68
والحقيقة الواضحة التي يشير إليها «برونر» في هذا الصدد، هي تأثير اسپينوزا الهائل في التكوين الفكري لعدد من أكبر الشخصيات في عالم الفكر والأدب الألماني: مثل «ياكوبي
Jacobi » و«جوته
Goethe » و«نوڨالس
Novalis » - عدا شلنج وفشته وهيجل وعشرات غيرهم من الأدباء والفلاسفة الألمان - ومثل هذا التأثير، الذي اعترف به هؤلاء جميعا اعترافا صريحا، كفيل وحده بالرد على كل المزاعم التي يسوقها ذوو الآفاق الضيقة، كهذا المؤلف النازي الحريص على نقاء الأمة الألمانية وعلى تطهيرها من شوائب اسپينوزا وأمثاله!
والأمر الذي لا بد أنه قد اتضح للقارئ من خلال هذه المقارنة، هو التشابه العجيب بين المفكرين الذين يدعون التعصب اللاعقلي يتحكم في تفسيراتهم، سواء أكان هذا التعصب يهوديا أم معاديا للسامية. ولعل هذه المقارنة قد كشفت أيضا عن ناحية أخرى نرى لزاما علينا أن ننبه إليها القارئ: وهي أن نقدنا للاتجاه اليهودي في تفسير اسپينوزا لم يكن راجعا إلى كون هذا الاتجاه يهوديا، وإنما إلى كونه متعصبا على غير أساس من العلم والحقيقة. فلو كان اسپينوزا في نظرنا مفكرا يؤمن باليهودية ويعبر عن مبادئها وقيمها في فلسفته، لما ترددنا في إعلان ذلك، ولكن فلسفته بدت لنا - تبعا للتفسير الذي قدمناه لها - مضادة تماما للأسس الأولى التي قام عليها اللاهوت اليهودي، ومستهدفة غايات تبتعد كل الابتعاد عن غايات الوسيطيين جميعا، من فلاسفة ورجال دين، وإن يكن قد تعمد عرضها في صورة تبدو فيها متمشية مع هذه الاتجاهات. ولما كنا لا نقبل إقحام اعتبارات التعصب في التفسير الفلسفي؛ فقد حرصنا على أن ننتقد المفسرين اليهود الذين توخوا في تفسيراتهم مشاعرهم الدينية أو العنصرية قبل أن يتوخوا الحقيقة الفلسفية. وهناك دليلان حاسمان على أن انتقادنا هذا لم يكن مدفوعا بمشاعر الكراهية أو التعصب، وإنما كان دفاعا عن الروح العلمية الصحيحة فحسب: أولهما أننا اقتبسنا، وسوف نقتبس في بقية هذا الفصل، أقوال شراح يهود آخرين دون أن نبدي أي اعتراض عليها، بل أبدينا لها، على العكس من ذلك، كل ما تستحقه من احترام وتقدير؛ لأنها في رأينا نزيهة وليست مدفوعة بالتعصب، وثانيهما أننا انتقدنا التعصب المعادي للسامية بنفس القوة التي انتقدنا بها التعصب اليهودي، وهاجمنا بنفس القوة تشويهات الشراح النازيين الذين حاولوا أن يقحموا اسپينوزا قسرا في صفوف اليهودية . وليس بعد هذا دليل على أن انتقاداتنا كانت مستوحاة من روح النزاهة العلمية وحدها. (4) استقلال اسپينوزا عن التراث اليهودي
أكد كثير من شراح اسپينوزا، كما ذكرنا من قبل، أن تفكيره كان مستقلا عن التراث اليهودي، ومثل هؤلاء الشراح في رأينا أعمق فهما للاتجاه الحقيقي لتفكيره، وتفسيرهم - فيما يتعلق بهذه المسألة على الأقل - يتفق مع التفسير الذي عرضناه في هذا البحث، ومن هؤلاء «رويس
Royce » الذي قال عن اسپينوزا إنه: «كان منتميا إلى عصره أكثر مما كان يهوديا. فتفكيره كان أوثق صلة بتفكير ديكارت وغيره من المفكرين الأوروبيين البارزين، منه بأي مذهب يهودي.»
69
ومثل هذا الرأي يظهر أيضا لدى «ريڨو
अज्ञात पृष्ठ