ومضت فترة ذهول حتى قطعها عيسى مغمغما: لعلها ضرورة للقبض على المجرمين.
لكنه رأى الباشا غارقا في التفكير الحزين فاستدرك متأسفا: أحكام عرفية في عهدنا! .. يا له من حدث مؤسف!
فقال الباشا: وهي لم تعلن من أجل عهدنا!
3
قال عيسى: صدر قرار بنقلي من وظيفة مدير مكتب الوزير إلى المحفوظات!
رفعت إليه أمه وجها نحيلا يشبه وجهه لدرجة كبيرة، وبخاصة في هيئته المثلثة ولكنه كثير الغضون، وللشيخوخة في عينيه وفمه ولحييه معاقل، ثم قالت: ليست المرة الأولى، لا تحزن، ستعود إلى ما كنت وأحسن، وربنا يصلح الحال.
كانا يقعدان في حجرة الجلوس ذات الشرفة المطلة على شارع حليم بالدقي، وكان زجاج الشرفة العريض مغلقا دفعا للبرد، وأغصان صفصافة تصعد وتهبط خلفه في حركة وانية، وامتدت وراء ذلك السحب وتكاثفت وتجهمت كالسياسة، وكانت الوزارة قد أقيلت، فأقصته الوزارة الجديدة فيمن أقصت من موظفين عن الوظائف الرئيسية، وبخاصة من كانت لهم علاقة بمعركة القنال، وتعد هذه الأحداث عادية أو شبه عادية عند الأم لكثرة حدوثها. وهي لا تصدمها صدمة اليأس لأنها ألفت أن يعقب المد جزر في صالح ابنها المحبوب. ورغم شيخوختها وأميتها فهي تتابع الحياة السياسية وتدرك من أمورها ما يسمح به موقف عيسى وما يؤثر في حياته جذبا ودفعا. هي به فخور وتؤمن بكل كلمة يقولها، وتعجب بما حقق من نجاح يفوق الخيال، خيالها وخيال المرحوم والده الذي عاش ومات موظفا صغيرا مغمورا، عيسى يشق طريقه رغم شلالات السياسة وزوابعها، يغطس أحيانا حتى يظن به الغرق، ولكنه يقب محرزا درجة جديدة من التفوق، وهذا المسكن الجميل بالدقي آية على نجاحه وصموده، وأثاثه متعة تبهر البصر، وفي مناسبات غير نادرة يشرفه بالزيارة باشوات ووزراء. وتتساءل المرأة وأصابعها المتحجرة تقدس الله على حبات المسبحة الحجازية: أما لهذه الحال من نهاية تستقر فيها على خير؟! وهل هي وليدة ظروف معقدة عسيرة على الفهم أو هي إصابات نافذة لأعين شريرة؟!
وقال عيسى في فتور: من العجيب أننا لا نكاد نستقر في الحكم عاما حتى يقذف بنا خارجه أربعا، ونحن نحن الحكام الشرعيون ولا حكام شرعيين غيرنا في البلد.
فقالت بإيمان وإصرار: المهم الصحة والعافية.
فابتسم ابتسامة ساخرة مريرة، ولكنه لم يشأ أن يعلن عن مرارته. وعلى العكس من ذلك قال بلهجة ذات دلالة: المهم أن أنتهز فرصة العزلة لأعنى بشئوني الخاصة.
अज्ञात पृष्ठ