ودخلت المحل امرأة في هيئة الخدم، ممسكة بيمناها بنتا صغيرة، ثم اتجهت إلى ريري تحادثها باهتمام، على حين وثبت الصغيرة إلى حجر ريري وراحت تعبث بعقد يطوق عنقها بألفة واطمئنان، وعند ذاك خطر له خاطر، دق له قلبه حتى غطى على هدير البحر وراء ظهره، وتصلب جسده وتركز في الصغيرة حتى فقد الوعي بما حوله، ولكن لا .. لا .. لم تدور أفكاره في هذا المدار؟! أي وهم سخيف ومخيف معا! ووجه الصغيرة متوجه إلى أمها فلم يره، وقال لنفسه: قد تمر اللحظة بسلام، وسيضحك من نفسه طويلا فيما بعد، ولكن قد تزلزل الأرض وتخرب كل قائم، إذن فليهرب، لن يعود إلى كامب شيزار، لن يعود إلى الإسكندرية، ولكنه لم يتزحزح عن موقفه ذرة واحدة، كيف دهمته هذه الأفكار السخيفة؟!
وتخلصت ريري من البنت فقبلتها وأنزلتها إلى الأرض، فتناولت الخادم يدها ومضت بها خارج المحل مائلة إلى شارع جانبي يصعد إلى الداخل، وبدل أن يهرب، عبر الطريق نحو الشارع الجانبي وهو يوسع خطاه حتى كاد أن يلحق بالخادم والصغيرة، وارتفع صوت البنت بكلمات غير مفهومة أو لم يفهم منها سوى «شيكولاطة» في نبرة كزقزقة العصافير، ووقفا أمام دكان لبيع الحلوى واللعب عند منعطف الطريق المقاطع، فاتخذ مكانه إلى جانبهما تحت ضوء ساطع، وطلب علبة سجائر، وراح يلتهم وجه البنت بغرابة ونهم، ألا يستوي هذا الوجه على هيئة مثلث؟ والعينان المستديرتان؟ إن ملامح من أمه وأخواته الثلاث يختلطن في صفحته، ويغبن ثم يظهرن، أهو وهم؟ ... أهو الخوف؟ ... أهي الحقيقة؟ ... إنه يكاد يسقط إعياء، خفق بسرعة باعثا موجات من الدهشة والتقزز والرهبة والحزن والحنان والرغبة في الموت.
وذهبت بها الخادم إلى عمارة قائمة أمام الدكان في جانب الطريق الآخر، فظل يتبعهما عينيه حتى اختفتا، ونظر إلى السماء وهو يتنفس بصعوبة ثم تمتم: «الرحمة ... الرحمة ...»
29
وجلس في قهوة النسر، وهي المجاورة لمحل ريري، متجنبا مجال عينيها، وأسف كثيرا لأنه لم يحدث الخادم ولا الصغيرة، ولم يخرج لحظة عن الشلل الذي دهمه، ثم أليست الطفلة لطيفة ونشيطة وخفيفة وسنها متوافق جدا مع ذلك التاريخ المحزن؟ وما عسى أن يفعل الآن؟ لا يجوز أن يؤجل الجواب، ماضيه يزداد مقتا وما أبغض فكرة الرجوع إلى قدرية، وقد عدل بصفة حاسمة عن التفكير في الهرب. ولقد اعتاد أن يهرب مرات في اليوم الواحد، ولكنه لن يهرب أمام هذه الحقيقة الجديدة التي اجتاحت مستنقع حياته الراكدة فتفجر عن ينابيع حارة، لعلها دعوة أخيرة يائسة إلى حياة ذات معنى، معنى في حياة أعياه أن يجد لها معنى، لن يهرب، وليس في مقدوره أن يهرب، وسيواجه الحقيقة بوجه متحد، وبأي ثمن، أجل بأي ثمن، وسيرحب بذلك أيما ترحيب. ولن يعجز قدرية أن تجد لها رجلا آخر يعيش في كنفها، حق أنها تستحق العطف، ولكن حياته الكاذبة معها لا تستحق عطفا، عبث أن يواصل حياة كاذبة يجتر فيها أوهاما ماضية ولا مستقبل لها. إن قلبه لا يخفق بحب شيء، وها هي فرصة سانحة لكي يخفق حتى الموت، والبنت ابنته، وسيعرف اليقين بعد دقائق، ولن يقضى عليها باليتم الذي قضى التاريخ به عليه، وسوف تنفجر بها في حياته قنبلة من التعليقات والأقاويل والظنون، ويمسي مضغة في الأفواه، لكنه سيصمد للمحنة، ويتألم، ويكفر، ثم يحيا، وأخيرا سيجد للحياة معنى، وإذا تيسر له أن ينضم إلى أسرته الحقيقية فسيبقى في الإسكندرية، ويستثمر ماله في المحل الصغير، ويبدأ حياة جديدة. افترس الخجل والكبرياء والعناد وواجه الحياة بشجاعة.
انتظر حتى فات الليل منتصفه، وخلا الكورنيش أو كاد، وولى الجالسون، وآنس في محل ريري حركة شاملة تنذر بالنهاية، فغادر مجلسه إلى الشارع الجانبي الصاعد إلى الداخل، ووقف عند المنعطف المواجه للعمارة، وظهر شبح في أول الطريق الصاعدة، ها هي ريري قادمة، وتقدم خطوة إلى ما تحت المصباح لتتجلى معالمه، واقتربت منه ولكنها لم تلق إلى الواقف بالا. لم تعد تعبأ بالمتسكعين وهذا حسن جدا، وعندما شرعت في المرور به، قال بصوت رقيق متهدج: ريري!
التفت نحوه متوقفة عن السير وهي تتساءل: من؟
اقترب منها خطوة وهي تتفحصه دون أن يبين في وجهها أي انفعال، حتى قال في قلق: أنا عيسى.
تبدو حقا قوية ومحتشمة وجذابة، ولا شك أنها تذكرته، فهكذا تقول الدهشة والتقطيب واختلاج الشفتين والتقزز، وهمت بالسير، فاعترض سبيلها، فهتفت بغضب: من أنت؟ .. وماذا تريد؟ - أنا عيسى كما تعلمين.
فقالت بحدة وهي تعاني شتى الانفعالات: أنا لا أعرفك!
अज्ञात पृष्ठ