سجود التلاوة معانيه وأحكامه
تأليف: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني
وَقَال شيخ الإِسلام:
[فصل في سجود القرآن] ١
وهو نوعان:
١- خبر عن أهل السجود، ومدح لهم.
٢- أو أمر به، وذم على تركه.
_________
١- هذا العنوان وكل العناوين أيضا فيما سيأتي من زيادة المحقق
1 / 15
فالأول: سجدة الأعراف: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦]، وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر.
وفي الرعد: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [الرعد: ١٥]، وفي النحل: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٤٨ ٥٠]، وفي سبحان: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: ١٠٧ ١٠٩]، وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد.
وكذلك في مريم: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: ٥٨]، فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن، وأولئك الذين أوتوا العلم
1 / 16
من قبل القرآن إذا يتلي عليهم القرآن يسجدون.
وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة، وكقوله: ﴿وَادْخُلُواْ الْباب سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨]، وإن كان المراد به الركوع. فالسجود هو خضوع له وذل له؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع. كما قال الشاعر:
ترى الأُكُم فيها سجدًا للحوافر
قال جماعة من أهل اللغة: السجود التواضع والخضوع وأنشدوا:
1 / 17
ساجد المنخر ما يرفعه ... خاشع الطرف أصم المسمع
قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب؟ قال: نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدًا.
وفي سورة [الحج] الأولى خبر: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ [الحج: ١٨]،
والثانية: أمر مقرون بالركوع؛ ولهذا صار فيها نزاع.
وسجدة الفرقان: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾
1 / 18
[الفرقان: ٦٠]، خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد، ليس هو مدحًا. وكذلك سجدة النمل: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل: ٢٤ ٢٦]، خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله، ولم يسجد للَّه. ومن قرأ ألا يا اسجدوا، كانت أمرًا.
1 / 19
وفي [ألم تنزيل السجدة]: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: ١٥]، وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفي الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها.
وفي [ص]: خبر عن سجدة داود، وسماها ركوعًا،
1 / 20
و[حم تنزيل] أمر صريح: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: ٣٧،٣٨]، والنجم أمر صريح: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: ٦٢]، والانشقاق أمر صريح عند سماع القرآن: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠،٢١]، و﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]، أمر مطلق: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: ٩١] . فالستة الأول إلى الأولى من الحج خبر ومدح. والتسع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد، إلا [ص] .
1 / 21
[حكم سجود التلاوة]
فنقول: قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة:
1 / 22
قيل: يجب.
1 / 23
وقيل: لا يجب. وقيل: يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة، وهو رواية عن أحمد،
والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب؛ لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة، كالثانية من الحج، والفرقان، واقرأ، وهذا ضعيف، فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: ١٥]، فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجدًا إذا ذكر بها، وإذا كان سامعًا لها، فقد ذكر بها.
وكذلك سورة [الانشقاق]: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠،٢١]، وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]، ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ [الحديد: ٨]، ﴿فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨]، وكذلك سورة [النجم] قوله: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: ٥٩ ٦٢]، أمرا بالغًا عقب ذكر الحديث الذي
1 / 24
هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود، لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة، فمن ظن هذا أو هذا، فقد غلط، بل هو متناول لهما جميعًا، كما بينه الرسول صلى الله عيله وسلم.
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه. فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة، سواء تليت مع سائر القرآن، أو وحدها، ليس هو سجودًا عند تلاوة مطلق القرآن، فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود، فالأمر يتناوله. وهو أيضًا متناول لسجود القرآن أيضًا وهو أبلغ؛ فإنه ﷾ قال: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: ١٥]، فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدًا، وسبح بحمد ربه، وهو لا يستكبر.
ومعلوم أن قوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ ليس يعني بها آيات السجود فقط، بل جميع القرآن. فلابد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجدًا، وهذا حال المصلي، فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام، والإمام يذكر بقراءة نفسه، فلا يكونون مؤمنين حتى
1 / 25
يخروا سجدًا، وهو سجودهم في الصلاة، وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود، والسجود مثني كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيام وهو السجدة الأولى. وخرور من قعود، وهو السجدة الثانية. وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل، والطمأنينة فيها، كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ساجدًا لا يكون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف، أو كان إلى القعود أقرب، لم يكن هذا خرورًا.
ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض، كيف ما كان. وليس كذلك، بل هو مأمور به كما قال: ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا﴾ [السجدة: ١٥]، ولم يقل: سجدوا. فالخرور مأمور به، كما ذكره في هذه الآية، ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة. يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: ١٠٧ ١٠٩]، فمدح هؤلاء، وأثني عليهم بخرورهم للأذقان، أي على الأذقان سجدًا. والثاني بخرورهم للأذقان: أي عليها يبكون.
1 / 26
فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، يحبها الله. وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض، كما تلصق الجبهة، والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع، والسجود منتهاه. فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه، لكنه يخر على ذقنه، والذقن آخر حد الوجه، وهو أسفل شيء منه، وأقربه إلى الأرض. فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعًا للَّه. ومن حينئذ، قد شرع في السجود. فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود، فالخرور على الذقن أول السجود، وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود، وقد روي عن ابن عباس: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ﴾ أي: للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو غضروف أعضاء الوجه. فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن.
وقال ابن الأنباري: أول ما يلقي الأرض من الذي
1 / 27
يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال: ﴿لِلأَذْقَانِ﴾، ويجوز أن يكون المعني يخرون للوجوه، فاكتفي بالذقن من الوجه. كما يكتفي بالبعض من الكل. وبالنوع من الجنس.
قلت: والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن، فليس الذقن من أعضاء السجود، بل أعضاء السجود سبعة. كما قال النبي ﷺ: " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين، والركبتين، والقدمين "، ولو سجد على ذقنه
1 / 28
ارتفعت جبهته، والجمع بينهما متعذر، أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ، يمنع إلصاقهما معًا بالأرض في حال واحدة، فالساجد يخر على ذقنه، ويسجد على جبهته. فهذا خرور السجود. ثم قال: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ﴾ [الإسراء: ١٠٩]، فهذا خرور البكاء، قد يكون معه سجود، وقد لا يكون.
فالأول كقوله: ﴿إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: ٥٨]، فهذا خرور وسجود وبكاء.
والثاني: كقوله: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ﴾، فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره، وإن لم يصل إلى حد السجود وهذا عبادة أيضًا لما فيه من الخرور للَّه، والبكاء له. وكلاهما عبادة للَّه، فإن بكاء الباكي للَّه، كالذي يبكي من خشية الله. من أفضل العبادات. وقد روي: " عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله ".
1 / 29
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال إني أخاف الله رب العالمين ".
1 / 31
فذكر ﷺ هؤلاء السبعة، إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها، وقد صنف مصنف في نعتهم سماه: [اللمعة في أوصاف السبعة] . فالإمام العادل: كمل ما يجب من الإمارة، والشاب الناشئ في عبادة الله: كمل ما يجب من عبادة الله، والذي قلبه معلق بالمساجد: كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس؛ لقوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ [التوبة: ١٨]، والعفيف: كمل الخوف من الله، والمتصدق: كمل الصدقة، والباكي: كمل الإخلاص.
وأما قوله عن داود ﵇: ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: ٢٤]، لا ريب أنه سجد. كما ثبت بالسنة، وإجماع المسلمين أنه سجد لله، والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعًا، وهذا أول السجود، وهو خروره. فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعًا، ليبين أن هذا عبادة مقصودة، وإن كان هذا الخرور كان ليسجد. كما أثني على النبيين بأنهم
1 / 32
كانوا: ﴿إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: ٥٨]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ أنهم: ﴿إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾، ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ﴾ [الإسراء: ١٠٧ ١٠٩]، وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر. فإن المتكبر يكره أن يخر، ويحب ألا يزال منتصبًا مرتفعًا، إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع، وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب، وغير العرب. فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله، لئلا يخر وينحني.
فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس، وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله. وهو قد خلق رفيعا منتصبا، فإذا خفضه، لاسيما بالسجود، كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا للَّه، فمن سجد لغيره، فهو مشرك، ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته، وكلاهما كافر من أهل النار. قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠]، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: ٣٧]، وقال في قصة بلقيس: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ
1 / 33
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل: ٢٤،٢٦] . والشمس أعظم ما يري في عالم الشهادة وأعمه نفعا، وتأثيرًا. فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب، والأشجار، وغير ذلك.
وقوله: ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾، دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق، وإن عظم قدره، بل لمن خلقه. وهذا لمن يقصد عبادته وحده. كما قال: ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات، قال تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: ٣٨]، فإنه قد علم سبحانه أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال: الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم، بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة، بخلاف الآدميين، فوصفهم هنا بالتسبيح له، ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
1 / 34
يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦] . وهم يُصَفُّون له صفوفًا كما قالوا: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ [الصافات: ١٦٥،١٦٦] .
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " ألا تَصُفون كما تَصْف الملائكة عند ربها؟ "، قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: " يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف ".
1 / 35