तबकात
طبقات مشاهير الدمشقيين من أهل القرن الرابع عشر الهجري
शैलियों
وبالجملة فإكبابه على التعليم والتدريس والإفادة والصبر على الطلبة وتكرير المسائل وتفهيمها أمر غريب، كأنه قدس سره شغف بهذه الحالة، ولم يتولع بتأليف، وإن كان جمع عنه بعض الطلبة كثيرا من التقارير والتحارير وتوضيحات المسائل جملة وافرة. وكان قوي الحافظة، شديد الاستحضار للقواعد الصرفية والنحوية والمنطقية، بحيث يكاد أن لا يغيب عن ذهنه كلية منها أو شاهد، وإذا جر البحث في دروسه العامة لمسألة نحوية أو صرفية يفيض الكلام على أطرافها إفاضة غريبة، وانتفع به من لا يحصى بحيث كاد أن لا يبقى أحد من غير أقرانه إلا وهو تلميذه أو تلميذ تلميذه. وفي سنة (1298) قصد الديار الحجازية ومر في ذهابه على مصر. ولقي أفاضلها. واستجاز من العلامة الشيخ عليش 1 مفتي المالكية، ومن الأستاذ البنا في الاسكندرية، ومن الشيخ أحمد [بن زيني] دحلان في مكة المشرفة، وقدم على طريق البر. ولما توفي شيخنا المسند الشيخ سليم العطار سنة (1307) طلب شيخنا المترجم درسه في التكية السليمانية خميس شهري رجب وشعبان بحجة أنه وظيفة والده الشيخ حامد، وأن النظام كان يقتضي توجيهه عليه أصالة لا على ابن أخيه المنوه به، فعورض بتوجيهه على ابن أخيه ببراءة سلطانية، وأن النظام يقضي بتوجيهها على المتأهل لذلك من أولاده، فترشح لذلك ولده الأكبر فلم يؤد الامتحان، ثم استدعى شقيقه الأصغر منه فلم يؤد الامتحان أيضا، فقضي الأمر بتوجيه الدرس المذكور على ولد له صغير، وأن يكون شيخنا المترجم وكيلا عنه ريثما يتأهل، وأن يكون معاش الدرس المذكور أثلاثا، لشيخنا الثلث ولذاك الثلثان، فقرر القاضي ذلك، وجاءت البراءة بمقتضاه، وابتدأ شيخنا المترجم في الدرس المذكور سنة (1308) من المحل الذي وقف عليه شيخنا ابن أخيه، وهو من «صحيح البخاري» باب قوله تعالى: إن رحمت الل?ه قريب من المحسنين 1 من آخر الصحيح، ولم يزل حتى ختم «الصحيح» سنة (1314) وابتدأ بقراءته إلى أثناء كتاب العلم، وكان يحضر درسه المذكور العلماء والأعيان ويدعو له كثيرا من موظفي الحكومة، ويخلع عليه يوم الختام حسب العادة من الوالي والمشير، وسما قدره لدى الأكابر وأولي الأمر سموا عظيما وأجلوه إجلالا باهرا، وصار يدعى شيخ الشام، حتى في آخر سنيه صار يقدمه قاضي الشام على نفسه في المحافل ويتأدب معه. وكان يتودد إلى الأعيان والموظفين ويزورهم ويزورونه ويقبلون رجاه، ويسعى في قضاء مأرب من يرجوه. ولم يزل على طريقته المثلى ممتعا بصحته وقوته وسمعه وبصره على ضعف اعتراه فيه إلى أن فجعت الشام به خامس شوال سنة (1320) وذلك في مرض الوباء الذي نزل بالشام في أواخر شعبان وبقي بها أشهرا وذهب، قدس سره، يوم رابع شوال لرد زيارة العيد لبعض جيرانه وأرحامه ثم عاد وتغدى قبيل الظهر، ثم أخذ في القيلولة على عادته واستيقظ قبيل العصر، فشرع في الوضوء لصلاة الظهر، فبعد أن صلى قاء، ثم اعتراه إسهال نحوا من مرتين وتغير مزاجه، وصلى العصر والمغرب والعشاء بجماعة في بيته، وازداد انحرافه فأحضرت له الأطباء فسكنوا روعه، ووضعوا له علاج الوباء فتناوله، وبذلوا الجهد في كل ما يقدرون عليه فلم ينجع شيء، وأخذ يغيب ويفيق، ثم أدرك من نفسه الإشراف على الدار الآخرة، فأخذ يذكر الله كلما صحا وأوصى، بخمسة آلاف قرش، ولم يزل يشتد معه الحال إلى صباح ذلك النهار وهو يوم الأحد، ففيه أسلم الروح الطاهرة بعد طلوع الشمس وذلك في (22) كانون الأول 1، وكان اليوم ممطرا موحلا والناس في الاجتماع لرؤيا محفل الحج، فشاع الخبر في البلد، وأعلم بنبأه في المآذن، وطارت قلوب الناس جزعا، وأرسل إلى أهله بعض الرؤساء أن يتمهلوا بتجهيزه ويخرجوا به من الدار الساعة الثامنة بعد الظهر 2 بساعة، ففعل ذلك، ودخلت جنازته إلى الجامع الأموي ونحن في انتظارها بعد الساعة الثامنة، ولا تسل عن المجمع المحتشد من أهالي دمشق على طبقاتهم، واحتمل السير به من الجامع إلى مقبرة الدحداح حيث واروه جدث الرحمة والرضوان أكثر من ساعة، وعند دفنه هطلت السماء بالغيث المدرار، وتذكرت قول من قال في مثل ذلك مطلع قصيدة: (بكت السماء عليه ساعة دفنه) ورجعت الأقوام والأسف والحزن يملأ قلوبهم 3، فرحمه الله ورضي عنه.
पृष्ठ 97