سنة الجمعة
تاليف: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني
وسئل شيخ الإسلام ﵀ عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة، هل فعله النبي ﷺ؟ أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم؟ وقول النبي ﷺ: " بين كل أذانين صلاة "، هل هو مخصوص بيوم الجمعة أم هو عام في جميع الأوقات؟
1 / 9
فأجاب ﵁:
الحمد لله رب العالمين، أما النبي ﷺ، فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا، ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النبي ﷺ كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر. ويؤذن بلال، ثم يخطب النبي ﷺ الخطبتين، ثم يقيم بلال فيصلي النبي ﷺ بالناس.
1 / 10
فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان، لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه ﷺ. ولا نقل عنه أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقت بقوله: صلاة مقدرة قبل الجمعة، بل ألفاظه ﷺ فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة، من غير توقيت. كقوله: " من بكر وابتكر، ومشي ولم يركب، وصلى ما كتب له ".
1 / 11
وهذا هو المأثور عن الصحابة، كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر، فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ومنهم من يصلي ثمان ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك. ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد؛ لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي ﷺ، أو فعله. وهو لم يسن في ذلك شيئا، لا بقوله ولا فعله، وهذا مذهب مالك، ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو
1 / 12
المشهور في مذهب أحمد.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة، فمنهم من جعلها ركعتين، كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد. ومنهم من جعلها أربعا، كما نقل عن
1 / 13
أصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد وقد نقل عن الإمام أحمد ما استدل به على ذلك.
وهؤلاء منهم من يحتج بحديث ضعيف، ومنهم من يقول: هي ظهر مقصورة، وتكون سنة الظهر سنتها، وهذا خطأ من وجهين:
1 / 14
أحدهما: أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين، وإن سميت ظهرا مقصورة. فإن الجمعة يشترط لها الوقت، فلا تقضي، والظهر تقضي.
1 / 15
والجمعة يشترط لها العدد
1 / 16
والاستيطان. والإمام،
1 / 17
وغير ذلك. والظهر لا يشترط لها شيء من ذلك. فلا يجوز أن تتلقي أحكام الجمعة من أحكام الظهر، مع اختصاص الجمعة بأحكام تفارق بها الظهر، فإنه إذا كانت الجمعة تشارك الظهر في حكم، وتفارقها في حكم، لم يمكن إلحاق مورد النزاع بأحدهما إلا بدليل، فليس جعل السنة من موارد الاشتراك بأولى من جعلها من موارد الافتراق.
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنها ظهر مقصورة، فالنبي ﷺ لم يكن يصلي في سفره سنة الظهر المقصورة، لا
1 / 18
قبلها ولا بعدها، وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعا، فإذا كانت سنته التي فعلها في الظهر المقصورة خلاف التامة، كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم، وكان السبب المقتضي لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة، كما قال بعض الصحابة: لو كنت متطوعا، لأتممت الفريضة. فإنه لو استحب للمسافر أن يصلي أربعا، لكانت صلاته للظهر أربعا أولى من أن يصلي ركعتين فرضا، وركعتين سنة.
وهذا
1 / 19
لأنه قد ثبت بسنة رسول الله ﷺ المتواترة أنه كان لا يصلي في السفر إلا ركعتين: الظهر، والعصر، والعشاء. وكذلك لما حج بالناس عام حجة الوداع، لم يصل بهم بمني وغيرها إلا ركعتين. وكذلك أبو بكر بعده لم يصل إلا ركعتين وكذلك عمر بعده لم يصل إلا ركعتين.
ومن نقل عن النبي ﷺ أنه صلى الظهر أو العصر أو العشاء في السفر أربعا، فقد أخطأ. والحديث المروي في ذلك عن عائشة هو حديث ضعيف في الأصل، مع ما وقع فيه من التحريف. فإن لفظ الحديث: أنها قالت للنبي ﷺ: أفطرتَ وصمتُ وقصرتَ وأتممتُ فقال: " أصبت يا عائشة " فهذا مع ضعفه وقيام
1 / 20
الأدلة على أنه باطل. روي أن عائشة روت أن النبي ﷺ
1 / 21
كان يفطر ويصوم، ويقصر ويتم، فظن بعض الأئمة أن
1 / 23
الحديث فيه: أنها روت الأمرين عن رسول الله ﷺ وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا: أن السنة للمسافر أن يصلي ركعتين، والأئمة متفقون على أن هذا هو الأفضل، إلا قولا مرجوحا للشافعي. وأكثر الأئمة يكرهون التربيع للمسافر، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في أنص الروايتين عنه.
ثم من هؤلاء من يقول: لا يجوز التربيع، كقول أبي حنيفة.
1 / 25
ومنهم من يقول: يجوز مع الكراهة، كقول مالك، وأحمد. فيقال: لو كان الله يحب للمسافر أن يصلي ركعتين، ثم ركعتين، لكان يستحب له أن يصلي الفرض أربعا، فإن التقرب إليه ببعض الظهر أفضل من التقرب إليه بالتطوع مع الظهر. ولهذا أوجب على المقيم أربعا، فلو أراد المقيم أن يصلي ركعتين فرضا، وركعتين تطوعا، لم يجز له ذلك. والله تعالى لا يوجب عليه وينهاه عن شيء إلا والذي أمره به خير من الذي نهاه عنه، فعلم أن صلاة الظهر أربعا خير عند الله من أن يصليها ركعتين مع ركعتين تطوعا. فلما كان سبحانه لم يستحب للمسافر التربيع بخير الأمرين عنده، فلأن لا يستحب التربيع بالأمر المرجوح عنده أولى.
1 / 26
فثبت بهذا الاعتبار الصحيح أن فعل رسول الله ﷺ هو أكمل الأمور، وأن هديه خير الهدي، وأن المسافر إذا اقتصر على ركعتي الفرض، كان أفضل له من أن يقرن بهما ركعتي السنة.
وبهذا يظهر أن الجمعة إذا كانت ظهرا مقصورة، لم يكن من السنة أن يقرن بها سنة ظهر المقيم، بل تجعل كظهر المسافر المقصورة. وكان النبي ﷺ يصلي في السفر ركعتي الفجر والوتر، ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. وهذا لأن
1 / 27
الفجر لم تقصر في السفر، فبقيت سنتها على حالها، بخلاف المقصورات في السفر، والوتر مستقل بنفسه كسائر قيام الليل، وهو أفضل الصلاة بعد المكتوبة، وسنة الفجر تدخل في صلاة الليل من بعض الوجوه. فلهذا كان النبي ﷺ يصليه في السفر، لاستقلاله وقيام المقتضي له.
والصواب أن يقال: ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة، ولو كان الأذانان على عهده؛ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح
1 / 28
أنه قال: " بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة ". ثم قال في الثالثة: " لمن شاء "؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر، وقبل العشاء الآخرة، وقبل المغرب، وأن ذلك ليس
1 / 29
بسنة راتبة. وكذلك قد ثبت أن أصحابه كانوا يصلون بين أذاني المغرب، وهو يراهم فلا ينهاهم، ولا يأمرهم، ولا يفعل هو ذلك. فدل على أن ذلك فعل جائز.
وقد احتج
1 / 30