهذبة لنفوسهم عن الشح المستهجن والتقتير المستقبح، والفتوات المؤدية إلى عموم الحسنات والخيرات المسقطة للمروءات.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لطريق الحق، الحقيق بالإطاعة والاتباع أن تهذب ظاهرك وباطنك عن مطلق الرذائل المنافية للعدالة الإلهية، وتخلي سرك عن الالتفات إلى ما سوى الحق؛ لتكون صلاتك منك ميلا حقيقيا إلى الله، ومعراجا معنويا موصلا إلى توحيده.
وإياك إياك المراء والمجادلة مع بني نوعك، والاستكبار عليهم، وإظهار الثروة والسيادة فيما بينهم بالمال والجاه، فإنه يميت قلبك، ويزيد في هواك، ويبعدك عن مولاك، تضرك في أولاك وأخراك.
[108 - سورة الكوثر]
[108.1-3]
{ إنآ } من مقام عظيم جودنا ومحض كرامتنا { أعطيناك } يا أكمل الرسل إعطاء وكرامة { الكوثر } [الكوثر: 1] الذي هو التحقق بوحدة الذات والانكشاف بها والوقوف عليها.
وبعدما أعطيناك ما أعطيناك، وخصصناك بالكرامة التي لم نعط أحدا من الأنبياء والرسل الذين مضوا قبلك { فصل لربك } ودم على التوجه وأخلص فيه، واستقم عليه { وانحر } [الكوثر: 2] بدنة ناسوتك بعدما وصلت إلى كعب الذات، وفزت بعرفات الأسماء والصفات؛ تقربا إلى الله، ولا تلتفت إلى من يشينك ويعيبك من الجهلة المكابرين.
{ إن شانئك } الذي يشينك ويبغضك في شأنك وأمرك هذا { هو الأبتر } [الكوثر: 3] المقطوع العقب والأثر من كل خير، وأثرك يبقى إلى قيام الساعة.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي القاصد للورود إلى الحوض والكوثر والشرب منها أن تتوجه في عموم أوقاتك وحالاتك إلى الله على وجه التبتل والإخلاص، وتميت بهيمة بدنك بالموت الإرادي، وتهديها في طريق الحق؛ تقربا إليه سبحانه؛ لتنال خير الدارين وفلاح النشأتين.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-6]
{ قل } يأ اكمل الرسل مناديا لمن دعاك إلى عبادة آلهته الباطلة: { يأيها الكافرون } [الكافرون: 1] الساترون شمس الحق الظاهر في الأنفس والآفاق بغيوم هوياتكم الباطلة.
{ لا أعبد } أي: لا أنقاد وأتوجه، سيما بعدما وفقني الله إلى توحيده، وهداني نحو شمس ذاته، وشرفني بمطالعة وجهه الكريم { ما تعبدون } [الكافرون: 2] من الآلهة الباطلة والأظلال الهالكة العاطلة، التي اتخذتموها آلهة من تلقاء أنفسكم أنتم وآباؤكم مع أنه
مآ أنزل الله بها من سلطان
[يوسف: 40]، بل ما تتبعون أنتم وهم باتخاذهم إلا الظن وما تهوى الأنفس من غير ورود الهداية؛ لأنه من قبل الحق.
{ ولا أنتم } أيضا { عابدون مآ أعبد } [الكافرون: 3] من الحق الوحيد، الفريد، الحقيق بالعبادة والإطاعة، بالاستقلال والانفراد؛ إذ لا إله معه، ولا شيء يماثله حتى يشاركه في أخص أوصافه التي هي الألوهية؛ إذ ليس في وسعكم واستعدادكم الإيمان به والإيقان بوحدته واستقلاله في ملكه وملكوته، ومع ذلك ما وفقكم الحق عليه وأقدركم به.
{ و } بالجملة: { لا أنآ عابد ما عبدتم } [الكافرون: 4] إذ لا يليق بالألوهية حتى أعبد له.
{ ولا أنتم عابدون مآ أعبد } [الكافرون: 5] إذ لا يتيسر لكم الإيمان به والاطلاع على وجوده والاتصاف بمعرفته وشهوده، فكيف تعبدون أنتم الله الواحد الأحد، الصمد بلا جذب من جانبه وتوفيق من لدنه؟! وأنا أيضا لا أعبد لمعبوداتكم الباطلة التي هي بمراحل عن رتبة الألوهية والعبودية.
وبالجملة: { لكم دينكم } الذي أنتم عليه، وطريقكم الذي تتوجهون إليه بعدما لم يفوقكم الحق على الهداية والإيمان { ولي دين } [الكافرون: 6] الذي أنا عليه، لا تتركوا دينكم بديني، ولا أنا أيضا تارك ديني بدينكم، بل لكم دينكم ولي ديني، والتوفيق بيد الله والهداية والضلال.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي الحنيف، المائل عن كل الأديان والمذاهب المنافية لصرافة شرب التوحيد ألا تجالس مع أهل الغفلة والضلال، المترددين في أودية الجهلات بأنواع الخيالات الباطلة، والأوهام العاطلة المترتبة على هوياتهم العدمية وتعيناتهم الوهمية، ولا تصاحبهم في حال من الأحوال، فإن صحبتك معهم تبعدك عن الحق وتغريك نحو الباطل، فإن النفوس الإنسانية أسرع عدوا وأشد ميلا إلى البدع والأهواء الفاسدة والآراء العاطلة الباطلة.
[110 - سورة النصر]
[110.1-3]
{ إذا جآء نصر الله } أي: إذا جاءك يا أكمل الرسل وعد الله الذي وعدك أن ينصرك على جميع أعدائك، ويظهر دينك على الأديان كلها { والفتح } [النصر: 1] الذي أخبرك الحق بقوله:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا
[الفتح: 1].
{ و } بعدما جاءك الفتح والنصر الموعود آن لك وكمل ظهورك واستيلاؤك على عموم الأعادي، وظهر دينك على سائر الأديان { رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } [النصر: 2] فوجا فوجا، فرقة فرقة، بعدما كانوا يدخلون فيه فرادى فرادى.
{ فسبح بحمد ربك } يا أكمل الرسل؛ شكرا لما أعطاك جميع ما وعدك، وفتح عليك الآفاق، وأتم ببعثتك وظهورك محاسن الشيم ومكارم الأخلاق { واستغفره } واطلب منه العفو والغفران من لدنه؛ هضما لنفسك وفرطاتك؛ إذ قلما يخلو المبشر من الخطر.
{ إنه كان توابا } [النصر: 3] يغفر من استغفر له، ويقبل توبة من أناب إليه أيضا، سيما إذا كانت مقرونة بالإخلاص.
وبعدما نزلت هذه السورة، وأمر سبحانه صلى الله عليه وسلم بالحمد والاستغفار، تغمم الأصحاب وتحزنوا، وفهموا منها أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب، فودعه الحق، وأمره بالحمد والاستغفار؛ لذلك سما هذه السورة سورة التوديع أيضا.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب للنجاة الأخروية والراغب إلى اللذات اللدنية الروحانية الموعودة فيها أن تستغفر إلى الله، وتسترجع نحوه في أوقاتك وحالاتك، وتفوض أمورك كلها إليه، وتتخذه وكيلا، وتجعله حسيبا وكفيلا، فلك أن تواظب على الطاعات والعبادات، وتجتنب عن مطلق المحارم والمنكرات، يحفظك الحق عن جميع الملمات ويوصلك إلى عموم المهمات بفضله ولطفه.
[111 - سورة المسد]
[111.1-5]
{ تبت يدآ أبي لهب } أي: خابت وخسرت، يداه كناية عنه، وما ذلك إلا أنه من غاية نخوته وغروره، بحيث هلك في نار فظيعة كنفسه الجهنمية التي خيبته خيبة أبدية وخسرانا سرمديا حينما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع المكروه، وعارض معه على وجه لا يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم اتكالا على ماله وجاهه وثروته وسيادته.
وذلك لما نزلت الآية الكريمة:
وأنذر عشيرتك الأقربين
[الشعراء: 214] صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى الصفا، فنادى:
" يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش " حتى اجتمعوا، فقال: " أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تقبل عليكم، أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ".
فقال أبو لهب على سبيل الاستهزاء: تبا لك يا محمد، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: { تبت يدآ أبي لهب وتب } "
لمجادلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرائه معه، وقصد استحقاره واستهانته إياه صلى الله عليه وسلم.
{ و } قد { تب } [المسد: 1] وهلك ذلك اللعين المفرط على الوجه الذي أخبر الله بهلاكه إلى حيث { مآ أغنى } ودفع { عنه ماله } الذي يتكل عليه، ويستظهر به شيئا من غضب الله { و } ما نفع له ونصر عليه { ما كسب } [المسد: 2] وجمع من الأموال والأولاد والأتباع.
قيل: مات بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة، وترك ثلاثة أيام حتى أنتن، ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه، فهو إخبار عن الغيب، وقد وقع على وجهه، هذا مآل أمره في النشأة الأولى.
وفي النشأة الأخرى { سيصلى } ويدخل ذلك اللعين { نارا } وأي نار، نارا { ذات لهب } [المسد: 3] واشتعال عال من شدة سورتها وفظاعتها.
{ وامرأته } التي تمشي بالنميمة بين الناس، وتوقد نار الفتنة والعداوة بينهم تصير هي { حمالة الحطب } [المسد: 4] بنار جهنم، تحتطب لها من الضريع والزقوم، أو هي " حمالة الحطب " فيها على قراءة الرفع؛ يعني: صورت نميمتها التي قد مشيت بها في الدنيا بإيقاد نار الفتن على هذه الصورة، فتلازم عليها.
{ في جيدها } وعنقها { حبل } سلسلة متخذة { من مسد } [المسد: 5] مفتول قد فتل من الحديد، تحمل بها الحطب مع أنها من أشراف قريش، هي وزوجها أيضا.
خاتمة السورة
عليك أيها المعتبر المستبصر - عصمك الله من تباب الدارين وخسارهما ويوارهما - أن تتأمل في مرموزات القرآن من القصص والأحكام والعبر والأمثال، فتأخذ حظك منها مقدار ما يسر الله لك، وأودعه في وسعك وطاقتك.
فاعلم أن كل ما في القرآن إنما نزل للإرشاد والتكميل، فلك أن تأخذ من إشارات هذه السورة حسن المعاشرة وآداب المصاحبة، وحقارة مزخرفات الدنيا وما يترتب عليها من اللذات الوهمية، الساقطة عن درجة الاعتبار، الزائغة الزائلة بلا قرار ومدار.
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1-4]
{ قل } يا أكمل الرسل لمن سأل عنك بقوله: صف لنا ربك ألذي تدعونا إلى الإيمان به وعبادته: { هو الله أحد } [الإخلاص: 1] أي: هو الذات المتصف بالألوهية الغيبية والشهادة، المتعالية عن كليهما بحسب ذاته المتصفة بالألوهية والربوبية، المستجمعة لجميع شرائط الكمال حسب الأسماء والصفات الكاملة، الكامنة في تلك الذات المتصفة بالأحدية المطلقة المنزهة عن التعدد والكثرة مطلقا، المستقل في الوجود والحياة والقيومية المستلزمة للديمومية والبقاء الأزلي الأبدي السرمدي، الذي كان لا يكال بقاؤه ودوامه بمطلق الموازين والمقادير، ولا يحيط به وبقيوميته مطل التدابير والتقادير.
فكيف كان سبحانه محلا للتقدير؛ إذ هو { الله الصمد } [الإخلاص: 2] أي: السيد السند الذي يقصد نحوه ويرجع إليه عموم ما ظهر وبطن من الكوائن والفواسد الكائنة في نشأتي الغيب والشهادة، والأولى والأخرى، وهو في ذاته مستغن عن جميعها مطلقا.
وكيف لا يكون مستغنيا؛ إذ هو الله الذي { لم يلد } إذ الإيلاد إنما هو للأخلاف وخوف الانعدام والانقضاء، وهو سبحانه بمقتضى قيوميته ووجوب وجوده ودوام بقائه لا يطرأ عليه أمثال هذه النقائص المستلزمة لضبط العاقبة والمآل؛ إذ لا يجر عليه انقضاء وانتقال { و } كذا { لم يولد } [الإخلاص: 3] لذلك؛ إذ كل ما ظهر وبطن، أزلا وأبدا إنما هو منه وبه وله وفيه، وكل ما فرض من الموجود أزلا وأبدا ما هو خارج عن حيطة أظلال أسمائه وعكوس صفاته، فكيف يتصور أن يسبقه شيء هو غيره مع أنه لا غير في الوجود مطلقا حتى يلده.
{ و } باجملة: هو سبحانه منفرد في توحده، متوحد في انفراده، ومستقل في استقلاقه، بحيث { لم يكن له كفوا أحد } [الإخلاص: 4] لا قبله ولا بعده، بل لا إله سواه، ولا موجود غيره.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي المنكشف بالتوحيد الذاتي - مكنك الله في مقر عزك وتمكينك - أن تصرف عنان عزمك وهمتك بعدما كوشفت بتوحيده الذاتي وكمالات أسمائه وصفاته نحو سوابغ آلائه ونعمائه الفائضة منه سبحانه حسب رقائق أسمائه الحسنى وأوصافه العظمة، وتشاهد آثار قدرته الغالبة التي تتحير منه العقول والآراء.
وإياك إياك أن تغفل عن الله طرفة، فإنها تورثك حسرة طويلة؛ إذ كل نفس من النفسات الإلهية التي جرت عليك في أوقات حياتك مشتملة على عجائب صنع الله وبدائع حكمته المتقنة البالغة، بحيث ما مضى مثلها أزلا ولا سيأتي شبهها أبدا، فعليك أن تغتنم الفرصة وتتعرض للنفحات الإلهية ، ولا يشغلك شيء منها.
جعلنا الله من المتعرضين بنفحات الحقن المستنشقين من نسمات روحه وراحته بمنه وجوده.
[113 - سورة الفلق]
[113.1-5]
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما أصابتك من أعدائك مصيبة وعرضتك بشؤم أعينهم عارضة؛ إزالة لها ودفعا لضررها: { أعوذ } وألوذ مخلصا { برب الفلق } [الفلق: 1] أي: بالذي فلق وشق ظلام الليل بنور الصبح المنير، وفلق ظلمة العدم بإشراق نور الوجود.
{ من شر } جميع { ما خلق } [الفلق: 2] في عالم الكون والفساد من النفوس الخبيثة.
{ و } كذا ألوذ به سبحانه { من شر } كل { غاسق } مظلم محيل { إذا وقب } [الفلق: 3] دخل وانغمس في ظلامه ليحيل ويمكر.
{ و } كذا { من شر } النساء السواحر { النفاثات } النافخات بريق أفواههن { في العقد } [الفلق: 4] التي عقدن على الخيط؛ ليسحرن الناس بها.
{ و } بالجملة: أعوذ برب الفلق { من شر } كل { حاسد إذا حسد } [الفلق: 5] وقصد أن يحسد، فإنه سبحانه يكفي مؤنة شرورهم عنك بحوله وقوته.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتلجئ إلى الله، المستعد بفضله وحوله وقوته أن تداوم على ذكر الله وقراءة القرآن، وتكرار الأذكار والتسابيح المأثورة من النبي المختار في عموم أوقاتك وحالاتك، سيما في خلال الليالي والأسحار، وفي آناء الليل وأطراف النهار، لعل الله يرقيك عن فتنة ما ذرأ وبرأ في الليل والنهار، ويكفي عنك مؤنة شرور من عاداك بالسحر وغيره بحوله وقوته.
[114 - سورة الناس]
[114.1-6]
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما مكنك الحق في مقعد التوحيد، وهداك الوصول إلى ينبوع بحر الحقيقة التي هي الوحدة الذاتية ملتجئا إلى الله، مستمسكا بعروة عصمته: { أعوذ } وألوذ { برب الناس } [الناس: 1] الذي أظهرهم من كتم العدم ورباهم بأنواع اللطف والكرم، لكونه: { ملك الناس } [الناس: 2].
{ إله الناس } [الناس: 3] إذ ظهور الكل منه ورجوعه إليه.
{ من شر الوسواس } الموسوس، المثير للفتن في قلوب الناس { الخناس } [الناس: 4] الدفاع، والرجاع للناس، فإنه منبسط على قلب الإنسان، فإذا ذكر الله تعالى خنس وانقبض وإذا غفل انبسط على قلبه، فالتطارد بين ذكر الله تعالى ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النور والظلام إذا جاء أحدهما طرد الآخر، مثله كمثل الواهمة تساعد في المقدمات، فإذا آل الأمر إلى النتيجة رجع وارتدع، مثلا إذا قيل: الميت جماد والجماد لا يخاف منه أقرت، وإذا قيل: فالميت لا يخاف منه فرت
كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة
[المدثر: 50-51].
{ الذى يوسوس في صدور الناس } [الناس: 5] إذا غفلوا عن ذكر ربهم، وجعلوا إنجاح قضية أهوائهم من همهم.
{ من الجنة والناس } [الناس: 6] بيان للوسواس، أو الذي، أو متعلق بيوسوس؛ أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنة والناس بأن يلقي إليهم أنهما يضران وينفعان بالتأثير والاستقلال، فيرجوان منهما المطالب والآمال، فيقعون في تيه الحسرة وهاوية الضلال.
أعاذنا الله وعموم عباده من شر كلا الفريقين بفضله وجوده.
خاتمة السورة
إياك إياك أيها الطالب للخلاص، الراغب في الإخلاص أن تتبع الهوى تنكب على الشهوات، فإن الإنسان إن اتبع الهوى وطاعة قضية القوى صار القلب عش الشيطان ومعدنه؛ لأن الهوى هو مرماه ومرتعه، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه، صار القلب مستقر الملائكة ومهبطه.
ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا ومقتضيات الهوى، وجد الشيطان مجالا واسعا، فيوسوس بالشر وما يجري إلى سوء المعاقبة، ويطرحه في الهاوية، ومتى أعرض عن الشهوات وجاهدها إلى حيث ينبغي، وأقبل على الطاعات كما ينبغي، يلهمه الملك بالخيرات، ويعينه في أسباب النجاة، ويرشده إلى الفوز بالجنات، فإن الخواطر مبدأ الأفعال؛ إذ الخواطر تحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم والنية، والنية تحرك الأعضاء وترسخ العقائد، فإن كانت من الخواطر المحمودة الإلهامية يفضي إلى الصلاح والنعمة، وإن كانت من الوساوس الشيطانية يسري إلى الفساد والنقمة.
أعاذنا الله تعالى من مهادنة النفس ومساعدة الهوى، وأعاننا على مجاهدة الشهوات ومعاندة فرط القوى بحرمة سيد السادات، وصفوة الكائنات، صلوات الله التامات وتسليماتهم الزاكيات عليه وعلى آله وأزواجه الطاهرات وذرياته السادات، وخلفائه الراشدين، وأصحابه أجمعين.
عجل بالنصر وبالفرج
يا رب بهم وبآلهم
والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا. والحمد لله رب العالمين.
अज्ञात पृष्ठ