وقد يبدو هذا الرأي غريبا بعد ما قلناه عن استقلال الموسيقى وعموميتها وذاتيتها؛ فقد يفهم المرء من هذه الصفات أن الموسيقى فن مستقل عن الواقع الحي الذي يعيش فيه الناس، وأنها تبلغ في عموميتها حدا يباعد بينها وبين أية نظرة خاصة إلى الحياة وإلى المجتمع، وأن القوة الوحيدة الدافعة إلى خلقها هي المشاعر الذاتية والظروف الفردية التي يمر بها مؤلفها فحسب. على أن هذا الفهم أبعد ما يكون عن قصدنا؛ فكل هذه الصفات التي أشرنا إليها، تتعلق بوسائل الخلق الموسيقي، لا بالقوة الدافعة إلى هذا الخلق، أو الأهداف التي يضعها الفنان نصب عينيه؛ ذلك لأن حساسية الفنان الصادق تجعله أكثر الناس تأثرا بأحوال الحياة المحيطة به، فتأتي موسيقاه صورة معبرة عن هذه الأحوال، وإن كانت وسيلته إلى الخلق الفني ذاتية. وعلى حين تكون المعاني الموسيقية عامة، فلا شك أنها تثير من الانفعالات ما يتلاءم مع الأفكار والمشاعر المسيطرة على ذهن الفنان. وبينما تعجز الموسيقى عن التعبير عن فكرة خاصة بعينها، أو إحساس محدد، أو حادثة جزئية؛ فإنها تعكس بلا جدال ذلك الجو الذي تأثر به الفنان، وتبعث في نفوس سامعيها إحساسا يتمشى مع إحساسه عند تأليفه لها. أما استقلال الموسيقى، فلا يعني على الإطلاق انعزالها عن الواقع المحيط بها، وإنما يعني اختلاف صورتها النهائية عن صورة موضوعها، ويعني أن العلاقة بينها وبين هذا الموضوع ليست علاقة محاكاة أو تمثيل، أو تصوير مباشر، وإنما هي علاقة إيحاء، تبعثه الموسيقى في النفس، فتخلق فيها شعورا عاما يتلاءم مع طبيعة ذلك الموضوع، وإن لم يكن يحاكيه بطريق مباشر.
ولست أعني أن كل موسيقى قد اكتسبت هذه الصفات، وأصبحت معبرة عن الواقع الحي الذي خلقت فيه مع تميز وسائلها بالصفات الخاصة للفن الموسيقي، ولكني أعني أن المثل الأعلى للموسيقى ينبغي أن تتوافر فيه هذه الصفات، وأن هناك بيئات موسيقية معينة قد اقتربت من هذا المثل الأعلى، وعملت على تحقيقه بكل ما وسعها من جهد، هي البيئات الموسيقية الغربية، وهي التي يدور حولها البحث في هذا القسم من دراستنا.
اللغة الموسيقية
لكل فن وجهان: وجه تركيبي، ووجه تحليلي. أما الوجه التركيبي فهو ذلك الذي يتبدى عليه العمل الفني في صورته النهائية، وموقفنا بإزاء هذا الوجه هو أن نحدد قيمته الجمالية، ونقيسه بالمقاييس الذوقية المتعارف عليها في ذلك الفن. وأما الوجه التحليلي، فهو - كما يدل على ذلك اسمه - تحليل مفصل للمراحل المختلفة التي يمر بها العمل الفني حتى يصل إلى صورته النهائية، ودراسة علمية دقيقة للوسائل التي يستخدمها الفنان، وللأساليب المختلفة التي يتأثر بها، وللتجديدات التي يبتكرها. وكل فن سليم يجب أن ينطوي على هذين الوجهين معا، وإذا كان الوجه الأول هو الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة كلما ذكرت كلمة الفن، فلا جدال في أن الوجه التحليلي يمدنا بالأساس العلمي الذي يجب أن يرتكز عليه كل فن. حقا إن كثيرا من التحليلات التي نصل إليها في دراستنا العلمية للفن ربما تكون قد طرأت على الذهن الواعي للفنان، ولكنها مع ذلك ضرورية بالنسبة إلى الأجيال التالية، التي ينبغي أن تبني حياتها الفنية على استيعاب علمي كامل للتطورات السابقة في مجالها الخاص، حتى يمكنها أن تواصل الطريق على أساس سليم. أما الآراء التي تؤكد عنصر «الفطرة السليمة» والاستعداد الطبيعي وحده، وتهمل العنصر العلمي التحليلي، فهي بلا شك آراء خرافية لم يعد لها مجال في عالمنا الحالي.
وأول ما ينبغي أن ندرسه في تحليلنا العلمي للموسيقى، هو عناصر اللغة الموسيقية؛ ذلك لأن للموسيقى لغة خاصة بها، ولهذه اللغة عناصر لا يؤدي كل منها عمله على حدة، وإنما تتضافر وتتشابك كلها سويا في إخراج المؤلفات الموسيقية، وهذه العناصر هي: الإيقاع، واللحن، والتوافق الصوتي، والصورة أو القالب.
أما الإيقاع
Rhythm ، فهو الوجه الخاص بحركة الموسيقى المتعاقبة خلال الزمان؛ أي إنه هو النظام الوزني للأنغام في حركتها المتتالية. ويغلب على الإيقاع عنصر التنسيق أو التنظيم المطرد؛ ذلك لأن الإيقاع هو تكرار ضربة أو مجموعة من الضربات بشكل منتظم، على نحو تتوقعها معه الأذن كلما آن أوانها، فالإيقاع إذن لا يضيف إلى اللحن جديدا، وإنما هو تنظيم زمني لحركة اللحن، بحيث يتناوب خلال هذه الحركة عنصر التأكيد المتوتر، وعنصر إطلاق هذا التوتر وتخفيفه، وهكذا ... ولقد أدرك الباحثون وثوق الصلة بين الإيقاع الموسيقي وبين النظام الذي تسير عليه حركة الجسم وحركة الطبيعة؛ فللجسم حركات إيقاعية سريعة، كالتنفس بما فيه من شهيق وزفير، أو حركات بطيئة نسبيا، كتعاقب الجوع والشبع، والنوم واليقظة. وفي الطبيعة إيقاع ثنائي يتعاقب فيه الليل والنهار، وإيقاع رباعي تتعاقب فيه فصول السنة؛ ومن هنا قال كثير من الباحثين بأن للموسيقى أصلا عضويا أو طبيعيا، ما دامت الحركة الإيقاعية فيها ترديدا لحركات مناظرة لها داخل الجسم الإنساني أو في الطبيعة الخارجية، مما يؤدي إلى تكوين ما يمكن أن يسمى بالحاسة الإيقاعية لدى الإنسان. وليس أدل على ذلك من أن أول استجابة للطفل أو للبدائي بإزاء الموسيقى، تكون استجابة إيقاعية، تتمثل في نوع من التمايل أو الرقص البسيط مع إيقاع الأنغام. كما أن البوادر الأولى للموسيقى تكون في كثير من الأحيان إيقاعا خالصا، كما هو الحال لدى كثير من القبائل البدائية، التي تنحصر حياتها الموسيقية في دقات أنواع مختلفة من الطبول فحسب.
أما اللحن
Melody
فلا يكتفي بأن ينظم ضربات الموسيقى تبعا لشدتها أو خفوتها، وإنما يضيف إلى الإيقاع عنصرا جديدا، هو عنصر ارتفاع الأصوات أو انخفاضها
अज्ञात पृष्ठ