ولكن مثل هذه التكملة التماثلية، إذا أصبحت مبدأ عاما في الرسم، تنقص من قدره ولا شك؛ إذ إنها تحتاج إلى مجهود ابتكاري أقل من ذلك الذي يحتاج إليه تصميم الشكل كاملا، ومن هنا كانت ضآلة قيمة الرسوم الزخرفية التماثلية من وجهة النظر الفنية، ومن هنا أيضا كنا نرى المدارس العميقة المعاصرة في الرسم لا تعترف بمبدأ التماثل حتى حين تكون الطبيعة تماثلية، كما هو الحال في وجه الإنسان أو جسمه.
فإذا طبقنا هذه الملاحظة على الموسيقى، وجدنا أن كثيرا من الألحان الشرقية تعتمد على عامل التماثل إلى حد بعيد. ولو تأملنا المثال السابق للحن الشرقي، وقارنا بين الجزء (أ) والجزء (ب)، لوجدنا (ب) مماثلا تماما ل (أ)، وكل ما في الأمر أنه ينزل عنه درجة في السلم؛ تماما كما في الشكل السابق في الرسم، الذي يماثل كل نصف فيه النصف الآخر، والفارق الوحيد أن أحدهما أعلى والآخر أسفل. والملحن الشرقي - باعتماده الدائم على عامل التماثل هذا - يلجأ إلى وسيلة سهلة، ولكنها في الوقت نفسه ذات قيمة فنية ضئيلة. ولنلاحظ، في الموسيقى الغربية، أن عامل التماثل هذا لا يظهر إلا في مختلف أنواع الموسيقى الراقصة الخفيفة، وهي أنواع لا يعتد بها كثيرا، وليست هي مصدر تفوق الموسيقى الغربية.
والخلاصة إذن، أننا إذا اختبرنا الموسيقى الشرقية في ضوء العنصر الأول من عناصر اللغة الموسيقية - وهو اللحن - وجدنا أنها على الرغم من كونها لحنية في أساسها، فإنها تلجأ في ألحانها إلى أساليب تفقد العمل الفني جدته وطرافته المستمرة، وتضفي عليه طابعا يبعث في الأذن الخبيرة قدرا غير قليل من الملل. وليس رأينا هذا حكما ذوقيا صرفا، بل إننا دعمناه بتحليل موضوعي صرف لطبيعة اللحن في هذه الموسيقى، تكشفت من خلاله عيوبه الأساسية. •••
والعنصر الثاني من عناصر اللغة الموسيقية هو الإيقاع. وأعترف للقارئ بأن التفكير في هذا العنصر قد استغرق مني وقتا أطول مما كنت أتوقع؛ ذلك لأنني كنت أحس إحساسا واضحا بوجود فارق كبير بين الإيقاع في الموسيقى الشرقية وبينه في الموسيقى الغربية الراقية (لا الموسيقى الراقصة الخفيفة). ولكني حين حاولت أن أصل إلى تعبير واع عن هذا الفارق، وجدت صعوبة كبرى.
فقد بدا لي في أول الأمر أن بطء الإيقاع الشرقي، وسرعة الإيقاع الغربي وتوثبه، هو الفارق بين الاثنين. وبالفعل لاحظت أنه يندر أن يجد المرء في الموسيقى الشرقية إيقاعا سريعا، ومن هنا كان شعور المرء بنوع من الخمول كلما استمع إليها، ومن هنا أيضا كان إخفاقها في خلق نوع من الرقص الحي الذي يحرك الجسم الإنساني كله حركة نشيطة متصلة. غير أني رغم ذلك لاحظت أولا أن هذه القاعدة ليست عامة، رغم أنها تصدق على أغلب ما ألف في الموسيقى الشرقية، ولاحظت ثانيا أن بعض المؤلفات الغربية تتميز بإيقاع بطيء؛ ففي وسط الحركة الأخيرة من سيمفونية بيتهوفن الثالثة، يكرر الفنان الموضوع الرئيسي للحركة، ولكن بإيقاع أبطأ كثيرا، ومع ذلك لم يفقد ذلك الموضوع شيئا من روعته بعد أن ازداد بطء إيقاعه. وإذن فبطء الإيقاع صفة تتميز بها الموسيقى الشرقية بالفعل عن الموسيقى العربية الرفيعة، ولكنها ليست هي العامل الحاسم في التفرقة بين الاثنين.
وبعد تفكير طويل، انتهيت إلى أن في الإيقاع الشرقي صفة أخرى أعتقد أنها هي التي تميزه بحق عن الإيقاع الغربي؛ فالأول ظاهر صريح، أما الثاني فهو ضمني باطن. ولنشرح المقصود بهاتين الصفتين بالتفصيل: فالإيقاع الشرقي ظاهر، بمعنى أن له كيانا مستقلا يسير مع اللحن ذاته، ولكنه لا يندمج فيه؛ ففي الموسيقى الشرقية تؤدي الآلات الإيقاعية، كالرق مثلا، دورا ظاهرا، تستطيع أن تميزه بكل وضوح، وصحيح أن ضرباته تتمشى مع اللحن وتنظمه، غير أنها مستقلة عنه بمعنى معين، ما دامت تكون تيارا تميزه الأذن بوضوح من بداية اللحن إلى نهايته. أما الإيقاع الغربي - وأكرر هنا أن المقصود هو الموسيقى العربية الرفيعة - فهو «مندمج» في تيار اللحن والتوافق إلى حد بعيد، أعني أن اللحن والتوافق هما اللذان يكشفان عن الإيقاع خلال مسارهما، دون أن يحتاج مؤلف الموسيقى إلى أن ينبه إليه تنبيها خاصا؛ ولهذا كان الإيقاع الغربي لا يحتاج إلى ضربات خاصة إلا في أحيان قليلة للغاية، ومعظم ضربات الإيقاع تكون خافتة إلى حد أن الأذن لا تستطيع تمييزها بسهولة؛ إذ تترك مهمة الكشف عن الوزن الإيقاعي للحن ذاته في مساراته وانعطافاته.
ولكن إذا كان الإيقاع الشرقي ظاهرا، والغربي ضمنيا أو باطنا، فلماذا نعد صفة الظهور في الأول مظهرا من مظاهر النقص؟ ذلك لأننا لو تتبعنا تطور الموسيقى ذاته، لوجدناه يسير بالتدريج نحو «إدماج» الإيقاع لا إظهاره؛ فالإيقاع هو أوضح العناصر وأظهرها في الموسيقى البدائية، بل إن من هذه الموسيقى ما هو إيقاعي صرف، ولا زالت آثار هذه الصفة واضحة في ريفنا المصري، حيث تتبلور التجارب الموسيقية لكثير من الناس في ضربات «الطبلة» وحدها. وإذا ظهر لحن في مثل هذه الموسيقى، فإن الإيقاع لا يتخلى له عن مكانه، بل يظل ظاهرا واضحا، يصاحب كل حركات اللحن ويؤكدها بطريقته الخاصة. والملاحظة العميقة لتطور الموسيقى تكشف لنا عن اتجاه تدريجي إلى «إدماج» عنصر الإيقاع في بقية عناصر الموسيقى؛ بحيث يكتشف إيقاع اللحن - في أرقى مراحل التطور الموسيقي - من خلال مسار اللحن والتوافق، ولا يحتاج إلى تنبيه خاص إليه. وليس معنى ذلك أن الإيقاع يفقد في هذه الحالة الأخيرة شيئا من تأثيره، ويغدو عنصرا مهملا من عناصر اللغة الموسيقية. بل إن الأمر على العكس من ذلك؛ ففي موسيقى برامز - وهو في رأيي أستاذ الإيقاع الأكبر - يندمج الإيقاع في اللحن اندماجا وثيقا، ومع ذلك يبلغ أقصى درجات الفاعلية والتأثير. وفي موسيقى بيتهوفن، يكفي اللحن وحده، دون حاجة إلى تنبيه خاص من آلات الإيقاع، لإحداث حركة إيقاعية تبلغ حدا هائلا من النشاط والتوثب، كما هو الحال في طريقة الربط
Syncopation (ونستطيع أن نترجمها من حيث معناها بقولنا: طريقة الضربات المؤجلة)، وهي الطريقة التي كان لبيتهوفن فضل التوسع في إدخالها في مؤلفاته الموسيقية.
وإذن فالتطور الموسيقي ذاته يثبت أن الإيقاع المندمج يمثل مرحلة أرقى في التأثير الفني من الإيقاع الظاهر، ومثله في ذلك مثل المعاني والجمل الكلامية التي يترك للمستمع أو القارئ وحده إدراك أهميتها، بدلا من أن يتولى الخطيب أو الكاتب إظهار هذه الأهمية بأن يقول بين فترة وأخرى: انتبهوا؛ فسوف أقول كلاما هاما! وإذن، ففي عنصر الإيقاع بدوره تظهر الموسيقى الشرقية تخلفا واضحا.
أما العنصر الثالث من عناصر اللغة الموسيقية، وهو التوافق الصوتي، فهو غريب تماما عن الموسيقى الشرقية. ولقد شرحت من قبل - عند الكلام عن العنصر الأول، أي: اللحن - السبب الرئيسي الذي أعتقد أنه هو الذي أدى إلى فقدان الموسيقى الشرقية لهذا العنصر الأساسي. ونتيجة لذلك أصبحت هذه الموسيقى تسير في تيار لحني متصل، يتصف بالسطحية ضرورة؛ ذلك لأن التوافق الصوتي هو مصدر عمق الموسيقى العربية؛ فبفضله تتخذ الموسيقى عند السامع ألوانا متجددة على الدوام، ويستطيع المرء أن يكشف فيها - كلما أعاد الاستماع إليها - معاني جديدة، بل إنه يزداد فهما لها كلما ازدادت مرات استماعه إليها؛ إذ يتمكن من تتبع التيارات الخفية التي تكمن خلف التيار الظاهر، ويلمس مدى براعة المؤلف في الجمع بين كل هذه التيارات في وحدة متكاملة. أما الموسيقى الشرقية، فلما كانت ذات تيار واحد - هو في ذاته ساذج إلى حد بعيد - فإن تكرار الاستماع إليها لا يؤدي إلا إلى الملل.
अज्ञात पृष्ठ