Tadāruk Baqiyyat al-ʿUmr fī Tadbir Sūrat al-Nasr
تدارك بقية العمر في تدبير سورة النصر
प्रकाशक
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
संस्करण संख्या
السنة السادسة والثلاثون العدد (١٢٥) ١٤٢٤هـ/٢٠٠٤م
शैलियों
مقدمة
الحمد لله الذي اختص بالبقاء والدوام، وكتب على جميع الخليقة الفناء والزوال، والصلاة والسلام على الهادي البشير، والسراج المنير، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل ... أما بعد:
فإن الله ﷿ خلق الخليقة وجعل الموت والحياة للابتلاء والامتحان، كما قال ﷿ ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ ١.
وحكم بأن مصير الخلائق كلها ومردها إليه سبحانه ليجازي كلًا بما عمل كما قال ﷿: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ ٢.
وجعل هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، يتزود فيها المؤمن العمل الصالح للدار الآخرة: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ٣، وجعل الدار الآخرة دار الجزاء والثواب أو العقاب، وأرسل ﷿ الرسل، وأنزل عليهم الكتب، إرشادًا للخلق وإقامة للحجة عليهم، كما قال ﷿: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ ٤.
ولم يلحق رسول الله ﷺ بالرفيق الأعلى إلا بعد أن بلغ أمته البلاغ المبين، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها سواء لا يزيغ عنها إلا هالك وقد أعلمه ربه - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه بدنوّ أجله
_________
١ سورة الملك، آية: ٢.
٢ سورة البقرة، آية: ٢٨١.
٣ سورة الشعراء، الآيتان: ٨٨ - ٨٩.
٤ سورة النساء، آية: ١٦٥.
1 / 13
ليكثر من العبادة، وتسبيح الله، وتحميده، واستغفاره استعدادًا للقاء ربه - وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - فكان ﷺ أكثر ما يكون اجتهادًا في أمر الآخرة استجابة لأمر الله ﷿ له بقوله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ ولنا فيه صلوات الله وسلامه عليه الأسوة والقدوة. فينبغي للمسلم أن يستعد لهذا اللقاء العظيم، ويزداد استعدادًا كلما تقدم به العمر ليتدارك بقية عمره ويعوض عما فاته.
فتدبر أخي الكريم هذه السورة العظيمة التي آذن الله بها رسوله ﷺ بدنو أجله ليتهيأ ويستعد للقاء ربه، وتدبر كلام أهل العلم عليها الذي لخصته في هذا الكتاب وسميته “تدارك بقية العمر في تدبر سورة النصر” عسى الله أن ينفعني وإياك بذلك، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي ووالدي إنه جواد كريم ملك بر رؤوف رحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 14
تدارك بقية العمر في تدبير سورة النصر
...
سورة النصر، وتسمى سورة “ التوديع “١
قال الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ .
وقت نزولها:
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: يا ابن عتبة، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت: نعم: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ قال: صدقت ٢.
وعن ابن عمر ﵁ قال: "نزلت هذه السورة: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ على رسول الله ﷺ أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع٣، فأمر براحلته القصواء فرُحلت، ثم قام فخطب الناس.." فذكر خطبته المشهورة ٤.
_________
١ روي هذا عن ابن مسعود ﵁. انظر (الكشاف) ٤/١٤٠، (الجامع لأحكام القرآن) ٢٠/٢٢٩.
٢ أخرجه النسائي فيما ذكر ابن حجر في (فتح الباري) ٨/٧٣٤، والطبراني فيما ذكر ابن كثير في (تفسيره) ٨/٥٣١،.
وقد خرج البخاري في التفسير ٤٦٥٤ عن (البراء أن آخر سورة نزلت براءة) . والمراد به والله أعلم بعضها، وأن آخر سورة نزلت كاملة هي النصر. انظر (فتح الباري) ٨/٣١٦، ٧٣٤.
٣ وروي أنها لما نزلت بكى عمر والعباس فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالوا: بل فيه نعي النبي ﷺ. انظر: (الجامع لأحكام القرآن) ٢٠/٢٣٢.
٤ أخرجه البيهقي في الحج، باب خطبة الإمام بمنى أوسط أيام التشريق ٥/١٥٢، وذكره ابن كثير في (تفسيره) ٨/٥٢٩.
1 / 15
موضوعها:
الإيذان بقرب وفاته ﷺ، وحثه على لزوم التسبيح بحمد الله، واستغفاره.
عن ابن عباس ﵄ قال: “لما نزلت ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ دعا رسول الله ﷺ فاطمة وقال: “ إنه قد نعيت إلي نفسي “ فبكت ثم ضحكت، وقالت: أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت، ثم قال: “اصبري فإنك أول أهلي لحاقًا بي” فضحكت”١.
وعن ابن عباس ﵄ قال: “كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال إنه من علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم. فقال: ما تقولون في قول الله ﷿: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفُتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه له قال: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، فذلك علامة أجلك ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ فقال عمر بن الخطاب ﵁: “لا أعلم منها إلا ما تقول”٢.
_________
١ أخرجه البيهقي - فيما ذكر ابن كثير في (تفسيره) ٨/٥٢٩. وأخرجه أحمد ١/٢١٧، ٣٤٤، ٣٥٦ مختصرًا دون ذكر فاطمة، وقال أحمد شاكر في تخريج المسند ١٨٧٣: (إسناده صحيح) . وأخرج ابن أبي حاتم في (تفسيره) ١٠/٣٤٧٢ - الأثر ١٩٥٢١ من حديث أم حبيبة ﵂ قصة بكاء فاطمة ... الخ. وانظر (تفسير ابن كثير) ٨/٥٣٢.
٢ أخرجه البخاري في تفسير سورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ ٤٩٦٩، ٤٩٧٠، والترمذي في التفسير ٣٣٦٢، والطبري في (جامع البيان) ٣٠/٢١٥ - ٢١٦
1 / 16
قال ابن كثير ١: “فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر ﵃ أجمعين من أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره؛ يعني: ونصلي له، ونستغفره معنى مليح صحيح، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي ﷺ يوم فتح مكة ثماني ركعات. وفي سنن أبي داود: “ أنه ﷺ كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين”٢.
وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص ﵁ يوم فتح المدائن”.
قال ابن كثير: “وأما ما فسر به ابن عباس وعمر ﵄ من أن هذه السورة نعي فيها إلى رسول الله ﷺ نفسه الكريمة: واعلم أنك إذا فتحت مكة - وهي قريتك التي أخرجتك - ودخل الناس في دين الله أفواجًا فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولهذا قال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ ”.
وروي أنها لما نزلت خطب رسول الله ﷺ: “ إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء الله". ف علم أبو بكر ﵁ فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا وأموالنا” ٣.
_________
١ في (تفسيره) ٨/٥٣٢.
٢ أخرجه البخاري في الصلاة ٣٥٧، ومسلم في الحيض ٣٣٦، وأبو داود في الصلاة ١٢٩٠، ١٢٩١، والنسائي في الطهارة ٢٢٥، والترمذي في الصلاة ٤٧٤، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها ١٣٢٣ عن أم هانئ: (أنه ﷺ عام الفتح قام فصلى ثمان ركعات ... قالت: وذاك ضحى) .
٣ أخرجه الترمذي في المناقب ٣٦٥٩، ٣٦٦٠ - من حديث ابن المعلى عن أبيه وقال: “حديث حسن غريب” ومن حديث أبي سعيد الخدري ﵁، وقال: “حديث حسن صحيح”. وانظر “الكشاف “ ٤/٢٤٠.
1 / 17
وهكذا روي عن جميع المفسرين من التابعين ومن بعدهم١ أنها في الإخبار بدنو أجله ﷺ والاستعداد للقاء ربه.
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ (إذا) ظرفية شرطية غير عاملة قال الزمخشري ٢: “منصوب بسبح وهو لما يستقبل. قال: والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة “ ٣.
و“ جاء “ فعل ماضٍ مبني على الفتح، وهو فعل الشرط.
قوله: ﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾ عونه لك على الأعداء من كفار قريش وغيرهم.
قوله: ﴿وَالْفَتْحُ﴾ فتح مكة.
قال ابن كثير ٤: “والمراد بالفتح ههنا فتح مكة قولًا واحدًا، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون إن ظهر على قومه، فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا”.
وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، وحين دخلها ﷺ وقف على باب الكعبة ثم قال: “لا إله إلا الله
_________
١ انظر (جامع البيان) ٣٠/٢١٥ - ٢١٦.
٢ في (الكشاف) ٤/٢٣٩.
٣ ويحتمل كونها للماضي، بمعنى: إذ قد جاء، وعليه تكون متعلقة بمقدر ككمل الأمر أو أتم النعمة على العباد أو نحو ذلك لا بسبح. انظر (روح المعاني) ٣٠/٢٥٦.
٤ في (تفسيره) ٨/٥٣٠. وقيل المراد فتح مكة وغيره من الفتوح.
1 / 18
وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده” ١.
قوله تعالى: ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ .
قوله ﴿وَرَأَيْتَ﴾ الخطاب للنبي ﷺ.
و﴿النَّاسَ﴾ البشر، بنو آدم من العرب وغيرهم.
قوله: ﴿يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ يدخلون في محل نصب على الحال، على اعتبار أن (رأيت)، بصرية أو هي مفعول ثان على اعتبار (رأيت) علمية ٢.
ومعنى ﴿يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ أي: يسلمون، فيدخلون في دين الله (الإسلام) الذي لا يقبل الله الآن من أحد سواه، قال تعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ ٣، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الآسْلامُ﴾ ٤.
قوله: ﴿أَفْوَاجًا﴾ جمع فوج، والفوج الجماعة، أي جماعات.
عن عمرو بن سلمة ﵁ قال: “لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله ﷺ، وكانت الأحياء تتلوم ٥ بإسلامها فتح مكة، يقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم، فهو نبي “ ٦.
عن ابن عباس ﵄ قال: بينما رسول الله ﷺ
_________
١ أخرجه البخاري في العمرة ١٧٩٧، ومسلم في الحج ١٣٤٤ - من حديث ابن عمر مطولًا، وانظر (الكشاف) ٤/٢٣٩.
٢ انظر (الكشاف) ٤/٢٣٩.
٣ سورة آل عمران، آية: ٨٥.
٤ سورة آل عمران، آية: ١٩.
٥ تتلوم، أي: تنتظر. انظر (لسان العرب) مادة (لوم) .
٦ أخرجه البخاري في المغازي ٤٣٠٢، والنسائي في الأذان ٦٣٦.
1 / 19
في المدينة إذ قال: “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن". قيل يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ "قال قوم رقيقة قلوبهم، ليِّنة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية” ١. وروي زيادة “سخية قلوبهم عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجًا” ٢.
وعن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية” ٣.
وقال ابن كثير ٤: “فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا، فلم تمض سنتان حتى استو سقت ٥ جزيرة العرب إيمانًا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام، ولله الحمد والمنة”.
وعن جابر بن عبد الله ﵁ أنه بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك؟ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: “إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، وسيخرجون من دين الله أفواجًا” ٦.
والمعنى: إذا أتم الله لك النصر على الأعداء وفتح مكة ودخل الناس في دين الله جماعات جماعات فسبح بحمد ربك الخ. ويؤيد هذا ظاهر السياق، وإجراء “إذا” على معناها للاستقبال ويكون في هذا البشارة بحصول ذلك، وذلك علم من أعلام نبوته ﷺ، ويكون نزول السورة قبل فتح مكة.
_________
١ أخرجه الطبري في (جامع البيان) ٣٠/٢١٥. وانظر (تفسير ابن كثير) ٨/٥٣١.
٢ ذكرها القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) ٢٠/٢٣٠.
٣ أخرجه البخاري في الجهاد، فضل الجهاد والسير ٢٥٧٥، ومسلم في الحج ١٣٥٣، وأبوداود في المناسك ٢٤٨٠، والنسائي في البيعة ٤١٧٠، والترمذي في السير ١٥٩٠.
٤ في (تفسيره) ٨/٥٣٣، وانظر (الكشاف) ٤/٢٣٩، (الجامع لأحكام القرآن) ٢٠/٢٣٠.
٥ أي: امتلأت إيمانًا، انظر: (لسان العرب) مادة (وسق) .
٦ أخرجه أحمد ٣/٣٤٣، وانظر (الكشاف) ٤/٢٣٩.
1 / 20
ويحتمل أن المعنى: قد جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا. ويؤيد هذا ما جاء في أن هذه السورة نزلت في حجة الوداع، وفتح مكة قبل ذلك بسنتين تقريبًا، ويكون في ذلك الامتنان عليه ﷺ بما تم من النصر والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجًا ١.
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ .
قوله (فسبح) هذا أمر، والأمر في الأصل للوجوب.
والتسبيح: هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب، وعن مشابهة المخلوقين.
وقوله ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ .
أي: متلبسًا بحمده، أي: حامدًا له قارنًا بين تسبيحه ﷿ وحمده، بقولك: “سبحان الله وبحمده” “سبحانك ربنا وبحمدك” ونحو ذلك، وبما هو أعم من ذلك، بذكره وشكره ﷿، وعبادته والصلاة له وغير ذلك، ولهذا لما فتح ﷺ الكعبة صلى ثماني ركعات ٢.
واستغفره أي: سله واطلب منه المغفرة.
والمغفرة: هي ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته كما جاء في حديث ابن عمر ﵁ في المناجاة: “أن الله ﷿ يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه (أي ستره ورحمته) فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكر يوم كذا وكذا حين فعلت كذا وكذا؟ فيقول: أي رب نعم. فيقول الله ﷿: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم” ٣.
_________
١ انظر (الجامع لأحكام القرآن) ٢٠/٢٣٠.
٢ انظر (الكشاف) ٤/٢٣٩.
٣ أخرجه البخاري في التفسير ٤٦٨٥، ومسلم في التوبة ٢٧٦٨، وابن ماجه في المقدمة ١٨٣، وأحمد ٢/٧٤.
1 / 21
وقَرَن التسبيح والتحميد باسم الرب وصفة الربوبية تذكيرًا بنعمه ﷿، وهو أنه هو المربي بنعمه.
قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ .
كان: مسلوبة الزمان، أي: كان ومازال ﷾ توابًا.
و﴿تَوَّابًا﴾: اسم من أسماء الله ﷿ على وزن فعّال، صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة، يدل على أنه ﷿ من صفته التوبة الواسعة الكثيرة العظيمة، فهو كثير التوفيق لعباده للتوبة، كثير القبول لتوبة من تاب منهم.
وتوبة الله على العبد تنقسم إلى قسمين: توفيقه ﷿ للعبد أن يتوب، كما قال ﷿ عن الثلاثة الذين خلفوا ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ ١ أي: وفقهم للتوبة ليتوبوا، والقسم الثاني. قبوله توبة عبده إذا تاب، كما قال ﷿: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ ٢.
عن عائشة ﵂ قالت: ما صلى رسول الله ﷺ بعد إذ أنزلت عليه سورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ إلا يقول: فيها: “سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي” ٣.
وعنها قالت: “كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: “سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي” يتأول القرآن “٤.
_________
١ سورة التوبة، آية: ١١٨.
٢ سورة الشورى، آية: ٢٥.
٣ أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ ٤٩٦٧، ومسلم في الصلاة ٤٨٤.
٤ أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ ٤٩٦٨، ومسلم في الصلاة، ما يقال في الركوع والسجود ٤٨٤، وأبوداود في الصلاة - الدعاء في الركوع والسجود ٨٧٧، والنسائي في التطبيق ١٠٤٧، وابن ماجه في إقامة الصلاة - التسبيح في الركوع والسجود ٨٨٩، وأحمد ٦/٤٣، ٤٩، ١٩٠. ومعنى (يتأول القرآن) أي: يرى أن ذلك معنى قوله ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ وعملا بمقتضاه.
1 / 22
وعنها ﵂ قالت: كان رسول الله ﷺ يكثر في آخر أمره من قول “سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه” وقال: “إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابًا، فقد رأيتها: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ ” ١.
وعن أم سلمة ﵂ قالت: كان رسول الله ﷺ في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: “سبحان الله وبحمده” فقلت يا رسول الله، إنك تكثر من “سبحان الله وبحمده” لا تذهب ولا تجيء، ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: “سبحان الله وبحمده”؟ قال: "إني أمرت بها، فقال: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ " إلى آخر السورة”٢.
وعن ابن عباس ﵄ قال: “لما نزلت ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ قال: نعيت لرسول الله ﷺ نفسه حين أنزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة..” ٣.
_________
١ أخرجه مسلم في الصلاة - ما يقال في الركوع والسجود ٤٨٤، وأحمد ٦/٣٥.
٢ أخرجه الطبري في (جامع البيان) ٣٠//٢١٦.
٣ سبق تخريجه ص ١٩، وانظر (تفسير ابن كثير) ٨/٥٣٢.
1 / 23
الفوائد والأحكام:
البشارة بنصر الله لرسوله ﷺ وفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، بحيث يكون كثير منهم من أهله وأنصاره، بعد أن كانوا من أعدائه. وقد وقع هذا المبشر به ١.
تحقيق نصر الله ﷿ للرسول ﷺ والمسلمين وتمكينهم من فتح مكة وغيرها لقوله ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ قال بعضهم: المعنى: قد جاء نصر الله والفتح.
دخول الناس في دين الله أفواجًا بعد نصر الله لرسوله ﷺ والمسلمين وفتح مكة، بخلاف ما كان عليه الأمر قبل الفتح، ولهذا قال ﷿: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ ٢.
امتنان الله على رسوله ﷺ بنصره لهم، وفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وأن ذلك من نعم الله تعالى عليهم الموجبة لشكره، ولهذا قال بعده ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك﴾ .
أن النصر بيد الله ﷿ لقوله ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ٣. وقال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ ٤، وقال
_________
١ انظر (تيسير الكريم الرحمن) ٧/٦٨٢.
٢ سورة الحديد، آية: ١٠.
٣ سورة آل عمران، آية: ١٦٠.
٤ سورة محمد، آية: ٧.
1 / 24
تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ١، وقال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ٢.
الأمر بشكر الله على نعمة النصر، وفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، لقوله ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ ٣.
وجوب تنزيه الله ﷿ عن النقائص والعيوب وعن مشابهة المخلوقين، مقرونًا ذلك بحمده ﷿ لقوله ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ .
أن لله ﷿ الكمال المطلق من جميع الوجوه، والحمد المطلق، فهو المنزه عن جميع النقائص والعيوب وعن مشابهة المخلوقين، وهو المحمود في جميع الأحوال وعلى كل حال لقوله ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ .
التذكير بنعم الله على العباد التي لا تحصى، من نعمة النصر والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، لقوله ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ فَقَرْنُ الحمد باسم الرب ووصف الربوبية فيه تذكير بنعمه ﷿ كما قال ﷿ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ ٤، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ ٥.
أمر الله ﷿ للرسول ﷺ بالاستغفار وهو أمر له ﷺ ولأمته ممن يصلح له الخطاب لقوله ﴿وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ .
ولهذا كان ﷺ يقول: “يا أيها الناس توبوا إلى الله
_________
١ سورة الروم، آية ٤٧.
٢ سورة الحج، آية: ٤٠.
٣ انظر (تيسير الكريم الرحمن) ٧/٦٨٢.
٤ سورة إبراهيم، آية: ٣٤، وسورة النحل، آية: ١٨.
٥ سورة النحل، آية: ٥٣.
1 / 25
واستغفروه، فإني أتوب إلى الله وأستغفره في كل يوم مائة مرة، أو أكثر من مائة مرة” ١.
وكان يقول ﷺ: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة” ٢.
وكان ﷺ يقول في دعائه: “اللهم اغفر خطئي وعمدي، وجدِّي وهزلي، وإسرافي في أمري، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير” ٣.
وليس في أمره ﷿ لنبيه ﷺ بالاستغفار ما يلزم منه وقوع الذنب منه ﷺ مع أنه ﷺ وكذا غيره من الأنبياء معصومون من الخطأ في تبليغ ما أرسلوا به، ومن الوقوع في الكبائر، أما الصغائر فقد تقع منهم على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ لكنهم لا يقرون عليها، بل سرعان ما يتوبون منها ٤.
_________
١ أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ٢٧٠٢، وأبو داود في الصلاة١٥١٥، وأحمد ٤/٢١١، ٢٦٠ - من حديث الأغر المزني ﵁. وأخرجه ابن ماجه في الأدب ٣٨١٥ - من حديث أبي هريرة ﵁.
٢ أخرجه البخاري في الدعوات ٦٣٠٧، والترمذي في التفسير ٣٢٥٩، وابن ماجه في الأدب ٣٨١٦ - من حديث أبي هريرة ﵁.
٣ أخرجه البخاري في الدعوات ٦٣٩٨، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ٢٧١٩ من حديث أبي موسى الأشعري ﵁.
٤ انظر (مجموع الفتاوى) ٤/٣١٩، ١٠/٢٩٣ - ٣١٣، ١٥/١٥٠، (الرسل والرسالات) للأشقر ص١٠٧ - ١١١.
1 / 26
الإشارة إلى أن النصر يستمر للدين، ويزداد عند شكر الله بالتسبيح بحمده واستغفاره، كما قال ﷿: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾ ١. ولم يزل نصر الله لدينه في عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم لما كانت الأمة شاكرة لله ﷿، مسبحة بحمده مستغفرة، قائمة بأمره متمسكة بحبله، ولما حدث في الأمة ما حدث من المخالفة لأمر الله أصابها ما أصابها من الضعف والاختلاف والتفرق، ووعد الله بالنصر ثابت لا يتخلف. كما قال ﷿ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ٢.
وجوب شكر الله على نعمة النصر على الأعداء والفتح للمسلمين وعلى كل نعمة من نعمه ﷿ بتسبيحه وتحميده واستغفاره والتوبة إليه، لقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه﴾ .
مشروعية سجدة الشكر، وقول “سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي” في الركوع والسجود لقوله ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه﴾ .
وفي حديث عائشة ﵂ قالت: وكان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: “سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". يتأول القرآن” ٣.
الإشارة إلى قرب دنو أجله ﷺ، وحثه ﷺ على ختام عمره بالتسبيح بحمد الله واستغفاره، ليستعد ويتهيأ للقاء ربه ٤.
فضل التسبيح والتحميد والاستغفار، لأن الله أمر بذلك في ختام الأعمار،
_________
١ سورة إبراهيم، آية: ٧.
٢ سورة الروم، آية: ٤٧.
٣ انظر (تيسير الكريم الرحمن) ٧/٦٨٢ - ٦٨٣.
٤ انظر (تيسير الكريم الرحمن) ٧/٦٨٣.
1 / 27
كما في هذه السورة، وأمر به في ختام الأعمال، كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك.
وجوب الاستعداد للقاء الله ﷿، والانتقال من هذه الدار الفانية إلى الدار الآخرة الباقية، كما قال ﷿: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ١. أي: لهي الحياة الحقيقية، فيجب على كل إنسان الاستعداد لهذا اللقاء العظيم، ولذلك الانتقال، وأن يزداد في الاستعداد لذلك كلما تقدم به العمر، فيكثر من التسبيح بحمد الله واستغفاره فإن التسبيح والتحميد والاستغفار ختام الأعمال وختام الأعمار، ولنا في نبينا ﷺ خير أسوة فقد أمره الله ﷿ بذلك بعد أن أتم له النصر والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وتقدم به العمر صلوات الله وسلامه عليه، فكان يكثر من تسبيح الله ﷿ وحمده واستغفاره وذكره استجابة لأمر الله ﷿ له في هذه السورة، وفي قوله ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ ٢. فكان أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما٣.
وإليك أخي الكريم هذه الفائدة في كيفية الاستعداد للقاء الله ﷿:
فائدة:
بم يكون الاستعداد للقاء الله؟
يكون الاستعداد للقاء الله ﷿ بأمور عدة من أهمها ما يلي:
_________
١ سورة العنكبوت، آية: ٦٤.
٢ سورة الانشراح، الآيتان ٧، ٨.
٣ سبق تخريجه ص ١٩، ٢٣.
1 / 28
الأمر الأول:
تقوى الله ﷿ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهي رأس الأمر كله، ومن أعظم ما يعين على ذلك ما يلي:
أ - التفكر في عظمة الله ﷿، وما له من صفات الكمال والجلال، مما جاء في الكتاب والسنة، ودلت عليه الآيات الكونية. قال ﷿: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ١.
ب - التفكر في نعم الله ﷿ على العباد التي لا تحصى كما قال ﷿: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ ٢، وقال ﷿: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ ٣ وقد قال ﷿ ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ ٤.
ج - التفكر في حقارة الدنيا ودنو منزلتها وكيف وصفها الله في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ، قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ ٥، وقال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ ٦، وقال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ
_________
١ سورة الزمر، آية:٦٧.
٢ سورة إبراهيم، آية: ٣٤. وسورة النحل، آية: ١٨.
٣ سورة النحل، آية: ٥٣.
٤ سورة إبراهيم، آية: ٧.
٥ سورة الحديد، آية: ٢٠.
٦ سورة العنكبوت، آية:٦٤.
1 / 29
الْغُرُور﴾ ١، وقال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاّ مَتَاعٌ﴾ ٢، وقال تعالى: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ﴾ ٣.
وقال ﷺ: “لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء” ٤.
وعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: نام رسول الله ﷺ على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: “مالي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركه” ٥.
وعن ابن عمر ﵄، قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي، فقال: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك”٦.
_________
١ سورة آل عمران آية: ١٨٥، وسورة الحديد، آية: ٢٠
٢ سورة الرعد، آية: ٢٦.
٣ سورة التوبة، آية: ٣٨.
٤ أخرجه الترمذي في الزهد ٢٣٢٠، وابن ماجه في الزهد ٤١١٠ من حديث سهل بن سعد ﵁ وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة، حديث: ٦٨٦، ٢٤٨٢، وانظر: (صحيح ابن ماجه) حديث ٣٣١٨.
٥ أخرجه الترمذي في الزهد ٢٣٧٧، وابن ماجه في الزهد ٤١٠٩ وقال الترمذي (حديث حسن صحيح. وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس)، وصححه الألباني في الصحيحة حديث ٤٣٩، ٤٤٠. وانظر: (صحيح ابن ماجه) حديث ٣٣١٧.
٦ أخرجه البخاري في الرقاق ٦٤١٦، والترمذي في الزهد ٢٣٣٣، وابن ماجه في الزهد ٤١١٤.
1 / 30
ويا لله ما مدى بركة عمر من وفقه الله لهذا التصور، ثم أعطاه من العمر ما أعطاه، ويا لله ما أقل بركة عمر معمر غاب عنه هذا التصور، وعاش غافلًا لاهيًا حتى فاجأه الأجل.
ولقد أحسن القائل ١.
فما نحن في دار المنى غير أننا ... شغفنا بدنيا تضمحل وتذهب
فحثوا مطايا الارتحال وشمروا ... إلى الله والدار التي ليس تخرب
د - التفكر في عظمة الآخرة وعلو مكانتها ورفعة منزلتها، وأنها دار القرار ودار الحياة الحقيقة، إما نعيم أبدي، نسأل الله من فضله، أو عذاب سرمدي، نسأل الله السلامة، كما قال ﷿: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ٢.
هـ - أن يتفكر الإنسان في ضعفه، فهو من أضعف المخلوقات، إن لم يكن أضعفها، وعمره بالنسبة لأعمار من سبق من الأمم لا يساوي شيئًا. قال ﷺ: “أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك” ٣. فيستمد قوته من القوي المتين سبحانه، ويستمد بركة العمر من الحي القيوم الذي لا يموت.
_________
١ هذان البيتان من قصيدة الشاعر ابن عثيمين مطلعها:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب ... متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
انظر (ديوان ابن عثيمين) ص٤٩٨، طبعة دار المعارف بمصر.
٢ سورة العنكبوت، آية: ٦٤.
٣ أخرجه الترمذي في الدعوات ٣٥٥٠، وابن ماجه في الزهد ٤٢٣٦، من حديث أبي هريرة ﵁، وقال: (حديث حسن غريب) وقال الألباني: (حسن صحيح) . انظر: (الأحاديث الصحيحة) ٧٥٧ن (صحيح المشكاة) ٥٢٨٠، (صحيح سنن ابن ماجه) حديث ٣٤١٤.
1 / 31
و- أن يكون فراق هذه الدنيا، والرحيل منها دائمًا منه على بال، وأن يكثر من ذكر هادم اللذات (الموت) كما قال ﷺ “أكثر من ذكر هادم اللذات” ١.
فمن وفقه الله ﷿ للتفكر في هذه الأشياء كان ذلك - بإذن الله ﷿ من أكبر العون له على تقوى الله.
فمن عظم الله ﷿ وقدره دعاه ذلك إلى الفرار إليه واللجوء إليه ومحبته وخوفه ورجائه، ومن تفكر في نعمه ﷿ على العباد دعاه ذلك إلى شكره، ومن تفكر في حقارة الدنيا دعاه ذلك إلى عدم الاغترار بها، ومن تفكر في عظمة الآخرة دعاه ذلك إلى الإقبال عليها والتزود لها، ومن تفكر في ضعفه دعاه ذلك إلى استمداد القوة من القوي المتين، ومن تفكر في قصر عمره دعاه ذلك إلى الحرص على استغلاله بالخير والعمل الصالح، ومن تذكر الموت والرحيل من هذه الدار دعاه ذلك إلى المبادرة بالعمل الصالح أيام الحياة، والاستعداد للدار الآخرة.
الأمر الثاني٢:
أداء ما عليه من حقوق لله تعالى، أو للخلق، والخروج منها كلها وبخاصة حقوق الخلق من الدماء والأعراض والأموال وغير ذلك، فإن حقوق الخلق مبنية على المشاحة، فأمك وأبوك وولدك كل منهم سيطالبك بحقه إن كان له
_________
١ أخرجه الترمذي في الزهد ٢٣٠٧، والنسائي في الجنائز ١٨٢٤، وابن ماجه في الزهد ٤٢٥٨ من حديث أبي هريرة ﵁. وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح غريب)، وقال الألباني: (حسن صحيح) . انظر: (تخريج المشكاة) حديث ١٦١٠، (إرواء الغليل) حديث ٦٨٢، (صحيح سنن ابن ماجه) حديث ٣٤٣٤.
٢ من الأمور التي يستعد بها للقاء الله والدار الآخرة.
1 / 32