وهكذا ظهرت «ابتكارات» عديدة في كل ميادين الموسيقى: فعند شونبرج
Schönberg
يقضى تماما على السلم الغربي بفرعيه: الكبير والصغير، وتزول أهمية الأبعاد بين الأصوات، ويصبح لكل نصف صوت من الاثني عشر نصفا، التي يتكون منها ذلك السلم، نفس الأهمية التي للآخر. وتبع ذلك تغيير أساسي في توافق الأصوات، فلم تعد القاعدة فيه إحداث توافق بين أصوات تنتمي إلى سلم واحد يتمشى مع الاتجاه الذي يسير فيه اللحن في موضع التوافق، وإنما أصبح التوافق بين أصوات منفردة، أو مجموعات من الأصوات، ينتمي كل منها إلى سلم مختلف. وحدثت تغيرات موازية في «صورة» الموسيقى أو قالبها على يد سترافنسكي
Stravinsky ، فلم يعد الفنان يبالي بالصور التقليدية، بل أصبح انطلاق اللحن «حرا» لا يعوقه شيء. ومنذ ذلك الحين أخذت التجديدات تتوالى، وتبارى الموسيقيون في كشف قواعد غير مألوفة، أو في الخروج عن القواعد المألوفة، بل أتى على الموسيقى وقت ظن فيه أن القوالب القديمة قد اندثرت تماما، وأن الاتجاه الثائر الجديد قد استقر نهائيا. غير أن مثل هذه الحمى التجديدية التي بلغت أوجها في الربع الأول من القرن العشرين، أخذت بعد ذلك تفتر رويدا رويدا، وبدأ الفنانون ينظرون بعين نقدية إلى الكشوف الثائرة السابقة؛ يستبعدون منها الكثير، ويستبقون منها ما يؤمنون حقا أنه يضفي على الفن الموسيقي لونا جديدا، يتلاءم مع الألوان الزاخرة التي أضفاها عليه السابقون. ونستطيع أن نقول: إن الأسماء التي تتألق اليوم في عالم الموسيقى، هي في معظهما أسماء فنانين استطاعوا - على نحو ما - أن يستفيدوا من الكشوف الانقلابية استفادة مستنيرة، وألا يندفعوا في تيار التجديد إلى الحد الذي يجعل من موسيقاهم سلسلة متصلة من الأصوات الغريبة التي لا تستسيغها الآذان، ومن هذه الأسماء: سبيليوس، ورتشارد شتراوس، ورخمانينوف، وخاتشاتوريان، وشوستاكوفتش، وبروكوفييف.
سترافنسكي.
سيبيليوس.
فما هي الأسباب التي دعت إلى نبذ الثورة الانقلابية في الموسيقى، والعودة إلى التجديد التدريجي المتزن؟ الذي لا شك فيه أن فهم الوظيفة الحقيقية للفن الموسيقي هو الذي أرشد الموسيقيين إلى المنهج السليم الذي ينبغي أن يتبعوه في أسلوبهم. فالموسيقى - بعد أن أصبحت فنا يخاطب الإنسانية كلها، ويعبر عن معان ترتبط بحياة الناس الفعلية في هذا العالم - كان من المستحيل أن ترجع ثانية إلى الوراء، فتتحدث بلغة غامضة لا يفهمها إلا الأقلية النادرة، بل لا تفهمها هذه الأقلية ذاتها! أجل؛ فتلك الدعوى القائلة: إن الآذان لا تستسيغ الموسيقى الجديدة؛ لأنها لم تألفها، وأنها إذا اعتادتها فسوف تحسن فهمها وتذوقها، وتهتدي فيها إلى ما لم تدركه من عناصر الجمال - تلك الدعوى باطلة؛ إذ إن الآذان مهما ألفت سماع الموسيقى المبنية على النظم الثورية الخالصة، فلن تجد فيها «جمالا» بالمعنى المألوف. إن التحليل العقلي يكشف في هذه الموسيقى تجارب صوتية جديدة لم تعرف من قبل، ولكن عنصر التمتع الجمالي مفقود فيها، بل إن بعض المقطوعات التي تتطرف في تطبيق المذاهب الحديثة لا تعدو أن تكون مجموعة من الأصوات الخشنة التي لا يمكن أن يخفف التعود من تنافرها. وادعاء أشخاص معينين أنهم يجدون لذة فنية في الاستماع إلى هذه الموسيقى هو من قبيل «الحذلقة» فحسب. وأقصى ما يجده المرء فيها، هو نوع من المتعة العقلية، الناشئة عن الإحساس بارتياد آفاق مجهولة في العالم الصوتي.
2
وإذا استثنينا القلة المتعمقة في دراستها، التي تهتم بتحليل مثل هذه الكشوف علميا، فسوف نجد أن الكثرة الغالبة من الجمهور - الذي تتوجه الموسيقى عادة إليه - لا شأن لها بهذه التجارب الصوتية في قليل أو كثير. وفي هذا - بالإضافة إلى ما لاحظناه من غياب عنصر التمتع الجمالي عند الاستماع إلى هذه الموسيقى - نجد التعليل الكافي للإخفاق الذي صادفته تلك المحاولات التجديدية المتطرفة؛ ذلك لأن الموسيقى قد سارت في الطريق الذي تخاطب فيه الناس بمعان يفهمونها، ويجدون فيها صدى لإحساساتهم في حياتهم الواقعية. وهي قد أخذت على عاتقها أن تعين الإنسان في سعيه الدائم إلى التقدم، ولا بد لها - تبعا لذلك - أن تشق طريقها إلى أذهان الناس جميعا. فإن ظهر نظام موسيقي لا يصل إلا إلى فئة متخصصة قليلة، كان هذا النظام محكوما عليه بالإخفاق منذ البداية؛ فمنذ اللحظة التي أصبحت فيها الموسيقى فنا إنسانيا، أصبح من الواجب أن يتمشى أسلوبها مع صفتها هذه. وفي الحق أن هذا هو الطابع الذي تتميز به أروع المؤلفات الموسيقية في عصرنا هذا؛ أعني تلك المؤلفات التي عاشت وذاعت، لا تلك التي بهرت الناس وأدهشتهم لحظة، ثم غابت في ظلمات النسيان!
التعبير في الموسيقى الشرقية
अज्ञात पृष्ठ