(ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم). وأخيرا فلا صلة بين ما قلته وبين البارات والكباريهات و... و.... سائر المتع الحرام التى أقامها الشيطان لإغواء الناس، فإنما أعنى المتع الحلال وحدها. وفيها سعة لمرح الغرائز الإنسانية التى لا تكره التقيد بفضائل الدين وتقاليد الشرف والخلق. وليراجع الأخ الكريم مرة أخرى ما كتبت ليعرف حقيقة ما قصدت. * * * وكتب الأستاذ "محمد رشاد رفيق " يقول: إنك تهون من قيمة الزهد المادى وتقول: "إن الزهد فى رغيف لا يساوى إلا مليمات، والزهد فى متاع ما قد يساوى ثمنا ما، قليلا أو كثيرا، ولكنه لن يكون خطيرا". ربما كان الزهد المادى أقل قيمة من الزهد النفسى، ولكن ألا ترى أن ذلك الزهد المادى يروض النفس ويعودها على الزهد المعنوى، وأن الشخص الذى يقبل على المتاع الدنيوى لا يمكن أن يكون فى يوم ما زاهدا زهدا نفسيا؟ ومن جهة أخرى ألا تظن أن الزهد النفسى، إذا تمكن من المسلم فجعله يحتقر اللذات العاجلة، ويتعلق بما وعده الله من نعيم فى الجنة، سرعان ما يؤدى به إلى أن يصبح زاهدا فى الماديات؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام مثلا أعلى للزهد المادى، وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يزهدون فى الماديات البسيطة رغم ضالة ثمنها وقلة خطرها، لأن ذلك الزهد المادى يصقل نفوسهم، ويقوم شخصيتهم، ويجعلهم أقدر على تحمل أعباء الجهاد فى سبيل القضايا الاجتماعية والإنسانية الكبرى التى أتيت على ذكرها. ليس الزهد المادى مضرا فى حد ذاته، وإنما الضرر أن نجعله غاية ولا نجعله وسيلة، إذ يصبح الزهد فى هذه الحالة عنوانا لليأس، وذلك ما كنا نراه فى العصور التى ضعف فيها الإسلام وخرج الناس فيها على تعاليمه.. كنا نجد طائفة من الناس يستنكرون الشر ويكرهونه ولكنهم كانوا أضعف من أن يقاوموه ويحاربوه لخور نفوسهم وقلة ص _164
عزيمتهم، فكانوا يلجأون إلى اعتزال الدنيا والناس معتقدين أنهم بذلك تخلصوا من المسئولية الكبرى التى فرضها الله على كل مسلم من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وجهاد لإعلاء كلمة الله ونصر دينه.
والزهد المادى على حقيقته لا يتنافى مطلقآ مع السعى وراء الرزق، بل هو يقضى بضرورة ذلك- فالزهد كما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام هو أن نزهد بعد أن نمتلك ويصبح لدينا المال الحلال والرزق الطيب. أما أن نزهد وأيدينا خواء لا شىء فيها فهذا هو التظاهر الكاذب بالزهد.
المسلم الحق فى نظرى هو الذى يسعى أصدق السعى كى يحقق لنفسه أرقى معيشة، ويظفر بما يستطيع الحصول عليه من الطيبات، حتى إذا أكل أو شرب أولبس فعل ذلك لحفظ ذاته فقط، وحتى إذا ما أتى النساء فعل ذلك لحفظ نوعه وتحقيق سنة الله، ولم يفعل هذا أو ذاك للظفر بمتعة فانية ولذة عاجلة، إذ المتعة واللذة إنما هما المتعة الروحية واللذة المعنوية.
* * *
ليس عجيبا أن يثير ما كتبته عن الزهد المادى جوا من التساؤل والاعتراض، فإن الإخوان ينتمون إلى دعوة تأخذ بنيها بالتربية النفسية، واهتمام الإخوان بمناقشة الرأى الذى قررته يدل على أن الأمر مس من حياتهم العقلية جانبا حساسا يقظا، وهذا لا ريب مدعاة للسرور والارتياح، وإتاحة للمزيد من الشرح والإيضاح.
पृष्ठ 164