सूडान मिस्री
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
शैलियों
على أنه جاء في اتفاق 19 يناير 1899 أن العلم المصري وحده يظل خافقا على سواكن، أي المدينة التي ظلت مصرية باعتراف الإنكليز، ولم تلغ منها سلطة المحاكم المختلطة إلا في 20 يوليو 1899، فلماذا أبقوا العلم المصري وحده مرفوعا عليها؟
هذا السر كشفه أحد الموظفين الإنكليز لمراسل جريدة الطان الفرنساوية بقوله: «إن الإنكليز (العارفين) مرتاحون إلى اتفاق 19 يناير، وأبقينا سواكن تحت العلم المصري كما كانوا يفعلون قديما بوضع الجريح في ثغرة السور قبل الهجوم، أو كما يفعلون اليوم بنصب مستشفيات الصليب الأحمر بدلا من الأبراج المدرعة، فنحن نبقي سواكن نصف مستقلة في طريق السودان لهذا الغرض، وماذا يهمنا بعد ذلك ما دام نفوذنا كاملا؟»
وإذا كانت إنكلترا قد اشترطت في الاتفاق إلغاء سلطة المحاكم المختلطة؛ فلأن إنشاء هذه المحاكم في سنة 1876 كان رغم إرادتها بعدما اتفقت في سنة 1870 مع ألمانيا على أن تطلق يدها في مصر ولم تنس حكم تلك المحاكم في سنة 1896 بإعادة الأموال إلى صندوق الدين، وكانت تعتمد على 62 مليون فرنك متوافرة في ذلك الصندوق للإنفاق على حملة السودان، ومما يدل أكبر دلالة على فعل السياسة في النفوس والآراء أن السير مكلريث - الذي امتدح المحاكم المختلطة في إحدى المجلات الإنكليزية امتداحا فضلها فيه على كل نظام قضائي - حمل عليها في سنة 1898 حملة شعواء وطلب إلغاءها، وجس بطرس باشا غالي بإشارة اللورد كرومر نبض الدول في ذلك فقابلت طلبه بالرفض وكان أشد الدول رفضا ألمانيا، فأجل الإنكليز المشروع إلى وقت ملائم وهذا الوقت هو الحرب، وقد رأيناها تمد أجل هذه المحاكم سنة فسنة إلى أن تلغيها أو تجعلها لها - أي محاكم إنكليزية - لولا هبة مصر للاستقلال والحيلولة دون مشروع الإنكليز. •••
هذا ما يقال في اتفاق 19 يناير 1899 الذي مكن إنكلترا من السودان، ولكن السردار كتشنر أراد مطاردة عبد الله التعايشي؛ ليقضي عليه، فوجه أخاه بحملة عددها 6 آلاف مقاتل فمات منها ربعها إعياء وتعبا، فعزله وتولى هو ذاته قيادة القوة التي فاجأت محمد شريف واثنين من أولاد المهدي في شكابة فقتلتهم وأحرقت القرية، وفي 25 نوفمبر 1899 فتكت حملة ونجت بعبد الله التعايشي وأمرائه، ولم ينج سوى عثمان دقنه، وقصد الجنرال ونجت ديريكات معسكر عبد الله التعايشي فتقدم إليه غلام في الخامسة عشرة وقال له: «الخليفة مات وأنا ابنه.» ثم وجد جثة عبد الله وهي ممزقة بالرصاص، وفوقه الأمير علي ودهيلا وأحمد فضيل، وإلى جانبه جثث الأمراء الآخرين، ونهض من بين هذه الجثث يونس الدقمي حيا، وفي شهر يناير 1900 أخذ عثمان دقنه أسيرا في جبل طوكر، وبذلك انتهت سلطة الدراويش.
ولما عين ونجت باشا حاكما للسودان طلب إرسال الزبير باشا إليه، وكان غوردون قبل سقوط الخرطوم يطلبه فلا يرسل، وكان الجنرال ونجت يقول: لو أنهم أرسلوا الزبير إلى الخرطوم عندما أحدق الخطر بغوردون لما هلك غوردون ولما سقطت الخرطوم، ولكن الأسباب التي حالت دون إرساله أو إرسال عبد القادر باشا في سنة 1884-1885 زالت في سنة 1899-1900 فأرسل إلى تلك البلاد بلاده وقد كان له فيها التاريخ المجيد فهو الذي سلم دارفور لحاكم السودان إسماعيل باشا أيوب بلا حرب ولا قتال.
ولما استتب الأمر في تلك البلاد أخذوا بمد الخطوط الحديدية، ووصف اللورد كرومر تلك المشروعات في تقريره سنة 1899، وفي سنة 1902 انتهت حرب إنكلترا في الترنسفال، وحان الوقت لإنجاز مشروع الكاپ-القاهرة، وجاءنا تشمبرلن وزير المستعمرات زائرا فقابل الخديوي في 6 ديسمبر من تلك السنة، وغادر السويس في 7 منه قاصدا الأوغندا وأفريقيا الجنوبية، وفي 3 يناير 1903 جهر اللورد كرومر بتلك المشروعات الكبيرة وهي استعمار السودان ثم وصل مصر والسودان بجنوب أفريقيا.
ومنذ اتفاق 21 مارس 1899 بين فرنسا وإنكلترا لم يقع حادث دولي آخر يستحق الذكر سوى اتفاق 1902 التجاري بين فرنسا ومصر، فقد وقعت مصر وحدها ذلك الاتفاق النافذ في مصر والسودان معا خلافا لما ورد في المادة السابعة من اتفاق 19 يناير 1899 بين مصر وإنكلترا، وعد إبرام هذا الاتفاق فوزا سياسيا عظيما للمسيو كوجردان معتمد فرنسا السياسي في القاهرة.
ولا مندوحة لنا في ختام هذا الفصل عن إيراد كلمة غلادستون في سنة 1877 عن عزم إنكلترا على احتلال مصر وبسط سلطانها على السودان. قال في فصل نشرته مجلة القرن التاسع عشر في شهر سبتمبر من تلك السنة: «إذا وطأت أقدامنا مصر كان ذلك بذرة صالحة لإنشاء إمبراطوريتنا الأفريقية الشمالية، ثم نتجاوز النيل الأبيض والنيل الأزرق إلى خط الاستواء ونمد من هناك أيدينا إلى الناتال والكاپ، ونبتلع الحبشة ونحن سائرون في طريقنا.»
فما يستثمرونه اليوم وضعوا أسسه منذ عهد بعيد، متذرعين بالقوة، وبالقوة وحدها لا فرق بين الأحرار منهم والمحافظين، وغلادستون الذي نورد أقواله شيخ أحرارهم بلا منازع.
أحرار ومحافظون
अज्ञात पृष्ठ