قال جيتي في إحدى أغانيه: «ذهبت إلى الغاب لا أدري فيم ذهبت، وما كنت أريد شيئا ولا عناني أن أريد. فإني لأرسل النظر في ظلالها إذا زهيرة هنالك وضيئة كأنها نجم، مليحة كأنها عين، هممت أن أقطفها فسمعتها تقول في لطف ورخامة: أقاطفي أنت لأذوي في يديك بعد هنيهة؟ فحنوت عليها ورفعتها من جذورها ونقلتها إلى حديقة تصاقب المنزل البهيج، وهنالك غرستها من جديد في مكان فريد، فترعرعت ولم يفارقها الرواء.»
بتنيا برنتانو.
فرتز ابن البارونة فون شتين كما صوره جيتي.
هذه الزهرة التي تغنى بها جيتي هي الفتاة «كرستيان فلبيوس» التي انتهت علاقته بها إلى زواج وعشرة رضية، وليست الأغنية كلها شعرا وخيالا لأنه في الحقيقة لقي الفتاة أول لقاء في حديقة فيمار المشهورة، ومن هناك قطفها ونقلها إلى المكان المصاقب للمنزل البهيج!
وكانت في الثالثة والعشرين وهو في التاسعة والثلاثين حين سيقت إلى طريقه، أو حين تعمدت أن تلقاه لترفع إليه عريضة لأخيها القصصي الناشئ يلتمس فيها عملا يرتزق منه، فراعته الفتاة وراعها، واشتبكت بينهما المودة، ثم نقلها هي وأمها إلى منزله بعدما ولدت له أكبر أبنائه الذي سماه أوغست على اسم الأمير. ولكنه لم يكتب كتاب زواجه بها إلا بعد ثماني عشرة سنة من لقائها؛ إذ أغار الفرنسيون على بلاده فأشفق أن يموت أو تموت على غير وثيقة مشروعة.
وكانت كرستيان على قسط وافر من الصباحة كأنها «رب الخمر في صباه» كما وصفتها أم شوبنهور الفيلسوف، وكانت على هيامها بالسرور وامتلائها بنشوة الصبا خير من يسوس البيت ويعين الزوج في عمله ولو كان من قبيل عمل جيتي في العلم والأدب؛ فقد كان يغنيها العطف عن الفهم حين تعضل عليها مسائله وأفكاره، إلا أنها لم تكن من الجهل بحيث صورتها «بتينا» والبارونة فون شتين عن حسد وغيرة. فإن قصائد جيتي التي خاطبها بها شواهد على حظ من الثقافة والفطنة غير يسير، ويقول الثقات في اللغة الألمانية إن قصائد الفصول الأربعة والرسائل الرومانية وما شاكلها من الأشعار التي نظمها في ظل هذه العاطفة تفيض بحلاوة الأسلوب ورنة الصدق والغبطة. وكلام جيتي يدل على الحب أوضح دلالة؛ فقد كتب من إيطاليا إلى صديقه هردر يقول له وما هو بالمسرف في وصف عواطفه: «إن الذين خلفتهم بعدي لأعزاء جدا علي، ولا أكتمك أنني شغف بالفتاة أيما شغف. وما علمت مبلغ نياطي بها إلا يوم بعدت عنها.» وقال في أبيات: «لطالما ضللت السبيل ورجعت إلى سوائه، ولكنني ما شعرت قط بمثل هذه السعادة؛ فسعادتي كلها رهينة بهذه الفتاة، فإن كانت هذه ضلالة أخرى فناشدتك أيتها الأرباب إلا ما أعفيتني من ألم العلم بها، فلا أطلع عليها قبل يوم الحمام.»
كرستيانا فلبيوس زوجة الشاعر.
وامتزجت الفتاة بقريحته فأثبتها في روايته الكبيرة «ولهلم ميستر» باسم تريزة. وفاض بالقصائد الغنائية والخواطر العذبة، ولوحظ أن أيامه معها كانت كأخصب أوقاته وأسخاها بالشعر والبحث في جميع أطوار حياته، وليس ذلك لأنها كانت تشاركه في نظراته الرفيعة وتساجله في مراميه البعيدة، بل لأنها أراحته وأهنأت قلبه وصقلت حواشي عيشه فأقبل على النظم والبحث بنفس قريرة وقريحة طليقة، وحسبه ذلك من عشيرة ملازمة أيا ما كان مرتقاها من التهذيب والثقافة.
إلا أن الناس قد نقموا منه أنه أسكنها بيته وإن لم ينقموا منه أنه اتصل بها، وربما كانت نقمتهم هذه لأنهم يدارون المداراة ويكرهون المسائل المكشوفة، أو لأن الفتاة كانت من طبقة وضيعة ولم تكن من طبقته ولا على غراره؛ إذ كانت عاملة في مصنع للأزهار الورقية وكان أبوها موظفا صغيرا اشتهر بإدمان الخمر ورثاثة الحالة. وإلا فما كانت الأخلاق يومئذ تتحرج عن هذه الإباحة، وما عرف الناس عهدا بلغت فيه الثورة على العرف ما بلغته إبان الثورة الفرنسية في الأقطار الأوروبية. ومع هذا تسمح معه أصدقاؤه المقربون ولم يهجروا بيته ولا أوصدوا بيوتهم في وجه امرأته، وكان الأمير في مقدمتهم؛ فقبل أن يشرف على تعميد وليدها ووليد صديقه.
وكان «جيتي» لا يذكرها لأمه حتى بلغ عمر الولد الصغير سنتين، فلما ذكرها لها في رسائله فرحت الجدة بحفيدها وطفقت تغدق عليه الهدايا واللعب ولا تمل السؤال عنه والحدب عليه، وما كان لها أن تفعل غير ذلك وهو حفيدها وسليل البقية الباقية من ذريتها؛ فقد مات جميع أبنائها أطفالا وماتت بنتها «كورنيليا» التي جاوزت الطفولة في عنفوان شبابها، ولم يبق إلا ولدها جيتي وهو لم يتزوج؛ فهي خليقة أن تنسى كل شيء وتعطف على ولده وزوجه حيثما كان له ولد وزوج، وقد تزايد تعلقها بالفتاة بعدما علمت من لهفتها على زوجها وسهرها على تمريضه والترفيه عنه في المرض الخطير الذي أصابه في الثانية والخمسين، وأيقنت من شدة إخلاصها له بعدما علمت أنها حمته بنفسها من عدوان الجند الفرنسيين السكارى الذين هجموا على بيته وهموا أن يبطشوا به.
अज्ञात पृष्ठ