أدرك الباحثون أن الكلام عن «معجزة» يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول إن اليونانيين قد أبدعوا فجأة - ودون سوابق أو مؤثرات خارجية - حضارة عبقرية في مختلف الميادين - ومنها العلم - هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثير بعضها في بعض. وعلى حين أن لفظ «المعجزة» يبدو في ظاهره تفسيرا لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرا لأي شيء، بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير؛ فحين نقول: إن ظهور العلم اليوناني كان جزءا من «المعجزة اليونانية» يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور العلم اليوناني.
ولا جدال في أن المكان الذي ظهرت فيه أولى المدارس الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية السابقة؛ فلم تظهر المدرسة الفكرية الأولى في أرض اليونان ذاتها، وإنما ظهرت في مستوطنة «أيونية» التي أقامها اليونانيون على ساحل آسيا الصغرى (تركيا الحالية)؛ أي في أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق ذوات الحضارات الأقدم عهدا، وهذا أمر طبيعي لأن من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من اليونانيين إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانا أخرى في حروب طويلة، دون أن يحدث تفاعل بين الطرفين. (ج)
اقتنع العلماء بأن من المستحيل تجاهل شهادة اليونانيين القدماء أنفسهم، فقد شهد فيلسوفهم الأكبر «أفلاطون» - الذي كان في الوقت ذاته عالما رياضيا - بفضل الحضارة الفرعونية على العلم والفكر اليوناني، وأكد أن اليونانيين إنما هم «أطفال» بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة. وهناك روايات تاريخية كثيرة تحكي عن اتصال كبار فلاسفة اليونانيين وعلمائهم - ومنهم أفلاطون ذاته - بالمصريين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلا لتلقي العلم.
والمشكلة الكبرى في هذا الصدد هي أن الأدلة المباشرة على هذا الاتصال العلمي قد فقدت؛ فعلى حين أن كثيرا من الإنجازات العلمية اليونانية قد ظلت باقية، فإن ما أنجزته الحضارات الشرقية - في باب العلم النظري أو الأساسي - لا يكاد يعرف عنه شيء بطريق مباشر، ومعظم ما نعرفه عنه غير مباشر؛ أي من خلال التطبيقات العملية لهذا العلم كما تتمثل في الآثار الباقية من هذه الحضارات، ومن الأسباب التي يعلل بها البعض ضياع العلم الشرقي القديم أن الفئة التي كانت تمارسه كانت فئة الكهنة التي حرصت على أن تحتفظ بمعلوماتها العلمية سرا دفينا، تتناقله هذه الفئة جيلا بعد جيل، دون أن تبوح به إلى غيرها، حتى تظل محتفظة لنفسها بالقوة والنفوذ والمهابة التي تولدها المعرفة العلمية، وحتى تضفي على نفسها - وعلى الآلهة التي تخدمها - هالة من القداسة أمام عامة الناس الذين لا يعرفون عن العلم شيئا، وفضلا عن ذلك فهناك كوارث طبيعية وحروب كثيرة وحرائق متعمدة أو غير متعمدة؛ أدت بدورها إلى ضياع ما يمكن أن يكون قد دون من هذا العلم في كتب. ونتيجة هذا كله هي أن معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلم القديم تكاد تكون منعدمة، على حين أن معظم ما أنجزه اليونانيون ظل باقيا، مما ساعد على نسبة الفضل الأكبر في بدء ظهور العلم إلى اليونانيين، وجعل من المستحيل إجراء مقارنة بين العلم اليوناني والعلم الشرقي القديم، أو تبيان مقدار ما يدين به اليونانيون في علومهم للحضارات الكبرى التي سبقتهم.
تلك هي الملاحظات التي نود أن نعلق بها على التصور التقليدي الشائع للعلاقة بين العلم اليوناني وعلوم الحضارات الشرقية، وهي تؤدي بنا إلى القول بأن هذا التصور يفتقر إلى الدقة، وربما كان مرتكزا على أسس غير علمية، ولكن الصعوبة الكبرى التي تجعل من العسير رفضه كلية هي - كما قلنا - النقص الشديد في معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلوم التي توصل إليها الشرقيون القدماء؛ ولذا لا يجد الباحثون في هذا الموضوع مفرا من الاحتفاظ بقدر من هذه الصورة، مع اقتناعهم - في قرارة أنفسهم - بافتقارها إلى الدقة.
وعلى أية حال، فإن نفس هذه الدوافع العملية التي تنسب إلى الشرقيين القدماء، هي التي يمكن أن تكون قد أدت إلى ظهور بدايات العلم النظري لديهم؛ فهناك ارتباط وثيق بين عملية البناء - بناء المساكن أو القصور أو المعابد - وبين ظهور علم الهندسة؛ إذ إن من الضروري حساب مساحة البناء من أجل معرفة كمية المواد اللازمة لبنائه وعدد العمال اللازمين لإنجازه، كما أن قوالب الحجارة لن تتلاصق إلا إذا كانت مستقيمة، ولا بد أن تكون جدران البناء كلها قائمة الزوايا لضمان سلامته. وهكذا ترتبط عملية البناء بمعان أساسية في علم الهندسة كالخط المستقيم والزاوية القائمة وحساب المساحات.
ومن ناحية أخرى، فقد كانت شعوب معظم الحضارات الشرقية القديمة شعوبا زراعية؛ لأن هذه الحضارات ظهرت - كما قلنا - على ضفاف أنهار كبرى، وكانت عملية الزراعة تتطلب - من أجل نجاحها - معلومات فلكية كثيرة؛ إذ إن من الضروري حساب المواسم الزراعية حتى يمكن زرع المحصول في الوقت المناسب، ولا بد من توقيت دقيق لعمليات وضع البذور وري الأرض وجني المحصول ... إلخ، فضلا عن ضرورة حساب مواعيد فيضان النهر والتغير في حالة الطقس. وهكذا كان من الضروري أن تعرف هذه الحضارات حساب الفصول والسنين، وكانت أدق التقويمات الفلكية هي التي عرفتها حضارات زراعية عريقة كالحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.
وكان من العوامل الأخرى التي أدت إلى تقدم علم الفلك في هذه الحضارات أن كثيرا من شعوبها كانت تمارس التجارة، وتحتاج إلى الملاحة البحرية على نطاق واسع؛ ومن ثم كان الرصد الفلكي الدقيق ضروريا في عمليات توجيه السفن في أعالي البحار.
وأخيرا، فقد كان للمعتقدات والأديان الشعبية تأثير هام في نمو معارف علمية كثيرة، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أهمية العقيدة الدينية عند الفراعنة في عمليات البناء الهائلة - التي تحققت تلبية لمطالب دينية - كالأهرامات والمعابد الضخمة، وكذلك الحاجة إلى تخليد الإنسان، والرغبة في قهر الإحساس بفنائه التي حفزتهم إلى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيط، والإيمان بالتنجيم ومعرفة الطالع من التطلع إلى النجوم، الذي أعطى بعض الناس - في تلك المرحلة القديمة - طاقة هائلة من الصبر أتاحت لهم أن يقوموا بملاحظات وعمليات رصد مرهقة، أضافت إلى رصيد البشرية في ميدان الفلك معلومات لها قيمة لا تقدر. ولنذكر في هذا الصدد أن الارتباط بين التنجيم وعلم الفلك قد ظل قائما في أوروبا ذاتها حتى مطلع العصر الحديث، وأن كبار علماء الفلك حتى القرن السابع عشر كانوا منجمين في الوقت ذاته، ولم يكونوا يجدون أي تعارض بين الملاحظة الفلكية المتأنية الدقيقة وبين البحث عن طالع حاكم، أو التنبؤ بنتيجة معركة حربية وشيكة الحدوث من خلال النجوم.
في كل هذه الحالات كانت هناك مقتضيات عملية حتمت على الحضارات الشرقية القديمة البحث في علوم معينة، وما دامت هذه الحضارات قد نجحت في تحقيق تلك المقتضيات العملية نجاحا رائعا، فلا بد أن نستنتج أن حصيلتها العلمية في هذه الميادين لم تكن ضئيلة. وإنه لمن الصعب أن يتصور المرء أن أولئك العباقرة الذين بنوا الأهرامات بتلك الدقة المذهلة في الحساب، بحيث لم يخطئوا إلا بمقدار بوصة واحدة في محيط قاعدة الهرم الأكبر البالغ
अज्ञात पृष्ठ