तफ्कीर फरीदा इस्लामिया
التفكير فريضة إسلامية
शैलियों
ولم تدم هذه الغاشية إلا ريثما تجددت الثقة في النفوس، وثبتت الأقدام على منهج الإصلاح، فخفت وطأة الحرج الذي استمده المسلمون من حصانة دينهم، وأيقنوا أن طرق التقدم وطرق العلم الحديث لا تفترقان، وأن المسلم أولى من غير المسلم بكل علم من علوم المعرفة؛ لأنه مأمور بالبحث عن أسرار الخلق، مطالب بالفهم والتفكير.
وتخلفت مع الجهل والخمول رواسب من الجمود تخلق الإحراج في غير حرج، وتضر كثيرا حيث تدعو الحاجة إلى السير الحثيث في طريق الإصلاح، وتفيد أحيانا كلما اضطرت المتعجلين إلى بعض الروية والأناة قبل الهجوم على كل شيء جديد لغير نفع فيه إلا أنه يخالف القديم ...
وأغلب الظن أن رواسب الجمود كانت تزول أسرع مما زالت لو لم يكن فيها مآرب ولبانات لفئة من الحاكمين ترتهن منافعهم ببقائها، وتتعرض مواردهم للنقص والزوال بما يطرأ على الحالة الراهنة من تبديل أو تحويل.
وقد كانت الآستانة والقاهرة قبلة طلاب الإصلاح في أرجاء العالم الإسلامي؛ لأن الأولى كانت في مستهل نهضات الإصلاح مقر الخلافة الإسلامية، والثانية عاصمة الثقافة الدينية منذ عدة قرون، ولم تخل حركة من حركات التقدم في كلتيهما من بواطن خفية غير الظواهر التي يثار من حولها الشقاق بين دعاة الإصلاح، وجماعة الحكام المشايعين للقديم، ومن هؤلاء أصاب أولئك الدعاة أشد ما أصابهم من العنت والتشهير، وبما كان لهم من الجاه والسطوة اقتدروا على تسخير الأعوان لاستثارة الدهماء على الأئمة والقادة المصلحين، وأحاطوهم بالتهم والأباطيل، وأيسرها وأسرعها تفشيا بين الجهلاء تهمة الكفر، وتهمة التواطؤ مع الأعداء على إفساد الدين ...
ففي البلاد العثمانية الخاضعة للآستانة سبق الشعب رؤساءه إلى مجاراة الحضارة، ومسايرة العرف العصري في شئون المعيشة التي لا مساس لها بالعقيدة، ولكن الدولة العثمانية تعرضت لثورة من أخطر ثوراتها حين أمر السلطان بتغيير ملابس الجنود «الإنكشارية»، وتنظيم كتائبهم على النسق العصري في الجيوش الحديثة؛ لأن قادة هذه الفرق - ومن ورائهم بعض أعضاء البيت المالك المنافسين للسلطان - آثروا بقاء القديم على قدمه، وأوجسوا من تبديل الملابس والأنظمة في الكتائب الحديثة أن يتبعه فض كتائب الإنكشارية، وتزويد السلطان بقوة من منشآته تناصره فيما أراد من تعديل نظام الوراثة ...
وفي مصر كان الخلاف على أشده بين الخديو وحواشيه، وبين أئمة الإصلاح - وعلى رأسهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية - وكان باطن الخلاف حول الرقابة على أموال الأوقاف، ووظائف التدريس بالجامع الأزهر، وبرامج التعليم فيه، وظاهره على سفاسف لا تعني الخديو وحواشيه في كثير ولا قليل، ولكنها ذريعة يستخدمونها في إثارة الغبار حول موضوع الخلاف الأصيل، واتهام المصلحين بسوء النية، وفساد الطوية، والافتيات على ولي الأمر وأعوانه المخلصين ...
وأشهر ما اشتهر من هذه المعارك الصاخبة حول السفاسف معركة الفتوى التي عرفت بفتوى الترنسفال، وخلاصتها الوجيزة أن رجلا من الترنسفال سأل مفتي الديار المصرية عن بعض عادات اللباس والطعام في أفريقيا الجنوبية، وعن جواز الصلاة خلف الإمام مع اختلاف المذاهب؟ فأفتاه الشيخ رحمه الله بجوار لبس القلنسوة، وجواز طعام أهل الكتاب؛ لأنه حلال بنص القرآن الكريم:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [سورة المائدة: 5]، وأن الإمام المسلم تجوز إمامته ولا وجه للاعتراض على الصلاة خلفه وإن اختلفت المذاهب؛ لأن تخصيص مسجد بأتباع كل مذهب يفرق جماعة المسلمين، ولا يستند إلى أصل من القرآن والحديث أو سير الأولين ...
ويخرج بنا من غرض هذه الرسالة أن نلم، ولو مع الإيجاز، بنبذة من الآراء الفقهية التي تداولها الكتاب نقدا وردا وتشهيرا وتبريرا بعد صدور الفتوى الترنسفالية؛ إذ ليس من غرضنا هنا أن نخوض في الجدل الفقهي وما نحا نحوه من جدل المذاهب، وما بنا من حاجة إلى ذلك؛ لأن القضية لم تكن من قضايا الفقه، ولا كان الغلاة في حملتها ممن ينكرون لبس القلنسوة، أو الأكل على الموائد الأوروبية، أو الصلاة خلف الأئمة الأحناف وفيهم الشافعيون والمالكيون، كما يتفق أيام الجمع في الصلوات الجامعة مع حاشية الأمير.
وقد بدأ الإنذار بالحملة قبل ورود الأسئلة وكتابة الأجوبة في فتوى الترنسفال، وعلى ذلك وصل الخبر إلى دار الخلافة يومئذ فيما رفعه إليها صاحب صحيفة الراوي اليومية، وهو من أعوانها وعيونها على خديو مصر في ذلك الحين، وقد أشار إلى الفتوى وغيرها من معارك السياسة الخفية في ثياب الغيرة الدينية فقال:
अज्ञात पृष्ठ