ولكنه على مخالفاته وشكوكه لم يتمرد قط في كفر ولا عقيدة، إلا في سورة الشباب أيام أن نظم قصيدته في «برومثيوس» الإله الثائر على رب الأرباب، وأيام اعتلاج المناظر الأولى من رواية فوست في ضميره وخياله، ثم ثاب إلى مذهب يقارب مذهب ابن العربي الذي يقبل في قلبه كل صورة ويجمع فيه «دير الرهبان ومرعى الغزلان». فخرج من رواية ولهلم ميستر بجماع مذهبه في الأديان كافة وهو احترام الجميع، فكان يعتقد أن الأديان ثلاثة: واحد يدعوك إلى احترام ما فوقك وليس أسهل منه، وآخر يدعوك إلى احترام ما يقاربك وهو أصعب من ذاك، وثالث يدعوك إلى احترام ما دونك وهو المسيحية. ولن يكمل دين المرء حتى يؤلف بين هذه العقائد جميعا فيحترم كل شيء ويرضى عن كل شيء، ونحن هنا من طبيعة جيتي في صميم الصميم! فلا تمرد ولا استخفاف بل تبجيل وتسليم.
واشتهر جيتي بالسخر الخفي في أحاديثه وفي تواليفه، ولا بد أن يسخر رجل عاش كما عاش وشهد كما شهد واستعرض الدنيا استعراضه لحقائقها وعجائب أكاذيبها، إلا أنه سخر لا استخفاف فيه ولا صغار ولا رعونة، وربما نفعته في هذا طبيعة المحافظة الراسخة فيه، فعودته التهيب ومداراة الأمور.
وإنك لتعجب لهذا الذهن الكبير كيف كان يضيق به النظر كلما باغته التغيير فأجفل من المباغتة وسارع إلى الإنكار في غير موجب للإنكار، فهذا الذهن الذي يتناول المسائل الجسام في سهولة ورفق لم يلبث أن سمع بإباحة الزواج باليهوديات حتى ثار ثائره واستعظم الأمر كأنما فيه ثورة على نظام الوجود . قال موللر: «ما كدت أدخل على جيتي في نحو الساعة السادسة ... حتى بادرني الشيخ العزيز ببيان مسهب عن الغضب الذي خالجه من قانوننا الجديد الذي أباح الزواج باليهود ... فقد أبدى أشد المخاوف وتوقع أوخم العواقب وقال: لو كان المراقب العام رجلا من ذوي الأخلاق لآثر أن يعتزل منصبه على أن يبارك اليهود في الكنيسة باسم الثالوث المقدس!»
كان هذا في سبتمبر سنة 1823، أي بعد موت زوجته بسبع سنوات، فخليق بهذه الغضبة العجيبة أن تعرفنا سر رضاه بكرستيان فلبيوس قبل الزواج وسر معاشرته إياها على خلاف العرف في بيئته وزمانه، فلم يكن مسلكه هذا اجتراء على تغيير مألوف الناس بل كراهة منه لتغيير مألوفه، وكل ما في الأمر أنها امرأة استطاب العيش معها فلم يقدر على فراقها، فقبل من أجل ذلك أن يغضب من أغضب وهو قانع مستريح.
هذه الراحة هي قوام هذه العبقرية في كل رأي وفي كل مسلك وفي كل خطة، فما التقوى؟ وما الخلق؟ وما الفن؟ كلها وسائل للسلام أو للتوازن والطمأنينة في النهاية؛ «فالتقوى ليست غرضا لذاتها ولكنها وسيلة للترقي بسلام النفس إلى أرقى مراتب التهذيب ...» والشعر وسيلة نتخذها لسد خلل الحياة وترك التبرم والشكاية، والفن «ليس غيره وسيلة مأمونة للنجاة من العالم وليس غيره وسيلة مأمونة للحلول فيه»، وقواعد الآداب والأخلاق: «محاولة دائمة لإقرار السلام بين مطالبنا الفردية وقانون العالم المستور» فكل ما ليس فيه سلام ولا أمان فليس فيه خير ولا إحسان!
نعم إنه كان يوصي بالعمل ولا يكف عنه، ونعم إنه كان يعتبر العمل سبيل الخلاص والتكفير لأنه سبيل تعريف الإنسان بحقيقة نفسه ولا خلاص للنفس بغير هذه الحقيقة. ونعم إنه استرسل في هذا المعنى حتى قال: إنه لا يدري ماذا يصنع بالخلود الأبدي الذي لا عمل فيه ولا واجب، ولكننا يجب ألا ننسى أبدا أن هذا العمل لا ينفي الراحة والطمأنينة، فكل عمل لجيتي فمشروط فيه أن لا يجهد ولا يزعج وأن يكون عفو الطبع والسليقة: «وليذهب كل إلى واجبه كالنجم في غير عجلة ولكن في غير فتور» كما قال في إحدى مقطوعاته، وما الواجب الذي يذهب إليه؟ هو عند جيتي مطالب كل يوم، فمن قام بمطالب الحاضر يوما بعد يوم فليس عليه واجب أقدس من ذاك، أو كما قال في وصية أخرى: «كن أمينا لحظة بعد لحظة فهذا خير ما تفعل.» فالمرء لا يذهب مع جيتي بعيدا في طلب الله ولا في طلب الواجب، فهو يجد الله ويجد الواجب حيث كان!
أما حكم الأخلاق عنده في تناول طيبات الحياة فهو الحكم المنظور عند رجل يؤمن بالحسن ويؤمن بالواقع الراهن كل هذا الإيمان، فالدنيا حقيقة وليست بوهم ولا عبث، بل هي حقيقة حتى في نظر الله وليست كذلك في نظر الإنسان وحده، وإلا «فعيشك سبعين سنة لن يساوي فتيلا إذا كانت حكمة الدنيا بأسرها حماقة عند الله»، ولقد قال: «إن الكل باطل معناه أن الكل ليس بباطل.» وما دامت الدنيا حقيقة وليست بوهم ولا عبث ففيم نعرض عنها ونزهد في طيباتها؟ فكل ما أباحه اليوناني القديم لنفسه فهو مباح في عرف جيتي بغير تلجلج ولا معاناة، و«لنقدم على السعادة» كما قال ولنعرض عن المعرضين.
فهو الرجل الإغريقي المثقف في محللاته ومحرماته، وقد كان له رمزان ينظر إليهما كثيرا ويأنس إليهما في بيته: وهما تمثال جوبيتر وجمجمة إنسان، وما نحسبه كان يترجم عن نظرته الطبيعية إلى الحياة والموت بأبلغ من هذين الرمزين.
لقد أوصى جيتي بالتسليم ونكران النفس، ولكن أي تسليم وأي نكران؟ فأما التسليم فهو الرضى بالحاضر لكي تتملاه إذ كان السخط عليه حائلا بينك وبين تمليك إياه، وأما النكران فهو ترك القليل في سبيل الكثير، وليس هو التعويل على ترك هذا وذاك، فخذ الحاضر كما يجيء إليك ولا تأس على الماضي: «فليس في هذه الدنيا ماض يؤسف عليه وإنما كل ما فيها جديد دائم»، ولا جدوى تعود علينا من وراء الحزن على ما يزول، «فإنما نحن هنا لنصبغ الزائل بصبغة الدوام، ولا يتاح لنا ذلك إلا بتقدير الزائل والدائم على السواء »، وفي آية من آياته الشعرية الخالدة يقول: «كيف تراك تجدد لنفسك بلا وناء؟ إنك مستطيع ذلك، مستطيعه بأن تجعل لنفسك نصيبا من السرور بالعظمة، فإن كل عظيم لا يزال أبدا جديدا حارا مملوءا بالحياة، وفي الحقير ترتعد أوصال الرجل الحقير.» فالعظمة في الإنسان وفي الطبيعة هي الخلود أو الحياة التي لا تني تتجدد، وعلى الإنسان أن يكون كالطبيعة وليس عليه أن يخلق مذاهب الأخلاق من الهواء، أو كما قال: «إن جميع المثل العليا لن تعوقني أن أكون ما خلقت، أي أن أكون طيبا ورديئا كهذه الطبيعة.» فإذا حدثه أحد عن الضمير صاح به: «وما الضمير؟ وما الذي يتقاضانا إياه؟» وليس معنى هذا رفض الضمير والزراية به، وإنما معناه أننا نحن قوام الضمير بما نختار، ولسنا أسارى الضمير على الكره والاضطرار. •••
وبعد فقد يكون من اللغو أن نسهب في شرح آراء جيتي السياسية وموقفه من مبادئ الثورة الفرنسية التي حضر عهدها، فإن تلك الآراء واضحة كل الوضوح فيما تقدم فلن تكون فيها مخالفة لما فطر عليه من السكينة والعزلة الفردية وفتور العاطفة بينه وبين من حوله، ولكننا ننقل هنا فلسفته العلمية عن النظام الذي يراه في سنن الطبيعة؛ فهو يقول في كتابه عن علم تركيب الأجسام الحية إنه: «كلما نقص تركيب البنية عظم التشابه بين أجزائها وعظم التشابه بين كل جزء وبين مجموعها، وكلما كملت البنية عظم الخلاف بين الأجزاء؛ ففي الحالة الأولى تكون الأجزاء تكريرا متفاوتا للمجموع، وفي الحالة الثانية تختلف الأجزاء عن المجموع كل الاختلاف.
अज्ञात पृष्ठ