بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل فروع أحكامه منتظمة، وأصول تلك الفروع منضبطة، وقوانين هذه الأصول محكمة، وضوابط هذه القوانين متقنة، والصلاة والسلام على نبيه نبي الصدق الذي كفى في طريق تصديقه وآية صدقه في نبوته وما أتى به من شرائع دينه عند العقول الصحيحة الكاملة إنه ما أمر بشئ فقال العقل: " يا ليته نهى " ولا نهى عن شئ فقال العقل: " يا ليته أباحه " وعلى آله وخلفائه وأصحابه الذين لم ينقضوا عهده في خلفائه، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.
وبعد فيقول - العبد الجاني علي بن إسماعيل الموسوي القزويني مولدا وموطنا -: إني لما وجدت أصول الفقه من أجل مباني العلم بالأحكام، وأعظم مبادئ الاجتهاد المؤدي إلى معرفة الحلال والحرام، حاولت الخوض في مباحثه، وحسن النظر في مبادئه ومبانيه، رجاء للوصول إلى كنوز معارفه وبحور معالمه، فبالغت مستكملا للجد التام والاجتهاد التمام في تسويد أوراق تحتوي المهمات من مسائله، وتضبط من دقائق الأفكار ما لا يكاد يلتقط في المدونات من دفاتره، وألهمت أن أجعلها تعليقة على معالم الأصول لنتبرك ببركات محاسنه - تأليفا وترتيبا - ولأجل ذا أحببت أن أسميها بهذه اللفظة، رعاية لمطابقة الاسم مسماه، غير إني أضفت إلى ما احتواه من المسائل ما كان المصنف قد تركه، وكثيرا من مبادئه التي كان قد أهملها، فأرجو من الله من منه وفضله التوفيق على إتمامها، والتأييد للنفع والانتفاع لنفسي، وكل من حاول النفع والانتفاع بها.
* * *
पृष्ठ 32
[1] قوله: (الفقه... الخ) وإنما أهمل أصول الفقه، وترك التعرض لشرحه لغة وعرفا، إضافة وعلما، لكون غرضه الأصلي من وضع الكتاب التعرض لمسائل الفقه، وإنما أورد جملة من مسائل أصول الفقه من باب المبادئ، كما هو ديدن جماعة من أوائل الأصحاب، حيث أوردوا في مفتتح كتبهم الفقهية كثيرا من مباحث هذا العلم، وحيث إن غرضنا الأصلي هنا البحث عن هذا العلم واستكمال النظر في مسائله، فالمناسب أن نتعرض لبيان ما أهمله المصنف (قدس سره) فنقول:
إن أصول الفقه علم لهذا العلم كما صرح به جماعة من الأصوليين، وكذلك غيره من ألفاظ سائر العلوم، كالفقه والكلام والمنطق والنحو والصرف وغيرها، فإن كلا علم لمسماه الخاص، ولكن ينبغي أن يعلم أنه ليس المراد بالعلمية هنا كونها من قبيل علم الشخص كزيد وعمرو ونحوهما، بدليل: إن كلا منها في معناه العلمي مما يعرف ويعرف به، وعلم الشخص ما كان مسماه جزئيا حقيقيا، ومن حكمه أن لا يعرف ولا يعرف به، ولا كونها من قبيل علم الجنس كأسامة ونحوه، بدليل عدم جريان أحكام المعارف عليها لذواتها من دون اعتبار تعريف فيها بواسطة الإضافة أو اللام.
وعلم الجنس ما يجري فيه أحكام المعارف، سواء قلنا بكونه معرفة أيضا، كما هو قضية القول بالفرق بينه وبين اسم الجنس بأنه ما وضع للماهية بشرط حضورها في الذهن، واسم الجنس ما وضع لها لا بشرط.
وعليه مبنى القول بالفرق بينه وبين المعرف باللام، بأنه يدل على التعريف بجوهره، والمعرف باللام يدل عليه بواسطة اللام.
أو قلنا: بأنه لا فرق بينهما إلا في أحكام اللفظ، من امتناع الإضافة، ودخول اللام، والوصف بالمعرفة، والوقوع ذا الحال، وغير ذلك من أحكام المعارف.
ولا ريب أن كلا من ألفاظ العلوم مما يصح إضافته وتعريفه باللام، ولا يصح وصفه بالمعرفة بدون اعتبار تعريف فيه بأحد الوجهين، كما يظهر أثر صدق هذا
पृष्ठ 33
الكلام فيما عدا أصول الفقه - كالفقه والنحو وغيرهما - لسبق تعريفه بالإضافة على العلمية، فتعين أن يكون المراد بها معناه اللغوي وهو " العلامة " كما يقال: الرفع علم الفاعلية والنصب علم المفعولية.
وهذا وإن كان معنى عاما جامعا لأعلام الأشخاص، وأعلام الأجناس، وأسماء الأجناس وغيرها من الألفاظ الموضوعة، لكون كل لفظ موضوع باعتبار دلالته على معناه الموضوع له علامة له، غير أن المراد به هنا ما ينطبق على أسماء الأجناس، لانتفاء الأولين حسبما عرفت، فيكون أصول الفقه كغيره من قبيل اسم الجنس الموضوع للماهية الكلية من حيث هي، التي هي إما القدر المشترك بين جميع المسائل والقدر المعتد به منها الكافي في حصول الغرض المقصود من تدوينها، أو جنس التصديق بالمسائل، أو جنس ملكة التصديق بها، على الخلاف الآتي.
ويمكن القول بخروج أصول الفقه عن سياق النظائر، لتضمن معناه التعريف، ولذا يعرف: " بأنه العلم بالقواعد... الخ " ولا جهة له إلا العلمية، فيكون من قبيل علم الجنس، بخلاف الفقه مثلا المتضمن معناه التعريف، بشهادة أنه يعرف: " بالعلم بالأحكام... الخ " وجهته التعريف باللام، فيكون من قبيل اسم الجنس المعرف.
وفي تعريف المنطق يقال: " إنه آلة قانونية... الخ " وفي تعريف النحو يقال:
" إنه علم... الخ " فالقول بالتفصيل حينئذ غير بعيد.
ثم في كون الألفاظ المشار إليها أسامي لنفس المسائل، أو التصديق بها، أو ملكة التصديق بها، وجوه بل أقوال خيرها أوسطها، لأن الأمور الاصطلاحية يرجع لمعرفتها إلى تنصيص أربابها، ولا نظن نصا منهم أقوى مما اتفقت عليه تعاريف هذه الأسامي، إلا ما شذ منها من أخذ العلم فيها جنسا، واعتبار تعلقه بالمسائل، أو ما يرادفها كالأحكام والقواعد والقوانين والأحوال ونحوها، فإنه لولا كونها عندهم أسامي للتصديق بالمسائل، لأفضى أخذ العلم فيها جنسا إلى البينونة فيما بين الحد والمحدود.
पृष्ठ 34
وأما القول بكونها لنفس المسائل، فأول ما يرد عليه ويبطله: أنه لو صح ذلك لامتنع الجمع في الحدود بين أخذ العلم جنسا واعتبار تعلقه بالمسائل ومرادفاته، ضرورة امتناع اتحاد المتعلق مع المتعلق، فوجب أن لا يراد المسائل من الجنس، فلا يكون المحدود أيضا مرادا به المسائل، لوجوب انطباق الحد على المحدود.
وثاني ما يرد عليه: صدق الفقيه والحكيم و المتكلم وغيرها من الألفاظ المشتقة من تلك الأسامي باعتبار معناها الوصفي المأخوذ فيه المبدأ صدقا حقيقيا، ومن الممتنع كون ذلك المبدأ هو المسائل، لأن القائم بالذات المأخوذة في مفاهيم هذه المشتقات ليس هو المسائل، ولا أن الذات متصفة أو متلبسة بها، بل هو إما التصديق أو ملكته، فوجب أن يكون مسمى الألفاظ أيضا أحد هذين، لوجوب التطابق بين المشتق والمشتق منه في المعنى الحدثي.
مع أنه لم نقف لهذا القول على ما يعتمد عليه إلا على وجوه ضعيفة، ربما أمكن الاحتجاج بها :
منها: دعوى تبادر المسائل من تلك الألفاظ.
ومنها: قولهم: " النحو ما دونه فلان " و " المنطق ما دونه فلان " وهكذا، بتقريب: إن المدون ليس إلا المسائل.
ومنها: قولهم: " هذا فقه أو نحو أو منطق " إشارة إلى الكتاب الحاضر، بتقريب:
أن الإشارة إنما تقع على المكتوب الذي ليس إلا المسائل، فهي مسمى الاسم الواقع محمولا، لامتناع حمل المبائن.
ومنها: قولهم: " هذه المسألة من النحو أو بعض منه " وما أشبه ذلك، بتقريب:
أن كون شئ بعضا من شئ مسمى باسم، يستدعى كون الاسم اسما للمجموع من الشئ الأول وغيره، وهو ليس إلا المسألة بحكم الإشارة فكذلك غيره.
وفي الأول: منع واضح، لو أريد به ما يستند إلى حاق اللفظ ليكون وضعيا.
نعم شيوع إطلاقها على نفس المسائل مما لا مجال إلى إنكاره، فإن أريد به ما يستند إليه أو ما هو موجود في الأمثلة المذكورة، وفي مثل قولهم: " فلان يعلم
पृष्ठ 35
النحو " وما أشبه ذلك فهو غير مجد، لاستناده إلى أمر آخر غير الوضع، والبواقي ترجع إلى إثبات استعمال لا يصلح دليلا على الحقيقة، مع أنه في جميع الموارد المذكورة حتى في مثل " فلان يعلم النحو " استعمال مع القرينة كما يظهر بأدنى تأمل، مع أنه في بعضها ليس استعمالا في المسائل فقط، بل في المجموع منها ومن المبادئ والموضوعات، كما في العبارة الأولى، بدليل التدوين، وفي بعضها استعمال في أمر مبائن كما في العبارة الثانية، لوضوح أن المكتوب المشار إليه هو النقوش الحاكية عن المسائل لا أنها نفس المسائل، ولئن سلمنا أصل الاستعمال بل شيوعه أيضا - كما أشرنا إليه - فهو لا يقاوم التنصيص المستفاد من الحدود، والجمع بينهما بالتزام الاشتراك بين المسائل والتصديق بها بعيد، مع أن المجاز خير منه.
وبجميع ما ذكر ظهر ضعف القول بكونها للملكات، ومما يزيفه أيضا: إن من القواعد اتصاف الاسم باعتبار المسمى بما يتصف به المسمى من الصفات اللاحقة به، كزيد المتصف بما يتصف به مسماه من الطول والقصر والعالمية والشاعرية ونحوها، والمقام على تقدير الوضع للملكة ليس بتلك المثابة، لاتصاف الملكة بصفات كالشدة والضعف والقوة والوهن مع عدم اتصاف الاسم من جهتها بها، لغرابة أن يقال: " الفقه القوي، أو الشديد، أو الضعيف ".
وقضية ذلك عدم كونه اسما للموصوف بهذه الصفات، مع أنه ليس له وجه يعتمد عليه إلا توهم تبادر الملكة منها عند الإطلاق، كما في " فلان فقيه، أو حكيم، أو متكلم، أو نحوي، أو أصولي " حيث لا يتبادر منها إلا كونه ذا ملكة.
ويؤيده، بل يدل عليه: أن الفنون المدونة ليست إلا كسائر الحرف والصنائع، وإن امتازت عنها بما فيها من الشرافة وعلو المرتبة، بل هي صنائع علمية وغيرها صنائع عملية.
ومن المقرر المعلوم بالاستقراء المصرح به في كلام غير واحد، كون ألفاظ سائر الحرف والصنائع مع الألفاظ المشتقة منها بأسرها أسامي لملكاتها، من دون اعتبار التلبس والاشتغال بالمبدأ الحالي في مسمياتها، وكذلك ألفاظ الصنائع
पृष्ठ 36
العلمية وسائر تصاريفها، فلا يدخل في مسمياتها التلبس الفعلي بالمبدأ الحالي وهو " الإذعان للنسبة " والقول: بأن صدق الفقيه على صاحب الملكة الذي لا يعلم شيئا من الأحكام بعيد، مجرد استبعاد لا يصلح للاستناد إليه، مع أن المراد بصاحب الملكة هنا من له قوة راسخة يقتدر بها على الإذعانات الفعلية للمسائل بمراجعة المدارك واستعمال مبادئها حين المراجعة.
ومن الظاهر أن هذه القوة لا تحصل إلا بالممارسة التامة في الفن، المستتبعة لاستحضار مسائله واستحصال مبادئه، مع التمكن من أعمالها حين الرجوع إلى المدارك، بحيث لم يكن بينه وبين الإذعان الفعلي للمسائل حالة منتظرة إلا الرجوع إلى المدارك والنظر فيها، فهو في القوة إذا كان بتلك المثابة، يصدق عليه " الفقيه " وغيره على وجه الحقيقة بلا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه.
وتبادر الملكة من أصل ألفاظ العلوم المتنازع فيها ممنوع، ومن الألفاظ المشتقة منها مسلم، ولكنه لا يجدي في ثبوت كون الألفاظ المتنازع فيها أسامي للملكات، غاية ما هنالك حصول الفرق بين المشتقات ومبادئها، ولعله وضع آخر في المشتقات وارد على خلاف مقتضى وضع المبادئ، نظير الكاتب والقارئ والمعلم والخياط وغيرها من المشتقات العرفية بالقياس إلى مبادئها، الظاهرة في الحال، مع كون المشتقات لذوي الملكات، باعتبار الوضع الجديد العرفي، على ما عليه غير واحد من المحققين.
ويمكن الفرق في المبادئ أيضا بين الفقه وغيره بجعل الأول للملكة، كما يرشد إليه بناؤهم في دفع الإشكال المعروف، الوارد على تعريفه من جهة انتقاض عكسه بخروج أكثر الفقهاء، على حمل العلم المأخوذ في جنسه على الملكة، فإنه لولا المعرف اسما للملكة فسد التعريف على هذا الحمل من جهة أخرى، وهو لزوم البينونة بين المعرف والمعرف، بل هذا أوضح فسادا من انتقاض العكس.
لا يقال: لو صح كون هذا اللفظ اسما للملكة، لكان في التصديق بالمسائل مجازا، وهو باطل.
पृष्ठ 37
ويلزم ذلك، على القول بذلك في مطلق ألفاظ العلوم أيضا، إذ لو أريد بالتصديق بالمسائل ما لا ملكة معه أصلا، فهو مما لا يمكن تحققه عادة فيما هو محل البحث، من استناد العلم بالأحكام إلى الاجتهاد واستفراغ الوسع في الأدلة المعهودة، وعلى فرض إمكان تحققه فبطلان اللازم ممنوع بالنظر إلى الاصطلاح، وإن كان مسلما بالنظر إلى العرف واللغة.
ولو أريد به ما نشأ عن الملكة - كما في فقهائنا اليوم - فالملازمة ممنوعة، لا لأن المسمى خصوص التصديق لا بشرط وجود الملكة، بل لأن المسمى هو الملكة الموجودة مع التصديق، المأخوذة في الوضع لا بشرط ذلك التصديق، نظرا إلى أن حصول التصديق الفعلي مسببا عن الملكة لا يوجب زوال الملكة، كما هو واضح.
ثم إن قضية الاعتراف بالأقوال الثلاث المذكورة، التزام كون أسامي العلوم بأسرها من المنقولات، لوضوح عدم كون شئ من المسائل والتصديق بها وملكة التصديق بها عين مسمى هذه الألفاظ لغة، مع ما في كلامهم مما هو بمنزلة التصريح بذلك، حيث يتعرضون لشرحها لغة واصطلاحا فيذكرون لها بحسب كل معنى.
ومن ذلك تصريحهم في خصوص أصول الفقه، بأن فيه جهتين باعتبار الإضافة والعلمية، فإن اعتبار جهة الإضافة اعتراف بالمعنى الإضافي اللغوي، كما أن اعتبار جهة العلمية اعتراف بثبوت ما يغاير الأول، ويعبر عنه بالمعنى العلمي فلابد وأن يكون اصطلاحيا ليغاير الأول بقرينة المقابلة.
وأما ما يوهمه بعض عبارات بعضهم من أن الإضافة بنفسها تعريف لهذا العلم، من منافاته لما ذكر بل إنكار للنقل، نظرا إلى أنه اعتبار للمعنى الإضافي، وهو لا يلائم القول بثبوت المعنى العلمي المغاير له، فإن القائل بالنقل لا يعتبر المعنى المنقول منه.
معنى الأصل فيدفعه: منع منافاة ذلك للاعتراف بالنقل هنا، لأن مرجع هذا الكلام عند التحقيق إلى منع انحصار تعريف المسمى الاصطلاحي بالرسم في التعريف
पृष्ठ 38
المشهور، المعبر عنه " بالعلم بالقواعد الممهدة... الخ " مثلا، لإمكان رسمه أيضا باعتبار الإضافة المعنونة بأنه " أصول الفقه " على معنى ما يبتنى عليه الفقه، بناء على أن الماهية المقررة في نفس الأمر إذا احتوت فيها عناوين متكثرة وجهات متعددة يجوز تعريفها بكل واحد منها، حيث أن المقصود تأتي معرفتها بوجه ما، وهي تتأتى بأي عنوان يكون، وإن كان المأخوذ في بعضها ما هو من قبيل الغاية، وفي الآخر ما هو من قبيل العرض.
وعلى أي حال كان، فقد جرت عادة الأصوليين في لفظ " أصول الفقه " بالبحث عن كلتا الجهتين، استعلاما للمناسبة المعتبرة في النقل كما هو الأظهر، أو تنبيها على صحة إرادة كلا المعنيين في مقام التعريف، أو على عدم تحقق الهجر في المعنى المنقول منه على ما احتمله بعض الأجلة، غير أنه اختلفت مشاربهم في التعرض للجهتين من حيث التقديم والتأخير، فإن منهم من قدم المعنى الإضافي - وهم الأكثرون - نظرا منهم إلى تقدمه بالطبع، المقتضي لأولوية تقدمه في الوضع أيضا.
ومنهم من قدم المعنى العلمي كبعض الأعلام (1) نظرا إلى أنه المقصود أصالة، فهو أولى بالتقديم من المقصود بالتبع، ولكل وجه وإن كان الأول أولى، لما يرتبط بالمعنى العلمي ما لا يتأتى معرفته إلا بمعرفة المعنى الإضافي، فالنظر في المعنى الإضافي يستدعي البحث في مقامين:
المقام الأول:
فيما يتعلق بالجزء الأول من هذا المركب وهو ال " أصول " فإنه جمع مفرده الأصل وهو في العرف الكاشف عن اللغة يأتي لمعان:
أحدها: مبدأ الشئ وأوله، يقال: الملح أصله ماء، أو في الأصل كان ماء، والخمر أصله ماء عنب أو في الأصل كذلك، وفلان أصله عربي أو بغدادي،
पृष्ठ 39
أو في الأصل كان كذا " وأنت إذا تأملت في موارد إطلاق هذا اللفظ لوجدته أغلب استعمالا في هذا المعنى.
ومنه ما في كلام أهل الصرف عند إعلال الكلمات، من أن اللفظ الفلاني أصله كذا أو في الأصل كذا فصار كذا، ولعله عليه مبنى ما في عرف الأصوليين من إطلاقه على الاستصحاب، لما أعتبر عندهم فيه من وجود الحالة السابقة، التي هي الحالة الأولية في الشئ.
والعجب أنهم اقتصروا في هذا المقام على ذكر المعنى الآتي، وتركوا هذا المعنى إلا قليل منهم، مع كونه أشيع والاستعمال فيه أغلب.
وثانيها: ما ذكره الأكثر من الخاصة والعامة، من أنه ما يبتنى عليه غيره، كما حكى التصريح به عن أبي الحسين البصري (1) ومنه أصل الجدار وأصل الشجر، وكون مشيئة الله أصلا في الأشياء.
ومن هنا يعلم أن الابتناء المأخوذ في هذا المعنى، أعم من كونه على نحو العلية التامة، أو السببية باصطلاح الأصولي للحدوث أو البقاء.
نعم لا يطلق الأصل بهذا المعنى على ما هو من قبيل الشروط والمعدات وغيرها من العلل الناقصة.
وقد أفرط في هذا المقام الآمدي (2) في محصوله - على ما حكي عنه - وكذلك في منتخبه.
وعن صاحب التحصيل (3) أيضا من تفسيره بالمحتاج إليه، فإنه بحسب المفهوم يشمل ما لو كان من قبيل الشروط وغيرها، إلا أن يراد به ما يرجع إلى
पृष्ठ 40
المبتنى، عليه، فيكون التعبير به واردا على سبيل المسامحة، وكما أنه بناء على ظاهر عبارته أفرط فقد فرط هو في إحكامه، وجماعة أخرى ففسروه بما يستند تحقق الشئ إليه (1).
وصاحب الحاصل (2) ففسره بما منه الشئ، وبعضهم ففسره بمنشأ الشئ، فإن هذه التفاسير ظاهرة كالصريح في إرادة العلة التامة للحدوث فقط.
وقد عرفت أنه للأعم من الجهتين، إلا أن يريدوا بها ما يرجع إلى المعنى الأعم.
وممن فرط في هذا المقام من فسره بما يبنى عليه الشئ، لظهور ذلك في الابتناء الناشئ عن الجعل والاعتبار، وهو في العرف للأعم منه ومما يكون من مقتضيات ذات الشئ، كالمعلول بالقياس إلى علته التامة، بل الأشياء بالقياس إلى مشيئة الله تعالى.
وأضعف التفاسير، تفسيره بما في القاموس من أسفل الشئ، سواء أريد به المطلق، أو المقيد بما يكون على جهة الابتناء.
أما الأول: فلوضوح عدم إطلاق الأصل على كل أسفل حتى ما لا يبتنى عليه غيره، وهو كثير.
وأما الثاني: فلأن الأصل وإن كان يصدق على الأسفل المبتنى عليه الأعلى، لكن لا باعتبار عنوان الأسفلية، بل باعتبار عنوان الابتناء عليه.
والحاصل: بين ما يبتنى عليه وأسفل الشئ عموم من وجه، والأصل إنما يصدق في مادة افتراق الأول ومادة اجتماعه مع الثاني، لكن من جهة عنوان الابتناء عليه.
وبالجملة، الذي يساعد عليه العرف إنما هو صحة ما ذكره الأكثرون.
पृष्ठ 41
ومنه إطلاق الأصل على رئيس القوم وسيدهم، بتقريب: أنه الذي يبتنى عليه أمورهم مما يصلحهم ويفسدهم.
ومنه اخذ أيضا ما في لسان الأصوليين من إطلاقه على الدليل، والقاعدة، والظاهر على ما يأتي بيانه، فإن الدليل ما يبتنى عليه العلم بالنتيجة، والقاعدة ما يبتنى عليه معرفة أحكام جزئيات موضوعها، والظاهر ما يبتنى عليه مدار الإفادة والاستفادة بالألفاظ.
ومنه أيضا إطلاقه في لسان أهل القياس على المقيس عليه، قبالا للمقيس المسمى عندهم بالفرع، فإنه الذي يبتنى عليه معرفة حكم الفرع.
نعم ربما يطلق على ما يتردد بين رجوعه إلى المعنى الأول ورجوعه إلى المعنى الثاني، كما في لسان علماء الرجال من إطلاقه على الأصول الأربعمائة، التي ألفها الرواة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في ضبط الأحاديث، فإن كونها أصولا إما من جهة أنها أول ما دونت في الإمامية، أو من جهة إنها التي يبتنى عليها مذهب الإمامية وشرعهم، أو التي يبتنى عليها الكتب الأربعة وغيرها من كتب الحديث المنتخبة عنها.
وثالثها: واقعية الشئ وتحققه في نفس الأمر، كما يقال: هل للشئ الفلاني أصل؟ وللخبر الفلاني أصل؟ وهكذا.
وكما أنه لغة جاء للمعاني المذكورة فكذلك اصطلاحا يطلق على معان، وهي الأربع المعروفة المتقدم إليها الإشارة ، أعني الدليل والقاعدة والاستصحاب والظاهر، وفي كلام غير واحد أنه يستعمل اصطلاحا في معان كثيرة مرجعها إلى الأربع المعروفة، ومرادهم بالمعاني الكثيرة - على ما يظهر للمتتبع ويشهد له تعرض جماعة لضبط تلك المعاني وجمعها في رسائل مفردة - هي الأصول المتداولة على لسان الأصولية والمتفقهة من أصالة الحقيقة، وأصالة العموم، وأصالة الإطلاق، وأصالة عدم التخصيص، وأصالة عدم التقييد، وأصالة عدم الاشتراك، وأصالة عدم القرينة، وأصالة عدم النسخ، وأصالة البراءة، وأصالة
पृष्ठ 42
الاحتياط، وأصالة النفي، وأصالة العدم، وأصالة عدم الدليل دليل العدم، وأصالة الصحة في فعل المسلم، وأصالة اللزوم في العقد وفي البيع، وأصالة الفساد في العبادة والمعاملة، وأصالة الطهارة في الماء أو في الأشياء، وأصالة الإمكان، وأصالة التداخل أو عدم التداخل في الأسباب، وأصالة الأقل فيما دار الأمر بينه وبين الأكثر، وأصالة عدم الجزئية أو الشرطية، وأصالة الركنية، وأن الأصل في المسألة الإجماع مثلا، وأن الأصل في الماء المشكوك كريته الكرية أو عدمها، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى.
وقضية ذلك، كون مرادهم بالكثرة المدعاة هنا، كثرة موارد الاستعمال ومصاديق المستعمل فيه الغير الخارج عن الأربع المذكورة، فيكون المراد برجوعها إليها اندراجها فيها.
فمحصل العبارة المذكورة: أنه يستعمل في موارد كثيرة، تندرج في الأربع المعروفة اندراج مصاديق الكلي تحته، لا أنه يستعمل في معان كلية متغايرة ومغايرة للأربع المذكورة لكن يرجع إليها بنحو من التأويل، كما هو مؤدى العبارة المذكورة ظاهرا، لوضوح أن الموارد المذكورة ونظائرها ليست إلا مصاديق الأربع المعروفة، ولم يعهد منهم إطلاقه على ما يغايرها مغائرة المفاهيم الكلية بعضها لبعض كما لا يخفى.
وعليه، فما في كلام بعض الأعلام (1) من أنه في العرف يطلق على معان كثيرة، منها الأربعة المتداولة في ألسنة الأصوليين، لا محمل له سوى أن يراد بالمعاني الكثيرة - التي منها الأربعة المتداولة - ما يعم ما في كلام أهل الصرف، وما في كلام أهل القياس، وما في كلام علماء الرجال وما أشبه ذلك.
وكيف كان، فالعمدة في المقام هو النظر في أنه بالقياس إلى المعاني الأربع هل هو حقيقة في الجميع على طريق الاشتراك لفظا أو معنى أو مجاز في الجميع
पृष्ठ 43
أو حقيقة في البعض ومجاز في آخر؟ وجوه، أوجهها الأول لبطلان الوجوه الأخر بانتفاء لوازمها.
فإن الحقيقية في الجميع على طريقة الاشتراك المعنوي تستلزم كون الاستعمال بالقياس إلى كل من باب إطلاق الكلي على الفرد، بأن يكون المستعمل فيه المقصود من اللفظ أصالة هو المعنى اللغوي الكلي، ويكون كل من المعاني الأربع مرادا باعتبار الماهية الكلية اللغوية المتحققة فيه، لا باعتبار الخصوصية المأخوذة فيه قيدا للماهية.
وهذا اللازم كما ترى مما يقطع بانتفائه في المقام، من حيث إن المعلوم من طريقة أهل الاصطلاح - المعلومة بالتتبع - في موارد إطلاقاتهم، عدم ملاحظة المعنى اللغوي في شئ من إطلاقات اللفظ رأسا، فضلا عن كونه مقصودا منه أصالة مستعملا فيه قصدا.
ومن هنا يعلم انتفاء ما هو من لوازم المجازية في الجميع أو في البعض، فإن هذا الاحتمال وإن كان غير بعيد في حد ذاته، لجواز بقاء اللفظ في لسانهم على معناه الأصلي من دون تجدد وضع آخر له في مصطلحهم، مع كون مبنى استعماله في كل من الأربع على التجوز بملاحظة مناسبتها للمعنى الأصلي، باعتبار الفردية أو غيرها من أنواع العلائق، لكن ينفيه القطع بعدم ملاحظة شئ من هذه العلاقة ولا غيرها في شئ من إطلاقاته، ومن البين أن ملاحظة العلاقة من شروط التجوز.
نعم قد يستشكل في كونه حقيقة بالقياس إلى الظاهر، وإلا لوجب اطراده فيما يطرد فيه الظاهر، والتالي باطل، لوضوح صحة إطلاق الظاهر فيما لو استفيد حكم من [دليل] (1) لفظي مثلا، فيقال: " الحكم الفلاني ظاهر هذا الدليل " و " إن الدليل الفلاني ظاهر في هذا الحكم " مع عدم صحة القول بأن الحكم الفلاني أصل هذا الدليل، وإن أصل الدليل الفلاني هذا الحكم، مرادا به الظاهر.
पृष्ठ 44
لكن يدفعه: أن كون الأصل حقيقة في الظاهر لا يستلزم كون كل ظاهر مما يصح إطلاق الأصل عليه، كما في الخمر المستعمل في المسكر من العصير العنبي، الغير المستعمل في كل مسكر.
والسر فيه: أن مسمى الأصل ظاهر خاص، أعتبر كونه وصفا قائما بما هو من صفات اللفظ وأحواله، كالحقيقة والعموم والإطلاق ونحوه، ولذا يصح أن يقال:
" الأصل في الاستعمال الحقيقة، وفي العام العموم، وفي المطلق الإطلاق " ومفروض المثال المأخوذ موردا للنقض ليس من هذا الباب، لوضوح أن الظاهر هنا مما اعتبر وصفا للمدلول.
وقد يستدل على بطلان المجازية باستلزامه المجاز بلا حقيقة، وعلى بطلان الاشتراك المعنوي بفقد الجامع القريب، وعلى بطلان المجازية في البعض بعدم وجود المناسبة، والكل منظور فيه.
أما الأول: فأولا بالنقض بما قبل تحقق النقل، بناء على ما اختاره المستدل، بعد البناء على الحقيقة في الجميع من باب الاشتراك لفظا من كونه تعينيا للأصل فيه، فإن وضع التعين يستلزم سبق الاستعمالات المجازية البالغة في الكثرة حدا يستغنى معه عن القرينة، فاللفظ حينئذ كان مجازا في الجميع، فإن فرض له حقيقة في تلك الحالة فهي موجودة في جميع الأحوال، وإلا لزم المجاز بلا حقيقة.
وثانيا: بالحل، بأن وجود المعنى اللغوي الصادق على الجميع صدق الكلي على الفرد كاف في هدم بنيان هذا المحذور.
والمفروض أن النقل على فرض تحققه حاصل عن هذا المعنى، واحتمال كون المعتبر في نظر المستدل وجود حقيقة أخرى غير المعنى اللغوي، مع اعتبار نقل اللفظ في لسانهم منه إليها بالقياس إلى تلك المعاني على فرض مجازيتها مقطوع بفساده، لعدم القول به لأحد، مع عدم الإشارة إليه في كلام المستدل، مع عدم لزومه حيث لا دليل عليه.
وأما الثاني: فلأن المراد بالجامع القريب، إن كان مطلقه الذي يكون عاما
पृष्ठ 45
لتلك المعاني ولغيرها مما ثبت إطلاق اللفظ عليه في العرف فهو موجود، لكفاية المعنى اللغوي الموجود هنا.
وإن كان مقيده الذي يكون خاصا بها بحيث لا يتعداها إلى غيرها، على معنى اعتبار نقل اللفظ في اصطلاحهم عن المعنى اللغوي العام إلى ما هو أخص منه وأعم منها جامعا لها.
ففيه: أنه غير لازم، إذ مع وجود المعنى العام لا جهة لاعتبار غيره على جهة الاختصاص بهذا اللسان.
إلا أن يقال: بابتناء الكلام على فرض ثبوت النقل في هذا اللفظ، فحينئذ لو كان بعد ذلك النقل مشتركا معنويا بين المعاني الأربع لاستلزم وجود جامع قريب بينها يكون هو المنقول إليه، ومرجعه إلى اعتبار بناء الاشتراك المعنوي على الوضع الجديد الاصطلاحي وهو مفقود.
فيدفعه: مع أنه لا داعي إلى التزام هذا الاعتبار، إمكان فرض وجود مثل هذا المعنى، نحو ما يستنبط منه الحكم الشرعي مثلا، إلا أن يراد بفقده [عدم] (1) معهودية إطلاق اللفظ على نحو ذلك في لسانهم، فيرجع إلى ما بيناه بنوع من التأويل.
وأما الثالث: فلأن المناسبة المعتبرة هنا المفروض انتفاؤها إما أن يراد بها المناسبة العامة الغير المختصة بتلك المعاني، فهي موجودة فيما بينها وبين المعنى اللغوي، فلم لا يجوز كون استعماله في بعض تلك المعاني مجازا لأجل تلك المناسبة بالغا حد الحقيقة وفي بعضها الآخر غير بالغ هذا الحد. أو يراد بها ما هي
पृष्ठ 46
مختصة بها، على معنى اعتبار كون بعض تلك المعاني وهو المعنى المجازي مناسبا للبعض الآخر الذي فرض كون اللفظ حقيقة فيه، ففيه:
أولا: منع لزوم ذلك وعدم الداعي إليه، لكفاية المناسبة اللغوية في صحة التجوز.
وثانيا: منع عدم وجودها، فإن مشابهة بعض تلك المعاني لبعض في وصف استنباط الحكم الشرعي منها - مثلا - كافية في صحة التجوز، ومع وجودها لا معنى للإنكار إلا أن يرجع إلى إنكار اعتبارها وملاحظتها حين الاستعمال، فيرجع هذا الوجه أيضا إلى ما قررناه من الحجة على نفي هذا الاحتمال.
وعلى أي حال كان، فهل الوضع الثابت هنا - بناء على المختار - ثابت من باب التعيين أو التعين؟ وجهان، مبناهما على أن الأصل في الوضع حيثما ثبت مرددا بينهما هل هو التعيين أو التعين؟
قد يقال: بكون الأصل الثاني، لأصالة تأخر الحادث، وأصالة عدم تعدد الوضع، وللنظر في ذلك مجال واسع، لمكان المناقشة في كل من الأصلين.
أما الأول: فلأن أصالة التأخر - بعد تسليم اعتبارها ثم جريانها في الألفاظ - لا تفيد نفعا في ثبوت وضع التعين، إلا بإحراز مقدمتين:
إحداهما: ثبوت كون التقدم من لوازم وضع التعيين وخصائصه، على معنى عدم اجتماعه مع وضع التعين، وأخراهما ثبوت كون التأخر من لوازم وضع التعين وخصائصه، على معنى منافاته لوضع التعيين.
والمقدمة الأولى وإن كانت لا مجال إلى إنكارها، للزوم وضع التعين مسبوقيته للاستعمالات المجازية، فيلزمه التأخر عن الصدر الأول الذي حدث فيه الاصطلاح وتأسيس الفن وموضوعاته المتداولة، فلا يمكن تقدمه على حدوث الاستعمال. لكن المقدمة الثانية في حيز المنع، لعدم منافاة التأخر لوضع التعيين في حكم العقل، بإمكان تحققه فيما بين الاستعمالات المجازية المتأخرة، التي هي في قوة أن يحدث معها وضع التعين، بدعوى: أن صاحب الفن والاصطلاح بعد تحقق
पृष्ठ 47
الاستعمالات المجازية البالغة حد القوة المذكورة في متن الواقع تصدى لتعيين اللفظ تسهيلا للأمر على نفسه وتابعيه، وقضية ذلك استناد تعين اللفظ إلى التعيين دون كثرة الاستعمالات المجازية، في مكان لولاه لكانت الكثرة مؤثرة في حصول ذلك التعين، فأصالة التأخر حسبما فرضها المستدل لا تنهض منتجة لوضع التعين بعينه، بل لما هو مردد بعد بينه وبين وضع التعيين.
وأما الثاني: فلأن الوضع الذي يراد نفي تعدده بالأصل، إما أن يراد به ما هو من أحوال الموضوع - المعبر عنه بالمعنى المفعولي - وهو الموضوعية، أو ما هو من أحوال الواضع المعبر عنه بالمعنى الفاعلي.
وبعبارة أخرى: إما أن يراد به المسبب الذي هو التعين، أو السبب الذي هو التعيين، على معنى أن الأصل عدم تعرض أحد لجعل هذا اللفظ ثانيا بإزاء المعنى المبحوث عنه، بعدما تعرض واضع اللغة لجعله وتعيينه بإزاء المعنى اللغوي، ولا سبيل إلى شئ منهما.
أما الأول: فلأن المفروض تيقن حدوث الوضع بهذا المعنى، والشك إنما هو في سببه المردد بين التعيين وكثرة الاستعمالات المجازية، فلا يعقل نفيه بالأصل.
وأما الثاني: فلأن الأصل بالقياس إليه مشغول بالمعارض، إذ كما أن الأصل عدم تعرض أحد لجعل هذا اللفظ وتعيينه، فكذلك الأصل عدم تعرض أحد لمراعاة لوازم المجاز، فيه من نصب القرينة وملاحظة العلاقة ونحوها.
نعم هاهنا وجه آخر يمكن التعويل عليه لتأسيس هذا الأصل، وهو الغلبة الثابتة بالاستقراء، فإن الغالب في المنقولات كونها حاصلة بوضع التعين، لكن النظر الدقيق يقضي بعدم استقامة ذلك أيضا، فإن هذه الغلبة لا تجدي إلا بإحراز أمور، من استيفاء المنقولات الموجودة في الخارج كلا أو جلا، ومن الاطلاع على كيفية وضعها مع كون تلك الكيفية كيفية وضع التعين، ومن عدم العلم بوجود فرد مخالف في الحكم، كما هو شرط في كل استقراء مفيد للقطع أو الظن باللحوق، وإن لم يوجد اعتباره في صريح كلام أحد، نظرا إلى أن هذا القطع أو الظن إنما ينشأ من
पृष्ठ 48
القطع أو الظن بحكم الكلي الحاصل بوجدان غالب أفراده على ذلك الحكم، بتأليف قياس على طريق الشكل الأول، مشتمل على صغرى موضوعها الفرد المشكوك فيه المستقرأ له، وكبرى موضوعها ذلك الكلي الجامع بين ذلك الفرد وغيره من الأفراد الغالبة المستقرأ فيها، ومحمولها الحكم المعلوم ثبوته في تلك الأفراد المقطوع أو المظنون ثبوته للكلي، فمعنى قولهم: " الظن يلحق الشئ بالأعم الأغلب " إن الظن بحكم الكلي الذي هو في قوة الكبرى الكلية المظنونة، يلحق الشئ الذي هو الفرد المشكوك فيه المأخوذ موضوعا في صغرى القياس بالأعم الأغلب، الذي هو الغالب من أفراد ذلك الكلي المعلوم حكمها. ومحصله:
أن الظن بحكم الفرد المشكوك ظن بالنتيجة، وهو لا يتأتى إلا بنظم قياس صغراه كون هذا الفرد ملزوما لهذا الكلي، وكبراه كون الكلي ملزوما لهذا الحكم.
ومن البين أن الظن بحكم الكلي المعتبر في كبرى هذا القياس الحاصل بملاحظة أفراده الغالبة، لا يتأتى مع العلم بوجود فرد له مخالف في الحكم لتلك الأفراد، بل يستلزم ذلك العلم بعدم كون ذلك الحكم المعلوم للأفراد الغالبة حكم ذلك الكلي من حيث إنه ذلك الكلي، ومعه لا يحصل الظن بحكم الفرد المشكوك فيه، لأن الشبهة في حكمه من أول الأمر إنما نشأت عن الشبهة في حكم كليه التي لم ترتفع بعد، بل ارتفعت بانكشاف عدم كون الحكم المشكوك في ثبوته للفرد من لوازمه.
ومن هنا يتبين أن إعمال القياس هنا لا ينافي تسمية العمل بالاستقراء، فإن الاستقراء - في مصطلح المنطقيين - وإن كان يطلق على ما يقابل القياس والتمثيل، غير أنه في لسان الأصوليين على ما علم من طريقتهم وملاحظة موارد تمسكهم به يطلق على ما ينحل إلى حجتين:
إحداهما: الاستقراء بمصطلح المنطقي، ليعلم أو يظن به كون الحكم المعلوم للأفراد الغالبة من لوازم الكلي الجامع لتلك الأفراد ولغيرها، جنسا أو نوعا أو صنفا.
पृष्ठ 49
وأخراهما: القياس بمصطلحهم أيضا، ليعلم به أو يظن كون ما هو من لوازم ذلك الكلي ثابتا للفرد المشكوك في حكمه، فإن المنطقيين لا يتمسكون بالاستقراء إلا لاستعلام حكم الكلي من غير نظر لهم إلى فرد من أفراده، بخلاف الأصوليين حيث إنهم لا يتمسكون به إلا عند الشك في حكم الفرد، الناشئ عن الشك في حكم كليه.
ومن البين أن الأول لا يرتفع إلا بإعمال القياس بطريق الشكل الأول، كما أن الثاني لا يرتفع إلا بإعمال الاستقراء المصطلح عليه عند المنطقيين، والأول مترتب على الثاني، حيث إن العلم بلحوق الفرد بالأفراد الغالبة بعد العلم بحكمها لابد له من طريق، وهو إما ثبوت كونه من جملة الأفراد الغالبة وهو محال، لإفضائه إلى الدور، أو ثبوت كون الحكم المعلوم لها من لوازم الكلي المشترك بينها وبين الفرد، وهذا لا يثبت إلا بالاستقراء المنطقي، كما أن العلم باللحوق بعده لا يحصل إلا بالقياس المنطقي.
وكيف كان، فالأمور المذكورة بأسرها منتفية في المقام - كما يظهر بأدنى تأمل - ومعه كيف يمكن دعوى الغلبة، ثم التعويل عليها.
فالحق أن المسألة لا أصل لها مع أنها بنفسها قليل الجدوى، وحيث لا ثمرة فيها إلا ما فرض نادرا في الحقائق الشرعية - على القول بثبوتها - من لزوم مراعاة التاريخ على تقدير كون النقل لوضع التعين.
NoteV01P050N02 قوله: (في اللغة الفهم... الخ) مفردات تعريف الفقه هذا تعرض للمقام الثاني الذي يبين فيه ما يتعلق بالجزء الثاني من لفظ " أصول الفقه " وله أيضا بحسب كل من اللغة والاصطلاح معنى:
أما الأول: فعلى ما في العبارة، وكلام جمهور الأصولية، وأئمة اللغة، إنه الفهم.
وعن الرازي (1) تفسيره بفهم غرض المتكلم من كلامه. وعن بعضهم
पृष्ठ 50
تفسيره بفهم الأشياء الدقيقة (١).
وعن بعض الفضلاء (٢) أنه: التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، والظاهر أن مراده العلم الحاصل بطريق النظر، مع احتمال اختصاصه بالعلم التصديقي كما هو الظاهر، فيكون المراد بالعلم الشاهد خصوص الحجة، أو عمومه للعلم التصوري، فيراد بالعلم الشاهد ما يعم المعرف أيضا، وقوة الظن بل الجزم في جانب الأول، وعلى طبقه ورد استعمالات الكتاب والسنة على حد الكثرة.
منها: قوله عز من قائل: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/18/93" target="_blank" title="الكهف: 93">﴿لا يكادون يفقهون قولا﴾</a> (٣) وقوله أيضا: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/17/47" target="_blank" title="الإسراء: 47">﴿ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾</a> (4) وقوله (عليه السلام): أنتم أفقه الناس - إلى - عرفتم معاني كلامنا ... الخ.
وأما التفاسير الأخر المتضمنة للخصوصيات المعلومة فإن رجعت إلى الأول بدعوى: ورودها لإرادة المثال من دون إرادة مدخلية الخصوصيات في المسمى اللغوي فهو، وإلا فلا يلتفت إليها.
وأما " الفهم ": فهو أيضا مما اختلفت كلمتهم في تفسيره، فمنهم من فسره بالإدراك المطلق، المتناول لكل من التصور والتصديق، وهو المتبادر من إطلاقاته الجارية على لسان العرف كما يظهر للمتتبع.
ومنهم من فسره بالعلم، ولعله راجع إلى الأول، لاحتمال إرادة ما يعم التصور من العلم وإن كان خلاف الظاهر.
ومنهم من فسره بجودة الذهن من حيث استعداده لاكتساب المطالب من المبادئ.
पृष्ठ 51