ويدل لما قلناه قوله: "إذا اجشع القوم أعجل". أي اشد القوم حرصا على الطعام لشدة نهمه، أشدهم عجلا إلى مد اليد إلى الزاد.
ووجه الدلالة منه انه علل نفي كونه أعجل بان سببه شدة الجشع في الخارج، فيستدل بالأعجلية على الجشع فيذم بذلك من حيث انه عنوان على شدة النهم، فالذم في الحقيقة إنما هو بالجشع، أما إذا كان سبب العجلة ما قلنا، فلا ذم، والله اعلم سبحانه، ثم قال:
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ... عليهم وكان الأفضل الم
تفضل.
البسطة هنا: السماحة والسعة في الكرم. والتفضل كالإفضال: الإحسان، يقال: أفضل علينا وتفضل.
والمعنى: وليس انقباض يدي عن تناول الزاد قبلهم لعلة سوى سماحة ناشئة عن إحسان إليهم، أو سوى سعة في إحسان إليهم.
ف "عن" بمعنى "في" على هذا التقدير الأخير، وكان المتفضل أي المحسن، الأفضل بالنصب على انه خبر كان مقدما على اسمها، وجملة "وكان الأفضل. . . الخ". أكدت ما أفهمته التي قبلها بمعرفة المقام من كون المتفضل أكثر فضلا من غيره، وهذا يسمى تذييلا، وقد تكون الجملة المذيلة مؤكدة لمنطوق ما قبلها، وهي على كل حال لا محل لها من الإعراب.
ومن الناس من يسمي مثل هذه الجملة اعتراضا، وان كان في آخر الكلام بناء على انه عنده لا يختص بأثناء الكلام الواحد، أو ما في معناه من الكلامين المتصلين معنى، ولا مشاحة في الاصطلاح، ونكتة هذا التذييل أو الاعتراض الحث على التفضل.
وإني كفاني فقد من ليس جازيًا ... بحسنى ولا في قربه متعلل.
كفاني كذا: أي احسبني، ووجدت فيه الكفاية. والحسنى: ضد السوأى. والمتعلل: موضع التعلل، أي التلهي والتجزي.
يقول: لا أبالي بفقد الشخص الذي ليس مكافئا على الفعلة الحسنى وليس في قربه-أي القرب منه-ما يتعلل به من قرب منه، أي لا خير فيه فتتلهى به نفس من قرب، وتتكلف الاجتزاء به لقلته، فقد كفاني فقد هذا المذكور أي خوف فقده.
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع ... وأبيض إصليتٌ، وصفراء عيطل.
ومن لا يخاف فقده لأجل وجود هذه الثلاثة، يكون وجوده مساويا لعدمه، من اجل عدم الانتفاع به. والفؤاد المشيع-بضم الميم وفتح الشين المعجمة والياء المشددة-: الشجاع الجريء، كأنه شيع بغيره أو بقوة أودعها الله فيه. والأبيض الإصليت بكسر الهمزة: السيف الصقيل الماضي، وفي معناه: الصلت والمنصلت. والصفراء العيطل-بالعين المهملة-القوس الطويلة.
ف "فؤاد" وما عطف عليه تفصيل لإجمال ثلاثة أصحاب، فؤاد قوي، وسيف صقيل ماضٍ، وقوس صفراء طويلة، ولعلها أجود القسي عودا وأبعدها مرمى.
ثم وصف القوس بما يدل على جودتها فقال:
هتوف من الملس المتون يزينها ... رصائع قد نيطت عليها ومحمل
إذا زال عنها السهم حنت كأنها ... مرزأة عجلى ترن وتعول
الهتوف من القسي: المصوتة بكثرة، ومثله الهتافة والهتفة كالجمزى في التحريكة. والمتون: الظهور، واحدها متن. والرصائع، جمع رصيعة: وهي كل حلقة مستديرة، فلعل القسي العربية كانت تزين بالحلق المستديرة.
ومن الناس من فسر الرصائع هنا بسيور مضفورة وليس ذلك في القاموس، ولا خير فيما لا يوجد فيه إن شاء الله. والمحمل: العلاقة. وحنين القوس: تصويتها. والمرزأة: الكثيرة الرزايا، أي الكصائب. والرنين: التصويت، رنت القوس ترن. و"عجلى" صفة "مرزأة" فهي بمعنى عجول بفتح العين: وهي الوالة من النساء لفقد ولدها. والإعوال: رفع الصوت بالبكاء، وجملة "ترن" في موضع نصب على الحال من "مرزأة".
والمعنى: اشبهت القوس بتصويتها، عند مفارقة السهم لها، امرأة كثرت أرزاؤها، والها، في حال كونها ترن وترفع صوتها بالبكاء.
ولست بمهياف يعشي سوامة ... مجدعة سقبانها وهي بهل.
المهياف: الشديد العطش. والسوام: النعم الراعي كالسائمة. أسام الإبل: رعاها. وعشاها بالتشديد: رعاها ليلا، فهي عاشية، وفي المثل: العاشية تهيج الآبية. أي الراعية تبعث التي امتنعت من الرعي عليه. والسقبان-بالضم-أولاد الإبل، ومن الناس من خص به الذكور.
1 / 3