الذي كان رائدا من رواد الروح العلمية الحديثة في أوروبا، رغم أن هو ذاته لم يكن عالما، فهذا المفكر الفذ، الذي أدرك منذ وقت مبكر طبيعة البحث العلمي الحديث، والاختلافات القاطعة بين المعرفة العلمية التي تستهدف السيطرة على العالم، وتلك التي كانت في العصور القديمة والوسطى تكتفي بمجادلات لفظية عقيمة؛ هذا المفكر كان إنسانا لا أخلاقيا إلى حد بعيد؛ إذ كان من شيمه الغدر بالأصدقاء، وخداع الناس عن طريق الاقتراض منهم دون أن يسدد شيئا، وقبول الرشاوى من المتقاضين في محكمة يرأسها هو نفسه، والانغماس في دسائس القصور ومغامراتها، كل هذه كانت مساوئ أخلاقية مؤسفة، ولا سيما حين تصدر من فيلسوف محب للحقيقة، ولكننا نستطيع أن نقول - من وجهة نظر أخرى - إنه لم يكن إنسانا لا أخلاقيا تماما؛ فقد كانت أخطاؤه كلها تنتمي إلى ميدان السلوك الشخصي في الحياة الخاصة أو العامة، ولكنه كان في تفكيره العلمي شخصا أخلاقيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو لم يكن يزيف الحقائق أو يجامل أحدا في الحق، ولم يكن يتردد في مهاجمة أقوى السلطات العلمية في عصره إذا تبين له أنها عقبة في وجه المعرفة الجديدة التي يدعو إليها، وهو قد تحمل في سبيل ذلك تضحيات عديدة، بل ربما كان جزء كبير من انحرافه - على المستوى الشخصي - راجعا إلى رغبته في أن يحصل على منصب رفيع يساعده على تحقيق المشروعات العلمية الكبرى التي كان يحلم بها. وهكذا فإن السعي المستمر إلى الحقيقة - الذي تتميز به حياة العالم - يؤدي به إلى اعتياد الصدق وعدم التفريق في القيم المعنوية المرتبطة به، مهما كان مستوى أخلاقية العالم في حياته الخاصة، بل إن القدرة على الاحتفاظ بموقف «الحياد» - بمعنى التجرد والتنزه والبعد عن التحيز والهوى - هي في ذاتها موقف أخلاقي لا شك فيه. ومن هنا فإن التعبير القائل أن العلم «محايد أخلاقيا» يمكن - من وجهة نظر معينة - أن يعد تعبيرا غير كاف لوصف طبيعة العلم. فالحياد نفسه موقف أخلاقي، أو هو انحياز إلى الأخلاق، إذا فهمناه بالمعنى الذي أشرنا إليه منذ قليل، لا بمعنى الوقوف موقف المتفرج إزاء الأخلاق، أو الاستعداد لتقبل الخير والشر معا على النحو الذي يفهم به هذا اللفظ عادة. وهكذا يكون الجهد العلمي هو ذاته نوعا من الجهاد الأخلاقي، ويكون التحلي بقدر معين من القيم الأخلاقية صفة أساسية للعالم، هذا طبعا إذا كان عالما بالمعنى الصحيح. (2) العلم والأخلاق في العصر الحاضر
في العصور السابقة كان هناك حد فاصل بين السعي إلى المعرفة والسلوك العلمي، أو بين الفهم النظري للظواهر وإرضاء الإنسان لملكة حب الاستطلاع عنده من جهة، وبين القواعد الأخلاقية التي يتفاهم الناس ويتلاقون على أساسها من جهة أخرى؛ فالعلم - كما أوضحنا في فصل سابق - كان طوال جزء كبير من تاريخه نشاطا نظريا صرفا، وكان من الطبيعي عندئذ ألا يقترب من مجال الأخلاق، بل أن يكون هناك اختلاف جوهري بين الاستخدام النظري للعقل في المعرفة، واستخدامه العلمي في الأخلاق. أما في عصرنا الحاضر فقد أصبح التداخل وثيقا بين المجالين، بحيث أصبح العلم يتدخل في تفكيرنا في مشاكلنا الأخلاقية، كما أصبحت الأخلاق تسعى إلى توجيه العلم، أو على الأقل تستهدف اختباره بطريقة نقدية.
على أن هذا الانتقال - من الانفصال التام بين العلم والأخلاق إلى التداخل الوثيق بينهما - لم يحدث فجأة، وإنما حدث على مراحل متعددة، ومهدت له ظروف كثيرة، وفي وسعنا أن نلخص أهم مراحل الانتقال هذه فيما يلي: (1)
في مطلع العصر الحديث انهار المثل الأعلى القديم للمعرفة؛ وهو «العلم لأجل العلم»، وبدأ ظهور مفهوم جديد للعلم، يدور حول فكرة السيطرة على الطبيعة والوصول إلى مزيد من التحكم في العالم الخارجي. (2)
بعد فترة غير طويلة أخذ العلم يسعى إلى تحقيق هذا الهدف نفسه في مجال الإنسان؛ أي أن يحقق - بالنسبة إلى عالمنا الداخلي - نفس القدرة على الفهم وعلى السيطرة التي تحققت لنا بالنسبة إلى الطبيعة. (3)
كان هذا الانتقال إلى هدف جديد للعلم غير المعرفة النظرية المنقطعة الصلة بالواقع، يعني - من الوجهة النظرية - التقريب بين مجالي المعرفة العلمية والتطبيق العلمي؛ لأن العلم أصبح هو ذاته نوعا من السلوك، وسعيا إلى التغيير. (4)
وكان معناه - من الوجهة العملية - إثارة مشكلات تتعلق بكيفية استخدام العلم والغايات التي ينبغي أن يخدمها، والجوانب التي يطبق فيها النتائج المترتبة على الكشوف العلمية بالنسبة إلى حياة الإنسان. كل هذه كانت أسئلة جديدة لم يكن من الممكن أن تظهر في ظل التصور القديم للعلم، وكان من المحال أن نجد لها نظيرا عند فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو، خاضوا جميع ميادين الفكر، ولكنهم ظلوا ينظرون إلى العلم على أنه تأمل محض، ويضعون بينه وبين حياة الإنسان العملية واليومية حواجز لا يمكن عبورها. (5)
وكان اقتحام العلم لميدان «النفس الإنسانية والمجتمع البشري» إيذانا ببدء عهد جديد يقترب فيه العلم من صميم المشكلات العملية للإنسان، صحيح أن أقطاب علم النفس وعلم الاجتماع كانوا وما زالوا يلحون على ضرورة الاحتفاظ بالطابع «الموضوعي» لأبحاثهم، ويؤكدون أنهم يحللون الظواهر ويصفونها كما هي موجودة بالفعل، ولا شأن لهم بما «ينبغي» أن تكون عليه، ويضعون فاصلا حادا بين دراسة الواقع كما هو كائن ودراسة القيم التي تنقلنا إلى مجال «ما ينبغي أن يكون»، هذا كله صحيح، ولكن الأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن العلم حين اقترب من ذلك المنبع الذي تصدر عنه القيم كلها - أعني النفسي الإنسانية والمجتمع البشري - كان لا بد أن يتداخل تأثيره مع تأثير الأخلاق. (6)
وفي عصرنا الحاضر ازداد هذا التداخل وثوقا؛ ذلك لأن التغلغل المتزايد للتطبيقات العلمية والتكنولوجية في حياتنا، جعل العلم يتصل اتصالا مباشرا بمشكلات حيوية بل مصيرية، مثل مشكلة البقاء أو الفناء ومشكلة التلوث والتزايد السكاني والأزمات الغذائية، وكلها أمور تقع على الحدود التي تربط بين العلم والتكنولوجيا من جهة، والأخلاق من جهة أخرى.
وهكذا تطورت الأمور بحيث أصبحنا لا نجد مفرا من البحث في النتائج الأخلاقية للعلم، وأصبح العلم في عصرنا الحاضر قوة تؤثر في حياتنا ومسلكنا العملي، لا مجرد إرضاء لحب استطلاعنا، وزال الحد الفاصل بين وظيفة العلم في إلقاء الضوء على ما هو كائن، ووظيفة الأخلاق في إرشادنا إلى ما ينبغي أن يكون.
अज्ञात पृष्ठ