فلنعتمد الإيجاز في جميع أغراضنا، فإذا كتبنا فلنسر توا إلى غرضنا، فلا نقتل من نكتب إليه بالمقدمات والخاتمات التي كثيرا ما تجيء أشبه بالأذناب. وإذا خطبنا فلنقصر مسافة الكلام، إن الكلام المختصر أفعل في النفوس من الكلام المبسط الممدد، أما جاء في المثل: «شبر من الملي ولا ذراع من المرقوق؟» فلماذا لا نصوب كلامنا كالسهام أو نجعله مندفعا كالشلال ليفعل في النفوس ويؤثر بها؟
كان أحد المشاهير يقول لزائريه: «اختصروا فالوقت ثمين.» إن المحافظة على المواقيت والنشاط في العمل وتعمد الإيجاز، هي كلمات السر في هذه الحياة.
وقد كتب أحد كبار الرجال رقعة وضعها في مكتبه على أعين الناس: «على من يطيل الإقامة عندي أن يساعدني على إتمام عملي.»
أما نحن فنحسب مراكز الأعمال ناديا للتسلية، ونعيب على صاحبه إذا قصر بواجبات الترحيب وجر الحديث إلى أقاصي المسكونة، فليت أصحاب الأعمال يكتبون «الوقت محدود» كما يكتب بعض التجار «السعر محدود»، شرط أن يكون هذا السعر بلا حسم، كما يفعل بعضهم إرضاء للزبائن ...
فإذا كتبت إلى رجل عمل فاختصر ما استطعت إذا كنت تربأ بكتابك ألا يطرح في سلة المهملات، وفي كل حال الإيجاز موهبة نادرة، تأمل الناس تجد أن القليل منهم من يسلم حديثه من عبارة تردد، أو كلمة يقفون عليها فيشجون رأسك بها، فبعد كل جملة - مثلا - يقول لك واحد: فهمت؟ وآخر: فاهم يا سيدي؟ وثالث: نعم، فتسمع منه ألف نعم في حديثه، وما تكون هذه النعم إلا نقم.
قال فنلون: «إن حسن الذوق الخالص يقتضي أن نقول كثيرا في كلمات قليلة.» وحكماء اليونان السبعة كان السبب الأهم في ما حصلوا عليه من شهرة هو إيراد كل منهم جملة واحدة في كلمتين أو ثلاث؛ ولذلك نرى حكمة الشعوب مدرجة في أمثالها المختصرة.
ولساننا العربي يؤثر الإيجاز دائما، وقد أطلق السلف الصالح على الكلمات المختصرة المفيدة اسم «جوامع الكلم» ولذلك قالوا: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.» حتى بالغوا في هذا فقال شاعرهم إن اللبيب من الإشارة يفهم، «وإذا نطقت فلا تكن مكثارا.»
فما بالنا نحن نحمل من نخاطبه أثقالا باهظة في حديثنا ورسائلنا وخطبنا، فإذا وقفنا على منبر لا نتحول عنه حتى تنوء بنا أعواده، وتتثاءب الجدران من حولنا؟ يضج سامعونا متململين، ونحن لا نرى تلك الأفواه تفتح وتغلق أمامنا، فكأن لنا عيونا ولا تبصر وحواس ولا تشعر! ومن هؤلاء الخطباء المصاقع من يهمهم له سامعوه ولا يهم هو بقضب حبله الطويل، فكأنه جراح لا يدع ضحيته مهما تألمت وتوجعت! فالله نسأل أن ينجي المسامع من كلام يقع عليها كالمقارع!
المطالعة غذاء الموهبة
كما يحتاج جسدك إلى مواد مختلفة ليتغذى وينمو، كذلك يحتاج عقلك إلى غذاء ينميه، وما المناهج المدرسية إلا خطوط ومعالم للطريق التي يجب أن تسير عليها لتحسن المطالعة وتستفيد منها فائدة كاملة غير منقوصة، وكما تتعرف إلى أشخاص كثيرين في حياتك العملية فإنك في قراءتك الكتب القيمة تتعرف بأصحابها، فمنهم من يصير لك صديقا حميما يمضك الابتعاد عنه، ومنهم من لا ترغب فيما بعد أن ترى له صورة وجه. فالكتب، وقد كفانا وصفها أبو الأدب العربي أستاذنا الجاحظ، هي الأصدقاء الذين يخلصون لنا النصح، ويعطوننا كنوز المعرفة بسخاء لا نظير له.
अज्ञात पृष्ठ