मैं नौ बजे के बाद भगवान बन गया
وصرت إلها بعد التاسعة
शैलियों
ابتسمت؛ فقد أعجبتني الفكرة ونحن نخترق وسط البلد، فلم نتوجه من باب اللوق بل من قصر النيل، موكب مهيب، سيارة الشرطة في المقدمة، يليها عربة «أبو ميار» المحملة بالمناظر الملونة، وتليها عربتي و«عصام» حامل التصريح، كانت يد الرائد «عمر» المرسلة خارج سيارته بجهاز اللاسلكي وكأنها عصا موسى التي تشق البحر، وتحيله أرضا ممهدة، لكننا لم نكن نعبر سيناء، ولم نكن بني إسرائيل.
كان الانتقال بين رحاب قاهرة الخديوي ممتعا، فلم يسبق لي التحرك في ركاب مذللة خطاه بهذا الشكل، عجبت من الفوضى التي يحدثها موكبنا، وعجبت لحد استخدام السلطة، ولا أنكر استمتاعي بها قدر استيائي منها. التصريح سليم؛ فبالطبع «شعراني» هو من أحضر التصريح كما يحضر كل ما نتمناه من أوراق رسمية، ابتسمت عندما تذكرته، وكيف كنت متشككا في التصريح يوم أخذته منه: «شكلك هاتسجنا يا أبو شعرة بالورق اللي بتجيبه ده!» كان هذا تعليقي وأنا أتفحص التصريح، فرد ضاحكا: «اتسجن انت بس وماتحملش هم.» ولكن التصريح لم يكن السبب الوحيد لتلك الرعاية المركزة لموكب «المحمل» الذي يختلف كثيرا عن كسوة الكعبة؛ فمحمل «أبو ميار» لم يكن سوى مناظر خشبية ملونة، كان وجود «عصام» ورغبته في التقرب لي بنحو إنساني هو العامل الثاني، لم يراودني شك وقتها أن القصة التي اختلقها «عصام» للرائد «عمر» هي العامل الثالث، أما أغراض الرائد «عمر» الغامضة فكانت العامل الرابع، لتأتي القصة التي يجب أن يكون اختلقها لتلعب دور عصا موسى في رحلتنا لاختراق الزحام، كانت العامل الخامس، لا أعتقد بأن أي مريض يحتضر في سيارة إسعاف قد يحظى بكل تلك العوامل، قد يفقد المريض حياته لكن لا يصح أن تتأخر المناظر الخشبية على الأستاذ «عماد».
لا أدري كيف وصلنا لميدان الأوبرا بتلك السرعة، وبدا تمثال إبراهيم باشا شامخا مستحوذا على الميدان بالكامل بحصانه الذي قضى به على الحركة الوهابية، وحمى إمارة الحجاز، وكاد يدخل الآستانة لولا تدخل سفراء أوروبا، وإقناع الآستانة بإبرام اتفاقية كوتاهية عام 1833م، والتي قضت بتثبيت ولاية محمد علي على مصر وكريت وسوريا، وتجديد ولاية إبراهيم باشا على جدة وإمارة الحجاز، مقابل تراجع الجيش المصري عن باقي الأراضي التابعة للأناضول؛ فصارت حدود مصر الشمالية تصل إلى مضيق كولك بجبال طوروس، ثم معاهدة لندن عام 1840م والتي صارت مصر بعدها حكرا على أسرة محمد علي، لكنها وضعت مصر تحت الوصاية الأوروبية أيضا، عظيما وقويا كان محمد علي.
لم أنتبه لمسجد الكخيا أو «عثمان كتخدا» بسلمه الحجري، دائما أشعر بأن هذا المسجد ما زال غير مكتمل التشطيب والدهان، وأني في يوم سأجد سقالات «المقاولون العرب» منصوبة، ويقومون ببياض جدران المسجد بالمصيص الرديء أو الجير.
اقترب الموكب من ساحة قصر عابدين ، وكانت الساحة مليئة بجموع لم أرها سوى في مظاهرات حركة «كفاية»، الفارق الوحيد أن جموع مظاهرات حركة «كفاية» مكونها الأساسي رجال الأمن، فكلما أرى مظاهرة أو تجمعا، أتذكر يوم أن رأيت بجوار مبنى وزارة الداخلية مشروع مظاهرة، لم أر المتظاهرين بالفعل، فقد رأيت لافتات، ويخفيهم آلاف مؤلفة من رجال مكافحة الشغب، فكانت النسبة تقريبا ألف جندي لكل متظاهر، وكان تعليقي يومها أنها: «مظاهرة رجال مكافحة الشغب ضد حركة «كفاية»»، أما التجمع الذي أراه كان كله من المدنيين ومجموعات الكومبارس بالزي الحربي البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، لمحت بعض الجنود الكومبارس يرتدون ملابس الجيش الألماني، فطلبت من «عصام» أن يذكرني بالجنود الألمان، فاندهش قائلا: «ألمان؟» فقلت له: «ماتشغلش بالك بس قوللي ماتنساش العساكر الألمان»، فوافق مضطرا ومستاء.
اقتحم الموكب الساحة ببوق الشرطة، بعض الهرج والمرج، توقف الموكب وجرى بعض الجنود النظاميين، وتحرك نقيب شرطة مقتربا من سيارة الرائد «عمر»، الذي قفز من سيارته، ومشيرا بحركة بيده بحدة ناحية «عصام»، فقفز «عصام» بدوره من سيارتي وهرع للرائد «عمر» معطيا إياه التصريح السحري رافعا إياه في وجه النقيب، نزلت من السيارة في محاولة لمعرفة ما يحدث فلم أكن قريبا بدرجة كافية لمعرفة ما يجري.
اعترضت طريقي يد ممتدة فعرفت تلك الساعة الرقمية العتيقة، والتي يملكها «أبو علي» منذ الدراسة الثانوية من الساعات «الكاسيو»، التي كانت هدية المدرسين العاملين في الخليج لأقاربهم في الثمانينيات. - خير يا هندسة إيه الزفة دي؟ - موضوع كبير، بس تعالى نشوف بيقولوا إيه.
تأبطت ذراعه وأنا أقترب من الحوار الذي عرفت أن سيادة الرائد «عمر» قد تولى قيادة قوات الشرطة المسئولة عن تأمين الموقع أثناء التصوير، وأصبح النقيب الذي لم أعرف اسمه، وسيارته المحملة بقوات مكافحة الشغب أو الأمن المركزي تحت إمرته، و«عصام» أصبح ساعده الأيمن؛ فقد اختفى للحظة وعاد وفي يده كرسي للباشا قائد القوات. - ما تقلقش يا باشمهندس، الرجالة هايفضوا المكان حالا عشان تنزلوا الماكاتيات بتاعتكم، مش بتقولوا عليها ماكيتات برضو؟ (ضحك الضحكة نفسها البلهاء.) - ربنا يخليك ، إنت أنقذتنا فعلا، كان مستحيل نوصل في الميعاد ده. - ماتنساش بقى تقول «لإسماعيل باشا» (مقهقها مرة أخرى). - من عينيا، دا هايقدر جدا اللي سعادتك عملته معانا.
جذبت «أبو علي» وهو على وجهه كل علامات الذهول؛ فعادة كان يقوم بهذا الدور وتلك الاتصالات «شعراني»، وكأنه سمع اسمه في خاطرنا - وأقصد «شعراني» - كان بالفعل قفز بيننا وسألني عما يحدث، فحكيت لهما فيما بعد مقابلة «عصام»، وأرجأت قصة «توحة» لوقت الرواق، وحين أتممت قصة الرائد «عمر» ومعاونه الجديد «عصام»، حتى انفجر «شعراني» في الضحك قائلا: «كدة اليوم اتظبط ...» قاطعته: «يوم إيه اللي اتظبط؟ وإيه سر «إسماعيل» باشا؟ دا ولا الخديوي إسماعيل في زمانه.» - تفتكر الخديوي إسماعيل يعرف يعمل ربع اللي يعرف يعمله «إسماعيل منسي»؛ دا حكمدار مرور العاصمة، انت بتهزر؟ - والتصريح إيه اللي فيه عشان عم «عمر» يحول النقلة لمشروع قومي يعني؟ - ماتفهمش انت يا هندسة المواضيع دي، اعتبرها بروتوكولات مصالح. - المهم ماتوديناش في داهية يا أبو شعرة. - لا ما تقلقش، المهم نفطم «عماد» يكبرك بس قدام الراجل عشان الدور يتسبك.
كان عماد يجلس على كرسي الرحلات، بقماش الخيام المشدودة على القوائم الخشبية، والمكتوب على مسنده من الخلف «المخرج»، وبيده مكبر الصوت، وفي رقبته معلق تليفونه المحمول وساعة رقمية، لم يكن واضحا مكانه في البداية، لكن مع تحركات أكثر من مائة جندي بملابسهم السوداء، وإخلاء الساحة تقريبا، لم يبق سوانا، ومجموعات الكومبارس، وفتح الطريق «لأبو ميار» الذي كان مذهولا مما يراه، وشعر أن الحاج «إبراهيم» يعرف عظام القوم ممن تفتح لهم الطرق، ويصطف لهم رجال الشرطة.
अज्ञात पृष्ठ