أمره تلميذًا للإمام مالك، ومتّبعًا لمذهبه، واحد رجال مدرسته، وما زال كذلك إلى سنة ١٩٥ هـ حيث قدم بغداد قدمته الأخيرة، فهناك كَانَ قد بلغ مؤسس مذهب يدعو إليه.
وكان أقوى ما أثّر فيه اتصاله بأصحاب الإِمام أَبي حنيفة واستفادته من كتب محمَّد بن الحسن، وعلمه بطريقة أهل العراق، إذ رأى أَنَّ طريقتهم ومنهجهم لا يحسن أخذها كلّها ولا تركها كلَها، فعندهم القياس وهو منهج صحيح، ولكن في نظر الشَّافعي ليس على إطلاقه، بل لا بد أَن يتأخر القياس عن الأحاديث الصحيحة حتى ما كَانَ منها خبر آحاد، وعندهم طريقة تفريع المسائل الكثيرة من أصولها، والاستدلال بالعدالة والمصلحة والاستحسان، وإلحاق الشبيه بالشبيه، وما بين الأشياء من موافقات وفروق، والوثوب إِلى المناظرة وتأليف الحجج والبراهين والأدلة، فاقتبس من ذلك أحسنه وأضافه إِلى ثروته الحجازية من اللغة والأدب أولًا، والحديث والإجماع وطريقة الحجازيين في الاستنباط ثانيًا، فألّف بينهما بشخصيته الفذّة، فأخرج مذهبه في العراق ودعا إِليه.
وتوسّع في استعمال الحديث والاستدلال به أكثر مما فعل مالك وأَبو حنيفة، وقد حَدَّ من الرأي والقياس، وضيّق سلطتهما، ولذلك كَانَ من أنصاره أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية من كبار المحدِّثين، كما أَنه كَانَ أقرب إلى نفوس الحنفية من المحدَّثين وفقهائهم، لأنَّه لم ينكر القياس جملة، بل أخذ به وقعّد له القواعد حتى عَدَلَ بعضُ فقهاء العراق عن مذهب أَبي حنيفة إلى مذهبه.
وكان الشَّافعيُّ أول من أعطى للحديث مكانته الأولى في الفقه، وأَلَّح إلحاحًا شديدًا في الاستدلال بالحديث، فكانت نظريته حدثًا تاريخيًا جعل الناس يتجهون للرجوع للحديث بعد أَن كَانَ الاتجاه قبله في التشريع نحو العمل المجمع عليه حينًا، وأقوال الصَّحابة والتابعين والرأي حينًا آخر، ومنذ ذلك الوقت أَخذ الفقه والحديث مسلكا جديدًا في المذاهب الفقهية.
* * *
1 / 19