على أن هذا الحل يغفل عددا هائلا من العناصر الأخرى التي تنتمي إلى صميم هذا الموضوع، والتي يرجع الكثير منها إلى عوامل خارجة تماما عن إرادة البلاد الفقيرة؛ فهو يتجاهل - مثلا - أن هناك بالفعل بلادا غنية - كالولايات المتحدة - تدفع للمزارعين إعانات طائلة من ميزانيتها السنوية كيلا يزرعوا حقولهم؛ لأن زراعة هذه الحقول وإنتاج كميات وفيرة من المحاصيل يؤدي إلى انخفاض السعر العالمي لهذا المحصول؛ ولذلك ينبغي أن يظل إنتاجه في حدود معينة لا يتعداها، بغض النظر عن وجود أناس جائعين في مناطق أخرى من العالم. وهو يغفل أن زيادة السكان ترتبط بعوامل من بينها الأمية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، وأن هذه العوامل ترجع أساسا إلى خضوع كثير من البلاد الفقيرة لدول استعمارية كانت حريصة على استمرار تخلفها حتى تضمن استسلامها لها، وأن ذيول هذه السياسة ظلت باقية حتى بعد تخلص هذه الدول من قبضة الاستعمار المباشر.
ولكن قد يكون الأهم من ذلك، من وجهة النظر التي نركز عليها في هذا الكتاب، هو أن هذا الحل - الذي يحصر المشكلة في حدود العلاقة بين الموارد الغذائية وعدد السكان - يتجاهل الإمكانات الهائلة للعلم في إيجاد حلول أفضل لهذه المشكلة المعقدة؛ فلدى العلم - في هذا المجال - قدرات هائلة لم يستغل معظمها بعد؛ كالبحث في وسائل استزراع المناطق الصحراوية الشاسعة، وإسقاط المطر الصناعي، واستخلاص المواد ذات القيمة الغذائية الحالية من طحالب البحار والمحيطات - وهي مورد لا ينفد - وتحويل مخلفات بعض الصناعات إلى مواد غذائية، فضلا عن أن الأرض الصالحة للزراعة في العالم أوسع بكثير من الأرض المزروعة بالفعل، كما أن إمكانات مضاعفة غلة الأراضي الزراعية بأساليب علمية حديثة قائمة على الدوام.
وبعبارة أخرى، فإن العلم لم يقل بعد كلمته النهائية في هذه المشكلة، ولم يعلن يأسه من حل مشكلة الغذاء بأساليبه الخاصة حتى نفكر نحن في حلها عن طريق الإقلال من عدد السكان، وكل ما في الأمر أن العلم يقف - في أغلب الأحيان - مكتوف الأيدي؛ لأن طاقاته وموارده موجهة نحو تحقيق أهداف أخرى بعيدة كل البعد عن هذا الهدف الإنساني. ففي ظل مناخ عالمي يسوده العداء المتبادل بين الدول، وتكتسب فيه كل دولة نفوذها عن طريق القوة الغاشمة، لا يمكن أن تتهيأ الظروف التي تجعل المجتمعات تخصص طاقاتها العلمية من أجل البحث عن موارد غذائية جديدة للملايين الجائعة، بل إن الغذاء نفسه يتحول إلى سلاح في هذا الجو الذي يسود العلاقات الدولية في أيامنا هذه، وقد يكون أحيانا معادلا في تأثيره لأشد الأسلحة فتكا؛ فمن المرغوب فيه - بالنسبة إلى بعض الدول القوية - أن يظل هذا التفاوت بين الجوع والشبع، وبين الندرة والوفرة في الغذاء قائما؛ لأنه يتيح للدول التي تملك من الغذاء ما يفيض عن حاجتها أن تضغط بسلاح التجويع على الدول التي لا تملك من الغذاء إلا القليل؛ حتى تضمن خضوعها وتأمن من تمردها، وفي مثل هذا الجو لا يكون هناك - أصلا - استعداد لحشد الطاقات العلمية في حملة مركزة تستهدف القضاء على الجوع، من نوع تلك الحملة التي أدت في سنوات قلائل إلى صعود إنسان إلى سطح القمر.
وعلى ذلك، فليس في وسع أحد أن يجزم بأن مشكلة الغذاء ترتبط بمشكلة السكان وحدها، وأن كمية الغذاء وعدد السكان يتناسبان تناسبا عكسيا، أو يمثلان كفتي ميزان لا يمكن أن ترجح إحداهما إلا إذا خفت الأخرى، فواقع الأمر هو أن هذا لا يمثل إلا جانبا واحدا من جوانب المشكلة، وأن للمشكلة جوانب أخرى كثيرة؛ من أهمها: نوع العلاقات السائدة بين الدول، وطريقة توجيه الموارد العلمية، وإمكان أو عدم إمكان إيجاد أسلوب إنساني في التعامل بين الجماعات البشرية.
ومع كل هذا، فإنني لست من المؤمنين بسياسة ترك التزايد السكاني يتضاعف دون ضوابط. وإذا كنت فيما سبق قد حرصت على تأكيد وجود عوامل أخرى تؤثر في أزمة الغذاء إلى جانب عامل السكان، وأن من الخطأ الفادح أن نتصور وجود علاقة ثنائية - لا تشترك فيها أية اطراف أخرى - بين كمية الغذاء وعدد السكان، إذا كنت قد حرصت على هذا التأكيد، فإن حرصي هذا لا ينفي إيماني بأن تضاعف أعداد السكان دون ضوابط - وخاصة في البلاد الفقيرة والمتخلفة - هو أمر ينبغي تلافيه.
ولهذا الرأي أسباب ومبررات متعددة، قد لا يكون بعضها متصلا بمشكلة الغذاء على الإطلاق؛ فمن الواجب الحد من التزايد السريع للسكان في هذه البلاد، لأسباب تتعلق أساسا بمستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي يمكن أن تقدم إلى الأجيال الجديدة في المجتمعات النامية. وربما كان الأهم - حتى من هذا كله - الأسباب النفسية والتربوية العائلية؛ فمن الصعب على الأسرة التي تعيش في الربع الأخير من القرن العشرين أن تبدي عناية كافية بعدد كبير من الأبناء، وأن توجههم نفسيا وتؤهلهم لحياة ناجحة في المستقبل، وبطبيعة الحال فإن هذه الصعوبة تتضاعف إذا كان المستوى الاقتصادي لهذه الأسرة هابطا. ولكني أعتقد أنه حتى في المستويات الاقتصادية المرتفعة يندر أن يجد أبناء الأسر الكبيرة العدد نفس الرعاية النفسية والاهتمام الشخصي والإرشاد التربوي الذي يجده أبناء الأسر ذات الأعداد القليلة.
بل إن الإنجاب أصبح في ظل العلم الحديث أمرا يمكن التحكم فيه دون عناء، ومن هنا لم يكن هناك مبرر على الإطلاق لكي نترك الحبل على الغارب في مسائل الإنجاب، وكأن هذا شيء يستحيل التدخل فيه، ثم نجهد أنفسنا بعد ذلك في محاولة الحد من الأضرار المترتبة على تزايد النسل الذي كان يمكن ضبطه بجهود أقل بكثير من تلك التي نبذلها من أجل تلافي نتائجه.
ولقد لاحظت في جميع المناقشات التي تدور - سواء في بلادنا العربية وفي خارجها - أن كل من يناقش هذا الموضوع يسلم تسليما تاما باستحالة فرض قيود إجبارية على أعداد الأبناء، حتى لو كان ممن يؤمنون إيمانا قاطعا بأن زيادة السكان هي وحدها سبب نقص التغذية وسوء الخدمات وهبوط مستوى المعيشة في البلاد المتخلفة، والحجج التي تقال في هذا الصدد هي أن هناك أسبابا نفسية أو اجتماعية - وربما دينية في بعض المجتمعات - عميقة الجذور، تمنع من إجبار الناس، بقوة القانون مثلا، على التوقف في النسل عند حدود معينة. وأنا أسلم بأن الوضع الحالي هو كذلك بالفعل، ولكني أعتقد أن هذا الوضع السكاني يستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن المستقبل سيشهد تغييرا جذريا في موقفنا من هذه المشكلة.
ذلك لأننا لو استقرأنا تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أن الإنسان ظل يفرض على نفسه مزيدا من القيود لكي ينال مزيدا من الحريات، وهذا تعبير يبدو متناقضا؛ إذ كيف تفرض القيود من أجل ضمان الحريات؟ ولكن من السهل أن يفهم القارئ ما أعني إذا ما فسره في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية، وهو إشارات المرور: فنحن نفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور؛ لكي ننال بذلك مزيدا من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أن تعطل إحدى الإشارات - الذي يبدو في الظاهر وكأنه يعطي السائق أو السائر «حرية» السير كما يشاء - يؤدي في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية بما يسببه من تكدس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعا؛ إذ ننتقل من حالة «الحرية» العشوائية أو المتخبطة التي كانت تسود في البداية، إلى نوع من التنظيم أو التقييد الذي يحقق لنا مزيدا من الحرية.
وخلال تاريخ الإنسان الطويل كانت هناك أمور يعتقد أنها ينبغي ألا تمس، ومع ذلك فقد تناولها التنظيم والضبط في الوقت المناسب، فليس في استطاعة الإنسان - مثلا - أن يسير عاريا في الطريق حتى ولو كان يشعر براحة كبيرة في هذا العمل؛ لأنه يؤذي مشاعر الآخرين بهذا السلوك، وليس في استطاعته أن يقول للناس أي شيء يريد قوله؛ لأنه قد يحاكم بتهمة القذف العلني، وليس في استطاعته أن يربح إلى غير حد؛ لأنه - حتى في الدول الرأسمالية - خاضع للضرائب، وقس على ذلك آلاف الأمثلة التي تثبت أن مفهوم الحرية القديم - بمعنى الانطلاق بغير قيود - يخلي مكانه على نحو متزايد لمفهوم آخر هو التنظيم والتقييد الذي يؤدي إلى مزيد من الحرية الحقيقية.
अज्ञात पृष्ठ