تمهيد
أنا واللغة
ملت منذ حداثتي إلى الكتابة نثرا وشعرا. وأخذ هذا الميل يقوى في على توالي السنين، مصحوبا برغبة شديدة في توخي الصحيح الفصيح واجتناب السقيم الركيك في كل ما أكتبه، على قدر ما يستطيعه جهدي وتصل إليه معرفتي. وظل ذلك دأبي مدة أربعين سنة قضيتها في خدمة اللغة مشتغلا بها في التعليم والنظم وترجمة الكتب وكتابة المقالات في كثير من الصحف والمجلات. فكنت أسر كل السرور بمطالعة ما يكتبه علماء اللغة في الانتقاد، مستعينا به على إصلاح ما أكون قد ارتكبته من الغلط على اختلاف وجوهه وأنواعه، وأستاء جد الاستياء من تعنت بعض الكتاب وعنادهم واستهانتهم بجهابذة النقد وإصرارهم على ارتكاب الخطأ الذي نبهوهم إليه وتصدي طائفة منهم لتغليط المنتقدين وتخطئة المصلحين واتهامهم بالجفاف والجمود.
ومع كل ما طالعته في أثناء هذه السنين الطويلة من الرسائل والمقالات التي وضعها النقاد وأشاروا فيها إلى الخطأ الشائع المستفيض في أقلام الكتاب والشعراء وعلى ألسنة المتكلمين والخطباء، كنت أرى بعين الحزن والأسف أن الفائدة المرتجاة من نقد الناقدين وإصلاح المصلحين ضعيفة الأثر، قليلة الشيوع، وأن الخطأ اللغوي يتسع كل يوم نطاقه ويرتفع فوق أرباب اليراع رواقه.
لغة الدواوين ولغة الصحف
وحدث أن حكومة السودان انتدبتني منذ عشرين سنة للعمل في وكالتها بالقاهرة، وعينتني في القسم القضائي الذي أنشئ ليكون صلة بين حكومتي مصر والسودان في: الدعاوى، والأحكام الشرعية والمدنية والجنائية، وأمور الطلاق والنفقات والتركات، وعرائض الشكاوى، وغيرها من المسائل القضائية التي تدور عليها المفاوضات كل يوم بين الحكومتين بواسطة هذا القسم. وهي مكتوبة كلها تقريبا باللغة العربية، ولكن بذلك الأسلوب الذي عبثت به الركاكة ولعبت وأكلت عليه السخافة وشربت، وهو المعبر عنه بلغة الدواوين. ولا يقل مجموع ما وقفت عليه في هذه المدة عن أربعين ألف كتاب أو رسالة، كلها سواسية في كثرة اللحن وقلة التدقيق في اختيار الألفاظ الصحيحة والتراكيب الفصيحة. وقد بذلت جهدي في الإصلاح والتنقيح، ولكنني كنت لسوء الحظ كمن يحاول القبض على الهواء أو الكتابة على صفحات الماء. واتضح لي بعد البحث والمقابلة أن الخطأ اللغوي المتفشي بالصحف والمجلات مهما يعظم ويشتد، فهو ليس شيئا مذكورا في جانب الخطأ الآخذ بخناق لغة الدواوين، وأن الصحيح في هذه يوشك أن يكون أقل من الخطأ في تلك.
وفي خريف سنة 1921 أصدر أبناء خليل وحبيب «مجلة المضمار» الأسبوعية، المصورة للألعاب الرياضية والفنون الجميلة، فعنيت بتهذيب ما ينشر فيها من الأنباء والمباحث. وفي أثناء اشتغالي بإصلاح ما يرد من المقالات قبل نشره في المجلة، كنت أرى غلطات تكاد تكون محدودة محصورة، تتكرر هي بنفسها من وقت إلى آخر، ويكثر ورودها على أقلام كتاب الصحف والمجلات وغيرهم من الأدباء المنصرفين إلى الترجمة والتأليف في هذه الأيام.
تذكرة الكاتب
وظلت هذه الملاحظة تعرض لي كل يوم، حتى نبهني تكرارها إلى وجوب الاقتداء بمن تقدمني في وضع كتاب أنشره في «مجلة المضمار»، فصولا متوالية أضمنها كل ما أعثر عليه من الكلمات والتراكيب التي يبدو لي أن بعض الكتاب يخطئون - في استعمالها - وجوه الصحة، فأصلحها بإثبات ما أظنه صوابا أو ما أراه واردا على أصح الوجوه وأرجح الآراء.
فشرعت فيه في أواخر سنة المضمار الأولى، وفي الأجزاء التي صدرت منه في سنته الثانية بعنوان: «تذكرة الكاتب».
अज्ञात पृष्ठ