ولقد كان التحالف بين العلم القديم وبين تعاليم الكنيسة مؤديا إلى تكوين صورة للعالم كله تمتزج فيها تصورات القدماء مع تفسيرات رجال اللاهوت، وكان أول ما يحرص عليه هؤلاء الأخيرون هو إدخال العناصر الدينية (كما كانوا يفهمونها) في فكرة الناس عن العالم. ومن هنا لم يكن من غير المألوف أن تجد في كتاب علمي صرف حديثا عن عناصر الطبيعة وعن عالم الملائكة والجن في آن واحد، وكان من الطبيعي أن يصور الكون بصورة ترضي رغبة الإنسان في أن يجد حوله عالما متاطفا معه، متجاوبا مع رغباته، محققا للقيم التي يتوق إليها. ولم يكن من غير المألوف أن يختلف بحث الإنسان عن حقائق الأشياء برغبته في أن يراها جميلة متناسقة متجاوبة مع ذوقه ومزاجه، فكان يغير من نظرته إلى العالم بالطريقة التي تحقق له هذه الرغبة، ويخلق بين السعي إلى الحقيقة والبحث عن التناسق والانسجام، ولا يجد غضاضة في أن يؤكد أن النجوم تسير في مسارات دائرية، لا لأنه رصد حركاتها وتأكد من ذلك، بل لأنه يؤمن بأن النجوم كائنات ذات طبيعة أثرية شبه إلهية، ومثل هذه الكائنات التي تتصف بكل هذا الكمال لا بد أن تسير وفقا لأكمل الأشكال وهو الدائرة. كما كان يتمسك في تفسيره للظواهر الأرضية والسماوية بأعداد معينة أحاطتها عقول الناس بقداسة خاصة منذ أقدم العصور، كالعدد عشرة أو سبعة، بغض النظر تماما عما تشهد به التجارب الفعلية بشأن هذه الظواهر.
ومجمل القول: إن العلم في العصور الوسطى الأوروبية قد تمسك بأضعف العناصر في التراث القديم؛ اليوناني والروماني، وأضاف إليها ذلك الجمود والتعصب الذي كانت تتطلبه كنيسة متسلطة لا تريد معارضة أو تجديدا. ومن الجائز أنه كانت هناك - تحت هذا السطح الخارجي - تيارات أخرى خفية ظلت تتراكم حتى خرج تأثيرها إلى النور في عصر النهضة الأوروبية، وهذا بالفعل ما يقول به بعض مؤرخي العلم، الذين يرفضون الاعتراف بأن الإنسان الأوروبي ظل متجمدا طوال ما يزيد عن الألف عام، ويؤكدون أن عوامل التغير كانت موجودة، وكل ما في الأمر أنها كانت بطيئة، تعمل في الخفاء، وأن أديرة الرهبان ذاتها قد شهدت تراكما في المعرفة العلمية ظهر تأثيره بوضوح في تلك النهضة السريعة التي حققتها أوروبا في مطلع العصر الحديث، وربما كان هذا الرأي على قدر من الصواب؛ إذ إن من الصعب أن نفسر سرعة التقدم الذي طرأ على العلم الأوروبي في القرن السابع عشر، والذي نقل أوروبا من التفكير في عالم أرسطو الذي لا يتحرك إلا لأنه يعشق «المحرك الأول»، إلى عالم نيوتن الذي يسوده قانون طبيعي واحد هو قانون الجاذبية الكونية. من الصعب أن نفسر ذلك إلا إذا قلنا بأن عوامل أخرى قد مهدت له، بالرغم من أن تأثيرها لم يكن في البداية ظاهرا.
على أن هذه العوامل المتراكمة لم تكن مجرد تطور ذاتي داخلي للمعرفة العلمية في أوروبا خلال العصر الوسيط، فهذه المعرفة - مهما تطورت - لم تكن تبشر بنتائج ذات قيمة كبيرة، وإنما كان هؤلاء العلماء في حاجة إلى دفعة قوية تأتيهم من مصدر خارجي؛ لكي تنير الطريق، وتكشف لهم عن أفضل السبل المتاحة للبحث العلمي في ذلك الحين، وقد تحقق ذلك بفضل تأثر الحلم الأوروبي بالعلم الإسلامي الذي كان يحتل المرتبة العليا في ذلك العصر.
كانت صورة العلم في العصور الوسطى الإسلامية مختلفة عن صورة الركود والجمود الأوروبي كل الاختلاف؛ ففي العالم الإسلامي كانت هناك حضارة فتية نشطة، تتسم بالإيجابية والتوسع والانفتاح على العالم، وتوائم نفسها مع هذا العالم المتغير الذي وجدت نفسها تتعامل معه، وكان ميدان العلم من أهم الميادين التي حققت فيه هذه الحضارة الوليدة أعظم أمجادها.
ولقد كان التقدم العلمي الذي عرفته الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها مثلا رائعا من أمثلة التفاعل الخصب بين الحضارات؛ فنقطة البداية في هذا العلم كانت ذلك التفتح الفكري الذي ألهم خلفاء المسلمين - في العصر العباسي بوجه خاص - وأن ينقلوا كل ما أتيح لهم من علوم القدماء وفلسفاتهم في ترجمات أمينة تعد من أروع الأعمال التي تحققت حتى ذلك العصر بالمقاييس الأكاديمية الخالصة؛ وذلك إذا أخذنا في اعتبارنا أن اللغة العربية لم تكن حتى ذلك الحين قد كونت لنفسها مصطلحات علمية تكفي للتعبير عن كل ما خلفه القدماء من معارف. وهكذا عرف المسلمون علوم اليونان والفرس والهنود، ولم يترددوا في استخدام كل الذخيرة الضخمة من المعلومات العلمية التي كدستها البشرية حتى ذلك الحين؛ من أجل تلبية حاجات المجتمع الإسلامي الذي كان ينمو ويزداد تعقدا يوما بعد يوم.
ولقد أسهم في هذه الحركة العلمية النشيطة علماء من أصل عربي وآخرون ينتمون إلى مختلف البلاد التي أصبحت تدين بالإسلام، ولكن الجميع كانوا يكتبون ويفكرون بالعربية، وكان الجو الذي يشيع في كتاباتهم إسلاميا بحتا، وكانوا ينظرون إلى أنفسهم - مهما بعدت بلادهم في أقصى أطراف آسيا الوسطى أو الأندلس - على أنهم ينتمون قلبا وروحا إلى تلك الحضارة التي انبعثت إشعاعاتها الأولى من قلب الجزيرة العربية.
ولقد رأى كثير من الكتاب الغربيين في العلم الإسلامي مجرد امتداد للعلم اليوناني، وأكدوا أن كل ما قام به المسلمون في مجال العلم كان يدور في ذلك الإطار الذي حدده اليونانيون قبيل ذلك بفترة لا تقل عن ألف عام، وأراد غير هؤلاء أن يكونوا أكثر إنصافا، فأكدوا أن التفكير العلمي الإسلامي - وإن ظل في إطاره العام يونانيا - قد أعاد النظر في التراث العلمي اليوناني من جديد، وبحث فيه بروح تقدمية فيها قدر من الاستقلال، ولكن المهم في كلتا الحالتين هو أن العلماء المسلمين - وفقا لرأي هؤلاء الكتاب - لم يخرجوا عن فلك التفكير العلمي اليوناني.
وقد يبدو ظاهريا أن لهؤلاء الكتاب بعض العذر في التقريب بين العلم الإسلامي وتراث اليونانيين؛ إذ إن الأسماء اليونانية - مثل أرسطو وأبقراط وجالينوس - كانت تتردد كثيرا في المؤلفات العلمية الإسلامية، كما أن الإطار الفكري لهذه المؤلفات كان يحتفظ بقدر غير قليل من مفهوم العلم عند اليونانيين؛ إذ نجد عند فلاسفة الإسلام نظرة متدرجة إلى العلوم، تعلي من قدر العلم النظري البحت وتقلل من شأن العلم التطبيقي، وتجعل مكانة أي علم مرتبطة بمكانة الموضوع الذي يبحث فيه. ولكن كتابات الفلاسفة كانت تسير في طريق وممارسة العلماء كانت تسير في طريق آخر مختلف كل الاختلاف؛ إذ إن الاهتمام بالعلم التجريبي وباستخدام البحث العلمي من أجل فهم قوانين الطبيعة المحيطة بنا، كان هو الهدف الرئيسي من أعمال علماء مشهورين مثل جابر بن حيان في الكيمياء، والحسن بن الهيثم في البصريات (علم الضوء)، والبيروني في الفلك والرياضيات، والرازي وابن سيناء وابن النفيس في الطب، ومن الصعب - إذا كان المرء منصفا - أن يصدق الحكم القائل بأن الإطار الذي كان يدور فيه هؤلاء العلماء الكبار كان إطارا يونانيا صرفا، وأنهم لم يضيفوا إلى الحضارة الإنسانية إضافات أصيلة تنبع من طبيعة البيئة الثقافية التي عاشوا فيها.
وعلى أية حال، فإن الاعتراف يزداد الآن - بين مؤرخي العلم الغربيين أنفسهم - بأن العلم الإسلامي لم يكن مجرد جسر عبر عليه العلم اليوناني لكي ينتقل إلى أوروبا الحديثة، أعني مجرد أداة توصيل بين الحضارة الأوروبية القديمة والحضارة الأوروبية الحديثة. وكما حدث في حالة العلاقة بين اليونانيين - في مبدأ ظهور علمهم وفكرهم الفلسفي - وبين الحضارات الشرقية السابقة عليهم، حين أخذ الغربيون يتنبهون في الآونة الأخيرة على نحو متزايد إلى أن اليونانيين مدينون للشرق القديم بأكثر مما كانوا يظنون من قبل، فكذلك حدث في حالة العلاقة بين العلم الإسلامي والعلم اليوناني أن بدأ مؤرخو العلم الغربيون يدركون على نحو متزايد أهمية الإضافة التي أضافها المسلمون إلى العلوم التي ورثوها عن الحضارات السابقة عليهم؛ أي إنهم في الحالتين أصبحوا أكثر واقعية وأقل مبالغة في تقدير دور «المعجزة اليونانية»، وأميل إلى الاعتراف للشعوب الشرقية بحقها في أن تفخر بالدور الذي أسهمت به من أجل دفع عجلة العلم إلى الأمام.
والواقع أن أعظم ما يمكن أن يفخر به العلم الإسلامي - في عصر ازدهاره - هو أنه أضاف بالتدريج إلى مفهوم العلم معنى جديدا لم يكن يلقى اهتماما بين اليونانيين، وهو استخدام العلم من أجل كشف أسرار العالم الطبيعي وتمكين الإنسان من السيطرة عليه؛ فقد عرف اليونانيون الرياضيات وتفوقوا فيها، ولكنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونها لحل المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان. وفي مقابل ذلك كان المسلمون بارعين في استخدام الأرقام ووضع أسس علم الحساب الذي يمكن تطبيقه في حياة الناس اليومية، وكان اختراعهم للجبر، وتفوقهم في الهندسة التحليلية وابتكارهم لحساب المثلثات، إيذانا بعصر جديد تستخدم فيه الرياضة للتعبير عن قوانين العالم الطبيعي، وتطبق فيه مبادئها من أجل حل مشكلات المساحة الأرضية، وحساب المواقيت وصناعة الأجهزة الآلية. وكذلك كانت كشوفهم الفلكية مرشدا هاما للملاحين والجغرافيين، وساعدت على فهم أفضل للعالم الذي نعيش فيه، أما بحوثهم الطبية والصيدلانية فكانت ذات دلالة تطبيقية لا تخطئها العين.
अज्ञात पृष्ठ