كان ديكارت عالما ورياضيا بقدر ما كان فيلسوفا، ولكنه رغم كشوفه الأصيلة الهامة في هذه الميادين كان، في اتجاهه الفلسفي العام، أبعد عن الروح العلمية الأصيلة من اسپينوزا، وإن لم يكن هذا الأخير قد ترك لنا كشفا واحدا هاما في ميدان العلم بمعناه الدقيق؛ فديكارت كان لا يزال يقيد تفكيره الفلسفي بكثير من قيود العصور الوسطى، وكان يؤمن - أو هكذا على الأقل كتب - بأن كل تفسير فلسفي للأشياء ينبغي أن يرتد آخر الأمر إلى نوع من الإيمان بقدرة فوق الطبيعية هي وحدها التي تضمن للذهن ثقته بنفسه وبما يعرفه، وتعصمه من الشك مهما كان طاغيا. أما اسپينوزا فقد تخلص تماما من هذه الآثار الباقية من روح العصور الوسطى، وكان يؤمن بأن قدرة العقل البشري غير محدودة، وبذلك أزال كل عقبة ممكنة تحول دون اقتحام العقل لجميع ميادين المعرفة.
ومع ذلك فإن عددا لا يستهان به من المفسرين يضع للنزعة العلمية عند اسپينوزا، بدوره، حدودا، ويؤكد أنها اقترنت لديه بنزعة صوفية لا تقل عنها قوة. ويلخص «ألكسندر» هذا الاتجاه بقوله إن المتصوف، في شخص اسپينوزا، قد امتزج برجل العلم امتزاجا وثيقا،
1
وتعليل مثل هذه الثنائية في فهم فلسفة اسپينوزا أمر يسير إلى أبعد حد في ضوء تفسيرنا الخاص لمنهجه؛ ذلك لأنه، كما قلنا، يتعمد استخدام المصطلح التقليدي المدرسي الذي توجد له، في أذهان الشراح، أقوى الارتباطات اللاهوتية والصوفية، ولكن هذه المصطلحات تتخذ عنده معاني ثورية تتفق كلها مع الروح العلمية بأدق معانيها، وتسبق المفاهيم السائدة في عصره إلى مدى بعيد؛ ومن هنا كان من الطبيعي أن نجد هذا الازدواج في تفسير موقف اسپينوزا من العلم؛ فإذا تأملت «شكل» كتاباته، كان لزاما عليك أن تقول بوجود نزعات لاهوتية وصوفية قوية لديه، وإذا حاولت أن تستخلص، من هنا ومن هناك، المعاني الحقيقية، غير الظاهرة بوضوح، لهذه الألفاظ، اتضح لك اتجاهه العلمي الدقيق بجلاء. وسنجد في كل فصول هذا البحث أن تلك الثنائية في تفسيره - أعني ثنائية التفسير المحافظ والتفسير المتحرر - قائمة على الدوام، كما سنجد أن أفضل وسيلة للتغلب عليها هي تلك التي حددناها من خلال فهمنا الخاص لدلالة منهجه.
وقد عبر «سليڨان» عن هذه الثنائية الممكنة في فهم اسپينوزا تعبيرا واضحا، فقال: «... إن جميع التناقضات الممتنعة البادية في تفكير اسپينوزا إنما هي تعبيرات كثيرة عن تناقض واحد له سبب واحد؛ فاسپينوزا مادي ومثالي، ومؤمن بالطبيعة وبما فوق الطبيعة
naturalist and supernaturalist
في آن واحد. وسبب هذا الاتجاه المزدوج لديه لا يعدو أن يكون ذلك الطابع الموزع لذهنه، الذي كانت تجتذبه النظرة الدينية التقليدية إلى الإنسان وإلى الله، وهي النظرة التي ورثها من مجموعة كبيرة من الأسلاف اليونانيين والرومان واليهود والمسيحيين، وتجتذبه في الآن نفسه، وبقوة متساوية، المذاهب الطبيعية والميكانيكية كمذهبي ديمقريطس وهبز .»
2
ويواصل «سليڨان» كلامه فيقول: «إن موقف اسپينوزا يختلف بين المثالية أو المادية تبعا لفهمك للجوهر الواحد، وهو الله، من خلال الفكر أو من خلال المادة، وتبعا لردك الامتداد إلى الفكر أو الفكر إلى الامتداد ...»
3
अज्ञात पृष्ठ