وهم يرجعون بكل خير وكل حالة حميدة إلى الماضي البعيد، فالعصر الذهبي في عرفهم هو عصر الآباء الأولين، الذين كانوا يعمرون الدنيا في زمن يسوده الناموس الأعظم، فكل ما فيه عدل وحق مستقيم على سنته السواء بغير إفراط ولا تفريط، فمما ينسب إلى الحكيم الأكبر كنفشيوس في الكتاب المعروف باسم «لي يون»؛ أي أطوار الخير أنه قال: «لم أر قط عهد تطبيق الناموس فعلا أيام الأسر الثلاث، وإن حسبت أنني أفهم كيف كان، فيوم جرى الناموس مجراه كان كل شيء ملكا للجميع، وكان التقديم لذوي الكفاية والفضل والمقدرة، وكان صدق النية سجية وآداب الصداقة مرعية، ولم يكن أحد يخص بالمحبة آباءه دون غيرهم أو يخص بالحنان أبناءه دون سائر الأبناء، وكان الرزق مضمونا للشيوخ الفانين حتى الممات، والعمل مضمونا للقادر عليه وتكاليف التربية مضمونة للناشئين، وكان الأرامل واليتامى والشيوخ العقماء والعجزة المقعدون موضع العطف حيث كانوا فلا يعوزهم المأوى ولا المؤنة، وكانوا يأبون على أنفسهم أن يتركوا خيرات الطبيعة مهملة غير مثمرة، ولكنهم كانوا كذلك يكرهون تكديس المال وحبسه على أنفسهم، ولم يكن ثقيلا على طبائعهم أن يعملوا ويكدحوا، ولكنهم لا يعملون ولا يكدحون ليستأثروا وحدهم بخيراتهم، وبهذا يقضى على الكيد والدسيسة، ويمتنع ظهور اللصوص والمحتالين وذوي التمرد والخيانة، وتفتح الأبواب بغير حجاب.»
هذه صورة العصر الذهبي في عهد الناموس كما تصوره الحكيم الأكبر، وها هنا عبرة للباحثين في أطوار الشعوب ليستندوا إلى عاداتها وأمزجتها فيما تقبله وما ترفضه، وفيما يكون بينها وما لا يكون.
فمن هؤلاء الباحثين من كان يحسب أن الأمة التي تقدس القديم هذا التقديس، وتعظم شأن الأسرة هذا التعظيم، محصنة كل التحصين من دعوة المذاهب الاجتماعية المتطرفة ومن كل دعوة تهدم القديم وتنبذ المأثور ... فإذا بالأمة الصينية تهدم القديم باسم القديم، وتنكر ما هي فيه إيثارا للعصر الذهبي الذي تريد أن ترجع إليه كما وصفه الأسلاف، فمن الباب الذي ظنه الباحثون موصدا على دعوات التغيير والتبديل كان دخول هذه الدعوات باسم الناموس الخالد الذي لا يقبل التغيير والتبديل! وهكذا تحتال الحوادث حيلتها وتتلمس أطوار التاريخ مناهجها، فيأتي الطارق من جانب الحصن الحصين وهو آمن ما يكون عند الذين يقدرون للأمم مصائرها، فتضحك الأقدار.
وقد اخترنا هنا كلمة الناموس لكلمة «الطاو» الصينية التي يترجمها بعضهم باسم الطريق، وهي في الواقع كلمة لا تفي بمعناها المصطلح عليه كلمة الطريق ولا كلمة الناموس؛ إذ هي أعم من ذلك بكثير؛ لأنها تشمل معنى العناية ومعنى القدر ومعنى المعيار الذي يعطي كل شيء حقه ويرد كل شيء إلى نصابه طبعا وأصالة في أحوال الناس وأحوال الطبيعة وأحوال الغيب المجهول، فكلمة الناموس أقرب إلى هذا المعنى من كلمة الطريق.
والناموس هذا هو موئل كل عقيدة دينية وكل أدب من آداب السلوك، وهي كما قدمنا لباب الدين كله عند حكماء الصين، بحيث يصح أن يقال: إن السماء نفسها تلتزم آداب السلوك في تصريف المقادير.
والمثل الأعلى للحكيم المهذب أن يوفق بين أخلاقه وأفكاره وبين هذا الناموس الشامل الكامل، وآية هذا التوفيق المعيشة السواء بغير جماح ولا إحجام، أو المعيشة التي تتزن وتعتدل فلا إفراط فيها ولا تفريط، ويكاد حب الاتزان والاعتدال أن يفتنهم فتنة لا اعتدال فيها، ومن فتنته أنهم يسمون الصين كلها المملكة الوسطى (شن كو) ويزعمونها في موضع القسطاس من العالم تمنع جوانبه أن تميل!
ومن عباراتهم السائغة عبارة «المدارس» المائة التي يشيرون بها إلى اختلاف مذاهب الحكماء المقتدى بهم في العلم والأدب، ويريدون بها التحلل من قيود الحجر حيث يستنكر المستنكرون بعض المذاهب ليحصروا الفضل كله في سواه.
والواقع أن غايات هذه المذاهب غاية واحدة، وهي حكمة الاتزان.
وإنما الخلاف كله في التمهيد والتفصيل، فمنهم من يطلب الاتزان بالكف عن الطلب، ومنهم من يطلبه بالمعادلة بين المطالب، ومن حكمائهم المتشائم المعرض عن الدنيا ومساعيها، ومنهم المتفائل المقبل عليها، وقد كان كنفشيوس نفسه يغني ويحب الغناء ويعتبر الموسيقى من دروس الأخلاق النافعة للعلية والسواد.
ومن حكمائهم من يقول بتغليب الشر على طبيعة الإنسان، ومنهم من يقول بتغليب الخير عليها.
अज्ञात पृष्ठ